مصادر المعرفة الاسلامية: النص.. الواقع.. العقل

يحيى محمد

النص

نقصد بالنص ذلك التنزيل المتخذ اطاراً لغوياً خاصاً. او هو لغة تحكي معنى الوحي والتنزيل، والمعبر عنه بالخطاب. فهو خطاب الله، ومن بعده خطاب النبي (ص) كما لدى أهل السنة، او باضافة الأئمة (ع) من ذريته كما عند الاتجاه الشيعي. لكن حيث ان خطاب النبي والأئمة ما هو الا تبيان وتفسير للخطاب الالهي؛ لذا فالمقصود به اساساً هو القرآن الكريم باعتباره كلام الله بالخصوص. فالقرآن كتاب لغوي موحى الى صدر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو وإن كان منزلاً من صاحب العزة والجلالة، وكذلك رغم انه عبارة عن كلام الله، الامر الذي يميزه عن سائر كلام البشر، الا انه مع ذلك لم يفارق ملابسات الالفاظ والعبارات الدارجة بكل ما تحمله من معاني عرفية سائدة في مكان وزمان محددين، وبكل ما تتضمنه من فكر لا يتعالى غالباً عن فهم وادراك الجماعة التي خوطبت به مباشرة. فالنص بهذا الاعتبار خطاب يتصف بنوع من الازدواج، ذلك ان مصدره علوي مجرد عن الواقع بما يحمله من معاني الوحي، لكنه من جانب اخر ملابس للواقع كل الملابسة. فهو من حيث كونه تنزيلاً لم يعد مجرد وحي سماوي يحمل صفات التجريد، بل اضحى خطاباً يتذرع بالواقع ليتخذ منه مسلكاً للغاية التي أُنزل لأجلها. لذلك نزل بلغة بشرية لها معاني مشخصة في بيئة محددة هي البيئة العربية بكل ما تحمله من ظروف وملابسات خصوصية. الأمر الذي أفضى - ولابد - الى نوع من الجدل بين الخطاب والواقع، بل وافضى الى ان يكون النص حاملاً لصور الواقع الذي جاراه بالجدل والاحتكاك. لكن رغم هذا ظل الهدف الذي ينشده الخطاب هدفاً شاملاً ومطلقاً لم تؤثر عليه اعتبارات التنزيل من اللغة والاحتكاك بالواقع. ذلك ان الرسالة التي حملها الخطاب هي رسالة تكليف الانسان بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني الامانة والمسؤولية، وبكل ما تتضمنه من علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وما تستهدفه من استخلاف وحساب. وهي معاني عامة ومطلقة لا تتقيد بظروف واحوال، وإن كانت وسائل تحقيق ذلك لا يمكنها ان تتجاوز ما عليه الظروف من المكان والزمان، اي انها لا تتجاوز الواقع.

ان ما سبق ايراده يتسق مع بعض النظريات التي شهدها تاريخ الفكر الاسلامي والتي خصّت طبيعة الخطاب الالهي، وهي المسماة بمسألة كلام الله. صحيح ان هذه المشكلة هي من المسائل العقلية المجردة التي ليس لها علاقة بالواقع، وقد عالجها المسلمون معالجات لها سمة تجريدية عقلية احياناً ونصية احياناً اخرى، وقد ظلت دائرة الخلاف مستحكمة بين المسلمين قروناً طويلة لارتباطها بنمط التفكير العقلي المجرد من غير ان تثمر شيئاً يذكر على صعيد الواقع. فقد ذهب البعض الى ان كلام الله قديم، وهو عبارة عن صفة لازمة عن الذات الالهية، او هو عبارة عن معنى نفسي قائم بذاته كما هو رأي الاشاعرة التي وظفته في تصحيح اثبات الرسالة النبوية. وفي قبال ذلك ذهب بعض آخر الى ان كلام الله مخلوق، كما هو رأي المعتزلة التي لم توافق على مقولة القدم باعتبارها تعني اثبات شيء آخر غير الله، مما يستلزم لديها الشرك. بينما لجأ جماعة الى اعتباره محدثاً، كما هو رأي محمد بن شجاع الثلجي (المتوفي سنة 6 6 2هـ)، وهو المنقول عن بعض أئمة اهل البيت (ع) ( 1). في حين رأى آخرون انه ليس بمخلوق وإن لم يحددوا هويته، وهو المنقول عن اهل السلف ( 2).

ومن الواضح ان هذه الاراء لم يكن يعنيها خصوصية النص والواقع، فبعضها كان موظفاً لاثبات الرسالة، وبعض آخر وُظف للدفاع عن التوحيد الخالص بعيداً عما يظن انه من الشرك. وفي جميع الاحوال ان دائرة الاهتمام لم تكن معنية بالواقع وتأثيره.

مهما يكن فالملاحظ ان القول بقدم كلام الله يتسق مع اعتبار اللغة العربية توقيفية، بخلاف القول بخلقه الذي يتسق مع اعتبارها مواضعة ناشئة بفعل الانسان. كذلك فان القول الاول ينسجم مع اعتبار ذلك الكلام مجرداً تجريداً تاماً عن الواقع، حيث انه سابق عليه، وبالتالي فانه لا يتسق مع اعتباره حاملاً لصور مشخصة وضيقة للواقع، كما لا يتسق مع القول بمبدأ تأثير الواقع على هذا الكلام. في حين ان القول بخلقه يسمح بمثل هذه الاعتبارات، بل ويتسق مع ما يبديه من مجاراة مع طبيعة الواقع المتغير، سواء من حيث الاحتكاك به والتعامل مع صوره المشخصة المحدودة، او من حيث تأثير الواقع عليه بنوع من الاستجابة لفعله، بدلالة القول بتدرج الاحكام او القول بالنسخ والنسأ وما الى ذلك. لهذا نجد القائلين بخلق القرآن يلجأون في بعض حججهم الى ما تدل عليه ظاهرة النسخ، من حيث ان القول بقدمه لا يسمح للقول بالنسخ والتغيير، اذ معنى كونه قديماً هو انه ثابت فكيف يُنسخ ويتغير ( 3)؟!

ولعل من المفارقة ان نجد من يتمسك بالرأي القائل بقدم كلام الله يتقبل حالات النسخ في جميع صورها حتى تلك التي تعبر عن نسخ التلاوة، في حين نجد في القبال من يتمسك بخلق القرآن او حدوثه لا يتقبل النسخ كلاً او بعضاً. فمن صور هذه المفارقة ما يقوله الغزالي: ((ما من حكم شرعي الا وهو قابل للنسخ خلافاً للمعتزلة)) ( 4). ذلك ان بعض المعتزلة ينكر ان يكون هناك نسخ بالمرة، وبعض آخر لا يتقبل حالة نسخ التلاوة، ويعد الروايات الواردة بشأنها والتي سلّم بها الاتجاه الاول مما لا حجة فيها باعتبارها أخبار آحاد تفيد الظن لا القطع ( 5). مع ما يلاحظ أن هناك صنفاً ثالثاً ظل متسقاً في اعتباراته، حيث انه قائل بحدوث الكلام، كما انه يجيز جميع صور النسخ، مثلما هو الحال مع الشيخ ابي جعفر الطوسي من الامامية الذي أجاز نسخ التلاوة وحدها والحكم وحده ونسخهما معاً؛ طبقاً للمصلحة ( 6).

وعلى العموم يمكن لحاظ ان علاقة الكلام الالهي بالواقع تتردد بين عدد من الفرضيات على ما سيتضح كالآتي:

1ــ ان يقال بان الكلام الالهي يعمل على تحديد مسار الواقع والتحكم في مصيره او ما يقرب عن هذه الحتمية القبلية بما يتسق ومقولة قدم الكلام، كما سنفصل ذلك عما قريب.

2ــ وقد يقال بأن الامر متبادل التأثير، فمثلما ان للكلام او النص دوراً في تغيير الواقع وتحديد مساره، فان للواقع ايضاً تأثيره غير المنكر على مسار الكلام، وذلك بعد التسليم بما يمتاز به هذا الكلام من فاعلية واستقلالية نسبية. فالنص مشكَّل بما يتناسب وطبيعة الخصوصيات التي تمتاز بها حوادث الواقع، ولولا هذه الخصوصيات ما كان للنص ان يتخذ الشكل الذي اتخذه في التعبير. كذلك فأن تغير الواقع وتنوّعه قد عملا ولا شك على ترتيب اشكال متغايرة للصور التي تضمنها النص، كما هو الحال فيما يعرف بالنسخ والنسأ وكذا التدرج في الاحكام والمفاهيم والتعليمات. الامر الذي يتسق ومقولة إحداث الكلام.

3ــ كما قد يقال انه لا علاقة لأحدهما بالآخر. فالكلام ليس مؤثراً ولا متأثراً بالواقع بأي نحو كان. والعلاقة بينهما هي علاقة اتفاقية يشكل فيها النص القرآني رموزاً ليست معنية بما يجري من أحداث. فالنصوص التي تتحدث عن سيرة الانبياء وقصص الامم الغابرة وكذا الاحكام والمفاهيم؛ كلها لا يفهم منها انها معنية بالواقع كما هو الظاهر، وانما هي محض رموز صادف ان اقترنت بوجود تلك الوقائع او رُكّبت عليها، مثلما تحاول الاتجاهات الباطنية المغالية ان تركز على هذا المعنى، وتجعل من النص يقوم بمثل هذا الدور، رغم انه بيّن البطلان بما لا يحتاج الى ايضاح.

وواقع الامر ان التنافس يرد بين الفرضين الاولين. لكن المشكلة تتحدد بالكيفية التي عليها الفرض الاول عندما يرى الكلام حاكماً ومحدداً لمسار الواقع بالاطار الذي نصّ عليه الكلام بالذكر. فبحسب هذا الفرض يمكن تصوير الكلام القديم كصفة ذاتية بأنه اشبه بشريط مسجل تتردد فيه الكلمات النفسية بثبات وتواصل، ازلاً وابداً. لكن مع اخذ اعتبار ان هذا التردد لا يتخذ صورة التدافع في الكلمات بحيث تتقلب وجوداً وعدماً، او حضوراً وزوالاً، كما ان بعضه لا يتقدم على البعض الآخر. وهو من هذه الجهات يساوق العلم الالهي الثابت. وبالتالي فهو ليس كما نحن عليه من الكلام الذي بعضه يدافع البعض الاخر ويتقدم عليه.

لكن المشكلة في هذا الامر هو انه كيف يمكن ان نتصور جريان كلام على وتيرة واحدة ثابتة تتصل ازلاً وابداً لحادث عابر لا يشكل سوى قطرة ضئيلة من بحر الوجود او الزمان والمكان؛ كإن نتصور ترداد قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها .. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها .. فلما قضى زيد..) وذلك بثبات واتصال ازلاً وابداً بلا انقطاع، رغم ضيق الحادثة من الناحية الوجودية؟ فكيف يمكن للكلام ان يرتبط بحادثة ضيقة الوجود وهي لم توجد بعد، ومن ثم يظل الحال هكذا ابد الدهر رغم فناء الحادثة وانتهائها؟ ثم كيف نتصور ان يكون في هذا الكلام ناسخ ومنسوخ ولم توجد الحادثة المحكوم عليها بالنسخ بعد؟ فمثلاً كيف نتصور ان يتردد كلام مثل قوله تعالى: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإنْ يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون))، ثم يتبعه ناسخه او ناسئه: ((الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفاً، فانْ يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإنْ يكن منكم الف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين))، وهما على هذا الشكل من النسخ الاخير للاول ازلاً وابداً بلا انقطاع، مع انهما مربوطان بحادثة ضيقة الوجود؟ خصوصاً وان اياً منهما لا يتقدم على الآخر، ولا يكون لاحدهما من الصلاحية والاعتبار اكثر من نظيره، بخلاف ما ينعكس عليه الامر حين يعاصران الحادثة ويتجسدان بنص بعضه يتقدم على البعض الآخر، وله من الصلاحية والاعتبار ما يختلف فيه عن قرينه. لهذا نعتبر ان مقولات كالنسخ والنسأ والتدرج في الاحكام وكذا الاخبار عن الوقائع الشخصية والاحكام الخصوصية؛ هي كلها مما يتسق واطروحة احداث الكلام لا قدمه.

يضاف الى ان هناك مشكلة اخرى تتعلق بأن الحوادث - بحسب اطروحة قدم الكلام - ليست هي التي دعت الى وجود الكلام، بل على العكس قد تمّ تحديد الحوادث وصياغة تفاصيلها بحسب ما عليه مضمون الكلام. فمثلاً ان ما حدث من كفر وجحود ومعاداة لله من قبل المشركين ليس هو ما دعا نصوص الآيات ان تصفهم وتتوعد لهم، وانما لوجود الكلام القديم الذي تضمن ذكر المشركين وصفاتهم؛ فان ذلك جعل منهم وقائع تطابق ما عليه ذلك الذِكر من الكلام، ولولاه ما كان للمشركين ان يكونوا على ما عليه مما وصفتهم به الآيات. وكمثال آخر نسمع قوله تعالى: ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير)). فهذا النص لم يأت لأن المرأة قامت بالحوار والمجادلة بالفعل، بل لأن كلمات الله على هذه الصورة كان لابد من ان تكون هناك مرأة تجادل النبي (ص) في قضية زوجها حتى توافق ما عليه ذلك الكلام القديم. فالكلام اذن هو المحدد للحدث لا العكس.

وقد يلاحظ ان هناك نوعاً من الجبرية، فكل حادث وصفه النص وعلّق عليه كان لا بد من ان يكون محدداً سلفاً بحسب الكلام القديم، وليس هناك من القدرة ما يمكن ان يؤثر او يغير من الحدث، بما في ذلك القدرة الالهية، اذ اي تغيير يعني تغييراً لصفة الله الثابتة القديمة، وهو تناقض. مع هذا فالامر ينطوي على حتمية لا جبرية. وذلك باعتبار ان الجبرية تقتضي ان يكون احد الطرفين حراً ليمارس ارادته في اجبار الآخر، مع ان ما نحن بصدده ليس من هذا القبيل طالما ان ارادة الخالق لا يمكنها ان تؤثر على صفاته سلباً وايجاباً.

كما يلاحظ ان الحتمية التي نتحدث عنها لا تقتضي بالضرورة ان تكون العلاقة علاقة تأثير وسببية، اذ قد تكون مجرد كشف سابق محتم لأحد الطرفين للاخر. ففي موضوعنا لا مانع من ان يكون الكلام القديم مجرد ((حكاية استشرافية)) لما سيحدث، مثلما يقال بشأن العلم الالهي من انه ليس مؤثراً على الحادث؛ بل هو مجرد ((رؤية استشرافية)) لما سيحدث. اي ان فرضية الكلام القديم يمكن ان تؤخذ باعتبار المساوقة مع العلم الالهي، فيعبّر الكلام عن ((الحكاية)) مثلما يعبّر العلم عن ((الرؤية)). لكنها يمكن ان تؤخذ باعتبار آخر فيه دلالة التأثير والسببية، وهو ان ما يحدث في الواقع هو تابع ومحكوم بتأثير الكلام. ومع ان النتيجة في الحالتين واحدة، الا ان فرق التحليل والتعليل يختلف تماماً، اذ في حالة الرؤية والحكاية يمكن ان تكون الارادة في الحادث البشري ثابتة، في حين تنتفي هذه الارادة تماماً في حالة التأثير والسببية. فالحدث في الحالة الاولى مسبب بفعل الارادة البشرية ذاتها، بينما في الثانية يتسبب بفعل العلم والكلام، رغم ان المحصلة في النتيجة واحدة بلا اختلاف.

مع هذا فعندما نقول ان هناك مساوقة بين العلم والكلام لا نغفل ان هذه المساوقة ليست تامة بحسب الفرض المتصور، فهناك فرق بينهما لابد من اخذ اعتباره، وهو انه في العلم الالهي لا يوجد له استثناء فيما يكشف عنه من حوادث وجودية. في حين ليس الامر كذلك فيما يرتبط بالكلام الالهي. فهو كلام يخص حوادث دون اخرى، وان ما جرى فيها الكلام لا يتعدى حدود قطرة من مياه البحر الواسعة. وهنا نعود الى ما سبق ان طرحناه من مشكل، وهو انه كيف يمكن تصور ان يكون الكلام الالهي مرتبطاً بحوادث عابرة ضيقة الوجود؟ وما قيمة مثل هذه الحوادث حتى يكون الكلام عالقاً بها ازلاً وابداً؟

ومع انه قد ينظر للمشكل بأن لا معنى له طالما كان التعلق والارتباط ذاتياً، مثلما لا معنى لان يقال لِمَ كانت النار حارة، اذ ليس هناك من جواب سوى القول بأن الامر هكذا وكفى. لكن في حقيقة الامر نجد من حيث التحليل ان الاشكال وارد؛ وهو لِمَ يرتبط القديم بحيّز ضيّق من الوجود؟ فلماذا نمنع ان يتصف العلم الالهي بحوادث دون اخرى ونعتبر انه اما ان يكون عالقاً بمطلق الحوادث، او انه ليس عالقاً بشيء منها، وبالتالي لماذا نستدل في العلم الالهي على سعة العلم واطلاقيته ولا نستدل كذلك فيما يخص الكلام الالهي؛ كإن نقول إما ان يكون هذا الكلام عالقاً بمطلق الحوادث او انه ليس عالقاً بشيء منها؟ ذلك انهما بحسب الفرض متساوقان، حيث كلاهما عبارة عن صفة قديمة ذاتية وعالقة بالحوادث. فهل هناك فرق بين الحالين؟!

هكذا يجرنا البحث الى تصحيح اطروحة قدم الكلام، وذلك انها تصبح متسقة حين تتحدث عن كلام شمولي يستوعب بين جوانحه كافة الحوادث وإن تمّ انزال نموذج منه كما في حالة القرآن الكريم، وظل اغلبه في مكنون علم الغيب. فهل اليه الاشارة بقوله تعالى: ((ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله))؟

على انه رغم اتساق هذا الفرض وقدرته على ان يبرر حالات مثل النسخ وتغيير الاحكام وكل ما يتعلق بتجدد الحوادث والواقع ، فكل ذلك يمكن ان يستوعبه كلام الله المطلق الشامل؛ الا انه مع هذا ليس بامكانه ان ينافس ما يقابله من الفرض الثاني الذي سبق ان طرحناه والذي يجعل العلاقة بين الواقع والكلام هي علاقة متبادلة التأثير. فالخلاف بين الفرضين هو خلاف بين الظاهر الوجداني وخلافه. اذ القول بمقولة قدم الكلام بكافة صورها هو خلاف الظاهر الذي فيه ندرك تماماً ان النص القرآني كان يتجاوب مع الواقع ويتفاعل معه تأثراً وتأثيراً. وبالتالي فان القول بتلك الاطروحة يجعلنا نعتبر مثل تلك العلاقة التبادلية هي محض وهم مخداع.

لكن مثل هذا الامر يفتح لنا الباب على مصراعيه. فقد يأتينا من يقول لنا بأن ما نتصور من وجود واقع موضوعي خارج الذهن هو محض وهم وخداع، مثلما يدعو لذلك الفيلسوف المعروف (جورج باركلي). مع انه ليس لنا للرد في كلا هاتين الحالتين سوى العودة الى الظاهر الوجداني!

***

مهما يكن فان الاختلاف في طبيعة الاتساق لكلا الضرفين له انعكاسات على ادراكنا لقيمة الخطاب المنزّل بما تتضمنه من قدسية. ذلك اننا لو اعتبرناه قديماً وصفة من صفات الله الذاتية؛ لكان لا فقط ان ذلك يجعله ثابتاً من غير ان يكون قابلاً لانماط التغيير بفعل الواقع من المحو والنسخ والازالة وما اليها، بخلاف الحال فيما لو اعتبرناه محدثاً ومخلوقاً حيث يكون حاله كحال اعتبارات عالم التكوين من الخلق، فيقبل المحو والازالة بمشيئة الله تعالى، كما ويقبل الجدل مع الواقع تأثراً وتأثيراً.. فكذلك تصبح القيمة المعرفية والمعنوية المضفاة على الخطاب في الحالتين مختلفة ولابد. فمثلاً ان القول بكونه صفة يجعله متعالياً عن امكانية اعطاء قيمة مضادة، فاذا اعتبرنا الكلام صادقاً، فان ذلك يمنع ان يكون هناك امكان للكذب والخداع وخلف الوعد والوعيد، وهو امر قد تمسكت به الاشاعرة لتصحح اثباتها للشريعة، بخلاف ما لو قلنا انه مخلوق، حيث لا يجد العقل في هذه الحالة اي معنى للاستحالة في اعطاء القيم المضادة كامكانية الكذب والخداع والخلف في الوعد والوعيد. ولا شك ان هذا التفاوت المعرفي هو في حد ذاته يعكس تفاوتاً في القيمة المعنوية او القدسية، حيث انه في الحالة الاولى يتخذ وكأنه صورة الاله، بينما في الحالة الاخرى لا يكون كذلك. الامر الذي له انعكاس على طبيعة تعاملنا معه فهماً وعلاقة.

من هنا برز التفكير في مسألة ما اُصطلح عليه بالصرفة، ومن ثم طبيعة الاعجاز الخاص بالخطاب. فالصرفة بحسب عدد من العلماء هي المقصودة من الاعجاز في الخطاب كما هو رأي النظام ومن ثم الجاحظ وكثير من المعتزلة وابن حزم وابي اسحق الاسفراييني، ومن الامامية ابن سنان والشيخ المفيد، وربما تلميذه الشريف المرتضى الذي له كتاب بعنوان (الصرفة في اعجاز القرآن) ( 7). والمقصود بالصرفة وعلاقتها بالاعجاز هي كما حددها النظام بأنها تعني ((ان الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدوراً لهم، لكن عاقهم امر خارجي فصار كسائر المعجزات)) ( 8). وكذا ما ذكره الشيخ المفيد تحت عنوان (القول في جهة اعجاز القرآن) من ((أن جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي (ص) بمثله في النظام عند تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته (ص)، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان وهو مذهب النظام وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال)) ( 9). وليس هذا المفهوم هو الوحيد عنها، فقد ذُكر ان من قال بها على قولين: ((احدهما انهم صُرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. والثاني انهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز ان يقدروا عليه)) ( 0 1). وفي القبال ذهب آخرون الى ((ان التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وان العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها)). وقد رد السيوطي على هذا الموقف الاشعري باعتبار ((ان ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به))، ونسب الى الجمهور اعتبار الاعجاز والتحدي انما بالالفاظ التي ورد فيها القرآن كما هو ( 1 1).

ولا شك ان القول بالصرفة يتسق مع نظرية خلق القرآن، من حيث انه شيء محدث قابل بذاته للصياغة المماثلة والتقليد، كما يقبل المحو والازالة كأي مخلوق آخر في عالم التكوين. في حين ان الرأي الذي يعد الاعجاز والتحدي بمجرد اللفظ والكلام يتسق تماماً مع مقولة القدم وصفة الذات للكلام، حيث انه لا يقبل أي امكانية من امكانيات الصياغة المماثلة والتقليد، كما ان من اعجازه ان يفترض انه لا يقبل اي شكل من أشكال التغيير والتجديد؛ سواء من حيث الواقع وضغوطه، او من حيث اعتبارات اخرى غيره. أما القول بالصرفة فهو وإن كان لا ينفي الاعجاز في الكلام، الا انه يضع خاصية هذا الاعجاز لا تعود الى الكلام ذاته، وانما الى اعتبارات المشيئة الالهية، اي انه من حيث ذاته ليس معجزاً، كما انه من حيث الذات يكون قابلاً للتغيير كأي مخلوق اخر في عالم التكوين.

هكذا انه مع مقولة إحداث القرآن تصبح العلاقة التي تستحكم بين النص والواقع علاقة منطقية يمكن فهمها بما تحمله من صور الجدل والتغيير في الاحكام. فمن جانب ان النص يحمل صوراً منتقاة ومحددة من الواقع؛ كثيراً ما تكون محكومة بطابع نسبي من الزمان والمكان، او من الظروف الطارئة غير العامة والمطلقة. كما ان النص من جانب اخر كثيراً ما يستجيب الى امر الواقع. الامر الذي يؤكد حالة التفاعل والجدل بين حمل النص للمعاني والمفاهيم المنزلة وبين استجابته للواقع بنوع ما من المحكومية.

تظل هناك ناحية اخرى نشير اليها وندع ما يؤكدها الى ما سيأتينا من فصول. فمن الواجب التنبيه الى ان النص مثله مثل عالم التكوين؛ كثيراً ما نتوهم ان عقولنا تتطابق مع مداليله بالفهم والمصداقية، مع ان حقيقة الأمر هي شيء آخر. فتاريخ الفكر البشري غارق بالوهم - حتى عهد قريب - من ان عقولنا تتطابق كلياً مع ما ينكشف لها من مضامين الواقع. لكن بفضل الثورة العلمية ثبت ان الانسان كان مغالياً في هذا الامر الى ابعد الحدود. ولعل من المفيد التذكير كيف ان العقل البشري ظل حاملاً لجملة من الافكار المجانبة للحقيقة عن الواقع طيلة قرون مديدة حتى انكشف له الصواب فيما بعد، وكان من ذلك توهم الانسان ان الارض مسطحة وساكنة، او انها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حول الارض، وان سرعة الاجسام الساقطة الى الارض تتناسب اطراداً مع أوزانها، وان النجوم المرئية هي موجودة بالضرورة فعلاً... الخ. فهذا الامر يشبه من بعض الجوانب ما تقرر لدى الفكر الاسلامي من رسم العلاقة بين العقل والنص، اذ كان الغالب من العلماء يظن ان العقل قد حسم الامر مع النص؛ إما من حيث انه يطابق منطوقه تماماً عند لحاظ ما يبديه العقل موافقاً لما عليه ظاهر النص، وعلى الاقل لا يُرى في البين تعارض بينهما، او ان النص بظاهره يفيد مثل هذا التعارض، الامر الذي اقتضى الاستنجاد بالعقل وممارسة ظاهرة التأويل، وذلك من أجل جعل العلاقة بين النص والعقل تتخذ شكل التطابق التام.

والنتيجة التي نخلص اليها والتي ستضفي البحوث القادمة على اجلائها؛ هو ان النص ليس معزولاً عن الواقع. واذا كان من المعلوم ان النص قد اثر تأثيراً كبيراً على تغيير الواقع ؛ فان للواقع طريقته في التأثير على النص، وذلك من حيث حمله على الاستجابة اليه من غير تعال ولا تجريد. يضاف الى انه اذا كان للنص قدرة على الكشف عن صور الواقع والتنبؤ به باشكال مختلفة مهما كانت مجملة؛ ففي المقابل نجد ان للواقع مقدرته الخاصة على الكشف عما يحمله النص من حقائق ومضامين، بل واثبت ان له القدرة على ازالة ما رُسم في الاذهان من تصورات مستمدة من ظاهر النص والتي عُدت واضحة ومطلقة. فهو من هذه الناحية انما يعمل على تصحيح رؤانا التي كنا نتصور انها تطابق ما يريده النص او الخطاب. ومنه يتبين ان الواقع أهم مقياس يمكن أن يعوّل عليه في الفهم واستكناه الحقيقة، ومن ذلك الحقيقة الدينية المعبر عنها بحقيقة النص.

كما نخلص الى ان النص والواقع توأمان محدثان عن الله تعالى، احدهما يكشف عما في الاخر من حقائق، وقد درج العلماء ان يطلقوا على الاول سمة الكتاب التدويني، بينما اوسموا الاخر سمة الكتاب التكويني، فكل منهما يكشف عما يحمله الاخر من حقائق. واذا كان من وظيفة الكتاب التدويني هو تغيير الواقع الى حيث الكمال بالتدرج؛ فان من وظيفة الكتاب التكويني هو العمل على تغيير مفاهيمنا عن الكتاب الاول بما يجعلها اقرب الى الحقيقة. وهنا يتخذ الكتاب التكويني دور المقياس الأساس في فهم الآخر ومعرفته. وبعبارة اخرى ان مصدر الفهم الاساس للنص لا يمكن ان ينعزل عن الواقع. فالواقع هو مقياس الفهم والتحقيق قبل اي اعتبار اخر.

الواقع

لا يمكن للانسان ان يعيش بلا واقع، فلكل انسان واقعه ومحيطه بكل ما يحملانه من مكونات مادية وسنن طبيعية واجتماعية تؤثر على حياة الفرد وتحدد اطار سلوكه ونشاطه وثقافته وفكره. فالواقع بهذا الاعتبار هو من اقوى المحددات التي تعمل على تقييد ثقافة الفرد وفكره، ناهيك عن سلوكه ومجمل شخصيته. ويظل ان الفاعلية التي تتمتع بها الذات الانسانية تتحدد بقدر ما يمكنها من صياغة مناسبة لما تستمده من خبرات الواقع، مع ما تضيفه من قوالب ومضامين خصوصية تعد من الاهمية بمكان، حيث بها يمكن للذات أن تخفف من وطأة الهيمنة التي يفرضها عليها الواقع بالتجرد والتحرر نسبياً. فبهذا التداخل والتشكل يبرز التفاعل والجدل بين الذات والواقع، او هو الجدل الكائن بين الطموح وبين الامر المفروض.

على ان شدة الاحتكاك بالواقع والملابسة معه من شأنها تضعف ارادة الذات على التحرر والتجرد، كما بفعل الإلفة تسلبها الوعي بالتأثير، وتصبح سلطة الواقع قابعة تحت ظل الحضور اللاشعوري. ويمكن القول ان العكس بالعكس صحيح ايضاً. فكلما ضعف الارتباط والتداخل مع الواقع كلما اشتدت قوة الذات على التحرر والتجرد، وهو من شأنه يبعث على تركيز الوعي بنمط التأثير والتفاعل بينهما. الأمر الذي قد يتيح الفرصة ازاء التحكم بضبط هذه العلاقة وتوجيهها الوجهة المطلوبة، أو على الأقل ان ذلك من شأنه يبعث على ادراك وسائل التحكم والتوجيه.

من جانب آخر يلاحظ ان طبيعة الانسان ميّالة عادة الى التفكير المطلق بجعل الحقائق التي يفكر بها حقائق تتجاوز حدود الواقع او الزمان والمكان. وهو وهم مرده الى عدم الوعي بالواقع وأثره على خلق ذلك النمط من التفكير. لكن علينا ان نذكّر بأننا لسنا ضد التفكير الاطلاقي بنحو من الاطلاق، بل ونعترف ان من القضايا التي لا شك فيها هو وجود حقائق مطلقة، وان هناك إمكانية لنشأة التفكير من النمط المطلق كالذي يجري في الدراسات الفلسفية والمنطقية. أما تحفظنا فهو عندما يكون هذا التفكير متجاهلاً ما عليه الواقع، او غافلاً عما فيه من سنن وقوانين. ذلك ان اغلب ما يُصور انه من الحقائق المطلقة لا يعدو كونه وهماً مطلقاً ناتجاً عن تأثير الواقع النسبي، او ما يسمى بروح العصر، دون التفات الى ما يتمتع به الواقع من مجالات أخرى تؤكدها سننه وقوانينه. لهذا نجد في كل عصر صوراً لا تحصى من التفكير الاطلاقي التي تنحو نحو التجريد والتعميم، مع انها تعبر عن روح العصر دون أن تتجاوزه عادة. كل ذلك لعدم الوعي بالواقع في أبعاده وجوانبه المتعددة.

واذ اصبح من المعلوم في علم الاجتماع ان لكل عصر روحه الخاصة التي تؤثر على تفكير افراده، فتجعل من هذا التفكير يميل الى حمل صور مطلقة تتجاوز مظاهر الزمان والمكان؛ فان مما لا ريب فيه ان هذه الحالة لا يشذ عنها تراثنا المعرفي طوال تاريخه المديد، بل ان ذلك ينطبق أيضاً على تفكيرنا المعاصر المنشغل بقضايا الاسلام وعلاقته بالاشكاليات الراهنة. حيث اصبح الواقع الخاص هو المحدد لصور الاطلاق وصيغ التفكير الكلية التي تحلل مظاهر الحضارة التي لها علاقة بالاسلام وفهمه، نزولاً من القضايا السياسية وحتى ابسط الامور الحياتية الاخرى. فالذي يطلع على الدراسات والكتب التي كتبت حول قضايا الحكم والقومية والديمقراطية وحقوق الانسان وشؤون المرأة والموقف من اهل الكتاب والرق والغناء والموسيقى، فضلاً عن التفاسير التي تنهج نهج العلوم الطبيعية وغيرها؛ يراها معبأة بعبوات ضخمة من تأثير الواقع وإن بصورة غير واعية، بحيث يظن الباحث فيها وكأنه اتخذ طريقه الى الصواب من غير محرك خفي، او بمعزل عن تأثير الواقع، إن لم يكن يلجأ في تفكيره تحت هيمنة الدوافع الايديولوجية لاغراض شتى منزوعة هي بدورها من ذات الواقع.

وعليه لابد من الالتفات بوعي وحذر الى مصادر فكرنا وما يتحكم فيها من تأثير الواقع. صحيح اننا لا يمكن ان نجرد انفسنا عن هذا التأثير عند إعمال الرأي وتأسيس المعرفة. لكن من الصحيح ايضاً ان ادراكنا لطبيعة هذا التأثير يجعلنا نفهم نوع العلاقة التي تربطه بالمعرفة التي نؤسسها، وبالتالي قد نتمكن بفعل تجريد الذات - نسبياً - من استحكام هذه العلاقة وضبطها عوض أن تكون مدفوعة بسلطة الواقع الخاص وقيده، بل ولأجل قلب الحال من جعل الواقع خاضعاً للتوجيه وتطويعه لما نطمح اليه من التشكيلات الجديدة المفضلة التي تتجاوز مظاهر التبرير له او الصدام معه. هكذا فنحن إما أن ننقاد - بفعل اللاوعي - تحت هيمنة الواقع من غير توجيه مسبق، او علينا أن نعي ذلك التأثير للإمساك بزمام الامر وتوجيه الواقع بالشكل الذي نهدف اليه. فحالنا كحال الحصان والعربة؛ إن شئنا جعلنا الحصان خلف العربة وتركناه يتخبط دون أن يتمكن من تحديد مساره، وإن شئنا جعلناه أمام العربة الذي هو موضع التحكم في المسير.

ومن الواجب التنبيه الى ان النهضة الغربية لم يكن بمستطاعها ان تنجح لولا ما شكّله الواقع من حضور في الوعي الاوروبي. فقد دلّ على هذا الحضور اعتبار الواقع اساس الحقائق المستخلصة من مبدأ الاستقراء والتجربة، وذلك بعد الانتفاض على الطريقة الارسطية ذات التفكير المجرد. اذ كان هذا التفكير وما لحقه يعد العقل اساساً للواقع، سواء من حيث الوجود او الحكم. فمن حيث الوجود رأى ان الواقع ما هو الا افراز للعقل وليس العكس. أما من حيث الحكم فقد اعتبر العقل مرآة الواقع، وان للاول قدرة على كشف الثاني، وكذا فان قوانين الاول تكون مطابقة للاخر من غير حاجة لإعمال الفحص والتجربة. وقد اعاد الفكر الغربي تركيب الصياغة بين المحورين لصالح الواقع بنقض المقولتين معاً. فلا العقل اساس الواقع، ولا انه مرآة مطابقة له بالضرورة، بل الامر يعود الى ما يمكن كشفه من حقائق عبر مبدأ الاستقراء والتجربة.

أما في الفكر الاسلامي فهو وإن حمل ((الواقع)) باحشائه بنوع ما من الحضور، الا ان هذا الحضور كان مختزلاً الى أبعد الحدود، بحيث يمكن القول انه لم يتشكل عليه وعي كاف يبدي قيمة وجوده، بل كان غيابه أقرب للحقيقة من حضوره. فاذا اخذنا العلوم العقلية فالامر واضح، حيث ان الشاغل في الفكر الاسلامي كان بمعزل تماماً عن حضور الواقع، فاشكالية النص والعقل هي الاشكالية المهيمنة على توليد المعرفة في هذه العلوم، من غير ان يلتفت الى اهمية الواقع في هذا الصدد. يضاف الى ان القضايا المطروحة كان يغلب عليها البعد عن معالجة الواقع وما يفرزه من مشاكل كتلك المتعلقة بعالم الانسان وعلاقاته الحضارية. أما على صعيد العلوم النقلية فنحن وإن وجدنا جملة من الاعتبارات التي فيها تم توظيف الواقع بمظاهر متعددة، كما في مبدأ العرف والمصلحة في الفقه، الا ان ذلك كان يجري في جدول ثانوي مهمش قياساً مع الجداول الرئيسية المعتمد عليها، مثلما هو الحال مع نمط التفكير المستمد من دوائر البيان النصي والقياس. ناهيك عن ان تلك المظاهر كانت مقيدة بقيود خاصة لا تتلائم مع آلية الانفتاح على طبيعة الواقع بكافة ابعاده ومداليله. لهذا لم يكن للواقع من دور ولا حضور، بل ولم يلتفت اليه على مستوى الوعي الكافي، باستثناء عدد من الشذرات المنبهة على بعض اعتباراته وخصوصياته، من هنا وهناك، لكنها مع هذا لم تستطع ان تتغلب على الحركة العامة التي كانت تسير باتجاه آخر غيره.

وبعبارة اخرى ان ما وصفه (فرانسيس بيكون) من ان المنطق الارسطي كان يمر بالاستقراء - او الواقع - مراً عابراً وسريعاً ومن ثم يقوم باصدار احكامه واطلاقاته ( 2 1)؛ هو عينه كان ينطبق على الفكر الاسلامي في صلته بالواقع وأداته الاستقرائية وحساباته الاحتمالية، ومن ثم ربط النتائج بفهم الاسلام. ففي الغالب ان هذا الفكر لم يعمل على توظيف الأداة الاستقرائية والحسابات الاحتمالية في معرفة الواقع، وبالتالي انه لم يحتكم الى هذه المرجعية في أحكامه وتمحيص مقدماته، سواء العقلية منها او النقلية. وحيث انه عمل في الغالب على تحديد اطار مجال تفكيره ضمن دائرة العقل والنص دون ان يتعداهما؛ فقد كان المصير الذي آل اليه هو ((الافلاس)) والسقوط في خندق التناقض، مثلما انكشف الحال لدى الفخر الرازي وغيره من اصحاب العلوم العقلية ( 3 1). اذ لوحظ ان ((العقل)) اخذ يصطدم مع ذاته ويدور في دائرة مغلقة من التناقض من غير خلاص، خصوصاً انه لم يُطرح في ذاته على بساط التحليل والتفكيك لتتحدد قيمه وامكاناته وأنماطه، انما عُوّل عليه تعويلاً مطلقاً كمصدر للحقيقة وأساس تبنى عليه المعارف الاصولية رغم ما تضمّنه من مقدمات غير متفق عليها، او انها مقدمات متناقضة.

لذلك نجد هناك قصوراً وعجزاً في اثبات اصول الدين وعدد من القضايا العقائدية الاخرى؛ طالما اظهر ((العقل)) تناقضاته ولم يستعن باشكالية الواقع وأدواته في حل القضايا التي كانت تعترضه، مثلما يلاحظ مع المسألة المعنونة بالقضاء والقدر، حيث لم تطرح من زاوية النظر الى الواقع، بل عولجت معالجة عقلية صرفة، فاختلفت العقول واصطدمت فيما بينها، ووظفت لأجل ذلك النصوص من الآيات، وكانت النتيجة ان جُعل بعضها يضرب البعض الاخر. مع انه كان من الممكن تفادي كل ذلك فيما لو استنطق الواقع واستلهمت حقائقه، فهو كتاب الله التكويني، مثلما ان النص القرآني كتابه التدويني.

على ان الحال لا يختلف لدى الساحة البيانية التي راهنت ان ترى الحقيقة من زواية النظر الى النص اساساً. ذلك انها قد شهدت هي الاخرى من القصور والتناقض لعدم اتخاذها الواقع مصدراً معتمداً في التحقيق. اذ اصبح من الواضح انه كلما امتد الزمان كلما تحول البيان الى متشابه، فلم يعد البيان بياناً. فالذين قيدوا انفسهم بالبيان واعتباراته اللفظية وجدوا انفسهم بعيدين عن حركة الحياة وتقدم الزمان، حتى اعترف بعضهم بمنطق الانسداد لشدة التشابه مع تقادم الزمن.

هكذا فالذي اوقع البيان في القصور هو ذاته الذي اوقع العقل في نفس المآل. فسواء هذا ام ذاك فالامر سيان من حيث عدم الاحتكام الى منطق الواقع واعتباراته في التحقيق، ومن ثم رسم العلاقة التي تربط هذه الابعاد الثلاثة ببعضها.

وما نخلص اليه هو التشديد على ضرورة اخد اعتبار ((الواقع)) واحضاره احضاراً واعياً على مستوى التأسيس، كنظام ومنهج غرضه دفع الفكر الاسلامي نحو آفاق مفتوحة غير قابلة للانغلاق، وذلك بعد رفع اليد عما ساد من نمط التفكير الذي حدده النظام المعياري، سواء في منهجه العقلي، او البياني وطابعه الماهوي.

العقل

أما العقل فهو تلك الاداة المدركة لذاتها ولغيرها. فالادراك هو خاصية العقل ووظيفته الجوهرية. على ان مراتب هذا الادراك وقيمها تختلف بحسب ما تقتضيه العملية والشروط التي تحققها، فهي أشبه ما تكون بالمرايا التي تعكس صور الاشياء. حيث ان عملية الانعكاس لا تتوقف على الوضع الذي عليه الشيء من الهيئة والبعد والقرب، وانما كذلك على طبيعة المرآة ذاتها. اذ تختلف المرايا فيما بينها في درجة الصقل والاستواء والتحدب والتقعر والتصغير والتكبير، وكل ذلك يؤثر على طبيعة ما تعكسه من صور، ومدى ما تعبّر فيه عن مطابقتها للشيء الخارجي.

والادراك تارة يكون لقضايا كلية مجردة لا تحمل صفة الاخبار الخارجي، كما في القضايا الرياضية والمنطقية، واخرى يكون لقضايا واقعية شهودية، وثالثة لقضايا غيبية ميتافيزيقية.

كما ان سلسلة الادراك في آلية التوليد والاستنتاج تختلف هي الاخرى من قضايا الى غيرها، فتارة تكون المقدمات المعتمدة في الادراك عبارة عن قضايا قبلية تجريدية ليس مصدرها الموضوع الخارجي ولا أنها تحمل صفة الاخبار عنه، او انها تكون حاملة لهذه الصفة من الاخبار، كذلك قد تكون المقدمات واقعية تفيد الاخبار عن غيرها، وهكذا. ومن حيث الاساس ان عملية الادراك تستعين بهذه المقدمات لأجل التحقق في القضايا، مما يجعل عملية الادراك متفاوتة، وذلك بحسب طبيعة هذه الوسائط من المقدمات. فهناك قضايا لا تحتاج الى وسائط اخرى غير ذاتها، فتكون عين الموضوع المدرك، وهي التي تتصف بالاولية واليقين والضرورة، حيث انها لا تحتاج الى مقدمات سابقة لاستنتاجها، وانما يكفي للعقل ادراكها مباشرة ليحدد صدقها وضرورتها. وهذه القضايا تارة تعبر عن كونها قضايا لا اخبارية وانما محض منطقية كمبدأ عدم التناقض المنطقي ومبادئ الرياضيات، واخرى تكون اخبارية على نحو الاجمال، كما في مبدأ السببية العامة. وهناك قضايا اخرى لها نتائج لا تخضع الى المقدمات الاستدلالية، او انه يحال توفير لها المقدمات اللازمة او الكافية، ومع ذلك فالعقل البشري لا يشك في صدقها، رغم عدم كونها من الضرورات، طالما لا يمتنع عقلاً ومنطقاً أن تكون خاطئة وكاذبة، كما هو الحال مع قضية الواقع الاجمالي ( 4 1)، وقضية الصدق الالهي، اي صدقه في اخباره ووعده ووعيده، حيث أنها إما ان تكون مفتقرة للمقدمات التي من شأنها اثبات القضية كما في حالة الواقع الموضوعي العام، او ان المقدمات ليست كافية رغم ما لها من أمارات ودلالات تفيد الاطمئنان، لكنها لا تفضي بذاتها الى الجزم منطقياً، مثلما هو الحال في قضية الصدق الالهي ( 5 1).

هكذا فباستثناء الحالة الاخيرة ان القضايا المذكورة، سواء كانت من صنف الضرورات او من صنف الوجدانيات الاخبارية - مثلما في قضية الواقع العام -، هي ليست بذات مقدمات منتجة.

أما القضايا التي تحتاج الى وسائط منتجة؛ فتارة تكون الواسطة قبلية والنتيجة قبلية مثلها، وتصبح القضية عقلية تجريدية صرفة، مثلما هو الحال مع المستنتجات الرياضية، حيث تتصف بالقطع والضرورة طالما أن وسائطها كذلك، أما لو كانت الوسائط غير قطعية فان نتائجها لا تكون قطعية هي الاخرى. كما قد تكون الواسطة قبلية لكن يراد منها استنتاج قضية اخبارية، وهي تصح في حالات قليلة معدودة يمكن البت فيها، مثلما يلاحظ في مبدأ السببية العامة، باعتباره مبدأً قابلاً للاخبار عن الموضوع الخارجي. كما قد تكون الواسطة بعدية واقعية ويراد منها الكشف عن قضية اخبارية غيرها سواء كانت واقعية ام ميتافيزيقية، فهذه القضية يمكن ان تكون صادقة متى ما اوفت بشروطها الخاصة، واهم ما في الامر شرط الابتناء على حسابات الاحتمال طبقاً للطريقة الاستقرائية. ومثل هذه القضية نطلق عليها بالقضية البعدية الاخبارية. أما هل يمكن بناء قضية واقعية على قضية ميتافيزيقية من حيث الاساس؟ الجواب هو النفي. وكذا هل يمكن بناء قضية لا اخبارية على قضية اخبارية، كإن نبني قضية منطقية استناداً الى ركائز واقعية او ميتافيزيقية؟ الجواب هو النفي أيضاً. والسبب هو ان القضية الواقعية اساسها مستمد من الحس والتجربة والاستقراء ، وهذه القضايا ليست مؤهلة لكي تثبت قضايا كلية، فهي تتعامل مع جزئيات، وهي وإن بامكانها اثبات كليات منتزعة من الواقع ذاته على نحو التعميم، الا ان هذا الاثبات فضلاً عن ان اليقين فيه نوع من المسامحة، كذلك فهو لا علاقة له بالقضايا المجردة. أما القضية الميتافيزيقية فمن الواضح انها ليست مؤهلة لاثبات القضية الواقعية، طالما ان الاولى ليست محلاً للكشف والتجربة والتمحيص، انما العكس هو الصحيح، حيث يمكن اثبات بعض القضايا الميتافيزيقية عبر الواقع، مهما كانت مجملة ومعدودة.

من جانب آخر ان الضرورات العقلية الاخبارية تارة تكون كاشفة عن الموضوع الخارجي بنحو من التطابق التام، واخرى كاشفة عنه وإن لم يشترط مثل هذا التطابق، بل المتوقع عدمه، مثلما يلاحظ مع الحسابات الاحتمالية. ذلك انه يمكن ان نفترض قضية بقيمة احتمالية عقلية ثابتة، وذلك ضمن شروط محددة، لكن هذه القيمة لا يلزم عنها ان تتطابق مع ما يجري في الواقع من تجريب. والغالب ان ما يحدث في الواقع لا يطابق القيمة العقلية، ومع هذا فهذه القيمة صحيحة وضرورية رغم عدم التطابق المشار اليه، وذلك باعتبار ان القضايا الاحتمالية تنطوي على نوع من المرونة في امكانات الظهور مما تتأثر به حسب ظروف الواقع.

مما سبق يتبين ان الادراك العقلي تارة يكون مبدعاً ينطلق من عنديات ذاته ليكشف عما في ذاته وما هو خارج عنها، واخرى مستنتجاً، وثالثة يقف وسطاً بين الابداع والاستنتاج، وذلك كالاتي:

1ــ الادراك القبلي البحت، كما في المنطق والرياضيات. حيث مجال الصدق فيه كبير. فهو يعتمد على العقل القبلي ولا ينتهي الى ما وراءه من الاخبار الخارجي سواء كان واقعاً او ميتافيزيقاً .

2ــ الادراك القبلي الاخباري، وهو لا يكون صادقاً ومتطابقاً الا في قضايا محدودة مجملة كما في مبدأ السببية. كما انه يكون صادقاً من حيث المبدأ القبلي وإن لم يتحتم ان تتطابق معه نتائجه الاخبارية، مثلما هو الحال مع الحسابات الاحتمالية. وهناك قضايا اخرى تكون معرضة للطعن والتشكيك، سواء كان الاخبار فيها عن واقع او عن قضايا ميتافيزيقية، كما هو الحال في قضية البرهنة على نفي التسلسل، مما ليس يعنينا بحثها هنا.

3ــ الادراك البعدي الاخباري، وهو ما يقبل الصدق، وقد يكون الموضوع المثبت شهودياً او غيبياً ميتافيزيقياً ، لكن الواسطة هي عبارة عن الواقع او ما يرتكز عليه.

على ان الادراك الاخير يمكن تقسيمه منهجياً الى ادراك استنتاجي وآخر اضافي. فالاول يكاد ان يكون معتمداً كلياً على ما يصوره الموضوع الخارجي - كالواقع - من غير ان يضيف اليه العقل شيئاً من عندياته لأجل التصديق، الا بالقدر اليسير جداً والذي به يتم تحويل التصديق من قوته الاحتمالية المتاخمة الى التصديق التام، وذلك استناداً الى ما يقدمه الموضوع من دلالات وقرائن متسقة لصالح تلك القوة الاحتمالية. لهذا فالاضافة التصديقية التي يقدمها العقل لا يكاد ان يكون لها حساب، وإن كان من الناحية المنطقية الرياضية تكون اضافتها - بنوع من الاعتبار - هي اضافة اللامتناهي الى المتناهي رغم قيمتها المتناهية الضآلة. أما الادراك الاضافي فنقصد به ما يقدمه العقل من دلالات اخبارية او تصديقية كاشفة عن الواقع والتشريع، وليست هي من المستنتجات المنطقية ذات الصفة الضبطية. لذا يتفاوت هذا الادراك قوة وضعفاً، فكلما كانت الاضافة قوية كانت الدلالة مصطبغة بالانطباع العقلي، في حين ان ضعف هذه الاضافة يجعل من القضية ذات دلالة موضوعية، سواء كانت واقعية او نصية. الامر الذي يعني اننا نميز بين القضية العقلية وما يقابلها من القضيتين الواقعية والنصية استناداً الى مقدار الاضافة العقلية قوة وضعفاً، ذلك لأن العقل في القضايا البعدية هو في جميع الاحوال يداخل غيره من الموضوعات كالنص والواقع، وليس بامكاننا التمييز بين نشاطه الخاص وبين الموضوع الذي يدركه الا على نحو ما يفرزه من الاضافة التصديقية. ففي القضايا الاستقرائية تكون الاضافة العقلية ضعيفة، حيث تتخذ دور الحاسب لمقادير الدلالات التي تفرزها هذه القضايا. بينما في القضايا غير الاستقرائية مثل قضايا الاستدلال بالشاهد على الغائب والقياس التمثيلي وما اليهما تكون الاضافة العقلية قوية، الامر الذي تعد فيه هذه القضايا أقرب ما تكون للعقليات، وإن اعتمدت على نص او واقع، الا حينما تكون هذه الموضوعات مبدية لقوة احتمالية كبيرة، فحينها تتصف بالصفة الموضوعية اكثر مما هي ذات صفة عقلية.

ويلاحظ مما سبق ان القضية البعدية الاخبارية لا يمكنها ان تستغني عن تحكم القضية العقلية القبلية. وعلى العموم لا يمكن بناء قضية واقعية من غير حاجة للضرورات القبلية. فالبعدي يحتاج الى القبلي بالضرورة، في حين ان العكس لا يلزم مثلما هو الحال في الحسابات الرياضية، وهي عقلية محضة. وفي جميع الاحوال لا يمكن الاستغناء عن تحكم المبادئ القبلية الضرورية في القضايا البعدية، مباشرة وغير مباشرة.

لكن قد يقال كيف يصح ذلك ونحن نعلم ان الفرد منا يولد وهو يخلو من مطلق المبادئ القبلية قبل اتصاله بالواقع الخارجي. فهل يجوز القول ان القبلي يتوقف تصديقه على صدق البعدي، وبالتالي نقلب ما سبق تقريره؟

لقد سبق لنا ان عالجنا هذا الموضوع، واعتبرنا التصديق بالقضايا القبلية يمر بمرحلتين، اولاهما واقعية والأخرى منطقية. حيث تبدأ المرحلة الواقعية عند الصغر، فتنشأ لدينا بفعل العادة انطباعات نفسية في مختلف المعارف العقلية والحسية. وتظل هذه المعارف في هذه المرحلة لا تعبر عن كونها مدركة ادراكاً منطقياً يراعى فيه جانب القضية بما هي قضية معرفية. فالطفل منا يولد وهو يرى الأشياء على ما هي عليه وأنها تتغير نتيجة أسباب معينة، وهذا الحال يطبع في ذهنه - من غير شعور - الاعتقاد بان كل شيء على حاله ما لم يغيره شيء، وان كل ما يتغير إنما يتغير طبقاً لسبب..

وبهذا ينشأ الانطباع النفسي لحالة السببية لدى الطفل. وبه يتضح ان المعارف العقلية تنشأ في البداية على شكل إنطباعات نفسية شبيهة بالمصادرات من وجه، حيث انها ليست قائمة على الدليل، ولا على الوضوح العقلي وضرورته المنطقية، بل حتى الاستدلال في البداية ينشأ على سبيل الانطباع والعادة، وليس على الأحكام المنطقية ( 6 1). اذن تتصف هذه المرحلة بالمواصفات التالية:

1ــ تنشأ المعرفة في بدايتها على شكل إنطباعات نفسية لا شعورية، وهي شبيهة بالمصادرات من وجه.

2ــ يعود سبب هذه الانطباعات الى عوامل معينة؛ هي العادة والتأثير الاجتماعي والمؤثرات الخارجية ذات الأثر الحاد على نفس الانسان.

3ــ ان المعرفة (الانطباعية) بالمبادئ العقلية تأتي بمرحلة متأخرة عن المعرفة بوجود الاشياء او الشعور بها.( 7 1).

أما المرحلة الاخرى التالية فتتصف بما للفرد من قدرة على التصور التجريدي والمنطقي للقضايا، فيدرك فكرة الضرورة وارتباط القضايا في توقف بعضها على البعض الآخر. وهنا باستطاعته ادراك ان المعرفة لا تتم لها قائمة من غير التسليم ببعض القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض.

لذلك يصح القول انه من الناحية المنطقية ان القضية الواقعية وغيرها من القضايا الاخبارية لا يمكن ان تقوم لها قائمة من غير الاعتماد على القضية العقلية القبلية.

هكذا فمن حيث تقرير الحاكمية والتمييز بين الدلالتين العقلية القبلية والواقعية؛ يلاحظ أن للعقل نظامه ومنطقه في التحكم، بفعل المبادئ القبلية. لكن في غير الضرورات نجد ان للواقع قدرته على تغيير القناعة العقلية، بحيث ان التعارض بينهما يجعلنا إما ان نعمل على تأويل فهم الواقع إن أمكن ذلك، او تخطئة العقل، ولا معنى لأن يقال بجواز خطأ الواقع. فللواقع حقائقه سواء استطعنا ادراكها ام لم نستطع، رغم انه لا يمكننا ادراك الواقع الا من خلال العقل ذاته. مع هذا فان حالات التفاعل والجدل بين معطيات العقل والواقع تجعلنا نميز بينهما ونكتشف ما يمكن ان يطرأ فيهما من تعارض.

نخلص مما سبق الى ان كلاً من الادراكين القبلي والبعدي ينقسمان الى قسمين كالاتي:

1ــ الادراك القبلي البحت.

2ــ الادراك القبلي الاخباري.

3ــ الادراك البعدي الاستنتاجي.

4ــ الادراك البعدي الاضافي.

على ضوء هذا التقسيم يكون القسمان الاولان من القضايا العقلية البحتة. بينما يكون القسم الثالث من قضايا الموضوع الخارجي كالواقع مثلاً. في حين ان القسم الرابع يتفاوت أمره بين أن يطغى عليه التأثير العقلي فتكون قضيته عقلية، او التأثير الموضوعي فتكون قضيته موضوعية. أي ان هذا القسم يتصف بالنسبية باعتباره محل تداخل بين أكثر من قضية.

من جانب آخر تتفاوت القضية المعرفية في درجة صدقها وقيمتها بغض النظر إن كانت عقلية او موضوعية، وذلك بحسب المراتب التالية:

فهي إما ان تكون ضرورية كالبديهيات، او قطعية وإن لم تصل الى حد الضرورات كالحسيات، او حدسية بحيث لا تجد احتمالاً معقولاً في قبالها، او عادية اطمئنانية كما عليه سيرة العقلاء في معاملاتهم وعلاقاتهم، حيث الاحتمال المقابل ضعيف لا يعتد به، او ظنية يقابلها احتمال ضعيف يعتد به، او شكية، او وهمية لها درجات مختلفة تتقابل فيها مع الظنية والعادية والحدسية، او منفية تقابل القطعية، او مستحيلة تقابل الضرورية. اذن فمراتب الادراك هي:

1ــ الضرورات

2ــ القطعيات

3ــ الحدسيات

4ــ العاديات

5ــ الظنيات

6ــ الشكيات

7ــ الوهميات

8ــ المنفيات

9ــ المستحيلات

يتبين مما سبق ان معرفة القضايا البعدية لا يمكن ان تستغني عن معرفة الواقع والارتكاز عليه. فالواقع هو في حد ذاته يعبر عن مقياس الحقيقة، واي اصطدام به يعبر عن خطأ القضية او خطأ الادراك. نعم ان ادراك الواقع لا يمكن ان يستغني عن العقل من حيث كاشفيته، فليس هناك من سبيل غيره في الكشف. لكن مقياس الحقيقة ليس نابعاً في الاساس من العقل، اذ يمكن التشكيك في القيم العقلية اذا ما استثنينا مبدأ عدم التناقض وسائر الضرورات المنطقية الاخرى، كما يمكن التشكيك في قيم النص او غيره، الا انه لا يمكن التشكيك في قيمة الواقع في ذاته من حيث انه وجود، فهو ليس مورداً للصواب والخطأ، وانما هو مقياس ذلك.

فمثلاً ان الاعتبارات العقلية لقضية الجزء او الجوهر الفرد هي اعتبارات متعارضة بحسب اختلاف المدارس المعرفية ومواقفها. فقد اتجه الفلاسفة الارسطيون ومن اتبعهم الى اعتبار كل جزء يقبل التجزئة بلا نهاية ولا انقطاع. في حين خالفهم المتكلمون من المسلمين ورأوا ان نهاية التقسيم تصل الى جوهر فرد لا يقبل التجزئة، وهو المطلق عليه بالجزء الذي لا يتجزأ. مع ان الملاحظ هو ان الجدل الدائر بين الطرفين هو جدل من النمط العقلي القبلي الاخباري الذي يتوقف البت فيه على ما يفرزه الواقع من حقيقة، سواء كان لصالح موقف الفلاسفة او المتكلمين، او حتى على خلافهم جميعاً كما هو واضح من مفاد تطورات الفيزياء الحديثة. فهنا لا يمكن الاعتراض على مفاد الواقع بحجة مخالفة العقل، في حين يمكن الاعتراض على العقل القبلي الاخباري بحجة مخالفته للواقع.

على ان هناك شبهة كالتي تتضمنها فلسفة (عمانوئيل كانت) من اعتبار الاشياء الخارجية هي التي تجب ان تكون موافقة ومحددة بحسب ما عليه كشف عقولنا وطبيعتها وليس العكس، اي انه ليس الكشف العقلي هو ما يجب ان يحدد ويوافق ما عليه الموضوع الخارجي، ذلك ان العقل محدد بقوالب معينة هي التي تضفي على الاشياء مظهرها، كالذي ينشأ وهو لابس نظارة زرقاء فانه ليس بوسعه رؤية العالم الا بشكل ازرق، ولا يمكنه ان يعرف حقيقة ما عليه العالم تماماً، فالتحديد انما كان من قبل ما نشأ عليه من لبس النظارة وليس مما يراه في الخارج. وكذا في علاقة الادراك مع الموضوعات الخارجية، حيث ان العقل والحواس مصممان ضمن اطر محددة هي التي تضفي على الاشياء ما تبدو لنا، وليس بالامكان معرفة ما عليه العالم الخارجي في ذاته طالما ان الادراك لا يكون الا عبر القوالب الادراكية المحددة، كالزمان والمكان والسببية وغيرها. فتلك هي ثورة (كانت) في الفلسفة مثلما شُبهت بالثورة الكوبرنيكية على صعيد علم الفلك. مع ما يلاحظ ان مبررات (كانت) هي ما تصوره من وجود تناقض في عدد من الاشياء مما خُيّل اليه بانها من اختراع العقل وليس لها وجود حقيقي مثل قضايا الزمان والمكان، حيث تصور انه لا يمكن اعتبارهما متناهيين ولا غير متناهيين للاشكالات التي اعتقدها بهذا الصدد، وكذا ما تصوره في علاقة السببية حيث ظن انه لا يمكن حل مشكلة السلوك البشري؛ فلا هو يُفسر طبقاً للسببية ولا تبعاً للحرية التي يدركها الانسان، فمثل هذه التعارضات جعلته يسلّم بوجود واقع حقيقي مجهول لكنه متسق ليس فيه مثل تلك التعارضات الموهمة والتي لا يمكن حلها. مع انه لو كانت هناك تعارضات فعلاً فانما يعني ذلك ان العقل محدود ليس بوسعه حلها، من غير حاجة لافتراض وجود عالم حقيقي اخر يختلف كلياً مع ما ندركه.

فاذا كان من الصحيح ان ادراكاتنا الحسية لكيفيات الاشياء الخارجية متأثرة تماماً بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز ان تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة الاجهزة الحسية، فان الامر لا ينطبق على ادراكنا لعلاقات الاشياء، كعلاقات العلية. فما ندركه مثلاً على انه سبب وسابق لغيره لا يمكن ان يكون في نفس الوقت لاحقاً ومسبباً من قبل ذلك الغير. واذا كان الواقع هو الذي عرفنا بالادراكات الممكنة لكيفيات الاشياء طبقاً للاجهزة الحسية المختلفة - ومنه مثال النظارة -؛ فانه ذاته لا يشير لا من قريب ولا من بعيد الى أي ادراك ممكن آخر غير ما ندركه لعلاقات الاشياء. وبالتالي فلسنا مضطرين لافتراض واقع آخر للعلاقات يتضارب في طبيعته واحكامه النسبوية عن هذا الذي ندركه.

مما سبق نعلم ان الدلالة العقلية قد لا تشكل مورد نزاع وصدام مع دلالة الواقع، وذلك حينما تعبر عما اطلقنا عليه بالعقل القبلي اللااخباري. حيث ان وظيفة هذا العقل لا علاقة لها بالاخبار عن الواقع الخارجي، وبالتالي فهو ليس محلاً للتعارض والنزاع مع دلالته، فكل منهما يسير في اتجاهه الخاص من غير امكانية ما للتقاطع والتعارض. أما الحالة التي يمكن فيها أن يتولد التعارض والتضاد مع دلالة الواقع؛ فهي انما تكون من جهة ما اطلقنا عليه بالعقل القبلي الاخباري. ذلك ان وظيفة هذا العقل هو الاخبار القبلي عن الموضوع الخارجي، وبالتالي فان من الممكن ان يكون اخباره مصادماً لما تدل عليه الدلالة الواقعية البعدية، وفي هذه الحالة لا مجال لترجيح الاولى على الثانية، اذ لا معنى لأحقية الدلالة الاخبارية الا من حيث مطابقتها للموضوع الخارجي كالواقع. بهذا يكون الواقع اساساً يُعتمد علىه في تقويم حقيقة ما يفترضه العقل القبلي الاخباري. وهو بهذا المعنى يكون حاكماً ومقياساً للحقيقة. فهو أحق حقيقة من غيره في الفهم وتأسيس النظر.

على أن ذات ما قدرناه ينطبق في مقارنة النص مع الواقع، وذلك باعتبار أن النص يجري مجرى العقل القبلي، فتارة لا يخبر عن الواقع بشيء مما يعني انه لا مجال للتعارض معه، واخرى يخبر عنه، وعندها لا بد أن تترجح عليه دلالة الواقع والعمل على توجيهه الوجهة القريبة إن امكن ذلك أو ايكال علمه الى الله تعالى.

علماً بأن للنص اعتباراً آخر حين مقارنته مع العقل، حيث يكون النص في هذه الحالة اشبه بالواقع الذي يفرز الدلالة البعدية، وأن العقل في القبال له دلالتان؛ احداهما قبلية لا اخبارية، واخرى قبلية اخبارية، اي أنها تخبر عما يفترض ان يكون عليه النص من محتوى معنوي. لذلك فتارة تبدي الدلالة القبلية الاخبارية توافقاً مع الدلالة البعدية للنص، واخرى تعارضاً معها، الأمر الذي جرى عليه التأويل كما مارسته النزعات العقلية في الفكر الاسلامي، والذي افضى الى ان تتصدى له النزعات البيانية المناهضة دفاعاً عن الدلالة البعدية في قبال الدلالة العقلية القبلية، كما هو الحال مع المدرسة التيمية والاخبارية ( 8 1).

الخطاب والحجج الثلاث

كيف نعرف ان النص حجة ملزمة يجب التمسك به حين نجد فيه ما يدل على الامر والنهي؟ فلو قيل ان حجيته نابعة من الله تعالى لقلنا كيف دل ذلك؟ فلو قيل انه من خلال ما افاده النص لوقعنا بالدور. ولو قيل ان حجيته بذاته لا غير، من حيث ان ذاته كاشفة عما فيه، لكان يعني ان كل نص لغوي نجد فيه امر الالزام لا بد وأن نعده حجة، وواضح انه غير صحيح. ولو قيل ان حجيته نابعة عن الدليل العقلي الصرف، لكان غير صحيح ايضاً، اذ العقل في حد ذاته كمصدر قبلي لا يدرك هذه الحجية للنص. على هذا فان حجيته انما هي رهينة النظر الى الواقع، وبالذات واقع النبوة وما تتلبس به من حالات كاشفة، كتلك التي يطلق عليها بالمعجزة، وذلك بالاستناد الى استقراء القرائن وحسابات الاحتمال الدالة على صدق الرسالة، ذلك ان اثبات الرسالة يثبت حقانية النص، وبهذا يكون النص حجة من حيث توقفه على صدق الرسالة، وان صدق الرسالة متوقف على النظر الى واقعها وما عسى ان تدل عليه طبقاً للقرائن والحسابات الاحتمالية، كأي قضية واقعية اخرى، مثلما كشف عن ذلك الامام محمد باقر الصدر في كتابه (المرسل/ الرسول/ الرسالة).

مع هذا نجد هناك نصوصاً كثيرة تحث على النظر الى الواقع والافادة منه والاعتبار به. ولا يمكن اعتبار ذلك دليل حجية الخطاب على الواقع، وذلك لما علمناه من أن حجية الخطاب هي ذاتها تتوقف على النظر الى الواقع مع ما يتطلبه من الحساب الاحتمالي. فلو اننا قلنا بالمقولتين معاً لوقعنا بالدور ما لم نبنِ ذلك على نوع من الفصل بين القضايا، فنعتبر مثلاً ان حجية الخطاب تستمد من النظر الى بعض قضايا الواقع، في حين ان سائر قضايا هذا الاخير ليس لها من حجية من دون دلالة الخطاب او النص. وهي صيغة سبق أن طرح مثلها ابن تيمية رداً على النزعات التي كانت تتخذ من العقل اساساً لحل القضايا التي تعترضها باطلاق ( 9 1)، حيث ان عيبها وقصورها هو أنها لم تتفق على طبيعة القضايا العقلية التي عولت عليها، ولم يتبين منها الطابع المنطقي او حتى الوجداني لكي تتخذ أساساً لبناء القضايا الاسلامية وتأويل النصوص. لهذا كانت موضع نقد واتهام من قبل الاتجاهات البيانية، سواء في الساحة السنية او الشيعية. لكن الامر هنا يختلف كلياً. ذلك ان من الممكن ان تصدق الشبهة السابقة فيما لو ان الاعتماد على الواقع منفصل عن الاساس المنطقي الذي يكشف لنا عن حقانيته، وهو القرائن المعتبرة من الاستقراء والحساب الاحتمالي. فباستثناء القضايا الوجدانية الصرفة؛ ليس للدلالة الواقعية من قيمة الا من حيث ما تستمده من قدر معتبر من القوة المعرفية كما يبينها الكشف الاستقرائي والحساب الاحتمالي. وهو أمر يصدق حتى على فهم النص واستلهام ما يبديه من حجج لفظية. فمن الواضح ان هناك تفاوتاً كبيراً بين ان يبدي لك نص واحد دلالة ما حول قضية معينة، وبين ان تبدي لك عدد من النصوص المختلفة حول تلك القضية، اذ لا يشك ان فهمك بتعدد النصوص يكون اقوى واوسع من فهمك لواحد منها، وذلك اذا ما افترضنا ان قوى الدلالة تتساوى من نص الى آخر. وبالتالي فان ما قصدنا اليه هو ان رفض الدلالة الواقعية بالمعنى الذي اوضحناه يفضي الى رفض دلالة الخطاب؛ طالما ان الاساس الذي تستمد القوة المعرفية لكل منهما انما هو اساس واحد، وهو وجود القرائن الدالة على محور صحيح دون غيره كما يظهره الحساب الاحتمالي. لذلك فان ما ورد من اشارات كثيرة للخطاب على حث العقول في ممارسة التفكير في سنن الله وخلقه واقتناص الحقائق الكبرى منها؛ انما جاءت منبهة لحجية الواقع بالمعنى المشار اليه وليس أنها دالة على هذه الحجية. فمما جاء بهذا الصدد قوله تعالى:

((أو لم ينظروا فـي ملكـوت الـسماوات والأرض وما خلـق الله من شيء)) الاعراف/ 5 8 1، ((أفلا ينظرون إلى الإبل كـيف خُـلـقت وإلى الـسماء كـيف رُفعت والى الجبال كيف نصبت والى الأرض كيف سُطحت)) الغاشية/ 7 1ــ 0 2، ((ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..)) آل عمران/ 1 9 1، ((سنريهم آياتنا في الافاق وفي انفسهم)) فصلت/ 3 5، ((ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)) الروم/ 2 2، ((ألم ترَ الى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، ثم قبضناه الينا قبضاً يسيراً)) الفرقان/ 5 4ــ 6 4، ((ألم ترَ أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخّر الشمس والقمر كل يجري الى أجل مسمى)) لقمان/ 9 2... الخ.

ويلاحظ ان ابن رشد قد استند الى مثل هذه الايات ليدل على حجية المنطق والمقاييس البرهانية شرعاً، وذلك بفرض قراءة الكتب الاغريقية القديمة ( 0 2)، مع ان الحقيقة هو انها منبهة على حجية ((الواقع)) لا المنطق بشكله الصوري المألوف. كذلك نرى محمد اقبال افاد من ذلك في رسم حجية ((الواقع)) الذي عبر عنه بالتجربة والنظر في فهم ظواهر الكون واستنطاق الانفس والافاق وكذا الاعتبار من اخبار الاولين وغير ذلك من المصادر الهامة للمعرفة، مما يشكل اعترافاً بقيمة النشاط العقلي المستند الى الواقع ونظام الخلقة ( 1 2).

***

يبقى ان البحث حول حجية العقل، فالصحيح - كما سبق أن اوضحنا - ان الدلالة الواقعية لا تنفصل عن الاعتبارات العقلية من مثل حسابات الاحتمال وما اليها، كذلك فانه لا معنى للدلالة الواقعية من غير الكشف العقلي. فبالعقل تتبين الدلالة الواقعية وتتكشف، وليس لنا من طريق آخر للواقع او لغيره الا من خلال العقل وكشفه. لكن مع هذا فهناك تفاوت بين العقل القبلي والعقل البعدي. وقد سبق ان توضح لنا انه لا يصح الركون الى العقل القبلي في كشف القضايا الاخبارية الا ما توضحه الصور الضرورية والوجدانية مما لا يمكن دحضها عبر العقل البعدي؛ سواء كان هذا الاخير معبراً عن دلالة الواقع او غيره. على هذا فالممارسة العقلية مطلوبة ضمن الحدود التي ابرزناها، وأن الخطاب يمتدح هذه الممارسة ويراها حقة مفضية الى الصواب في الكثير من المواقف. كما ان عدداً من النصوص ينضبط فهمها اعتماداً على دلالة العقل، مثل ما جاء في قوله تعالى: ((ان الله على كل شيء قدير)) البقرة/ 8 4 1. حيث من الواضح بدلالة العقل ان الاية لا يفهم منها الاطلاق فتكون القدرة متعلقة بكل شيء بما في ذلك المستحيلات كخلق الشريك في الالوهية، او خلق التناقض وجعل الواحد المضاف الى اخر مثله لا يساوي اثنين، وجعل الجزء أعظم من الكل كما تُصوّره بعض الروايات ( 2 2).

وكذا مثل ما جاء في قوله: ((قل الله خالق كل شيء)) الرعد/ 6 1، حيث بدلالة العقل لا يمكن ان يكون علمه وقدرته وسائر صفاته الذاتية داخلة في خلق الله، مثلما اكد على ذلك ابن حنبل وهو في معرض نفي ان تكون الاية دالة على خلق القرآن او كلام الله ( 3 2).. الى غير ذلك من النصوص.

النص والحاجة الى الدلالة الواقعية

ليست لدينا قضية فيما نقدمه من هذه البحوث أهم من تلك التي تؤكد على علاقة الواقع بضبط فهم نص الخطاب. فنحن على يقين من انه لا يمكن فهم النص باتساق ما لم يرتكز على الدلالة الواقعية. واذا كان الأمر لم يحن لنفرغ شحنة من فيض طاقة هذه الدلالة وهي تمارس دورها في الضبط؛ فان ذلك لا يعفينا من ذكر نماذج بسيطة وواضحة ايفاءاً للغرض. حيث من خلالها يمكن التمهيد بجعل ذهن القارئ قابلاً لتفهم واستيعاب ما نريد طرحه واثباته. لهذا فسنعود الى تفصيل هذه القضية بابراز الأدوار المختلفة التي تتخذها تلك الدلالة في الضبط، وذلك في حلقة قادمة إن شاء الله.

فمن الأمور الواضحة الدالة على ضبط الدلالة الواقعية لفهم النص ما يلاحظ فيما سنعرضه من نصوص قرآنية كالآتي:

نقرأ مثلاً قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض)) الكهف/ 7 7، ونعلم بوضوح انه لا يفهم بغير قرينة الواقع الدال على ان المراد ليس هو الظاهر من الارادة، باعتبار ان الحس كاشف على انعدام الارادة فيه، مثلما حملها الاشعري على المجاز ( 4 2).

وكذا مثله يقال في قوله تعالى: ((واسأل القرية التي كنّا فيها والعِير التي أقبلنا فيها)) يوسف/ 2 8، وقوله ((وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)) الانبياء/ 1 1، حيث المراد في ذلك اهل القرية وليس ذاتها باعتبارها - حسب دلالة الواقع - ليست مورداً للسؤال ولا مورداً للظلم والادراك، لذلك حملها الشافعي على المجاز ( 5 2).

ونقرأ ما جاء في قوله تعالى: ((ومن آياته انك ترى الارض خاشعة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت، ان الذي احياها لمحيي الموتى)) فصلت/ 9 3، ونعلم انه من حيث الواقع لا يمكننا ان نعتبر الارض خاشعة على الحقيقة. بل اننا لو حملنا كل ما في النص على وجه الحقيقة لوقعنا بالتناقض، اذ كيف يمكن التوفيق بين اعتبار الارض خاشعة في الوقت الذي تكون فيه ميتة لم يتم إحياؤها بعد؟!

وكذا قوله تعالى: ((يقلّب الله الليل والنهار)) النور/ 4 4، وقوله: ((وارسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً)) الحجر/ 2 2، وقوله: ((وينزل عليكم من السماء ماءً)) الانفال/ 1 1، وقوله: ((ألم ترَ أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً)) النور/ 3 4، حيث لولا قرينة الواقع لربما كنا نفهم أن عمليات تقليب الليل والنهار وارسال الرياح وتنزيل الماء وزجي السحاب والتأليف بينه ثم جعله ركاماً؛ كل ذلك يجري بشكل مباشر منه تعالى من غير وسائط سننية.

كذلك قوله تعالى: ((تدمر كل شيء بأمر ربها)) الاحقاف/ 5 2، حيث يلاحظ من جهة الواقع ان الريح لا يمكنها ان تدمر كل شيء في عالم التكوين والخلق، وما تدمره انما هو أجزاء بسيطة مقارنة مع ما موجود على سطح الارض.

ومثله قوله: ((وآتاكم من كل ما سألتموه)) ابراهيم/ 4 3، وقوله: ((واوتيت من كل شيء)) النمل/ 3 2. ونحن ندرك - حسب الواقع - ان الله تعالى لم يعطنا كل ما نريد، ولعل المقصود كما يكشف لنا الواقع هو انه هيء لنا كل الحاجات والمتطلبات اللازمة لبقاء الانسان وكماله.

وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)) النحل/ 9 8. وواضح بأن الكتاب لم يبين كل شيء على اطلاق، لذا فلعل المراد هو تبيان المبادئ والاصول المتعلقة بالدين والهداية.

وكذا قوله: ((إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام)) لقمان/ 4 3. حيث لا يمكن حمل ما جاء في آخر الاية على معنى ان الله وحده المستأثر بعلم الذكورة والانوثة كما فهم ذلك المفسرون على ما سنرى.

كما نقرأ ما جاء في قوله تعالى: ((والله لا يهدي القوم الكافرين)) البقرة/ 4 6 2، وقوله: ((ان الله لا يهدي القوم الظالمين)) الانعام/ 4 4 1، وقوله ((ان الله لا يهدي القوم الفاسقين)) المنافقون/ 6. فمن منا يشك بأنه لا يمكن أخذ هذه النصوص على اطلاقها الظاهر لعلمنا واقعاً بهداية الكثير من الكافرين والظالمين والفاسقين.

وكذا يقال نفس الشيء بخصوص قوله تعالى: ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)) محمد/ 7. حيث بقرينة الواقع نعلم انه لا يمكن حمله على الظهور الاطلاقي.

وكذا قوله تعالى على لسان نوح (ع): ((إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجراً كفاراً)) نوح/ 7 2. ولا شك انه بقرينة الواقع لا يمكن حمل الاية على الظهور الاطلاقي، بل ان الواقع كاشف عن مضمون الاية ولكن من غير حتم ولا اطلاق، وذلك بفعل الضغط الاجتماعي.

وقوله تعالى: ((ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)) الملك/ 3. مع انه يوجد اختلاف في الخلق من جهة الاضداد والصغر والكبر وما الى ذلك، فالمراد إذن كما يبدو هو الخلل والعيب والنقصان ((فارجع البصر هل ترى من فطور)).

وقوله: ((ان الانسان خُلق هلوعاً)) المعارج/ 9 1. مع ان الانسان في حال خلقه لا يتصف بذلك، فالمعنى هو كونه مقدراً فيه الهلع، ويفسره ما جاء بعدها من الاية.

ومثله قوله تعالى: ((ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون)) المائدة/ 6 5. حيث من المعلوم ان حزب الله غُلب في زمن النبي (ص) وبعده مرات عديدة، لذا فبهذه القرينة من الواقع فسّره المفسرون بان المراد بالغلبة هو بالحجة والبرهان ( 6 2).

ومثل ذلك قوله تعالى: ((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)) النساء/ 1 4 1. اذ الواقع يدلنا على ان الكافرين تحكموا بالمؤمنين في كثير من الاحيان؛ مما يعني بانه ليس هذا المراد قطعاً ، لهذا اعتبر البعض ان المقصود بالسبيل هو الحجة والبرهان.

وكذا قوله: ((ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) التوبة/ 3 3. ونحن نعلم واقعاً ان الاسلام لم يغط الاديان الاخرى ، مما قد ينبئ بعودة الاسلام وظهوره التام.

ثم كيف نفسر النصوص التي تتحدث عن قضايا الواقع مجملاً من غير النظر اليه ومعرفة احواله، كالآيات الخاصة بالسنن الاجتماعية مثل آية التسخير وآية دفع الناس وآية ((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) الرعد/ 1 1، مع ان الكشف هنا متبادل بين النص كمجمل والواقع كمفصل؟ بل وكيف نفسر بعض القضايا العقائدية التي لها علاقة بالمشخصات الخارجية مثل قضية القضاء والقدر؟ حيث نعلم ان النصوص فيها متعارضة، وأن هذا التعارض لا ينكشف الا من حيث النظر الى الواقع ومعرفة قوانينه ( 7 2). لهذا انك لا تجد لهذه المشكلة حلاً داخل المألوف من نظامي الفكر الاسلامي (الوجودي والمعياري)، وذلك لتغييب الواقع عن الاعتبار والنظر، مما لا يسعنا تفصيل ذلك هنا.

مهما يكن فقد بدأنا نعمل فعلاً على فتح باب خطير من الدراسة المستجدة لما تستخلصه من مكامن النص وتدخله في ساحة مفتوحة لا تقبل الانغلاق ( 8 2). بل يمكن القول انه كلما ابتعدنا في فهمنا للنص عن الواقع ودلالته؛ كلما كان احتمال وقوعنا في الخطأ أكثر وأقوى، والعكس بالعكس.

***

مع هذا فالملاحظ من كل ما سبق ان الخطاب لم يؤسس لطريقة الواقع بشكل صريح. او انه - بعبارة أدق - لم يعلن صراحة ضرورة مراعاة الواقع في فهم النص. وعليه قد يقال: كيف يصح لنا ان نعتمد على الواقع كأصل وهو لم يستمد من قول الشارع صراحة؟

ولعل الجواب ببساطة ان الامر لا يحتاج الى مثل هذا الكشف الصريح اذا ما كان يعتبر ذلك من التلقائية التي لا يستغنى عنها عادة. حيث ان الواقع في جميع الاحوال معتمد كأصل أساس في السيرة العقلائية للناس، فلا يحتاج الى ذكره، مثلما لا يحتاج الى التصريح بمبادئ عامة صحيحة يستند اليها الناس وإن لم يفكروا بها عادة، مثل مبدأ السببية وامتناع اجتماع النقائض. بل ان العلماء يدركون الكثير من القضايا التي لا تُفهم من النص بمعزل عن بعض القرائن الخارجية الاخرى، كتلك المطلق عليها بمناسبات الحكم والموضوع، مثل آية ((حُرمت عليكم امهاتكم)) حيث فيها أمر محذوف، وهو بحسب الفهم العرفي يقدر بالنكاح. وكذا مثلها آية ((أُحلت لكم بهيمة الانعام)) حيث يقدر فيها ((الاكل)). وكذا آية ((والانعام حُرمت ظهورها)) المقدر فيها ((الركوب))، ومثل ذلك ((النفس التي حرم الله)) حيث يقدر فيها ((القتل)) ( 9 2). كما يدرك العلماء جدوى تلك التي لها ارتباط مخصوص بأسباب النزول والتي لها علاقة بوقائع محددة تكشف عن معنى لا يستبان من ظاهر النص ( 0 3). كذلك يدرك العلماء انه ليس كل ما لم يُصرح به مباشرة من الشرع لا يعبر عن مراد الشرع ( 1 3). فالقول بأصل العقل لم يصرح به كأصل، وكذا قاعدة المصالح والاستحسان ومقاصد الشرع، ومثل ذلك القياس والتعدي الى ما هو غير منصوص فيه. لذا فالاعتماد على مثل هذه الموارد لم يأتِ بحسب منطوق الشرع صراحة، انما هي من الموارد الاجتهادية التي اختلف على حجيتها الفقهاء. والعديد منهم كان ينتزع بعضاً من تلك الموارد بشكل غير مباشر بحسب ما يدل عليه الاستقراء وقرائن النصوص التي تصب في محور واحد من الفهم الدال على صحة الاصل المستدل عليه. والحال لا يختلف عما نحن بصدده من أمر الواقع، بل انه يفوق ما ذكرنا بكثير باعتباره مصدراً أولياً يدين له الخطاب بالحجية، كما ان بدونه لا يمكن ضبط فهم اغلب نصوص الخطاب.

الهوامش

( 1) جاء عن الامام الصادق (ع) قوله: ((ان القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه.. والقرآن كلام الله غير مخلوق..)) ( الصدوق: التوحيد، ص 7 2 2). وفي حديث آخر وردت لفظة مخلوق بمعنى مكذوب (المصدر، ص 5 2 2).

( 2) الاشعري، ابو الحسن: الابانة عن اصول الديانة، ص 0 4 وما بعدها.

( 3) الرازي: اصول الدين، ص 6 6.

( 4) المستصفى، ج 1، ص 2 2 1.

( 5) هناك عدد كبير من المرويات التي تبرز حالة نسخ التلاوة كما نقلها المحدّثون وسلم بها - عموماً - أهل السنة، خاصة وأن بعضها ورد في كتب الصحاح. وقد أُعيد اليوم طرح القضية من جديد باعتبارها مسألة شائكة ربما يكون الطعن فيها يعد طعناً في الحديث جملة، في حين أن قبولها يعد بنظر جماعة قولاً بالتغيير والتحريف، وهو ما وظفه بعض المحدّثين لأغراض مذهبية (لاحظ بهذا الصدد: العسكري، مرتضى: القرآن الكريم وروايات المدرستين/الكتاب الثاني، شركة التوحيد للنشر، ط 1، 7 1 4 1هـ ــ 6 9 9 1م).

( 6) الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، ج 1 ص 4 9 3 و 8 9 3.

( 7) الخوانساري: روضات الجنات، ج 4، ص 1 9 2.

( 8) السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 5 0 0 1.

( 9) المفيد: اوائل المقالات، ص 3 6.

( 0 1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ، ج 1، ص 6 7.

( 1 1) الاتقان، ج 2، ص 5 0 0 1.

( 2 1) فرانك، فيليب: فلسفة العلم، ص 4 6 3 وما بعدها. كذلك يحيى محمد: مدخل الى فهم الاسلام، ص 8 3 4ــ 9 3 4.

( 3 1) لاحظ: مدخل الى فهم الاسلام، ص 8 4ــ 9 4 و 0 4 3ــ 1 4 3.

( 4 1) يلاحظ بهذا الصدد ما قررناه في: الاسس المنطقية للاستقراء/ بحث وتعليق، ص 3 4 2 وما بعدها.

( 5 1) فمثلاً تارة يقال في اثبات قضية الصدق الالهي بأنه يمتنع على الله تعالى الكذب باعتبار أن القضية عائدة الى كلامه تعالى وهو من الصفات الذاتية كما تقول الاشاعرة. مع انه لا برهان على كونه من الصفات الذاتية، وقد اضطرت الاشاعرة الى هذا التقرير كي تصحح مسألة اثبات الرسالة على ما مر علينا. يضاف الى انه حتى مع افتراض كون الكلام هو من الصفات الذاتية، فما الذي يمنع ان يكون كلاماً كاذباً وليس صادقاً، اي انه اخبار بما لا يطابق حقيقة الأمر؟

كما يقال تارة اخرى في اثبات القضية بأن الله صادق لأن الكذب عليه قبيح، وهو منزه عنه لأنه غير مضطر ولا يحتاج اليه باعتبار ما هو عليه من صفة الكمال. مثلما ذهب الى ذلك المعتزلة والزيدية والامامية الإثنا عشرية. وهي قضية يناقش فيها من جانبين: الاول ليس كل كذب قبيحاً، بل قد يحسن ويجب في العديد من المواقف. كذلك فانه حتى مع قبح الكذب فان ذلك لا يلزم عنه ضرورة عدم ممارسته من قبل من لا يحتاج ولا يضطر اليه. لكن يظل ان ممارسة القبيح مستبعدة تماماً من جهة الاله لعدم الحاجة والاضطرار اليه، وذلك بحكم الوجدان العقلي وليس بفعل اللزوم المنطقي.

( 6 1) دور اللاشعور في الحياة، ص 5 6.

( 7 1) المصدر السابق، ص 6 6.

( 8 1) انظر: مدخل الى فهم الاسلام، ص 3 5 3 وما بعدها، وص 0 7 3 وما بعدها.

( 9 1) مدخل الى فهم الاسلام، ص 3 5 3ــ 8 5 3.

( 0 2) ابن رشد: فصل المقال، ص 7 2ــ 9 2. كذلك كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، ص 5 5 1.

( 1 2) اقبال: تجديد التفكير الديني في الاسلام، ص 4 4 1ــ 5 4 1.

( 2 2) جاء في (الكافي) للكليني ان هشام بن الحكم سأل الامام الصادق (ع) عن قول الزنادقة له: أيقدر ربك يا هشام على ان يدخل الدنيا في قشر البيضة من غير أن يصغر الدنيا ولا يكبر قشر البيضة؟ فأجاب الصادق بقوله: يا هشام انظر أمامك وفوقك وتحتك واخبرني عما ترى. قال هشام: أرى سماءً وارضاً وجبالاً وأشجاراً وغير ذلك. فقال الصادق: الذي قدر أن يجعل هذا كله في مقدار العدسة، وهو سواد ناظرك، قادر على ما ذكرت. وقد استشكل الشريف المرتضى هذه الرواية واعتبر مفادها هو تجويز المحال (رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 9 0 4).

( 3 2) النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، ج 1، ص 4 8 2.

( 4 2) الاشعري: اللمع، ص 6 6، مطبعة مصر، 5 5 9 1م.

( 5 2) عن: عويس، منصور: ابن تيمية ليس سلفياً ، ص 3 3. يلاحظ ان ابن تيمية يرى ان آية ((واسأل القرية)) وما شاكلها لا تدل على المجاز باعتبار ان القرية بحسب القرآن تأتي بمعنى الساكنين (ابن تيمية: الايمان، ص 1 0 1ــ 2 0 1). وهو موقف يتعلق بنظرية ابن تيمية في المجاز.

( 6 2) مسائل الرازي في غرائب آي التنزيل، ص 3 7.

( 7 2) انظر ما اشرنا اليه بهذا الصدد: مدخل الى فهم الاسلام، ص 5 3.

( 8 2) على العموم سنتناول فيما بعد علاج هذه العلاقة التي تربط الواقع بالنص على المستوى المعرفي، وذلك من خلال ابراز الكيفيات التي يتدخل فيها الواقع في فحصه وضبطه لفهم النص. فقد اجرينا تقسيماً تراتبياً تتوضح من خلاله أنماط التأثير الذي تباشره الدلالة الواقعية في الكشف عن معنى النص وفهمه. ففي الاساس ان علاقة الواقع بالفهم تتحدد من خلال محورين رئيسيين، اطلقنا على الاول بالفحص الصدوري وعلى الاخر بالفحص الدلالي. حيث يوظف الواقع في الفحص الاول لأجل تحديد درجة التصديق الخاصة بصدور النص، وهو يتعلق بعالم الرواية والحديث لعلمنا بقطعية صدور النص القرآني. ونحن نعلم ان ابن خلدون سبق ان طرح منهجاً في فحص الاخبار طبقاً للتقسيم الذي وضعه من حيث الاستحالة والامكان. وحقيقة الامر ان الفحص من خلال الواقع يبدي صوراً اكثر مما ابداه هذا المفكر الاجتماعي. فمن الاخبار ما يدخل ضمن عناوين الاستحالة او النفي او الاستبعاد او القبول او ما ينتظر فحصه. أما ما نقصده بالفحص الدلالي، فهو عبارة عن الكشف عن دلالة النص بالاستناد الى الواقع. وهو ينقسم الى انماط من الكشف؛ كالكشف التوقيفي والاشكالي والتوجيهي والتفسيري وما ينتظر الكشف عنه. وفي الكشف التوجيهي نجد صورتين اطلقنا على الاولى بنفي الظهور الاطلاقي وعلى الاخرى بنفي الظهور الدلالي. كما ان الكشف التفسيري ينقسم الى بابين لكل منهما تقسيماته؛ أحدهما عبارة عن التفسير الخاص بالحالة، ويشمل انماطاً مختلفة مثل نمط المطابقة والترجيح والتقييد الظرفي وما اليها، اما الاخر فهو عبارة عن التفسير السنني الذي قسّمناه الى ما هو تجزيئي وما هو توحيدي. وهذا الاخير منه ما هو شهودي، ومنه ما هو ما ورائي(غيبي)؛ مثلما هو الحال في تفسير مسألة القضاء والقدر.

( 9 2) المظفر: اصول الفقه، ج 1، ص 1 0 2ــ 2 0 2. كذلك: السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، ج 3، ص 3 6.

( 0 3) من ذلك ما ورد فيما اشكل على مروان بن الحكم في قوله تعالى: ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم)) آل عمران/ 8 8 1. اذ قال لئن كان كل امرئ فرح بما أُُوتي وأحب ان يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذَّبن اجمعون، حتى بين له ابن عباس ان الاية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي (ص) عن شيء ، فكتموه إياه، واخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه. كذلك جاء في قوله تعالى: ((الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون)) الانعام/ 2 8، فقال البعض أينا لم يظلم؟، فأوضح النبي بأن الأمر خاص بالشرك، حيث ((ان الشرك لظلم عظيم)). كما حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان ان الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)) المائدة/ 3 9. فعلق على ذلك البعض بأنهما لو علما سبب نزول هذه الآية لم يقولا ذلك، وهو ان ناساً قالوا لما حُرمت الخمر: كيف بمن قُتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت تلك الاية. ومن ذلك ايضاً ما ذكره الشافعي في دفع توهم الحصر في قوله تعالى ((قل لا أجد في ما اوحي اليّ محرماً على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دماً مسفوحاً او لحم خنزير فانه رجسٌ او فسقاً أُهلّ لغير الله به)) الانعام/ 5 4 1، اذ ذكر ان الكفار لما حرموا ما أحل الله كانوا على المضادة والمحادة، فجاءت الاية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال الا ما حرمتموه، ولا حرام الا ما احللتموه، والغرض المضادة لا النفي والاثبات على الحقيقة. وقد علق امام الحرمين على ذلك بقوله: لولا سبق الشافعي الى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات في ما ذكرته الآية (الاتقان، ج 1، ص 3 9ــ 7 9).

( 1 3) سبق ان اثار الاشعري شبهة من هذا القبيل حول تمسك الحنابلة برفض الخوض بالكلام استدلالاً من حيث انه لم يرد عن النبي واصحابه أي شيء حوله، وقد رد الاشعري بأن بعض القضايا الفقهية المتداولة، كالنذور والوصايا والعتق، هي أيضاً لم ترد عن النبي، وذلك في رسالته (استحسان الخوض في علم الكلام، ص 2 1).

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار