ظاهرة الحرفية لدى الفقهاء والمقاصد - القرض نموذجاً

ً

يحيى محمد

ليس هناك قيمة يقرها وجدان العقل اعظم من العدل. فالعدل هو على رأس القرارات التي يدين له العقل بالصحة والصدق. وهو على رأس الاحكام التي تبشر بها جميع الاديان السماوية، وتعترف به كل الاعراف والقوانين الوضعية. كما انه يقع في قمة هرم المقاصد التي نادت بها الشريعة الاسلامية، واعتبرته هدفاً اعلى للرسالات الالهية، كما في قوله تعالى: {ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

على انه يكفينا من كل ذلك ما تطابق عليه العقل والشرع في ضرورة مراعاته من غير تفريط. فهو الاصل في كل العقود مثلما صرح بذلك ابن القيم في احد عناوين كتابه (اعلام الموقعين) 1 . لكن هل التفتت الطريقة التقليدية لهذا المقصد الكلي وهي تتدارس جزئيات الاحكام؟

لعل الامر البارز في هذه الطريقة هو انها حصرت نفسها في دائرة الاهتمام في الجزئي من الاحكام فحجبها ذلك عن رؤية الكلي. لذلك نجد الحرفية طغت على نتاجها، واصبح الدوران في فلك الجزئيات يشكل الغاية من جهودها المضنية. فكانت النتيجة من اهمال النظر في الكليات أن قدّمت لنا في كثير من الاحيان نتائج عكسية في معالجتها للجزئيات، اذ جاءت مخالفة لمقاصد الشرع، بل ومصادمة للعقل وحكمه الوجداني. ذلك انه اذا كان للواقع تأثير على الاحكام، واذا كان من الطبيعي ان تتبدل هذه الاحكام تبعاً لتغير الواقع؛ فان ما يحفظ بقاء الشريعة ويصونها من التغير والانحراف انما هو المقاصد الاساسية التي تصرف عقل المسلم باتجاه الوجهة الصحيحة، مهما كانت طبيعة التغيرات التي تصادف الاحكام الجزئية، خاصة اذا ما أيد ذلك وجدان العقل وصدّقه الواقع.

ولعلنا لسنا بحاجة الى التذكير من ان الاخذ بالجزئي اذا كان على حساب الكلي يفضي ولا شك الى هدم الشريعة من جذورها. وكما يقول الشاطبي: ان المجتهد ((تكون مخالفته تارة في جزئي، وهو اخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة العامة، كانت من اصول الاعتقادات او الاعمال، فتراه آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها)) 2 .

هذا هو حال مسألتنا التي نريد بحثها من زاوية خاصة، والتي شهدت صداماً حاداً بين الموقف الفقهي التقليدي الذي لجأ الى الحرفية من غير نظر الى الكليات، وبين مقاصد الشرع واحكام العقل. ذلك ان المنظور الفقهي لقضية القرض بالعملات النقدية يعتمد على مبدأ الوفاء بالمثل من غير اهتمام لما يفرزه الواقع من تغايرات تؤثر على طبيعة الحكم، نظراً لتدخل المقصد الكلي المغيب عن الرؤية. فما يصح من حكم في ظرف ما قد يبطل في ظرف اخر، والعكس بالعكس. لكن الذي يكشف عن صدقه وبطلانه انما هو المقصد الشرعي ذاته، فكيف اذا ما زاد عليه حكم العقل بالوجدان؟!

من المعلوم ان القوة الشرائية للنقد في المجتمعات القديمة، ومنها مجتمع عصر الرسالة، تتصف بضآلة التغير او الثبات نسبياً قياساً مع ما هو عليه العصر الحديث، والحاضر منه على وجه الخصوص؛ الذي هو عصر التشابك والسرعة والمفاجآت. فمما ذكره المؤرخون من ان الدينار كان في العصر الاسلامي الاول يساوي عشرة دراهم، لكنه صار في النصف الثاني من العهد الاموي مساوياً لاثني عشر درهماً، ثم ازداد في العصر العباسي وصار يساوي خمسة عشر او اكثر 3 . وذكر المقريزي انه في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي ابي علي المنصور بن العزيز؛ قد تزايدت الدراهم وازداد سعر الدينار حتى وصل يساوي اربعة وثلاثين درهماً 4 .

مع هذا فان ما ذكر من تغير في العملة وقيمتها الشرائية لا يمكن مقارنته عما يجري في وقتنا الحاضر من تضخم. إذ يلاحظ ان الحركة الاقتصادية لبلدان العالم والتغيرات الضخمة التي تطرأ عليها بين فينة واخرى اصبحت ملحوظة ومؤثرة بشكل واضح سواء على مستوى الدولة او الفرد، نظراً لما تحدثه من تغير في القوة الشرائية للاوراق المالية او النقد، وذلك على نحو مضطرد في كثير من الاحيان، بحيث غالباً ما تعاني اغلب البلدان من تدهور مستمر لهذه القوة.

وما يعنينا من هذا الامر هو كيف يمكن التعامل مع القروض المالية، اذ ما يعطى من مال لاجل طويل الامد يسترد بقيمة تختلف في الغالب مع القيمة المعطاة، ونحن في مثل هذه الحالة نكون قد وقعنا بنوع من المقامرة والغرر، وغالباً ما يكون الدائن هو المصاب بالخسران. وعليه هل يصح وفاء الدين بالمثل، اي بنفس الكمية النقدية للمال ولو لم تساو شيئاً يذكر.. او انه يقدر بوزن ما يحمله من قوة شرائية عند ابتداء العقد؟

لنوجه هذا السؤال الى طريقة الاجتهاد التقليدية لنتعرف على اجابتها ومبرراتها.

ليس من شك ان هذه الطريقة تلتزم الموقف المعتاد في التعامل مع قضايا الاحكام من منطق الحرفية، ومن ذلك قضيتنا المطروحة حول القرض. فهي تعتبر التشريع الخاص به ثابتاً لا يقبل التبديل، وذلك كي لا تقع في مستنقع الربا المنهي عنه من قبل الشرع، حتى جاء عن النبي (ص) قوله: ((كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا)) 5 . لذا ان الدائن لا يأخذ من المدين الا بقدر ما أدانه، وينطبق ذلك في مجال العملات النقدية، رغم دوام ما تتعرض له من الخلخلة والهزات ضعفاً وقوة، ظناً من ان الزيادة الموهومة - او النفع الموهوم - في الوفاء هي ربا.

فقد قال الامام مالك كما في (المدونة): ((كل شيء اعطيته الى اجل فرد اليك مثله وزيادة فهو ربا)). وجاء في المدونة: ((قلت: ارأيت إن اتيت الى رجل فقلت له سلفني درهم فلوس ففعل، وفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال - اي الامام -: انما يرد مثل ما اخذ السعر فأشبه الحنطة ان رخصت او غلت.

وقال الدردير في الشرح الصغير لـ (بلغة السالك): ((وان بطلت معاملة من دنانير او دراهم او فلوس ترتبت لشخص على غيره من فرض او بيع، وتغير التعامل بها بزيادة او نقص، فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته ان كانت موجودة في بلد المعاملة)). وقال ايضاً: ((ورد المقترض مثله قدراً وصفة او رد عينه اذا لم يتغير في ذاته عنده)). وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير الاخير: ((فالواجب قضاء المثل، اي لو كان مائة بدرهم ثم صارت الفاً بدرهم او بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صارت بمائة وسبعين وبالعكس، وكذا اذا كان المحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين او بالعكس وهكذا)).

وقال الامام الشافعي في كتاب (الام): ((ومن سلف فلوساً او دراهم او باع بها ثم ابطلها السلطان فليس له الا مثل فلوسه او دراهمه التي اسلف او باع بها)).

وقال الشيرازي في (المهذب): ((ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل، لأن مقتضى القرض رد المثل)).

وقال النووي في (روضة الطالبين): ((ولو اقرضه نقداً فابطل السلطان المعاملة به فليس له الا النقد الذي اقرضه)).

وقال ابن قدامة في (المغني): ((المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره او غلا او كان بحاله)).

وقال ابن قدامة ايضاً: ((وان كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً رد عدداً، وان استقرض وزناً رد وزناً)). وقال ايضاً: ((المستقرض يرد المثل من المثليات سواء رخص سعره او غلا او كان بحاله.. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا؛ً مثل ان كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، او قليلاً لانه لم يحدث فيها شيء انما تغير السعر فاشبه الحنطة ان رخصت او غلت)).

وفي مجلة الاحكام الشرعية في الفقه الحنبلي جاء في المادة (0 5 7 ): ((اذا كان القرض فلوساً او دراهم مكسرة او اوراقاً نقدية فغلت او رخصت او كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها)).

وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): ((لا يجب في القرض الا رد المثل بلا زيادة)). وقال: ((وليس له ان يشترط الزيادة عليه في جميع الاموال باتفاق العلماء، والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته)).

وقال ابن حزم في (المحلى): ((ولا يجوز في القرض الا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه اصلاً)). وهو قد اعتبر ذلك من الاجماع المقطوع به 6 .

كما ذكر صاحب (الجواهر) من الامامية انه لو اقترض شخص دراهم ثم اسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها، فإن ما يلزم به المقترض انما هو الدراهم الاولى الساقطة وليس الثانية، وهو في رأيه هذا يخالف ما ذكره الصدوق من ان الواجب على المقترض هو ما جاز التعامل به عند الناس 7 .

هذه جملة من نصوص الطريقة التقليدية نقلناها وهي تؤكد مبدأ المماثلة، وكان الاولى ان تدعو الى اتخاذ مبدأ التساوي في القيمة لا المماثلة، وفرق بين الامرين كبير.

ومن حيث الدقة ان المواد التي هي موضع القرض تارة تكون استعمالية، واخرى تبادلية سوقية. فاذا كان الغالب في المواد هو الاستعمال لا التبادل، او ان المقرض اقرض مادة كان يتعامل معها معاملة استعمالية؛ فان وفاء حق الدين يصح بارجاع المثل، سواء رخصت هذه المادة أم غلت، وذلك اعتماداً على مقدار القيمة التي تحققها المادة بالنسبة الى مالكها، وهي قيمة تجد قدرها بما كانت عليه من وضع استعمالي وليس تبادلي.اذ الشيء المستعمل لا ينقص من قدره شيء اذا ما رُد مثيله، سواء رخص في السوق أم غلى. لكن لو كانت المادة المقترضة تبادلية كما هو حال العملات، خصوصاً الورقية منها، فان قيمتها تتحدد بما يكشف عليه السوق باعتبارها تبادلية تحمل في طيها القدرة الشرائية المفترضة، وهنا لا يصح الوفاء بالمثل، اذ لو غلت المادة وأُريد ارجاعها بمثلها فان ذلك سيشكل ضرراً على المقترض، أما لو رخصت فان الضرر سيلحق بالمقرض. في حين انه اذا اردنا ان يكون لكل من الطرفين رأس ماله من غير نقيصة ولا ضرر فلا بد من تعيين القيمة التي عليها المادة وقت الاقتراض. فهذا هو العدل الذي تشهد له العقول والفطرة الانسانية.

وكان يمكن ان نعذر الطريقة التقليدية في دفاعها عن مبدأ الرد بالمثل لو انها اكتفت بالصيغ العامة دون اشارة ما الى الغلاء والرخص واسقاط العملة. لكن حيث انها كانت صريحة وواعية لامر ما يفرضه الزمان على تغير القوة الشرائية للنقد، فهي لهذا غير معذورة في تجاهلها للمقصد الشرعي من المعاملة القرضية. كل ذلك بسبب ما ألفته من الممارسة الحرفية في التفكير.

لا شك ان المعاملة بالمثل مبررة تماماً في مجتمع لم يشهد تحولات بارزة في القوة الشرائية للنقد 8 ، وكذا القيمة التبادلية للمال 9 ، كما هو حال عصر النص. فهي بهذا تمثل عين العدل الذي هو الاصل في جميع العقود. لذلك نرى الشرع ينهى عن الربا لما فيه من الظلم، والله تعالى يقول: {وإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون} البقرة/9 7 2 ، وهو امر لم يغفل فقهاء الاسلام عن التصريح به، من امثال ابن تيمية وغيره 0 1 ، او بحسب ما ورد عن الامامين الصادقين (الباقر والصادق ع) هو لئلا يذهب المعروف ويتمانع الناس 1 1 ، حيث يزول التعاون وتنعدم روح الاخوة.

لكن هل ينطبق هذا الامر على ما يجري من تحولات في قيمة المال المتعامل به في القرض كما عليه الوضع في ايامنا هذه؟ فهل هناك نفع وزيادة او ربا يتحقق فيه الظلم وينطبق عليه امثال الحديث النبوي: ((كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا))؟ هذا اذا ما غضضنا الطرف عن ان مفاد هذا الحديث يتسق حتى بحرفيته مع عدم المثلية لكونه يشترط في الربا وجود المنفعة الزائدة، والحال ان عدم التمسك بالمثلية لا يفضي بالضرورة الى هذه المنفعة، بل يصح ان يقال ان العكس حاصل اليوم في تطبيق مبدأ المثلية، وغالباً ما يكون النفع الزائد من نصيب المقترض على حساب المقرض.

لعل الملاحظ ان الامور قد انقلبت رأساً على عقب. فاذا كان النفع او الربا يتحقق غالباً في المجتمعات القديمة وعلى رأسها مجتمع عصر النص لمجرد الاشراط بالزيادة عند استرداد القرض؛ فان اليوم غير ذلك تماماً. ذلك ان تطبيق مبدأ الرد بالمثل ينشأ منه في كثير من الاحيان نوع من الغرر والمقامرة، يفضي الى شكل من النفع (الربا) العائد الى احد الطرفين المتعاقدين، المقرض او المقترض. فشتان بين اليوم والبارحة!

فالخلخلة والتغير الذي يطرأ على العملة النقدية، ومنه الهزات الفجائية العنيفة التي تفضي بها الى الانهيار او القفز غير المرتقب، يحوّل الموضوع الذي يستند اليه الحكم فيجعل العلاقة القائمة بين الدائن والمدين مما هي علاقة يفترض انها تقوم على العدل والانصاف الى علاقة قائمة على الظلم والاجحاف، لما فيها من غرر ومقامرة، او هو إن صح التعبير عبارة عن نوع من الربا، سواء لصالح الدائن او المدين. فليس كما يقال ان الربا حاصل في العدول عن تلك الصيغة باعتبار الزيادة المعطاة عند الوفاء وربما النقصان بحسب ما يقدّر من القيمة الشرائية، اذ الامر واضح من ان الزيادة والنقيصة المقدرتين لم تؤثرا على حقيقة التعادل والتساوي فيما تحمله من القيمة النفعية التي تشكل ملاك النقد والغرض من المعاملة الاقتصادية، ومنها المعاملة القرضية. فلولا الاستنفاع ما كان للنقد قيمة، ولكان حاله حال العملات الساقطة التي لا ينتفع بها.

على هذا نعجب من الرأي الذي يذهب الى وجوب استرداد النقد الساقط بحسب منطق المثل اذا ما كان بسقوطه تذهب المنفعة عن الدائن بعد ان استوفى غرضها المدين. وهو امر يفضي الى أشد حالات الاجحاف بحق الدائن، حيث ان استلامه للنقود الساقطة تعني استلام ما قيمته مهدورة ومنفعته زائلة، اي انه لم يستلم في حقيقة الامر شيئاً، وهو بخلاف ما قدمه للمقترض من قيمة نفعية، لهذا كان الاجحاف بليغاً. ولا يستبعد ما قد يستصحب هذا الرأي علماء في عصرنا الحاضر، وذلك بتقليد ما عليه الفقهاء القدماء، فيكون الامر اعجب مما سبق، اذ قد يعذر القدماء كون اسقاط العملة في الماضي لا يؤدي - عادة - الى اهدار قيمتها كلياً طالما ان العملة الرئيسية كانت من الذهب والفضة، وهما معدنان لا يفقدان كامل قيمتهما، حيث ان لهما موارد الاستعمال مثلما انهما يشكلان مادة للتبادل السوقي، لكن لا يشك بأن اسقاطهما لا بد وأن يؤثر على قيمتهما بالانتقاص، وبالتالي فانه يعود الضرر فيه على المقرض اذا ما تم ارجاعهما اليه. أما الحال في الحاضر فانه يختلف من حيث ان اسقاط العملة يفضي الى اهدار قيمتها كلياً.

على ان ما يهمنا في الوقت ذاته ان العبرة من التركيز على العملة الساقطة هو للكشف عن ان اصل القرض وحقيقته لا يمت الى ذات العملة وما عسى ان تكون عليه، وانما يتعلق بمردودها النفعي المتعارف عليه. فالقرض ليس قرضاً للنقد ذاته وانما لمقدار المنفعة التي يستنفع بها تبعاً للعرف او المرتكز العقلائي. وبذلك تكون المنفعة هي اصل العلاقة القرضية وإن لم يشترط بها في العقد، لكونها عرفية عقلائية لا تحتاج الى مشارطة. الامر الذي يعني ان العملة ليست في حد ذاتها ميزاناً مطلقاً لتقدير القيمة النفعية مادامت غير ثابتة ومستقرة، بل الميزان في ذلك هو تقدير تلك القيمة وقت زمن الاقتراض ومحل تعامل المقرض وتحويلها الى ما يعادلها من نقد.

وأرى من التناقض السافر على اولئك الذين ميزوا في الموقف بين الظرف الذي تتغير فيه القوة الشرائية للنقد او المال، وبين الظرف الذي فيه تسقط العملة من قبل السلطان، حيث رضوا بمبدأ المثل في الظرف الاول، بينما خرقوا ذلك بحسب الظرف الاخر لاعتبار سقوط القيمة من النقد كلياً، فاوجبوا رد ما يعادل القيمة المستحقة. فالعجب من بعض المعاصرين ممن ذهبوا الى مثل هذا الرأي رغم انهم شهدوا الحالات التي تهبط فيها العملة الى ما يقارب الصفر، فأي فرق في هذه الحالة بين العملة الساقطة وبين الظرف الذي تصل فيه الى حد كأنها ساقطة نظراً لانهيار قيمتها؟!

افترض انك قبل التسعينات من القرن المنصرم اقترضت مبلغاً من احد الناس بقدر مائة دينار عراقي، على ان تردّه اليه في اواخر التسعينات، ثم حلّ اليوم الذي تفي فيه التزامك هذا، وهو ان تعطيه المائة، لكن حيث ان العملة العراقية قُدّر لها السقوط والانهيار، ففي هذه الحالة تصبح كأنك اقترضت ما يمكن ان تنتفع به لشراء جهاز تلفاز او معيشة اكثر من شهر او استئجار شقة لشهرين، الا انك رددت الى صاحب المال ما يمكن ان ينتفع به في ذلك الوقت لشراء قرصة خبز او بيضتين فقط. فاي فرق يظل بين هذه القيمة الاستردادية القريبة عن اللاشيء، وبين ما لو اسقط السلطان هذه العملة فترد اليه ذات العملة الساقطة والتي لا تختلف كثيراً عن هبوطها المشار اليه، فاي فرق جوهري كي يعتبر بعض فقهاء عصرنا وجوب الرد بالمثل في الحالة الاولى الهابطة دون الثانية الساقطة بفعل السلطان؟!

لا شك ان العامل المشترك الذي يجمع ما بين العملة الساقطة والهابطة هو ان قيمتها الاصلية قد تغيرت، وهو ذات المشترك الذي ينطبق على تغير القيمة؛ كثيراً او قليلاً، فجأة او تدريجاً، زيادة او نقيصة، فكلها تخضع الى عامل مشترك لا يقبل التفكيك، وهو التغير في القيمة الشرائية او النفعية.

وقد اخطأ الفقيه كاظم الحائري الذي اعتمد على حرفية الاية {وإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون} ليستنتج منها شرط توفر الاوصاف الذاتية في العملة والمثلية عند الوفاء. فهو بهذه الحرفية كأنه يضع للعملة قيمة ذاتية يدور عليها التعامل والتعاقد مثلما هو الحال في سائر المواد المنتفع فيها، بعيداً عن المقاصد وعدم الالتفات الى مضمون قوله تعالى في ذات الاية {لا تظلمون ولا تُظلمون}. اذ لا يشك ان الظلم والضرر متحقق اليوم لا محالة لدى تطبيق مبدأ المثلية. والغريب ان فقيهنا المعاصر حينما تعرض الى موضوع الغصب فانه يستنتج منه ما هو خلاف استنتاجه في حالة القرض، مع ان المبررات التي وضعها كأدلة في موضوع الغصب هي ذاتها تنطبق على موضوع القرض بلا فرق. فهو يقول: ((إن من غصب ألف دينار وبعد خمسين سنة تاب الى الله وأراد ارجاع المبلغ بعد أن سقط الدينار سقوطاً فظيعاً خلال خمسين سنة نتيجة للتضخم المتزايد في البلاد، وجب عليه ارجاع ما يناسب هذا التضخم، ولا يكفيه ارجاع نفس المبلغ القديم، وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر)) 2 1 .

مع ان نفس هذا المقال يصدق على موضوع القرض، حيث يصح ان يقال ان وفاء القرض ينبغي ان يحسب طبقاً لتساوي القيمة النفعية او الشرائية ((وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر)). وكذلك كي لا يكون عنواناً للغرر كما بينّا.

كما يمكن القول انه حتى لو سلمنا جدلاً بأن الاية السالفة الذكر لا تتحدث طبق ظروف العصر الذي لم يشهد تحولات في تغير القيم النفعية للاموال مثلما عليه الحال في الوقت الحاضر، اذ لا ريب ان المخاطب الاصلي والمباشر هو ذلك المجتمع بمختلف ملابساته كما بينا ذلك في (جدلية الخطاب والواقع)، وحتى لو ابتعدنا عن حكم العقل الخاص بان الوفاء بالمثل قد فقد موضوعه اليوم لكثير من الحالات تبعاً لما يجر اليه من الظلم والاجحاف بحق احد الطرفين، وكذا لو لم نستند الى كون تطبيق المثلية يفضي اليوم الى نوع من المقامرة والغرر المنهي عنهما في الشريعة، فحتى لو انا بعدنا عن كل ذلك واتجهنا الى ذات الاية الكريمة موضع البحث وقريب عن الادوات الحرفية التي تمارس في حقها؛ نرى ان الاية تشير في ذيلها {لا تظلمون ولا تظلمون}. ففي هذه الحالة إما ان نعتبر التطبيق الحرفي للاية في رد المثلية لا يتحقق فيه اي نوع من الظلم، وبذلك نكون قد عولنا على امر يشهد الوجدان على بطلانه احياناً، او ان الغرض من الاية هو تحقيق نفي الظلم برد رؤوس الاموال بالطريقة التي لا يكون فيها ظلم دون ان تحدد ما هي هذه الطريقة وما هو المقصود من رؤوس الاموال، هل هو النقد المتعارف عليه، او قيمة هذا النقد؟ فاذا كنا في تردد من ذلك تبعاً لذيل الاية، فان من الواضح ان نجري المعاملة طبقاً للقصد المذكور في الاية باعتباره الموجه لفهمها.

بل يشتد التناقض عندما لا يعول فقيهنا السابق على مبدأ استرداد ما يماثل العملة في حالة اسقاط السلطان لها، بدعوى ان رواج العملة هو ايضاً داخل ضمن الاوصاف الذاتية لها لا النسبية، حاله حال اللون والشكل وما الى ذلك 3 1 ، مع انه قد يقال انه حتى على فرض اعتبار الرواج من الصفات الذاتية بالمعنى الذي قصد اليه، فلا يعني ذلك كل ما دخل هذه الصفات يصح اعتباره. فلو ان من صفات العملة المتداولة اللون الابيض، فلا يصح استنتاج انه اذا تغير هذا اللون الى لون اخر فانه يفقد طبيعته التداولية وبالتالي يفقد الطبيعة الاستردادية بالمثل كما في القرض. ذلك ان هذا الامر يتوقف على ما يعتبره العرف او اصحاب القرار بغض النظر عن طبيعة ما تحمله العملة من صفات. بل كيف يقال هذا ونحن نعلم ان من الممكن ان تحمل العملة الساقطة صفات ذاتية تحقق مبدأ المثلية اكثر من الجديدة، وبالتالي كيف يصح العمل بالجديدة وهي تفتقد للكثير من الصفات التي تحوزها العملة الساقطة، ذلك ان من الممكن ان تتصف العملة الجديدة بصفات جد مغايرة لما كانت عليه العملة الساقطة، فما هو مبرر التعويل اذاً على العملة الجديدة في الاسترداد طبقاً لمبدأ المثلية؟! والاهم من كل ذلك ان قبول التعويض بالعملة الجديدة عوض الساقطة هو ضرب لمبدأ المثلية كلية، رغم انه موضع النزاع. لهذا لا مبرر للتفكيك بين حالتي تدهور العملة واسقاطها؟ فان قيل ان بالاسقاط يتحقق الضرر، وهو مبرر التعويض، قلنا كذلك الامر في حالة تغير القيمة الشرائية لها عند الارتفاع والهبوط.

وعلى العموم يلاحظ اننا بين امرين إما ان نحافظ على حرفية الحكم المنصوص في ايفاء الدين، وبه نصطدم مع العدل الذي هو الاصل في العقود والغاية من المعاملات، بل ونعمل على سد باب الخير والمعروف، اذ انه امر يبرر للناس ان لا يقرضوا غيرهم خشية من الوقوع في الضرر من النقيصة المستردة، او نعمل على تغيير الحكم استناداً الى تغير موضوعه بما يتفق مع ذلك الاصل الذي به قامت السماوات والارض، وانه من اعظم المقاصد التي تتوخاها الشريعة، وان الخدش به يعني خدشاً بالعقل والشريعة على السواء.

ولقد صدق ابن القيم الذي حكّم وجدانه في نظرته الى العدل وطرقه التي لا تتقيد بقيود ولا تتنافى مع شرع، فحيثما تحقق وبأي طريق كان فان ذلك لا يخرجه عن الدين ومقاصده. وعلى ما ذكره بان الله اعدل من ((ان يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها واقوى دلالة، وابين امارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيّن سبحانه بما شرعه من الطرق: ان مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط. فاي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له)) 4 1 . وكذا قوله: ((إن الله ارسل رسوله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والارض، فاذا ظهرت امارات الحق، وقامت ادلة العقل، واسفر صبحه باي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه ورضاه وامره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وادلته واماراته في نوع واحد وابطل غيره من الطرق التي هي اقوى منه وادل واظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق ان مقصوده اقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فاي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق اسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على اسبابها وامثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق الا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟)) 5 1 . وعلى شاكلته صرح الاستاذ المرحوم مرتضى المطهري قائلاً: ((اصل العدالة انها من معايير الاسلام، بحيث يجب ان يلحظ ما يتطابق معها وما لا يتطابق. تقع العدالة في سياق سلسلة علل الاحكام، لا في سلسلة المعلولات، فليس ما يقوله الدين هو العدل، بل حيثما يكون العدل ينطق به الدين. وهذا هو معنى كون العدالة معياراً للدين)) 6 1 .

هكذا يتضح انه ليس من العقل او الشرع التضحية بمقصد ثابت هو من اعظم المقاصد واشملها قبال حكم جزئي اقل ما يقال فيه انه من احكام الوسيلة التي تتغير بحسب الوقائع والظروف. لذلك كان من واجب القوانين المدنية للدولة الاسلامية - وكذا الفقهاء - ان تراعي وضع التقديرات النسبوية للقروض وفق معدلات التغير في القوة الشرائية للنقد ضمن مدد مقدرة قابلة للتجديد بين زمن واخر، كذلك وضع صيغ للحالات الاستثنائية الطارئة التي يصاب بها النقد بالهزات الفجائية قفزاً وانهياراً، دفعاً للظلم والاجحاف.

المقدرات المالية والواقع

وينطبق ما سبق عرضه في الفقرة السابقة على جميع المقدرات المالية كالدية ونصاب الزكاة والكفارات وما الى ذلك من المقدرات التي قدرها الشرع، طالما انها تتعرض الى التغيير في قوتها الشرائية بفعل تغيرات الظروف والواقع. بينما كان نهج الطريقة التقليدية ينبني على الحرفية، اذ حددت تلك المقادير بشكل حدي طبقاً لما جاء في كلمات الشرع من النصوص، سواء بالبعران او البقرات او الشياه او الحلل - الثياب - او الدنانير الذهبية او الدراهم الفضية او غيرها. فمثلاً قُدّرت دية القتل بحسب ما جاء عن النبي (ص) بانها مائة من الابل او الف دينار من الذهب او عشرة الاف درهم من الفضة، او الف شاة او مئتا بقرة او مئتا حلة كل حلة ثوبان. وصرح صاحب (الجواهر) بانه لم يجد على هذه المقادير اي خلاف بين العلماء، بل عن كتاب (الغنية) ان الاجماع حاصل فيها 7 1 . كما قُدّر نصاب الزكاة عشرين دينار من الذهب او مائتي درهم من الفضة او خمس من الابل او اربعين من الغنم او خمسة اوسق من الزبيب او التمر. وقد اعتبر الاستاذ عبد الوهاب خلاف ان التخيير الوارد في قيم الدية مبني على التقارب في قيمها، ثم قال: ((ولا شك ان تساوي هذه المقادير او تقاربها امر زمني مراعى فيه حال البيئة وقت التشريع خاضع لنظرية العرض والطلب)). وكذا الامر مع قيم نصاب الزكاة 8 1 .

والملاحظ ان كل هذه المقادير اصبحت عرضة للتغير والتحول في قيمها الشرائية عما كانت عليه في عصر النص. لذلك هل يعقل ان توفى مقاديرها في ايامنا هذه بنفس ما هو مقدر حرفياً بالنص، رغم وجود فارق القيمة النفعية لتلك المقادير بين عصرنا الحاضر وعصر الرسالة؟!

لا شك لو أننا اتبعنا الطريقة الحرفية لوقعنا بمشكل المعارضة مع العدل والانصاف مثل ما لحظناه في قضية القروض. فمثلاً قدّرت اللجنة المنتخبة من علماء المذاهب الاربعة، كما في كتاب (الفقه على المذاهب الاربعة) الذي اعتمدته وزارة الاوقاف المصرية، ان تضع للزكاة نصابين احدهما مقدر بالذهب والاخر بالفضة، لكنها افضت الى جعل احدهما يفوق الاخر باكثر من ثلاث عشرة مرة حسب العملة المصرية، حيث يقدر الاول بـ (7 8 1 1 ونصف القرش) والاخر بـ (9 2 5 وثلثي القرش) 9 1 ، فهل يعقل ان يكون هناك نصابان متفاوتان الى هذا الحد، واي منهما يقع تحت دائرة التكليف لدى المكلف؟! ناهيك عن ان هذا التقدير لم يضع لتغيرات القوة الشرائية بين الماضي والحاضر حساباً، ولم يراع حالة التقارب في الانصبة التي جعلها الشرع لغرض العدل والتيسير في مجتمع لم يشهد الكثير من التحولات والتغيرات في القيم الشرائية للاشياء، الامر الذي يفسر ما اعتمده الشرع من التخيير بينها على المكلف.

والواقع ان هذه المشكلة مازالت قائمة لدى الفقهاء المعاصرين، اذ كيف يمكن تحديد معيار متسق تقاس على ضوئه الانصبة والمقادير الشرعية؟

لا شك ان الكثير من العلماء المعاصرين يميلون في مجال انصبة الزكاة التعويل على نصاب الفضة، خصوصاً وهو انفع للفقراء مقارنة مع الذهب، لكن في المقابل ذهب اخرون من امثال ابي زهرة وعبد الوهاب خلاف الى ان النصاب يجب ان يسوى بالذهب، باعتبار ما جرى على الفضة من التغيرات الكثيرة في قيمتها الشرائية عبر العصور، بخلاف الحال مع الذهب الذي ظلت قيمته النقدية ثابتة الى حد بعيد. وهو ما استحسنه القرضاوي شرط ثبات قيمة الذهب دون تغيرها 0 2 .

وقد يميل البعض الى الابتعاد عن التقدير بالنقود باعتبارها معرضة للتغير سواء كانت فضة ام ذهباً، وذلك بالتعويل على قيمة ذاتية ثابتة قد نص عليها الشرع، رغم اختلاف قيمها النقدية من بلد لاخر، وكذا من عصر لاخر. وعليه يمكن التعويل على ما ذكر من نصاب مقدر على الابل او الغنم، حيث ورد في النص ان النصاب يتحقق في خمس من الابل او اربعين من الغنم او خمسة اوسق من القمح، رغم ان النصاب الاخير يقل عن نصاب الانعام ربما لبعض المقاصد الشرعية كما اشار الى ذلك القرضاوي 1 2 . وذهب هذا الاخير الى ان من الممكن وضع معيار ثابت ((للنصاب النقدي، يلجأ اليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً، يجحف بأرباب المال او بالفقراء. وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الابل، او اربعين من الغنم، في اوسط البلاد واعدلها. وانما قلنا: اوسط البلاد واعدلها: لان بعض البلاد تندر فيها الثروة الحيوانية وتصبح اثمانها غالية جداً، وبعضها تكثر فيه وتصبح رخيصة جداً، فالوسط هو العدل، ولابد ان يوكل هذا التقدير الى اهل الرأي والخبرة)) 2 2 .

ويلاحظ انه حتى لو سلمنا ان قيمة الذهب لم يطرأ عليها تغيير في القوة الشرائية، رغم انه غير صحيح كما هو ملاحظ في عصرنا الحاضر، لكن مع هذا ان الاستناد الى معيار الذهب وغيره من النقود المقدرة لا يمكن ان يكون حلاً عادلاً وصحيحاً، وذلك اذا ما اخذنا باعتبار ان جعل الانصبة بحسب تلك المقادير انما كان يناسب ما عليه الحالة المعيشية في زمن عصر النص، وهو امر يختلف الحال فيه مع عصرنا الحاضر. بل يزداد الاختلاف سعة حينما ندرك ما يظهر من تفاوت كبير في قيم الاشياء لدى بلدان الحاضر واقطاره مما لم يشهده ذلك العصر الذهبي في الغالب. وعليه لم يبقَ الا ان نعتبر الامر رهين ما يُقدّر من قيمة شرائية للانصبة وقت صدور التشريع، اي ما يُقدّر من قيمة منفعية او معيشية لها انذاك، ثم يقدر الامر بما يقابله من هذه القيمة النفعية باعتبارها تمثل القيمة الحقيقية للاشياء المتعامل بها والمتعاقد عليها. فمن هذا المنطق لا تصح حالات الحل القائمة استناداً الى معيار النقد سواء كان بالذهب او الفضة، وكذا لا يصح الحل القائم على اعتبار قيم الاشياء التي نص عليها الشرع، وذلك باعتبارها هي الاخرى تتغير قيمها الشرائية او المنفعية، والمطلوب هو تحقيق ذات القدر من القيمة الحقيقية للمنفعة لدى من طُبق عليهم نص الخطاب، وهو مجتمع عصر الرسالة، حيث ان الانصبة لم تفرض عليهم فرضاً معزولاً عن واقعهم، مما يعني انه لابد من اخذ اعتبار هذا الواقع، وذلك بتقدير الانصبة قياساً مع قدرتها الشرائية او المعيشية انذاك، وتقدير هذا الامر على واقع الناس كل بحسب بلده والعصر الذي فيه.

وذات الامر ينطبق على تقدير الديات، حيث يلاحظ انه مقدر بحسب احوال المعيشة انذاك، فلا يصح المثول الى منطق الحرفية، بل العدل ان تراعى قيمة ما تعادله الدية من قوة معيشية انذاك كي تقدر على الوضع الحالي. وكذا يقال ذات الشيء في جميع ما ذكره الشرع من تقديرات.

ولعل ما يقرب الى هذا المعنى هو ما سلكه الصحابة من طريق قائم على النظر الى المقاصد عند الطوارئ الخاصة بتغير القوة الشرائية لبعض الاموال، كما هو الحال في عهد عمر بن الخطاب الذي تعامل مع مثل هذه الظروف بمنطق تحقيق المقصد الشرعي في تقييم المال بقيمته الاصلية او ما يقرب منها قدر الامكان. فمن ذلك ما رواه ابو داود من انه كانت قيمة الدية في عهد رسول الله 0 0 8 دينار او 0 0 0 8 درهم، حتى استخلف عمر حيث خطب فقال: إن الابل قد غلت، ففرضها على اهل الذهب، وهم اهل الشام، 0 0 0 1 دينار، وعلى اهل الوَرِق، وهم اهل العراق، 0 0 0 2 1 درهم 3 2 . كذلك انه رفع دية الفضة في زمانه لما رخصت، ولم ينكر عليه احد من الصحابة 4 2 . ومثل ذلك ما أشار اليه الامام علي في خلافته من تغيير ما فرض من زكاة الفطر عندما رخص السعر، فقد كان الصحابة قبله يرون الزكاة في البر او القمح نصف صاع، أما سائر مواد الزكاة فعليها صاع. لكن لما رخص السعر في خلافته فانه جعل الزكاة صاعاً على جميع المواد، لذلك قال: ((قد اوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء)). وفي حديث آخر قال علي: ((أما اذا اوسع الله عليكم فاوسعوا، اجعلوه صاعاً من بُرّ وغيره)) 5 2 ، مما يدل على ان الصحابة كانوا يدركون ان العبرة ليست بالحرفية والالفاظ، بل بروح التشريع ومقاصده.

الهوامش

1 اعلام الموقعين، ج2 ، ص7 .

2 الموافقات،ج4 ، ص4 7 1 .

3 عن كتاب الخراج في الدولة الاسلامية للريس.

4 تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: النقود الاسلامية (شذور العقود في ذكر النقود)، تحقيق واضافات محمد بحر العلوم، دار الزهراء، بيروت، ط6 ، 8 0 4 1 هـ ــ 8 8 9 1 م، ص9 7 .

5 اعلام الموقعين، ج1 ، ص3 3 3 . وفقه الامام الصادق، ج3 ، ص4 7 2 .

6 اعتمدنا على ما سبق من نصوص على: علي احمد السالوس: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، دار الثقافة بقطر ــ دار الاعتصام بمصر، 0 9 9 1 م، ص1 2 ــ4 2 .

7 جواهر الكلام، طبعة دار الكتب الاسلامية، ج5 2 ، ص6 6 . يعود الخلاف الاساس في ذلك الى الخلاف الحاصل في الروايات المنقولة بهذا الصدد. فمن ذلك ما جاء عن يونس انه قال: كتبت الى الامام الرضا (ع) بأن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الايام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، او ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب الامام الي: لك ان تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما اعطيته ما ينفق بين الناس (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دراهم فسقطت، حديث1 ، ص6 0 2 . وعلى هذه الشاكلة لاحظ: مستدرك الوسائل، ج3 1 ، نفس العنوان من الكتاب والباب، حديث1 ، ص3 5 3 ــ4 5 3 ).

وفي رواية معارضة عن يونس ايضاً انه قال: كتبت الى ابي الحسن الرضا (ع) انه كان لي على رجل دراهم، وان السلطان اسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أغلى من الدراهم الاولى، وهي اليوم وضيعة، فاي شيء لي عليه الاولى التي اسقطها السلطان، او الدراهم التي اجازها السلطان؟ فكتب له الامام: لك الدراهم الاولى. (المصدر، حديث2 ، ص6 0 2 ). وعن الامام الرضا سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم او تغيرت، ولا يباع بها شيء: ألصاحب الدراهم الدراهم الاولى او الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الاولى (المصدر، حديث4 ، ص7 0 2 ).

فكما يلاحظ ان هناك شيئاً من التعارض الظاهر في الروايات في حل المشكل الخاص بالدراهم الساقطة. حتى ان الشيخ الطوسي حاول حل مثل ذلك التعارض بالقول بأنه متى كان على المقترض دراهم بنقد معروف فانه ليس له الا ذلك النقد، اما لو كان عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فانما له الدراهم التي تجوز بين الناس (المصدر، ص7 0 2 ).

8 هناك عدد من الروايات والنصوص التي تبدي حالة التغير في اسعار المواد وكيفية التعامل معها خلال القرن الثاني للهجرة. فمن ذلك ما جاء عن محمد بن الحسن انه كتب الى الامام ابي محمد (ع) يقول له: رجل استأجر اجيراً يعمل له بناءاً او غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطناً وغير ذلك، ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان اعطاه الى نقصان او زيادة، أيحتسب له بسعر يوم اعطاه، او بسعر يوم حاسبه؟ فوقع (ع): يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله. وأجاب (ع) في المال يحل على الرجل فيعطي به طعاماً عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقع (ع): له سعر يوم اعطاه الطعام (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من اشترى طعاماً فتغير سعره، حديث4 ، ص5 8 ). وعن محمد بن الحسن ايضاً انه قال: كتبت الى الامام (ع) في رجل كان له على رجل مال، فلما حل عليه المال اعطاه بها طعاماً او قطناً او زعفراناً، ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين او ثلاثة، ارتفع الطعام والزعفران والقطن او نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي اعطاه وحلّ ماله عليه، او السعر الذي بعد شهرين او ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقع (ع): ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام ان شاء الله. قال: وكتبت اليه: الرجل استأجر اجيراً ليعمل له بناءاً او غيره من الاعمال، وجعل يعطيه طعاماً او قطعاً وغيرهما، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان اعطاه الى نقصان او زيادة، يحسب له بسعره يوم اعطاه او بسعره يوم حاسبه؟ فوقع: يحسب له سعر يوم شارطه فيه ان شاء الله (المصدر، حديث5 ، ص5 8 ــ6 8 ).

ويلاحظ ان مثل هذه النصوص تؤكد على ان مورد التعامل انما هو بحسب السعر المتعارف عليه عند الاداء، ولم يؤخذ باعتبار التغيرات الجزئية للمواد الاستهلاكية، ربما لكونها ليست في مقام المال المتداول، لهذا كان النظر في ذلك الى ذات المال، اي يمكن ان تكون معنية باعتبار تحديد القيمة الفعلية التي يصلح فيها التبادل.

9 من النصوص التي تؤكد حصول بعض حالات تغير القيمة التبادلية للمال خلال القرن الثاني للهجرة؛ ما جاء عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي انه قال: سألت ابا الحسن موسى (ع) عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورقاً في حوائجه، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق، وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه، ثم يتغير السعر قبل ان يحتسبا حتى صارت الورق اثنى عشر بدينار، هل يصلح ذلك له، وانما هي بالسعر الاول حين قبض كانت سبعة وسبعة ونصف بدينار؟ قال: اذا دفع اليه الورق بقدر الدنانير فلا يضره كيف كان الصروف فلا بأس (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دنانير او دراهم، حديث1 ، ص3 8 1 ). وعن عمار قال: سألت ابا ابراهيم (ع) عن الرجل يكون لي عليه المال فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فاذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير، اي السعرين احسب له، الذي كان يوم اعطاني الدنانير، او سعر يومي الذي أُحاسبه؟ فقال: سعر يوم اعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه (المصدر، حديث2 ، ص3 8 1 ــ4 8 1 ). وعن الامام الصادق قال في الرجل يكون له على رجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه، فتصير الدنانير بزيادة او نقصان، قال: له سعر يوم اعطاه (المصدر، حديث5 ، ص5 8 1 ).

0 1 ابن تيمية: القياس، ضمن القياس في الشرع الاسلامي، مقدمة محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، ط2 ، 5 7 3 1 هـ، ص9 .

1 1 علل الشرائع، ج2 ، باب5 3 2 ، ص5 9 1 . وتاريخ المذاهب الاسلامية، ص2 1 7 .

2 1 كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (2 )، مجلة رسالة الثقلين، عدد 9 ، قم، 5 1 4 1 هـ ــ 4 9 9 1 م، ص4 0 1 .

3 1 المصدر، ص 5 0 1 .

4 1 الطرق الحكمية، ص6 1 ــ7 1 .

5 1 اعلام الموقعين، ج4 ، ص3 7 3 . بل العدل الذي قامت به السماوات والارض هو ذاته الذي قيل بشأنه -كما ينقل ابن تيمية- بأن ((الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام، وذلك ان العدل نظام كل شيء)) (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص6 4 1 ).

6 1 مهدي مهريزي: الفقه والزمان، قضايا اسلامية، عدد5 ، 8 1 4 1 هـ ــ7 9 9 1 م، ص6 7 2 .

7 1 جواهر الكلام، ج2 4 ، ص4 . كذلك انظر: فقه الامام الصادق، ج6 ، ص3 5 3 . ومصادر التشريع الاسلامي في ما لا نص فيه، ص3 6 1 .

8 1 مصادر التشريع الاسلامي، ص3 6 1 .

9 1 عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الاربعة، مكتبة ايشيق، استانبول، 7 9 3 1 هـ ــ7 7 9 1 م، ج2 ، ص1 0 6 . ويوسف القرضاوي: فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، ط3 ، 7 9 3 1 هـ ــ 7 7 9 1 م، ج1 ، ص2 6 2 .

0 2 فقه الزكاة، ج1 ، ص3 6 2 ــ4 6 2 .

1 2 فقه الزكاة ج1 ، ص6 6 2 .

2 2 فقه الزكاة، ج1 ، ص9 6 2

3 2 المنار، ج5 ، ص5 3 3 . كذلك: السيد سابق: فقه السنة، دار الفكر، بيروت، ط4 ، 3 0 4 1 هـ ــ 3 8 9 1 م، ج2 ، ص6 6 4 . وأحكام القرآن، ج1 ، ص5 7 4 .

4 2 المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص3 6 1 .

5 2 ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2 ، 1 0 4 1 هـ ــ 1 8 9 1 م، ج2 ، ص9 1 ــ1 2 . كذلك: فتح الباري، ج3 ، ص4 7 3 . ونيل الاوطار، ج4 ، ص3 5 2 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار