الإجتهاد وأدلته عند اهل السنة


يحيى محمد

ليس هناك دليل أصدق من الدليل الواقعي القائل بظهور الحاجة الماسة إلى الإجتهاد بعد مرحلة نص الخطاب، وذلك لعدم البيان الكافي المفصل في النص كما هو منقول إلينا من جهة، ولتجدد الحوادث من جهة أُخرى، ناهيك عما طرأ من إضافات وغشاوات وحجب أفرزتها الذهنية البشرية على النص ، الأمر الذي إستدعى تصفيته منها عبر آلية الإجتهاد. بل لا نرى هناك دليلاً واضحاً يمكن أن يُقدّم بصدد إثبات مشروعية الإجتهاد ــ بما هو عملية إستنباط للحكم الشرعي تفضي إلى الظن ــ غير ما ذكرنا. ولكي نثبت هذا الزعم علينا أن نبحث في أدلة حجية الإجتهاد لدى الإتجاه السني.

ظهر بعد عصر الشافعي محاولات عديدة للإستدلال على حجية الاجتهاد، تارة بدعوى الإجماع وأُخرى من الكتاب وثالثة من السنة. وطالت محاولات الإستدلال فشملت حتى تلك التي تتعلق بخصوص إثباته في حق النبي (ص) فضلاً عن الصحابة كما سيتضح لنا كالاتي:

الأدلة العامة على حجية الإجتهاد

هناك أدلة عامة إستدل بها المتأخرون في الإتجاه السني بكل من الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: ((فاعتبروا يا أُولي الأبصار))( 1)، حيث إستفاد الفقهاء من ذلك بأن لفظة >فاعتبروا< لها دلالة على القياس، من حيث أن هذا الأخير عبارة عن عبور من الأصل إلى الفرع، مما يعني أن الأمر الوارد في الآية بصيغة تلك اللفظة هو أمر يتعلق بالحث على القياس ومن ثم الإجتهاد( 2). مع أن سياق الآية ليس بصدد الإجتهاد ولا القياس المصطلح عليه، فهو دال على أخذ العبرة، خاصة أن العبرة أو >العبور< في الآية ليس من جهة الإرتكاز إلى معنى النص ومن ثم تطبيق حكمه على مشابهاته كما في القياس والإجتهاد، وإنما هو عبارة عن النظر إلى واقع خارجي وتأمله ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة منه في الواقع بأخذ العبرة منه. وهذا المعنى هو غير الإجتهاد المصطلح عليه. فهو ليس عبارة عن ربط حادثة بنص كما هو شأن الإجتهاد والقياس، بل إنه ربط مصير بواقع لم يبق منه إلا الأثر وما خلّفه من درس وعبرة كما تنص على ذلك بداية الآية: ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أُولي الأبصار)).

كما إستدل المتأخرون بقوله تعالى: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أُمُّ الكتاب وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أُولوا الألباب))( 3)، مع أن الآية إذا حُملت على وجود الوقف بعد قوله ((وما يعلم تأويله إلا الله)) كما هو رأي الكثير من المفسرين القدماء فإنه لا دلالة لها على الإجتهاد مطلقاً، إذ يكون الراسخون في العلم على هذا الإعتبار لا علم لهم بتأويله( 4). أما لو حُملت الآية على الوصل فمن الواضح أيضاً أنها لا دلالة لها على الإجتهاد المفضي إلى الظن، إذ هي صريحة الدلالة على العلم، خاصة وأنها عطفت علم العلماء على علم الله تعالى وجمعت بينهما في سياق واحد. يضاف إلى أن الآية يُحتمل أن تكون وردت بخصوص المسائل العقائدية لا الفقهية وبالتالي فهي ليست بصدد الإجتهاد في الأحكام الشرعية.

كذلك إستدل المتأخرون بقوله تعالى: ((وإذا جاءهم الأمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))( 5)، مع أن الآية لا تدل على الإجتهاد المفضي إلى الظن لمجرد ذكر لفظة << يستنبطونه >>. فظاهرها دال على إستخراج المطلوب بالعلم لا الظن. هذا على فرض أن المقصود بأُولي الأمر هم العلماء في الحديث والفقه. لذلك أن البعض لا يتقبل هذا الفهم ويرى أن مورد الآية جاء بخصوص إذاعة الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى( 6).

وأيضاً إستدلوا بقوله تعالى: ((فإسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))( 7)، وقوله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون))( 8)، وهما آيتان سيمر علينا ذكرهما ومناقشة ما قيل عنهما عند تعرضنا للأدلة التي قدمها الإتجاه الشيعي بهذا الصدد.

أما من السنة النبوية الشريفة فقد روي عن النبي (ص) قوله: >إجتهدوا فكل ميسر لما خُلق له<. لكن دلالة هذه الرواية مجملة لا تؤكد المعنى المتواضع عليه من مفهوم الإجتهاد، وهي فوق ذلك ليست ثابتة الصحة والإعتبار( 9).

كما روي عن النبي (ص) قوله: >إذا إجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا إجتهد فأخطأ فله أجر واحد<( 0 1). ومثل ذلك روي أن الرسول (ص) طلب يوماً من عمرو بن العاص أن يحكم في مسألة، فقال: أجتهد وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: نعم إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر( 1 1). وقال لعقبة وعمرو بن العاص: إجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة( 2 1). وإجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة حينما رضي النبي بتحكيمه، فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري بالرأي( 3 1).

وبغض النظر عن سند هذه الروايات فالملاحظ أنها لا تدل على المعنى المصطلح عليه من الإجتهاد، ذلك أن موردها محدد بأُمور الحكم والقضاء، وهي أُمور تتعلق بتقدير الأحكام وتطبيقها على المصاديق، الأمر الذي قد يجعل الحاكم أو القاضي مخطئاً في حكمه لا من جهة معرفة الحكم الكلي، بل من حيث عدم تشخيص الواقع كما هو.

كما أُستدل على حجية الإجتهاد - خاصة القياس - بالإجماع( 4 1). وهي مجرد دعوى لا يستفاد منها علم. بل يمكن القول أنها باطلة للعلم بأن العديد من السلف قد نهوا عن العمل بالرأي والقياس، كما هو الحال مع الإمام الصادق وداود الأصبهاني وإبنه وغيرهم ممن سننقل بعض أقوالهم فيما بعد..

إجتهاد النبي

ذهب أغلب رجال أهل السنة إلى أن النبي كان متعبداً بالعمل بالإجتهاد، فإما أن يكون مأموراً به، أو أنه مما يجوز عليه ذلك. وفي القبال مال البعض إلى منع هذه الآلية في حقه، كما هو المنسوب إلى بعض الشافعية وإلى أبي علي الجبائي وإبنه أبي هاشم. بينما إتجه فريق ثالث إلى التوقف أو عدم القطع لتعارض أدلة الطرفين وعدم وضوح الترجيح فيما بينها، فكل منها عليه إعتراضات يجعلها غير قاطعة، كما هو رأي القاضي عبد الجبار الهمداني وأبي الحسين البصري والإمام الغزالي. وإن كان الغزالي يستبعد وقوع الإجتهاد من النبي في القضايا الدينية ويستظهر أنه كان يعمل طبقاً للوحي الصريح من غير إجتهاد( 5 1) .

أدلة منع إجتهاد النبي

أهم الأدلة التي ذُكرت بهذا الصدد ما يلي( 6 1):

1 ـ لما كان النبي (ص) قادراً على كشف اليقين بالأخذ عن الوحي؛ لهذا فإنه لا مجال للقول بإجتهاده، باعتبار أن الإجتهاد عمل بالظن، ومن القبح العمل بهذا وترك الوحي واليقين. مع أنه قد يقال إن عمل النبي (ص) بالإجتهاد يكون فقط في حالة الإضطرار من حيث عدم نزول الوحي عند ترقبه له، ولا مجال للإنتظار خشية فوات الحادثة من غير حكم. وبالتالي فمثل هذا الحال ليس فيه مقابلة بين الظن من جهة واليقين أو الوحي من جهة أُخرى، مادام أن اليقين والوحي منقطعان، خاصة إذا ما كان النبي يعلم بالوحي أنه يجوز له ذلك، أو أنه مأمور به ولو أدى إلى الخطأ.

2 ـ لو جاز للنبي الإجتهاد لكان يجوز مخالفته بإجتهاد غيره، مع أن هذا يبطل الغرض من بعثه للناس، وهو واضح البطلان.

لكن أُجيب على ذلك بأن إجتهاد النبي إما أنه لا يحتمل الخطأ باعتباره مسدداً من قبل الله تعالى كما هو مذهب قوم، أو أنه يحتمل الخطأ ولكن لا يقرّ عليه، بخلاف غيره من حيث إنه يحتمل الخطأ ويقر عليه، وبالتالي يصبح إجتهاد النبي كالنص أو اليقين فلا يجوز مخالفته على هذا الحال.

3 ـ جاء في قوله تعالى: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))( 7 1)، وحيث إن الإجتهاد لا يقال له إنه صادر عن وحي أو إنه وحي؛ لذا فإنه منفي في حقه .

لكن يجاب على ذلك بلزوم تخصيص العموم الوارد في الآية، وإلا لكان كل ما ينطق به النبي حتى لو كان تعبيراً عن حاجاته الخاصة والشخصية هي من الوحي، وكذلك لكان الوحي لم ينقطع عنه حتى وفاته وهو خلاف ما عُلم من إنقطاعه عنه. لذلك فقد يكون المراد من الآية هو كل ما نطق به من القرآن الكريم. كما قد يجاب من أن القول بالإجتهاد ليس تعبيراً عن الهوى، فإذا ما كان قد أُمر به وحياً فإنه يصبح لا ينطق به إلا عن وحي ولو بشكل غير مباشر.

وبهذا الجواب ايضاً يمكن أن يجاب على ما أُستدل به من مثل قوله تعالى: ((قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي...))( 8 1)، وقوله: ((ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين))( 9 1).. ذلك إن مثل هذه الآيات مسوقة ومحمولة بشأن القرآن الكريم خاصة الآية الأُولى، حيث أن بدايتها صريحة بهذا الصدد: ((وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئتِ بقرآن غير هذا أو بدّله، قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي..)).

وكذلك الحال فيما يتعلق بالآيات الأُخرى فهي أيضاً مسوقة بشأن التأكيد على أحقية القرآن.

أدلة جواز إجتهاد النبي

إجتهاد النبي في المصالح الدنيوية

أما المجوزون للإجتهاد في حق النبي (ص) فقد إختلفوا في حدود ذلك وشروطه. فمنهم من أشرط جوازه في حدود المصالح الدنيوية من الحرب والسياسة ومعرفة الوقائع الجزئية ليطبق عليها الكليات كما هو الحال في القضاء. إذ يستفاد من بعض الآيات أن النبي قد تعرض إلى أكثر من عتاب من قبل المولى تعالى لإتخاذه بعض المواقف العملية، مما يعني أنه كان يجتهد في ذلك. وحيث أن العتاب لم يكن موجهاً إلى إجتهاده بالخصوص ، بل إلى ما أفضى إليه من نتائج، الأمر الذي يعني جواز إجتهاده بدلالة الإمضاء الحاصل من قبله تعالى. أما العتاب على النتائج فيحمل بأنه إرشادي، إذ بعضها على الأقل لا يدل على مخالفة النبي لأمر المولى، أما البعض الآخر فإن كان فيه ما يدل على المخالفة فهو محمول على الخطأ الذي لا يقرّ عليه كما يتبين مما جاء بخصوص ما عوتب عليه مع المؤمنين في عدم قتل أسرى بدر في قوله تعالى: ((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم))( 0 2). ومثل ذلك ما جاء بخصوص عتاب النبي على ما أذن للأعراب بالتخلف عن غزوة تبوك، كما في قوله تعالى: ((عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين))( 1 2).

يضاف إلى أن النبي مأمور بالشورى في قوله تعالى: ((وشاورهم في الأمر))( 2 2). وهي تستلزم الإجتهاد من حيث أن نتائجها قد تخطئ الواقع في كل ما يتعلق بالمصالح الدنيوية.

كذلك فمن حيث الأحاديث والسيرة؛ لم تكن للنبي (ص) العصمة المطلقة الشاملة في قضايا تشخيص الواقع الذي ينبني عليه تطبيق الأحكام وتنفيذها( 3 2). مما يعني أنه يجتهد في الأمر، فإما مصيب وإما مخطئ، ومن ذلك ما روي عنه في مسائل القضاء قوله: >إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها<( 4 2) .

كذلك ما رواه مسلم والنسائي من أن النبي (ص) قال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر.

إجتهاد النبي في الأحكام الدينية

في قبال ما سبق هناك من جوّز الإجتهاد على النبي مطلقاً، سواء ما تعلق بالمصالح الدنيوية أو ما إرتبط بالأحكام العامة من القضايا الدينية والعبادات مما لم يرد فيها نص. وقد ذكر الكمال بن الهمام في كتابه (التحرير) أن أكثر الأقوال الفقهية ترى أن النبي (ص) مأمور بالإجتهاد مطلقاً في الأحكام الشرعية والحروب والأُمور الدينية من غير تقييد بشيء منها، معتبراً أن ذلك مذهب عامة الأُصوليين كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكذلك عامة أهل الحديث( 5 2).

لذلك زعم بعض المعاصرين أن النبي قد جعل الإجتهاد أصلاً ثالثاً للأحكام في عصره( 6 2). كما صرح بعض آخر من أن النبي (ص) كان أول المجتهدين وإمام المفتين( 7 2).

أما الأدلة التي قدمها العلماء عن إجتهاد النبي فمنها ما كان من الكتاب، ومنها ما كان من الأخبار والأحاديث، وذلك كالآتي:

دليل الكتاب

بصدد الأدلة التي قُدمت بشأن إجتهاد النبي من الكتاب؛ أُستدل بقوله تعالى: ((فاعتبروا يا أُولي الأبصار))( 8 2)، من حيث أنها دالة على القياس والإجتهاد، وهي عامة في حق أُولي الأبصار أو البصائر، والنبي أعظمهم بصيرة( 9 2). لكن عرفنا أنه ليس لهذه الآية دلالة على المقصود من الإجتهاد أو القياس.

كما أُستدل على ذلك أيضاً بآية: (( ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))( 0 3). فوجه الدلالة هو أن الله تعالى عطف أُولي الأمر على الرسول في وجوب الرد إليهم ورتب على ذلك العلم بحكم الشرع عن طريق الإستنباط الذي هو الإجتهاد، وبالتالي فكما يجوز الإستنباط أو الإجتهاد لأُولي الأمر فكذا يجوز ذلك للرسول( 1 3).

لكن إبن حزم لم يرَ مثل هذه الدلالة من المعنى، فقد إعتبر الضمير في لفظة > منهم< لا يرجع إلى الرسول وأُولي الأمر، بل يرجع إلى الرادين، وبالتالي يكون المستنبطون منهم ليس هم أُولي الأمر والرسول( 2 3)، وهذا على ما يبدو هو الظاهر من الآية. لكن حتى مع إعتبار أن المستنبطين هم أُولي الأمر والرسول؛ فإن ظاهر الآية لا دلالة له على الإجتهاد المفضي إلى الظن، إنما دلالته على تحصيل العلم سواء أُعتبر ذلك عن طريق ما يسمى بالإجتهاد أو عن طريق إستخراج المعنى، ومن المؤكد أن الحال في ذلك يختلف كلياً عن الحال الذي يمارسه المجتهدون في طرقهم الإجتهادية.

كما أُستدل على إجتهاد النبي بآية: ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم))( 3 3)، من حيث أن النبي هو أولى رسوخاً في العلم من غيره. لكن سبق أن علمنا أن ليس للآية أيّ دلالة واضحة على الإجتهاد ولا على المقاصد الفقهية، إذ من المحتمل أنها وردت بخصوص العقائد.

وأيضاً أُستدل على إجتهاد النبي بآية: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله))( 4 3)، إذ قيل إن اللفظ بعمومه يتناول الحكم بالنص وبالإستنباط من النص، إذ الحكم بكل منهما حكم بما أراه الله، أو أن الحكم الذي يستنبط من المنزل هو حكم بالمنزل لأنه حكم بمعناه( 5 3). لكن من الواضح إنه إذاحملنا آلية الإستنباط على إحتمال أنها تفضي إلى الخطأ باعتبارها عملية إجتهاد؛ فإنه لا يصح أن نعتبر الحكم الذي يستنبط من المنزل هو حكم بالمنزل أو بمعناه، وذلك لأنه يحتمل أن يكون خطأً، وظاهر الآية بعيد عن إرادة الإجتهاد المفضي إلى الظن أو الذي يحتمل له الخطأ، أو على الأقل إنه لا يدل عليه. أما لو قيل أن العموم في الآية يمكن أن يشمل الإستنباط من النص فيما لو كان مفضياً إلى القطع واليقين فلا مانع من ذلك باعتباره لا يختلف عن الحكم بالنص .

كذلك أُستدل على إجتهاد النبي بآية سليمان في قوله تعالى: ((وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان))( 6 3). ووجه الإحتجاج بهذه الآية هو أن الله خصّ سليمان بفهم الحق في الواقعة مما يدل على عدم فهم داود له، ومن ثم فقد كانا يجتهدان في الحكم على الواقعة بدلالة إصابة أحدهما للحق دون الآخر، فإذا ثبت هذا في حق بعض الأنبياء فما هو المانع من أن يشمل ذلك نبينا (ص)( 7 3)؟!

وقد قيل في الجواب أن غاية ما في الآية تخصيص سليمان بالفهم، وهذا لا يدل على عدم فهم داود له إلا بالمفهوم وهو غير حجة. وحتى لو سُلم بأنه حجة فإنه قد روي أن هذين النبيين حكما في تلك القضية حكماً واحداً، ثم نسخ الله الحكم فعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود، لذلك تممت الآية بقولها: ((وكلاً آتينا حكماً وعلماً))، فلو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد أتى في تلك الواقعة حكماً وعلماً( 8 3) .

كما قيل في الجواب أنهما قد حكما بحكم واحد بدلالة قوله تعالى: ((وكنا لحكمهم شاهدين))، وأن هذا الحكم لهما كان صحيحاً بدلالة قوله تعالى: (( وكلاً آتينا حكماً وعلماً))، أما الإختلاف بينهما فليس في أصل الحكم وإنما في الإجراء، من حيث أن حكم سليمان كان أوفق وأرفق، ورويت حول ذلك روايات من الشيعة والسنة تفيد أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم، وحكم سليمان له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج، وذلك لضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها، واحتُمل أن ذلك كان مساوياً لقيمة رقاب الغنم( 9 3).

دليل الأخبار

أما من حيث الأحاديث فقد نُقل عن النبي (ص) قوله: >لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (وفي رواية: عند كل صلاة)<( 0 4). مما يعني أن أمر السواك متروك إلى إجتهاد النبي وتقديره، لذلك منعه خوف المشقة على الناس .

لكن على فرض صحة هذا الحديث يمكن القول أن الأمر بالسواك مع أنه متروك إلى تقدير النبي إلا أنه لا يدل على إجتهاده بالمعنى المتواضع عليه، فقد يجوز أن يكون الله فوض له الأمر في ذلك مثلما فوض إليه إرث الجد أو الجدة( 1 4)، ومثلما فوض لبعض أنبيائه في قوله تعالى: ((هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب))( 2 4). كذلك يجوز أن يكون هذا الحديث دالاً على الأمر الإرشادي لا المولوي، فمن الواضح هو أن الأمر بالسواك ليس له علاقة بالأحكام العبادية، بل كل ما يمكن أن يقال فيه أن له علاقة بالصحة.

كذلك أُستدل بما أشار إليه النبي (ص) بقوله في حرم مكة: لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، فقال العباس: إلا الأذخر، فقال النبي: إلا الأذخر. فالنبي في هذا النص ينهى عن قطع حشيش حرم مكة وشجره، وكونه يوافق العباس على أن يستثني من ذلك نبات الأذخر ربما كما قيل لطيب رائحته( 3 4)، فإنه بهذه الموافقة يبدو كأنه يجتهد في أمر النهي والإستثناء، حيث من المستبعد أن يكون ما نطقه العباس قد جاء مطابقاً لما أراد أن يقوله النبي بالوحي( 4 4).

لكن على فرض صدق هذه الحادثة فإنها دالة على أمر يخص المصالح الدنيوية التي يجوز فيها الإجتهاد من جهة تشخيص الواقع الموافق للمصلحة وليس له علاقة بالأحكام الكلية.

كما أُستدل بما روي عن عمر بن الخطاب من أنه سأل النبي فقال: إني اليوم - وهو يوم صيام - أتيت أمراً عظيماً. فقال (ص): وما ذاك؟ فقال: هششت إلى أمرأتي فقبّلتها. فقال (ص): أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان عليك جناح؟ قال: لا. قال (ص): فلِمَ إذن؟! إذ قيل إن في هذا النص دلالة على القياس، حيث قاس النبي مقدمة الجماع على مقدمة الشرب، فمثلما أن المضمضة لا تفسد الصوم كذلك فإن القبلة لا تفسده أيضاً( 5 4).

لكن ليس في هذا الحديث - على فرض صحته - دلالة تقضي بأن حكم النبي عائد إلى القياس. فكل ما في الأمر هو أن النبي شابه بين الأمرين ربما للإيضاح لا للتشريع. وحتى لو فُرض أن المقصود منه القياس فإنه مع ذلك يُعد حالة جزئية لا يصح تعميمها على الحالات الأُخرى إلا بقياس، وهو ما يفضي إلى الدور أو التسلسل الباطل.

ومثل ذلك ما روي عن النبي أنه قال في حديث طويل:.. وفي بضع أحدكم صدقة. فقال أصحابه: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال (ص): أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر( 6 4). ومثله ما رواه إبن عباس من أنه سألتْ النبي الجارية الخثعمية وقالت: إن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً زمِناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: أرأيتِ لو كان على أبيك ديْن فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال (ص): فدين الله أحق بالقضاء( 7 4).

وواضح أنه ليس في مثل هذه الرواية وما قبلها ـ على فرض صحتهما ـ دلالة تفيد كون النبي (ص) قد أفتى بالقياس، إذ كل ما يمكن أن يقال إنه شابه بين قضيتين ربما للتوضيح وتقريب المعنى لا للتشريع. وحتى مع فرض أنه عمل في مثل هذه الحالات القليلة بالقياس، فإنه لا يعني أنه كان يعمل بمختلف حالات القياس التي عوّل عليها الأُصوليون. فالتعميم ينبني على قياس سابق أو مفترض، وهو ما يفضي إلى المصادرة.

وبأضعف من ذلك أُستدل على قياس النبي (ص) بما روي من أن رجلاً أنكر ولداً وضعته زوجته أسود، فقال (ص): هل لك من إبل حمر فيها أورق - أسود -؟ قال: نعم. قال (ص): وهذا لعله نزعة عرق( 8 4).

كما أُستدل على إجتهاد النبي بما روي عن رجل أتى النبي (ص) فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه ذلك( 9 4). وهذه الرواية على فرض صحتها لا دلالة فيها على الإجتهاد، إذ قد يكون للنبي تخويل من الوحي أن يقبل ذلك لترغيب المشركين في الإسلام وتأليف قلوبهم، وربما يكون له سعة بالأمر أن يقبل أو لا يقبل. وهو أمر يختلف عن الإجتهاد المصطلح عليه( 0 5).

وأُستدل أيضاً بما روي عن النبي (ص) أنه قال في حجة الوداع: >لو إستقبلت من أمري ما إستدبرت لما سقت الهدي<. فقيل أن سوق الهدي على ذلك كان بالرأي. لكن أُجيب على ذلك بأن معناه لو علمت سابقاً ما علمت الآن من الحرج الذي وُجد في السوق لما فعلت. كما قيل في الرد أن هذا الحديث وقع في حجة الوداع حين أمر القوم بالتحلل عن إحرام الحج بالعمرة، لكن النبي نفسه لم يتحلل لمّا ساق الهدي، فتحرّج القوم عن التحلل وأرادوا أن يهتدوا بهدي الرسول (ص)، لذلك إعتبر النبي أن سوق الهدي مانع له من التحلل قبل أن يبلغ محله، ولو علم أنهم لا تطيب أنفسهم إلا بالإتباع في فعله لما ساق الهدي وتحلل. وهذا الحال لم يأتِ عن إجتهاد ورأي في الحكم الشرعي، كما هو واضح( 1 5).

هكذا لا توجد دلالة قاطعة على الإجتهاد المطلق للنبي، إذ الروايات التي إستند إليها في الأدلة المتقدمة هي من الآحاد التي لا تفيد القطع، كما أنها على ما عرفنا ليس فيها الدلالة الواضحة على الإجتهاد بالمعنى المتواضع عليه، فضلاً عما يمكن أن يناقش فيها من جهة السند. لكن من المؤكد أن النبي كان كسائر الناس يتعامل مع قضايا الواقع من الحوادث بمنطق الإجتهاد فيما لا نص فيه. فهذا ما أكده القرآن الكريم بدلالات واضحة يعززها ما نقل عنه في العديد من الحوادث. إلا أن هذا النوع من الإجتهاد يختلف عن المفهوم المصاغ علمياً من حيث إنه عبارة عن إستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الأصلية، أو إنه عبارة عن القياس وما شاكله.

إجتهاد الصحابة

إختلف العلماء في الإتجاه السني حول جواز وشروط الإجتهاد بين الصحابة. فمنهم من منع ذلك في حياة النبي وأجازه بعده، وهو المحكي عن أبي علي الجبائي وإبنه أبي هاشم، وإن كان أبو الحسين البصري قد نقل عنهما التوقف. وذكر البعض أن أبا علي توقف في الغائب وقطع هو وإبنه بالمنع في حق الحاضر إذا أمكنه سؤال النبي (ص)، وفي الغائب إذا أمكنه مراسلته( 2 5). وممن توقف ما نُسب إلى القاضي عبد الجبار الهمداني الذي سلّم بوقوع الإجتهاد في الغيبة عن النبي وتوقف في حضرته، وهو الذي ذهب إليه الإمام الغزالي إستناداً إلى حديث معاذ بن جبل رغم أنه من أخبار الآحاد، لكنه عوّل عليه لما قيل فيه إنه تلقته الأُمة بالقبول( 3 5). علماً أن سبب التوقف عند هؤلاء يعود إلى تعارض الأدلة وعدم القطع بها.

ومن العلماء من منع الإجتهاد عن الصحابة إلا في حدود القضاء دون غيره، وبشرط الغيبة عن النبي لا حضوره، وهو ما نقله الآمدي عن قوم( 4 5). ومنهم من منع ذلك أيضاً إلا لضرورة لا يسع فيها الصحابي أن يكون على إتصال بالنبي كما هو الحال في الغائب البعيد، أو في حالة إذن النبي له بالحكم. وقد ذهب إلى هذا المذهب صاحب (مسلم الثبوت). وهناك من أجازه مطلقاً في الغائب دون الحاضر. كما أن هناك من أجازه بشرط الإذن الخاص. والبعض توسع في هذا الإذن فشمل عنده الصريح والضمني. كذلك أن هناك من أجازه بغياب النبي وحضوره بعد إذنه إذا ما خاف فوت الحادثة من دون حكم أو ضاق عليه الوقت( 5 5). وذهب بعض آخر إلى إعتبار الإجتهاد جائزاً في كل ما ليس فيه أمر ولا نهي، كما هو مذهب إبن حزم الأندلسي الذي أجاز الإجتهاد على الجميع سواء كانوا صحابة أو غيرهم إلى يوم القيامة، حتى لو كان الأمر في حضرة النبي (ص) مادام الإجتهاد عنده يدخل في دائرة المباح لا الواجب ولا الحرام، كإجتهاد الصحابة فيما يجعلونه علماً للدعاء إلى الصلاة، كذلك إجتهادهم في شخصية السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر، حيث أنهم أخطأوا ولم يعنفهم النبي على إجتهادهم هذا( 6 5).

هكذا تتعدد الأقوال التي تجيز للصحابة الإجتهاد في حياة النبي وبعده ضمن شروط وإعتبارات مختلفة. أما الأدلة التي قُدمت بهذا الصدد فسنتناولها كالآتي:

أدلة منع إجتهاد الصحابة

إستدل المانعون لإجتهاد الصحابة في حياة النبي بعدة أدلة منها:

1 ـ إن الصحابي في حياة النبي يمكنه معرفة الحكم الشرعي على وجه اليقين والعلم، وبالتالي لا معنى لأن يمارس الإجتهاد المفضي إلى الظن.

2 ـ إن الحكم بالإجتهاد في حياة النبي يعد إفتياتاً على مقام النبوة فلا يقع.

3 ـ قد ثبت أن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي، مما يعني أنه لو جاز لهم الإجتهاد لإجتهدوا دون مراجعة حضرته (ص)( 7 5).

أدلة جواز إجتهاد الصحابة

إجتهاد الصحابة في حياة النبي

يمكن القول أن الإجتهاد بخصوص القضاء وما شاكله إن كان يتعلق بالتطبيق وتشخيص الواقع فلا مانع ولا غنى عنه في أيّ وقت من الأوقات، سواء في حياة النبي (ص) أو بعدها، وسواء في غيبته أو عند حضوره بعد أخذ الإذن عنه. ومن الوقائع المنقولة بهذا الصدد أن النبي طلب من عمرو بن العاص أن يحكم في مسألة، فقال أجتهد وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: نعم، إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر واحد( 8 5).

ومن ذلك ما روي أن النبي بعث علياً إلى اليمن قاضياً وقال له: إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعتَ من الأول، فإنك إذا فعلتَ ذلك تبين لك القضاء( 9 5). كما نُقل أن النبي أرسل حذيفة اليماني للقضاء بين جارين إختصما في جدار بينهما وإدعى كل منهما أنه له( 0 6).

وروي أيضاً أن النبي أَذِنَ لسعد بن معاذ أن يحكم في شأن يهود بني قريظة، فحكم بقتلهم وسبي نسائهم وذراريهم، فقال له النبي: لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبعة أرقعة( 1 6).

مع هذا يلاحظ أن مثل هذه المنقولات لا علاقة لها بالإجتهاد المتواضع عليه، فليس فيها إستنباط لحكم من الأحكام الشرعية كما هو واضح.

وهناك منقولات تعبر عن مواقف عملية لها علاقة بالتكليف إتخذها الصحابة إضطراراً لعدم تمكنهم من الإتصال بالنبي مع خوفهم من فوات الحادثة أو ضيق الوقت، وهي أيضاً لا تدل على أنهم كانوا يجتهدون بالمعنى المتواضع عليه، إذ أنها حالات جزئية ووقتية لا بد من إتخاذ موقف عملي منها إضطراراً. فمن ذلك نُقل أنه خرج صحابيان في سفر فحضرت الصلاة ولم يكن معهما ماء فصليا ثم وجدا الماء فلم يعد أحدهما صلاته، بينما توضأ الآخر وأعادها، وحينما لقيا النبي (ص) وقصّا عليه فإنه صوبهما، وقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين( 2 6).

كما نُقل أن النبي قال لأصحابه بعد إنصرافه عن الأحزاب: >ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة<، لكن بعضاً من الصحابة صلى صلاة العصر قبل الوصول إلى مكان وجود يهود بني قريظة خشية فوات الوقت، بينما أخرها البعض الآخر حتى وصل إلى محل بني قريظة عملاً بقول الرسول( 3 6).

وروي أن جماعة من الصحابة كانوا في سفر وفيهم عمر ومعاذ، فأصبح كلاهما بحاجة إلى الغسل ولا ماء معهما، فعمل كل واحد منهما على ما ظن ورجى أنه الصواب. فأما معاذ فقد تمرغ وتوضأ بالتراب وصلى، لكن عمر لم يرد ذلك وأخّر الصلاة، فلما رجعا إلى الرسول بيّن لهما الصواب في قوله تعالى: ((فامسحوا بوجوهكم وأيديكم))، وقال يكفيكما أن تفعلا هكذا، مشيراً إلى كيفية التيمم( 4 6).

كما هناك بعض المنقولات التي ظاهرها أن بعض الصحابة قد حكم بالقول في حضور النبي ودون إذنه. حيث نُقل أنه لما قتل أبو قتادة الإنصاري مشركاً، وقال رسول الله (ص): من قتل قتيلاً فله سلبه، فقام أبو قتادة وقال: قتلت قتيلاً، فقال رجل: صدق وسلبه عندي، فإرضه يا رسول الله، عندها قال أبو بكر: لا ها الله ذا لا يعمد إلى أسد من اسود الله يقاتل عن الله تعالى ورسوله فيعطيك سلبه( 5 6). وهذه الرواية حتى لو كانت صحيحة فإنها لا تدل على إجتهاد أبي بكر، إذ ما قاله مستمد مما صرح به النبي (ص) في قوله الآنف الذكر. كل ما في الأمر أن أبا بكر قد تعجل وحكم من نفسه دون إذن النبي، وكان الأولى به أن يدع النبي يحكم أو يستأذن منه ذلك.

لكن أهم المنقولات التي لها دلالة على الإجتهاد بالرأي في حياة النبي هي منقولة معاذ بن جبل حينما بعثه النبي إلى اليمن قاضياً، إذ قال له النبي: بمَ تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: بما في كتاب الله، قال (ص): فإن لم تجد؟ قال: بما في سنة رسول الله، قال (ص): فإن لم تجد؟ قال: أجتهد ولا آلو. فسُرَّ بذلك رسول الله وقال: الحمد لله أن وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله. فهذه الحادثة لها دلالة على الإجتهاد باستنفاد الجهد فيما لا نص فيه. لكنها من جهة وردت بخصوص القضاء وهو يحتاج إلى فض المنازعات والفصل فيها؛ سواء بالإستناد إلى النص أو إلى غير ذلك إن لم يتمكن القاضي من إيجاد الحكم في النص، وهو خلاف الحال في الفتوى، إذ قد لا يترتب على الفتوى أثر من المشاكل إن توقف المفتي وإمتنع عن الإفتاء أو قال بالإحتياط أو أيّ وظيفة عملية أُخرى، وذلك فيما لو عجز عن تحصيل الحكم الشرعي من النصوص. لهذا فإن قياس الإجتهاد في القضاء على الفتوى يعني إلغاء الخصوصية في الأول، وهو ما يحتاج إلى دليل منفصل يسمح بمثل هذا التعدي.

هذا من جهة، أما من جهة أُخرى فإن منقولة معاذ هي كغيرها من المنقولات التي ذكرناها تُعد من أخبار الآحاد التي لا تنفع في إثبات مثل هذا المطلب الكبير، ذلك أن الإجتهاد هو أصل أساس تتوقف عليه مختلف الفروع الفقهية، ومن غير المنطقي أن يتم إثباته بمجرد خبر الآحاد الظني الثبوت. لذا سبق لأبي حنيفة أن إعتبر خبر الواحد إذا كان مما تعم به البلوى فليس بحجة( 6 6)، فكيف الحال والخبر مرسل( 7 6)؟! ناهيك عن أن هناك من عدّه من الموضوعات، كما هو الحال مع الجوزجاني الذي علّق عليه بقوله: >هذا حديث باطل جاء بإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أُصول الشريعة<( 8 6). وكذا ان ابن حزم اعتبره حديثاً باطلاً لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص لم يسمهم، وهو ذاته رجل مجهول لا يعرف من هو { ابن حزم: النبذ في أصول الفقه، شبكة المشكاة الالكترونية، ص60}. من هنا فلا دليل على إجتهاد الصحابة في حياة النبي (ص) بالمعنى المتعارف عليه. والعجيب ما زعمه الزركشي في (البحر المحيط) بقوله: >إن الصحابة تكلموا في زمن النبي (ص) في العلل<( 9 6).

إجتهاد الصحابة بعد النبي

أما إجتهاد الصحابة بعد وفاة النبي فقد كثر النقل عنه حتى أصبح لا يقبل الشك، خاصة أن الحاجة والضرورة قاضية به عند تجدد الحوادث التي لم ينص عليها الشرع الإسلامي بشكل صريح وواضح، حتى قيل أن الذين حفظت عنهم الفتوى من الأصحاب بلغوا مائة ونيفاً وثلاثين ما بين رجل وإمرأة؛ منهم المكثرون ومنهم المتوسطون ومنهم المقلون( 0 7). لذلك إختلفوا في مسائل عديدة من أمثال ما أُطلق عليها بالجد والأخوة والخرقاء والمشتركة أو المشرّكة والحرام والخيار والخلية والبرية والبائن والمدبر والمكاتب والكلالة وغيرها( 1 7).

وهناك بعض النصوص التي تنقل أن بعض الصحابة كان يشير في كلماته إلى دليل القياس فيما لا نص فيه كما هو الحال مع الخليفة عمر بن الخطاب، حيث جاء في كتاب مطوّل له بعثه إلى أبي موسى الأشعري قال فيه: >.. ثم الفهم الفهم فيما أدى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس بين الأُمور عند ذلك، وأعرف الأمثال ثم أعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق<( 2 7).

بل إن بعض المتأخرين إعتبر القياس دليلاً مستقلاً لعمل الصحابة وإجماعهم عليه، كما هو رأي إبن خلدون الذي يقول: >ثم نظرنا في طرق إستدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة؛ فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض في ذلك الإلحاق. فإن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق؛ تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلة.<( 3 7).

لكنا نعد مثل هذا الرأي من المجازفات في القول. فكون الصحابة قد إجتهدوا في الكثير من القضايا وأقاموا الشورى كي يحددوا الموقف العملي لمسائل لم ينزل فيها تشريع؛ لا يعني أنهم عملوا بالقياس كدليل مميز ومستقل، وما روي في هذا الشأن يعد من القليل لا يصح أن يُصور كأنه مركوز في أذهان الصحابة مثلما هو الحال عند المجتهدين عبر العصور. مع أنه نقل عن الصحابة والتابعين الكثير من النقد والإعتراض على الأخذ بالرأي والقياس، ولو بشكل مجمل، منها ما روي عن أبي بكر قوله: >أيّ سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي<. وعن الإمام علي قوله: >لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره<. وعن إبن سيرين قوله: >أول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس<. وعن مسروق صاحب إبن مسعود قوله: >إني لا أقيس شيئاً بشيء إني أخاف أن تزلّ قدمي<( 4 7). وقد سبق لابن حزم ان نفى ان يكون هناك احد من الصحابة اباح القول بالقياس، باستثناء الرسالة الموضوعة عن عمر بن الخطاب، وهي عنده لا تصح، وذلك حيث رواها رجلان متروكان{ النبذ في أصول الفقه، مصدر سابق، ص69 }.

لذا فمن المعقول أن يقال أن الصحابة قد مارسوا الإجتهاد عند الإضطرار، وكان في الغالب ممزوجاً بالشورى. ومن ذلك ما ذكره ميمون بن مهران من أن أبا بكر كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله (ص) في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين إن كان الرسول قد قضى في ذلك بقضاء؟ فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله (ص) جمع رؤوس الناس وخيارهم فإستشارهم؛ فإذا إجتمع رأيهم على أمر قضى به( 5 7). وعن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه قائلاً: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله فانظر ما إجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك( 6 7).

وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضي، وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله (ص) فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إني أخاف وإني أرى >فإن الحرام بيّن والحلال بيّن، وبين ذلك أُمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك<( 7 7).

على ان في اجتهاد الصحابة رحمة للذين جاءوا من بعدهم. فبفضله فتح الفقهاء الباب الى الرأي والاستنباط، ولولاه لكان من المشكل التفكير في حدود غير الصريح من النص. لهذا يؤثر عن عمر بن عبد العزيز قوله: >ما أحب ان اصحاب رسول الله لا يختلفون، لانه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وانهم ائمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول احدهم لكان سنة، ومعنى هذا انهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه..<( 8 7).

* * *

يمكن القول اخيراً ان الطريقة التي سلكها الصحابة في الإجتهاد لم تستند إلى الأساليب الإستدلالية كما زاولها المجتهدون من بعدهم عبر العصور، اذ كانت تلقائية ذات طبيعة وجدانية تعمل على اقتناص المطلوب مباشرة بعد التأمل ومشاورة الرأي عادة. وقد إستمد التابعون هذه الطريقة عنهم حتى ظهر الإحتياج إلى الإجتهاد المعتمد على سبل الإستدلال بالتفكير. وإستمر الحال على ذلك حتى القرن الرابع الهجري، ومنه ظهر الجدل وكثرة الخلاف في علم الفقه( 9 7)، إذ تكاثرت الآراء والمذاهب وأصبح بعضها يضرب البعض الآخر حتى إنتهى الأمر أخيراً إلى سد باب الرأي والإجتهاد المطلقين، فركن الفقهاء وغيرهم من الناس قروناً طويلة إلى التقليد غير عابئين بوجود الحاجة المستمرة إلى الإجتهاد( 0 8). أما الدواعي الحقيقية لغلق باب الإجتهاد فلازالت لم تعرف بعد. فكل ما طُرح بهذا الصدد يعد من التكهنات والظنون التي لا ترقى إلى مستوى العلم واليقين على ما سنعرف الآن..

نهاية الإجتهاد عند السنة

إختلف الباحثون في تحديد السبب الذي جعل الفقه ينقلب من كونه مادة للإجتهاد إلى شكل من أشكال التقليد. وهو المعروف بسد باب الإجتهاد الذي حدث منذ القرن الرابع الهجري. إذ نُقل أنه حُصرت المذاهب في أربعة وذلك (سنة 5 6 3هـ). وقيل إن آخر مجتهد آنذاك هو المفسر والمؤرخ المعروف محمد بن جرير الطبري (المتوفي سنة 0 1 3هـ)( 1 8).

ونُقل ان المجتهد المطلق - سواء المستقل أو المنتسب - قد فُقد من قريب عصر الشافعي. ونصّ على انعدامه بعد عصر الائمة الفخر الرازي وبعده الرافعي والنوري معولين على ان الناس >كالمجمعين اليوم على انه لا مجتهد<. كما أشار الى ذلك الغزالي في (الإحياء) بأن حكم كل أهل العصر عدم بلوغ رتبة الاجتهاد، وانما يفتي الفقيه فيما يُسأل عنه نقلاً عن مذهب إمامه. وعلل سبب ذلك بأن الاجتهاد متوقف على تأسيس قواعد اصولية وحديثية وغيرهما يخرج عليها المجتهد استنباطاته وتفريعاته، وهذا التأسيس هو الذي أعجز الناس عن بلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق( 2 8). فهذا هو موقف جمهور الفقهاء بأن شروط الاجتهاد المطلق لم تتحقق في شخص من علماء القرن الرابع فما بعده، وان من ادعى منهم لا تسلم له دعواه، ضرورة ان بلوغها لا يثبت بمجرد الدعوى( 3 8). حتى قيل ان الطبري صاحب التفسير والتاريخ قد ادعى لنفسه بلوغ رتبة الاجتهاد المطلق الا ان الفقهاء في عصره لم يسلموا له، فما بالك بغيره ممن هو في العصور البعيدة( 4 8).

ونقل إبن عابدين الحنفي عن بعض رسائل إبن نجيم قوله: >إن القياس بعد الأربعمائة منقطع<( 5 8).

على هذا قام الفقهاء بمنع أهل العصور التالية من الاستنباط من الايات والاحاديث، واوجبوا عليهم الأخذ بأقوال الائمة واتباعهم في كل ما يقولون من الأحكام الفقهية وتفسير الايات القرآنية والاحاديث النبوية، معتبرين انه بدون ذلك يلزم الضلال والالحاد في الدين، لأن كثيراً من الايات والاحاديث يعارضها مثلها من النصوص، ولا اطلاع لغير المجتهدين على ذلك الا بالنقل عنهم، وبعضها منسوخ وبعضها مخصوص ومجمل ومتشابه وغير ذلك. فهذا هو معنى قول الأكثرين لجواز خلو الزمان حتى عن مجتهد المذهب( 6 8).

وقد لاقى هذا المنع رواجاً كبيراً في المذهبين الحنفي والشافعي وأقل منهما في المذهب المالكي( 7 8). لكن الأقلين رفضوه، كما هو الحال مع الحنابلة الذين أوجبوا ان لا يخلو عصر من العصور عن المجتهد ليتمكن من استنباط الأحكام، وإن سلّموا بخلو الزمان عن المجتهد المستقل، حيث بنظرهم ان المجتهد يتبع الدليل، وهم ينتسبون الى ابن حنبل لميلهم لعموم أقواله كما أفاد ذلك ابن الجوزي( 8 8).

وقد نصّ السيوطي وغيره على تعذر إمكان إحداث المجتهد المستقل دون المنتسب بعد القرون الثلاثة، فذكر بأن >هذا القسم قد فُقد من دهر، بل لو أراده الانسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نصّ عليه غير واحد<. وقال ابن برهان من الشافعية بأن >اصول المذاهب وقواعد الادلة منقولة عن السلف فلا يجوز ان يحدث في الأعصار خلافها<. وقال ابن المنير من المالكية بأن >اتباع الائمة الان الذين حازوا شروط الاجتهاد مجتهدون ملتزمون ان لا يحدثوا مذهباً، أما كونهم مجتهدين فلأن الاوصاف قائمة بهم، وأما كونهم ملتزمين ان لا يحدثوا مذهباً، فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه اصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الاساليب<( 9 8).

واوضح السيوطي في رده على جمهور الفقهاء بأن المجتهد المطلق أعم من المجتهد المستقل، واذا كان المستقل قد تعذر وجوده بعد عصر الائمة فان المجتهد المنتسب او غير المستقل باقي أبد الدهر، مستدلاً على ذلك بقول النبي (ص): >يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الامة امر دينها<، مانعاً الاستدلال بأن المراد بمن يجدد أمر الدين هو من يقرر الشرانع والاحكام لا المجتهد المطلق( 0 9).

وقريب من الموقف العام لجمهور الفقهاء ذهب إبن خلدون الى ان أسباب اغلاق باب الاجتهاد تعود إلى كثرة ما تشعب من الإصطلاحات والمعارف في العلوم مع تباعد الزمن، إذ صار من الصعب الوصول إلى مرتبة الإجتهاد، لذا خشي أن يمتد من هو غير أهل لذلك ممن لا يوثق برأيه ولا دينه، الأمر الذي حدا بالفقهاء أن يعلنوا عجزهم عن الوصول إلى تلك المرتبة وأوصوا الناس بتقليد أئمة المذاهب( 1 9). ومثله ما ذهب اليه حديثاً الشيخ علي الطنطاوي، حيث اعتبر ان الفقهاء هم الذين أمروا باتباع أحد المذاهب الاربعة وذلك >لما رأوا غلبة العجز على الناس، ولئلا يصير الأمر فوضى، فيدعي كل واحد انه صار ابا حنيفة او الشافعي كما هو الان<( 2 9).

لكن الشاه ولي الله دهلوي عزا السبب في ذلك إلى ما ظهر من كثرة الجدل والخلاف بين الفقهاء مع إزدياد جور القضاة، مما جعل إنقطاع ذلك لا يكون إلا بإتباع تصريح رجل من المتقدمين في المسائل المختلف حولها، أو في حالة القضاء كان الناس لا يأمنون إلا بوجود شيء قد قيل من قبل. الأمر الذي جعلهم يطمئنون بالتقليد الذي دبّ في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون( 3 9).

ويميل الشيخ محمد جواد مغنية إلى أن السبب الوحيد لسد باب الإجتهاد هو تخوف بعض حكام ذلك الزمان من حرية الرأي والقول على نفسه وعرشه، فإحتال وتذرّع >كي ينكّل بكل حر يأبى التعاون مع دولته على الفسق والفجور<( 4 9).

وعلى خلاف هذا الرأي هناك من يقول أن الفقهاء قد ضاقوا ذرعاً بما كان يطلبه منهم الأُمراء من فتاوى تحلل لهم ما يريدون، فاضطرهم الأمر إلى أن يجتمعوا ويصمموا على إغلاقه ليسدوا الباب في وجه أهواء الأُمراء( 5 9).

مع هذا قد يتساءل المرء عن علة حصر المذاهب بالاربعة المعروفة دون غيرها على كثرتها؟

فبحسب تعليل المتأخرين انه يرجع الى كونها قد دُونت وانتشرت بخلاف غيرها. لهذا ان الشيخ تقي الدين بن الصلاح يرى - كما ينقل القرافي - ان التقليد يتعين بالائمة الاربعة دون غيرهم باعتبار ان مذاهبهم قد انتشرت وانبسطت دون غيرها، وهو ما يبرر البقاء عليها لكمالها من هذه الجهة( 6 9).

بل ادعى البعض الاجماع على ذلك كما هو قول ابن الهمام( 7 9). ومثل ذلك ما ذكره الراعي وهو يتساءل عن علة وجوب اتباع الائمة الاربعة دون غيرهم فقال: >سمعت شيخنا وسيدنا قاضي القضاة بغرناطه ابا القاسم محمد بن سراج أعزه الله يقول: انما ذلك لكثرة أتباعهم عرفت مذاهبهم وتحققت، وتواترت أقوالهم عند ارباب مذاههم، وانعقد الاجماع على اتباعهم والاقتداء بهم فلا يجوز لأحد اليوم ان يخرج عن المذاهب الاربعة<( 8 9).

لكن من وجهة نظر تاريخية سياسية نرى ياقوت الحموي يعتقد بأن القادر العباسي المتخلف (سنة 1 8 3هـ) أمر أربعة من علماء الإسلام أن يصنف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنف الماوردي الشافعي (الإقناع)، وصنف أبو الحسين القدوري مختصراً على مذهب أبي حنيفة، كما صنف أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً على مذهب مالك، إلا أنه لم يعرف من صنف على مذهب أحمد بن حنبل. ولما عُرضت هذه المصنفات على القادر قَبِلها وأمضى العمل عليها( 9 9).

وعند الشيخ (أبو زهرة) أن العلة في ذلك تتشعب إلى عدة دواعي: منها ما يعود إلى التعصب المذهبي، كذلك بسبب تدوين المذاهب ووفرة الثروة الفقهية الجاهزة، حيث به أصبح تناول الأحكام سهلاً، وأيضاً بسبب ولاية القضاء، إذ كان تقليد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء الناس به وإقبالهم عليه( 0 0 1).

وأخيراً فإن هناك من رأى أن السبب في السد وحصر المذاهب هو لكثرة تشتت المذاهب في الفروع وإختلاف الآراء، الأمر الذي جعل الدولة تلجأ إلى تقليلها في مذاهب محصورة، وذلك من خلال دفع قيمة مالية باهضة على كل مذهب يريد لنفسه الإعتراف به رسمياً( 1 0 1).

مهما يكن فعلى الرغم من أن التقليد ساد قروناً طويلة إلى يومنا هذا بسبب إغلاق باب الإجتهاد، إلا أن هناك العديد من الفقهاء الكبار لم يستجيبوا إلى حكم ذلك الإغلاق، فدعوا إلى الإجتهاد خاصة بالنسبة إلى القادرين عليه، وإن بحدود ما أُطلق عليه بالمنتسب، وكان منهم إبن تيمية وتلميذه إبن القيم الجوزية، وإبن حجر العسقلاني وتلميذه جلال الدين السيوطي، فضلاً عن بعض الحركات الحديثة التي سادت في العالم الإسلامي كحركة الوهابية في الحجاز والحركة السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، مضافاً إلى بعض المصلحين كالشيخ محمد عبدة وتلميذه رشيد رضا وشيخ الأزهر المراغي وغيرهم.

الهوامش

(1) الحشر/2.

(2) المعتمد، ج2، ص667. والمستصفى ج2، ص452. والإحكام للآمدي، ج4، ص192.

(3) آل عمران/7. انظر: الإحكام للآمدي، ج4، ص514.

(4) إبن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، ص253.

(5) النساء/38. انظر: المستصفى، ج2، ص452. والإحكام للآمدي، ج4، ص982. كذلك: فخر الدين الرازي : التفسير الكبير، ج01، ص991 وما بعدها.

(6) الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص52.

(7) النحل/34، والأنبياء /7.

(8) التوبة/221.

(9) روى هذه الرواية الطبراني عن إبن عباس. لكن جاء عن عمران بن حصين وهو صحيح بلفظ: >إعملوا فكل ميسر لما خُلق له<. (الإحكام للآمدي، ج4، حاشية ص434).

(01) الجصاص، أحمد بن علي الرازي: الفصول في الأُصول، ج4، ص54. والشيرازي، أبو إسحاق: التبصرة في أُصول الفقه، ص994. والمستصفى، ج2، ص552. والإحكام للآمدي، ج4، ص614. وجاء في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص عن النبي (ص) ما نصّه: >اذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، واذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (العسقلاني، ابن حجر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج31، ص172ــ272). على ان هذا الحديث رواه الشيخان عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، كما رواه الحاكم والدارقطني عن عقبة بن نافع (الإحكام للآمدي، ج4، هامش ص614).

(11) الفصول في الأُصول، ج4، ص54. والمستصفى، ج2، ص553.

(21) المستصفى، ج2، ص553. والإحكام للآمدي، ج4، ص804.

(31) المستصفى، ج2، ص552.

(41) شرح اللمع، ج2، ص067 و477 و1601.

(51) المعتمد، ج2، ص167 وما بعدها. والإحكام للآمدي، ج4، ص893 ــ 704. والمستصفى، ج2، ص653 ــ 753.

(61) انظر حول ذلك المصادر التالية: المعتمد، ج2، ص367. والتبصرة للشيرازي، ص225ــ325 . والمستصفى، ج2، ص553 وما بعدها. والإحكام للآمدي، ج4، ص204 ــ304.

(71) النجم/3 ــ 4.

(81) يونس/51.

(91) الحاقة/44 ــ 64.

(02) الأنفال/76 ــ 86.

(12) آل عمران/951.

(22) آل عمران/951.

(32) انظر بصدد العصمة دراستنا المعنونة: العصمة وكتاب الألفين والمنهج الإستقرائي، مجلة الموسم، العددان (32ــ42)، ص504ــ024.

(42) روى هذا الحديث الشيخان وأحمد في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي عن مالك (الإحكام للآمدي، ج4، هامش ص604. وانظر ايضاً: الام للشافعي، ج8، ص245. واقضية رسول الله، ص28). كما أن هذه الرواية موجودة في المصادر الشيعية ويطلق عليها صحيحة هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عن النبي (الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص093).

(52) عيسى، عبد الجليل: إجتهاد الرسول، ص75.

(62) المدخل إلى علم أُصول الفقه للدواليبي، ص11، عن: مناهج الإجتهاد في الإسلام، هامش ص 653.

(72) الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص27.

(82) الحشر/2.

(92) الفصول في الأُصول، ج3، ص042، وج4، ص03. والإحكام للآمدي، ج4، ص993.

(03) النساء/38.

(13) الفصول في الأُصول، ج3، ص042، ج4، ص03. والإحكام للآمدي، ج4، ص982. والتفسير الكبير للرازي، ج01، ص002.

(23) إبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، طبعة دار الجيل، ج6، ص791ــ891.

(33) آل عمران/7.

(43) النساء/501.

(53) فواتح الرحموت، ج2، ص863.

(63) الأنبياء/87.

(73) الفصول في الأُصول، ج3، ص042، ج4، ص03 و923 ــ 033.

(83) الإحكام للآمدي، ج4، ص514.

(93) الميزان في تفسير القرآن، ج71، ص113 ــ 213.

(04) التبصرة للشيرازي، ص92. والإحكام للآمدي، ج4، ص534.

(14) قيل إن الله فوّض للنبي بعض ما جاء في الصلاة، حيث أن الركعتين الأخيرتين في الصلاة هما مما أوجبهما النبي (ص) بتفويض منه تعالى، بخلاف الركعتين الأوليتين باعتبارهما مما أوجبهما الله تعالى (الجزائري، نعمة الله: الأنوار النعمانية، ج2، ص763).

(24) ص/93.

(34) الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص271.

(44) المعتمد، ج2، ص267. والمستصفى، ج2، ص653. والإحكام للآمدي، ج4، ص004.

(54) إبن حزم: ملخص إبطال القياس والرأي والإستحسان والتقليد والتعليل، ص62. كذلك: الفصول في الأُصول، ج4، ص94. والمعتمد، ج2، ص537. والمستصفى، ج2، ص452. والإحكام للآمدي، ج3، ص822.

(64) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج82، ص963. واعلام الموقعين، ج1، ص991. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص35.

(74) ملخص إبطال القياس، ص52. والمعتمد، ج2، ص537ــ637. والمستصفى، ج2، ص552. والإحكام للآمدي، ج4، ص492. وقد روي عن إبن عباس شبيه بتلك الرواية من أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي (ص) فقالت إن أُمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال (ص): نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أُمك دين أكنت قاضيته؟ إقضوا الله فالله أحق بالوفاء< (اعلام الموقعين، ج1، ص002. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص45).

(84) ملخص إبطال القياس، ص52. والفصول في الأُصول، ج4، ص94. واعلام الموقعين، ج1، ص991.

(94) إجتهاد الرسول، ص221.

(05) بهذا الصدد يقول الشيخ أبو إبراهيم أحمد الأنصاري الحنفي النقشبندي في شرحه (بذل المجهود في شرح سنن أبي داود)، تعليقاً على تلك الرواية التي رواها إبن حنبل في مسنده: >فظهر بهذا أنه (ص) أسقط عنه ثلاث صلوات، فكان من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، ويسقط عمن شاء ما شاء من الواجبات< (المصدر السابق، ص221).

(15) فواتح الرحموت، ج2، ص863 .

(25) المعتمد، ج2، ص567. والإحكام للآمدي، ج4، ص704. وفواتح الرحموت، ج2، ص573

(35) المعتمد، ج2، ص567. والمستصفى، ج2، ص553. والإحكام للآمدي، ج4، ص704.

(45) المستصفى، ج2، ص453. والإحكام للآمدي، ج4، ص704.

(55) فواتح الرحموت، ج2، ص573.

(65) الإحكام لإبن حزم، ج5، طبعة دار الجيل، ص221. والبحر المحيط، ج6، ص022ــ122.

(75) الإحكام للآمدي، ج4، ص804.

(85) التبصرة، ص915. والمستصفى، ج2، ص553.

(95) مناهج الإجتهاد في الإسلام، ص24.

(06) نفس المصدر والصفحة.

(16) الإحكام للآمدي، ج4، ص492 و804. وفواتح الرحموت، ج2، ص573. والاموال لابن سلام، ص36. واعلام الموقعين، ج1، ص402.

(26) اعلام الموقعين، ج1، ص402. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص47.

(36) فواتح الرحموت، ج2، ص573. والبحر المحيط، ج6، ص422.

(46) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ، ص16. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص47.

(56) الإحكام للآمدي، ج4، ص804. وفواتح الرحموت، ج2، ص673.

(66) الإحكام للآمدي، ج4، ص692.

(76) روى هذا الحديث أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي وإبن عدي والطبراني والبيهقي؛ عن أحّد أصحاب معاذ، وهو مرسل (الإحكام للآمدي، ج4، ص692، وهامش ص392). وقد نصّ الترمذي عليه بقوله: ليس إسناده عندي بمتصل. وعقّب عليه إبن عربي بقوله: هو حديث مشهور (السباعي، مصطفى: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص773).

(86) السنة للسباعي، ص873.

(96) النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 7791م، ج1، ص43.

(07) الإحكام لإبن حزم، طبعة دار الجيل، ج5، ص78 وما بعدها. وأعلام الموقعين، ج1، ص21.

(17) الفصول في الأُصول، ج4، ص35. والتبصرة، ص824.

(27) المحلى ج1، ص55. وأعلام الموقعين، ج1، ص68. علماً أن إبن حزم ضعّف تلك الرسالة من حيث السند وكذبها. كذلك أن الاستاذ محمود بن محمد عرنوس توصل في كتابه (تاريخ القضاء في الإسلام) إلى تأييد ابن حزم واعتبار تلك الرسالة موضوعة بالإستناد إلى دليل تاريخي، وهو ان أبا موسى الأشعري لم يتولَّ الكوفة في عهد عمر، بل كان قاضيها آنذاك شريح، أما أبو موسى فقد تولاها في عهد عثمان (تاريخ القضاء في الإسلام، ص51. والمحلى، ج1، ص55ــ65).

(37) تاريخ إبن خلدون، ج1، ص318. كذلك انظر بهذا الصدد: أعلام الموقعين، ج1، ص302 وما بعدها.

(47) ملخص إبطال القياس، ص75 وما بعدها. والتبصرة، ص924. والإحكام للآمدي، ج4، ص403. ورسالة القول المفيد، ص33. يضاف إلى ذلك نقل إبن القيم في كتابه (أعلام الموقعين، ج1، ص37ــ57) وقبله إبن حزم في كتابه (الإحكام في أُصول الأحكام، طبعة السعادة، ج6، ص94ــ95) وكذلك الشاطبي في كتابه (الإعتصام، ج3، ص142ــ942)؛ كلام التابعين والسلف في نقد الرأي وذمّه، منها: ما عن الشعبي أنه قال: لعن الله أرأيت. وعنه في جوابه لصالح بن مسلم في مسألة عن النكاح، إذ قال له: إن أخبرتك برأيي فَبُل عليه. وعنه أنه قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله (ص) فخذوه، وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش. ونُقل إنه قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غداً. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه. وعن أبي سلمة أنه قال للحسن البصري: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله (ص). وعن أبي وائل شقيق إبن سلمة إنه قال: إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت. وعن إبن شهاب إنه قال: دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي. وعن عروة بن الزبير إنه قال: مازال أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأُمم، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم. وعن إبن شهاب إنه قال، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما إنسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين إتبعوا الرأي وأخذوا فيه. وعن إبن وهب إنه قال حدثني إبن طيعة أن رجلاً سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئاً: فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، فقال: لا، ثم عاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم إني لعلّي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأياً غيره فلا أجدك. وعن ربيعة إنه قال لإبن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه. وعن حماد بن زيد إنه قال: قيل لأيوب السخنياني: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار ما لك لا تجترّ؟ قال: أكره مضغ الباطل. وعن الأوزاعي إنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول. وعن سعيد بن عبد العزيز إنه كان إذا سُئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب.

كما أن من المعروف أن الأئمة الأربعة كانوا لا يعولون على الرأي والإجتهاد إلا للضرورة، ومن ذلك قول أبي حنيفة: >عجباً للناس يقولون إني أفتي بالرأي، ما أفتي إلا بالأثر<. ويقول >إذا صح الحديث فهو مذهبي< (أبو حنيفة، ص554). كذلك يقول: >كذب والله وإفترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى القياس< (المصدر السابق، ص372). وقوله أيضاً : >نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك إننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منطوق به< (نفس المصدر والصفحة. كذلك: أعلام الموقعين، ج1، ص77).

كذلك كان الإمام مالك يقول هو الآخر ما معناه: إنما أنا بشر أُصيب وأُخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة (ملخص إبطال القياس، ص66. والإحكام، ج6، ص65. وأعلام الموقعين، ج1، ص57. والإعتصام، ج3، ص652. والموافقات، ج4، ص982). وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا إبن قعنب، ومالي لا أبكي؟! ومن أحق بالبكاء مني؟! والله لوددت أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطاً، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفتِ بالرأي (الإحكام لإبن حزم، ج6، ص75. وأعلام الموقعين، ج1، ص67). أما الشافعي فهو معروف بموقفه المتشدد من الرأي في قبال النص، إذ إنه يعد الرأي أو القياس للضرورة صراحة، وقد نصّ في رسالته على ذلك، حيث يقول: >ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود< (الرسالة، ص995). وقد نُقلتْ عنه أقوال عديدة بهذا الشأن منها قوله: >القياس إنما يصار إليه عند الضرورة< (أعلام الموقعين، ج2، ص482). وقوله: >إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر< (الملل والنحل، ص98. والإعتصام، ج3، ص 652). وقوله: >إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط<. كذلك قوله: >إذا رويت عن رسول الله (ص) حديثاً ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب<. وقوله: >لا قول لأحد مع سنة رسول الله (ص)< (أعلام الموقعين، ج2، ص282).

أما إبن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة بعداً عن الرأي وأقربهم تمسكاً بالخبر ولو كان ضعيفاً، وهو العلة الذي جعل مقلديه قلة، كما ينص على ذلك إبن خلدون (تاريخ ابن خلدون، ج1، ص308). فمن الواضح إنه لا يستخدم القياس الا بدافع الضرورة، كوقوع حادثة تقتضي حكماً ما لدفع مضرة أو جلب مصلحة وليس هناك من نص ولا أثر، لذلك إنه ينفر من الإفتاء في القضايا المفترضة على خلاف توجهات الإمام أبي حنيفة (أعلام الموقعين، ج2، ص102. كما انظر: الرويشد: قادة الفكر الإسلامي عبر العصور، ص38).

(57) حجة الله البالغة، ج1، ص941.

(67) الإحكام للآمدي، ج4، ص403. وحجة الله البالغة، ج1، ص941.

(77) حجة الله البالغة، ج1، ص941 ــ 051.

(87) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص552.

(97) ذُكر أنه منذ حوالي منتصف القرن الأول إلى أوائل القرن الرابع الهجري ظهر ما لا يقل عن تسعة عشرة مدرسة فقهية. (إقبال، محمد: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص981ــ091).

(08) علماً بأن هذا الأمر كاد أن يحدث لدى الاتجاه الشيعي بعد الشيخ الطوسي منذ القرن الخامس الهجري؛ لولا الحركة النقدية المضادة لابن ادريس الحلي. وستأتي الاشارة الى ذلك فيما بعد.

(18) مطهري: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ص34 و71.

(28) المليباري: هداية الموفقين، ص44.

(38) تهذيب الفروق، ج2، ص121.

(48) تهذيب الفروق، ج2، ص711.

(58) وافي، علي عبد الواحد: حقوق الإنسان في الإسلام، ص822.

(68) تهذيب الفروق، ج2، ص221ــ321.

(78) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص303.

(88) انتصار الفقير السالك، مقدمة المحقق، ص69.

(98) تهذيب الفروق، ج2، ص021.

(09) تهذيب الفروق، ج 2، ص121.

(19) ابن خلدون: المقدمة، ص844.

(29) مشكلات في طريق الحياة الاسلامية، ص541.

(39) حجة الله البالغة، ج1، ص351.

(49) الفقه على المذاهب الخمسة، ص8ــ9.

(59) هذا الرأي يعود إلى الدكتور عبد العزيز كامل، نقله عنه الدكتور يحيى الجمل، ندوة التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، ص156 ــ 256.

(69) مواهب الجليل، ص03.

(79) هداية الموفقين، ص66.

(89) انتصار الفقير السالك، ص621.

(99) عن: مقدمة المقرم لكتاب الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص م ــ ن.

(001) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص203ــ303. والفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص881ــ091.

(101) جاء في كتاب (رياض العلماء) للإصفهاني نقلاً عن كتاب (تهذيب الأنساب ونهاية الأعقاب) لبعض المؤلفين من بني أعمام الشريف المرتضى ما ملخصه أنه >إشتهر على ألسنة العلماء أن العامة - أهل السنة - في زمن الخلفاء لما رأوا تشتت المذاهب في الفروع وإختلاف الآراء، بحيث لم يمكن ضبطها، فقد كان لكل واحد من الصحابة والتابعين ومن تبعهم مذهب برأسه في المسائل الشرعية والأحكام الدينية؛ إلتجأوا إلى تقليلها فأجمعوا على أن يجمعوا على بعض المذاهب... فالعامة أيضاً لما إضطربت إتفقت كلمات رؤسائهم وعقيدة عقلائهم على أن يأخذوا من أصحاب كل مذهب خطيراً من المال ويلتمسوا آلاف ألف دراهم ودنانير من أرباب الآراء في ذلك المقال. فالحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية لوفور عدّتهم جاؤوا بما طلبوه، فقرروهم على عقائدهم. وكلفوا الشيعة المعروفة في ذلك العصر بالجعفرية لمجيئ ذلك المال الذي أرادوا منهم، ولما لم يكن لهم كثرة مال توانوا في الإعطاء ولم يمكنهم ذلك. وكان ذلك في عصر السيد المرتضى (ره) وهو قد كان رأسهم ورئيسهم، وقد بذل جهده في تحصيل ذلك المال وجمعه من الشيعة فلم يتيسر له، حتى أنه كلفهم بأن يجيؤوا بنصف ما طلبوه ويعطي النصف الآخر من خاصة ماله، فما أمكن للشيعة هذا العطاء، فلذلك لم يدخلوا مذهب الشيعة في تلك المذاهب، وأجمعوا على صحة خصوص الأربعة وبطلان غيرها. فآل أمر الشيعة إلى ما آل في العمل بقول الآل السادة الأنجاب. (الإصفهاني، الميرزا عبد الله الأفندي: رياض العلماء وحياض الفضلاء، ج4، ص33ــ43).

وقد نقل الخوانساري ذلك وعلّق عليه بقوله: >يؤيد هذا التفصيل ما ذكره صاحب (حدائق المقربين) إن السيد المرتضى (ره) واطأ الخليفة - وكأنه القادر بالله - على أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار ليجعل مذهبهم في عداد تلك المذاهب وترفع التقية والمؤاخذة على الإنتساب إليهم، فتقبّل الخليفة، ثم أنه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفاً، وطلب من الشيعة بقية المال فلم يفوا به. (الخوانساري: روضات الجنات، ج4، ص603ــ803).

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار