العقل والاجتهاد


يحيى محمد

تواجه طريقة الاجتهاد التقليدية تهمة كبيرة في اسلوب معالجتها للقضايا الفقهية. فبحكم انها تعتمد في الاساس على النصوص، خاصة نصوص الحديث؛ وباعتبار ان هذه النصوص تعالج - في الغالب - قضايا جزئية تظهر بمظهر المطلق الشامل؛ فقد تشكل من ذلك قالب ذهني جزيئي منفصل عن كليات مقاصد الشرع، ومجرد عن اعتبارات الواقع وما ينطوي عليه من حقائق تساعد على الفهم العقلائي، واحياناً انه يتصادم مع العقل والمنطق.

هكذا بفعل المبالغة في التفكير في الجزئيات تولدت ظاهرة الغبش عن الكليات، وبفعل الانغماس الكلي في النصوص تولدت حالة الاغتراب عن الواقع وحقائقه، وعن العقل وما يفرضه من نتائج منطقية. مع ان الممارسة الفقهية لا تدعي انها تحصل على القطع واليقين، فهي تقر - في الغالب -بظنية الحديث سنداً ودلالة، لكنها مع ذلك تتعامل معه تعامل الصحيح الثابت من غير نظر قاصد الى مقصد او واقع او عقل. وهنا ينشأ الصدام في الطريقة المتبعة مع كل مما ذكرنا، مع اخذ اعتبار التفاوت في المستويات بين فقيه واخر، او بين مذهب واخر.

وفي هذه الدراسة سوف نبحث موقف طريقة الاجتهاد التقليدية من الاستكشافات العقلية في مجال الاحكام، وذلك لنتعرف على التناقضات والمفارقات التي لحقت بها، ومنها تلك التي لها علاقة بالمقاصد.

المدارس الفقهية وتغييب العقل

ليس بين المذاهب الفقهية من اطلق العقل كمصدر من مصادر الكشف عن التشريع صراحة غير مذهب الامامية الاثنى عشرية، وكذا ما ينسب الى بعض المعتزلة والفقهاء. فبحسب استقراء نجم الدين الطوفي ان ادلة الشرع بين العلماء تنحصر بتسعة عشر باباً القليل منها يتفق عليه، واغلبها موضع اختلاف بين الاخذ والرد، وليس بين هذه الادلة المطروحة عنوان خاص باسم العقل. فهي عبارة عن: الكتاب والسنة وإجماع الأُمة وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والإستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد أو العادات والإستقراء وسد الذرائع والإستدلال والإستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة 9 .

قد يقال ان عنوان العقل ورد ضمن انواع الادلة التي توصل للحق. فمن الناحية التاريخية نجد ان مؤسس المذهب الاعتزالي واصل بن عطاء هو اول من حدد المصادر العامة لطريقة الانتاج المعرفي لكل من علم الكلام والفقه معاً. اذ يقول الجاحظ في حقه: >وكل اصل نجده في ايدي العلماء في الكلام وفي الاحكام فانما هو منه<. ذلك ان الجاحظ اعتبر واصل بن عطاء >هو اول من قال: الحق يعرف من وجوه أربعة؛ كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل، واجماع من الامة<. وقد تصور الاستاذ علي سامي النشار ان الوجوه الاربعة التي ادلى بها واصل؛ تساوي حتماً اصول الفقه الاربعة: القرآن والسنة والقياس والاجماع 0 1 .

والحقيقة ان حجة العقل لا تساوي القياس الفقهي. فمن جهة ان تلك الحجة هي اعم من اعتبار الجانب العقلي او الاجتهادي في الطابع القياسي الفقهي. كما من جهة اخرى ان القياس يحمل دلالة الارتباط بالنص بخلاف ما هو الحال في حجة العقل الذي له دلالة الاستقلال، فاحدهما لا يعني الاخر. ومنه نفهم لماذا لم يرادف العلماء بينهما، حيث وضعوا العقل كمصدر اساس للعقيدة والكلام ولم يضعوا القياس، ووضعوا القياس كمصدر للفقه ولم يضعوا العقل. وبعضهم وهو ينص على سبر اصول الادلة ميّز بين القياس والعقل، كما هو الحال مع الباقلاني الذي عدد اصول الادلة وحصرها بخمسة وذكر منها اصل العقل، وكذا اصل القياس والاجتهاد، فضلاً عن الكتاب والسنة والاجماع 1 1 .

مع هذا لا ينكر ان الاتجاه الاعتزالي أقر مبدأ تشريع العقل في القضايا الرئيسة لاجل تصحيح العقيدة ضمن علم الكلام وليس في علم الفقه، كوجوب النظر والشك وشكر المنعم ودفع الضرر عن النفس وما اليها 2 1 .

علاوة على هذا نُسب الى بعضهم اقرار التعويل على العقل في الاحكام بدلاً عن الاخذ باخبار الاحاد، من حيث انها لا تفيد علماً ولا توجب عملاً. وكما اشار السيوطي في (صون المنطق) الى ان هناك جماعة انكروا الاعتماد على اخبار الاحاد وعولوا على الرجوع الى دليل العقل واستصحاب الحكم العقلي الذي رفضه اهل السنة، وذلك لانه لا حكم للعقل في الشرعيات. لذا صرح السيوطي رداً على هؤلاء بان من الواجب على المسلمين >ان يجعلوا الاصول القرآنية والنبوية غاية العقول، ولا يجعلوا العقول غاية الاصول<>

العقل عند الاتجاه السني

أما في الوسط السني بعيداً عن اجواء المعتزلة، فمن الواضح ان رجاله يحصرون التشريع في النصوص دون العقل. وعلى رأيهم ان هذا الاخير لا يمكنه ادراك ادلة الاحكام بذاته 4 1 . فهذا هو الموقف العام لأهل السنة، حيث لا نجد من يعترف بدور العقل المستقل في التشريع الا ما ينقل عن بعض الفقهاء. وكما ذكر الشاطبي قول العز بن عبد السلام (المتوفى سنة 0 6 6 هـ) وإن لم يسمه 5 1 ؛ بان مصالح الدنيا كلها تعرف بالعقل من خلال الضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، وذلك على خلاف مصالح الاخرة التي لا تدرك الا بالشرع، فعلى قوله >من اراد ان يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد، راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله، بتقدير ان الشارع لم يرد به، ثم يبني عليه الاحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، الا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها او مفاسدها<>

نعم ان الغزالي صرح بذكر عنوان العقل ضمن اصول الادلة الفقهية، وهي عنده عبارة عن الكتاب، والسنة، والاجماع، ودليل العقل والاستصحاب الدالين على براءة الذمة في الافعال قبل ورود السمع 0 2 . لكن كما هو واضح انه يعد هذا الدليل - الذي يقصد به البراءة الاصلية - مقيداً بالحال قبل ورود السمع او الشريعة، أما مع وجودها وورودها فليس للعقل شأن يمكن ان يستكشف به الحكم مستقلاً. لهذا فمن الناحية المبدئية ان الاتجاه السني لا يعترف بدور العقل في استكشاف موارد التشريع والاحكام، وهو امر يتسق مع نظرية الحسن والقبح الشرعيين التي يميل اليها الغالب من اهل السنة، مثلما هو حال التفكير الاشعري، سواء لدى المتقدمين منهم او المتأخرين.

واذا كنا نعتقد بأن قسطاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق الاشاعرة في ابطالهم لدور العقل في التشريع او الكشف عن الاحكام، وذلك بسبب التنظير الذي آلوا اليه في قاعدة الحسن والقبح الشرعيين؛ فان القسط الاخر من المسؤلية يتحمله قبلهم الشافعي، باعتباره المنظر الاول لاصول الفقه. فبحسب المعطيات المتوفرة لدينا اليوم هو ان تنظير الادلة الشرعية وتقعيدها لم ينشغل بهما فقيه مسلم قبل هذا الامام القرشي 1 2، او على الاقل انه لم يصلنا شيء واضح ومقطوع به قبله 2 2 . والعديد من العلماء يعتقدون انه اول من صنف في ذلك العلم، كالذي نص عليه ابن خلدون وابن تيمية والزركشي ومن قبلهم الامام الجويني. وكان احمد بن حنبل يقول: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي. مع هذا فان الشافعي وهو في ممارسته للتنظير والتقعيد لم يعط اي دور مميز للعقل في التشريع والاستكشاف. فغياب العقل هو الظاهرة البارزة في مشروعه. ذلك انه يلتزم بالبيان التام لنص الخطاب فلا يدع مجالاً لمشاركة غيره في التشريع باستثناء القياس للضرورة والاضطرار، كما نصّ على ذلك مرات عديدة، مثل قوله: >ليست تنزل بأحد من اهل دين الله نازلة الا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها<>ليس لأحد ابداً ان يقول في شيء: حلّ ولا حرُم الا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب او السنة او الاجماع او القياس<>العلم طبقات شتى.. ولا يصار الى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من اعلى<>

هكذا نرى غياب العقل من مشروع الشافعي، مثلما نشهد موته لدى الاشاعرة، وكل ذلك له انعكاساته الخاصة التي مازلنا نعاني منها حتى يومنا هذا.

ويلاحظ انه حتى لو أولنا مبادئ الاجتهاد التي يقول بها بعض المذاهب الاسلامية واعتبرناها مبادئ عقلية تتباين في الاستقلالية من حيث علاقتها بالنص، كالقياس او المصالح المرسلة او الاستحسان او الاستصحاب او البراءة الاصلية او غيرها؛ مع ذلك فالملاحظ ان هذه المبادئ تظل مهملة غير فاعلة الا مع عدم وجود النص، بل غالباً ما يكون العمل بها على نحو الاضطرار او تبعاً لضغط الحاجات الزمنية. فعلى الاقل ان رؤساء المذاهب الاسلامية كانوا يصورون الامر على هذا النحو من الاضطرار، مثلما يعترف بذلك اصحاب المذاهب الاربعة، حتى من عُرف منهم بشدة العمل بالاجتهاد والقياس منه على نحو الخصوص، من امثال أبي حنيفة النعمان 6 2 . فهم بالتالي يرجحون العمل بالنص رغم كونه لا يرقى - في الغالب - الى درجة اقوى من الظن، سواء من حيث الصدور او الدلالة. على هذا يظل العمل بمبادئ الاجتهاد متأخراً رتبة عن العمل بالنص. وهو امر ينطبق حتى على من يعترف صراحة بمبدأ العقل في استكشاف الحكم الشرعي، فلا يرى له اي مرجعية تتقدم على مرجعية النص، رغم ما يعتري النص من مشكل عدم افادته العلم واليقين في الغالب، خاصة الحديث منه الذي يشهد مشاكل اضافية تتعلق بالسند والتقطيع واحتمالات الزيادة والنقصان، فضلاً عن مشاكل اخرى تلوح المتن ذاته.. كما يلاحظ ذلك عند مذهب الامامية الاثنى عشرية التي تعد العقل مصدراً أخيراً لمصادرها التشريعية الاربعة (الكتاب والسنة والاجماع والعقل)، وذلك منذ بداية عصر التنظير الشيعي، مثلما ينص عليه الشريف المرتضى، ومن ثم جاء الاخرون يؤكدون مقالته في حجية العقل بعد النص والاجماع.

والامامية وإن اختلف علماؤها حول ما يريدونه من المعنى الخاص بالعقل كمصدر استكشاف وتشريع، الا ان ما استقر عليه المتأخرون هو انه ينحصر مستقلاً في دائرة التحسين والتقبيح العقليين.

من هنا يعلم ان مكانة العقل - او الرأي والاجتهاد تسامحاً - في علم الفقه تختلف عن مكانته في علم الكلام، ذلك انه كثيراً ما يُحتج به في القضايا العقائدية قبال ظواهر النصوص للكتاب والسنة، فينتهي الامر بهذه النصوص الى التأويل والتوجيه، او الترك والابطال. مما يعني ان اعتبار العقل في علم الكلام هو اعتبار تأسيسي، او ان له جعلاً على نحو التأسيس لا التبعية، سواء كان التأسيس خارجياً لاثبات الخطاب الديني من حيث الاصل، او انه تأسيس داخلي يراد منه توجيه معاني نصوص الخطاب بما يتفق ومداليله الخاصة. لهذا فقد أُتهم العقل من قبل النزعات البيانية النقلية بانه يقوم بدور مناهض لنصوص الخطاب وبيانها، مثلما ذهب الى ذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ممن ابتعدوا عن الطريقة العقلية الكلامية 7 2 .

أما في الفقه فالامر يختلف تماماً، ذلك ان هذا العلم لا يحتاج الى العقل للتأسيس من الخارج، فتأسيس الخطاب الديني بالعقل هو في حد ذاته يصحح العمل بالبناء الفقهي. والاهم من هذا هو ان علم الفقه لم يجعل للعقل موضعاً قبال النص او ظواهره كالذي فعله علم الكلام، انما الاعتماد على بيانية النصوص هي الحالة الراكزة والمستقرة، رغم المفارقة في الامر! حيث يلاحظ ان العقل الكلامي كان يمارس حالة التوجيه والتأويل بتأسيس الخطاب من الداخل في النصوص القطعية الصدور (الايات القرآنية)، في حين ان العقل في الفقه مهمل لا يسمح له بممارسة حالة التأويل والتوجيه للنصوص؛ بما فيها نصوص الحديث التي تعد ظنية الصدور والدلالة. ولو انا طبقنا عليها حساب الاحتمالات لكانت الاحكام المنتزعة عنها في غاية الضعف لما ينتابها من مشاكل متنوعة كثيرة على صعيد السند والمتن، كالذي التفت اليه اصحاب دليل الانسداد في الاتجاه الشيعي.

فهذا هو حال الفقه ليس له زاد ولا معين يطمأن اليه وهو في صورته التقليدية تلك. الامر الذي يحتاج الى نوع من التعويض المسدد، وذلك بالتعويل على الاعتبارات التي يطمأن لها في تشييد الاحكام واستكشافها، كاستخدام مبدأ العقل الذي نحن بصدد البحث فيه، ومبدأ الواقع ونظام الخلقة، وكذلك مقاصد الشرع وكلياته العامة.

ان اهمال العقل في الفقه جعل الممارسة الاجتهادية تصطدم احياناً بالنتائج العقلية القطعية دون ان تشعر، او انها كانت تتجاهل ذلك طبقاً لمسلكها الاستصحابي في ابعاد العقل عن الاستكشاف والنفي والاثبات. وهنا بيت القصيد !

فحتى الاتجاه الشيعي رغم اعترافه بمرجعية العقل للكشف عن التشريع ورغم ما صرح به بعضهم كالشيخ النائيني من انه >لو عزل العقل عن الحكم لهدم اساس الشريعة<>

العقل عند الاتجاه الشيعي

ان الدليل العقلي القطعي المعد كاشفاً عن الحكم الشرعي والمعبر عنه بقضية التلازم بين العقل والشرع طبقاً لقاعدة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع).. ان هذا الدليل قد خضع لتفسيرات عديدة بين الاصوليين الشيعة. فبعضهم فسره بالبراءة الاصلية والاستصحاب وبعضهم قصره على الثاني، وبعض آخر فسره بلحن الخطاب وفحواه ودليله، مضافاً الى وجوه الحسن والقبح 9 2 . واضاف اخرون كلاً من مقدمة الواجب واجبة، ومسألة الضد 0 3، واصل الاباحة في المنافع والحرمة في المضار، وكذلك البراءة الاصلية والاستصحاب، وما لا دليل عليه، ولزوم دفع الضرر المحتمل، وقاعدة شغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً، والاخذ بالاقل عند الترديد بينه وبين الاكثر 1 3 . كما اعتبر البعض ان من ضمن الاحكام العقلية اعتبار الضرورات تبيح المحظورات، وان الضرورة تقدر بقدرها، ودرء المفسدة اولى من جلب المصلحة، ولزوم اختيار اهون الشرين اللذين لا مناص من احدهما، والعلم بوجود التكليف يستدعي العلم بطاعته وامتثاله، واصل المشروط عدم شرطه، والاذن بالشيء اذن بلوازمه 2 3 . لكن هناك من قصد بالدليل العقلي بانه حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابث شرعاً او عقلاً وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء ومقدمة الواجب ونحوهما 3 3، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، وكحكمه بتقديم الاهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الاهم عند الله، وكحكمه بوجود مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الاراء المحمودة. لكنه بصدد المستقلات العقلية حصرها في مسألة واحدة هي التحسين والتقبيح العقليين باعتبار ان الشرع لا يشارك حكم العقل العملي الا فيها 4 3 . وتنص هذه القضية كما يقول ابو القاسم القمي صاحب كتاب (قوانين الاصول): >ان كل ما يدرك العقل قبحه فلا بد ان يكون من جملة ما نهى الله عنه، وما يدرك حسنه فلا بد ان يكون مما امر به، فاذا استقل العقل بادراك الحسن والقبح.. فيحكم بان الشرع ايضاً حكم به كذلك، لانه تعالى لا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن<>

على ان البعض اعتبر ان من وظائف العقل ادراك المصالح والمفاسد، وان الاحكام تابعة لها، مما يعني صحة استكشاف العقل لهذه الاحكام تبعاً لادراك تلك المصالح والمفاسد، فكما يقول صاحب (فوائد الاصول) من >انه لا سبيل الى انكار تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وان في الافعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن امر الشارع ونهيه وانها تكون عللاً للأحكام ومناطاتها، كما انه لا سبيل الى انكار ادراك العقل لتلك المناطات<>ان المصالح والمفاسد علل للاحكام، فاذا ادرك العقل المصلحة او المفسدة في فعل من الافعال فلا بد من ان يكون للشارع حكم في ذلك الفعل لوجود علته، فيكون العقل كاشفاً عن الحكم الشرعي<>

والبعض جعل اطباق العقلاء على مصلحة الشيء او فساده هو الضابط الوحيد المعول عليه في اقرار الملازمة بين العقل والشرع. فالشيخ المظفر يقول: >اذا ادرك العقل المصلحة في شيء او المفسدة في اخر، ولم يكن ادراكه مستنداً الى ادراك المصلحة او المفسدة العامتين اللتين يتساوى في ادراكها جميع العقلاء؛ فانه لا سبيل للعقل ان يحكم بأن هذا المدرك يجب ان يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، اذ يحتمل ان هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما ادركه العقل، او ان هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما ادركه العقل وإن كان ما ادركه مقتضياً لحكم الشارع<>

لكن هذا التقرير هو في حد ذاته يبرر حالة الفصل بين الحكمين العقلي والشرعي. فحتى لو حصل الضابط الذي ذكره المظفر واجمع العقلاء على حكم من الاحكام العقلية؛ فان ذلك لا يمنع - تبعاً لما افاده الشيخ - ان يحتمل هناك >ما هو مناط لحكم الشارع غير ما ادركه العقل، او ان هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما ادركه العقل وإن كان ما ادركه مقتضياً لحكم الشارع<. فهذه هي حالة الفصل بين الحكمين العقلي والشرعي التي سنجدها شائعة لدى الفقهاء الاصوليين من الشيعة.

ويلاحظ من كل ما ذكرنا ان الدليل العقلي قد وضع في غالبه بصورة غير مستقلة عن البيان او النص، فهو يعتمد عليه وموظف لخدمته. فالاتجاه الشيعي يقر بان العقل في الفروع بخلاف الاصول يعجز عن الكشف عن الحكم الشرعي بشكل مستقل، وذلك فيما لو استثنينا حالات خاصة وقليلة كتلك المتعلقة بالحسن والقبح. لكن حتى في هذه القضية المعدة من الواضحات في حقل الفضاء الشيعي نجد هناك من المتأخرين من انفرد ونفى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع رغم انه قائل بنظرية الحسن والقبح العقليين، مثل ما هو الحال مع صاحب كتاب (الفصول)، فهو ينص بالقول: >الحق عندي ان لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه<. وقد صور الشيخ محمد علي الكاظمي - في تحريره لافادات استاذه النائيني - هذا الرأي من انكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بقوله: >ان العقل وان كان مدر كاً للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة الا انه من الممكن ان تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل الى تلك الموانع والمزاحمات، اذ ليس من شأن العقل الاحاطة بالواقعيات على ما هي عليها، بل غاية ما يدركه العقل هو ان الظلم مثلاً له جهة مفسدة فيقبح والاحسان له جهة مصلحة فيحسن، ولكن من المحتمل ان لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطاً للحكم الشرعي<>

لكن ذلك لا يتسق مع ما يكاد يتفق عليه علماء المدرسة الاصولية من الشيعة في صحة العلم الوجداني القطعي من حيث انه حجة ذاتية غير قابلة للجعل الشرعي 2 4 . فهو والعلم التعبدي عندهم يعدان كامل حجية المجتهد 3 4 . وقد زاد بعضهم على ذلك بأن اعتبر العلم العادي (الاطمئناني) مما لا تشمله الادلة الناهية عن العمل بالظن لخروجه عن موضوع الادلة في نظر العقلاء 4 4 . بل رغم هذا الاعتراف نلاحظ ان هناك تضييقاً لحدود هذين العلمين. ففي العبادات يعول المجتهد على الاخبار لكثرتها رغم مشاكل الحديث المعترف بها. أما في المعاملات فالمجتهد يعول على القواعد الاصولية والكبريات الواردة فيها 5 4 . وفي كلتا الحالتين لا نجد مساحة يعتد بها للعمل بالوجدان العقلي المستقل والمزود بخبرة الواقع.

نعود مرة اخرى لنقرر بأن التصوير الذي ذكره الشيخ الكاظمي في انكار الملازمة بين الحكمين العقلي والشرعي؛ هو الذي هيمن على السلوك الشيعي من الناحية العملية، بل وعلى السلوك الاسلامي قاطبة الا ما ندر. فالاتجاه الشيعي يعد العقل غير قادر على الادراك القطعي للمصالح والمفاسد الحقيقية في الواقع. ويندرج تحت هذا التعامل جميع القضايا الفقهية تقريباً، من ابسطها الى اعظمها شأناً، والتي منها ما يتعلق بكيفية نظام السلطة والحكم واعتبارات الحرية الفردية والاجتماعية والتعامل مع الحقوق العامة للانسان. فهذه القضايا وغيرها لا تبحث ضمن اجواء بحث المصالح والمفاسد العقلية المندرجة تحت عنوان الحسن والقبح، وانما تبحث بحسب ما يؤدي اليه النظر المنبثق من التفكير البياني، بالرغم من ان هذا النظر لا يفضي في الغالب الى ما هو اقوى من الظن المعترف به كظن معتبر تمييزاً له عن الظن العقلي المبعد. فبنظر الفقهاء تكون الاحكام تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها، كما نص عليه العلامة الحلي في (النهاية) 6 4، وان العقلاء قد يتوهمون ما هو اقرب الى واقع الشرع على انه ابعد، وما هو ابعد عن هذا الواقع على انه اقرب، وبالتالي فليس هناك من مناص الا الاحتماء بنفس الشارع من حيث انه محيط بكل الجهات وعالم بكثير مما لم تصل اليه العقول. فمع ان المعول عليه عندهم كون المقياس في باب الحجج هو الاقربية الى واقع الشرع، الا ان معرفة هذه الاقربية لا يمكنها ان تكون بالنظر العقلي المنفصل عن الشرع ولو على نحو السلب، وذلك من حيث العلم بعدم ردع الشارع عن الاخذ بما يعتقد انه اقرب الى ذلك الواقع 7 4 .

لكن بحسب هذا المنظور تصبح الاحكام تعبدية لا تعلم مصالحها بالنظر العقلي، وانه لا معنى للاستدلال على ظرفية بعض الاحكام او تخصيصها بوقائع محددة او اعتبارها مما تقع تحت دائرة الاحكام المولوية القابلة للتغيير، وذلك اذا ما كان ظاهر النصوص الدالة على مثل هذه الاحكام تتصف بالاطلاق والعموم دون وجود ما يخصصها ويقيدها بحسب القرينة اللفظية، حيث انها يمكن ان تُبرر بنفس تلك الحجة من وجود مصالح خفية يعجز العقل عن ادراك الحقيقة الاطلاقية والعمومية لحكم النص، الامر الذي يجعل من الاحكام أحكاماً تعبدية لا تقبل التوجيه والتفسير بأي وجه اخر غير ما يفيده الظاهر الاطلاقي للنص، وبالتالي وجود التعارض بين ما يدركه العقل المستقل من فهم واضح معلل، وبين ما ينطق به النص من حكم ظاهر مخالف. والمسألة لا تتوقف عند حدود القضايا المعيارية من الاحكام الشرعية، وانما يمكن ان تنسحب وتطال الاحكام التقريرية التي لها علاقة بالكشف عن الواقع الموضوعي، ذلك انه بنفس تلك الحجة من احتمال وجود مصالح حقيقية خافية على العقل البشري، يمكن ان يدّعى وجود حقائق خفية يعجز العقل عن ادراكها وراء ما ينطق به النص الذي ظاهره يخالف ما يدركه العقل من القضايا الموضوعية والخارجية. فمثلاً ان بعض النصوص تنهانا عن التعامل مع بعض الاجناس البشرية بحجة انهم من الجن. لكن عقلنا وادراكنا الواقعي لا يشك أبداً بانسانيتهم، اذ لا مزية لديهم تجعلهم يختلفون فيها عن غيرهم. وقد يحتج صاحب فكرة الحقائق الخفية بأنه حتى لو لم يظهر اي تمايز بين هؤلاء الاجناس وبين غيرهم فان ذلك لا يمنع من كون العقل لم يدرك بعض التمايزات الخفية التي تجعل من مثل هؤلاء من الجن. لذا يصبح من الصعب او المحال الرد على مثل هذه الحجة التشكيكية. لكن كل ما يقال هنا يمكن ان ينسحب على قدرة العقل على الادراك الموضوعي برمته، ذلك انه بحسب هذا المنطق يمكن ان يقال ايضاً بأن كل ما يقرر من اثبات للقضايا الدينية وعلى رأسها القضايا الاصولية انما هي ايضاً تواجه نفس المصير، حيث احتمال وجود حقائق مخالفة تخفى على العقل وتجعل معرفة الحقيقة الدينية من المحالات 8 4 ؛ مثلما لا سبيل لمعرفة القضايا التقريرية التي تخالف ما تنطق به النصوص، وكذا لا سبيل لمعرفة المصالح الحقيقية التي يتوخاها العقل في القضايا المعيارية من الاحكام وغيرها.

إذاً لا داعي لجر القضايا بمثل هذا المنطق الخطير، انما لا بد من الثقة العقلائية الوجدانية في الكشف عن الحقائق والتسليم بها ما لم تُعارض بما هو اقوى منها حجة واعتباراً.

مشاهد الصدام مع العقل

سوف نتطرق الى بعض المشاهد التي تكشف عن حالتين من التعارض، احداهما عبارة عن التعارض بين منطق الادراك العقلي ومقاصد التشريع من جهة، وبين ما سلّم به الفقهاء من الاعتماد على بعض النصوص الروائية من جهة ثانية. أما الحالة الاخرى من التعارض فهي ايضاً بين منطق هذا الادراك، وبين التعامل التقني لعملية الاجتهاد النظري خارج حدود منطوق النصوص.

1 ـ تعارض العقل مع النص

من أبرز الشواهد التي تتعلق بتعارض العقل مع النص؛ ما ورد بخصوص مسألة الدية لقطع اصابع المرأة بما يعرف بصحيحة ابان بن تغلب، حيث روى عن الامام الصادق قوله بأن دية قطع اصبع واحد من أصابع المرأة هي عشر من الابل، وقطع اصبعين منها هي عشرون من الابل، وقطع ثلاث اصابع منها يكون ثلاثين، أما قطع اربع اصابع فديته عشرون من الابل. وبحسب الرواية ان ابان الذي كان حاضراً عند الامام الصادق تعجب وقال: يا سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعاً فيكون عليه عشرون؛ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فاجابه الصادق بالقول: مهلاً يا ابان ان هذا حكم رسول الله، ان المرأة تقابل - وفي رواية تعاقل - الرجل الى ثلث الدية، فاذا بلغت الثلث رجعت الى النصف. يا ابان انك اخذتني بالقياس.. والسنة اذا قيست محق الدين. والرواية مروية في (الكافي) للكليني، ونص رجالها كالاتي: علي بن ابراهيم عن ابيه، ومحمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن ابي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابان بن تغلب عن الامام الصادق.

وقد اورد فقهاء الامامية هذا الحديث وما يتضمنه من حكم دون تشكيك، وذلك اذا ما استثنينا السيد الخوئي في حيث قدّم عدداً من المناقشات حول الرواية السابقة كان اهمها هو انه اعتبرها ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها. لكن تلميذه محمد تقي الحكيم استدرك وقال: >بلغنا ان الاستاذ عدل عن تضعيف الرواية لثبوت صحتها لديه، ولم تسعني مراجعته للتأكد من ذلك<.

وعلى هذه الرواية او الحديث علّق المرحوم محمد جواد مغنية معتبراً اياه بانه >صريح في ان عقولنا لا تدرك لهذا الحكم سراً وانه تعبدي محض<>انما الذي وقع من ابان قياس مجرد لم يكن مستنده فيه الا جهة الاولوية، اذ تصور - بمقتضى القاعدة العقلية الحسابية - ان الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الاصابع، فاذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الابل فلا بد ان يكون في قطع الاربع اربعون، لأن قطع الاربع قطع شرعاً فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، وهي مائة من الابل<.

كما سبق ان علّق عليه الشيخ مرتضى الانصاري (المتوفى سنة 1 8 2 1 هـ) بقوله بان الرواية >هي وان كانت ظاهرة في توبيخ ابان على رد الرواية الظنية التي سمعها في العراق بمجرد استقلال عقله بخلافه او على تعجبه مما حكم به الامام عليه السلام، من جهة مخالفته لمقتضى القياس، الا ان مرجع الكل الى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الاحكام. فهو توبيخ على المقدمات المفضية الى مخالفة الواقع. وقد اشرنا، هنا وفي اول المسألة، الى عدم جواز الخوض لاستكشاف الاحكام الدينية في المطالب العقلية والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه اليه على طريق اللمّ، لان انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه من الاحكام التوقيفية، فقد يصير منشأً لطرح الامارات النقلية الظنية، لعدم حصول الظن له منها بالحكم. واوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لادراك ما يتعلق باصول الدين، فانه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد<>

وقد ورد ما يماثل ذلك الحديث في المصادر السنية، حيث التزم به جماعة من فقهاء التابعين وبعض ائمة المذاهب الاربعة ونسبوه الى الرسول (ص). اذ جاء ان المالكية والحنابلة يرون ان دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما دون ثلث الدية الكاملة، فان بلغت الثلث او زادت عليها رجعت الى نصف دية الرجل. حتى روى النسائي بهذا الصدد عن النبي قوله: >عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها<>

مع هذا فان هذا الحكم لم يستسغه الحنفية والشافعية الذين رأوا ان الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر بحسب ديتها، لذلك فان الدية تكون نصفاً 4 5 . وعلق الشافعي على محاورة ربيعة وابن المسيب الانفة الذكر بقوله: >كنا نقول به ثم وقفت عنه وانا اسأل الله الخيرة لأنا نجد من يقول السنة ثم لا نجد نفاذاً بها عن النبي (ص) والقياس اولى بنا فيها<>

ويلاحظ من كل ما سبق ان الفقهاء، سواء في الساحة الشيعية او السنية، لم يحتكموا الى الوجدان العقلي ازاء مضمون الرواية الانفة الذكر رغم انها من الاحاد التي لا تفيد علماً وانها تتعارض تعارضاً قطعياً مع مبادئ الحقوق الطبيعية والعدالة التي هي على رأس الثوابت العقلية ومقاصد التشريع.

ومثل ذلك يمكن القول بصدد عدد من الفتاوى التي تتعارض مع العقل، كفتوى جماعة من الفقهاء في الحكم على بعض الاقوام والاجناس بكراهة التعامل معهم كما في البيع والشراء والتزويج، وذلك بحجة انهم من الجن، مثل الاكراد 6 5، كما هو نص الحديث الذي لا يتفق مع منطق العقل والواقع ولا مع مبادئ التشريع ومقاصده 7 5 .

ومثل ذلك الفتوى التي تقول ان ولد الزنا كافر، والتي صرح بها جماعة من الفقهاء. وقديماً قال ابن ادريس الحلي: لا خلاف بين اصحابنا في ان ولد الزنا كافر. واتبعه في هذا القول العلامة الحلي. لكن الفاضل الآبي صرح بان المسألة على قولين، حيث قال اكثر الفقهاء بأن ولد الزنا كافر. وكذا جاء عن الفقهاء ما يقرر الرواية التي تقول ان ولد الزنا لا خير فيه وانه شر الثلاثة 8 5، وانه لا تقبل شهادته ولا تجوز امامته، وذلك تبعاً لعدد من الروايات.

كذلك ما قاله اكثر فقهاء الامامية من ان ولد الكافر نجس تبعاً لابويه باعتبارهما نجسين بسبب الكفر 3 6، وكذا القول انه كافر ايضاً. وقال محمد بحر العلوم: >ولد الكافر يتبع ابويه في الكفر والنجاسة؛ اجماعاً مصرحاً به في كلام جماعة، وهو الحجة<، واستشهد على ذلك ببعض الروايات عن الائمة الاطهار.

ولا شك ان مثل هذا الحكم لا يُقبل عقلاً ووجداناً، حيث لا ذنب للولد في كفر ابويه او نجاستهما، وهو يتصادم مع المقاييس الشرعية، مثل قاعدة عدم الوزر: ((ولا تزر وازرة وزر اخرى)). فضلاً عن ان الكافر الكتابي طاهر بلا ادنى شك، بدلالة ان الله تعالى أجاز الزواج من الكتابيات كما في قوله تعالى: ((اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حِلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة/5، ولا يتسق الحال بين التنجيس وبين المعاشرة الزوجية بكل ما فيها من ملابسات معنوية وحسية.

ومن المعاصرين من ناقش هذا الحكم، كما هو الحال مع السيد الخوئي وتلميذه الصدر، فمثلاً ناقش الخوئي الروايات المتعلقة بذلك مثل صحيحة عبد الله بن سنان - وغيرها - التي تتضمن ان اولاد الكفار يدخلون النار مثل آبائهم، فقال: >لا يخفى ان هذه الأخبار مخالفة للقواعد المسلمة عند العدلية، حيث ان مجرد علمه تعالى بايمان أحد او كفره لو كان يكفي في صحة عقابه او ترتب الثواب عليه لم تكن حاجة الى خلقه بوجه، بل كان يدخله في النار او في الجنان من غير ان يخلقه.. الا انه سبحانه خلق الخلق ليتم عليهم الحجة ويتميز المطيع من العاصي، ولئلا يكون للناس على الله حجة، وعليه كيف يمكن تعذيب ولد الكافر مادام لم يعص الله خارجاً. فهذه الاخبار غير قابلة للاستدلال في المقال، ولا مناص من تأويلها.. وعليه فلا دليل على نجاسة ولد الكافر سوى الاجماع والتسالم القطعيين المنقولين عن اصحابنا..<. ثم انه تحفّظ من تمامية هذا الاجماع، واعتبر ان التوقف والمناقشة في نجاسة ولد الكافر له مجال واسع.

وعلى هذه الشاكلة عدد من الفتاوى المتعلقة بالنساء، مثل النهي عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً 9 5، وانه يقطع الصلاة كل من المرأة والحمار والكلب الاسود 0 6، حيث ان الكلب الاسود هو شيطان، مثلما هو الحال في صحيح مسلم 1 6 . وجاء عن الفخر الرازي ان الاصل في تكليف النساء لم يكن لولا غرض ان تنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، حيث انها على رأيه مخلوقة كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع التي يستمتع بها الرجال.

واعظم من ذلك مصيبة هو تكريس منطق الفرقة الناجية وسط ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الاعتراف لهم بالايمان، مما هو ينافي كلاً من مقاصد التشريع ووجدان العقل الفطري.

2 ـ تعارض العقل مع الاجتهاد النظري

من الشواهد التي يتعارض فيها الاجتهاد النظري للفقهاء مع حكم الوجدان العقلي ومقاصد التشريع ما ذكره محمد جواد مغنية من وجود عدد لا يحصى في كتب الفقهاء مما لا يتفق مع المبادئ الاسلامية، منها بعض الاجماعات التي اتفق عليها فقهاء الشيعة رغم انها تتعارض مع عدالة الاسلام ومبادئه الانسانية 2 6 . فمثلاً أجمع هؤلاء الفقهاء بأنه اذا كانت عين في يد انسان فأقر بها لآخر، ثم اقر بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر، وجب على المقر ان يدفع العين للاول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الاقرار. يعطي العين للاول لتقدم الاقرار له، وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه (الحيلولة) بمنزلة التلف. ومن الواضح ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش ومبالغ به على المقر، حيث حكم عليه باكثر مما ثبت في الواقع، وان احد المحكوم لهما اخذ منه ما لا يستحقه ظلماً بحكم القضاء. فهنا يلاحظ ان هناك تعارضاً بين الوجدان العقلي في العدل والاستحقاق، وبين ما عليه الصنعة الفقهية من اعتبارات وضعية لا دليل عليها في النص ولا في العقل، حيث اصبح تعدد الاقرار وتساويه له من التأثير في الحقوق اكثر مما يستوجبه واقع الامر.

ومثل ذلك الشاهد ما اجمع عليه فقهاء الشيعة من انه اذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً بينه وبين عمله الذي يدرّ عليه وعلى عياله القوت؛ قالوا: ان القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوّته على العامل، وبالتالي لا يحكم عليه بالعطل والضرر. لكن لو غصب دابة ضَمن منافعها سواء استوفاها الغاصب ام لا. وقد استند الفقهاء في ذلك التمييز والتفريق، بحسب ما املت عليهم الصنعة من اعتبارات وضعية، الى ان العامل نفسه انسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فانها تتقوم هي ومنافعها بالمال. مع ان هذا الحكم، كما يرى الشيخ مغنية، يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الانفس والاموال. والعرف لا يرى ادنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل. وبالتالي فان الحكم السابق يتعارض مع الوجدان العقلي ومقاصد الشرع من ضرورة التعويض في الحقوق المضيعة بالاعتداء.

ومن ذلك ما ذكره صاحب (جواهر الكلام) بأن من الغريب ما صدر عن عدد من الفقهاء المعاصرين، ومنهم بعض مشايخه، من فتوى توجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها اول الدخول الى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال الى حالة اخرى في غير الصلاة ايضاً، وذلك باعتبار ان اي حركة انما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول انه ليس له ان يحرك أجفان عيونه اكثر مما يحتاج اليه، ولا يديه ولا سائر اعضائه، وان الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى اصحابها ان الفقهاء عليها. لكن صاحب (الجواهر) اعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وانها تفضي الى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه الى هذا الحبس المغصوب 4 6 . وواضح ان الصنعة الفقهية - هنا - تتصادم كلياً مع ما عليه حكم الوجدان العقلي ومقاصد الشرع.

وكذا الحال فيما ذكره الشهيد الثاني في (المسالك) من الحيل المحرمة، وكذا الشيخ النجفي والبحراني، وهو انه اذا كرهت المرأة زوجها، وارادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الاسلام انفسخ العقد وبانت منه.. فاذا رجعت بعد ذلك الى الاسلام قُبل منها وتمت الحيلة 5 6 . ومثل هذا الاحتيال الذي يتنافى مع العقل والمقاصد فتح بعض الفقهاء الباب أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة، وذلك ان بامكان الشخص ان يهب ماله الى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم او اكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم او اكثر، وبذلك يتصور انه لا يشمله هذا الفرض العظيم 6 6 .

وعلى هذه الشاكلة ما جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الاربعة) من انه اذا اراد رجل ان يقول لزوجته: انت طاهر، فسبق لسانه، وقال: انت طالق، يحكم القاضي بصحة الطلاق 7 6 . فبحكم الصنعة الفقهية اعتاد الفقهاء أن يتعبدوا باللفظ، وكأنه علة لا بد من ان يأتي معلوله على سنخه وشاكلته. فعندهم >متى ذُكر اللفظ تم الاثر الشرعي<>

دعك عن ان هناك ممارسات اجتهادية لا يستسيغها الوجدان لكون بعضها يتناقض مع البعض الاخر ضمن المذهب الواحد، كتلك التي عرضها ابن القيم عن اتباع المذاهب الاربعة، وذلك في كتابه القيم (اعلام الموقعين).

***

من هنا نقول ان الفقه بحاجة الى اعادة النظر في موقفه من العقل وايجاد الضوابط التي تخرجه عن احكام الهوى. كذلك هو بحاجة الى اعادة النظر في موقفه من الروايات التي غالباً ما تحوم حولها الشكوك من كل جانب، والتي تارة ما تصطدم بالعقل، واخرى بالواقع ونظام الخلقة، وثالثة بالمقاصد، ناهيك عما ينتابها من كثرة التعارض ومشاكل اخرى سنشير اليها فيما بعد. مما يعني ان الفقه في كشفه عن الاحكام ليس في غنى عن النظر الى تلك المبادئ الاساسية (العقل والواقع والمقاصد)، فهي مقدمة على كل ما يعارضها من الاحكام الظنية 9 6 .

مكانة العقل والشبهات المثارة

يتصور الكثير ان الاعتماد على العقل في التشريع يفضي الى نسخ الشريعة او تعطيلها، ناهيك عن ان الاعتماد عليه يثير في حد ذاته الاختلاف لارتفاع الضوابط. وقديماً كان السلف يمتعض من ابداء الرأي الذي فيه رائحة العقل والبعد عن النص 0 7، بل ويتحفظ احياناً حتى من الرأي الذي يضطر اليه في ابداء الفتوى والذي لا يستقل عادة عن النص كالقياس مثلاً. وكان الاكثار في الرأي مدعاة لاحجام الاخرين عن صاحبه، كما يلاحظ بالنسبة الى موقف العلماء من ابي حنيفة الذي اشتهر انه يكثر العمل بالرأي وترك الاحاديث 1 7 .

لكن اول محاولة مبدئية للتنظير في الموقف من مبادئ الاجتهاد والرأي نجدها لدى الشافعي. فقد كان الشافعي اول من استدل على المنع من التدخل العقلي، جاعلاً حدود الرأي لا تتعدى القياس باعتباره ظل النص وتابعه. ففي معرض نقده لمبدأ المصلحة والاستحسان اعتبر ان من استحسن فقد شرع، وقال: >انما الاستحسان تلذذ<>القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق<>

كما ان الشاطبي الذي اقام تنظيراً واسعاً لمقاصد الشرع طبقاً للمصالح المعتبرة وجد نفسه في الوقت ذاته مضطراً الى ان يوصد الباب بوجه الممارسة العقلية، فعمد الى نقد العقل بصورته المستقلة. فعلى رأيه ان العقل عاجز عن ادراك مصالح الدنيا من غير شرع، وذلك لاعتبارين: احدهما هو انه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه اهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الاحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام. والثاني هو انه لو كان للعقل قدرة تامة على ادراك جميع تلك المصالح لما كان من الحاجة ان يأتي الشرع بذكرها ولاكتفى بشأن مصالح الاخرة فحسب. وبالتالي فقد انتهى الى إقرار كون >العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بادراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل< لكنه مع ذلك اقرها >بعد وضع الشرع اصولها<>

ولا شك ان الرأي الاخير يمكن ان يكون موضعاً للاحتجاج - بغض النظر عن الدلالة العقلية للحسن والقبح - وذلك فيما لو كان هناك وضوح كاف في الكتاب والسنة من جهة التفاصيل. أما مع عدم هذا الوضوح فالامر مغاير، حيث ان الاخذ باطمئنان النفس لم يعد في قبال ما يقره القرآن والسنة، بل في قبال ما ينقله الناقل وما يفتيه المفتي من حيث فهمه واستنباطه، وان هذا النقل وكذا الفهم لا يتجاوز في الغالب درجة الظن، ولا يرقى الى حالة الاطمئنان، فضلاً عن ان يكون مضاهياً للقطع الوجداني.

كذلك اعتبر الشاطبي ان الاعتماد على العقول في تحديد المصالح يفضي الى التضارب والاختلاف لعدم توفر الضابط، فعلى حد قوله انه >لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع الى اصل شرعي. والضبط أقرب الى الانقياد ما وجد اليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة واسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير احصان.. الخ.<>

مع ذلك ان ما ذكره الشاطبي في بيانه الاخير لا يتسق مع ما نعلمه من كثرة الاجتهادات والتغييرات التي ظهرت في عصر الخلفاء الراشدين، كتلك التي مارسها عمر بن الخطاب قبال العديد من النصوص والسيرة النبوية، وكان على رأسها اجتهاده في مقدار عقوبة شارب الخمر وكيفية تنفيذها، وكذا حكم المؤلفة قلوبهم؛ مما عدّه الفقهاء مقبولاً لاعتبارات معينة ابرزها مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف. مما يعني ان الضبط يمكن ان يتحقق مع الاجتهاد العقلي اذا ما روعي فيه اعتبارات التوافق العقلائي، او خضع لالزام الشورى او الاجماع.

وعلى صعيد الوسط الشيعي سبق ان أثار الشيخ الطوسي شبهة الاعتماد على العقل وابطلها، وذلك وهو بصدد اقرار فقدان القرائن التي تصحح الاحاديث الموجودة، معتبراً انه يلزم من ذلك ترك اكثر الاخبار والاحكام بحيث >لا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد يرغب اهل العلم عنه، ومن صار اليه لا يحسن مكالمته لانه يكون معولاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه<>

وذكر الانصاري ان السبب في منع التعويل على الاحكام العقلية، هو >ان الركون الى العقل فيما يتعلق بادراك مناطات الاحكام لينتقل منها الى ادراك نفس الاحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الامر، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك، كما تدل عليه الاخبار الكثيرة الواردة بمضمون: (ان دين الله لا يصاب بالعقول)، و(انه لا شيء ابعد عن دين الله من عقول الناس<) 3 8 . هذا في الوقت الذي عدّ قطعيات العقل المخالفة للدليل النقلي هي في غاية الندرة إن لم تكن غير موجودة بالمرة، وكما صرح بأن >ادراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده، فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الاخبار الكثيرة 4 8، مع ان ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض، وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من (ان دين الله لا يصاب بالعقول<) 5 8 .

على ذلك شاع القول بان ما موجود من بيان او نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة الى الاحكام العقلية. وقد سبق ان اشار الشيخ ابو جعفر الطوسي الى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الاحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر ان البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الاحكام حتى مع عدم الاخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند اليه الاصوليون ويخالفهم عليه الاخباريون 6 8 . كما ان السيد محمد تقي الحكيم هو الآخر صرح بان الامامية تعتبر احكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقتصر عن حاجاتهم وبالتالي فانها مسايرة لمختلف الازمنة والامكنة وان تأثير الزمان والمكان والاحوال انما هو في تبدل مصاديق مفاهيم النصوص لا غير 7 8 . الامر الذي يعني عدم الحاجة الى الاحكام العقلية.

والى اليوم مازالت نزعة الاحجام والخوف من الممارسة العقلية في التشريع سارية، حتى عُدت خطرة على الشرائع السماوية، كالذي صوره المرحوم الاستاذ عبد الوهاب خلاف وهو في معرض رده على الطوفي بقوله بأن >تعريض النصوص لنسخ احكامها بالاراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الالهية وعلى كل القوانين<>

خلاصة الشبهات

مما سبق يمكن استخلاص الشبهات التي تذكر بحق الممارسة العقلية في تأسيس الاحكام او استكشافها، وهي على الاجمال كالاتي:

1 ـ ان الممارسة العقلية المستقلة تبعث على نسخ الاحكام الشرعية وتغييرها، او طرحها والغائها كلية.

2 ـ انها عاجزة عن ادراك المصالح الدنيوية، بدلالة ان الشرع لم يكتف بذكر المصالح الاخروية وانما جاء ايضاً بتعليم المصالح الدنيوية، وانه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه اهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الاحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام.

3 ـ انها غير قابلة للضبط والانضباط، وتتأثر بالاهواء والمصالح الخاصة.

4 ـ انها توقع في الاخطاء الكثيرة وإن لم يدركها المدرك.

5 ـ انها لا تتفق مع مقولة كمال الشريعة وبيانها وتمامها، ولا مع منطق (حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة).

6 ـ وجود الاحاديث الناهية عن العمل بها في ادراك الاحكام ومناطاتها.

هذه هي خلاصة الشبهات التي مرت معنا، ويمكن الرد عليها نقضاً وحلاً، او بناءاً ومبنى، كالاتي:

النقض والبناء

من حيث النقض والبناء اننا لو سلمنا بمصداقية هذه الشبهات لكان بعضها على الاقل يصدق على جميع المذاهب التي تعول على الاجتهاد والرأي. ذلك ان هذه الاجتهادات تضطر احياناً لتغيير الاحكام تبعاً لمراعاة المقاصد او المصالح او غير ذلك من الاعتبارات، ومع ذلك لا يصح ان يقال انها تمارس نسخاً للشريعة او الغاء احكامها. وفعلاً انها تُتهم بمثل هذه التهمة من طرف تلك المذاهب التي لا ترى مجالاً لممارسة الرأي والاجتهاد. بل ان الشاهد التاريخي يكشف عن اتهام المذاهب بعضها للبعض الاخر، وذلك تبعاً لمنطق التوسعة في الاخذ باصول الاجتهاد. فكلما كانت هناك توسعة اكبر كلما زادت الشبهة في حق المذهب. فلو غضضنا الطرف عن الكم المستخدم من تلك الاصول وجدنا ان القائل بالقياس والاستحسان والمصالح متهم بدرجة اكبر من القائل بالقياس والاستحسان، وكذا هذا مقارنة مع من يقول بالقياس وحده. مع ذلك فنحن نعلم ان التهمة في حق الجميع غير صحيحة.

أما الاشكال عن عجز العقل عن ادراك المصالح الدنيوية فانه لو صدق لانطبق كذلك على جميع المذاهب التي تعول على المصالح والاستحسان، ومنهم الشاطبي الذي ابدى مثل هذا الاشكال. وكما سنعرف ان الممارسة العقلية وخبرتها الخاصة مع الواقع والاسترشاد بمقاصد الشرع كل ذلك يجعلها قادرة على ادراك مثل هذه المصالح، باعتبارها مصالح واقعية لها اثارها البينة في الواقع إن كانت مفيدة معتبرة او ضارة ملغية. نعم ان فائدة الشرع هنا هو انه سبّاق في تحديد المصالح لاحاطته الكلية، بينما يحتاج العقل الى المزيد من الخبرة والجدل مع الواقع، وايضاً لا بد من تبني المقاصد لادراك ما يخفى عنه من هذه المصالح.

وكذا يمكن القول ان الاجتهادات التقليدية للفقه غير قابلة للضبط والانضباط باعتبارها تعود الى الفهم، والفهم مختلف حوله اصولاً وفروعاً، الامر الذي يجعلها قابلة للوقوع في الاخطاء الكثيرة، بدلالة ما لدينا من آراء كثيرة للمسألة الفقهية الواحدة. الامر الذي ادى الى تكوين علم خاص اطلق عليه الخلافيات، مما هو ليس معنوناً في اي علم من العلوم الاسلامية الاخرى. واكثر من هذا قد ضُرب بالفقه المثل على ضعف النتائج التي ينتجها لكثرة الشكوك التي تراود مسائله. ومن ذلك ان الفقيه الفيلسوف ابن رشد لم يجد وصفاً يليق بتسخيفه لنظرية الفيض الفارابية السينوية من حيث انها مدعاة للظنون والخيالات غير تشبيهه اياها بعلم الفقه، كما في قوله: >وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه<>

فأين هي اسعافات الضوابط الفقهية، وكيف يمكن تجنب الكم الهائل للاخطاء التي يدل عليها كثرة الخلاف الفقهي؟! ذلك انها من الناحية المنطقية إما ان تكون كلها خاطئة بلا استثناء، او ان الصحيح منها لا يتجاوز الرأي الواحد للمسألة، وفي كلا الحالين نعلم اننا ابعد ما يكون عن بلوغ الحد الذي يُعتمد عليه في علاج المشاكل الفقهية وحلها. فهل يعقل ان تكون اخطاء الوجدان العقلي اكثر من ذلك؟!

وكذا يجوز ان يقال بان تلك الاجتهادات تبعث على الاهواء لما تحمله من مرونة يصعب ضبطها، الامر الذي تشهد عليه فتاوى ما يسمون (وعاظ السلاطين)، وهم الذين لا يخلو منهم عصر وزمان. فهم يستخدمون نفس الاساليب الاستدلالية المعول عليها، فيصبح من الصعب كشف ما في ذاتها من الدوافع الدخيلة، خاصة ونحن نعلم ان الانسان، مهما بلغ من التجرد، فانه يبقى عاجزاً عن ان يجد له رصيفاً آخر خارج الطوق الذي تفرضه عليه ثقافة البيئة وروح العصر، مما يؤثر على تحديد ارائه ونتاجه الاجتهادي.

وكذا يمكن ان يقال ان تلك الاجتهادات تتنافى مع مقولة بيان الشريعة او تمامها وكمالها. اذ مع هذا البيان والكمال ليس ثمة حاجة للاجتهاد الذي هو منبع الاختلاف وموطن الاخطاء وموضع زلات الاقدام، وكل ذلك لا يتفق مع ما عليه الشريعة من الكمال والبيان.

كذلك فان وجود عدد من الاحاديث الناهية عن الممارسة العقلية يمكن ان يعم بحسب اطلاقها، وبحسب احاديث غيرها، جميع صور الاجتهاد الاخرى. فلسان هذه الاحاديث واضح من حيث ارادة تجنب الوقوع في الاخطاء الناتجة عن الظنون الاجتهادية لادراك الاحكام، وهو امر ينطبق على جميع صور الاجتهاد التي يمارسها الفقهاء على مر العصور 0 9 . وإن كنا في القبال نجد احاديث اخرى مضادة تشيد بالعقل ومكانته، كما تحث على ممارسته في ادراك القضايا المعروضة. الامر الذي يؤكد صدق الدعوة بالاحتكام اليه في القضايا التي يمكنه ادراكها ادراكاً عقلائياً معتبراً غير قائم على الهوى والمصالح الشخصية.

الحل والمبنى

أما من حيث الحل والمبنى فيمكن ان يقال بان حجية الوجدان العقلي هي حجية ذاتية لا تحتاج الى جعل من الشارع، واي مساس بها هو في حد ذاته يعد مساساً بالشرع، ذلك لانه لا يتقوم اثباتاً الا من حيث هذه الحجية او هذا الوجدان. كما يمكن ان يقال ان توكيد هذه الحجية تنبع من الشرع، لا من حيث التصريح بمكانته وقيمته وكذا الحث على ممارسته كما نجد ذلك في العديد من نصوص القرآن والحديث؛ انما ايضاً من حيث ما يزودنا به منهج الاستقراء وحساب الاحتمالات من نتيجة مؤكدة مفادها صدق قضاياه بما يجعل العمل به مشروعاً حسب ضوابط لا غنى عنها. واذا اضفنا الى ذلك ان الوجدان العقلي يستهدي بهدي مقاصد الشرع وتوجيهاته كأحد ابرز الضوابط التي يناط بها في علاج مزاحمات الواقع وما يفرضه من تشابك في قضايا المصالح والمفاسد؛ علمنا كم هو حجم الضرورة والمسؤولية الملقاة على عاتق مثل هذه الممارسة الاجتهادية.

على ذلك كيف تجوز المقارنة والموازاة بين الحكمين الوجداني والاجتهادي التقليدي، فيوضع الحكم الاول في صف الثاني، او يشكّل بينهما شكلاً من التموضع التراتبي، مع ان الحكم الاخير غالباً ما لا يرقى الى نوع معتد به من الظنون العقلائية النوعية؟! والانكى من ذلك كيف يرجح العمل بمثل هذه الطريقة وتقديمها على الحكم الوجداني للعقل، وكذا كيف يصح ان يتهم هذا الوجدان بالهوى والتضارب مع انه يقبل الضبط العقلائي والمشاركة النوعية؟! في حين ان طريقة الاجتهاد التقليدية بضوابطها المعروفة لا تثمر في الكثير من قراراتها الا نتائج ضعيفة. بل ان الوسيلة التي تتبعها هي وسيلة تنبني على مقدمات ضعيفة، فكيف يوثق بالنتائج التي تفرزها وتحسبها نتاجاً شرعياً خالصاً؟! ذلك ان ممارستها تتقوم في احسن الاحوال على جمع من المقدمات الظنية، وحيث ان صدق النتيجة متوقف على صحة هذه المقدمات جميعاً، لذلك فانه بحسب حساب الاحتمالات لا بد من ضرب احتمالات صدق تلك المقدمات ببعضها كي تكون النتيجة صحيحة صادقة، وبضرب الاحتمالات تضعف القيمة الاحتمالية، فتندرج النتيجة ضمن مراتب الاحكام الضعيفة لا الظنية، لذلك كيف يمكن قبول مثل هذه الاحكام الضعيفة، في الوقت الذي يتم فيه تفويت فرصة العمل بالوجدان العقلي للمسائل التي تقبل الادراك وتحديد النتائج؟!

وكما ذكرنا ان حجم ما نراه من الاختلاف بين الفقهاء حول القضية الفقهية الواحدة؛ يضعّف من مصداقية طريقة الاجتهاد التقليدية، حيث ان الاراء المختلفة إما ان تكون كلها خاطئة، او باستثناء واحدة منها صحيحة. لكن شتان بين هذه الطريقة وبين ممارسة الوجدان العقلي. ذلك ان احكام هذه الممارسة إن لم تكن قطعية فانها تكون متاخمة للعلم، او على الاقل يكون الظن فيها قوياً لا يقارن بما عليه الصور التي تطرح في مرآة طريقة الاجتهاد التقليدية، خاصة حينما تستهدي بهدي الشورى وتوظف لعملها دراسة الواقع وما تقتضيه من معرفة العلوم الانسانية الكفيلة بالبحث الميداني.

إذاً نحن بصدد الدعوة الى تبيان كيف ان الاستقراء الشرعي يثبت صحة التعويل على الوجدان العقلي. ومن ثم بيان ان المقاصد هي المرشدة في هذا السلوك، الامر الذي يعطي نتائج مخالفة لما عليه الطريقة التقليدية كما سنعرف.

مع منهج الاستقراء

ليس هناك طريقة اهم من منهج الاستقراء في الكشف عن الحقائق وفهم القضايا، والتي منها قضايا الدين والاسلام المعرفي. ويعد الشاطبي من القلة الذين اعطوا الاستقراء دوراً هاماً في الكشف عن الموارد الكلية في الشريعة، وسعى لان يجعل منها منبعاً للقطع واليقين. لهذا كان من المفيد ان نوظف هذه الطريقة في البحث عن مدى التوافق بين الاحكام العقلية والاحكام الدينية، وذلك في المسائل التي يمكن للعقل ادراكها، كما في قضايا الحسن والقبح وقضايا المصالح والمضار وما على شاكلتها.

وقد سبق ان طرقنا هذا الباب الجديد، فكشفنا عن انه لما كان من البين ان نجد التطابق في الاحكام بين التشريعين العقلي والديني، او كاد يكون الاتفاق مطبقاً، فان ذلك يعني بحسب منهج حساب الاحتمالات انه لا يمكن ان يكون صدفة واعتباطاً. فالتطابق بين الامرين شبه تام، مما له دلالته الاحتمالية في صحة الحكم العقلي، وبالتالي رد احد الحكمين للاخر، او ان الشيء لا يُفسر الا طبقاً لمحور مشترك بحيث لا يمكن عزل احدهما عن الاخر، الامر الذي يفسره كون الاحكام الدينية عبارة عن امضاءات للاحكام العقلية، فالشرع لم يأت بهذه الاحكام على نحو التأسيس، بل على نحو الامضاء والتبعية. والاهم من ذلك ان احتمالية صحة الحكم العقلي او الوجداني في قضية جديدة لم يطرقها الشرع، او لم نستكشفها نحن منه، تساوي تبعاً للحساب الاحتمالي قدر ما يكسبه العقل من قيمة معرفية في موافقته للقضايا الدينية 1 9 .

وبذلك ان الاستقراء يؤيد لنا صحة مقولة الامامية القائلة: >كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً<>

بعد هذه التقدمة يمكن الرد على مختلف الشبهات الدائرة حول الممارسة العقلية الوجدانية وبيان بطلانها وزيفها.

العقل وشبهة نسخ الشريعة

نرى ان هذه الشبهة تصدق في حالة واحدة، وهي فيما لو افترضنا ان العقل يحيد عن النظر الى مقاصد الشرع. أما مع اخذ هذه المقاصد بعين الاعتبار فالامر يختلف، رغم ان هذا الاخذ قد يفضي الى تغيير الاحكام الجزئية، وذلك عندما تتغير الظروف وتصبح هذه الاحكام معارضة لما عليه المقاصد. حيث لا يعقل الجمود على هذه الاحكام لأن ذلك يعني خرقاً للمقاصد ومن ثم هدماً للدين الذي جاء من أجلها.

فعلى هذا المبنى لا تصدق مثل تلك الشبهة، وذلك حتى مع افتراض القطع بوجود الحكم الشرعي. أما مع عدم القطع بالحكم فان الموازنة هي الحاكمة، حيث لا بد من التعويل على العمل بالقضية التي لها درجة احتمالية اعظم مقارنة بغيرها. وهو المبنى الذي اضطر اليه جماعة من الفقهاء المتأخرين في الساحة الشيعية، حيث ادركوا ضعف القيمة المعرفية لركام الاخبار في كتب الحديث، فعملوا بما اطلق عليه دليل الانسداد وانقادوا الى الاخذ بأي ظن كان يقربهم من الحكم الشرعي. وكان الشيخ جعفر الكبير الملقب بكاشف الغطاء (المتوفى سنة 8 2 2 1 هـ) يوصي الفقهاء بعدم الاخذ بخبر الاحاد الا عند الضرورة والاضطرار، وانه لا بد من الاعتماد على القرآن الكريم والحديث المتواتر والسيرة القطعية 3 9 . لكن هذه الوصية لم تحقق هدفها، حيث استمر الفقهاء يدورون في فلك الرواية وما يقرب منها من اعتبارات؛ كالاخذ بدليل الشهرة وعمل الاصحاب. وفات هؤلاء الجماعة من اصحاب دليل الانسداد ان يشيدوا ما صنعوه من ثورة على اعتبارات الوجدان العقلي والنظر الى الواقع ومقاصد الشرع.

هكذا ليس العمل بالعقل يفضي الى نسخ الشريعة، وذلك اذا ما أُحسن توظيفه طبقاً لبعض الضوابط؛ وعلى رأسها النظر الى كليات الشريعة ومقاصدها، حيث انها قد تجعل العمل بالحكم العقلي يصل الى حد العلم او الاطمئنان. وعلى العكس نقول ان ترك الممارسة العقلية يمكن ان يكون داعياً الى نسخ الشريعة، او حتى تحنيطها ضمن قوالب فارغة تقف على الضد من المقاصد والكليات التي من شأنها الحفاظ على اصالة التشريع وروح الديانة.

العقل وشبهة العجز عن ادراك المصالح

اعجب ممن يدعي ان العقل عاجز عن ادراك المصالح الدنيوية، اذ هل للعقل وظيفة اخرى اهم من ادراك مثل هذه المصالح؟! وهل يعقل ان تكون هذه الهبة الالهية موضوعة فقط لقراءة الخطاب والبحث عن مصالح الاخرة؟!

لقد سبق ان اشرنا الى ان ما جاء به الشرع بخصوص المصالح الدنيوية لا يفسر الا على نحو الامضاء والتبعية للوجدان العقلي، كالذي يدل عليه المنهج الاستقرائي. ولا شك ان الفائدة من ذكر الشرع لها ليس لاجل التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الاهم من ذلك ما في الشرع من توعد بالعقاب لغرض الردع عن الانحراف، ذلك لأن النفوس تخاف - في الغالب - مما يتوعد به الشرع ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الاول دون الثاني. وبهذا تتبين الحكمة من ذكر الشرع للمصالح الدنيوية رغم ان العقل قادر على ادراكها. الامر الذي يحل الاشكال الذي سبق ان طرحه الشاطبي في وجه العقل من حيث انه لو كان قادراً على ادراك المصالح لما كانت هناك فائدة بذكر الشرع لها.

فقد امضى الشرع جملة من المصالح كانت معهودة في الجاهلية باعتبارها محمودة تتقبلها العقول، وكان منها: الدية والقسامة والقراض وكسوة الكعبة والاجتماع يوم العروبة - الجمعة - للوعظ والتذكير... الخ 4 9 . كما ونهى عن جملة اخرى من العادات والاعراف المنحرفة انذاك، مما يشهد عليها الوجدان بالقبح والفساد، كتحريمه للغزو الداخلي واستباحة الاموال والاعراض والربا واسترقاق المدين والنهي عن الغرر في التعاقدات، كالنهي عن البيع بالمنابذة والملامسة والقاء الحجر وبيع الملاقيح والمضامين وبيع ضربة القانص والغائص وما الى ذلك 5 9 .

نعم ربما يستثنى من ذلك امر واحد لا ندرك اليوم مغزاه على وجه القطع واليقين، وهو علة عدم الغاء الشريعة لنظام الرق، مع انها تتبنى اصالة تساوي الناس وتحث على تحرير الرقبة وتضيّق من منابعها، بل ويظهر احياناً من بعض النصوص انها تستهجن حالة ذلك النظام. وقد ورد عن الامام علي (ع) قوله: >لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً<، وقوله ايضاً: >ايها الناس ان ادم لم يلد عبداً ولا امة وان الناس كلهم احرار<. وعن عمر بن الخطاب قوله: >متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً<.

لكن لنلاحظ ان حل مثل هذا المشكل قد ينبني من خلال ادراك مقاصد الشرع التي بها يعالج ما يبدو احياناً تناقضاً تفرضه الظروف والاحوال المختلفة. فمثلاً فيما يتعلق بموقف الشرع من المشركين نرى هناك نصوصاً تدعو الى المسالمة معهم ما لم يبادروا في الاعتداء، وفي القبال نجد نصوصاً اخرى تحث على قتالهم وإن لم يقاتلوا. واذا كان الظاهر من هذه النصوص هو التعارض والتناقض فان واقع الامر يثبت العكس مع اخذ اعتبار المقاصد الشرعية. فالامر بقتل المشركين والنهي عن قتلهم لا يمكن ان يكون معلولاً للشرك ذاته كموضوع، وذلك لحصول التناقض بين الامر والنهي على الموضوع الواحد. أما لو حملنا الاصل على المسالمة كما هو واضح من النصوص الغزيرة، وفي الوقت ذاته اعتبرنا قتال المشركين جاء لبعض الطوارئ الخاصة؛ لكان الامر مفهوماً. وبالفعل يمكننا تفهم علة قتال هؤلاء بما ورد في ذيل الايات التي حثت على ذلك، والتي منها تبيان ما في قلوبهم من الخيانة والعداوة 6 9 . الامر الذي يكشف عن ان القصد في القتال انما جاء لأجل الوقاية وحفظ سلامة المجتمع الاسلامي، خاصة وقد كان فتياً.

وكذا يمكن ان يقال بصدد ما نحن فيه من اننا نجد تضارباً في الموقف من حرية الانسان كما سبق ان اوضحنا. لكن بلحاظ المقاصد والاصل يرتفع هذا التضارب. اذ الاصل المؤكد هو ان الناس احرار لانهم يصدرون عن نفس واحدة ويتساوون في الخلقة. أما علة ابقاء التمايز او اقرار نظام الرق فمازالت غائبة عن الانظار، ولا يقنع ما ذهبت اليه بعض التصورات الحديثة من ان المجتمع انذاك كان بأمس الحاجة للرق لاعتبارات العمل الاقتصادي المعني بتحقيقه، ولولاه ما استطاع ان تقوم للمجتمع قائمة 7 9 . وهو تصور ينطوي على مبالغة كبيرة، خاصة ان الاسلام صنع في اوساط اهله ومريديه ارادة أمكنها ان تحقق الكثير من المعجزات بالعمل والجهاد والتضحية والايثار. ولعل من النماذج التي تشهد على عظمة الاسلام هو انه جعل المؤمنين من اشد الناس امتناعاً عن الشيء الذي طالما سرى في عروقهم وخالط دماءهم، اي الخمرة التي كانت اقرب الاشياء الى نفوسهم فاصبحت بعد الايمان من ابعدها واكرهها.

على ان جهلنا لعدم الغاء نظام الرق لا يضر في الوضع الخاص بسلامة التصور المنطقي من الناحيتين الوجدانية العقلية والشرعية كما سنبين كالاتي:

لنلاحظ اننا نتعامل هنا بحسب منطق الاستقراء وحساب الاحتمالات الذي يمكنه ان يفسر القضية الجزئية الشاذة بردها الى الكلي المشترك مع افتراض وجود بعض الاسباب التي ادت الى ذلك الانحراف في تلك القضية عن الكلي. والطريقة التي نعول عليها هنا هي طريقة المنهج العلمي المتبع في اثبات الظواهر الطبيعية وتفسيرها، ذلك اننا ازاء عدد من الفرضيات كالاتي:

الفرضية الاولى: هناك خطأ في تعيين الكلي المفترض، بدلالة عدم انطباقه على الجزئي الشاذ. وما تعنيه مسألتنا حسب هذه الفرضية هو اننا اخطأنا اعتبار الشرع يطابق العقل ويلازم قراره، بدلالة قضيتنا الجزئية الشاذة، وهي ان ما اقره العقل من قبح نظام الرق لم يحكم به الشرع. إذاً بحسب هذه الفرضية انه لا ملازمة بين العقل والشرع، فلكل طريقه ونتائجه المختلفة عن الاخر.

الفرضية الثانية: ان الخطأ متحقق في الجزئي الشاذ (عدم الغاء الرق) لكون الكلي لا ينطبق عليه.

الفرضية الثاثة: انهما صحيحان معاً، لكن ما جعل الجزئي ينحرف عن الكلي هو لوجود اسباب خاصة غير معلومة دعته الى ذلك. فلولا هذه الاسباب لخضع تحت طوق الكلي كبقية القضايا.

ويلاحظ ان الافتراض الاول غير سليم باعتبار ان الكلي يحظى بقوة احتمالية كبيرة بحسب الاستقراء، فلا يمكن التضحية به لمجرد وجود بعض الشذوذ. اي انه من الصعب قبول ان تكون الشواهد التي تؤيد الكلي دون غيره جاءت صدفة بلا ضابط يمحورها. كذلك لا يؤخذ بالافتراض الثاني لعلمنا يقيناً ان ما ورد من شذوذ بخصوص الجزئي هو صحيح. لذا ليس لنا من سبيل الا الاخذ بالافتراض الثالث، وهو افتراض وجود اسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنا على علم بهذه الاسباب ام لم نكن.

وقد سبق للشاطبي أن أكد بأنه لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة الكليات الثابتة بالاستقراء. ذلك باعتبار ان الجزئيات الشاذة لا ينتظم منها كلي ليعارض الكلي الثابت. واذا كان التعارض بين الجزئي والكلي هو تعارض من بعض الوجوه فانه لا بد من الجمع في النظر بينهما 8 9 . أما لو كان التعارض من جميع الوجوه والجهات بحيث لا يمكن الجمع بينهما فانه لا بد من الحفاظ على الكلي الثابت بالاستقراء مع ارجاع ما يخالفه من النصوص الشاذة واعتبارها من المتشابهات التي يجب الوقوف عندها وإيكال علمها الى الله 9 9، حيث ان الاخذ بالجزئي سوف يفضي لا محالة الى هدم الشريعة بكلياتها. الامر الذي لا يقبل 0 0 1 .

ومن الناحية المنطقية يمكن ارجاع هذه النتيجة الى طريقة (جون ستيوارت مل) المسماة >طريقة العوامل المتبقية<. اذ قدم (مل) هذه الطريقة الجديدة ليضيفها الى عدد من الطرق المنهجية في الكشف العلمي 1 0 1 . ويقصد بها انه اذا كانت هناك ظاهرة مؤلفة من عدة اجزاء امكن تفسير بعض منها على اساس عوامل محددة ضمن مبدأ عام وشامل؛ فانه يمكن تفسير ما تبقى من الاجزاء الاخرى طبقاً لذلك المبدأ المفترض.

وبهذه الطريقة امكن التنبؤ واكتشاف عدد من الظواهر الكونية. ومن ذلك ما تم اكتشافه من كوكب جديد اعتماداً على نظرية الجاذبية. اذ رغم كونها استطاعت تفسير الكثير من الظواهر الكونية، الا انه لوحظ هناك شذوذ لا يخضع لتفسيرها، وهو وجود انحراف في مدار كوكب (يورانوس)، الامر الذي احتاج الى نوع من التفسير بحيث لا يتعارض مع مبدأ الجاذبية المتبنى. لهذا افترض وجود كوكب اخر مجهول هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وفعلاً ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب (نبتون). بل وتم اكتشاف كوكب آخر تبعاً لما لوحظ من وجود انحراف في مدار الكوكب المكتشف الاخير، حيث اطلق عليه (بلوتو) 2 0 1 .

كما استخدمت هذه الطريقة في الكشف عن غاز (الارجون)، اذ لوحظ ان غاز (الازوت) الموجود في الهواء يختلف في خواصه ومن ثم في تركيبه الكيميائي عن غاز الازوت النقي، فافترض ان هناك غازاً مجهولاً يختلط به فيسبب ذلك الفارق. وفعلاً تم اكتشاف هذا الغاز الذي اطلق عليه الارجون.

كما ان بهذه الطريقة استطاعت (مدام كوري) ان تكتشف (الراديوم)، اذ لاحظت ان بعض المعادن تحتوي على طاقة اشعاعية اكثر منها في المعادن الاخرى، فبحثت عن الظاهرة الخفية من خلال افتراض وجود عنصر مجهول، حتى تم لها اكتشافه 3 0 1 .

العقل وشبهة الاخطاء والاهواء

لا ينكر ان للوجدان العقلي اخطاءه، فهو غير معصوم عن الاوهام والنتائج الخاطئة. لكن الميزة التي يمتاز بها هذا الوجدان عند الخطأ هو انه يجد في الغالب طريقه نحو الصواب، وذلك من خلال الخبرة مع الواقع وما يترتب عليه من حقائق. فهو معينه في اغلب ما ينشأه من احكام وتقديرات، سواء بالخبرة والحس، او بعملية الاختبار والمماحكة، او من خلال ما يكشف عنه الزمن. ومسيرة البشرية من اولها الى اخرها قائمة على سلاسل متنوعة من محاولات الخطأ والصواب. وهي بهذه الحركة تزداد خبرة ويزداد تقدمها تبعاً لذلك. الامر الذي يختلف عما تعانيه سائر الادراكات الاخرى التي لا تتكئ على الواقع، ومنها الممارسات الاجتهادية التقليدية التي يصعب عليها ادراك الاخطاء واختبار الاراء بوسائلها المعروفة. فالنص الذي تلجأ اليه في بناء احكامها مركب من حروف ساكتة وساكنة، ليس فيها نطق ولا حركة، وذلك بخلاف ما عليه الواقع، حيث يتسم بمثل هذا النطق وتلك الحركة، مما يجعله قابلاً لان يشكل مصدراً اساساً للبناء والتصحيح. لذلك فان مراجعة الواقع بين مدة واخرى تساعد على تنمية معارفنا وتسعف في كشف اخطائنا وتغير من تقديراتنا، بينما قراءة النص قراءة فاحصة لمرة لا تستدعي قراءته مرة اخرى ليكون كاشفاً عما هو جديد في البناء والتصحيح، فهو هو، لم يتجدد منه شيء وليس فيه تغير يبعث على المقارنة والمساءلة والاختبار والاحتكام. وسنزيد ايضاح هذه المسألة فيما بعد.

على هذا تكاد الاخطاء التي تترتب على ممارسة طريقة الاجتهاد التقليدية تكون ثابتة لا تقبل التصحيح، حيث نجد ركاماً من الاراء الفقهية المتضاربة على مدى تاريخ الفقه الاسلامي. فهي على تضاربها ظلت كما هي لم يبدُ عليها علائم التغيير، الا حينما تقتضي الحاجة الزمنية وضغوطها الفاعلة. وحتى هنا نعود مرة اخرى الى معيار الواقع الذي يحتكم اليه الوجدان العقلي، مما يجعله اقل خطأ واكثر تصحيحاً. يضاف الى ان بامكانه ضبط أحكامه بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية، فيما لو تقيد بمقاصد الشرع واستند الى نظام الشورى والاجتهاد الجماعي.

العقل وشبهة نقص الشريعة

اذا كنا قد علمنا ان احكام الشريعة تطابق قرارات الوجدان العقلي، وعرفنا ان للاولى طبيعة امضائية مقارنة مع الوجدان، فان ما يناط بهذا الاخير من وظيفة الكشف عن الاحكام لا يستلزم منه نقصان الشريعة، بل كمالها، وذلك لما تحمله من الطابع الامضائي والمطابقة، ولما تحث عليه ـ تبعاً لهذا ـ من حق الممارسة الوجدانية. وسبق ان لاح لمحمد اقبال ان ادرك مغزى بعثة النبي محمد (ص) وخاتميتها للرسالات السماوية، اذ حدد وظيفتها بربطها بين العالمين القديم والحديث، فمن حيث الدعوة الى الرسالة كمصدر معرفي يكون النبي (ص) منتمياً الى العالم القديم، لكنه ايضاً ينتمي الى العالم الحديث بحثه على ايقاظ روح العقل والتجربة والواقع، معتبراً ان دين الاسلام يعترف بما للعقل من قدرة لأن يشكل مصدراً صادقاً للكشف عن الحقائق المعرفية، ومن ثم الاقرار بوجود مصادر اخرى للمعرفة بجانب ما امده الوحي. وهو امر جعل اقبال يعتبر مولد الاسلام مولداً للعقل الاستدلالي، وذلك لما دعا اليه من اعتماد التجربة والنظر في فهم ظواهر الكون واستنطاق الانفس والافاق كمصادر هامة للمعرفة 4 0 1، وكذا الاعتبار من اخبار الاولين وغير ذلك مما يشكل اعترافاً بقيمة النشاط العقلي المستند الى الواقع ونظام الخلقة 5 0 1 .

العقل وشبهة نهي الحديث عن الممارسة العقلية

اما بخصوص الاخبار الناهية عن الممارسة العقلية فانه يوجد جنبها اخبار معاكسة تحث على هذه الممارسة. ومن ذلك الاحاديث التي تعد العقل حجة باطنة، وشرعاً من الداخل، وانه مما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان. وهي احاديث قيل فيها انها متواترة 6 0 1 . بل من الاخبار ما يوصي بعدم قبول شيء من غير عرضه على الوجدان العقلي المفضي الى نوع من الطمأنينة، ومن ذلك ما روي عن النبي (ص) قوله: >استفت قلبك وان افتاك الناس وافتوك<>استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت اليه النفس واطمأن اليه القلب، والاثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وان أفتاك الناس وأفتوك<>

مع هذا فحتى لو صحت الاخبار الناهية عن الممارسة العقلية في ادراك الاحكام، فان من الممكن تخصيصها في المجالات التعبدية التي لا يلوح منها معنى معلوم. او ان المراد من النهي فيها هو الممارسات العقلية القائمة على الاهواء والمصالح الذاتية، او تلك التي لا تفيد العلم وتكون على حساب الرجوع المباشر الى المعصوم الكاشف عن الحكم يقيناً بلا أي لبس، او تلك التي لا تكون منضبطة بضوابط تقنية متينة، كإن تكون غير مستنة بسنة التتبع والبحث والاستقصاء للقضية المطروحة في جوانبها المختلفة، سواء ما تعلق بما ورد عنها شرعاً، ومن ذلك ادراك المقاصد العامة والموجهات الكلية، او بما يرتبط بها من المترتبات الواقعية والمقدرات الوجدانية.

مهما يكن فالملاحظ هو ان مثل هذه الروايات يصح ان تثار ويعول عليها فيما لو كان هناك وضوح كاف بمؤدى الاخبار والنقل، أما مع عدم وجود مثل هذا الوضوح والاطمئنان فلا يوجد حل للمشكل. بل ان الروايات الخاصة بهذا الجانب لا تعد واضحة بما يكفي. لذلك نجد الخلاف الكبير بين الاخباريين والاصوليين بشأن الدخالة العقلية في الاجتهاد والعمل بالرأي ضمن الاعتبارات الظنية والتي تفضي الى كثرة الاختلاف وبالتالي كثرة الخطأ. فهل يصح - طبقاً لهذا - ان نقول كما يقول الاخباريون: ان عمل المجتهدين ينافي ما جاء في الاخبار الدالة على منع تدخل العقول والاراء والاعتماد على القواعد والنظريات المفضية الى المزيد من صور الاختلاف 9 0 1 ؟!

مبادئ وضوابط

هكذا فنحن ندعو لبناء احكام تقوم على مبادئ وضوابط عدة كالاتي:

1 ـ ممارسة الوجدان العقلي في القضايا التي يمكنه ادراكها، كالقرارات التي تتخذ في المعاملات الحضارية.

2 ـ دراسة الواقع وفحصه عن كثب اعتماداً على اصول المنهج العلمي، خاصة فيما يتعلق بالدراسات الانسانية وكل ما له علاقة بعلاج الواقع وتقرير الاحكام.

4 ـ دراسة كل من حاجات الواقع والاحكام الشرعية من زاوية القابلية على الثبات والتغير، فاي الحاجات لها القابلية على الثبات وايها لها القابلية على التغير، وكذا بالنسبة للاحكام التي تتأثر بتلك الحاجات ثباتاً وتغيراً والتي ينبغي ان تتأسس على ضوئها.

3 ـ النظر الى مقاصد الشرع والهدي بهديها من غير زيغ ولا انحراف.

5 ـ العمل في تأسيس الاحكام طبقاً لضوابط محددة من العلمية الفقهية والخبرة الواقعية والاختصاص وحسن السليقة والاعتدال مع التدين والتقوى، وأن لا يكون ذلك بمعزل عن الشورى، حيث انها صمام الامان من الهوى الشخصي، وأن بها يتحقق اكبر قدر ممكن من العلمية كما هو واضح. وما اعظم ما قاله سفيان بن عيينة من السلف: >اجتهاد الرأي هو مشاورة اهل العلم لا ان يقول هو برأيه<>

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار