تاريخ التقليد والادلة عليه
يحيى محمد
التقليد في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلّد الإنسان غيره بها، ومنه يكون المقلّد جاعلاً للحكم الذي قلّد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلّده( 1). وفي أصل الإستعمال يعّرف التقليد بأنه عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة مُلزمة( 2)، أو من غير حجة فحسب( 3). ومثاله أخذ العامي والمجتهد بقول مثله. مع ذلك سُمي أخذ المقلّد بقول المفتي تقليداً عرفاً( 4). وعليه عُدّ - في هذه الحالة - لدى الذين جوزوه بأنه عبارة عن عمل العامي بقول المفتي بحجة مُلزمة. فهو من هذه الناحية عبارة عن إتباع المجتهد فيما ينتهي إليه نظره دون أن يعلم دليله على المسألة. وهو باختصار عبارة عن إتباع من هو عاجز عن الفحص لمن هو قادر عليه بالإجتهاد.
فمن تعريفاته هو أنه >أخذ فتوى الغير للعمل به<. أو أنه تطبيق العمل على فتوى الغير. أو هوعبارة عن >الإلتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل به بعد، ولا أخذ فتواه<( 5).
لكن هذه التعاريف لقيت نقداً من قبل المحقق الخوئي؛ الذي قدم تعريفاً آخر يتناسب مع كل من المفهوم اللغوي والعرفي، فذكر أنه عبارة عن >الإستناد إلى قول الغير في مقام العمل<، وبالتالي يكون معنى أن يقلّد العامي المجتهد هو أنه يجعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه، وليس معناه الإلتزام أو الأخذ أو غير ذلك مما لا يوافق المعنى اللغوي. وعلى رأي الخوئي أنه اذا فسرنا التقليد بالإلتزام فإن معنى تقليد المجتهد يرجع إلى أن العامي يجعل فتوى المجتهد وأقواله قلادة لنفسه، لا أنه يجعل أعماله قلادة في رقبة المجتهد. لذلك فالمناسب على رأيه هو التعريف الثاني لا الأول( 6).
وبنظر السيد محسن الحكيم إن إختلاف التعاريف في معنى التقليد لا يغير من حقيقة وحدة مراد العلماء من أنه عبارة عن العمل بقول الغير( 7).
على أن مفهوم التقليد لما كان يعني إتباع قول المجتهد ورأيه سواء بالأخذ أو العمل أو غير ذلك؛ فإنه من هذه الجهة لم يكن معروفاً في عصر النص وظلاله. فقد كان الناس في عصر النبي ـ والأئمة ـ والصحابة والتابعين يأخذون معالم دينهم عبر عملية تدعى بالإتباع. وهي تعني إتباع أقوال النبي والأئمة وسيرتهم، ولو بصور غير مباشرة من خلال ما يكشف عنها من سيرة الصحابة والتابعين أو من حيث نقل الناقلين. حتى قيل أن الناس آنذاك كانوا لا يتبعون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم ؛ فيمشون حسب ذلك. بل حتى مع ظهور المذاهب وشيوعها إذا وقعت لهم واقعة إستفتوا فيها أي مفت وجدوه من غير تعيين مذهب محدد( 8). وهو أمر وإن كان لا يخلو من تقليد، لكنه ليس تقليداً لشخص بعينه، فربما يراد من ذلك إعتبار الفقهاء تابعين أكثر من كونهم مجتهدين.
مهما يكن فالظاهر أن التقليد أو إتباع أقوال أصحاب الرأي والإجتهاد من دون تمحيص لم يحدث بصورة واعية إلا بعد وقت متأخر عن عصر التابعين. وعلى رأي إبن حزم إنه لم يكن للتقليد أثر في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، إنما بدأ أول الأمر بعد (سنة 0 4 1هـ)، ومن ثم شاع وعمّ بعد المائتين من الهجرة، فندر من لم يلتزم به ويعول عليه( 9). وإن كان قد ذكر في إحدى رسائله أنه حدث في القرن الرابع الهجري( 0 1). كذلك جاء في كتاب (أعلام الموقعين) لإبن القيم الجوزية أن التقليد لم يعرف على وجه الضرورة واليقين في عصر التابعين وتابعي التابعين، إنما حدث في القرن الرابع الهجري( 1 1). وهو يقول في معرض ردّه على دعاة التقليد: >إنا نعلم بالضرورة، انه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع اقواله، فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئاً. ونعلم بالضرورة ان هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين. فليكذبنا المقلدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة، في القرون الفضيلة على لسان رسول الله (ص)<( 2 1). وأيد ابو زهرة كون التقليد ابتدأ منذ القرن الرابع الهجري لكنه كان تقليداً جزئياً ابتداءً، ثم أخذ يتسع نطاقه حتى صار تقليداً كلياً في آخر العصور<( 3 1).
والذي يهمنا بالفعل هو أن هناك فرقاً بين التقليد والإتباع لم يكترث له الكثير من الفقهاء في الساحتين السنية والشيعية، فحسبوه أمراً واحداً، الأمر الذي جعلهم يستدلون على صحة التقليد بالاستناد إلى دليل الإتباع المممارس في عصر الصحابة والتابعين. فالكثير منهم يذكر في معرض تقديم الأدلة على التقليد بأن الناس كانوا يقلّدون الصحابة والتابعين وأصحاب الأئمة - كما عند الشيعة - بأخذ الفتوى عنهم( 4 1). بل البعض يسمي حتى الأخذ عن النبي بأنه تقليد كما هو الحال مع الشافعي، وإن كان يريد بذلك القبول من غير سؤال، ولم يرد ما هو مصطلح عليه( 5 1). ومن الواضح أن ذلك ليس بالتقليد الذي يريده الفقهاء من حيث أنه عبارة عن الأخذ بالرأي، ففارق عظيم بين إتباع النص سواء كان آية أم رواية أو ما يكشف عنه من سيرة؛ وبين إتباع الرأي الذي هو عبارة عن سلسلة من النظر والتفكير والمماحكة بين الأدلة. فموارد الاتباع ليست موضعاً للاجتهاد المفضي الى الظن بخلاف موارد التقليد. لهذا قال الشيخ ابو محمد المقدسي وبعض الشافعية: >ليس الاخذ بقوله عليه السلام تقليداً؛ لان قوله حجة لما سبق وعرف في مواضعه، والتقليد اخذ السائل بقول من قلده بلا حجة ملزمة له يعرفها<( 6 1).
التقليد بين الحرمة والحلية
لم يتفق العلماء - كما هو معلوم - على رأي واحد حول تحديد الحكم الخاص بالتقليد إن كان يجوز أو لا يجوز. فالظاهر أن القدماء منهم ذهبوا إلى الحرمة، وذلك وقت ظهور المدارس الفقهية. في حين مال أغلب المتأخرين إلى حليته.
فقد نُقل أن السلف ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة كانوا ينهون عن الأخذ عنهم بالتقليد. فقد جاء عن ابن مسعود قوله: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن، وإن كفر كفر. وقال: لا يكن أحدكم إمَّعة يقول: إنما أنا رجل من الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت. وقال لرجل: لا تقلد دينك أحداً، وعليك بالأثر. وقال المفضل بن زياد: لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا ان يغلطوا( 7 1). كما جاء عن ابن عباس انه قال: >ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو اعلم برسول الله (ص) منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع<. ومن ذلك قول أبي حنيفة وأبي يوسف: >لا يحل لأحد أن يقول قولنا حتى يعلم من أين قلناه<( 8 1). أو قوله: >حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي<( 9 1). وقول مالك: >إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتروكوه<( 0 2). وما اشار اليه الشافعي في رسالته( 1 2)، وكذا ما قاله: >مثلُ الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهولا يدري<( 2 2). وقد نقل إسماعيل بن يحيى المزني عن الشافعي أنه كان ينهى عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه( 3 2). وجاء عن إبن حنبل إنه قال: >لا تقلّد في دينك أحداً... ما جاء عن النبي (ص) وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير<( 4 2). وهو بذلك يفرق بين التقليد والإتباع. كما جاء عنه قوله: >لا تقلّدني ولا تقلّد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا<، وقوله: >من قلة فقه الرجل ان يقلّد دينه الرجال<( 5 2). وقد شاع عن ابن حنبل ومذهبه بعدم اقرار التقليد وان لكل انسان وسعه في الاجتهاد من غير اقرار لسد بابه على خلاف ما حصل لدى سائر المذاهب الثلاثة الاخرى( 6 2). وكذا الحال مع مذهب الظاهرية التي أوجبت الاجتهاد على الكافة بما فيهم العامة من الناس( 7 2). وجاء عن عبد الله بن المعتمر قوله: >لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلّد<. ونقل القرافي المالكي أن مذهب مالك وجمهور العلماء هو أنهم يقولون بوجوب الإجتهاد وإبطال التقليد( 8 2).
وذُكر أنه كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى إبن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله إبن دينار وذووه لم يجبهم، فتعرض له إبن دينار يوماً فقال له: يا أبا بكر لِمَ تستحل مني ما يحل لك؟ فقال له: يا إبن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذووي فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك يا إبن أخي؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرتْ سني ودقّ عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقاً قبلاه وإن سمعا خطأً تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه( 9 2).
كما ذُكر أنه إضطجع ربيعة يوماً مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياء ظاهر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم؛ ما نهوهم عنه إنتهوا، وما أُمروا به إئتمروا( 0 3).
لكن مع ذلك ينقل عن بعض المتقدمين ما ظاهره جواز التقليد، كقول محمد بن الحسن: >يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله<( 1 3)، وكذلك قول الشافعي في أكثر من موضع: قلته تقليداً لعمر.. وقلته تقليداً لعثمان.. وقلته تقليداً لعطاء( 2 3). لذلك يُنقل عن الشافعي في رسالته القديمة أنه يجيز تقليد أيٍّ من الصحابة دون من سواهم. كما نُقل عن إبن سراج قوله: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه إذا تعذّر عليه وجه الإجتهاد. بل نُقل عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري قولهم بجواز تقليد العالم للعالم مطلقاً. كما نُقل عن أبي حنيفة روايتان. ونُقل عن بعض أهل العراق قوله بجواز تقليد العالم فيما يفتي به وفيما يخصه( 3 3).
ومن الواضح أن بعض تلك الأقوال يمكن حملها على إرادة التقليد حين العجز عن الوصول إلى حقيقة موقف الشارع المقدس، خاصة فيما يتعلق بقول الشافعي الذي سبق أن رأينا أنه لا يقر التقليد مبدئياً. لذلك نجد إبن القيم يسوّغ مثل هذه الحالة من التقليد للإضطرار، ويرى أن غاية ما نُقل عن أئمة المذاهب هو أنهم قلّدوا في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلّدوه. وهو قد إعتبر هذه الطريقة هي فعل أهل العلم، وبالتالي فهي الواجبة لأن التقليد إنما يباح للمضطر( 4 3). أما مبدئياً فهو لا يرى جواز تقليد أحد، بل يذهب كما ذهب إبن حزم بأنْ تُعرض أقوال الرجال على الكتاب والسنة ويؤخذ ما يوافقهما ويُعرض عما يخالفهما، معتبراً ذلك مما أمر الشارع به( 5 3).
أما المتأخرون من الفقهاء فأغلبهم مال إلى جواز التقليد، بينما ذهب القليل منهم إلى التحريم كإبن حزم في مختلف كتبه( 6 3)، وإبن تيمية وتلميذه إبن القيم الذي ذكر في (اعلام الموقعين) واحداً وثمانين وجهاً على بطلان التقليد( 7 3)، وكذا الحال مع أبي عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي الذي يعرف التقليد بأنه الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وهو ممنوع في الشريعة، على خلاف الإتباع الذي يعدّه مما ثبتت عليه الحجة( 8 3). وكذا هو رأي الامام الشوكاني كما في رسالته (القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد) وما بحثه في الفصل الثاني من كتابه (إرشاد الفحول)( 9 3). كما نُقل عن جمع من معتزلة بغداد أن العامي لا يجوز له أن يقلّد أو يأخذ بقول أحد إلا أن يبين له حجته( 0 4).
* * *
أما في الإتجاه الشيعي فقد مال الغالبية في عصر الغيبة خصوصاً المتأخرين إلى حلية التقليد، بينما ذهب القليل منهم إلى تحريمه صراحة، كما هو الحال مع السيد إبن زهرة الذي أعلن ذلك بقوله: >لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي، لأن التقليد قبيح ، ولأن الطائفة مجمعة على أنه لا يجوز العمل إلا بعلم. وليس لأحد أن يقول قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على القبيح ويقتضي إسناد عمله إلى علم؛ لأنا لا نسلم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، وهو موضوع الخلاف. بل إنما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأما ليعمل بقوله تقليداً فلا. فإن قيل: فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز له العمل بقوله؟ قلنا: الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين<( 1 4).
وقد جاء في كتاب (الذكرى) أن تحريم التقليد كان إعتقاد بعض الأصحاب وفقهاء حلب( 2 4). ووافقهم على ذلك من المتأخرين جماعة من الإخبارية على رأسها مؤسس المذهب محمد أمين الإسترابادي، وتابعه آخرون على رأسهم الحر العاملي صاحب (وسائل الشيعة) ( 3 4).
كما نقل الشريف المرتضى طعن قوم في صحة الإستفتاء، وأن على العامي أن يكون متمكناً من إصابة الحق في الأُصول والفروع، وإذا لم يتمكن فهو خارج عن التكليف؛ فلا محرم عليه ولا واجب، بل حكمه حكم البهائم. لكن المرتضى لم يشخّص من هم هؤلاء القوم الذين كانوا يحرمون الإستفتاء، فهل هم يعودون إلى جماعة من الطائفة الإمامية الإثني عشرية أم إلى غيرها( 4 4).
وجاء عن الشيخ الطوسي المعد أول من فتح باب الإجتهاد المطلق ما هو ظاهر في تحريم التقليد، كما في كتابه (تلخيص الشافي)، فبعد تقريره بأن القياس وأخبار الآحاد والإجتهاد لا يجوز التعبد بها؛ يعود فيقول: >إن العامي لا يجوز أن يقلّد غيره بل يلزمه أن يطلب العلم من الجهة التي تؤدي إلى العلم<( 5 4). وإن كان نصّه هذا لا يدل على التحريم المطلق، بل قد يكون مراده أن الأصل لا يجوز التقليد فيه، وهو متفق عليه وإلا دار الأمر أو تسلسل، كما قد يكون مراده ما يخص العقائد بقرينة أن البحث الذي كان يبحثه إنما يتعلق بالإمامة.
أما الشريف المرتضى وإبن إدريس الحلي فمن حيث إعتبارهما يمنعان صراحة الظن في الأحكام الشرعية؛ فربما لهذا يذهبان إلى تحريم التقليد ما لم يفضِ إلى العلم أو القطع، مما يعد عائداً إلى الإتباع أو أنه متسق معه( 6 4).
أدلة التقليد
يمكن القول طبقاً للنصوص الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة وذم الرأي والظن أن التقليد من حيث أنه إتباع آراء الرجال على سبيل الظن فإن الأصل فيه عدم الجواز، إلا للضرورة والإضطرار من حيث القصور والعجز عن الوصول إلى معرفة الأحكام لدى الذين لم يدركوا عصر النص ولم يتمكنوا من الإجتهاد.
فالتقليد كالإجتهاد كلاهما لا يصحان لولا الإضطرار والضرورة التي فرضها غياب قرائن العلم نتيجة الإبتعاد عن عصر النص وبعد الزمان وظهور الوقائع الجديدة . والفارق بينهما هو أن التقليد متوقف على الإجتهاد، فلولا هذا الأخير ما كان الأول، والعكس ليس صحيحاً من حيث أن الأخير ليس متوقفاً على الأول. يضاف إلى أن الإجتهاد متقدم على التقليد، اذ لو كان الفرد متمكناً منه لما جاز عليه أن يتبع قول غيره. فعقلاً إن من غير المنطقي أن يأخذ الفرد برأي غيره وهو يراه خطأً. بينما يُفترض في المقلّد أن لا يكون له رأي خاص من الناحية العلمية، وبالتالي فليس له وظيفة سوى إتباع من هو أهل للإختصاص.
وأقرب ما جاء من النقل على تحريمه ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي (ص) وهو يكشف عن معنى قوله تعالى: ((إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله))، حيث قال (ص): >إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً إستحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه<( 7 4).
مهما يكن فالذي يبرر جواز التقليد هو كون أكثر الناس ليس بوسعهم ممارسة عملية الإجتهاد والإختصاص في ميدان الفقه، باعتبار أن العملية تحتاج إلى نوع من التفرغ الخاص لا تتم إلا على حساب تقليص النشاط في سائر نواحي الحياة وميادينها، سواء العملية منها أو العلمية. مما يعني أن من المحال على الناس أن يكونوا كلهم مجتهدين، اذ على هذا الفرض تصبح الحياة معطلة وعسيرة لا تطاق، وذلك باعتبار أنها تحتاج إلى ما يشغلها من الممارسات الحياتية الأُخرى كما هو واضح.
ومن المبالغ به ما صوّره دعاة نفي التقليد من أن عملية معرفة الأحكام سهلة يسيرة يمكن أن يزاولها أيّ فرد مسلم. اذ ذُكر أن أُصول الأحكام عبارة عن خمسمائة حديث تقريباً، وتفاصيلها تبلغ حوالي أربعة آلاف حديث، وأن المسلم ليس بمكلف أن يعرف إلا ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه معرفة ما لا تدعوه الحاجة، وبالتالي فليس هناك من تضييع لمصالح الخلق وتعطيل معاشهم( 8 4). ومثل ذلك ما ذهب إليه الإخباريون في الإتجاه الشيعي من وجوب التعويل على ما هو مدوّن في الكتب الشيعية المعتبرة وعلى رأسها الكتب الأربعة للمحمدين الثلاثة، وهي كتاب (الكافي في الأُصول والفروع) للشيخ الكليني (المتوفي سنة 8 2 3هـ)، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (المتوفي سنة 1 8 3هـ)، وكتابا (التهذيب والإستبصار) للشيخ أبي جعفر الطوسي (المتوفي سنة 0 6 4هـ).
والواقع أن وجود التعارض في الأخبار والملابسات التي تكتنفها مع مشاكل السند والمتن؛ كل ذلك يجعل من الصعب على المسلم العادي أن يبلغ مرتبة الإجتهاد والإختصاص، وإن كان بإمكانه أن يزاول طريقة أُخرى لا تمت إلى التقليد بصلة، وهي طريقة النظر التي سنطّلع عليها فيما بعد.
مع ذلك يمكن القول أنه لا يوجد دليل من الأدلة التي قُدمت لإثبات جواز التقليد إلا وهو دخيل أو قابل للطعن، سواء تلك المستمدة من الكتاب أو السنة أو دعوى الإجماع أو ملاحظة السيرة العقلائية أو غير ذلك. حتى أن البعض ممن جوّز العمل به قد ضعّف أغلب أنواع تلك الأدلة، ولم يعثر على دليل مباشر مستمد من الشرع، كما هو الحال مع الشيخ المنتظري الذي إعتبر العمدة في قبوله هو البناء العقلائي، بل إنه لم يعد ذلك تقليداً على ما سنرى. كما أن الآخوند الخراساني هو الآخر إعتبر ذلك البناء هو العمدة، أما ما عداه فأغلبه قابل للمناقشة( 9 4).
الأدلة السنية ومناقشتها
قدم علماء الإتجاه السني عدة أدلة على جواز التقليد، وذلك من الكتاب والسيرة والإجماع والعقل. فمن الكتاب إستدلوا بقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))( 0 5)، حيث أُعتبرت الآية عامة في السؤال لكل ما لا يُعلم، أو من حيث أن فائدة السؤال هو الإتباع لأهل الذكر أو العلماء، وهو المعبّر عنه بالتقليد( 1 5)، مع أن الآية ليست بصدد التقليد ولا الأُمور الفرعية، اذ هي بصدد إثبات النبوة كما يُنبئ عن ذلك صدر الآية: ((وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي لهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))( 2 5). يضاف إلى أنه حتى لو سلمنا أنها واردة في عموم السؤال فلا دلالة لها على الأخذ بآراء الرجال، إذ كل ما يظهر منها هو طلب العلم بالإستعلام عن حكم الله لا الظن الذي يفضي إليه الرأي والإجتهاد.
ومن الإجماع والسيرة إستدلوا بأن العامة من الناس في زمن الصحابة والتابعين كانوا لا يتوقفون عن إستفتاء الفقهاء وإتباعهم في الأحكام الشرعية، وقد كان العلماء يبادرون إلى الإجابة دون نكير، مما يعني أن الإجماع قائم على جواز إتباع العامي للمجتهد مطلقاً( 3 5). والظاهر أن هناك لبساً بين التقليد وبين الإتباع، فلا شك أن الإتباع من حيث أنه عبارة عن الأخذ بما ينقل بالرواية أو المضمون عن الشرع فإنه لا خلاف عليه، ويمكن أن يدّعى في شأنه الإجماع. أما التقليد فالأمر يختلف، ذلك أنه عبارة عن إتباع الرأي الذي يظن أنه مفاد مراد الشرع، وهذا ما لا دليل على حصول الإجماع في جواز العمل به. اذ كل ما هو معلوم أن الأُمة وقت الصحابة والتابعين كانت تتبع العلماء لمعرفة شؤون دينهم؛ فإما أن يكون عملها هذا هو نفس ما يُطلق عليه الإتباع من حيث إنه كاشف عن مضمون الشرع بالعلم والإطمئنان، أو هو عبارة عما يُطلق عليه التقليد من حيث إنه إتباع للرأي المظنون. وقد يكون هناك من يتبع العلماء المجتهدين وهو يتصور أن إستنباطاتهم لا تعبر إلا عن العلم واليقين بمراد الشرع كما هو حاصل اليوم لدى الغالبية من الناس العوام، فما بالك في ذاك الزمان الذي لا يبعد عن عصر النص؟!
لهذا فالمتصور أن الناس في ذلك الزمان بعضهم يقتفي أثر الإتباع في أخذ الرواية والحديث، وبعض آخر يكتفي بمضمون الحكم الشرعي من حيث هو حكم الشرع، وبعض ثالث يبادر إلى السؤال عن المصدر ودليل القول بالفتوى، وبعض رابع يتبع العالم المجتهد إعتقاداً منه إنه مجرد مدرك للحكم الشرعي على نحو العلم والقطع. لكن من المستبعد أن نجد في ذلك الوقت أحداً يتبع المجتهد وهو يعتقد أنه يعمل بالرأي الذي يفضي إلى الظن، إلا إذا افترضنا أنه لم يجد من يفتي في مسألته سواه. لهذا كان إبن حنبل مع أنه من المتأخرين عن تلك الفترة يرجح الأخذ بضعيف الحديث على الأخذ بالرأي( 4 5).
على ذلك فالمؤاخذة التي يؤاخذ عليها القائلون بدليل الإجماع في السيرة التي كانت أيام الصحابة والتابعين هو أنهم لم يميزوا بين الإتباع والتقليد، وكأنهم جعلوا كل ما عنوانه إتباعاً بحسب الإصطلاح يفيد التقليد الذي إتخذوه عنواناً عاماً يشمل المفهومين المتمايزين معاً حتى طبقوه أحياناً على إتباع قول النبي كما سبق أن عرفنا.
كذلك إستدل العلماء بدليل الإنسداد العقلي، حيث أن من ليس له أهلية الإجتهاد إما أن لا يكون متعبداً بشيء من الفروع والجزئيات التي عليها مدار الإختلاف، أو أنه متعبد بها، لكن الفرض الأول لا يصح بلا خلاف، وأن من صفته تلك لا يصح أن يطالب بالنظر في أدلة الحكم والإجتهاد؛ باعتبار أن ذلك يشغله عن المعاش وبالتالي تتعطل الصنائع والحرف ويتحقق بذلك الحرج والضرر المنفي في قوله تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))( 5 5)، وبهذا يثبت جواز التقليد( 6 5).
والواقع أن هذا الدليل يصح من حيث الإضطرار كما نبهنا على ذلك في أول الحديث. لكن مع ذلك فإنه لا يصح على إطلاق، اذ يمكن أن تكون هناك طريقة وسطى بين الإجتهاد والتقليد، وهي ما نطلق عليها >طريقة النظر< كما سنعرف. وقد وجدنا بعض الفقهاء المتأخرين من أشار إلى وجود فئة يمكن أن تتوسط بين طبقتي المجتهدين والمقلّدين كما هو الحال مع الإمام الشوكاني في كتابه (إرشادالفحول)( 7 5)، وإن كانت إشارته عابرة وقاصرة كما سيأتينا ذكرها فيما بعد.
الأدلة الشيعية ومناقشتها
أما الأدلة التي قدمها الإتجاه الشيعي على صحة التقليد فهي كالآتي:
دليل الكتاب
من الأدلة التي أُقيمت لإثبات جواز التقليد ما أفاده البعض من آية الانذار: ((وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون<( 8 5). فالآية على ما ذكر فيها قولان: أحدهما أن معناها هو لولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم، فيخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي، وهو قول الأكثر( 9 5). ولاشك أن هذا القول ليس له علاقة بالتقليد لا من قريب ولا من بعيد.
أما القول الآخر فالمعنى هو لولا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهو قول الشافعي وجماعة من المفسرين، وهو كذلك مدار البحث لدى العلماء القائلين بالتقليد. حيث إستدل البعض بأن الآية يفاد منها وجوب الحذر حين الإنذار الذي يبديه الفقيه، وحيث أن الآية قد أطلقت دون أن تجعل الحذر مقيداً بحصول العلم من إنذار المنذرين؛ لذا فإن الحذر واجب عقيب الإنذار سواء حصل العلم للمتحذر أم لم يحصل. وبذلك فإن الآية تدل عند هذا البعض على وجوب التقليد في الأحكام من حيث وجوب الحذر بإنذار الفقيه، وبالتالي إتباع فتواه حتى لو كانت ظنية( 0 6).
والواقع أن صحة هذا الدليل أو بطلانه يتوقف على ما يمكن أن يفاد من الآية في الدلالة على حجية الإجتهاد. فالذي إعتبر الآية دالة عليه علماً وظناً فإن بإمكانه أن يستدل بها على التقليد أيضاً. أما اذا لم يرَ في الآية دلالة على حجية الإجتهاد المفضي إلى الظن؛ فإنه لا يمكن أن يستنبط منها الحكم بجواز التقليد. وقد سبق أن أوضحنا بأن ظاهر الآية ليس هو الإطلاق اللفظي من حيث وجوب الحذر وإتباع أخذ الفتوى من الفقيه علماً وظناً، بل ظاهرها هو التقييد بالعلم، لأن خطاب الآية ليس منفصلاً عن سائر النصوص الأخرى التي تحث على العلم وتنهى عن الظن، وهو أمر يؤكده الحال الذي كان عليه التعامل في عصر النص. لذلك لا مجال للتعميم والتعويل على الإطلاق اللفظي. ويؤيد هذا ما ذكره الآخوند الخراساني في (الكفاية) من أنه ليس لدلالة هذه الآية ولا آية السؤال على جواز التقليد لقوة إحتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم، لا الأخذ بالتقليد والظن تعبداً( 1 6).
ومما يقوي كون هذه الآية لم تأتِ بصدد جعل الحجية التعبدية للرأي والظن؛ ما ورد في تفسير الإمام الصادق لها بقوله: >فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (ص) فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم<( 2 6). فبحسب هذا الحديث أن العبرة بأخذ العلم، ثم بعد ذلك تعليمه وإذاعته بين الآخرين، وليس في ذلك دلالة على الظن ولا الرأي والإجتهاد.
كما أُستدل على جواز التقليد بآية السؤال أو الذكر، مع أن الآية ليس لها دلالة على هذا المورد كما سبق أن عرفنا. لذلك لم يعول عليها العديد من العلماء القائلين بجواز التقليد( 3 6).
دليل الأخبار
هناك الكثير من الأخبار الدالة على حجية إتباع الناس للعلماء من حيث إبلاغهم العلم والفتوى عن الشارع المقدس، لكن المتأخرين ممن بحثوا في الإجتهاد فهموها على معنى التقليد، حتى جعلها البعض مخصصة لما دل على عدم جواز إتباع غير العلم وذم التقليد من الآيات والروايات، كما هو الحال مع الآخوند الخراساني( 4 6). فالأخبار التي وردت بهذا الصدد منها ما يتعلق بمدح العلماء والرواة باعتبارهم يقومون بتبليغ الأحاديث وبيان الأحكام الشرعية، ولازمه القبول عنهم( 5 6). ومنها ما يتعلق بحَثّ الناس إلى الرجوع إليهم فيما لا يعلمون، سواء كان عموماً أو تشخيصاً( 6 6). كما أن منها ما يتعلق بالترغيب في الإفتاء، ولازمه قبول فتاواهم، وفي بعض الأخبار أن الإفتاء الجائز هو ذلك القائم على العلم لا غير( 7 6). كذلك منها ما دل على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء وإيجاب القبول لحكمهم( 8 6).. إلى غير ذلك من الروايات.
لكن الملاحظ أن جميع طوائف تلك الروايات لها دلالة على الإتباع المستند إلى العلم دون الظن، وليس لها دلالة على التقليد المنبني على إتباع ظن المجتهد تعبداً. فأقربها علاقة بالموضوع تلك التي تتعلق بحث الناس إلى الرجوع إلى الفقهاء، مثل توقيع الحجة: >وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم<، لكن الرواية ضعيفة، حيث رواها إسحاق بن يعقوب وهو مجهول الحال، وجاء في السند محمد بن محمد بن عصام ولم تثبت وثاقته هو الآخر كما رأينا من قبل، إضافة إلى أنها دالة على الرجوع إلى الرواة لا المجتهدين.
كذلك ما ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع)، اذ فيه الرواية الوحيدة التي تتعلق بالتقليد مباشرة: >فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم<( 9 6)، إلا أن الرواية ضعيفة ومرسلة، حيث فيها عدد من المجاهيل، يضاف إلى أنها وردت بخصوص نقد عوام اليهود وتقليدهم( 0 7). بل نظراً إلى سائر النصوص التي تأخذ العلم كقيد في الإتباع فإنه حتى مع التسليم بهذه الرواية لا بد من أن تُحمل بأن المراد بالتقليد هو إتباع ما يفيد العلم لا الإجتهاد المفضي إلى الظن.
أما الروايات المتعلقة بإرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء؛ فإضافة إلى أنها تريد بالفقهاء الرواة المميزين، فهي كذلك لا دلالة لها على التقليد، للفارق بين قبول القضاء وبين أخذ الفتوى، إذ التعدي من الباب الأول إلى الآخر وقياس أحدهما عليه يتوقف على إلغاء خصوصية القضاء عن الفتوى والقطع بعدم تأثيرها، مع أنه في القضاء لا بد من حل النزاع بالحكم ولو كان ظناً، أما مع الفتوى فالأمر يختلف اذ لا نزاع. ومع ذلك فبعض ما ورد في هذا الباب يُعد من الروايات الضعيفة كمقبولة عمر بن حنظلة وما على شاكلتها.
هكذا يظهر أن جميع طوائف الروايات المشار إليها لا علاقة لها بالتقليد، اذ ليس لها معنى محصل سوى الدلالة على الإتباع، والفرق بينهما كبير على ما سبق أن بيّنا( 1 7).
دليل السيرة العقلائية
يظل أن العمدة في أدلة جواز التقليد لدى الفقهاء هو بناء العقلاء وسيرتهم مع أخذ إعتبار عدم ردع الشارع لذلك، حيث أن جواز رجوع الجاهل إلى العالم من الضرورات التي لم يختلف فيها إثنان، وهو أمر مركوز في الأذهان وثابت ببناء العقلاء في جميع العصور والأزمنة( 2 7). فعلى حد قول الآخوند الخراساني: >يكون بديهياً جبلياً فطرياً لا يحتاج إلى دليل، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقاً - في الغالب - لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنة، ولا يجوز التقليد فيه أيضاً، وإلا لدار أو تسلسل<( 3 7).
وهذا الحد عند الخراساني هو العمدة في الأدلة، وماعدا ذلك من الأدلة فأغلبه قابل للمناقشة( 4 7). وسبق لأستاذه الأنصاري أن إحتمل بأن الشارع لم ينصب في حق المقلّد الطريق الخاص له والمتمثل بفتوى المجتهد، معتبراً أن رجوعه إلى المجتهد من باب الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء. لذلك حَسِبَ أن بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب إنما هو من باب التقرير لا التأسيس( 5 7).
كما ان الفقيه المنتظري رأى أنه قد إستقرت سيرة الأصحاب في عصر النبي والأئمة على رجوع الجاهل للعالم والإستفتاء منه والعمل بما سمعه من الخبير الثقة. فهذا الرجوع عنده يعود إلى حكم العقل لا أنه تقليد تعبدي، مادام الملاك في بناء العقلاء هو حصول الوثوق الشخصي. بمعنى أن العمل يتحقق بالوثوق الذي هو علم عادي تسكن به النفس لا بالتقليد ولا بالتعبد. فعلى رأيه أنه ليس هناك ما يثبت التعبد بحجية قول الفقيه مطلقاً أو بشكل منقطع عن الوثوق الشخصي( 6 7).
لكن سبق أن عرفنا بأن رجوع الناس إلى العلماء كما هو مقرر في الشريعة في عصر النبي والأئمة لا يعبر عن التقليد الذي يقتضيه الإجتهاد، بل هو عبارة عما أُصطلح عليه بالإتباع، وهو الوثوق الشخصي بتحصيل العلم من العالم. فقياس ذلك الباب على هذا الباب كما هو الجاري عند أغلب المتأخرين فيه مفارقة. كما أن قياس علم الشريعة على سائر العلوم والصنعات الإنسانية الأُخرى فيه مفارقة أيضاً؛ من حيث أنها - كما عرفنا - لا تقر صور الإجتهاد المفضية إلى الظن ولا التقليد القائم عليها، ما لم يعد ذلك على نحو الإضطرار؛ من حيث إنسداد باب العلم ولا سبيل إلى تحصيل الأحكام إلا بالإجتهاد المفضي إلى الظن غالباً.
أما عامة الناس فلا يقتضي عجزهم عن الإجتهاد أن يكونوا مقلّدين، ذلك أنهم على مستويين؛ فمنهم العاجز كلياً وهو لا سبيل إليه إلا التقليد، ومنهم من بوسعه النظر في الأدلة ولو على نحو الإجمال، وهذا ما لا يجوز عليه أن يقلّد مادام بوسعه الترجيح بين الأدلة والأخذ بأقواها أو بما تطمئن إليه نفسه.
يبقى اننا نؤيد القول بأن بناء العقلاء الذي يحصل منه الوثوق الشخصي أو الإطمئنان لا يعد تقليداً، سواء عملنا به في الشرعيات او في غيرها، كما انه ليس مأخوذاً من باب التعبد. فمن الواضح أن هذا السلوك هو سلوك طريقي وأن حجيته ذاتية لا تحتاج إلى جعل وتأسيس من الشارع.
الهوامش
( 1) البحر المحيط، ج 6، ص 0 7 2. وإرشاد الفحول، ص 5 6 2.
( 2) الإحكام للآمدي، ج 4، ص 5 4 4.
( 3) إرشاد الفحول، ص 5 6 2.
( 4) معالم الدين، ص 5 8 3.
( 5) انظر: الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 7 7ـ 9 7. والكفاية، ص 9 3 5. ومعالم الدين، ص 5 8 3. ومنتهى الأُصول، ج 2، ص 1 3 6. وعناية الأُصول، ج 6، ص 4 1 2ـ 5 1 2.
( 6) الإجتهاد والتقليد، ص 7 7 ـ 9 7 .
( 7) الحكيم، محسن الطباطبائي: مستمسك العروة الوثقى، ج 1، ص 1 1.
( 8) حجة الله البالغة، ج 1، ص 3 5 1.
( 9) إبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة،ج 6، ص 6 4 1. كذلك: الشوكاني، محمد بن علي: رسالة القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد، ضمن رسائله السلفية، ص 7 1.
( 0 1) ملخص إبطال القياس، ص 2 5.
( 1 1) أعلام الموقعين، ج 2، ص 8 0 1.
( 2 1) اعلام الموقعين، ج 2، ص 8 0 2.
( 3 1) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 2 0 3.
( 4 1) انظر مثلاً: الإحكام للآمدي، ج 4، ص 1 5 4. والكفاية، ص 0 4 5ـ 1 4 5. والفصول الغروية، ص 9 1 4. والإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 1 9 وما بعدها.
( 5 1) بهذا الصدد نُقل عن البعض قوله: >لا خلاف أن قبول قول غير النبي (ص) من الصحابة والتابعين يسمى تقليداً، وأما قبول قوله صلى الله عليه وسلم فهل يسمى تقليداً؟ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو، وذكر الشيخ أبو حامد إن الذي نصّ عليه الشافعي أنه يسمى تقليداً، فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه: وأما أن يقلّده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله (ص)< (إرشاد الفحول، ص 5 6 2. كذلك: البحر المحيط، ج 6، ص 0 7 2ـ 2 7 2). ويقال في المصادر الشيعية: إن إعتبار إتباع الكتاب والسنة النبوية والأئمة كما هو مأمور به عبارة عن تقليد (انظر: النجفي، محمد حسن: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج. 4، ص 3 2. كذلك انظر عنوان الباب العاشر من أبواب صفات القاضي للوسائل، ج 8 1، ص 9 8).
( 6 1) صفة الفتوى، ص 4 5.
( 7 1) صفة الفتوى، ص 2 5. كذلك: القول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص 4 1 و 5 1.
( 8 1) أعلام الموقعين، ج 2، ص 1 1 2 و 1 0 2.
( 9 1) القحطاني، محمد عبد الله: البيان والتفصيل في وجوب معرفة الدليل، ص 0 4 1.
( 0 2) انظر حول ذلك المصادر التالية: ملخص إبطال القياس، ص 6 6. والإحكام لإبن حزم، مطبعة السعادة، ج 6، ص 6 5 و 9 4 1ـ 0 5 1، ج 2، ص 2 2 1ـ 3 2 1. والموافقات، ج 4، ص 9 8 2. وانتصار الفقير السالك، ص 4 9 1.
( 1 2) الرسالة ص 2 4.
( 2 2) أعلام الموقعين، ج 2، ص 0 0 2.
( 3 2) أعلام الموقعين، ج 2، ص 0 0 2. وحجة الله البالغة، ج 1، ص 5 5 1.
( 4 2) أعلام الموقعين، ج 2، ص 0 0 2.
( 5 2) المصدر السابق، ص 1 0 2.
( 6 2) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 2 0 3.
( 7 2) نفس المصدر والصفحة.
( 8 2) حقوق الانسان في الإسلام، ص 5 2 2.
( 9 2) أعلام الموقعين، ج 2، ص 8 9 1.
( 0 3) المصدر السابق، ص 6 9 1.
( 1 3) اعلام الموقعين ج 2 ص 8 5 2. الشالي القفال: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، ج 1، ص 4 5.
( 2 3) اعلام الموقعين، ص 8 5 2.
( 3 3) المستصفى، ج 2، ص 4 8 3. والإحكام للآمدي، ج 4 ص 0 3 4.
( 4 3) أعلام الموقعين، ج 2، ص 0 6 2.
( 5 3) المصدر السابق، ص 9 5 2 و 3 1 2.
( 6 3) يشدد إبن حزم على إبطال التقليد، سواء في العقيدة أو الفقه، فيرفض تقليد الأئمة والمذاهب جميعاً، ولا يرى فرقاً بين من قلّد هذا الإمام أو المذهب أو ذاك، بل يجعل الإجتهاد نصيب الكل، وواجباً على الجميع، حيث كل بحسب طاقته، ولو أدى ذلك إلى الخطأ في الإجتهاد، فهو يفضله على التقليد مع الصحة، وهذا الامر يشمل عنده حتى الرجل العامي. فعلى حد قوله: >من إدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد إدعى الباطل وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل<. بل على العكس يرى أن >التقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها؛ من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام<. لذا فهو بالتالي يحرم تقليد أئمة المذاهب الأربعة والصحابة ومن على شاكلتهم، فيصرح بالقول: >وليعلم أن كل من قلّد من صاحب أو تابع أو مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد - إبن حنبل - وـداودـ الأصبهاني رضي الله عنهم؛ إنهم متبرأون منه في الدنيا والآخرة<. كما أنه يرد على من يتمسك بالتقليد بقوله: >ما الفرق بينك وبين من قلّد غير الذي قلّدت أنت، بل كفّر من قلّدته أنت أو جهله، فإن أخذ يستدل في فضل من قلّده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الإستدلال من غير تقليد<. (انظر المصادر التالية: الإحكام، مطبعة السعادة، ج 1، ص 7 1ـ 9 1 و 9 9ـ 0 0 1، ج 2، ص 0 2 1 و 2 2 1ـ 3 2 1، ج 5، ص 1 2 1 و 4 2 1 و 0 4 1، ج 6، ص 6 5 و 3 2 1 و 9 4 1ـ 1 5 1. والمحلى، ج 1، ص 9 5ـ 0 6. كذلك: يفوت، سالم: إبن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، ص 9 5 1. علماً أن العديد من نصوص إبن حزم الرامية إلى تحريم التقليد وجدناها في كتاب الإمام أحمد بن علي الجصاص(المتوفي سنة 0 7 3هـ) والذي كان سابقاً عليه (انظر: الفصول في الأُصول للجصاص، ج 3، ص 2 7 3 وما بعدها).
( 7 3) أعلام الموقعين، ج 2، ص 6 0 2ـ 9 7 2.
( 8 3) أعلام الموقعين، ج 2، ص 7 9 1. والقول السديد، ص 6.
( 9 3) إرشاد الفحول، ص 5 6 2 وما بعدها.
( 0 4) الإحكام للآمدي، ج 4، ص 1 5 4. ومبادئ الوصول الى علم الاصول. ص 7 9 4.
( 1 4) إبن زهرة: الغنية، ضمن (الجوامع الفقهية)، ص 5 8 4ـ 6 8 4.
( 2 4) معالم الدين، ص 5 8 3. وعناية الأُصول، ج 6، ص 0 2 2.
( 3 4) الإسترابادي، محمد أمين: الفوائد المدنية، ص 0 5 2. والعاملي، محمد بن الحسن الحر: الفوائد الطوسية، ص 2 0 4 وما بعدها.
( 4 4) رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 1 2 3.
( 5 4) الطوسي، أبو جعفر: تلخيص الشافي، ج 1، ص 0 4 2.
( 6 4) مما لا شك فيه إن الشريف المرتضى يجيز إستفتاء العامي للعالم، لكنه حيث يمنع من الظن في الأحكام الشرعية؛ لذا فقد يكون معولاً في الإستفتاء على الإتباع لا التقليد المصطلح عليه، أي أنه يجيز إتباع العامي للعالم إذا ما إطمأن انه يحكي مفاد الشرع بالعلم لا الظن (انظر: رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 0 2 3ـ 2 2 3).
( 7 4) حجة الله البالغة، ج 1، ص 5 5 1. ورسالة القول المفيد، ص 2 3. علماً أن نفس هذا الخبر روي في المصادر الشيعية عن الإمام الصادق (ع)، كما في كتاب: الأُصول من الكافي للكليني، ج 1، ص 3 5.
( 8 4) أعلام الموقعين، ج 2، ص 7 5 2.
( 9 4) الكفاية، ص 9 3 5.
( 0 5) النحل/ 3 4.
( 1 5) الإحكام للآمدي، ج 4، ص 1 5 4. والموافقات، ج 4، ص 3 9 2.
( 2 5) يُنظر بهذا الصدد: رسالة القول المفيد، ص 1.
( 3 5) الإحكام للآمدي، ج 4، ص 1 5 4.
( 4 5) بهذا الصدد يُنقل أنه جاء عن عبد الله أنه سأل أباه أحمد بن حنبل عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة.. فقال ابن حنبل: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي (أعلام الموقعين، ج 1، ص 6 7ـ 7 7. والإعتصام، ج 3، ص 1 0 3ـ 2 0 3).
( 5 5) الحج/ 8 7.
( 6 5) الإحكام للآمدي، ج 4، ص 1 5 4. والمستصفى، ج 2، ص 9 8 3.
( 7 5) إرشاد الفحول، ص 8 6 2.
( 8 5) التوبة/ 2 2 1.
( 9 5) أعلام الموقعين، ج 2، ص 2 5 2.
( 0 6) الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 5 8ـ 6 8.
( 1 6) الكفاية، ص 0 4 5.
( 2 6) الوسائل، ج 8 1، أبواب صفات القاضي، الباب 1 1، حديث 0 1، ص 2 0 1.
( 3 6) الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 9 8ـ 0 9. والكفاية، ص 0 4 5.
( 4 6) الكفاية، ص 0 4 5ـ 1 4 5. كذلك: عناية الأُصول، ج 6، ص 6 3 2.
( 5 6) من ذلك ما روي عن الإمام الرضا عن آبائه (ع) قال رسول الله (ص): اللهم إرحم خلفائي - ثلاث مرات - فقيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي (الوسائل ج 8 1، أبواب صفات القاضي، باب 8، حديث 3 5، ص 6 6). وفي معاني الأخبار عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس، عن علي بن محمد بن قنيفة، عن حمدان بن سليمان، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت الرضا (ع) يقول: رحم الله عبداً أحيى أمرنا. فقال: وكيف يحيي أمركم؟ قال (ع): يتعلم علومنا ويعلمها الناس (نفس المصدر، باب 1 1، حديث 1 1، ص 2 0 1).
( 6 6) من ذلك ما روي عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن اسحاق، عن أبي الحسن (ع) قال: سألته وقلت: من أُعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال (ع): العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. قال وسألت أبا محمد (ع) عن مثل ذلك فقال: العمري وإبنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان (المصدر والباب السابق، حديث 4، ص 9 9ـ 0 0 1).
( 7 6) من تلك الأحاديث ما روي عن أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر (ع): من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه (المصدر السابق، باب 4، حديث 1، ص 9). انظر كذلك سائر الأحاديث المدونة في هذا الباب.
( 8 6) من ذلك ما روي عن أبي خديجة قال: قال الإمام الصادق: إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر (المصدر السابق، باب 1 1، حديث 6، ص 0 0 1).
( 9 6) الوسائل، ج 8 1، أبواب صفات القاضي، الباب 0 1، الحديث 0 2، ص 4 9ـ 5 9.
( 0 7) الوسائل، نفس المعطيات السابقة. والإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 2 2 2ـ 3 2 2.
( 1 7) بهذا الصدد يقول المحقق الخوئي رحمه الله في (الإجتهاد والتقليد ص 1 9ـ 3 9): >الأخبار المشتملة على إرجاع الناس إلى أشخاص معينين أو إلى عنوان من العناوين المنطبقة عليهم كالإرجاع إلى العمري وإبنه، ويونس بن عبد الرحمان، وزكريا بن آدم، ويونس مولى آل يقطين، والإرجاع إلى رواة حديثهم إلى غير ذلك من الروايات، وحيث أن دلالتها على الإرجاع إلى هؤلاء مطلقة فتشمل ما إذا كان ما يؤدونه في مقام الجواب ما وصل إليه نظرهم من الجمع بين الروايتين المتعارضتين أو حمل المطلق على المقيد أو المسك بالعام عند الشك في التخصيص أو غير ذلك من أنحاء الإجتهاد والإستنباط، وما إذا كان جوابهم بنقل الألفاظ التي سمعوها عنهم عليهم السلام<.
على أن هذا غير صحيح، اذ لا يعقل أن الأصحاب كانوا يمارسون الإجتهاد من الجمع بين الروايتين المتعارضتين أو حمل المطلق على المقيد أو التمسك بالعام عند الشك في التخصيص أو غير ذلك من أنحاء الإجتهاد والإستنباط. ذلك لأن هناك نصوصاً كثيرة جداً تنهى عن ممارسة مثل هذا النحو من الإجتهاد المفضي إلى الظن. اذ كيف يترك الرجوع إلى الإمام نفسه ويعمل بحسب ما يتصوره الذهن؟ وما الفارق بين هذا العمل وبين القياس المنهي عنه؟ لذلك فالإرجاع إلى أُولئك الأصحاب يتحدد بتخويلهم نقل الفتوى، إما بصورة نقل الألفاظ المسموعة عن الإمام أو نقل المعنى الحاصل منها. من هنا فإن الناس لم يمارسوا التقليد للأصحاب مادام أن هؤلاء ليسوا من أهل الرأي والإجتهاد، بل هم نقلة ألفاظ أو معاني، والناس كانوا يتبعونهم في ذلك.. ففرق كبير بين التقليد والإتباع.
( 2 7) الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص 3 2 و 5 8.
( 3 7) الكفاية، ص 9 3 5.
( 4 7) نفس المصدر والصفحة.
( 5 7) فرائد الأُصول، ج 1، ص 4 1 2.
( 6 7) دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص 2 0 1 و 3 0 1 و 4 0 1 و 6 0 1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق