اطروحة المفكر الصدر ومذاهب الاستقراء

يحيى محمد

يعرّف الدليل الاستقرائي عادة بأنه استدلال يعتمد على حالات خاصة قليلة لينتهي بالنتيجة الى حالة عامة، كما هو الحال في القانون الاستقرائي القائل > كل حديد يتمدد بالحرارة <، فلا شك انه ناتج عن اختبار عدد محدود من قطع الحديد بالحرارة. والحقيقة ان الاستقراء لم تقتصر وظيفته على اثبات الحالة العامة. اذ لا شك ان له دوراً آخر في اثبات الحالة الفردية من خلال ملاحظة القرائن وتجميع الاحتمالات حتى يصل بها الى درجة الاثبات او اليقين. فمثلاً كيف نعرف ان ذلك القدح مملوء بالماء لا الخمر، لولا عملية الاستقراء الكاشفة عن عدة قرائن احتمالية تتراكم لتصل الى مرحلة الجزم واليقين. ومن الواضح ان هناك مشكلة اساسية في الاستقراء، ففي مثالنا الانف الذكر > كل حديد يتمدد بالحراة <>

وهكذا فان مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة االيقين والتعميم. واذا ما علمنا ان اغلب المعارف االبشرية هي معارف استقرائية، ادركنا قيمة الجهود التي تبذل لتفسير عملية الاستقراء. فتفسير هذه العملية هو في حد ذاته تفسير لأغلب المعارف التي يتزود بها الفكر البشري. من هنا جاءت دراسة الشهيد الصدر وهي تعبّر عن هذا المعنى، وذلك في كتابه اللامع (الاسس المنطقية للاستقراء). فهي ليست مجرد تفسير للاستقراء بما هو استدلال فحسب، بل انها تمثل تفسيراً لاغلب معارف الفكر البشري، سواء كانت علمية او حسية او ميتافيزيقية او غير ذلك من المعارف الاخرى.

والمتتبع للمذاهب التي عالجت مشكلة الاستقراء، سيجد انها تفترق من الناحية الرئيسية الى موقفين متناقضين، أحدهما قديم يمتد الى ارسطو واتباعه من العقليين ومَن سار على شاكلتهم، والاخر حديث يبدأ من فيلسوف الشك التنويري ديفيد هيوم. فبينما كان المنطق العقلي يرى ان الاستقراء محلول أمره من أوله الى آخره دون ان يعي أي مشكلة يمكن ان يشار اليها بالبنان؛ جاء الفكر الحديث وهو يرى ان مشكلة التعميم واليقين مستعصية، مبدياً عدم تفاؤله بأي أمل لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظن. ووسط هذا الضباب، بين عدم الوعي بالمشكلة والوعي بها، وبين حل القضية والتعذر عن حلها، جاء دور السيد الصدر الريادي ليدشّن طريقاً جديدة في المعرفة البشرية. لقد وقف السيد الصدر موقفاً مزدوجاً تجاه كل من المنطق الارسطي والمنطق الحديث، فهو مع المنطق الارسطي أخذ ينعى عليه حلوله الساذجة، ويكشف عما فيها من دور ومصارات ليس الاستقراء بحاجة اليها. أما موقفه مع المنطق الحديث، فهو انه وإن وافقه على وجود مشكلة منطقية في الاستقراء، لكنه انفرد في الاعتقاد بالقدرة على تذليل المشكلة والقضاء عليها. فهو يتفق مع المنطق الحديث ويعي ان البرهنة على قضايا التعميم واليقين في قضايا الاستقراء انما هو ضرب من المستحيل، لكنه مع ذلك سلك سبيلاً آخر لم يسبق له مثيل، حيث انه افترض اليقين في العملية الاستقرائية وقام بتبريره منطقياً.

***

من الناحية التاريخية ان أقدم المصادر التي تطلعنا على الاعتراف بوجود مشكلة في الاستقراء هي تلك التي تعود الى جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثاني للهجرة، حيث انه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الاستقرائية، ويعتبر ان الدلالة عليها لا تزيد عن محض الاحتمال. فابتداءً انه يرى ان اضعف حالات الدليل هو ذلك الذي لا يعول الا على شاهد واحد، كمن يقول بأن إمرأة ما ستلد غلاماً وذلك اعتماداً على ما رآه انها قد ولدت قبل ذلك ولداً واحداً لا غير. في حين انه يعتبر ان أقوى حالات الاستدلال بالاستقراء هو ما كانت شواهد الوجود دالة عليه من غير مخالف، كمن يقول بأن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها، استناداً الى ما رآه من اضطراد في تتابع الليل والنهار. وبين هذه الحالة والحالة التي قبلها هناك حالات اخرى تتفاوت قوة وضعفاً بحسب كثرة النظائر وقلتها. وهو في جميع الاحوال لا يرى في هذه الحالات ما يفضي الى اليقين، بل فيها ظن وحسبان تبعاً لما يدرك من نظام وشبه ومماثلة > حتى انه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الاخرى، فان حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك ان سيحدث مثله في السنة الثالثة، وإن حدث في السنة الثالثة ايضاً، حتى اذا حدث ذلك مثلاً عشر مرار في عشر سنين لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة<. ويزداد الوقع في النفس فيما لو زاد العدد، فكيف اذا ما كان الاضطراد على وتيرة واحدة من الحدوث؟! وقد اعتبر جابر ان هذا الحال اوهم بعض رجال العلم مثل جالينوس، فمع تمكنه من العلم وتدربه في النظر فانه قد أخذ اعتبار مثل تلك الحالات المضطردة على انها عقلية أولية، فقال في كتابه البرهان: >ان من المقدمات الأولية في العقل انه اذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فانه لم يكن الا بعد خروج الربيع<. وهذا ما أنكره جابر، حيث اعتبر انه لا يُؤمّن ان يحدث هناك صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع. وهو على العموم يرى ان علة عدم استطاعتنا ان نتيقن من الحوادث المستقبلية وذلك لعدم إحاطتنا بادراك جميع الموجودات مختار رسائل جابر بن حيان، تصحيح كراوس، مكتبة الخانجي، 4531هـ، ص914ــ124 ].

لكن يظل ان الفضل في الكشف عن طبيعة المشكل المنطقي الذي يتضمنه الدليل الاستقرائي؛ يعود الى الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم (1171ــ6771) المعروف بنقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الاثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه؛ سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية او من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي اعلن قوله صراحة: > انني لاعترف صادقاً ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث - منذ اعوام كثيرة - اول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة < محمود، زكي نجيب: ديفد هيوم، دار المعارف، 8591م، ص31. ]. لذا كان كتابه الموسوم (نقد العقل المجرد) يهدف الى انقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم.

وعلى العموم ان ظهور هيوم والرد عليه من قبل كانت ثم مجيء الوضعية المنطقية التي نقدت ما قبلها؛ كل ذلك قد ادى الى بلورة المشاكل الاساسية المتعلقة بالدليل الاستقرائي.

فما من أحد يشك على ان هيوم هو اول من وجد في الاستقراء مشكلة منطقية.. هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للتعميم؛ اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الاستقرائي؛ بعضها ينفي المشكلة من الاساس، وبعض آخر يرى أنها ثابتة لا تزول، كما توجد هناك مواقف أخرى لا تصل الى هذين الحدين المتطرفين، وتبتغي سبلاً متباينة من الوسط.

وقد ارتبطت بهذه المشكلة مشكلة منطقية آخرى تتعلق بمبرر اليقين في القضايا الاستقرائية؛ حتى تلك التي لا تكون لها علاقة بالتعميم؛ كمعرفتنا بوجود واقع موضوعي حولنا، وبوجود زيد وموت سقراط ونشوء الارض.. الخ.

ونحن في معرض دراستنا لمذاهب الاستقراء سنقوم بتوزيع اتجاهاتها استناداً الى هاتين المشكلتين.

فهناك اتجاه ينفي أن يكون للاستقراء مشكلة منطقية، كما هو الحال مع المذهب العقلي وفرانسيس بيكون وجون لوك وستيوارت مل والمدرسة الماركسية. وفي المقابل هناك اتجاه آخر ثبّت المشكلة المنطقية دون أن يرى إمكان حلها أو تخفيفها. ويتمثل هذا الاتجاه بفلسفة هيوم. كذلك يوجد اتجاه ثالث يعترف بالمشكلة المنطقية للاستقراء، لكنه يعتقد ان من الممكن تخفيفها، وهو ما عليه الوضعية المنطقية. وأخيراً فهناك المذهب الذاتي للشهيد الصدر الذي هو أيضاً يعترف بوجود المشكلة التي ينطوي عليها الاستقراء، لكنه يعتقد بامكان القضاء عليها تماماً.

الاتجاه التبريري والنزعة القبلية

أول ما يواجهنا في الاتجاه التبريري هو المنطق الارسطي الذي لم يشكك ابداً بالقيمة الموضوعية التي يفرزها الاستقراء. اذ هو يعتقد ان هذه الاداة صالحة لبناء المعرفة طالما تخضع تحت تحكم بعض المبادئ القبلية التي تُضفي عليها صفة القياس المنطقي.

واذا كان هذا المنطق لا يجد في الاستقراء مشكلة ذاتية نابعة من طبيعته، فلا يعني ذلك انه ينفي عنه سائر المشاكل الاخرى ؛ كتلك الموصوفة بجواز الوقوع في الخطأ العارض، وهي من المشاكل الواقعية. ولا شك ان لهذه حسابها في التوالد القياسي للأستقراء الارسطي.

لكن من الناحية المبدئية يظل الاستقراء الارسطي محكوماً باعطاء نتيجة كلية صحيحة من دون شك، طالما انها تخضع الى حكم القضايا القبلية. فضلاً عن ان مبرره لاثبات القضايا الكلية، يعود الى فهمه الخاص لعلاقات الطبيعة، إذ يراها تنطوي على الروابط الحتمية الخاصة بين ماهيات الاسباب والمسببات. وهو على الرغم من عدم إدعائه القدرة على استنتاج هذه العلاقات قبلاً بواسطة العقل؛ لكنه يسلّم مبدئياً بمحكومية تلك العلاقات ضمن اطر الاعتبارات القبلية، الامر الذي يضفي عليها النزعة العقلية؛ استناداً الى مبادئ خاصة مثل المبدأ القائل بأن الاتفاق (الصدفة) لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً، ومبدأ الانسجام القائل بأن الحالات المتشابهة تؤدي الى نتائج متماثلة. لذا كان اكتشاف هذه العلاقات بواسطة الملاحظة والتجارب لا يغيّر من الفهم الارسطي حول رد القضايا الاستقرائية الى الصور العقلية وما تتضمنه من اعتبارات الضرورة. وعليه فان الاستقراء بهذا الاعتبار لا ينطوي على مشكلة منطقية تستحق الفحص والتأمل.

على ان نفس هذه النتيجة يمكن استخلاصها من دراسة الموقف العقلي الحديث من الاستقراء. فهو ايضاً يرى ان الطبيعة تتضمن الصور الحتمية من العلاقات، فلا يبقى للباحث من مهمة سوى تشخيصها واستخلاص كلياتها، أو العمل على تعميمها بسلام!

وقد بلغ الامر ببعض الفلاسفة الى ان يرد علاقات الطبيعة الى شكل من الاشكال المنطقية. فالفيلسوف الحديث لايبتز يرى ان من الممكن رد كل علوم الطبيعة الى الرياضة، والمعرفة التجريبية الى التفكير المنطقي المجرد؛ فيستنبط مثلاً من مفهوم ( النار ) انها حارة تُمدد الحديد وتغلي المياه، وكذلك من مفهوم ( افلاطون ) انه كان فيلسوفاً إغريقياً ترجع اليه نظرية المثل... الخ ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 9791م، ص201. ]. وهو فهم يحاكي المنطق الارسطي في رؤيته الاستنباطية القائمة على ماهيات الاشياء.

يظل ان الفلاسفة العقليين اذا ما استثنينا منهم (كانت) لا يتصورون وجود مشكلة تلوح المعرفة البشرية عامة والاستقرائية منها على وجه الخصوص. وحتى (كانت) فانه يضع للمعرفة شروطاً قبلية تعمل على قبول ما يطلق عليه بـ (الشيء لذاتنا)، جاعلاً (الشيء في ذاته) مما لا يمكن التعرف عليه بوجه ما من الوجوه. الامر الذي يجعل القضايا الاستقرائية قضايا ظاهرية تتصحح بما لدينا من مقولات قبلية هي اشبه بالمبادئ العقلية الضرورية. فهو بهذا الاعتبار لا يولي لخصوص الاستقراء مشكلة خاصة.

وليس الغريب فيما ينطوي عليه الموقف العقلي من تبرير الدليل الاستقرائي برده الى حكم القضايا القبلية، انما الغريب فيما تلجأ اليه العديد من الاتجاهات التجريبية من تبرير ينساق بدوره الى حكم المصادرة القبلية. فلو أنا درسنا مواقف كل من بيكون ولوك ومل والماركسية؛ لوجدناها خير من يعبر عن التلبس بمثل هذه المصادرة. فمبدأ الاستقراء بحسب هذه الاتجاهات لا ينطوي على مشكلة في نتائجه وتعميماته، انما يكفي ما يلاحظ من خبرات سابقة كمبرر لتأسيس الاحكام التي صفتها التعميم عما سوف يحدث مستقبلاً.

فاذا اتينا الى بيكون سنجد انه اول من اهتم بالاستقراء كأداة وحيدة لتحصيل المعارف، الا ان الاستقراء الذي اشاد به كان يقتصر على المنهج التصنيفي، إذ فيه يعرض صفة معينة تُدرس من خلال قوائم لظواهر مختلفة، فهناك قائمة تختص بالظواهر التي تمتلك تلك الصفة، واخرى فيها ما يشابه الظواهر الاولى بوجوه محددة لكنها تخلو من الصفة، وقد تكون هناك قائمة ثالثة تظهر فيها الصفة بشكل متفاوت. وغرض بيكون في منهجه التصنيفي هو لأجل التعرف على الصور الحقيقية لصفات الاشياء، ثم تعميمها على مشابهاتها، وهو لم يعن به كمنهج لدراسة تعلّق الظواهر بعضها بالبعض الآخر تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم، ص05. ]. كما ان هذا المنهج وإن كان مفيداً في وقته، الا ان التطورات اللاحقة التي اعقبته تجاوزت ما كان عليه من بساطة، فأولت للرياضة والفروض العلمية دوراً هاماً في البحوث الاستقرائية نشأة الفلسفة العلمية، ص38. ]. أما من الناحية المنطقية فيلاحظ ان عصر بيكون لم يحن له الوقت بعدُ ليدرك ما يتخلل الدليل الاستقرائي من فجوة معرفية تحتاج الى الملاحظة والنقد.

ويمكن ان يقال نفس الشيء بالنسبة الى مذهب جون لوك الذي ايّد بيكون بسلامة ما استخدمه من الاداة الاستقرائية. لكنه مع هذا واجه مشكلة من نوع آخر إعترضته بطريق الصدفة. فبإعتقاده ان معرفتنا لخواص الاشياء محدودة بحيث لا تبلغ درجة اليقين ولا التعميم، وسبب ذلك يرجع الى ضعف طريقة الاختبار التي نمتلكها لفحص الوقائع الخارجية، فلو ان هذه الطريقة تغيرت لكان من الممكن تحقيق كامل الاستنتاجات الصحيحة للقضايا الاستقرائية. والطريقة التي تصورها لوك في كسب الاستنتاج الصحيح؛ تعتمد على معرفة الصفات الاولية للجزيئات التي تتكون منها الاشياء الخارجية، فلو ان حواس الانسان كانت قوية ونافذة الى تلك الصفات؛ لأمكن إستنتاج كل الخواص المرئية للاشياء، كإن نستنتج مثلاً ان كل قطعة من الذهب لها قابلية على الطرق ايسايا بيرلين: عصر التنوير، ترجمة د. فؤاد شعبان، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي في دمشق 0891م، ص731ــ931. ].

كذلك ان الماركسية هي الاخرى قد خلت من العنصر النقدي للاستقراء ولم تقدّر وجود مشكلة منطقية فيه، وموقفها من علاقات الطبيعة يشابه الموقف العقلي، حيث ترى ان هذه العلاقات يتجاذبها شكلان من الروابط، احداهما روابط حتمية، والاخرى عرضية او صدفوية، وكلاهما محكومتان بمبدأ السببية العامة. فكما تقول: >ان كافة الظواهر التي تجري في الطبيعة مشروطة سببياً، فليس هناك من عملية، من حادثة الا ولها اسبابها. لكن ليس كل ما حدث، او يحدث الان في الطبيعة ام المجتمع شيئاً ضرورياً. فالى جانب الضرورة هناك صدفة موضوعية واقعية هي شكل لتجلي الضرورة وتكميل لها... فبالنسبة الى الانسان يكون الموت مثلاً امراً طبيعياً، لكن السنة التي يموت فيها ــ ناهيك عن الساعة والدقيقة! ــ هي صدفة الى حد ما، تتوقف على عدد من الاسباب والظروف غير المشروطة على نحو محدد تماماً بالضرورة المعنية. وليس من الصدفة مثلاً ان يضغط الغاز على جدار الوعاء في درجة معينة من الحرارة، ولكن العرضي هو ان الجزيئات التي تضرب على الجدار هي هذه الجزيئات وليست تلك. كذلك فإن من الامور الحتمية ان يتحلل نصف نوعي عنصر مشع خلال نصف دور تحلله، لكن العرضي هو أية ذرات تحللت في هذه الفترة وايها لم تتحلل< لينين: المادية ومذهب نقد التجربة، ص471ــ571 \ العدد الاول من سلسلة اضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي، اعداد الدكتور توفيق سلوم. ].

فبهذا الفهم لعلاقات الطبيعة لا توجد هناك مشكلة منطقية للاستقراء، إذ مع لحاظ توفر ذات الشروط في علاقات الطبيعة لابد ان تكون النتائج المستقبلية واحدة باضطراد. الامر الذي عليه يتأسس التنبؤ بمجرى الوقائع والاحداث المصدر السابق، ص761.]. والميزة الخاصة لهذا الموقف هو انه يعود الى إتجاه لا علاقة له بالمنطق العقلي، لكنه يتلبس بمصادراته القبلية. فيكفي ان نلاحظ الإشكالين الآتيين:

1 ــ إن الاعتقاد بالسببية العامة لا دليل عليه وفق المباني التجريبية؛ باعتبارها من المبادئ الكلية غير المشروطة، وذلك لأنها تتجاوز إطار العلاقات الملحوظة في الطبيعة.

2 ــ إن الخضوع للمنطق التجريبي لا يبعث على كشف الضرورة في علاقات الطبيعة، وبالتالي فإن التعميم لا يستند الى ركيزة يقوم عليها في الدليل الاستقرائي.

مل ومصادرات الاستقراء

حين نتقدم لدراسة آراء جون ستيوارت مل سنجد فيها نضجاً متكاملاً قياساً مع الآراء السابقة. فهو من ابرز الرجال الذين إهتموا بمعالجة الاستقراء وتحليله رغم عدم إكتراثه بالمشاكل الذاتية التي كشف النقاب عنها ديفيد هيوم. وهو وإن كان متأثراً بأفكار هذا الاخير لكنه يختلف معه في الموقف من الاستقراء. فلأن كان هيوم يرى الاستقراء منطوياً على عقدة ذاتية؛ فإن الامر عند مل غير محمول على محمل الجد. ولأن كان الاول يبني تحليله للاستقراء من خلال مبدأ السببية؛ فإن الآخر يصادره إبتداءاً، وعليه يقيم استكشافه للسببية. هذا بالاضافة الى ان فهمهما للسببية مختلف، فهي عند مل تنطوي على الضرورة، وعند هيوم مجرد تتابع زمني.

ويلاحظ في موقف مل وجود مصادرتين اساسيتين كالاتي:

الاولى ايمانه المطلق بمبدأ الاستقراء كأداة صحيحة وسليمة لكسب المعارف جميعاً من دون إستثناء. فحتى العلوم التي يعتبرها المذهب العقلي اولية كعدم التناقض والعلية ومبادئ الرياضيات؛ فانها عند مل مستمدة من التجربة والاستقراء، بل وتخضع الى تفسير قوانين تداعي المعاني التي ادلى بها هيوم جون ستيوارت مل، ص141، د. توفيق الطويل، دار المعارف بمصر. ]. وبذلك يقول مل: >إن اصل كل العلوم، حتى تلك العلوم الاستنباطية او البرهانية هو الاستقراء< الضرورة والاحتمال للسيد نفادي، ص57، دار التنوير، بيروت، ط1، 3891م. ].

أما المصادرة الثانية فهي انه قام بتبرير ما ينشأ لدينا من تعميمات مستقبلية طبقاً لما يلاحظ من ثبات في الوقائع المضطردة في الماضي

Mill, J.S. زOf The Ground of Inductionس in: Madden, H. Edward. The structure of Scientific Thought. Great Britian,1968. p.294 ]. فهذه المصادرة تعتمد على ما تنتجه المصادرة الاولى في توليد الخبرات السابقة، والتي فيها تصبح الطبيعة بمثابة الكتاب الذي يمكن ان يحكي ما فيه دون حاجة لاضافة خارجية. الامر الذي يتطلب ان يكون المتطلع اليها مؤمناً بما تضفي عليه من حقائق، اذ لا مهمة للباحث سوى ان يصِف ما يجري فيها من غير إضافة عقلية او ذاتية.

هكذا فبحسب المصادرة الاولى لا فرق لاداة الاستقراء من ان تكشف ما عليه الطبيعة من علاقات؛ سواء إتصفت بالخضوع الى السببية او كانت صدفوية عديمة النسق. أما بحسب المصادرة الثانية فانها يمكن ان تقوم بدورها اعتماداً على ما تخلص اليه المصادرة الاولى في الكشف عن السببية، اذ تقوم بتعميم الحكم على الحالات المستقبلية؛ وذلك تبعاً لافتراض الاضطراد الملاحظ في الخبرات السابقة. ذلك ان مل يعتبر التجربة قد علمتنا بأن علاقات الطبيعة ليست فوضوية عشوائية، بل تسير على نسق واحد مركب من عدة اطرادات جزئية تسمى بقوانين الطبيعة. وكما يقول: >اذا تأملنا الاطراد في سلوك الطبيعة المفترض في كل تجربة، فمن الملاحظات الاولى التي تكشف نفسها ان الاطراد في هذه الحالة ليس إطراداً واحداً وإنما هو في الحقيقة عدة اطرادات. فالإنتظام العام ينتج عنه وجود إنتظامات جزئية، وسلوك الطبيعة على العموم ثابت، لأن سلوك كل الظواهر المختلفة تنظمها حقيقة معينة تحدث بلا تغيير عندما تتواجد ظروف معينة، ولا تحدث عندما تغيب هذه الظروف<. ويقول ايضاً: >فملاحظة الاطراد في سلوك الطبيعة، هو في حد ذاته شيء معقد، ومركب من جميع الاطرادات المتفرقة التي توجد من جهة الظاهرة الفردية. هذه الانتظامات المختلفة، هي ما نسميه في حديثنا العام بقوانين الطبيعة< الضرورة والاحتمال، ص67. ].

وعلى العموم ان مل يعتقد بوجود نوعين من الاطراد، أحدهما دال على الاقتران في الوجود؛ من قبيل ملاحظة ان كل زنجي يقترن مع ظاهرة تجعد الشعر، وكل صيني يقترن مع انحراف العينين. أما الاخر فهو دال على الاقتران في التتابع، ويطلق عليه السببية، سواء كانت عامة او خاصة المنطق الحديث ومناهج البحث، ص542، محمود قاسم، دار المعارف بمصر، ط6، 0791م. ]. فكل ظاهرة تسبق اخرى بإطراد وكانت بينهما علاقة ضرورية لا تقبل الانفكاك فإن الاولى تسمى علة والاخرى معلولاً، إذ لا تعني العلة الا مجموعة الشروط والظروف التي متى تحققت فلابد للمعلول ان يقع بصفة مطردة جون ستيوارت مل، ص241ــ341. ]. فهذه الصفة من الاطراد يمكن تعميمها بحسب المصادرة الثانية، اذ ان قانون تداعي المعاني يجعل الذاكرة تعيد الظواهر بنفس النسق الذي كنا نراه ثابتاً في الطبيعة، طبقاً للضرورة المستنتجة بواسطة الاستقراء نفس الصفحة والمصدر السابق.].

والملاحظ في هذا التفكير انه يواجه بعض الصعوبات كالآتي:

أولاً: ان مصادرته لمبدأ الاستقراء في تحقيق القضايا المعرفية يصطدم مع ما يلاقيه من مشكلة منطقية تلوح عملية الترجيح وتحويله الى اليقين. ذلك ان معرفة قضايا الطبيعة لا يمكن فصلها عن اعتبارات مبادئ الاحتمال واصوله. فاذا كانت جميع المعارف نتاج التجربة والاستقراء؛ فكيف نبرر الحكم على قضية استقرائية مثل سببية الحرارة لتمدد الحديد؛ مع انها تخضع للعديد من الاحتمالات الممكنة، وهذه الاحتمالات اذا كانت مستنتجة بدورها من خلال الاستقراء فسوف نقع في دوامة من الدور والتسلسل، ولو لم تكن إستقرائية لكانت مصادرة قبلية لا تتناسب مع ما عليه مذهب مل والاتجاه التجريبي عامة. كذلك فان الاستناد الى منطق الاحتمالات والترجيح لا يحول القضية الاستقرائية الى يقين، الامر الذي يحتاج الى منطق آخر مختلف كالذي دعا اليه المفكر الصدر على ما سنرى.

ثانياً: إن اعتقاده بأن الضرورة مستنتجة عن طريق الاستقراء لا يُقر عليه؛ اذ كل ما يمكن للاستقراء كشفه هو ثبات العلاقات الطبيعية، لكن اثبات هذا الثبات شيء واعتباره خاضعاً للضرورة شيء آخر، على ما سيتبين لنا فيما بعد.

ثالثاً: ان جعل المستقبل على وتيرة الماضي إن كان يجد ما يفسره نفسياً عن طريق تداعي المعاني؛ فانه لا يجد ما يبرره منطقياً على ما سنعرف. ويتضاعف الامر عند التسليم بالتعميم من نوع على آخر. فمثلاً ان انواع الظواهر التي يخضعها مل للبحث العلمي هي غير الانواع الملاحظة خلال التجارب الماضية، واذا كنا نرى في هذه الاخيرة اطراداً ثابتاً لبعض الانواع بين العلة ومعلولها؛ فكيف يحق لنا ان نفترض سلفاً نفس الثبات بالنسبة للانواع الاخرى من العلاقات؟!

موقف المفكر الصدر من إتجاه مل

أما بالنسبة لموقف الشهيد الصدر من اتجاه مل؛ فيمكن تقسيمه الى جانبين؛ احدهما فلسفي والاخر منطقي:

1ــ بخصوص الجانب الفلسفي إتفق المذهبان على ان الاستقراء ليس بحاجة لافتراض قضايا السببية سلفاً؛ كما هو عليه الاتجاه العقلي. لكن مؤاخذة الشهيد الصدر على اتجاه مل تتحدد بأن هذا الاخير رغم انه اعتبر الاستقراء دليلاً كاشفاً عن السببية من حيث الاصل؛ الا انه عادَ واعتبرها اساساً لبناء التعميمات الاستقرائية اللاحقة. مع انه اذا كان الاستقراء قادراً على اثبات السببية وتعميمها؛ فبإستطاعته ان يثبت ذلك مع اي قضية استقرائية اخرى بدون حاجة الى إفتراض قضايا السببية كمصادرات قبلية لاحظ ص87ــ97. ]. وقد يقال انه لا مانع من الاعتماد على الاستقراء بدءاً لإستنتاج السببية ثم الاتكاء عليها لاغراض علمية تفيد تسهيل البحث وتعجل نتائجه، وهي صورة تشابه تلك التي عمل بها المفكر الصدر، اذ اعتقد انه يمكن استنتاج القضايا الاستقرائية عن طريق مبدأ عدم التماثل ــ او عدم تكرر الصدفة ــ الذي هو في حد ذاته نتاج الاستقراء لاحظ ص893ــ993 و014. ]. مع هذا فما يبدو هو ان مل استند الى قانون السببية العام كشرط في اثبات التبرير الاستقرائي Stove, D.C. The Rationality of Induction. Clarendon Press, Oxford, 1986. p.45 ]، مما يجعل نظريته واقعة في الدور.

كما ان للمفكر الصدر نقداً آخر ازاء موقف مل التجريبي، وهو يتعلق بخصوص طبيعة السببية. اذ يربط الصدر جميع التعميمات الاستقرائية بحالة اثبات السببية (العقلية) المتضمنة للضرورة، وهو لا يرى قدرة للترجيح والتعميم المستند الى السببية (التجريبية) العارية عن الضرورة، بل ويرى ان هذه السببية لا تقبل الاثبات ولا الترجيح لاحظ ص97ــ08 ]. ولا شك ان هذا الاشكال يلوح الاتجاه التجريبي الذي يؤكد على انكار الضرورة في العلاقة السببية. أما مع اتجاه مل فما يبدو انه لا ينكر مثل هذه الضرورة كما رأينا.

2ــ أما الجانب المنطقي لموقف المفكر الصدر من اتجاه مل فيمكن الاشارة اليه اجمالاً بعد التعرف على طريقة هذا الاخير في بنائه لمنهج الاستقراء العلمي، وهي الطريقة التي تقوم على اساس معالجته لنظرية المصادفة.

يعتقد مل ان التنبؤ في القوانين العلمية الاستقرائية يعتمد على معرفة العلاقات الثابتة للسببية في عالم الطبيعة. ففي هذا العالم - كما عرفنا - هناك نوعان من العلاقات؛ أحدهما عبارة عن إرتباطات صدفوية، وهي نتاج تأثير عدد من العلل المتغيرة التي لا يمكن تحديدها. والاخر عبارة عن ارتباطات قائمة على أساس العلية الثابتة. فمثلاً إن سقوط الحجر على الارض لا يعتبر من الارتباطات الصدفوية، وانما هو من الارتباطات العلية الثابتة؛ باعتبار أن هناك علاقة لزومية محددة بين سقوط الحجر وبين جاذبية الارض. في حين إن اصطدام سيارتين في طريق ما من الطرق هو إرتباط صدفوي، اذ لا توجد علاقة لزومية محددة بين حركتي السيارتين.

بهذا التفريق لروابط الطبيعة أراد مل أن يضع منهجاً للكشف عن علاقات العلية الثابتة ليتسنى له بناء صيغة علمية للاستقراء. وهنا نتساءل: ما هي الوسيلة المنطقية التي يمكن من خلالها تمييز الارتباطات الصدفوية عن غيرها من الارتباطات السببية الثابتة؟ وبعبارة أخرى، ما هو المنهج الذي يجعلنا نعتبر العلاقة صدفوية أو غير صدفوية؟

حول هذا التساؤل طرح مل في البداية منهج التكرار في الوقائع والاحداث. وخلاصته هو انه اذا كانت هناك ظاهرتان ــ او اكثر ــ قد تكرر وقوعهما بكثرة؛ فيمكن ان نستنتج بأن بينهما علاقة سببية ثابتة، والا اذا لم يتكرر الوقوع على شكل متواتر فالعلاقة بينهما صدفوية. وهو منهج يعبر عن نفس الطريقة التي استخدمها ارسطو في مبدئه القائل (ان الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً).

لكن مل ما لبث ان تنازل عن هذا المنهج ونقده. فبرأيه انه يمكن ان توجد ظواهر تتكرر بشكل متواتر رغم عدم كشفها عن وجود علاقات سببية ثابتة، لعلمنا بكونها صدفوية. كما انه على العكس قد توجد ظواهر اخرى لا تتكرر كثيراً، رغم انها تنطوي على علاقة السببية الثابتة. وبالتالي فهو يرى كما يقول: ان >المسألة ليست ما اذا كان الوقوع يتكرر كثيراً او نادراً بالمعنى العادي لهذه الكلمات، وانما ما اذا كان يتحقق اكثر مما تسمح المصادفة..< العالم، محمود أمين: فلسفة المصادفة، دار المعارف، 0791م، ص541 ].

فبهذا ان مل لا يضع اجابة تحدد مقدار التكرار الذي يمكن ان تتحقق فيه المصادفة، اذ الامر يختلف باختلاف الحالات، فالمسألة نسبية تماماً، اذ رب تكرار مستمر لا يخضع الى السببية الثابتة، ورب تكرار قليل لا يمكن رده الى المصادفة.

فعن الحالة الاولى يذكر مل إنه قد تكون هناك ظاهرة ــ لنفرضها (أ) ـــ موجودة دائماً، واخرى ـــ لنفرضها (ب) ـــ توجد بين حين وآخر، فتصبح جميع حالات (ب) متفقة في وقوعها مع (أ)، وعلى الرغم من هذا فهو يعتبرها من المصادفات العارضة. ويؤيد ذلك بمثال يضربه حول العلاقة الصدفوية بين النجوم الثوابت الموجودة منذ القدم وبين أي ظاهرة اخرى تحدث على الارض. أما عن الحالة الثانية فيضرب مل مثالاً يخص العلاقة المتغيرة بين هبوب الريح وسقوط المطر، إذ رغم أنه لا يحدث باستمرار لكنه ينطوي على علاقة السببية المصدر السابق، ص641 ].

الا أن هناك من إعترض على الحالة الاولى التي ذكرها مل، من حيث انه لم يقم بتوحيد الاسس حين قارن بين إستمرار الوجود وتكرار الوقوع. فالمفروض أن الظاهرة المتكررة الوقوع تقارن بظاهرة مثلها، وكذا الحال مع الظاهرة المستمرة الوجود نفس المصدر، ص741 ].

وهو اعتراض يصح فيما لو لم نجد هناك علاقات سببية ثابتة بين الظواهر المختلفة الاسس، أما مع وجداننا لهذه العلاقات فان صورة الاعتراض تكون ضعيفة الاثر. ونحن حين نستقرئ الواقع سنجد هناك الكثير من تلك العلاقات، فعلى سبيل المثال ان الهواء الذي هو مستمر الوجود له علاقة سببية ثابتة مع تكرر حياة كل فرد من افراد الانسان او الحيوان او النبات.

وبغض النظر عن ذلك فهناك الكثير ايضاً من الاقترانات المستمرة الوجود او المتكررة الوقوع والتي يمكن ان نوحد فيها الاسس دون ان نجد فيها روابط ثابتة للسببية، كما هو الحال مع وجود كل من الهواء والارض، اذ هما موجودان باستمرار، او مع تكرر كل من الولادات والوفيات في كل لحظة. فرغم ان مثل هذه الاقترانات دائمة الوجود او الوقوع فان من الواضح انه لا يوجد فيها علاقة سببة لزومية.

على هذا فان مسألة الاقتران الدائم او المتكرر لا يبعث دائماً على استنتاج السببية، كما ان العلل المتغيرة لا تبعث هي الاخرى على منعها. فرمي قطعة النقد - المتساوية الوجهين - باستمرار كبير يخضع الى ظروف عشوائية وعلل متغيرة، لكن رغم ذلك فانه يحافظ على معدل الاحتمال المقدر بنصف لكل من الوجهين، مما يجعلنا نتأكد أن هذا الاقتراب ليس مصادفة، بل يعود الى سببية ثابتة - نسبياً - على الرغم من وجود العلل المتغيرة. لذا كان حل هذه المشكلة يعود الى صميم نظرية الاحتمال.

وعلى العموم يمكن القول ان مل لم يصل الى ضابط محدد في التمييز بين علاقات السببية والعلاقات الصدفوية، لكنه إكتفى بوضع عدة طرق نصح باستخدامها كأداة لاستخلاص السببية ضمن منهج الاستقراء العلمي. وهو مع ذلك حذر الباحث من الوقوف على جمودها، كما اعتبرها لا تصلح للتطبيق في جميع الحالات اصول البحث العلمي ومناهجه، لأحمد بدر، ص362 ]. وتنحصر قواعد كشف السببية عند مل بأربع طرق هي ما اطلق عليها بالاتفاق والاختلاف والتلازم في التغير والعوامل المتبقية.

وبحسب المفكر الصدر ان جميع هذه الطرق رغم انه يمكنها ان تقوي من ترجيح ظاهرة السببية الخاصة الا انها تظل غير قادرة على تبرير حالة اليقين فيها والقضاء على ما يحتمل ان تكون العلاقة المطردة هي علاقة صدفوية. وهي نقطة في غاية الاهمية، وقد أولاها المفكر الصدر اهتماماً مميزاً في بنائه للدليل الاستقرائي على ما سنرى.

الاتجاه النقدي والمشكلة المنطقية

قلنا سابقاً ان أول من أثار المشكلة المنطقية للاستقراء هو دافيد هيوم؛ الذي اليه يرجع الفضل في نقد المعرفة عموماً والاستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع عنه أنه >أثار الفضيحة في الفلسفة<، حيث كثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً. وهناك من المفكرين من يؤمن بالطريقة الاستقرائية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن ان تجد حلاً لمشكلة الاستقراء كما طرحها هيوم، وينطبق هذا الحال على كل من الاستاذين برود ووايتهيد، ذلك انهما يؤمنان بالطريقة الاستقرائية، الا انهما مع ذلك عبرا عن المشكلة الاستقرائية تعبيراً متقارباً، وهو ان الاول اطلق عليها (فضيحة الفلسفة)، في حين ان الاخر عدّها تعبر عن (يأس الفلسفة) Hacking, Ian. The Emergency of Probability. Cambridge University Press, 1975. p.31. and see also: Katz, J. Jerrold. The Problem of Induction and its Solution. The University of Chicago Press. Chicago, 1962. p.17 ]. وقد ذكر الاستاذ كاتز (Katz ان المعضلة التي جاء بها هيوم بقي مفعولها سارياً من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة. فمع ان بيرس (Peirce) قدّم الحجة البراجماتية لتبرير الاستقراء والتي ظهر انها كثيرة الشبه بما سعى اليه من بعد ريشنباخ، لكن ما قدّمه بيرس (سنة 8781) لم يكن معروفاً حتى شيوع افكار ريشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي زرعها هيوم Katz; p.45 ].

وطبقاً للاستاذ سالمون ان من الخطأ التصور بان ما جاء به هيوم هو انه كشف عن فشل الاستقراء في ان يضمن لنا تحقيق النتائج الصحيحة على الدوام، كالذي توهمه الاستاذ كاتز في كتابه (مشكلة الاستقراء وحلها). فعلى رأي سالمون ان هذا الامر كان معروفاً قبل هيوم بمدة طويلة، بل ما جاء به هذا الاخير ابعد غوراً من ذلك، وهو انه من غير الممكن باي دليل كان ان نثبت ضمان اي نتيجة ايجابية جزئية عبر المقدمات الصحيحة التي يقدمها الدليل الاستقرائي Salmon, C. Wesley. زThe Concept of Inductive Evidenceس. in: Swinburne, R. Intruduction; The Justifiction of Induction. edited by Swinburne, R. Oxford University Press, 1974. p.49.]. فمثلاً ليس بوسع المشاهدات الاستقرائية ان تثبت ان هذه النار التي امامنا ستحرقنا اذا ما قذفنا بانفسنا فيها، مما يعني ان الدليل الاستقرائي ليس بدليل.

وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الاستقراء يقوم على أمرين أساسيين لابد من دراستهما معاً:

الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للاستدلال على مبدأ الاستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.

الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى اليه من استنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على أساس فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الاول.

1ــ محاولة اثبات الدور في الاستقراء

ان اول من اومأ الى وجود الدور في الدليل الاستقرائي هو جون لوك، خلال اواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لكن صياغة هذا النوع من التناقض لم تنكشف بجلاء الا عند هيوم، رغم انه لا هذا الاخير ولا سابقه لوك قد استخدم مصطلح (الاستقراء) في سياق كلامه عن ذلك التناقض Cohen, L. Jonathan. An Introduction to The Philosophy of Induction and Probability. Oxford University Press, New York, 1989. p. 176-177 ].

لقد ادرك هيوم انه لا يوجد ما يبرر الدليل الاستقرائي، سواء لجأنا الى القياس او الى الاستقراء ذاته. فمن حيث ان النتيجة في الاستقراء هي غير منتزعة من المقدمات ولا مستبطنة فيها، فهذا يجعله لا يستند الى القياس، اما لو اعتبرناه مبرراً تبعاً لعملية النجاح الاستقرائي في الماضي، فان ذلك يجعله واقعاً في الدور [Katz; p.43].

وتوضيحاً لهذه النقطة الاخيرة، هو ان العملية الاستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك افتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث أن هذا الافتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فان الاستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الاستدلال الاستقرائي لابد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الاستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء... الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالامكان أن نعمم عليها الحالات الاخرى المشابهة لها.

لكن واقع الامر هو أننا - هنا - نستدل على الدليل الاستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور. وابراز هذه الحجة يمكن توضيحها من خلال المثال التالي:

لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. في هذه الحالة لابد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:

الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الاشياء المتشابهة تخضع الى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.

لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الاستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة. فيبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية مفرغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الاستقراء في الماضي تدعونا الى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، او افتراض مصادرة كون الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الارسطي (الحالات المتشابهة تفضي الى نتائج متماثلة) والذي هو ايضاً نتاج العملية الاستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.

وهناك عبارات عديدة لهيوم يشير فيها الى هذا النوع من الافتراض المتعلق بتشابه المستقبل للماضي، ومن ذلك قوله: >كل النتائج التجريبية تقوم على افتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي<، >وان جميع الادلة المعتمدة على الخبرة تفترض اساساً كون المستقبل سيشابه الماضي<، >وان كل التفكير القائم على الخبرة يتأسس على افتراض ان عمل الطبيعة سوف يستمر على نفس الهيئة باضطراد< [Stove; p.8].

فهذه الحالة من الدور هي نفسها التي لم يكترث لها ستيوارت مل فتعرض الى نقد من جاء بعده، كان من أبرزهم برتراند رسل الذي قال: >كان الكتاب الذي أذاع شهرته - لجون ستيوارت مل - أكثر من أي شيء آخر هو كتاب (نسق في المنطق). وكان الشيء الجديد في الكتاب بالنسبة الى عصره هو معالجته للاستقراء الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا الى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيوم.. وكان رأي مل هو ان ما يعطي مبرراً للسير على هذا النحو - أي بالنسبة الى تبرير البرهان الاستقرائي - هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته استقراء على أعلى مستوى. وبالطبع فان هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الامر< حكمة الغرب لبرتراند رسل، ترجمة فؤاد زكريا، ج2، ص912 ].

هكذا ان هيوم يُشْكل على الدليل الاستقرائي بانه يفشل كلياً في تأسيس المعرفة الخاصة بالتنبؤات المستقبلية وغير المشاهدة اذا ما كانت الطبيعة غير منتظمة او مطردة، وانه لا يمكننا ان نعرف، لا قبلياً ولا بعدياً، حقيقة ما عليه الطبيعة من انتظام او عدم انتظام. وبالتالي فليس هناك من تبرير للاستقراء.

او يمكن القول أن خبرتنا الماضية لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل ولا تبرر ذلك على وجه الاحتمال أيضاً، إذ الاحتمال على ما يرى هيوم مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الاستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه؟! عصر التنوير، ص342ــ442. كذلك: John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis. 3rd ed. London. p.199 . ]. وعلى حد تعبيره >ان الاحتمال يتأسس على افتراض المشابهة بين تلك الموضوعات التي لنا فيها خبرة وتلك التي لم نجربها بعد< [Stove; p.8]. فالاحتمال المتعلق بمعرفة الواقع عند هيوم ينقسم الى قسمين: أحدهما الاحتمال التخميني الخاص بالمصادفات. والاخر الاحتمال البرهاني الخاص بالاطرادات السببية، ويتصف بأنه ينشأ في البداية على اساس الاول. الا ان كليهما منزوعان عن الانطباعات الحسية التي تفسرها العادة بحسب كثرة الاحساس بوقوع الحوادث المتشابهة ديفيد هيوم، ص97ــ08 ]. وهما على هذا عاريان عن الشكل المنطقي كما هو في ذاته فرّق هيوم بين الاحتمال المنطقي والاحتمال التخميني من خلال مثال عرض فيه علة ترجيحنا للعدد المكرر على اربعة جوانب دون العدد المكرر مرتين في قطعة زهر خاصة؛ فاعتبر الحكم المنطقي يقضي بتساوي الاحتمالات في الجوانب الستة جميعاً، لكن الحكم الذي رجح العدد الاول يرجع الى تبرير نفسي؛ فسّره على اساس ان الخيال حين يمر على الجوانب الستة مراً سريعاً؛ فستصبح الصورة الذهنية للعدد المكرر اربع مرات اوضح وانصع من الصورة الذهنية للعدد الاخر المكرر مرتين، وذلك بسبب فارق الزيادة للانطباع الحسي (ديفيد هيوم ص08ــ18). ].

مهما يكن فالملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الاستقرائي على اساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه بخصوص تفسير الاحتمال برده الى الانطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.

2ـــ الاستقراء وتحليل السببية

في هذا الجانب يعتمد هيوم في كشفه لطبيعة الاستقراء على تحليل السببية منطقياً ونفسياً بالصورة التي نوضحها كما يلي:

الاستقراء والتحليل المنطقي للسببية

في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية ام لا؟ فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الاستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الافتراض الى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟

ان هيوم باعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه الا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.

وإذ يمكن ان نتساءل: هل هناك سبيل - مثلاً - لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم ــ ومن حقه ذلك ـــ بأن كل ما نراه انما هو وجود اقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر اكثر من ذلك.

وها هو يضرب لنا مثلاً على ذلك، وهو ان >كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة اخرى، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية < عصر التنوير، ص042. كذلك: ديفد هيوم، ص17ــ27 و68. ].

بهذا يصل هيوم الى انه لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وهو بذلك لا يفرق إن كانت السببية خاصة او عامة، اذ كلاهما لديه يخضعان الى نفس الحكم. فهو يعتبر السببية العامة ليست من القضايا التحليلية التي تتصف علاقاتها بالضرورة والمنطقية كالرياضيات ومبدأ عدم التناقض حيث النتائج فيها منتزعة من نفس مقدماتها، لهذا كانت لا تخبر بشيء عن الواقع الخارجي نشأة الفلسفة العلمية، ص58 ]. وهو اذ يعتبر مبدأ عدم التناقض اساس هذه القضايا؛ فانه يرى ان كل قضية لا يتناقض خلافها معها فهي تحتاج الى دليل من التجربة؛ بخلاف القضية التي تنطوي على التناقض.

فمثلاً ان القضية القائلة > ان الاعزب هو من لا زوجة له <> ليس ثمة شيء ينطوي على شيء آخر< عصر التنوير، ص932 ] ، مما يعني انها ليست مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فلابد ان تحتاج الى دليل من التجربة. لكن كيف للتجربة ان تدل عليها وهي عاجزة عن كشف الضرورة؟!

بذلك التحليل يقرر هيوم ان لا سبيل الى اثبات الضرورة ولا الى نفيها، فهي في كل الاحوال تظل مشكوكة الوجود ابداً. والدليل الاستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لاثبات التعميم في العلاقات الخارجية المطردة.

موقف المفكر الصدر من التحليل المنطقي

قبل التعرض الى موقف الشهيد الصدر من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم؛ يلزم ان نستخلص النقاط الاساسية التي تضمنها كالاتي:

1ــ ان اساس معرفة السببية يعود الى التجربة لا العقل، باعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.

2ــ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها او تنفيها.

3ــ على هذا فان عدم اثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الاستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.

هذه أهم النقاط التي نستخلصها من تحليل هيوم للسببية وعلاقتها بالدليل الاستقرائي. وللشهيد الصدر مواقف نقدية متعددة ازاءها.

فبالنسبة الى موقفه من النقطه الاولى هو انه يختلف مع هيوم في تفسير اساس معرفتنا لمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض او غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الاولية المنطوية على الضرورة لاحظ ص111 و411 ]. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، اذ كما عرفنا انها تدور لديه بين ان تكون تجريببية او مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الشهيد الصدر لا تنضم الى ايّ من هذين المنبعبن.

أما موقفه من النقطة الثانية فهو على خلاف هيوم يعتقد ان بامكان التجربة اثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها او العامة، مؤكداً بأنه حتى مع استبعاد الجانب القبلي للسببية العامة فان من الممكن اثباتها بالتجربة لاحظ ص87ــ97 ]. كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: > الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الاحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الاثبات والنفي.

فالخبرة + الاحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية < ما يبدو على هذا النص انه يناسب اثبات السببية الخاصة دون العامة، وذلك لتضمنه القول بعجز التفكير العقلي المحض عن اثبات العلية او نفيها، ولو كان المراد منه السببية العامة لما صحّ هذا الكلام، كما ان مناسبة ذكره اقترنت بمناقشة هيوم حول السببية الخاصة، لكن في كل الاحوال ان مفاد النص ينطبق على كلا السببيتين (لاحظ، ص711). ].

أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، اذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت - على الأقل - الضرورة في العلاقة السببية. لهذا يرى المفكر الصدر ان من الممكن اثبات التعميم استناداً الى اثبات الضرورة استقرائياً. الا أن ما سيتضح لنا هو أنه لا سبيل لاثبات الضرورة بالتجربة. وعليه اذا كان يمكن للمذهب الذاتي أن يبرر موقفه من الضرورة في السببية العامة عن طريق إعتبارها قضية أولية؛ فان ذلك لا يخوله فعل نفس الشيء مع السببية الخاصة فيما لو لم تستطع التجربة اثباتها. الامر الذي سينعكس أثره على التعميم في القضية الاستقرائية، فطالما ان الضرورة في السببية الخاصة غير قابلة للاثبات فانه لا مجال لاثبات التعميم او تبريره.

وقد نتساءل أخيراً أنه اذا كان هيوم قد شكك في قيمة الدليل الاستقرائي ونتائجه فكيف كان يتعامل مع الاشياء في حياته اليومية؟ فعلى سبيل المثال: اذا أراد أن يجهز لنفسه ابريقاً من الشاي، ألم يعتقد أنه سيحتاج الى استخدام الحرارة والماء وما الى ذلك من أمور؟ واذا اراد ان يرجع الى بيته فهل كان يشك في بقاء مكانه على ما تركه؟ وعلى العموم: هل كان الشك المنطقي الذي أبداه هيوم في الدليل الاستقرائي منعكساً على طريقة حياته الخاصة؟

لنستمع الى ما يقوله فيلسوف الشك عن نفسه وهو يجيب عن مثل تلك الأسئلة:

> لو سئلت هنا عما اذا كنت اوافق بصدق على هذه الحجة التي يبدو انني أجهد نفسي من اجل دعمها، وعما اذا كنت بحق واحداً من هؤلاء الشكاكين الذين يرون ان كل شيء غير مؤكد، وان حكمنا على أي شيء لا يتم بأي قدر من الحقيقة او البطلان؛ لأجبت ان هذا السؤال لغو في صميمه، وانني لم اكن ابداً اقول بهذا الرأي باخلاص وثبات، ولا كان اي شخص اخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة ان نصدر احكاماً مثلما نتنفس ونشعر.. أما الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل فانه في الواقع قد دخل في نزاع ليس فيه معارض< حكمة الغرب، ج2، ص041ــ141 ].

بيد أنّا نتساءل: ما هي هذه الطبيعة القاهرة التي يمكنها أن تجعل أفكارنا العملية متسقة لا يشوبها خلل ولا شك؟ وعلى افتراض أنها تفعل ذلك، فهل هناك علاقة بينها وبين التفكير المنطقي المجرد الذي انتهى اليه هيوم؟ وهل كان هذا الفيلسوف يعاني عقدة من التناقض بين ما يملي عليه العقل وبين ما تضفي عليه الطبيعة من أحكام مخالفة؟

هذه تساوءلات تجعلنا ندخل الى التحليل النفسي للدليل الاستقرائي كما رسمه لنا فيلسوف الشك.

فلنبحث أولاً عن الطبيعة القاهرة التي اعتبرها هيوم مصدر التفكير المنسجم مع الحياة العملية. فما هي هذه الطبيعة يا ترى؟

الاستقراء والتحليل النفسي للسببية

لم يكن أمام هيوم وهو يواجه مشكلة مستعصية غير التعويل على طريق آخر لبحث الموضوع؛ عله يجد ما يخفف عن المشكلة. فقد ترك العقل المجرد بعد ان وجده خالياً من الأدلة والمبررات، واتجه نحو >الطبيعة<> الضرورة <>

تلك هي مقومات السببية عند هيوم الذي اعتبر الشرطين الاوليين عبارة عن صفتين محسوستين بخلاف الشرط الاخير. لهذا فقد حاول ان يبحث عن مصدر صفة هذا الشرط في افكارنا، طالما ان التجربة لا يسعها الكشف عنه. فحين ننظر الى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن ان نتحسس باقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فانه يتمدد؟

لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها بالاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالاقتران والتعاقب باطراد فانه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت احدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الاخرى الا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الاشياء الخارجية. اذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الاخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر الى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم بـ >تداعي المعاني<.

من ذلك التحليل توصل هيوم الى ان يعرّف العلة باحدى صيغتين كالاتي: >شيء سابق ومقترن بشيء آخر، حيث تقع كل الاشياء المشابهة للاول في موقع مشابه من السبق والاقتران بالنسبة للاشياء التي تشبه الاخير<. او انها: > شيء سابق ومقترن بشي آخر ومتحد معه، بشكل يجعل فكرة الواحد منهما يدفع العقل الى تكوين فكرة الاخر، وانطباع الواحد منهما يشكل فكرة أكثر وضوحاً عن الاخر< عصر التنوير، ص572 ].

ومع ان هيوم يؤكد على دور العملية الذهنية في تكوين فكرة الضرورة لدى العلية الملاحظ ان تحليل هيوم يشابه - الى حد كبير - ما نصّ عليه الغزالي في تفسيره لعلاقة السببية الخاصة؛ رغم ما بينهما من اختلاف مذهبي كبير. فمثلاً يقول الغزالي: >الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وبين ما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا.. فليس من ضورة عدم احدهما عدم الاخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة..<> ان في علاقة التداعي تناقضاً صريحاً: كيف يمكن ان يوجد مبدأ ارتباط اذا كانت ادراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي < يوسف كرم: الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص121 ].

والنتيجة التي يخرج بها هيوم من تحليله السابق هو انه لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، او ان تحدث الاشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.

تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الاستقرائي من الناحية النفسية، وذلك بردها الى مركز العمليات اللاعقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.

نقد التحليل النفسي للاستقراء

تتلخص النتائج التي توصل اليها هيوم في تحليله السابق الى هاتين النقطتين:

1ــ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الافتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.

2ــ يستحيل تبرير الدليل الاستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي فيها تُنتزع الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.

وبخصوص النقطة الاولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فانها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها الا لمرة واحدة فقط. كذلك فان الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزلال لم يسبق أن خبرناه من قبل؟ هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني اذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟

على ان تفسير >الضرورة<>

كما ان رغبة هيوم لمعرفة سبب اتخاذ العملية النفسية لاسلوب التداعي بدلاً عن اسلوب الانفصال بين الافكار؛ انما هو دليل اخر على ما في قرارة نفسه من ايمان بالضرورة السببية، بحيث لم يحتمل قط ان تكون العلاقة بينهما صدفة مطلقة.

وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح الى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات انطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الانطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز الى قوانين الاحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي الى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي اليه التداعي. فعلى سبيل المثال - وكما يقول الشهيد الصدر -: >نفرض أن انساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سببب لهذه الظاهرة. ومرد الاستنتاج - في رأي هيوم - الى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه - االذي قدم اليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم - كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي الى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول اعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة< لاحظ ص321 ].

أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الاستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الاحكام الاستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الاستقراء، وهو منطق الاحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.

***

وبخصوص موقف الشهيد الصدر يلاحظ ان هناك عدة اعتراضات موجهة الى مذهب هيوم، بعضها لا علاقة له بما نبحثه؛ كمناقشته لخصوص ما يعنيه بالاعتقاد والاحتمال لاحظ ص301ــ901 و421ــ621 ]. أما البعض الآخر فمنه ما يتعلق بنقد التفسير النفسي واستبداله بالتفسير القائم طبقاً للاحتمال؛ كما مرت علينا بعض النصوص الدالة عليه لاحظ ص22ـــ421 ]، وكذلك فان منه ما يكشف عن كون المفاهيم الخاصة بهيوم تفضي بمنع اقامة أي حالة من حالات التنبؤ الاستقرائي لاحظ ص021ــ221 ]، وهو ما يتفق عليه هذا الفيلسوف من دون معارضة. اضافة الى ذلك فان هناك نقداً آخر يكشف عن ان هيوم قد استخدم الدليل الاستقرائي من دون ان يشعر، فهو حين يفسّر منشأ الافكار ويردها جميعاً الى الانطباعات الحسية؛ يصل الى نتيجة عامة تقر بأن كل فكرة لابد ان تنشأ عن نوع من الانطباع، وقد طبق هذه النتيجة العامة على فكرة السببية التي لم يجد لها انطباعاً حسياً واعتبرها كغيرها من الافكار الناشئة من الانطباعات. وهو بهذا استنبط حكمه من التعميم السابق بشكل غير مشروع لاحظ ص811ــ911 ]. وكذا نفس الحال بالنسبة الى تعميمه القائل ان كل انطباع هو اقوى من الفكرة التي تنبعث عنه.

هيوم بين الطبيعة والعقل

لقد أدرك هيوم المأزق الحاد الذي وصل اليه في تفسيره للمعرفة بشكل عام، حيث وقع ضحية طرفين متناقضين يتنافسان عليه، فوقف وقفة المتردد الحائر بين ما تضفيه عليه أفكاره وتأملاته، وبين ما تجذبه اليه الطبيعة من التفكير العادي كبقية الناس، او التعامل كما تريد له الطبيعة أن يتعامل. وكأنه في ذلك يقف بين الجنة والنار؛ بين ما تفيض عليه الطبيعة من ثقة وحنان، وبين ما يهدم له العقل من تفكير.

ولعل من المفيد أن أنقل هذا المأزق المأساوي الذي عاشه هيوم وعبّر عنه بنفسه فكتب يقول: > ولكن ماذا تراني أقول هنا؟ بأن التأملات الراقية جداً والميتافيزيقية لا تؤثر فينا؟ من الصعب عليّ أن لا أتراجع عن هذا الرأي وأرفضه حين أنظر الى شعوري وتجربتي الحاضرين. إن مظهر هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الانساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحت معها مستعداً لرفض أي اعتقاد واستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه اكثر احتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟ ما هي العلة التي أشتق وجودي منها؟ والى أي شرط يجب ان أعود؟ وحظوة من يجب ان ألتمس، وغضب من يجب ان أرهب؟ وما هي المخلوقات التي تحيط بي؟ على من استطيع التأثير؟ ومن يستطيع التأثير علي؟ لقد اربكتني كل هذه الاسئلة، وبدأت اتخيل نفسي في اكثر الحالات يأساً، محاطاً بأحلك الظلمات، وقد فقدت القدرة على استعمال أية ملكة او عضو. ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي او بتذكر ما، وانطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث او اربع ساعات من اللهو ارجع الى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من ان ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط الى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بانه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني الى الخمول والملذات؟ وان عليّ ان انزوي الى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته الى الحقيقة واليقين؟ ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الانسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فان حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الان..< عصر التنوير ص523ــ723 ].

الاتجاه الوضعي ونظرية الاحتمال

تعود الوضعية المنطقية الى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك ووايسمان وريشنباخ وكارناب وغيرهم. وخاصيتها الاساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للاستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على تخفيفها وليس القضاء عليها.

وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، حيث لا يوجد هناك قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.

والقضايا التركيبية ما هي الا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ باعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الاستدلال عليها بطريق الاستقراء.

اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، او ان المحمول فيها منتزع عن نفس الموضوع.

ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقب الاولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت - مع شيء من الاختلاف - وأخيراً الوضعية المنطقية يختلف مذهب كانت عن غيره من المذاهب هو انه يعد الاحكام الرياضية بجميع اشكالها من القضايا التركيبية لا التحليلية (كانت: نقد العقل المجرد، ترجمة احمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت، ص412 و759). ].

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الاستقرائي من القضايا التحليلية؛ باعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند الى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف له معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هو (أ) لا نضيف معرفة الى الموضوع، اذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين. وعلى ما يقول ريشنباخ: > القول ان كل شيء في هوية مع ذاته، وأن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة - أي (أن تكون أو لا تكون) بالمعنى المنطقي - هي مقدمات لا يتطرق اليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة، فهي لا تذكر شيئاً عن العالم الفيزيائي، وانما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف. فهي تتحكم في صورته وحدها، أي في لغة وصفنا، واذن فمبادئ المنطق تحليلية<' نشأة الفلسفة العلمية، ص54ــ64 ].

بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبدا أن تبرر لنا طبيعة الدليل الاستقرائي المتصف بان نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض المصدر السابق، ص35 ]. لهذا فان الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق افراد القضية الاستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والاحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

تبرير الدليل الاستقرائي

ان اهم تبرير تستند اليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين ضمن العملية الاستقرائية هو لاعتقادها ان ذلك لا يتم الا عند افتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية باتجاه التعميم واليقين، وذلك كمبدأ الاستقراء الذي اعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص عنه، كما جاء عن برتراند رسل (سنة 4491)، حيث رأى انه لا يمكن ان يجاب عما اذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الاستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، او نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، او نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط الى الاسفل Russell, Bertrand. On Induction. in: Swinburne, Richard. Introduction; The Justifiction of Induction. edited by Swinburne, Richard. Oxford University Press, 1974. p.24]. فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد اصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، الا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بخصوص المستقبل الذي لم يتحقق بعد، او ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، اذ كيف يمكن ان نتحقق من انه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الاستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع اليها الماضي من غير ان نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي [Ibid; p.21-22]. هكذا اذا كانت الادلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة، فان الذي يجعلها كذلك هو مبدأ الاستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فان كل محاولة للوصول الى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالامكان الاستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة اذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. كذلك فان التجربة عاجزة عن ان تثبت او تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة ايضاً عن ان تقول لنا شيئاً بخصوص الاشياء المستقبلية وغير المشاهدة، فلا يبقى - اذن - غير ذلك المبدأ مبرراً للتنبؤ بها Russell, Bertrand. زNon-Demonstrative Inference and Inductionin: Madden, Edward H. The Structure of Scientific Thought. Great Britian,1968. p.322-323. See also: Edwards, Paul. زRussellصs Doubts About Inductionس in: Swinburne, Richard. Intruduction; The Justifiction of Induction. edited by Swinburne, Richard. Oxford University Press, p.41. ].

والملفت للنظر ان رسل يعمم تطبيق مبدأ الاستقراء حتى على قانون السببية العامة، اذ يرى ان الاعتقاد بهذا القانون ناتج عن مبدأ الاستقراء ذاته، اذ يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الامر الا من حيث افتراض مبدأ الاستقراء سلفاً [Russell. On Induction.p24] . مع انه في كتاب (المعرفة الانسانية) اعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على افتراض وجود قوانين السببية، اذ نحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل ان خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فان الاعتقاد بان وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الاعتقاد بالسببية سلفاً Russel, B. Human Knowledge. London, 1948.

p.328-329 ]. ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الاعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الاستقراء باعتباره قبلياً هو الاخر، بل ومتقدماً عليه.

على ان الوضعية لم تقتنع بالنتيجة السابقة التي انتهى اليها رسل، اذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لا بد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن مبدأ الاستقراء فيه دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتين: > وما يسمى بقانون الاستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، اذ من الواضح أنه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن ان يكون قانوناً أولياً كذلك < عزمي اسلام: لدفيج فتجنشتين، ص503 ].

الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الاساس المنطقي للاستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: > وعلى أي حال فان هذه العملية - أي عملية الاستقراء - ليس لها اساس منطقي، بل اساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في ان أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة <. وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان افتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد المصدر السابق، ص503 ]. ومع ذلك فان فتجنشتين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الاستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الاستقراء عادة، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الاستقرائية نشأة الفلسفة العلمية، ص88 و212 ].

الاستقراء والاحتمال

غالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية بالاعتماد على حسابات الاحتمال المستخلصة بدورها من علمية استقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الاحتمالية لقضية الاستقراء التي تواجهنا.

يقول ريشنباخ: >الواقع أن تفسير الاحكام التنبؤية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء، لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي، اذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي الى نتائج صحيحة. ولكن الامر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة الى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول ان النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال، بل انه يستلزم تحليلاً للمناهج الاحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على اسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الاستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الاخيرة تفترض استخدام الاستقراء < المصدر السابق، ص212 ].

وتوضيحاً لهذه الفكرة يضرب ريشنباخ المثل التالي: > عندما نحصي التردد النسبي لحادث ما؛ نجد ان النسبة المئوية التي نتوصل اليها تختلف تبعاً لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن احصاءات المواليد تدل على أن 94 في المائة من كل الف من المواليد الذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 25 في المائة بين 0005 مولود، ويمثلون 15 في المائة بين 00001 مولود. فلنفرض مؤقتاً أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الامر الى نسبة مئوية ثابتة - وهو ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد - فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالنسبة الى هذه النسبة المئوية الثابتة؟ ان أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر الى القيمة الاخيرة التي وصلنا اليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فاذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل فسوف نصححه، ولكن اذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية فلابد أن نصل بمضي الوقت الى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء الى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الاطلاق، أي اذا كانت السلسلة تتجه صوب حد < المصدر السابق، ص512. وانظر كذلك: [Lenz. زThe Pragmatic Justification of Inductionس. in: Madden, H. The structure of Scientific Thought. Great Britian,1968. p.299].

ولا شك ان هذه الطريقة البراجماتية قد سبق اليها الفيلسوف بيرس (سنة 8781) الذي تعتمد نظريته على ما تقدمه الاختبارات من نسبة احتمالية لتكرر الحادثة؛ عليها تقاس النسبة التنبؤية للحوادث من دون حاجة لاي افتراض قبلي يخص مبدأ الانتظام او التماثل والاطراد في الطبيعة كالذي عوّل عليه ستيوارت مل من قبل. ذلك ان بيرس يرى ان النسبة الاحتمالية في السلسلة الطويلة من تكرار الاختبارات تقترب من القيمة الحدية التي عليها تقاس سائر التنبؤات المستقبلية. فعنده ان الاستقراء يعد طريقاً للوصول الى النتائج المرجاة اذا ما كانت سلسلة الاختبارات فيها طويلة طولاً كافياً، وهي بامكانها ان تصحح اي خطأ يتعلق بالخبرة المستقبلية التي يمكن ان ننقاد اليها Peirce, S. Charles. زInduction as Experimental and Self-Correctivein: Madden, H. The Structure of Scientific Thought. Great Britian,1968. p.297. ]. وبنظر الاستاذ بريثوايت (Braithwaite) ان بيرس قد وجد بذرة تأسيسه لنظرية الاحتمال عند جون لوك، وذلك عندما تحدث هذا الاخير بشكل عارض عن قيمة احتمال التوصل الى الحقيقة من خلال حجج الادلة التي تُقدم لهذا الغرض Braithwaite, R. B. زThe Predictionist Justifiction of Inductionس. in: Swinburne, R. Introduction; The Justifiction of Induction. edited by Swinburne, R. Oxford University Press, 1974. p.102. ].

اذن ان ريشنباخ وغيره من اصحاب التبرير البراجماتي للاستقراء يتفقون على عدم امكانية تبرير الاستقراء منطقياً، وذلك باعتبار ان ذلك يحتاج الى افتراض مبدأ قبلي يقر انتظام الطبيعة واطرادها على الدوام، وحيث ان هذا المبدأ ليس عقلياً لذا فلا مجال للتحقق منه، وذلك لان كل تحقيق يعتمد على الاستقراء، والاستقراء لا يمكن تبريره - منطقياً - الا عبر هذا المبدأ، وبالتالي نكون في حلقة دور فارغة، مما يعني فقدان ان يكون هناك ما يبرر معرفة المستقبل طبقاً للملاحظات الماضية. لكن مع هذا فان اصحاب الاتجاه البراجماتي يعتبرون انه اذا كان من الممكن معرفة المستقبل فانه لا وسيلة لذلك بغير اداة الاستقراء، وبالتالي فهو الاداة العملية الوحيدة رغم انهم يقرون ان ذلك غير مضمون الوثوق. فحتى ان علوماً مثل التنجيم والعرافة والالهامات وغيرها من العلوم غير العادية التي تتحدث عن المستقبل، لا يمكن قبولها ما لم تكن تنبؤاتها صحيحة عن حوادث المستقبل على الدوام، مع ان الطريقة الوحيدة التي نستكشف فيها قيمة ما تقدمه هذه الطرق من تنبؤات مستقبلية؛ هي الاستقراء لا غير. وبالتالي فليس هناك من طريقة للتؤكد من الوثوق المعرفي غير اداة الاستقراء ذاتها Madden. زIntroduction; The Riddle of Inductionس. in: The Structure of Scientific Thought. Great Britian, 1968. p.289-290. ].

ومن حيث المقارنة بين اداة الاستقراء وبين اي طريقة اخرى غيره، قام ريشنباخ برسم جدول بياني لتصوير الامر ضمن حالتي افتراض الانتظام وعدم الانتظام للطبيعة، واوضح ان الدليل الاستقرائي يمكن ان ينجح في تأسيس المعرفة للحوادث المستقبلية وغير المشاهدة اذا ما كانت الطبيعة منتظمة او مطردة، لكنه يفشل اذا ما كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. في حين انه في الطرق الاخرى غير طريقة الاستقراء لا يوجد ضمان لنجاحها في انتاج المعرفة فيما لو كانت الطبيعة منتظمة، وانه ستفشل حتماً فيما لو كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. وهنا يكون من الواضح ما يمتاز به الاستقراء عن غيره من الطرق الاخرى، حيث انه ينجح في حالة انتظام الطبيعة وتماثلها، بينما ليس من المضمون ان ينجح غيره عند هذا الشرط. فهذا هو المكسب بلا خسارة الذي يعول عليه ريشنباخ في استخدام الاستقراء دون غيره من الطرق الاخرى Salmon, C. Wesley. زThe Pragmatic Justification of Inductionس. in: Swinburne, R. Intruduction; The Justifiction of Induction. edited by Swinburne, R. Oxford University Press, 1974. p.86. ].

وقد قدّم ريشنباخ تشبيهاً دقيقاً لهذا الغرض، فهو يعتبر ان من يقوم بالاستدلال الاستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لاختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه الا أن يلقي ما عنده في البحر نشأة الفلسفة العلمية، ص512. انظر كذلك: Katz; p.59 ]. فكذا الحال مع التنبؤ الاستقرائي، اذ ما هو الا عبارة عن رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية، مما يعني أنه لا دليل على حد التردد، فكل ما يبنى من استدلال هو افترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل اليه بالاستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الاستقرائي يفترض وجود حد التردد مؤقتاً دون أن يبرهن عليه ولا يصادره سلفاً Madden. زIntroduction; The Riddle of Inductionس. p.320. See also: Lenz. زThe Pragmatic Justification of Inductionس. in: Madden, H. Edward. The structure of Scientific Thought. Great Britian,1968. p.301].

موقف المفكر الصدر من الاتجاه الوضعي

قبل مناقشة الاتجاه الوضعي سنعرض الموقف الذي اتخذه الشهيد الصدر من تفسيره للدليل الاستقرائي، رغم ما اقتصر عليه من بحث يتعلق بقضية المصادرة القبلية للاستقراء وعلاقتها بدرجة التصديق النهائية. ويتحدد هذا الموقف من خلال المقارنة التالية:

أولاً: اتفق الجانبان على أن الدليل الاستقرائي ليس بحاجة لأي مصادرات عقلية، لكنهما اختلفا في النتيجة. فهي لدى الجانب الوضعي لا يمكنها أن تكون يقينة والا فسنضطر لافتراض وجود تلك المصادرات القبلية التي تبرر ذلك من خلال تحويل الاستقراء الى عملية قياسية يتحكم فيها العام بالخاص. أما لدى المذهب الذاتي فان الاستقراء يمكنه أن يحقق درجة اليقين في النهاية من غير اقتضاء للاشكال السابق، حيث تظل العملية استقرائية لا تتحول الى شكل القياس، ولا هي بحاجة الى افتراض المصادرات العقلية. لكن حالة تحقيق اليقين لا تتم عن طريق البرهان، وانما تتم عبر افتراض مصادرة تعمل على تبريره ضمن شروط مناسبة، والتي منها عدم وجود ما يبرهن على تبرير ثبات الاحتمال المضاد لليقين المفترض لاحظ ص19ــ29 ].

ويمتاز هذا اليقين بحالة خاصة تجعله لا يستمد قوته من منطق الضرورة والحتمية، وانما يستمدها من ذات الطبيعة التي جُبل عليها الانسان بتنمية معارفه آلياً. فاليقين بهذا الاعتبار ليس الا شكلاً عملياً بوجه ما من الوجوه. وهو من هذه الناحية يتشابه مع اليقين الذي اقرت به الوضعية كصيغة عملية، رغم ما بينهما من اختلاف اساس. اذ يمثل اليقين الوضعي استجابة عملية تنبعث من مركز السلوك النفسي المتمثل بالعادة، وهو لهذا لا علاقة له بالشكل المنطقي من المبررات، بخلاف ما عليه اليقين >العملي< style=""> يقول الشهيد الصدر بهذا الصدد: ان اليقين الاستقرائي ناشئ > من تجمع احتمالات كثيرة ثابتة فعلاً في محور واحد فهو ليس يقيناً ثابتاً بالشيء على تقدير افتراض ان احتمالاً معيناً او اكثر من تلك الاحتمالات كاذب، لأن هذا التقدير يتضمن زوال بعض تلك القيم الاحتمالية المتجمعة في المحور والتي ساهمت في تكوين ذلك اليقين، فاليقين الناشئ من تجمع الاحتمالات في محور واحد لا يمكن ان يعيش الا مرتبطاً بتلك الاحتمالات، وأي افتراض لزوال بعض هذه الاحتمالات هو في نفس الوقت افتراض لزوال اليقين < (لاحظ ص483). ].

ثانياً: اتفق الجانبان كذلك على ان الاستقراء ليس مستقلاً عن مبادئ الاحتمالات، لكنهما اختلفا في مصدر وقيمة هذه المبادئ. فهي لدى المفكر الصدر صحيحة ومفترضة قبل الاستقراء، الا انها لدى المنطق الوضعي ليست مفترضة، بل مستدل عليها باستقراء سابق يمنحها قيمة مرجحة تقبل التغيير بحسب ما تكشف عنه الخبرات الاستقرائية اللاحقة.

وهذه النتيجة جعلت من المذهب الوضعي يقر بعدم افتراض بداية محددة للمعرفة. اذ كل معرفة لها مبررات احتمالية تنشأ عن استقراء سابق تبرره احتمالات اخرى، وهكذا الى ما لا بداية له. وهي نتيجة لم يوافق عليها المفكر الصدر، حيث اعتبر ان عدم تحديد المعرفة ببداية يفضي الى احالتها من الاصل لاحظ ص305 ].

ومع ذلك فهما يتفقان على ان الاحتمال الذي يقوم عليه الاستقراء لا يمكنه ان يبرر وجود اليقين في القضية الاستقرائية.

ثالثاً: اختلف الجانبان حول وجهة النظر المتعلقة بالنسبة لعلاقات السببية؛ فأفضى الامر الى اختلافهما بخصوص تبرير الدليل الاستقرائي. فالاتجاه الوضعي يرى ان السببية العامة فيها من الشمول ما يعجز الاستقراء عن ترجيحها، وهو في جميع الاحوال ينفي ان تكون لها دور مفيد للعملية الاستقرائية، بل اكثر من ذلك انه لا يعلق المعرفة التنبؤية على مطلق السببية سواء كانت عامة او خاصة نشأة الفلسفة العلمية، ص601 ]، وانما ينظر اليها نظرة أي قضية واقعية اخرى يلاحظ ان الشهيد الصدر ناقش الاتجاه الوضعي حول ربط القضية الاستقرائية بالسببية التجريبية، مع ان هذا الاتجاه لا يعلّق تلك القضية بشيء من ذلك (لاحظ ص39ــ49). ]، وذلك انها - على رأيه - لا تتضمن الضرورة التي هي من شأن القضايا التحليلية. في حين ان المذهب الذاتي - وكما عرفنا - علّق المعرفة التنبؤية على اثبات السببية العقلية المتضمنة للضرورة.

نقد الاستقراء الوضعي

يمكن تلخيص النتائج التي انتهت اليها الوضعية في تفسيرها للدليل الاستقرائي كالاتي:

1ــ ان الدليل الاستقرائي يستحيل عليه ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الاستقراء.

2ــ ان حسابات الاحتمال هي التي تعطي للقضية الاستقرائية درجتها الترجيحية، رغم انها بدورها تستمد من عملية استقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية الى ما لا بداية له.

3ــ تتصف النتيجة في الدليل الاستقرائي بأنها قائمة على أساس القدر النسبي من حد التردد الذي يمكن التوصل اليه خلال العملية الاستقرائية.

ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:

الاستقراء والقيمة التصديقية

لقد سبق ان عرفنا ان جوهر المشكلة الاستقرائية هي تبرير اليقين والتعميم. فقد اصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي الى اثبات ذلك انما تقع في الدور او بمصادرة مبدأ قبلي كمبدأ الاستقراء.

لكن في قبال هذا التوجه نجد لدى المفكر الصدر محاولة جريئة غرضها تحقيق اليقين والتعميم من غير ارتكاز على المصارات العقلية، سوى أن اعترف بحاجة الدليل الاستقرائي الى بعض المصادرات كتلك التي تتعلق بمبادئ الاحتمال، والتي لا تحول الدليل الى شكل القياس كما هو الحال مع غيرها من المصادرات القبلية الاخرى. ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لليقين ضمن شروط، ونرى ضرورة التمييز بين القضايا الاستقرائية، حيث ان بعضها يصح تبرير اليقين فيها دون البعض الآخر، اي اننا نواجه اكثر من صنف للقضايا الاستقرائية لابد من التعامل معها بشكل مختلف كما سيمر علينا فيما بعد.

الاستقراء ومبادئ الاحتمال

في الاستقراء الوضعي عرفنا أن النتائج تتخذ على الدوام قيماً احتمالية، وذلك باعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الاستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا الى ما لا بداية له.

فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ - كما عرضناه سابقاً -، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (. 6% ) خلال استقراء شمل مائة الف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الاستقرائي هو في حد ذاته محتمل، وذلك لأنه يقوم على احتمال يرجح صحة العملية الاستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة احتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع الى ما لا بداية له.

ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي الى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار اليها (06%) من الصفر، وذلك لأن صدق هذه النسبة تتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. ومهما افترضنا أن نمنح تلك العمليات من قيم عالية فانه يستحيل أن نتخلص من التنازل الصفري، اذ ما دام بعضها يعتمد على البعض الاخر فلابد من اجراء الضرب، وحيث أن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (06%) خاطئة تماماً، الامر الذي يفضي الى بطلان المعرفة الاستقرائية قاطبة. وهي نتيجة قد توصل اليها رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع استاذنا الصدر المذهب فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الامثلة: >نفترض أن قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1\2 على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فاذا رجعنا بعد ذلك الى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1\01، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1\2 من المحتمل بدرجة 1\01 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة اكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فاحتمال الخطأ يعبر - اذن - عن امكانيتين متعادلتين: احداهما تخفض والاخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة احتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1\2، لا 1\2 * 1\01< لاحظ ص205 ].

ما من شك ان الصيغة الرياضية الاخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. ذلك ان درجة احتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1\2) تظل (1\01) سواء كانت رافعة او خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9\01)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة ايضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فان ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الاولية (1\2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لابد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الاولية (1\2). وبالضرب تتنازل القيمة الى ما يقارب الصفر، او ان تصديقنا بتلك النسبة (1\2) يصبح صفراً عند اللانهاية من المراجعات. الامر الذي يعني ان هذه النسبة هي نسبة نقطع بخطئها تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة اخرى بديلة، باعتبارها ستلقى نفس المصير، مما يعني ان العملية الاستقرائية تفشل في ان تؤدي دورها لتحديد أي قيمة احتمالية.

وللايضاح اكثر، لو فرضنا ان قيمة احتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (08%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض ان هذه النسبة في المراجعة الاولى كانت عبارة عن (99%)، أي ان احتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (08%) هو احتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة احتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع او الخفض؟ ذلك انه لو فعلنا ذلك لكنا على شبه يقين بأننا على خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (001%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الاحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع او الخفض؟!

الاستقراء وحد التردد

كما علمنا ان حد التردد لدى الوضعية يتوقف على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما لذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الاعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الاستقراء ان يدلنا عليها نشأة الفلسفة العلمية، ص512 ]. لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الاستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة اخرى الى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا اساس الدليل على القضية الاستقرائية مستلهماً من الاستقراءات السابقة.

كذلك فان هناك من الغربيين من نقد ريشنباخ وسالمون حول قاعدة حد التردد، وهي انه اذا كان يمكن تطبيقها على التنبؤات في السلسلة الطويلة فانه لا يمكن فعل نفس الشيء في السلسلة القصيرة المعول عليها في المجالات العلمية والحياتية. فمثلاً ان سالمون اعتبر انه اذا كان هناك قانون طبيعي مثل القول بان (05%) من ذرات (الكاربون 41) تتحلل خلال مدة (0065 سنة)، فان ذلك القانون سوف لا يكون بصدد اي عدد محدود من ذرات الكاربون التي يمكن ان تتحلل، وانما هو بصدد التكرار الحدي في السلسلة الطويلة. والحال ان هذا الذي يذكره سالمون لا يتناسب مع التعامل العلمي والحياتي في الكثير من القضايا التي تخص المسائل المحدودة او ذات السلسلة القصيرة [Swinburne; p.14-15]. وقد نُقد ريشنباخ على ذلك، بل واتهم بانه يقيد الكشوفات التنبؤية بحدود السلاسل الطويلة او الكبيرة، كالذي ذهب اليه الاستاذان لينز وكاتز [Lenz; p.300, Katz; p.61-62]. مع ان ريشنباخ لا يمانع من تطبيق قاعدته الاحتمالية على القضايا الفردية والمحدودة، مثل تقدير احتمال كيفية ما سيكون عليه الطقس ليوم غد، معتبراً ذلك من الاحتمالات التقريبية، لكنه رغم ذلك واجه نقداً حتى من رفاقه المنظرين لنظرية الحد التكراري الذين رفضوا الحديث عن الحالات الفردية والتقريبية، معتبرين اياها بانها صياغات بلا معنى Kyburg, Henry E. Jr. Probability and Inductive, Printed in the U.S.A, 1970. p.48-49 ].

مع القضايا التحليلية

تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية الى قضايا منطقية واخرى رياضية، باعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية نشأة الفلسفة العلمية، ص691 ].

ولو رمزنا الى القضية التحليلية بـ ( ح )، والتكرارية بـ ( ت )، والضرورية بـ ( ض )، واللااخبارية بـ ( لا )؛ فان تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كالاتي:

ح = ت = ض = لا

لكن يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية اذا سلمنا كونها تكرارية - اذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع - لابد ان تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن ان القضية اللااخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الامور علينا ان نتتبع ما يلي:

1ــ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لابد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فان الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.

ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية واعتبارها ليست إخبارية لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فانها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً على تكذيبها، والامر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فان الضرورة فيها تتصف باللااخبارية من دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الاول يتميز بالضرورة الوجدانية وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.

لهذا فان من صفة القضايا الاخبارية الضرورية هو ان مخالفتها لا تفضي الى التناقض. ويصدق هذا الامر حتى مع مبدأ عدم التناقض الوجودي، حيث ان من يعتقد بأن حوادث الوجود ينتابها التناقض لا يمكن أن يدان بأن قراره هذا يفضي في حد ذاته الى التناقض، بخلاف ما لو اعتبر التناقض شاملاً للفكر والمعرفة، او انه يصيب القضايا ذاتها وليس مجرد الحوادث، حيث ان ذلك يفضي في حد ذاته الى التناقض، وبه تستحيل المعرفة. او يقال ان هذا الحكم لا يصح ما لم يشترط على الأقل أن يكون مسلّماً بمبدأ عدم التناقض، كي لا يتناقض الحكم مع ذاته، وعندها يثبت هذا المبدأ او تستحيل المعرفة بتسلسل التناقضات.

2ــ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.

فمثلاً يقول الدكتور زكي نجيب محمود: >ضمن تعريف المثلث في هندسة اقليدس بأنه سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي مائة وثمانون درجة، وقد تظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية، ولو كان الامر كذلك لصح قول القائلين: القضية الرياضية قبلية واخبارية في آن معاً، لكن حقيقة الموقف غير ذلك< نحو فلسفة علمية، ص671 ].

ويقول ريشنباخ: ان > القضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة ( اذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة ). غير ان علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي. وعلى ذلك فان هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة الى قضايا تركيبية الا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حده. وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيراً بواسطة تعريفات احداِثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقاً يصف العالم الفيزيائي. غير انها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة، اذ ان الهندسة إما ان تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما ان تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية < نشأة الفلسفة العلمية، ص821ــ921 ].

والملاحظ من النصين السابقين ان سبب جعل الرياضيات التطبيقية ضمن القضايا التحليلية؛ إما لكونها لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي كما في النص الاول، او لكون اتصافها بالضرورة واللزوم كما في النص الثاني، ومع هذا لم توضح الكيفية التي تكون فيها هذه القضايا تكرارية. وهي مصادرة لسنا نضطر اليها، اذ من الواضح ان هناك اضافة جديدة للنتيجة، رغم انها لا تتحدث ولا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي. فمثلاً ان المحمول الذي يحدد لنا درجة زوايا المثلث لا يمكن اعتباره منتزعاً من نفس حقيقة السطح المستوي المحاط بالخطوط الثلاثة المستقيمة كما يحصل مع حالة انتزاع معنى غير المتزوج من الأعزب، وانتزاع النتيجة في الرياضيات الحسابية من مقدماتها - كانتزاع معنى العدد (2) من العدد المكرر لـ (1) -، بدلالة ان الدرجة المحددة بمائة وثمانين ليس لها خصوصية بزوايا المثلث. فدرجة السطح المستوي من غير مثلث ولا اضلاع هي ذات هذه القيمة، كما قد يكون السطح المنحني بنفس تلك الدرجة رغم انه لا يعد مثلثاً. وبالتالي فان هذه القيمة ليست منتزعة من المعنى الحاصل للمثلث. هكذا فان مثل تلك القضايا هي قضايا ضرورية تركيبية، في الوقت الذي تكون فيه غير اخبارية بالنسبة للواقع الموضوعي.

وعلى العموم فان العلاقات بين القضايا القبلية لا يمكنها ان تكون متساوية؛ بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:

ض > لا > ت = ح

أي أن القضية الضرورية هي أعم واكبر من القضية الااخبارية، وهذه أعم واكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.

صفة المعنى في القضايا

تنقسم القضايا عند الوضعية الى ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون تحليلية أو تركيبية أو قضايا ليس لها معنى. وتمتاز هذه الاخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الاستقراء والتجربة عن اثباتها أو نفيها. ولهذا وضع مبدأ >التحقق <>

وهناك من الوضعيين من أضاف الى الوصفين السابقين - في القضايا ذات المعنى - صفة اللاتحدد. فمثلاً أن ريشنباخ لا يشترط أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، فهناك صفة اللاتحدد التي تبرر حالة ما اذا كنا نقوم بدراسة عالم آخر من موقع عالمنا الخاص، كما هو الحال مع دارسة عالم الجزيئات الدقيقة التي تمتاز بكونها مواضيع واقعية يمكن اخضاعها للبحث التجريبي نشأة الفلسفة العلمية، ص722 ].

وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق. منها ما يخص مبدأ > التحقق <، حيث انه لا ينتمي الى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع ان اليه يسند التمييز بين القضايا التي لها معنى عن تلك التي ليس لها معنى، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!

لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع فتجنشتين، ص853 ]. وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من ان هذه القضية ترجع الى احكام منطقية لها مستوى اعلى من تلك التي يمكن ان تتصف بالصدق والكذب من زاوية فلسفية، ص45ــ56 ].

في حين لا يُشك ان ذلك المبدأ مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الاستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالامكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر، وحين يوضع للتحقيق في القضايا الواقعية فانه لا يتناقض مع كونه تقريراً، ذلك ان له وظيفة علمية لتسهيل البحث في القضايا اللاحقة. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللاتحدد، حيث انه ايضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.

وللوضعية ان تختار لنفسها ما تشاء في ترتيب انماط القضايا؛ طالما لا يؤثر ذلك على مصادرة الموقف اتجاه غيرها من المذاهب. وقد حاول بعض الاساتذة الوضعيين ان يصل الى هذا المدلول في توجيه تلك المدرسة، اذ اعتبرها منهجاً للنظر العلمي وليست مذهباً كسائر المذاهب الاخرى قصة عقل، ص49 ]. مع انه لو صدق هذا التوجيه لكان من الحق ان لا تتهم المذاهب الميتافيزيقية بأنها تبحث عن قضايا لا معنى لها، مما يدل على انها اتخذت اتجاهاً ينافس غيرها من الاتجاهات، او انها نزعت نزعة مذهبية لا منهجية.

وعلى العموم فان الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن ان تكون كالاتي:

1ــ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف الى اقسام القضايا، مما يحتاج الى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.

2ــ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعنى، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف اليه مبدأ اللاتحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، اذ هناك قضايا اخرى يُعترف بأن لها معنى، وهي مع ذلك لا تخضع الى اعتبارات كل من التحقيق واللاتحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الاستقرائي عن ترجيحه او اثباته، على ما بحثناه في محل آخر لاحظ كتابنا: الاسس المنطقية للاستقراء\ بحث وتعليق، طبعة نمونة، قم، 5891، ص342 وما بعدها. ].

3ــ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، اذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد الى منطق الاحتمالات او ما على شاكلته يسود الاعتقاد بان النظريات العلمية لا تخضع الى اعتبارات نظرية الاحتمال، حتى قال فون ميزس: >يجب ان نلاحظ ان العلماء حتى في أحاديثهم العادية التي لا يتوخون فيها الدقة قلما يستخدمون التعبير بأن احتمال النظرية احتمال صغير او كبير<، بل يمكن اعتبار وجود معايير متعددة ومتنوعة تفرض على العالم أن يأخذ بها في تفضيله لنظرية على اخرى، كما يؤكد بذلك مايزس وهو يتحدث عن احتمالات النظريات (فلسفة العلم، ص393 و493). والأمر مبرر من حيث وجود التنافس بين النظريات وان ما يرجى منها هو الفائدة التفسيرية لأكبر عدد ممكن من الظواهر دون البحث عن مطابقتها للواقع الموضوعي او النظر في احتمالات هذا الامر. لكن يظل ان النظرية لا يمكنها ان تستغني عن وجود القرائن التي تؤيدها من المشاهدات، وعلى الأقل لا تتناقض معها. لهذا فالنظرية التي تتناقض مع حقيقة تجريبية تفقد شيئاً من اعتبارها وقد تفسح المجال لاحلال غيرها من النظريات المنافسة.]، من قبيل اعتبار المادة مؤلفة من ذرات، والاعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الانسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات المادية... الخ نشأة الفلسفة العلمية، ص622 ].

لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع اثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الالهية التي تفسر وجود النظام في الكون، وذلك لانها تخضع الى نفس اعتبار المنطق العلمي المستند الى اعتبارات نظرية الاحتمال او ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الاحتمالي لا يُبقي للفرض الاول أي قيمة يعد لها الاعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الاحتمالية لصالح محور اثبات تلك القضية، حتى مع عدم افتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الاستقرائي.

هكذا فليس هناك ما يدعو لتعميم الحكم القائل بأن قضايا الميتافيزيقا خالية من المعنى، طالما ان بامكان مبدأ > التحقيق < style=""> لاحظ ص705 ]. ويكفينا شاهد على ذلك ما وُصفت به بعض المبادئ العلمية من صفات >ميتافيزيقية<>

يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: >من الواضح على وجه التأكيد أن مبدأي الثبات والنسبية اللذين يؤلفان العمود الفقري لنظرية النسبية لاينشتاين لا يمكن استنباطهما من الحقائق المكتسبة من خبرتنا، او حتى من التجارب التي يعدها ويجريها علماء الفيزياء. ومع ذلك، اذا وصفنا هذه المبادئ بأنها عقائد فان علينا أيضاً ان نصف مبدأ القصور الذاتي بأنه (عقيدة). فعندما قدم جاليلو ونيوتن هذا المبدأ كان أيضاً مخالفاً جداً لخبرة الفطرة السليمة ولم يكن ليقبل الا لأن الاستنتاجات المستخلصة منه كانت متفقة مع المشاهدات الواقعية< فرانك، فيليب: فلسفة العلم، ص332ــ432 ].

ويزداد الأمر اتساقاً عند لحاظ ما ابداه بعض المؤلفين من ان التفسيرات الشمولية هي تفسيرات غير ذات معنى باعتبارها تتضمن نصوصاً لا يمكن تدقيقها بالمشاهدة والخبرة التجريبية فلسفة العلم، ص382 ]. وهنا نصل الى ان مثل هذه التفسيرات تقف صفاً واحداً مع الكشف الخاص عن المسألة الالهية، فهل نردّ كلاً من التفسيرات العلمية الشمولية والمسائل الميتافيزيقية الى القضايا الخالية من المعنى، الامر الذي يوصد الباب أمام التقدم العلمي؟ او نعتبر كلا المجموعتين مبررتين بمصدر واحد مشترك؟ فما سبق ان وُصفت به بعض المبادئ العلمية هو أمر يتفق تماماً مع لحاظ المسألة الالهية، باعتبارها ليست مكتسبة من الخبرة مباشرة ولا قابلة لتحضيرها تجريبياً، لكن ما يترتب عليها يتفق مع المشاهدات الواقعية. ذلك ان اهم ما يستنتج من الاعتقاد بها هو شمولية النظام وغائيته. فاذا كنا نعتبرها مستخلصة من لحاظ عدد من الانظمة الكونية، فان ما يستنتج منها هو تعميم النظام في الكون والاعتقاد بالغائية الوظيفية. ولا يعني ذلك ان المسألة الالهية تصبح مسألة علمية كسائر المسائل العلمية الاخرى، انما يعني ان استنتاجها لا يختلف عن استنتاج النظريات العلمية من حيث النظر الى وحدة الأساس، بل انها تفوق غيرها بأعظم ما يكون لكونها تكتسب ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون أن توجد ولا ظاهرة واحدة سلبية تعمل على تكذيبها.

4ــ هناك بعض الادراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي الى قائمة القضايا التحليلية ولا الاستقرائية ولا الميتافيزيقية، كادراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الاجمال. وهو ادراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها بالضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع الى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.

اطروحة المفكر الصدر

لو قارنا اطروحة شهيدنا الصدر بالقياس مع النظريات المعرفية التي سبقتها؛ لأمكن لحاظ بعض الجوانب الاساسية التي تكشف عن طبيعة هذه الاطروحة، وذلك كالاتي:

1ــ ان نظرية المعرفة يتجاذبها اتجاهان متعاكسان لمذهبين ظلا على خلاف تاريخي قائم الى يومنا هذا، احدهما يدعى بالمذهب العقلي وخير من يمثله ارسطو واتباعه من المناطقة والفلاسفة، أما الاخر فهو المذهب التجريبي، وخير من يمثله التيارات الوضعية والتجريبية الحديثة. والمعرفة لدى المذهب العقلي قائمة اساساً على مبادئ اولية عقلية ليست مستمدة من التجربة والحس، وعليه كانت الطريقة المتبعة في انتاج المعرفة الجديدة هي دائماً قياسية تتجه مما هو عام وكلي الى ما هو خاص وجزئي. فحتى الاستقراء ذاته يصبح منطوياً على قياس خفي لكونه يرتكز على بعض المبادئ العقلية التي تبرر له مشروعية الاتجاه من العام الى الخاص. أما لدى المذهب التجريبي فعلى العكس ان المعرفة الاساسية لديه قائمة بطريقة استقرائية على التجربة، وبالتالي فان عملية انتاج المعرفة تتجه - في الاساس - من الخاص الى العام وليس العكس. وكانت مهمة الصدر قبال هاتين النزعتين المتعارضتين هو الجمع بينهما حتى في العملية الواحدة، كما هو الحال في الاستقراء ذاته، اذ الاستقراء لديه ينطوي على عمليتين معاً، حيث يبدأ على شكل قياس باتجاه الفكر من العام الى الخاص، وذلك بتجميع قيم الاحتمالات الرياضية الى اقوى درجة ممكنة من الاحتمال لصالح القضية المستقرأة ؛ اعتماداً على مبادئ الاحتمال ومصادراته التي تبرر الشكل القياسي من العملية الاستقرائية. وقد اطلق الشهيد على هذه العملية بالمرحلة الاستنباطية. لكنه لم يتوقف عندها، اذ اضاف اليها عملية اخرى غاية في الاهمية، وهي التي سماها >المرحلة الذاتية<. فبعد ان تنتهي المرحلة الاستنباطية باتجاه الفكر من العام الى الخاص، يأتي دور المرحلة الذاتية الاخيرة باتجاه الفكر من ذلك الخاص الى عام آخر يتمثل بتعميم القضية المستقرأة.

ان هذه التشكيلة من الجمع بين عمليتي تنقّل الفكر البشري في القضية الواحدة، من العام الى الخاص، ومن الخاص الى العام، هي الطريقة الجديدة التي صاغها السيد الصدر ليفسر من خلالها غالب المعرفة البشرية. فمن المعلوم ان العملية القياسية في انتاج المعرفة هي عملية منطقية بحتة. الامر الذي يعني ان الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية الاولى، حينما يقوم اساساً على مبادىء الاحتمال، فانما ينطلق طبقاً لعملية منطقية خالصة ليس للذهن البشري فيها أي دور من ادوار التدخل الذاتي. لكن المشكلة تتحدد في العملية المعاكسة، اذ الاستقراء في مرحلته الثانية او الأخيرة لا يعتمد على الطريقة القياسية، بل يتجه مما هو خاص الى ما هو عام، او مما هو محتمل الى ما هو يقين. فاذا كان من الواضح ان هذه العملية ليست قياسية كما هو الحال مع الاولى، فكيف يمكن تبرير مثل هذا التحول والانتقال؟ وكيف يمكن تفسير مثل هذه العملية؟ وهل يا ترى ان لهذه العملية منطقاً خاصاً ام لا؟

حقيقة الامر ان دور الصدر يبدأ من هذه النقطة بالذات، فهو يرى ان عملية الانتقال مما هو خاص الى ما هو عام، ومما هو احتمال الى ما هو يقين، يتم عبر طريقة خاصة في المعرفة هي تلك التي اطلق عليها بالتلازم الذاتي. فتوليد المعرفة لا يتم هنا عبر شكل منطقي كما هو الحال مع القياس، بل يتم ذاتياً من معرفة اخرى تلازمها. فحين تتراكم القرائن الاحتمالية في الذهن البشري باتجاه محور قضية ما؛ تحصل للذهن حالة اذعان للتسليم >ذاتياً<>كل حديد يتمدد بالحرارة< ؛ رغم ان القطع التي اخضعت للاختبارات كانت محدودة لا تشكل كل قطع العالم من الحديد. والملاحظ في هذه العملية أنها تنطوي على عملية ذاتية، لا بالمعنى الفردي، وانما بالمعنى النوعي، اي انها لا تتعلق بذاتية زيد او عمر من الناس، بل تتعلق بذاتية الذهن البشري عموماً. وعلى الرغم من ذلك فان الصدر لم يتوقف عند الجانب السايكولوجي من هذه العملية المعرفية، بل انه استهدف إلباس الخاصية الذاتية بالمنطق.

لقد كان الصدر حريصاً على اضفاء الطابع المنطقي على الحالة الذاتية، وذلك كي لا يجعل عملية الاستقراء والمعرفة البشرية تتبخر وسط الاوهام والاحلام النفسية، الامر الذي حدا به الى وضع شروط منطقية هي التي تصحح قبول نتيجة الاستقراء. وبعبارة اخرى، ان طريقته وإن كانت تعي حقيقة الغريزة الذاتية للذهن البشري، لكنها في نفس الوقت لا ترى حرجاً من ان تجعلها >تتمنطق<>

2ــ طبقاً لما سبق يمكن اعتبار اطروحة استاذنا الشهيد تبتدئ من حيث تنتهي نظرية الوضعية المنطقية. فقد عرفنا ان هذه النظرية لا تتجاوز حدود الترجيح الاحتمالي في تقييمها للقضية الاستقرائية، خاصة وأنها ترفض الاعتراف بالمبادئ القبلية التي تتحكم في سير الدليل الاستقرائي. والميزة التي اضافتها اطروحة الصدر بعد الموافقة على عدم الحاجة للمبادئ القبلية؛ هو بناء المرحلة الذاتية وتحويل الترجيح الاحتمالي الى اليقين.

بل يمكن القول ان محاولة الصدر تشبه محاولة دعاة المنطق الوضعي وعلى رأسهم ريشنباخ في كتابه (نشأة الفلسفة العلمية)، والذي فيه اكد على ان الاسنتقراء عبارة عن عادة نفسية، لكنه مع ذلك ادخل هذه العادة لمنطق حساب الاحتمالات، او قل لحساب منطق الاحتمالات، فخلع بذلك على البعد النفسي لباساً منطقياً اكسبه قوة ومتانة. بالفعل ان ما حاوله الصدر يشابه الى حد كبير ما قام به الوضعيون المنطقيون، لكن مع فرق، هو ان هؤلاء لم تكن لديهم >الشجاعة<>

وكما سبق ان قلنا، ان المحاولة الجديدة للصدر لم تقترب من البرهنة على نتيجة الاستقراء، فهذا ما كان يدركه بأنه ضرب من المستحيل، الا ان محاولته اتخذت سلوك طريق اخرى لانقاذ المعرفة البشرية التي سبق ان هزها فيلسوف التمرد ديفيد هيوم. فقد وضع مصادرة تنص على تحول القيمة الاحتمالية الكبيرة جداً الى اليقين والتعميم، ووضع الشروط اللازمة لتفسير هذه المصادرة كي تجنبها السقوط في >الهوى<>االجامع المانع<.

وتعتبر هذه الصياغة جريئة في تحديد المبرر الذي يجعلنا نرضخ علمياً - بعيداً عن الذات والهوى - لقبول اليقين والتعميم في العملية الاستقرائية. ذلك انه لما كان اليقين والتعميم يسبقه تراكم احتمالي كبير جداً، اصبح الخطأ محدداً في موضع ضئيل جداً لا يعتد به من الناحية العملية، فهو بمثابة الصفر لضآلة قيمته. لهذا كانت >المرحلة الذاتية<>جامع مانع<>

بهذا فان الدور الرائد للسيد الصدر هو ليس البرهنة على اليقين والتعميم في القضية الاستقرائية، وانما هو تبرير الصفة السايكولوجية لعملية التلازم المعرفي الذاتي بطريقة منطقية. فهو بذلك اراد ان يجعل للطبيعة منطقاً لا يتناقض مع كونها لا تقوم على اساس منطقي.

ان اضفاء الصفة المنطقية على الجانب الذاتي من المعرفة يجعلنا ندرك علة تقسيمه لليقين الى ثلاثة انواع، أحدها اليقين المنطقي القياسي، وهو الناتج بطريقة القياس، واليقين الذاتي الخالص، وهو ناتج عن عملية نفسية تعجز عن ان تخضع الى التبريرات العلمية والموضوعية، كما هو الحال عند بعض الناس الذين يتيقنون بقدوم الشر حين يسمعون نعقة الغراب. ويضاف الى ذلك ما اطلق عليه الشهيد باليقين الموضوعي، وهذا هو المراد من اليقين الاستقرائي. فعلى الرغم من انه اعتبر هذا اليقين هو ايضاً فيه مسحة ذاتية، اي انه يقين ذاتي، لكنه يختلف عن الاول باعتباره يخضع الى الشروط والتبريرات المنطقية الكافية. فهو مشروط بالاساس بمنطق تراكم الاحتمال الى اعظم درجة ممكنة، وهذا التراكم ناتج اساساً بشكل منطقي خالص عن طريق القياس، وبالتالي فان اليقين الموضوعي هو عبارة عن يقين ذاتي، لكنه محاط بدوائر منطقية من المبررات والشروط. وهذا ما يبرر اعتبار الاستقراء ذا اسس منطقية كما جاء في عنوان الكتاب، فلولاها لكان لا يختلف عن المعرفة التي تنتج اليقين الذاتي المحض.

وبعبارة اخرى ان محاولة الصدر التي طمحت الى اضفاء الصبغة المنطقية على حالة اليقين والتعميم في الاستقراء هي اهم ما في الموضوع والكتاب. اذ فرض عليه هذا العمل الى مزاوجة الجانب المنطقي بالجانب الذاتي من المعرفة البشرية، فخرج بالنتيجة الى ان يكون التعميم واليقين مزيجاً بكليهما معاً، فلا هو منطقي بحت كما لدى الاتجاه الارسطي، ولا هو ذاتي خالص كما لدى التيار الحديث. فمن الواضح ان عنوان كتاب الشهيد (الاسس المنطقية للاستقراء) يوحي الى اضفاء الصبغة المنطقية على الاستقراء، في الوقت الذي يوحي عنوان المذهب الذي أسسه للاستقراء الى اضفاء النزعة الذاتية عليه، اذ اطلق عليه سمة >المذهب الذاتي<.

ذلك هو اهم ما في مشروع السيد الصدر من ابداع، اذ لم يحصل لأحد ان منطق اليقين الاستقرائي بعيداً عن المصادرات العقلية، الامر الذي منحه حق ريادة مذهب جديد في المعرفة البشرية، وهو المذهب الذي اوسمه بـ >الذاتي<.

3ــ ان المحاولة المبتكرة للمفكر الصدر أرادت ان تمد جسراً منطقياً بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فاعتبرت الاستقراء كفيلاً# بحل القضية الميتافيزيقية المعبّر عنها بالمسألة الالهية. وهو أمر لم يسبق للمذاهب الفلسفية أن طرقته، بل عُدّ مستحيلاً لدى الفكر الحديث ومنه التيار العلمي. فقد توصل المفكر الصدر من خلال محاولته الرامية لتأسيس الدليل الاستقرائي الى اثبات المسألة الالهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية اخرى. فكما سبق أن عرفنا بأن هناك أساساً مشتركاً لاثبات كل من العلوم الطبيعية والمسألة الالهية، وانه ليس أمام الانسان ان يختار الا طريقاً بين طريقين لا ثالث لهما، فاما الايمان بالعلم والمسألة الالهية، او الكفر بهما معاً، وأي سبيل آخر فهو بلا ريب متناقض، اذ الشروط التي تثبت القضية العلمية هي ذاتها التي تثبت القضية الالهية بلا فرق، مشيراً الى الدور الذي مارسه القرآن الكريم في التنبيه الى فحوى الدليل الاستقرائي للكشف عن الأصل العقائدي من خلال النظر الى الخلق والعالم لاستكشاف ما يبديه من قصد وحكمة.

علماً بأن هذا الأساس المشترك الذي يربط قضية اثبات العلم بقضية عقائدية مثل مسألة وجود الله؛ نجد له إشارة مجملة لدى ابن القيم الجوزية الذي يقول: >تأمل حال العالم كله، علويه وسفليه بجميع أجزائه، تجده شاهداً باثبات صانعه وفاطره ومليكه، فانكار صانعه وجاحده في العقول والفطر بمنزلة انكار العلم وجحده، لا فرق بينهما.. ومعلوم ان وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما<>

***

تلك كانت فكرة عامة استعرضناها للتعريف بمذهب الشهيد الصدر ومقارنته مع النظريات التي سبقته. أما من حيث النقد والتحليل فيلاحظ ان اطروحة الصدر تتقوم بعدد من الركائز الأساسية، سواء في مرحلتها الاستنباطية او في مرحلتها الذاتية. ففي المرحلة الاستنباطية ان الدليل الاستقرائي لا يؤدي دوره في اثبات اليقين والتعميم الا بعد احراز محورين اساسيين كالآتي:

1ــ الكشف عن السببية في القضية الاستقرائية وترجيح الضرورة فيها، ليتسنى بعد ذلك اثباتها.

2ــ اثبات الوحدة المفهومية لدى كل طرف من طرفي العلاقة السببية في القضية الاستقرائية.

فبحسب المفكر الصدر ان القضية الاستقرائية التي يراد لها التعميم تنطوي على ثلاث مشاكل تستدعي الحل والعلاج:

فأولاً: مشكلة اثبات مبدأ السببية العامة، اذ به يمكن ان نثق من ان تمدد الحديد - مثلاً - كان بسبب ما. وبدون هذا الشرط فانه من غير الممكن ان نصل الى تأسيس الدليل الاستقرائي؛ لأنه قد لا يكون بين الظواهر أي رابط سببي مطلقاً.

وثانياً: مشكلة تعيين السببية الخاصة، فاذا عرفنا ان كل حادثة لابد ان ترتبط بسبب ما عن طريق تذليل المشكلة الاولى، يبقى ان نتعرف عن ماهية السبب المرتبط بالحادثة، فتمدد الحديد - مثلاً - له سبب يرتبط به، والمفروض ان نتعرف على ماهية هذا السبب كي نثق بالرابطة الحقيقية التي تربطه مع الحادثة (تمدد الحديد). على هذا تتحدد المشكلة كالآتي: كيف يمكن ان نتعرف على ماهية السبب، ونثق بأن سبب تمدد الحديد هو الحرارة لا الضغط مثلاً.

وثالثاً: مشكلة التعميم، فاذا تغلبنا على المشكلة الثانية (فضلاً عن الاولى)، وعرفنا ان السبب الذي يرتبط بتمدد الحديد في التجارب التي اقمناها هو الحرارة.. ففي هذه الحالة، ما الذي يجعلنا نثق من ان الحرارة هي دائماً تعمل على تمدد كل حديد؟

هذه هي مشاكل الاستقراء الاساسية التي اولاها المذهب الذاتي جل اهتمامه ومعالجته. وهو في محاولته لبناء الدليل الاستقرائي طبقاً لحل المشاكل الآنفة الذكر؛ أشرط ان تحلّ المشكلتين الأوليتين طبقاً لاثبات محورين أساسيين: الاول اثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء تلك المناطة بالمشكلة الاولى (السببية العامة)، او تلك التي تتعلق بالمشكلة الثانية (السببية الخاصة). فالقضية الاستقرائية بنظره ليست قابلة للتيقن ما لم تترجح وتثبت السببية الضرورية لكلا العلاقتين العامة والخاصة، وذلك اعتماداً على اقامة التجارب والحساب الاحتمالي لها. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وانما يعتمد على اثبات محور آخر هو المطلق عليه بالوحدة المفهومية لكل من السبب والمسبب. وتعني هذه الوحدة بأن التعامل مع السبب او مع المسبب لا يتم مع مشخصاتهما الفردية؛ فلا يكون التعامل مع هذه الالف مستقلاً عن تلك الالف - مثلاً -، وانما يكون مع الصفة العامة للالفات، وكذا الحال مع الباءات. فعندئذ يمكن حل المشكلتين الاولى والثانية بالتجربة والاستقراء، كما تتطلبها المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، ويتهيأ الأمر الى الدخول في حل المشكلة الثالثة وتبرير مسألة التعميم واثبات اليقين، وذلك استناداً الى ما تقوم به المرحلة الذاتية من الدليل الاستقرائي. وهي مرحلة لا تقوم لها قائمة من غير اتمام ما على المرحلة الاستنباطية من المهمتين الآنفتي الذكر.

على ان الدور في المرحلة الذاتية يختلف عما عليه في سابقتها. فهي لا تقوم بأي عمل استقرائي وتجريبي، ولا تبني أي حساب احتمالي، وانما تحوّل هذه الانجازات الى شكل آخر من المعرفة هي المعرفة الذاتية التي فيها يثبت اليقين والتعميم، فتُحل بذلك المشكلة الأخيرة من مشاكل الاستقراء. والركيزة الاساسية في هذه المرحلة هي المصادرة الموضوعة والتي غرضها تبرير النقلة من الترجيح الاحتمالي في المرحلة الاستنباطية الى حالة اليقين (الموضوعي)، فزيادة التجارب الناجحة في المرحلة الاستنباطية تعمل على تنمية قيمة احتمال السببية الى أقوى درجة ممكنة من الترجيح، وعندها يبدأ دور المرحلة الذاتية وذلك من خلال المصادرة التي تقر بأنه >كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فإن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول - ضمن شروط معينة - الى يقين<، في الوقت الذي تتحول فيه القيمة المضادة لها الى درجة الصفر لاحظ ص863.]. وقد أُحيطت هذه المصادرة بشروط خاصة تحدد دائرة الوظيفة التي تقوم بها.

تلك هي اجمالاً الركائز الأساسية لاطروحة المفكر الصدر في حلّه لمشكلة الدليل الاستقرائي. وسينصب تحليلنا ونقدنا على المحورين الأساسيين الذين يقوّمان المرحلة الاستنباطية وندع سائر الملاحظات الاخرى والتي منها ما يتعلق بالمرحلة الذاتية الى فرصة اخرى مناسبة. لذا نتساءل: كيف أمكن للمذهب الذاتي ان يحقق حله للمشاكل الثلاث المناطة باثبات المحورين الآنفي الذكر استقرائياً؟ فأولاً كيف استطاع ان ينمّي الضرورة في العلاقة السببية؟ ثم كيف تمكن من اثبات الوحدة المفهومية لاطراف العلاقة السببية؟

1ــ الدليل الاستقرائي واثبات السببية الضرورية

تمتاز السببية التي تفترض الضرورة كما يعوّل عليها المذهب العقلي بنوعين من العلاقات، احداهما وجودية، وهي تعني انه كلما وجد السبب (أ) حدثت (ب)، والاخرى عدمية لأنها تعني انه كلما انعدم وجود (أ) فان (ب) تنعدم تبعاً له مما يقتضي أن يكون وجود (ب) من دون (أ) مستحيلاً، وهو عبارة عن نفي الصدفة المطلقة التي تتضمن استحالة وجود المسبب من دون سبب. وبحسب الشهيد الصدر انه لكي نثبت صحة الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي من الخاص الى العام لابد من اثبات هذين النمطين من السببية الضرورية، فهما يعبران عن السببيتين الخاصة والعامة.

فبخصوص اثبات السببية الضرورية الخاصة، تارة يُفترض ان هناك مبرراً للاعتقاد باستحالة الصدفة المطلقة، واخرى يفترض عدم وجود مثل هذا المبرر، اي ان من الجائز حدوث مثل هذه الصدفة، فسواء بهذا او بذاك ان من الممكن تنمية احتمال هذه السببية بين (أ) و(ب).

ففي الحالة الاولى انه اذا كانت (أ) موجودة ووجدت معها (ب)؛ فإما أن يكون وجود (أ) هو السبب في حدوث (ب)، أو أنه لا علاقة له بذلك، لكن حيث انه بحسب الفرض يستحيل ان يكون وجود (ب) من غير سبب؛ لذا يحتمل بادئ الامر ان يكون السبب في وجودها هو عنصر آخر غير (أ)، ولنفترض انه (ت). على ان من الواضح انه لو لم تكن (ت) موجودة لتحتمت سببية (أ) لـ (ب)، لكن احتمال وجودها قد يعطيها بعض القيمة الاحتمالية لأن تكون هي السبب لـ (ب)، ولا شك أن هذه القيمة تظل ضئيلة بالقياس الى قيمة احتمال سببية (أ)، وذلك لأن اخراج قيمة احتمال سببيتها يفرض علينا ضرب احتمال كونها موجودة في احتمال كونها هي السبب على افتراض وجودها، و بعملية الضرب تتضاءل القيمة.

وهذه التقديرات تظل كما هي في حالة اجراء أي عدد ممكن من التجارب. الا أنه مع زيادة االتجارب يلاحظ أن قيمة احتمال سببية (أ) تزداد، في الوقت الذي تتضاءل فيه احتمال سببية (ت). فمثلاً في حالة اجراء تجربتين - تظهر فيهما (ب) كلما وجدت (أ) -، سنحصل على علم اجمالي بعدي ذي أربعة أطراف محتملة، وهي تتعلق باحتمالات وجود (ت) خلال التجربتين، وذلك كالاتي:

1ــ وجود (ت) في كلا التجربتين.

2ــ عدم وجود (ت) خلال التجربتين.

3ــ وجود (ت) خلال التجربة الاولى فقط.

4 ــ وجود (ت) خلال التجربة الثانية فقط.

هذه أربعة اطراف متكاملة بتساويها للاحتمال، حيث كل واحد منها يحظى بقيمة قدرها (1/4). لذا فقيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب) ستشمل حصص الحالات الثلاث الاخيرة مع نصف حصة الحالة الاولى باعتبارها محايدة، اذ ان افتراض وجود (ت) في التجربتين معاً، يحتمل له أن يكون السبب لـ (ب) بنفس القيمة المحتملة لـ (أ). وبهذا تكون القيمة الاحتمالية لسببية (ت) هي (1/8)، ولسببية (أ) هي (7/8).

ولو كانت هناك ثلاث تجارب؛ فان قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب) ستزداد وتصل الى (51/61)، وكلما ضاعفنا التجارب تضاعفت قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب)، وتضاءلت بالمقابل سببية (ت) حتى تقترب الى الصفر، لكنها - من الناحية المنطقية - لا يمكنها أن تصل اليه، رغم أنه من الممكن اهماله طبقاً لمقررات المرحلة الذاتية.

أما في الحالة الاخرى التي نفترض فيها ما يسوغ لنا الاعتقاد بجواز حدوث الصدفة المطلقة، فان من الممكن ايضاً تنمية احتمال سببية (أ) لـ (ب) باطراد، وذلك عن طريق القضية الشرطية التالية: اذا كان صحيح أن (أ) هي السبب في وجود (ب) فلابد أن يقترنا مع بعض في جميع التجارب المختبرة. وبالعكس فيما لو لم تكن (أ) هي السبب لـ (ب). وفي هذه الحالة اذا افترضنا أن (أ) ليست سبباً لوجود (ب)؛ فسوف تكون لدينا بعض الاحتمالات التي تتعلق بظهور (ب) حين ايجاد (أ). فلو أننا طبقنا هذه الاحتمالات على ما نتنبأ به خلال تجربتين لكانت الاطراف المحتملة كالاتي:

1ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً.

2ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى فقط.

3ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية فقط.

4ــ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً.

فلو أن (أ) ليست سبباً لـ (ب) لكنا نتوقع عدم تحقق الطرف الاخير من الاحتمالات السابقة، وذلك باعتبار أن جميع الاطراف الاخرى تنسجم مع هذا الافتراض. الا أنه لو كشفت لنا التجربتان نجاحهما في ظهور (أ) مع (ب)؛ فان المسألة ستنعكس لصالح السببية بين هذين العاملين، اذ ستكسب جميع قيم الاطراف الثلاثة الاولى التي لم يحالفها حظ التحقق، مع نصف قيمة الطرف الاخير؛ باعتبار أن اقتران (أ) مع (ب) خلال التجربتين يحتمل له أن يكون صدفة كما يحتمل له أن يكون لزوماً، وبهذا تصبح قيمة احتمال السببية مساوية لـ (1/4 + 1/4 + 1/4 + 1/8 = 7/8).

وهذه القيمة ليست النهائية لدى المفكر الصدر. اذ يعتقد أن من الضروري اجراء عملية الضرب بين اطراف العلم السابق وما يتضمنه العلم القبلي الذي يحتوي على طرفين محتملين أحدهما لصالح تلك السببية الوجودية والاخر لصالح نفيها. وبعملية الضرب تظهر لدينا الاطراف التالية:

1ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

2ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

3ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

4ــ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

5ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

6ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

7ــ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

8ــ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

هذه ثمانية اطراف؛ نلاحظ أن الخامس والسادس والسابع منها مستحيل؛ لوجود التنافي بين عدم ظهور (ب) في تجربة على الاقل وبين افتراض سببية (أ) لها. أما بقية الاطراف فأغلبها لصالح السببية الوجودية، اذ تحظى على قيم كل من الطرف الاول والثاني والثالث والثامن، وتكون محصلتها مساوية لـ (4/5). أما نفي تلك السببية فلا تحظى الا على قيمة الطرف الرابع؛ مما يجعل قيمتها مساوية لـ (1/5). لكن مع زيادة التجارب الناجحة ستزداد القيمة الاحتمالية للسببية الوجودية باطراد مستمر، في الوقت الذي تتضاءل فيه القيمة الاحتمالية لنفيها.

كان ذلك فيما يتعلق باثبات علاقة السببية الضرورية الخاصة. أما بخصوص اثبات السببية الضرورية العامة، فيتعلق الامر هنا باثبات استحالة الصدفة المطلقة، فلو افترضنا ان (أ) هي الوحيدة المحتملة لسببية (ب) فان بالامكان تنمية احتمال السببية العدمية التي تتضمن نفي الصدفة المطلقة، وذلك من خلال ايجاد التجارب الناجحة التي تكشف عن اختفاء (ب) حين انعدام (أ). فاذا اردنا ان نتنبأ باحتمال ظهور (ب) خلال تجربتين حين نفترض نفي العلاقة السببية بين عدم (أ) وعدم (ب) ؛ لابد من ملاحظة الاطراف المحتملة التالية:

1ــ ظهور (ب) في كلتا التجربتين معاً.

2ــ ظهور (ب) في التجربة الاولى فقط.

3ــ ظهور (ب) في التجربة الثانية فقط.

4ــ عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً.

والمتوقع ان يثبت أحد الاطراف الثلاثة الاولى فيما لو صدق افتراض نفي السببية العدمية. لكنه اذا ثبت الطرف الاخير فان من الطبيعي ان تحظى السببية العدمية على جميع قيم الاطراف الثلاثة الاولى مع نصف قيمة الطرف الاخير؛ باعتبار ان الاقتران بين عدم (أ) وعدم (ب) خلال التجربتين قد يكون صدفة كما قد يكون لزوماً، وبهذا تقدر قيمة هذه السببية بـ (7/8).

لكن ليست هذه القيمة نهائية عند المفكر الصدر، حيث اكد على ضرورة اقامة عملية الضرب بين ذلك العلم الشرطي وبين العلم القبلي.

وعلى العموم انه كلما ازدادت التجارب الناجحة فسوف تزداد بذلك اطراف العلم الاجمالي الشرطي، وبه تزداد قيمة احتمال العلاقة السببية العدمية، في الوقت الذي تتضاءل فيه قيمة احتمال الصدفة المطلقة.

ومن الواضح انه لو صحت هذه الطريقة لكان يعني ان من الممكن البرهنة استقرائياً على نقطة تعد في غاية الاهمية، ألا وهي استحالة الصدفة المطلقة التي تمثل جوهر السببية العامة، وبالتالي فان ذلك يعني انه لا حاجة للدليل الاستقرائي الى أي مصادرة قبلية تتعلق بالسببية

ملاحظات على محور اثبات الضرورة

رغم عمق المحاولات المبتكرة التي أسسها استاذنا الشهيد في تنمية احتمال السببية طبقاً لنظريته الخاصة بالعلم الاجمالي؛ الا ان النتيجة التي استخلصها منها عليها بعض الملاحظات كالآتي:

1ــ ليس من شك ان المحاولات السابقة للتنمية الاحتمالية تصلح لاثبات السببية عموماً في قبال الصدفة، لكنها تفشل في البرهنة على اثبات الضرورة التي تتضمنها علاقة السببية. فمن الواضح ان الاقتران بين ظاهرتين خاصتين إما ان يعبر عن ضرورة محضة او عن صدفة محضة او عن علاقة مشدودة تقبل الانفكاك. ومع كثرة التجارب ومشاهدة التكرار في الاقتران يمكننا بطريقة الاحتمال ان نضعّف من قيمة احتمال الصدفة ومن ثم نفيها عملياً، لكن يظل لدينا افتراضان احدهما لصالح الضرورة والاخر لصالح علاقة الشد. ومن المعلوم ان كثرة التجارب لا اثر لها في تأييد أي فرض من الفرضين السابقين ما لم يتدخل عامل آخر جديد، كالعامل الفلسفي او الشرعي، مثلما تنبّه اليه استاذنا الشهيد في كتابه (بحث حول المهدي).

هكذا ان التجارب المتكررة بامكانها ان تساعد على تنمية احتمال نفي الصدفة المطلقة، لكنها لا تساعد على تنمية احتمال استحالتها؛ للفارق بين نفي الشيء ونفي استحالته، او لأن اثبات علاقات الشد لا يدل على استحالة فكّها.

ولا يختلف هذا الموقف من اثبات السببية العامة بواسطة الاحتمال والاستقراء عن الموقف السابق مع السببية الخاصة. اذ ان نجاح التجارب يمكن ان يساعد على تنمية احتمال سببية ظاهرتين مقترنتين مع بعض، دون ان يعني ذلك انها تنمّي قيمة احتمال الضرورة في العلاقة المفترضة بينهما، طالما يحتمل ان تكون هذه العلاقة هي مما اطلقنا عليها بعلاقة الشد.

ويلاحظ ان للفكر الاسلامي ثلاثة مواقف ازاء طبيعة العلاقة السببية الخاصة، وإن اتفقوا على ما تتميز به السببية العامة من وجود العلاقة الضرورية. فهناك الموقف الذي يرى ان العلاقة السببية تتحكمها الضرورة، وهو ما يمثل وجهة النظر الفلسفية. كما هناك الموقف الذي يرى العلاقة هي علاقة اطراد ناشئة بفعل >الخلق المستمر<، مثلما تقول بذلك الاشاعرة. كذلك فهناك الموقف الذي يرى العلاقة تتحكم بها الصور الطبعية كسنة شاء الله تعالى ان يطبع بها مخلوقاته، وهي بالتالي ثابتة لكنها ليست ضرورية الثبات، بدلالة ان خرقها جائز للأنبياء كي يبرهنوا على صدق دعواهم، كما هو رأي ابن حزم بهذا الصدد انظر لابن حزم المصادر التالية: المحلى، مطبعة الإمام بالقلعة بمصر، ج1، ص23. علم الـكلام على مذهب أهـل الـسنة والـجماعة، نشر المكتب الثـقـافـي، الأزهـر، ط1، ص62ــ72. رسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل إبن حزم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 3891م، ج4، ص26. رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم، نفس المعطيات السابقة، ج4، ص791. كذلك انظر كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 7991م، ص03.]. هكذا نحن أمام ثلاث نظريات عن السببية الخاصة، وهي باختصار عبارة عن:

1ــ السببية الضرورية (الفلاسفة).

2ــ السببية الخلقية (الاشاعرة).

3ــ السببية الطبعية (ابن حزم).

وعليه فاننا لأجل البرهنة استقرائياً على السببية الاولى لابد من ان نضعّف في المقابل السببيتين الاخريتين. ولو اننا اعتبرنا السببية الثانية (الخلقية) تفترض سلفاً الرجوع الى المبدأ الميتافيزيقي الخاص بالمسألة الالهية، وجوّزنا تسامحاً عدم الاذعان الى الاعتبارات الميتافيزيقية، فانه مع ذلك تظل أمامنا السببية الطبعية، اذ كيف يمكن القضاء على فرض قائل بأن علاقات الطبيعة يسود فيها نمط من الطبائع وإن لم يتحتم تأثيرها؟ وهو الفرض الذي يتسق مع ما اطلقنا عليه بعلاقة الشد، وذلك لننزع عنه الاعتبارات الميتافيزيقية، ولنفسر سائر الظواهر التي لا يسود فيها ما يمكن اسناده الى الصبغة الطبعية، كما هو الحال مع الظواهر الاحصائية. أما لو أخذنا باعتبار التأثير الخاص بالمسألة الميتافيزيقية فاننا نعجز عن ان نضعّف الافتراض القائل بالسببية الخلقية، وهو الافتراض الذي يجعل من العلاقات بين السبب والمسبب لا يسود بينها أي نمط من انماط التأثير، انما جرت سنة الله أن يجعل بينهما هذا الارتباط من التعاقب والاضطراد. مع ذلك فليس هناك ما يضطرنا للأخذ بهذا الافتراض طالما ان من الممكن تفسير تلك العلاقات بشكل قريب ومتسق.

2ــ على العموم ان فرض الضرورة لا يصلح التمسك به في تقييم تعميماتنا لقضايا الاستقراء حتى مع افتراض صدقه في الواقع، وذلك باعتبار اننا لا نتعامل مع الظواهر بحدود العامل الواحد كي نعرف ان هذا ضروري الوجود وذالك ضروري العدم، بل يلاحظ ان كل ظاهرة تخضع للعديد من العوامل المختلفة التي تشكل فيما بينها ما يسمى بالعلة التامة. واذ لا يمكن الاحاطة بكافة تلك العوامل والشروط فاننا لا نأمن نجاح الظاهرة على سبيل الاطلاق. فقد تنعدم هناك عوامل اساسية خافية عنا، كما قد تتدخل عوامل اخرى جديدة تعمل على حرف الظاهرة.

هكذا لكون الظواهر في الواقع ذات بنية تركيبية خاضعة للتغيير باستمرار؛ فان الطبيعة تصبح مسرحاً لنوعين من العلاقات المثبتة بالاستقراء، هما علاقات الشد الوظيفية والمصادفة العرضية (النسبية). أما علاقات الضرورة فهي على فرض وجودها ينبغي ان تكون ضيقة بالحدود التي تصير فيها العوامل ثابتة من دون ان يطرأ عليها أي تأثير خارجي، لهذا كان بحثها يختص بالدراسات الفلسفية المجردة.

وعليه فان الاعتبارات التي تنطلق من منطق الضرورة في العلاقة السببية ليس باستطاعتها ان تفسر القوانين العلمية الاحصائية، كقانون دوركايم في الانتحار الأناني، اذ هناك خاصية لا تتلاءم مع طريقة هذا المذهب. ذلك ان القانون حين يجعل العلاقة بين الانتحار وعدم التماسك الاجتماعي طردية؛ لا يقيمها من خلال ملاحظة اقتران جميع الافراد الخاصة بوحدة عدم التماسك مع جميع افراد الوحدة للانتحار، بل هناك احصاء وتناسب مضطرد يجعل قوة الانتحار مشدودة لقوة التفكك الاجتماعي. وفي هذه الحالة لا نجد ثمة ضرورة لزومية في العلاقة بين الوحدتين، وما ينطبق على بعض الافراد لا ينطبق بالضرورة على البعض الاخر ضمن نفس الوحدة، ومع ذلك يظل الاستقراء منتجاً وصحيحاً، رغم ان صبغته ليست صبغة تقليدية باعتباره يتعامل تعاملاً احصائياً مع الافراد المستقرأة. في حين ان طريقة علاقة الشد يمكنها ان تفسّر لنا مثل تلك الحالات لكونها لا تتضمن عنصر الضرورة.

2ــ الدليل الاستقرائي واثبات الوحدة المفهومية

ان فهم العلاقة السببية طبقاً للمفهوم الماهوي يعود بنا الى المنطق الأرسطي. فالعلاقة الضرورية بين السبب والمسبب لدى هذا المنطق قائمة على أخذ اعتبار الماهية في طرفي هذه العلاقة، او ان الضرورة المعتبرة هي تلك التي تقوم بين ماهية السبب وماهية المسبب. أما العلاقة الخارجية للسببية فقد تتأثر بعض مشخصاتها أحياناً بما يطرأ عليها من بعض العوارض ويجعلها غير محتمة الحدوث، أي ان العلاقة بوصفها الشخصي لا يتحتم فيها الارتباط الضروري على الدوام؛ طالما انها قد تتأثر بعوامل أخرى طارئة على ذاتيتي السبب والمسبب؛ مما قد لا يتمكن العقل البشري الكشف عنها بدقة. وهذا الفصل بين الماهية او المفهوم الكلي من جانب، وبين الواقع الموضوعي للعلاقة السببية من جانب آخر، جعل المنطق الارسطي لا يحتم مسألة التعميم ولا يعيرها أهمية كمشكلة في بناء الدليل الاستقرائي. فما يهم هذا المنطق هو الكشف عن المفهوم الكلي (الماهوي) من العلاقة السببية، ولا يضيره شيء إن أفضت القضية الاستقرائية الى عدم تحقيق الأمر الدائم (التعميم) وانتابها بعض الشذوذ والمستثنيات نتيجة التعقد الحاصل بين الظواهر في الواقع الموضوعي. وبالتالي فان ما يكفيه هو ان يتحقق الاقتران الاكثري او الغالب ليعد الدليل الاستقرائي - او ما يسميه بالتجربة - صحيحاً في نهجه. وبذلك يقول ابن سينا: >ان التجربة قد تكون كلياً وذلك عندما يكون تكرر الوقوع بحيث لا يعتبر معه تجويز اللاوقوع. وقد يكون حكم واحد مجرباً كلياً عند شخص وأكثرياً عند آخر، وغير مجرب أصلاً عند ثالث<ابن>ان هذا الشيء الذي تكرر على الحس تلزم طباعه في الناحية التي تكرر الحس بها أمراً دائماً، الا ان يكون مانع فيكون كلياً بهذا الشرط لا كلياً مطلقاً<ابن>يجب أن يكون الحكم التجربي عندنا هو ان السقمونيا المتعارف عندنا، المحسوس، هو لذاته او لطبع فيه يسهل الصفراء الا أن يقاوم بمانع<البرهان،>ان الاتفاق لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً<. فبهذا المبدأ تتعين السببية، دون ان يشترط للكشف عنها الدوام في الاقتران بين الظاهرتين، كما انه لم يشترط الكشف عن ماهية السبب بذاته وانما يكفي على الأقل ما يقترن معه بالطبع، فمثلاً ان نبات السقمونيا على ما يقول ابن سينا إما أن يكون السبب الذاتي للاسهال، او انه مقارن في طبعه لهذا السبب، وفي كلا الحالتين يصح الدليل الاستقرائي البرهان، 79.]. وبالتالي فان صحة هذا الدليل لا تتوقف على سلامة التعميم، طبقاً للمبدأ المشار اليه، انما يكفي احراز المعنى الكلي من العلاقة السببية.

بهذا يتخذ المنطق الأرسطي مسلكاً مزدوجاً، فهو من جانب يعتقد بامكانية الكشف عن السببية الضرورية المؤطرة ضمن الاطار الكلي الماهوي، لكنه من جانب آخر لا يجعل ذلك مبرراً للتعميم، بل يكفي تحقق الاقتران الأكثري بين السبب والمسبب ليستكشف منه صبغتهما الطبعية في التحقق، حتى لو لم يؤد ذلك الى الاقتران الدائم، طالما ان هذه الظاهرة قد تتلبس بعوامل متعددة تمنعها من ان تتحقق وتعبّر عن كامل شكلها الكلي من الماهية.

وهذا الامر يختلف تماماً عما لجأ اليه الاتجاه التجريبي الذي رفض المصادرات القبلية. ذلك ان هذا الاتجاه لا يتجاوز النظر الى العلاقة المحسوسة بين وقائع الظاهرتين المتعاقبتين، وهما من حيث ذلك لا يدلان على الضرورة بين السبب والمسبب، كما لا يدلان على المفهوم الماهوي للعلاقة بينهما، وبالتالي فان التعامل معهما يظل ضمن الاطار الشخصي من العلاقة لا المفهومي او الكلي. وكلا الأمرين يجعلانه لا يجد ما يبرر حالة التعميم. وهو من حيث لا يعترف بالأمر الكلي او الماهوي من العلاقة السببية فانه يعد شذوذ الشاهد الواحد مما يبطل الدليل الاستقرائي، مثلما يؤكد على ذلك الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، الامر الذي دعاه الى رفض الاعتماد على الاستقراء واللجوء الى المذهب الاستنباطي القائم على أساس التكذيب، اي السعي وراء اكتشاف شاهد مضاد يكفي ان يكذب القضية الكلية المفترضة. وعليه فان جوهر المشكلة الاستقرائية لدى الفكر التجريبي هو التعميم والتنبؤ بالحوادث الجديدة، الأمر الذي جعله ينظر عادة الى الدليل الاستقرائي بما يحمل من هذه الخاصية التنبؤية، رغم ان في بعض اشكال هذا الدليل ما ليس له علاقة بالتنبؤ والتعميم، كما هو الحال فيما يتعلق بدوره في تفسير الظواهر الطبيعية واثبات وجودها.

أما المفكر الصدر فواقع الأمر انه سلك سلوكاً جامعاً بين ما أراده المذهبين العقلي الارسطي والتجريبي الغربي. فهو من جانب يعوّل على الطابع الماهوي للعلاقة السببية، لكنه من جانب آخر سعى نحو إفادة الدقة في الوصول الى التعميم، أي انه لم يعتمد على مجرد الأمر الكلي مثلما هو الحال لدى المنطق الأرسطي، وانما سلّم باعتبار طابع الوقائع الخارجية، حيث أخذ يدقق في فئة محددة من الطابع الماهوي ليستعين بها في أمر التعميم، فأكد على ضرورة ان يأخذ المستقرئ في عين الاعتبار ما يمكن ملاحظته من تمييز بين فئات الالفات - مثلاً -، حتى لا يعمم الحكم على جميعها، بل يكتفي بخصوص الفئة التي جرّب علاقتها بالسببية - والتي أطلق عليها خاصية الوحدة المفهومية - رغم انها تشترك مع غيرها بخاصة الوحدة النوعية او الماهية لاحظ ص143ــ443 و864ــ964.]. فالغرض من هذا التعريج في لحاظ الواقع هو لأجل اسناد المرحلة الاستنباطية وتبرير التعميم بلا شذوذ ولا استثناء. وعليه فانه بذلك يختلف عن المنطق العقلي الأرسطي في عدم اعتباره للاستقراء القائم على الحد الأكثري وتبرير الشذوذ. كما انه يختلف عن المنطق التجريبي لكونه يعتبر ان باستطاعة العقل البشري أن يجد سبيله في تبرير حالة التعميم حتى مع عدم الأخذ بالمصادرات القبلية.

هكذا يتبين لنا الشكل المميز الذي اتخذه استاذنا الشهيد لبناء وتبرير مسألة التعميم في الدليل الاستقرائي، وذلك استناداً الى الوحدة المفهومية ضمن الوحدة الكلية او الماهية. ولنا على ذلك عدد من الملاحظات كالاتي:

أولاً: ان ضرورة أخذ اعتبار الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية للالفات والباءات المقترنة يفضي بالبحث الى ان يتأطر في دائرة الاستقراءات البسيطة ذات العلاقات المطردة، فيصاب بالعجز عن تفسير الفروض العلمية التي تتجاوز حالات الانواع والتي تنشأ على اساس الاحتمالات المتباينة (غير السوية). ففي الفرض الذي يتناول الجاذبية، لا نرى ثمة تماثلاً في الظواهر المتعلقة بتفسير هذه القوة، فكما نلاحظ ان هناك فروقاً نوعية شاسعة بين ظاهرة المد والجزر وحركة الكواكب وانحراف كوكب يورانوس وسقوط الاشياء على الارض واكتشاف كوكب نبتون الخ..، فمع ان هذه الظواهر مختلفة نوعاً لكنها جميعاً تنساب نحو تأييد ذلك الافتراض. ولعل اكتشاف >نبتون<>

ومعلوم ان الحظ لا يحالفنا بالتوفيق لو اردنا تطبيق الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية لاقترانات (أ) و (ب) على ذلك الفرض، فلو اعتبرنا (أ) بمثابة القوة الجاذبة فان (ب) ستكون ذات انواع متمايزة ومفككة، فبعض افردها يعبر عن المد والجزر، وبعض آخر عن سقوط الاشياء على الارض، وبعض ثالث عن انحراف >يورانوس<، ورابع عن اكتشاف >نبتون<>

وعليه كان لابد من ان نشخص بحث الاستقراء على منوالين، فتارة يبحث في قرائن متماثلة توعاً، واخرى خلاف ذلك. ويعتبر النوع الأخير من البحث أهم وأشد ارتباطاً بالفروض العلمية من الاول. كما انه يتأسس عليه، اذ اساس التماثلات انما يستدل عليه بالاختلاف والتباينات كما سيتضح لنا ذلك. وكثير من الاحيان نلاحظ امكانية بحث ظاهرة واحدة بالطريقتين معاً، رغم ان القيم الاحتمالية المعطاة لكل منهما تكون مختلفة تبعاً لذلك. فباعتبار ان البحث الثاني يعطي قرائن مختلفة كيفاً، لذا فان القيم الاحتمالية المتجمعة منه يتوقع لها ان تكون مختلفة عن قيم احتمال البحث الاول، فيما لو حافظنا على ثبات العدد من التجارب بشكل كلي في كلا النوعين. فمثلاً اذا اردنا ان نتنبأ باحتمال وصول طائرة من نوع معين الى منطقة محددة بسلام، ففي هذه الحالة إما ان نستخدم الطريقة الساذجة بما تنطوي عليه من جهل فنحسب القيم الاحتمالية من خلال معرفتنا لعدد الطائرات السالمات بالنسبة الى المجموع الكلي.. او نستخدم طريقة العمود الفقري للعلم، فنعمد الى العديد من الاختبارات ذات الكيفية المختلفة، فنختبر اجهزة الارسال والوقود وكفاءة القائد وسلامة المحرك وغير ذلك، وهذه القرائن المختلفة لها تأثير اقوى من الناحية الموضوعية في اعطاء القيمة الاحتمالية، وان كنا من الناحية الذاتية وبحكم جهلنا نضطر احياناً الى ان نحسب قيمة كاملة للطريقة الاولى رغم عدم استحقاقها لها، وذلك حين نجد جميع الطائرات سالمة من الحوادث.

ثانياً: يلاحظ اننا حتى لو عولنا على الأخذ بمنطق الوحدة المفهومية، فرغم ذلك سوف لا ننجح في تعميم الاحكام التنبؤية ما دمنا نتعامل مع فئات هي غاية في التركيب والاشراط والتعقيد، فأي ظاهرة نختارها لا يمكن تحصينها عما يمكن ان يطرأ عليها من زيادة او نقصان دون ان نشعر، وهي النقطة التي اولاها المنطق الارسطي - على لسان ارسطو وابن سينا - اهمية خاصة في جواز خطأ النتيجة وبطلان الحكم الكلي والتعميم، والتي عبّر عنها بمشكلة أخذ ما في العرض مكان ما في الذات. فحيث اننا لا نملك قدرة لمعرفة عناصر الظاهرة المركبة الا اجمالاً؛ فإن أي حادثة جديدة نصادفها ونتصور انها تنتمي الى هذه الظاهرة - تبعاً لادراك التماثل بينهما - قد تخيّب ظننا، فنتصور انها ستفرز نفس الاثر الذي يترتب على تلك الفئة، واذا بها تعصف بآمالنا ادراج الرياح، مما يعني ان الجسر الذي يوصل الوحدة المفهومية من عالم الافتراض الذهني الى الواقع لا يملك القوة الكافية الى الدرجة التي يستعد فيها لأن يتحمل الدفعات الجديدة كلها.

مثلاً اذا قمنا بتجارب عادية فيما يتعلق بغليان الماء، فقد نحكم جزافاً بأنه يحدث عند الدرجة المئوية دائماً، ولو لم يكن لدينا علم عن علاقة الضغط الجوي به لكنا قد وقعنا في خطأ كبير لأدنى تغير يطرأ عليه دون ان نشعر. وهذا المثال البسيط يقرب لنا فكرة وجود امور لا نشعر بها ونجهل تأثيرها على الظواهر التي نتعامل معها. ومثل ذلك ما كان مسلّماً لدى علماء الفيزياء من انه لا علاقة للسرعة بالكتلة، فالكتلة تظل ثابتة لدى السرعات المختلفة بشهادة التجارب المقامة حول ذلك، لكن تبين فيما بعد ان هذا الحكم لا يمكن تعميمه على السرعات الكبيرة كتلك التي تقترب من سرعة الضوء، بل يصدق فقط بحدود السرعات الصغيرة المألوفة فلسفة العلم، ص051.]. وقد بات من المعلوم ان هناك تغيرات كونية وارضية وكيميائية غير محسوسة، كتحولات الطاقة الحرارية وتأثيرات الاشعة الكونية وديمومة انتقال الارض من مكان الى آخر في فضاء مجهول بما يتضمنه من طبقات مجالية قد يكون لبعضها أثر مضاد على فاعلية الظواهر داخل معلب الوحدة المفهومية. فما يدرينا فلعل المكان الذي تهتدي اليه ارضنا او الزمان الذي يفرض ذاته علينا، هو الذي يتولى تحويل كيمياء المفاعلة من معلب الى آخر بمجرد اضافة قطرة حد النصاب الحاسمة. وتظل مشكلتنا هو اننا لا نعرف متى تضاف هذه القطرة المصيرية التي تحول نهار الاستقراء ليلاً.

ثالثاً: كما يلاحظ ان الاستدراك الذي عوّل عليه استاذنا الشهيد في اكتفائه بمنطق الوحدة المفهومية دون الأخذ بمطلق الوحدة المشتركة للماهية؛ هو في حد ذاته يدل على وجود المبرر الكافي للاستغناء عن الضرورة فيما يخص الفئات المشتركة العامة. فلو اننا لم نرَ وجود تمايز بين الالفات بحسب ما أُتيح لنا ان نقيمه من تجارب؛ لكان هذا لا يمنع من وجود الفات أُخر لا تخضع الى نفس الحكم، فيبطل بذلك مبرر التعميم. في حين لا يرد هذا الاشكال على مبدأ علاقة الشد.

رابعاً: أخيراً ما هو الدليل على وجود الصفة العامة لماهية الأفراد؟ فلو أنا سألنا استاذنا الشهيد عن ذلك لوجدنا الجواب جاهزاً، وهو انه مستمد من الاستقراء ايضاً!

فقد اعتقد ان اثبات الماهية المشتركة هو ايضاً مما يتم عبر استقراء آخر يكشف عن طبيعة التماثل بين افراد تلك العناصر، لكنه لم يفصّل الحديث في هذا الامر على أهميته. فالشيء الاساسي الذي ذكره بهذا الصدد هو قوله: >اننا نعتقد بالتماثل بين الاشياء التي نراها متماثلة، ووجود قاسم مشترك بينها يبرر ان نعبر عنها (بفئة الالفات) او (فئة الباءات). وهذا الاعتقاد يقوم على اساس استقرائي، وذلك لأننا في التطبيق السابق للدليل الاستقرائي اثبتنا ان الواقع الموضوعي للصورة المحسوسة يشابهها في كثير من الخصائص، فاذا كانت الصورة المحسوسة لاشياء متعددة متماثلة؛ استنتجنا من ذلك: التماثل بين تلك الاشياء. فالتماثل بين الصور المحسوسة نفسها نتعرف عليه مباشرة، والتماثل بين الاشياء المثيرة لتلك الصور مستدل استقرائياً بالتماثل بين الصور نفسها، مادمنا قد عرفنا ان كل صورة محسوسة تشابه الشيء الذي أثارها في الواقع الموضوعي<>

على ان تحليل هذه القضية من اعتبار الاستقراء يقوم على اساس الوحدة المفهومية، وان هذه الوحدة تُردّ الى استقراء آخر؛ سيفضي الى ان نجد انفسنا ندور في حلقة مفرغة من الدور. وهو تهديد صارخ للأساس الذي يقوم عليه الدليل الاستقرائي فيما لو اسند الى مثل هذه الدائرة. ومن حيث التفصيل نلاحظ في النص الآنف الذكر ما يلي من القضايا:

1ــ قضية اثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية.

2ــ قضية اثبات التماثل للصور حين تكون هناك اشياء خارجية متماثلة.

3ــ الاستدلال استقرائياً على تماثل الاشياء الخارجية من خلال وجود التماثل الصوري.

لنترك مؤقتاً القضية الاولى وننتقل الى الثانية لنتساءل: ما الذي يدعونا الى الاعتقاد بوجود تماثل بين الصور؟ والجواب على ذلك كما ذهب اليه استاذنا الشهيد بحق هو ان هذه القضية مدركة ادراكاً مباشراً دون اتكاء على أي استدلال. تظل لدينا القضية الثالثة، وفيها اننا اذا توصلنا كما في القضية الثانية ان هناك صوراً متماثلة؛ كيف يجوز لنا ان نعكسها على التماثل بين الاشياء الخارجية المقابلة لها؟

والملاحظ ان علاج استاذنا الشهيد لهذه القضية بالخصوص كان مجملاً، فهو لم يقل شيئاً سوى أن رد التماثل الى الاستقراء، أي أننا نملك استقرائين، أحدهما يرتكز على التماثل او الوحدة المفهومية، والاخر يثبت هذه الوحدة، وسؤالنا هو كيف يثبت الاستقراء ذلك التماثل؟

لنعلم اولاً اننا حين ندرك التماثل بين عدد محدود من الصور يمكننا ان نعكس ذلك على التماثل بين نفس العدد المقابل من الاشياء الخارجية، واذا جاز لنا تبرير القفزة التصورية من الجزئي الذهني الى الكلي باعتبارها قضية مدركة مباشرة تماماً، لكن كيف يجوز لنا ان نعكس ذلك على الواقع الخارجي، فنعمم على كل ما لا يدخل ضمن تجربتنا الادراكية؟

ليس لدينا تردد في اننا سندخل مرة اخرى في صلب ذات الاستقراء المعالج طبقاً لقضايا السببية، ذلك لاننا عرفنا في السابق ان استاذنا الشهيد لا يجيز اثبات اليقين والتعميم ما لم تثبت السببية سلفاً. لكنه حين اقام السببية على اساس الوحدة المفهومية، عاد هنا من جديد متكئاً على مصادرة السببية ذاتها، مما يعني ان كلاً منهما يصبح مشروطاً ومتوقفاً على الاخر، فالسببية تثبت من خلال الوحدة، وهذه الوحدة تحتاج الى مصادرة السببية، وهكذا نقع في حلقة مفرغة من الدور.

وفي الحقيقة اننا في هذه الحلقة المفرغة نكون قد اصطدمنا بكل من السببية الخاصة والعامة، ذلك لاننا لكي نثبت بالاستقراء التماثل بين الاشياء نحتاج الى ان نعرف بأن أي صورة ذهنية لا يمكن لها الوجود ما لم ترتبط بوجود مؤثر ما أوجدها، وهو اتكاء على مصادرة السببية العامة، وكذلك نحتاج الى تشخيص هذا المؤثر واثبات العلاقة الضرورية القائمة بين الصورة والشيء المقابل لها في الخارج، مع أننا عرفنا كيف ان المفكر الصدر قد سبق له ان اكد على شرطية اثبات الوحدة المفهومية كي تثبت علاقة السببية الضرورية، مما يعني اننا لأجل اثبات الوحدة المفهومية بين الصورة والشيء الخارجي سنحتاج الى وحدة مفهومية اخرى فنقع في التسلسل، ونكون قد فسّرنا الوحدة بالوحدة والسببية بالسببية والماء بالماء!

بعد هذه الجولة من التحليل نعود الى القضية الاولى التي تركناها خلفنا والتي تتعلق باثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية، فنعلق على ذلك بما يلي:

1ــ لقد استدل استاذنا الشهيد استقرائياً على ذلك التشابه بالاستفادة من مبدأ السببية. وهو إن كان في القضية الثالثة لم يفصّل في الأمر، حيث الوقوع كما رأينا في الدور والتسلسل، فانه في هذه القضية بالخصوص قد وقع في ذلك من غير شك؛ لاتكائه صراحة على السببية احظ ص564.].

2ــ ان اثبات التشابه بين الصورة والشيء الخارجي الذي يمثل اساس اثبات الوحدة المفهومية؛ يعتمد في دوره على افتراض كون الجهاز الحسي للادراك لم يطرأ عليه أي تغيير. مع أنّا في هذه الحالة سنرتد مرة اخرى للوقوع في الدور، وكما جاء في النص: >الاعتقاد بالتماثل بين الواقع والصورة لا يكفي وحده لكي نستكشف التماثل بين الاشياء عن طريق التماثل بين الصور، لأن هذا الاستكشاف بحاجة الى افتراض ان الجهاز الحسي للادراك لم يطرأ عليه تغيير، وذلك لأن تحديد الصورة المحسوسة وتعيين معالمها نتيجة عاملين: أحدهما الواقع الموضوعي، والآخر الشروط الداخلية الفيزيائية والفسيولوجية والسايكولوجية للادراك الحسي. فالجهاز الحسي للادراك اذا لم يطرأ على شروطه الداخلية أي تغيير، فسوف يحصل على صورة مماثلة للصورة السابقة، متى واجه واقعاً موضوعياً مماثلاً للواقع الموضوعي السابق. وأما اذا اختلفت الشروط الداخلية لجهاز الادراك، فمن الممكن ان تختلف طريقته في توليد الادراكات الحسية. وهذا يعني: ان من المحتمل ان يولد ادراكاً حسياً مماثلاً لادراك حسي سابق، عند مواجهة واقع موضوعي مختلف عن الواقع الموضوعي الذي أثار الادراك الحسي السابق ضمن الشروط السابقة، كما ان من المحتمل ان يولد ادراكاً حسياً مختلفاً عن الادراك السابق عند مواجهة واقع موضوعي مماثل للواقع الموضوعي الذي أثار الادراك السابق. فلكي نثبت التماثل بين الواقعين الموضوعيين لادراكين حسيين، يجب ان نحصل على قيمة احتمالية كبيرة تنفي التغير وحدوث عوامل جديدة في البناء الداخلي لجهاز الادراك<>

وكما قلنا اننا في هذه الحالة سنرتد مرة اخرى للوقوع في الدور والتسلسل من جديد، ذلك اننا حين نتكئ على اثبات سلامة الجهاز الحسي للادراك كي نثبت من خلاله التماثل بين الصورة والشيء الخارجي؛ انما سنستخدم صورة ذهنية اخرى لواقع الجهاز الخارجي، وحيث ان هذه الصورة تخضع الى نفس الخطورة من حيث كونها يحتمل ان لا تطابق حقيقة ذلك الجهاز، فلا بد ان نرجع مرة اخرى الى تأمين اثبات الجهاز وهكذا يتسلسل الامر ويدور بين اتكاء اثبات التطابق للصورة والواقع وبين اثبات سلامة الجهاز العصبي، اذ ان كلاً منهما يعتمد على الاخر، وهو عين الحلقة المفرغة من الدور.

ولهذه النتيجة المؤسفة دلالتان، احداهما ان هذه المشكلة تقف حاجزاً امام اثبات الوحدة المفهومية ومن ثم التعميم ذاته. أما الاخرى فهو ان المحاولة السابقة لاثبات التماثل بين الصورة والشيء الخارجي تتصف بالفشل، بل يمكن القول ان العقل البشري يعجز عن ان يقيم أي دليل على وجود مثل ذلك التطابق، شأنه في ذلك شأن اثبات الواقع الخارجي الاجمالي. ذلك ان من الواضح ان جهازنا العصبي والحسي له دخل كبير على تحديد شكل الصور الذهنية، اذ لو اختلف تركيب هذا الجهاز لبدت لنا الصور بشكل آخر مختلف. كالذي يولد وفي عينيه نظارة زرقاء - على حد تصوير عمانوئيل كانت - حيث ليس بوسعه رؤية العالم الا بشكل ازرق، ولا يمكنه ان يعرف حقيقة ما عليه العالم تماماً، مما يعني ان ادراكاتنا الحسية لكيفيات الاشياء الخارجية متأثرة تماماً بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز ان تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة الاجهزة الحسية. يظل ان ما يبدو لنا من كيفيات الاشياء هي كالرموز بالنسبة لنا، لكن ذلك لا يضر بمسألة اثبات التماثل بين الاشياء، اذ اثباته ليس متوقفاً على التطابق ما بين شكل الصورة وشكل الوجود الخارجي للشيء.

كذلك اننا حتى لو تجاوزنا ورطة القضية الثالثة التي مرت علينا، وصادرنا علاقة السببية العامة كمبدأ قبلي، باعتباره لم يثبت بالاستقراء، فانه مع ذلك سنعجز عن ان نفعل شيئاً بخصوص السببية الخاصة ما لم ننتزع عنصر الضرورة عنها، فنكون قد دخلنا الى حضيرة علاقة الشد التي تتلاءم واطروحة المفكر الصدر في كتابه (بحث حول المهدي).

ومن وجهة نظرنا انه يمكن علاج التماثل بين الشيئين الخارجيين بالشكل التالي:

ان وجود صورتين ذهنيتين متماثلتين لا يعني بالضرورة وجود شيئين خارجيين متماثلين ايضاً، فقد تكون الصورتان وهميتين دون ان تعبرا عن حقيقة موضوعية. الامر الذي لابد فيه من اثبات كل من الشيئين الخارجيين على حدة، وذلك من خلال العلاقة بين الصورة والشيء الخارجي لها. وفي عملية اثبات وجود الشيء من خلال الصورة الذهنية يلاحظ انه لابد من ممارسة استقراء من النوع التبايني القائم على القرائن التي تختلف فيما بينها من الناحية النوعية، فلا يمكن للدليل الاستقرائي ان يتم بمجرد الاستقراء التماثلي المعتمد على تماثلات القرائن والافراد.

لنفترض مثلاً ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكنا نشك في وجودها، ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط بعدد من القرائن المختلفة لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية او وهمية، وكذا فيما اذا كانت بالفعل عبارة عن كرة او انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تضخم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الاشياء الخارجية سوف لا نحتاج عادة الى الاختبار او المزيد منه، لكنا نفترض كما لو كنا نمارس عملاً استدلالياً اولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لهذا فحيث ان من المحتمل ان يكون ما نراه عبارة عن وهم من الاوهام، كان لابد من مزاولة قرينة اخرى، كإن نتحرك من زاوية اخرى وننظر من خلالها إن كنا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذلك نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، اذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، لذا فهذا الاحساس يزيد الظن بأن هناك شيئاً خارجياً يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا ان نقوم بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.

هكذا ان اغلب ما فعلناه من استدلال استقرائي على وجود الكرة انما كان بفعل القرائن المختلفة من الناحية النوعية، ولولا هذه القرائن ما قام للدليل الاستقرائي قائمة. وحينما نفعل نفس الشاكلة من الاستدلال الناجح على وجود كرة اخرى؛ انما يعني اننا نحتفظ بصورتين ذهنيتين متماثلتين لهما وجود حقيقي، لذلك فانهما متماثلان. فالتماثل الصوري يدرك مباشرة، في حين ان التماثل الوجودي وان قام على التماثل الصوري الا انه لا يكفي من غير الاستدلال على وجود كل فرد عبر الاستقراء التبايني كما رأينا. وان هذا الاستقراء هو اساس قيام الاستقراء التماثلي. فالتماثل مستدل عليه بالتباين، وان التباين من حيث الاساس يدرك مباشرة بالاحساس، كادراكنا البصري للصورة الذهنية للكرة مقارنة بادراكنا اللمسي لها، حيث كلاهما مدركان مباشرة مع انهما يعدان قرينتين مختلفتين يعملان على تقوية الاحتمال وتنميته. لهذا كان التباين لا التماثل هو الاساس في الاستدلال الاستقرائي دون ان يحتاج - من حيث الاصل - الى ما يدل عليه باعتباره يدرك مباشرة.

كما قد يقال ان معرفة نفس الظروف إن كانت منحازة او غير منحازة يمكن ان تتم عبر الاستقراء التماثلي، وذلك من خلال الرميات الكبيرة لبعض قطع ألعاب المصادفة، كقطعة النقد، حيث لو ظهر هناك ميل للاقتراب من الاحتمال القبلي لوجوه القطعة لكنّا نميل الى اعتبار الظروف غير منحازة، والعكس بالعكس. وبالتالي ان بوسع الاستقراء التماثلي ان يبني الدليل الاستقرائي بشكل منفصل ومستقل عن الاستقراء التبايني.

لكن واقع الحال ان الاستقراء التماثلي لا يمكنه ان يشكل أساساً لمعرفة طبيعة الظروف ما لم يتم التأكد اولاً من التماثل في وجوه القطعة المعدة للاختبار - كقطعة النقد في مثالنا -، وان هذا التماثل لا يثبت الا من خلال الاستقراء التبايني كما أوضحنا. ولو قيل ان اثبات التماثل انما يتم عبر الرمي ذاته لأفضى الامر الى الدور، حيث يتوقف اثبات التماثل على معرفة الظروف، كما تتوقف معرفة هذه الظروف على التماثل.

هكذا نخلص الى انه لولا (الاحتمالات غير السوية) لما أمكن للاستقراء التماثلي ان يكون منتجاً لاثبات قضايا الواقع.

وعلى العموم هناك ملاحظة جديرة بالذكر تخص علاقة الدليل الاستقرائي بحسابات الاحتمال، وهو ان هذا الدليل انما يعتمد على اكتشاف التماثل ليطبق عليه (الاحتمالات السوية)، على الاقل بالنسبة لأفراد السبب والمسبب، كما يفترض ان يكون التماثل قائماً بين التجارب ليُطبق عليها الحساب الاحتمالي (الكمي). لكن يلاحظ ان التماثل لا يمكن ان يكتشف او يثبت الا من خلال (الاحتمالات غير السوية) للقرائن المتباينة، كما ان التجارب التي ينمو فيها الدليل الاستقرائي هي تجارب مختلفة ليس بوسعها ان تحقق العد الاحتمالي القائم على (الاحتمالات السوية)، وذلك لكونها ليست متماثلة كي يمكن ان توزع الحصص الاحتمالية بشكل متساوٍ. وعليه يصبح الدليل الاستقرائي قائماً على (الاحتمالات غير السوية)، الامر الذي يمنع العد الحسابي الكمي الا بنوع من المسامحة والتجوز في تسوية الحصص. لكن مع هذا ان من الممكن تنمية الدليل من الناحية الكيفية، دون ان يمنع ذلك من تهيئته للمرحلة الذاتية بافتراض اليقين، مما لا يسعنا بحث هذا الأمر هنا.

على انا نذكّر بان كل ما ابديناه من نقد للدليل الاستقرائي انما يتسق مع وجهة نظر الشهيد الصدر اللاحقة التي أثارها في كتاب (بحث حول المهدي) خلافاً لما جاء في كتابه السابق (الاسس المنطقية للاستقراء).

***

هكذا ان ما يمكن قوله هو أننا لا نملك المبرر الكافي لاثبات التعميم في الاستقراء. بل كل ما يمكن فعله هو اعطاد الصورة الترجيحية للحوادث المستقبلية المحدودة او المتناهية؛ طبقاً للتنمية الاحتمالية. أي ان الدليل الاستقرائي يواجه مشكلة منطقية مستعصية على صعيد التعميم، لكن من الممكن تخفيفها من خلال التعامل مع العدد المتناهي للحوادث المستقبلية، حيث مع نجاح التجارب الكثيرة باستمرار يمكننا ان نتوقع الحوادث المستقبلية المتناهية بدرجة كبيرة، قد تتحول من الناحية العملية وطبقاً لطريقة الشهيد الصدر الرائدة في المرحلة الذاتية الى نوع من اليقين، الا انه كلما توسع نطاق مقدار هذه الحوادث فان درجة احتمال وقوعها جميعاًَ ستأخذ بالانخفاض، حيث تقدر دائماً بضرب قيمة احتمال اول حادثة مستقبلية بنفسها في عدد المرات التي يراد لها ان تتكرر بنجاح.

كما انه من جانب آخر يمكن القول ان الوظيفة الاستقرائية لا تتوقف على حد التنبؤ بالحوادث المستقبلية، وانما بها يمكن العمل على اثبات وجود الاشياء وتفسيرها.

بل بات من المسلّم به ايضاً ان الطريقة العلمية في اثبات القضايا وترجيحها سواء بالنسبة الى تلك التي تتصف بالعموم او غيرها من الحالات الخاصة؛ لا تستنتج في كثير من الاحيان بمحض الشكل المنطقي الصرف من التتبع في لحاظ الوقائع والقرائن بغية الوصول الى الصيغة النهاية من عمل الدليل الاستقرائي وفقاً لمتطلبات المرحلة الاستنباطية، وإنما دخلت في الميدان الفروض (المؤقتة) من القفزة الذهنية مما يطلق عليها بالحدس العلمي والتي لا تجد لها تبريراً بحسب الصياغة المنطقية من الدليل، وإن كان من الممكن اخضاعها من جديد تحت الاختبار للحاظ ما يمكن ان تكسبه من قوة تأييد او تكذيب بهذا الصدد يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: >اذا درسنا بدقة كيف نعثر على مبادئ جديدة في العلم، يتضح لنا ان مبدأً مثل قانون القصور الذاتي، او مبدأ النسبية، لا يمكن اختراعهما بأي طريقة نظامية (استدلالية او استقرائية)، ولكن يتم ذلك فقط باستخدام قدر من القدرة الاختراعية، وهي ما تسمى ايضاً الخيال واحياناً الحدس. وقد أكد اينشتاين على ذلك في احدى محاضراته (فلسفة العلم، ص67). كما يقول العالم الفيزيائي أرنست ماسن: >إن العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة، والتي يشير اليها عموماً بالاسم غير الملائم (الاستقراء)، ليست عملية بسيطة وانما هي عملية بالغة التعقيد. وهي في المقام الاول ليست عملية منطقية بالرغم من ان مثل هذه العمليات يمكن اادخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي الى اكتشاف معرفة جديدة انما يرجع الى التجريد والخيال< (فلسفة العلم، ص683).].

ومن المعلوم ان الفكر الحديث ولّد نزاعاً عن طبيعة المفاهيم والنتائج المستخلصة من المنهج العلمي بواسطة الاستقراء. فقد كان جون ستيوارت مل يعتقد ان النتائج العلمية انما تعبر عن مفاهيم مستنسخة من الواقع، أو انها تمتاز بالمطابقة معه، وخالفه في ذلك وليام هويويل الذي رأى القوانين العلمية هي عبارة عن افرازات ذهنية. فبينما كان ستيوارت مل يقول: >اذا صح ترتيب الوقائع تحت المفاهيم، فالسبب في ذلك هو ان الوقائع نفسها تتضمن شيئاً يكون المفهوم نسخة منه<، فان هويويل اعترض عليه قائلاً: >ولكنها نسخة لا يستطيع صنعها الا شخص ذو موهبة طبيعية خاصة، وهذا الوضع شبيه بوضع الشخص الذي يتعذر عليه ان يعدّ نسخة مفهومة من نقوش رديئة الكتابة الا اذا كان ملماً باللغة<. لهذا رأى هويويل ان كل استقراء ناجح هو بمثابة مفهوم جديد ونظام جديد يصنعه المؤلف من مادته اللغوية والمنطقية. فمثلاً يتمثل هذا المفهوم في المنحى الاهليجي لحركة الكواكب في حالة كبلر، وفي العجلة في ميكانيكا جاليلو، وفي العجلة والجاذبية في فكر نيوتن، وفي الموجات في علم الضوء الحديث. وعليه فانه يصل الى تقرير: >ان تاريخ العلوم الاستقرائية هو تاريخ الاكتشافات، على الأقل فيما يختص بالوقائع التي جمعت بعضها الى بعض لتؤلف العلم. وفلسفة العلوم الاستقرائية هي تاريخ الآراء والمفاهيم التي تربط الوقائع بعضها ببعض< فلسفة العلم، ص173ــ273.]. واليوم اصبح من المسلم به ان القوانين العلمية هي قوانين لا يفترض بها المطابقة مع الواقع، حتى عدّها بوانكاريه اصطلاحية كدلالة على صياغتها العقلية المحضة، وبالتالي جاز التنافس بين النظريات العلمية بحيث ان ترجيح بعضها على البعض الاخر لا يشترط ان يكون من موقع القرب من التطابق مع الواقع، بقدر ما هو أكثر قدرة على تفسير الظواهر حسب معيار ما يطلق عليه بالبساطة. لذلك فان الذي جعل العلماء يقبلون نظرية كبلر ويفضلونها على نظرية بطليموس هو ليس لكونها اقوى احتمالاً من حيث مطابقتها للواقع الموضوعي، وانما لكونها أكثر اتساعاً في التفسير والتعميم.

اذن أصبحت لدينا قضايا مختلفة لها علاقة بالدليل الاستقرائي كالآتي:

1ــ الاستقراء التعميمي: وفيه ان الدليل يتضمن مشكلة التعميم، وهو المطلق عليه بالمشكلة الاستقرائية منذ ديفيد هيوم، وسار على نهجه الفلاسفة من بعده، حتى اصبح الدليل الاستقرائي لا يعني عندهم في كثير من الاحيان غير ذلك الذي يواجه تلك المشكلة، حيث فيه ينتقل الذهن مما هو خاص الى ما هو عام يقول كارل بوبر في (منطق الكشف العلمي، ص36ــ46): >عادة ما نسمي الاستدلال استقراءً اذا انتقل من قضايا شخصية - اي قضايا جزئية كما يطلق عليها احياناً - كتلك التي تبيِّن نتائج الملاحظات والتجارب تجاه القضايا الكلية، كالفروض او النظريات<. ويقول المفكر الصدر في مقدمة كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء): >نريد بالاستقراء: كل استدلال تجيء النتيجة فيه اكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال<. ويقول ايضاً: >وأما في حالات الاستقراء، فان الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص الى العام، لأن النتيجة في الدليل الاستقرائي اكبر من مقدماتها<.]. وعلى الصعيد العلمي أُضيف الى ذلك ما يطلق عليه بالاستقراء الحدسي كما سيمر علينا.

2ــ الاستقراء الخاصي: وفيه ان الدليل يتضمن البحث عن اثبات الحالات الخاصة وتفسيرها. ويلاحظ ان هذا الدليل لا ينتهي الى ما هو عام كما في الحالة السابقة، ولا يواجه مشكلة التنبؤ بالحوادث المستقبلية، بل ينتهي الى تقرير معني باثبات حالة خاصة او تفسير وجودها. فما يقال عن الدليل الاستقرائي بأن فيه مشكلة مستعصية؛ لا ينطبق على ما نحن فيه بالنسبة الى هذه الحالة، باعتبارها لا تتضمن التعميم والتنبؤ بالحوادث. وبالتالي فانه اذا كان لا يسعنا أن نثبت التعميم في الدليل الاستقرائي، فلا يعني ذلك اننا نعجز ايضاً عن اثبات الحالة الوجودية الخاصة، للفارق بين الموضعين، وهو أمر لا يسعنا الآن تفصيل الحديث عنه.

3ــ الاستقراء الحدسي: وفيه ان الدليل يتضمن التسليم بفرض معين ينشأ على نحو لا تقتضيه كامل ما سبق من العملية الاستقرائية، أي انه يقفز الى الذهن دفعة واحدة، نتيجة وجود قرائن قليلة محدودة، قد تكون غامضة غير واضحة. وأهم ما يشترط في هذا الفرض هو ان تكون نتائجه قابلة للاختبار لتتحدد مدى قوته في التأييد والتكذيب. وهو اليوم يعد موضع اهتمام المنهج العلمي في الغرب. والفارق بين هذا النمط من الاستقراء وبين ما سبقه من الانماط، هو ان هذا النمط رغم انه قد يتضمن الصورة التعميمية كما في الشكل الأول، او يتضمن البحث عن الحالة الخاصة من الكشف كما في الشكل الثاني، الا انه ليس معنياً بالضرورة عن البحث في مطابقة الواقع، بل كل ما يهتم به هو ان يحضى بتفسير مقبول ومفضل قياساً مع غيره من التفسيرات، وذلك لوجود ما يؤيده من الشواهد وغياب المكذب. وفي هذا الاطار من المنهج العلمي عُرف ان هناك صنفين من العلماء يمارسون الحدس الاستقرائي بشيء من الاختلاف: فهناك الصنف المحترز الذي يعمل بالاحتياط ولا يقبل تفسير الظاهرة موضع البحث الا بعد وفرة عدد مقبول من القرائن. كذلك هناك الصنف المغامر الذي يتسرع الى وضع الفروض التفسيرية ولو بحد ضئيل من الشواهد المؤيدة مع غياب المكذب. بل لقد وُصفت الطريقة العلمية في منهجها الحدسي بأنها عادة ما تمارس مغالطة منطقية؛ كتلك التي مُثلت بالقياس التالي:

ان الكلب هو حيوان لبون.

ان هذا الذي أمامي هو حيوان لبون.

اذن ان هذا الحيوان هو كلب.

فقد عُد هذا التصوير المتضمن للمغالطة المنطقية، يمثل بدقة ما عليه النظريات العلمية John Hospers , p.175 .].

كان ذلك فيما يتعلق بالاستقراء الحدسي الخاص بالمنهج العلمي. واليوم شاعت نظرية جديدة حاولت أن تضع منهجاً للقضايا العلمية بعيداً عن الدليل الاستقرائي. تلك هي نظرية فيلسوف العلم المعاصر كارل بوبر. فهل وُفقت لذلك بالفعل؟

لقد ظهرت هذه النظرية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الاستقرائي في بناء القضايا العلمية. اذ وضع بوبر منهجاً عدّه ليس من الدليل الاستقرائي بشيء، واطلق عليه المذهب الاستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللانهائي كما تقتضيه العملية الاستقرائية بوصفها عادة نفسية تقوم على التشابه؛ الذي بدوره يقوم على الاستقراء، وهكذا، معتبراً ان ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الاستقراء والاحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللانهائي بوبر: منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، ص66ــ76 ]. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت الى العملية الاستقرائية بصلة، وذلك انه يبتدئ بوضع فرض معين من قبل الذهن، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الاختبار، وهو في حالة الاختبار لا يلجأ الى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الاستقرائية، اذ أي عدد يمكن استقراءه فانه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية، فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي تظهر ان البجع ابيض فان ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع ابيض منطق الكشف العلمي، ص46 ]، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الابيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع ابيض اللون، لكن في يوم ما أُكتشف البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الاستدلال الاستقرائي الى نتيجة زائفة فلسفة العلم، ص883 ]. على هذا فقد لجأ بوبر الى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الافتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع الى تكذيبه فانه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس. فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما هو يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فانه يمكن مناقضة القضايا الاولى بالاخيرة (الشخصية)، اي ان من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، وذلك بفعل عملية الاختبار من التكذيب. في حين ان مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد منطق الكشف العلمي، ص87 ]. وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير او التحقيق، وانما تقبل الاختبار، فحيث انها تصمد أمام الاختبارات الشاقة والتفصيلية فانه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة المصدر، ص07 و18 ]. الامر الذي يفسر عليه النمو العلمي وقلب النظريات، فمثلاً ان نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن لتبين حقيقة ان الكواكب تتحرك اهليليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية اينشتاين من خلال الشذوذ في مدار كوكب عطارد Lakatos, Imre. زFalsification and the Methodology of Scientific Research programmesس, 1969. in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall, John. and Currie, Gregory. Cambridge University Press, reprinted1984. p.13-14 ].

وبوبر لا يعد مسلكه - في ذلك - يرتد الى المنهج الاستقرائي. مع هذا فقد يقال انه يمارس عملاً استقرائياً، سواء في البدء او في المنتهى. ففي البدء انه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر الى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة السيرة التي عليها الناس من جانب، وكذلك سيرة علماء الطبيعة من جانب آخر. فليس هناك فرض يمكن عزله عن سابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي او بغير وعي.

أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، ذلك انه من منطق الحساب الاحتمالي ان اعتبار القرينة التأييدية لابد ان تقوي من قيمة احتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه اعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، بل حسِب ان القرار المؤيد انما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، وذلك باعتبار ان اي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي الى طرح النظرية منطق الكشف العلمي، ص07 ]، وانه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية >لأنه من الممكن دائماً ان نقول ان النتائج التجريبية لا يوثق بها< منطق الكشف العلمي، ص88 ]، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب. وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الاستقراء، وما هي مدى صدقه على أرض الواقع؟

مع هذا قد يقال ان حكم بوبر هذا يرتد الى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى اليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطراد قوانين الطبيعة. اذ كان حريصاً كل الحرص ان يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما انها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فان القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب. لكنه مع هذا يجعل من تفكيك القضايا ما يعود الى اختياراتنا ومواضعاتنا الذاتية، بالرغم من أنها قضايا معرفية ترتد الى الواقع الموضوعي. فاذا كان الأمر مجرد ترتيب اجرائي فله أن يفعل ما يشاء، لكنه حين ينطلق من منطلقات فلسفية ويشكل على الدليل الاستقرائي ومن ثم يتمسك بالشبهة الهيومية، ولم يقتنع بالحل الوضعي في معالجة الاستقراء؛ كل ذلك يجعل من تفكيكه للقضايا لا يمكن حمله على مجرد الحمل الاجرائي، ويظل الاشكال وارداً: بأي حق نعتبر مثل تلك القضايا التعميمية هي قضايا ميتافيزيقية؟ وكيف يمكن التثبت من كونها لا تخطأ وتقبل التكذيب؟ واذا كان من الواضح انها لم تتأسس الا بفعل الدليل الاستقرائي، فكيف يلجأ اليه بوبر وهو قد رفضه جملة؟!

أما بصدد مناقشة بوبر على صعيد المنهج العلمي فيلاحظ ان عملية التكذيب وإن كانت تعبر عن كونها قضية مضادة للتأييد، الا انها ايضاً مثلها مثل التأييد تستند في تضادها مع الفرض انطلاقاً من العملية الاحتمالية وتقوم بدورها على مسند استقرائي يثبت كونها تكذيبية بالفعل. وابرز مثال على ذلك ما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون طبقاً لنظرية الجاذبية. ففي البداية عُد الانحراف في مدار كوكب (يورانوس) شاهداً سلبياً بالنسبة الى الجاذبية، لكن ذلك لم يطرح النظرية كلياً، وانما أضعف من مصداقيتها، طالما كان من الممكن توجيه الشاهد بشكل لا يخرج فيه عن فحوى النظرية، وهو ما حصل فعلاً من قبل بعض أتباعها، حيث وجهوا الشاهد بالشكل الذي لا يشكل مناقضة لمبدأ الجاذبية، فافترضوا وجود كوكب اخر مجهول هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وبالفعل ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه بكوكب (نبتون)، مما قوّى من مصداقية النظرية أكثر.

على ان الذي يستفاد من هذا المثال هو ان شاهد انحراف (يورانوس) لا يمكن ان يعدّ - في بادئ الامر - شاهداً تكذيبياً، بدلالة انه كان من الممكن توجيهه توجيهاً يتفق فيه مع نظرية الجاذبية، ويظل البحث فيما لو كان التوجيه سيجد تأييداً في الاكتشافات المقبلة او انه سيلقى التكذيب، وهو الأمر الذي يجعل من التأييد والتكذيب كلاهما يعتمدان على ما تفضي اليه العملية الاستقرائية من كشف ميداني. ففي مثالنا السابق تحدد الكشف بما يخص البحث عن ذلك الكوكب الذي يحتمل ان يكون هو السبب في انحراف مدار (يورانوس). فلو ثبت وجود هذا الكوكب لكان تأييداً للنظرية، أما لو ثبت عدم وجوده تماماً لكان تكذيباً للنظرية، وفي كلا الحالين ان المرجع في ذلك هو البحث الاستقرائي ودلالته الاحتمالية. كما انه بكلا الحالين لا يمكن اعتبار التأييد والتكذيب تامين ومطلقين، اذ يظل احتمال وجود عناصر اخرى لم يُلتفت لها هي التي تؤثر على ظاهرة الانحراف في مدار >يورانوس<، فعدم وجود كوكب قريب مؤثر مثل نبتون لا يعني بالضرورة انه لا يوجد هناك شيء آخر مؤثر يمكن ان يتسق مع جاذبية نيوتن، كذلك فان اكتشاف نبتون لا يعني بالضرورة انه يؤكد صحة النظرية صحة تامة ومطلقة.

وعليه لا يكفي أن يقال بأن التكذيب انما يحصل بما يمكن ان تطرحه النظرية من تنبؤات واستنتاجات لا يدل الكشف عنها. ذلك لأنه قد تكون المشكلة ليست بالنظرية ذاتها وانما بما يستنتج عنها ويعد تقريراً تنبؤياً. ففي مثالنا السابق ان من الطبيعي بادئ الامر ان يكون التنبؤ الذي ينبغي ان تتخذه نظرية الجاذبية هو ان المدارات التي تسير فيها الكواكب هي مدارات لا يلوحها انحراف، وذلك عند لحاظ عدد منها، فقد لا يلوح في البال ان يكون هناك انحراف في بعض المدارات، لكن حين كُشف عن الانحراف في أحدها، فان ذلك لا يعد شاهداً مكذباً للنظرية طالما أمكن توجيهه الوجهة المناسبة.

كذلك في حالات كثيرة يلاحظ ان النظريات العلمية تتنافس فيما بينها بحسب ما تستند اليه من مرجعيات متضادة رغم ان الشواهد تقبل ان تُفسر بأي من هذه المرجعيات بلا تأييد ولا تكذيب، ولعل أقرب صورة لهذا الشكل ما أكد عليه فلاسفة العلم الاصطلاحيون من أمثال بوانكاريه من انه يستحيل معرفة شكل الهندسة الكونية إن كانت اقليدية او غير اقليدية، فمن الممكن تفسير الظواهر الكونية طبقاً للفرضين باعتبارات مختلفة، وبالتالي فليس بامكاننا ان نجعل من الشواهد مكذبة لأحد الفرضين، الامر الذي لا يتسق مع المنهجة التي عليها نظرية بوبر، اذ سوف لا تكون هذه القضية من القضايا العلمية طالما انها لا تخضع للتكذيب، أي ليس من القضايا العلمية أن يقال بأن الهندسة الكونية اقليدية او غير اقليدية، مادام انه لا توجد قابلية على التكذيب لأيّ من الفرضين، فمثلما يمكن تفسير انحناء الأشعة الضوئية طبقاً لانحناء الكون، وبالتالي فان الهندسة ليست اقليدية، كذلك فانه يمكن تفسيرها باعتبار آخر قائم على اساس الجذب، وذلك استناداً الى الهندسة الاقليدية وان الفضاء ليس بمنحن، وبالتالي فان الاشعة التي تسير فيه تكون مستقيمة لولا ظاهرة الجذب التي تسببها الكتل المادية في الفضاء فتجعلها منحنية.

من جانب آخر قد يقال ان دلالة التكذيب تفوق دلالة التأييد، اذ ان التأييد لا يحتم صحة النظرية، حيث كل ما يمكن ان يقال هو انها تتسق مع الشاهد التأييدي أكثر فأكثر، ولا يعني انها صحيحة فعلاً، بدلالة انه من الممكن ان تكون هناك نظرية منافسة اخرى باستطاعتها ان تتفق مع جميع الشواهد التي اتفقت مع النظرية الاولى، الامر الذي لا يحتم صدق هذه النظرية بالتأييد. في حين ان الشاهد المكذب يمكنه ان يبطل النظرية تماماً ويسقطها من الحساب.

والجواب على ذلك هو ان الامر يتوقف على الفروض المطروحة إن كانت تسمح بالتصديق بالنظرية عند الشاهد المؤيد، او ابطالها عند الشاهد المكذب. فليس بالضرورة ان يكون الشاهد المكذب مبطلاً للنظرية الا بالقدر الذي يثبت عدم قدرتها على ايجاد مخرج من التوجيه. مثلما ليس بالضرورة ان يثبت التصديق بصحة النظرية الا بالقدر الذي لا تثبت جدارتها بعدم افساح المجال لقيام نظريات اخرى منافسة في قبالها. وتظل ان لطبيعة الشواهد من التأييد والتكذيب دخلاً كبيراً في تحديد القيم الموجهة للنظرية، ذلك ان اختلاف الشواهد في طبيعتها يجعلها تختلف فيما تحمله من قيم احتمالية بالنسبة للنظرية، فبعض الشواهد يحمل من القيمة ما يفوق البعض الآخر، وينطبق هذا الامر سواء على الشواهد التأييدية او التكذيبية. ومثلما قد يكون الشاهد المكذب أقوى دلالة من الشاهد المؤيد؛ فان العكس يحصل كذلك، اذ لو فرضنا ان هناك عدداً قوياً من الشواهد المؤيدة للنظرية في قبال شاهد يبدو عليه التكذيب؛ فانه ليس من السهل التضحية بالشواهد المؤيدة لحساب ذلك المكذب، بل قد يقتضي الأمر تأويل الشاهد وتوجيهه بالشكل الذي لا يناقض النظرية؛ ما لم تكن هناك نظرية اخرى باستطاعتها ان تستوعب جميع تلك الشواهد وتفسرها.

وعلى العموم يمكن القول ان النظرية العلمية تقوم على قابلية كل من التأييد والتكذيب، وان العلم لا يلتزم بواحد من هذين الطرفين، فضلاً عن وجود عناصر اخرى يستند اليها في قبول النظرية العلمية. ورغم ان بوبر كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 4391، لكنه بعد ثلاثين سنة تقريباً، اي بعد اعادة طباعة الكتاب (سنة 3691)، اعاد النظر في دفاعه عن ذلك الاساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر اخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الاشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر بانه لا يمكن ارجاع مبدأ البساطة الى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل Maxwell, Nicholas. The Comprehensibility of the Universe. Clarendon Press. Oxford, 1998. p.37-38 ].

يبقى أخيراً انه بحسب منهج بوبر ان القابلية على الاختبار للقضايا العلمية لا تنتهي بحد معين. فانساق النظريات تختبر عن طريق استنباط قضايا اخرى ذات مستوى أقل عمومية. وهذه يجب ان تكون قابلة للاختبار بنفس الاسلوب، وهكذا من غير حد ولا نهاية. مع هذا فان بوبر لا يرى هذه العملية تفضي الى الوقوع في دائرة الارتداد اللانهائي الذي سبق ان نقد فيه المنهج الاستقرائي. صحيح انه يعتبر القضية العلمية يجب ان تكون قابلة للاختبار دون توقف، لكنه لا يطلب ان تكون كل قضية علمية قد اختبرت في الواقع قبل قبولها، فالاختبارات لا يمكن تنفيذها الى ما لا نهاية، حيث لابد ان نتوقف آجلاً او عاجلاً، انما الذي يطالب به هو ان تكون القضية قابلة للاختبار لا غير. وبالتالي فهو يرفض وجهة النظر القائلة بوجود قضايا في العلم يجب علينا ان نقبلها ونوافق على انها صادقة بحجة استحالة اختبارها لاسباب منطقية منطق الكشف العلمي، ص48 ].

مع هذا فان نظرية بوبر في تأسيس القضايا العلمية لا تتخلص من شبهة الوقوع في الارتداد الصفري، طالما انه لا يعتقد بامكانية الحصول على اليقين في الاطار العلمي المصدر، ص911 ]، او ان القضايا العلمية عنده هي قضايا احتمالية. وبالتالي اذا كان بعضها يتوقف على البعض الاخر فلا فرق عندئذ سواء تعرض جميعها للاختبار - وهو أمر مستحيل للارتداد اللانهائي -، او تعرض بعضها لذلك، فانه في كلا الحالين ان أي قضية يراد تقدير قيمتها الاحتمالية فسوف تؤدي الى الاقتراب من المستوى الصفري، مثلما لحظنا الحال مع الوضعية المنطقية.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار