التجربة البشرية لدى المثقف العربي
يحيى محمد
يمكن القول ان سلطة التوليد التي تتحكم في العقل المثقف بشتى اصنافه في مجتمعاتنا العربية والاسلامية هي سلطة يمكن ارجاعها الى التجربة او الخبرة البشرية بمعطياتها الموضوعية. فهذه الخبرة تتحول بشكل من الاشكال الى مبادئ يستوحيها المثقف بفعل النظر اليها مباشرة او بفعل اتباع من قام بتحويلها الى تلك المبادئ المعرفية العامة. ففي كلا الحالين يكون المثقف حاملاً لمبادئ او افكار هي نتاج النظر في تلك التجربة، والتي تعبر تارة عن معطى تاريخي، واخرى عن معطى حديث، وثالثة عن معطى يتصف بالعموم والشمول.
فالمثقف الماركسي وهو يستنسخ فكر ماركس انما يعبر عن الشكل غير المباشر من النظر في التجربة البشرية والتي يراها تسير وفق ما استخلصه هذا الفيلسوف من قوانين بعد اجلاء النظر في الواقع وصيرورته التاريخية.
والمثقف العلموي هو الاخر يرى ان التجربة البشرية المتمثلة بالنهج الذي اختطه العلم الحديث والذي اثبت نجاحه الخلاق في العديد من النواحي؛ يكفي ان يُتخذ اصلاً مولداً للمعرفة الحقة في مختلف الاصعدة والمجالات. فهو بهذا يستند الى ما حققته التجربة البشرية من نجاح على الصعيد العلمي ليجعل منها حلقة وصل للتعميم في جميع القضايا التي يتطلع الانسان الى حلها.
كذلك فان المثقف العقلاني هو الاخر قد جعل من التجربة البشرية المتمثلة في عصر التنوير أساساً مولداً للنهضة المعرفية والاجتماعية، معولاً في ذلك على المبادئ التي نجح التنويريون في بثها ونشرها لدى اوساط المجتمع مثل العقلانية والحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها.
والمثقف القومي يرى في الامة مزايا تشكل اصلاً مجرباً يُعتمد عليه في النهضة وتحقيق الامال التي تصبو اليها. فكثيراً ما يرجع الى تجربة الامة في صيرورتها التاريخية ليؤكد ما عليه قدراتها في تحقيق التطور والازدهار؛ مستخلصاً من ذلك مزاياها الخصوصية كمبادئ يستضيء بنورها؛ جاعلاً منها اصلاً يتكئ عليه لغرض اعادة تشكيل الحاضر بما يتفق وضرورات العصر الحديث. الامر الذي يضطره الى الاستعانة بالتجربة الغربية واستلهام مبادئها المعرفية ليكون قادراً على التفاعل مع الاشكاليات الحديثة ومواجهة الواقع الراهن.
أما التجربة البشرية التي يتطلع اليها المثقف الديني ويستلهم منها افكاره ومبادئه فهي تتكون من رصيدين مهمين، احدهما التجربة التاريخية التي نتج عنها تراثنا الاسلامي وما ينطوي عليه من صور تعبر عن بعض التشكيلات الناجحة في عدد من المجالات كالمجال العلمي والاخلاقي والتربوي والسياسي، ومن ذلك التفكير في نظام الخلافة الراشدة كأصل يُعتمد عليه في الرؤية المتصورة عن طبيعة ما يكون عليه النظام السياسي والاجتماعي من مواصفات تبرز فيها صور العدالة والزهد والصفاء وحرية الرأي والنقد والشورى والتقويم وما اليها من مفاهيم مستخلصة من تلك التجربة الفذة لعصر الاسلام الذهبي. أما الرصيد الاخر فهو التجربة الحديثة المتمثلة بالدرجة الرئيسة بما حققه الغرب من نجاحات كبيرة في الكثير من المحاور بما فيها ما نحن بصدده من المجال المعرفي، فكان على المثقف ان ينتقي من المسالك والمفاهيم المعرفية ما شاء له، كما انه كثيراً ما قام بالمزاوجة بين التجربتين المحلية والاجنبية.
على ان التجربة او الخبرة البشرية من حيث كونها مصدر توليد للمعرفة فانها بهذا الاعتبار تمثل نقطة اسناد يلجأ اليها المثقف في موارد الاخذ والرفض والفهم والتوجيه والاسقاط والتأويل.
والمثقف لا يلجأ الى التجربة البشرية بدواع ابستمولوجية معرفية علمية بحتة، انما هو عرضة للمنعطفات الايديولوجية ومنزلقاتها، بما فيها تلك التي لا تخرج عن اطار هذه التجربة ذاتها. فهو كثيراً ما ينحاز الى تجربة حيال اخرى، والى واقع ضد اخر. وينطبق هذا الامر على المثقف الديني، بحيث يزدحم عنده الدور الايديولوجي كلما ازداد احتكاكاً بالواقع، وعلى رأسه الواقع السياسي.
وبغض النظر عن البعد الايديولوجي لحركة المثقف بشتى اصنافه؛ تظل المعايير التي يعتمدها في الغالب معايير مستمدة من التجربة البشرية ومصاغة بشكل مبادئ وتصورات كلية تستهدف كلاً من الفهم والتوجيه والتوليد؛ فتارة توصف بمبادئ التنوير والعقلانية، وثانية توصف بمبادئ الثورة والتقدم والاشتراكية، وثالثة بكونها مبادئ الحرية والليبرالية، ورابعة بانها مبادئ العلم والمعرفة المنظمة الاكاديمية، وخامسة بانها مبادئ الوحدة القومية كالذي روّج له القوميون العرب تحت شعار: الوحدة والحرية والاشتراكية، واخرى بانها مبادئ العدل والمساواة والاخاء الانساني... الخ. فجميع هذه المبادئ والتصورات تتصف بكونها محملة بشحنات من تجارب الواقع؛ مع ما فيها من انتقاءات تتضمن التقريب والاستبعاد. وبالتالي فان المثقف مدين في توليده المعرفي الى تلك النماذج التي حققتها التجربة البشرية او يُفهم انها تدل عليها. فهو من ثم يعتمد على مثال ما من الواقع ليحتذي به، او ليجعل منه مصدراً للتوجيه والتوليد المعرفي. مع ما يلاحظ من انه كثيراً ما لا يُخضِع هذا الواقع الخاص الذي يلجأ اليه، كنموذج يؤسس عليه رؤاه وتوجهاته، الى التحليل والنقد. ومن ذلك انه احياناً يخلط بين الواقعين الغربي والمحلي فيسقط ما لدى الاول على الاخر؛ من غير ان يفكر جدياً بأهمية المكان ودوره وخصوصيته. كما انه كثيراً ما يقع تحت ضغط وتوجيه ما عليه الواقع المعاش بلا رؤية تاريخية - استشرافية تعمل على نقد الحاضر وعدم الاستسلام الى ضغوطه وتغريراته، اذ لم يفكر بأهمية الزمان واعتباراته، ولم يولِ التجارب التاريخية حقها من النظر، انما حصر تفكيره ضمن حدود الحاجات الزمنية ومتطلبات العصر. وبالتالي فانه يفتقر الى الرؤية الشمولية التي تأخذ كلاً من المكان والزمان بعين النظر والاعتبار.
وبعبارة اخرى، ان المثقف مع انه يعول على الواقع تعويلاً كبيراً في بناء وتكوين منظومته المعرفية؛ الا ان ما يشكل عليه هو ان هذه العملية من البناء والتكوين كثيراً ما تتم بشكل انتقائي من غير منهج محدد. فهو ينتقي صوراً جزئية ليشكل منها مفاهيم كلية يعمل على تعميمها واسقاطها بنوع ما من التعسف. اي انه يمارس ما يشابه الدور الذي يمارسه الفقيه عندما يحول جزئيات النص الى كليات عامة قابلة للاسقاط على مختلف اصناف الواقع. فالمثقف بهذا ليس محايداً في نظرته لما يجري أمامه من تجارب واحداث؛ طالما انه يعيش ازمة تعكس ما يدور في الواقع من تناقضات وتغايرات. وهو لكي يعمل على حل هذه الازمة يلجأ الى الانتقائية الواقعية. فالبعض يرى ان ما حلله ماركس للواقع الرأسمالي الغربي وما انتهى اليه من تصورات اجتماعية وتاريخية يمكن ان يصدق على مختلف الاحوال والبيئات، وبهذا تصبح الاطروحة الماركسية قابلة للتبني في مواجهة الازمات التي يشهدها واقعنا المحلي والعالمي، سواء بسواء. وبعض اخر يرى ان ما تم فعله وانجازه من تنوير وعقلانية في العالم الغربي منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا يمكن اختزاله وتطبيقه على مجتمعنا، وذلك بالعمل على تحليل افكارنا ضمن معيار مبادئ التنوير؛ فهي إما عقلانية او لا عقلانية، وتنويرية او ظلامية، وتقدمية او رجعية... الخ. وبعض ثالث يعول على الواقع التاريخي كملجأ نلوذ به من اجل اعادة ترميم ما نالنا من صدأ الانحطاط والفرقة والتشرذم، وذلك عبر اطروحة قومية تجمع شتات الامة وطاقاتها. واخيراً يرى البعض ان في التجربة الاولى للرسالة الاسلامية اعظم معين وسند يمكن الاتكاء عليه لاجل اصلاح واقع الامة واعادة دورها من جديد بمثل ما كانت عليه من قبل.
على ان هذا الاخير جمع في انتقائيته بين الواقعين الغربي والاسلامي. بل كثيراً ما كان يداخل بينهما، خصوصاً وقد غابت عنه ضوابط الانتقاء والمنهجية، سوى انه يلبي في الغالب تلك الذرائعية التي تخدم المرحلة، كما يلاحظ ذلك لدى الرواد من المفكرين الدينيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق