كيف نقرأ التراث؟

يحيى محمد

لا شك أن طبيعة هذا السؤال تعود بنا مباشرة إلى التفكير المنهجي. ذلك انه سؤال يبحث عن ماهية المنهج الذي يمكن إتباعه في دراسة التراث وقراءته بما لا يخرجه عن مكنونه الحقيقي؟

كما لا شك أن التفكير في الأُطر المنهجية تجعل من الباحث يرفض الدخول في القراءة التي تعمل على الأخذ بالتفاصيل من غير روابط عامة تشدّها وتتحكم فيها. أي أنه يرفض القراءة غير الممنهجة.

يظل بعد ذلك أن التفكير في القراءات المنهجية يتنازعها اتجاهان رئيسيان، أحدهما يعتمد التحليل الجواني في تفسير التراث، وذلك باتباع المنطق الداخلي للمعرفة التراثية ذاتها. أما الآخر فيعتمد التحليل البراني من خلال إتباع أثر الظروف الخارجية على تكوين التراث وتطوره؛ سواء كانت هذه الظروف جغرافية أو إجتماعية أو سياسية أو غيرها، إذ المهم أنها تكون حاسمة في تشكيل الظاهرة المعرفية للتراث في كافة تفاصيلها ومختلف مجالاتها.

أمام هذين المنهجين نحن ندعو إلى إتباع القراءة الأُولى ونقد الثانية، بل ونفترض في القراءة الجوانية وجود أجهزة معرفية لها أُصولها المولّدة والمنظمة تنظيماً جوانياً وأكسيمياً ثابتاً، أي أن أيّ جزء من النظام المعرفي لا يُفهم الا من خلال وجوده وربطه بالكل الذي ينتمي اليه أنتماءه الذاتي، وذلك بفضل وجود بعض المعارف التي لها القدرة على التوليد والإنتاج المعرفي، فهي عبارة عن أُصول مولّدة فعّالة، من حيث أنها تعمل على إنتاج المعرفة وتوليدها. وقد سبق أن أوضحنا في دراسة سابقة أن القراءة التي نجريها على الجهاز المعرفي وفق ما أطلقنا عليه (علم الطريقة) تجعل منه جهازاً لا يصح ان ينغلق ضمن حدود الاطار الخاص باي تيار من التيارات المذهبية، كما أنه يتعدى حدود العلم ذي الموضوع الواحد، وهو بالتالي عبارة عن نظام معرفي قائم على أربعة أركان مترابطة، فلابد أن تكون فيه أداة منهجية لتوليد المعرفة، كما لابد أن يكون فيه تأسيس قبلي من القضايا المعرفية السابقة على كل ((فهم)) وانتاج معرفي منظّم، يضاف الى ضرورة وجود ((الفهم)) وكذلك الانتاج. ونحن نعد آلية ((الفهم)) عنصراً من عناصر تركيب الجهاز المعرفي، ذلك لأن جزءاً من نشاط الجهاز مسخر لفهم الخطاب أو الشريعة، بخلاف الأجهزة المعرفية التي لا علاقة لها بهذا الفهم، كما هو الحال في الأجهزة الموظفة لمعرفة الواقع العلمي من الطبيعة، والتي تخلو من وجود رابطة بينها وبين الخطاب. فطبقاً لذلك الحد يمكن للجهاز أن يضم مذاهب وعلوم متعددة ومتنوعة، ميزتها هو أنها تشترك في تلك العناصر الأربعة، وإن كانت قد تختلف أحياناً في طبيعة الفهم وما تنتجه من معارف تبعاً لاختلاف الموضوع أو لمرونة التأسيس القبلي، أو لإعتبارات وأُمور عارضة أُخرى. أما عن الترابط المحكم بين تلك العناصر، فحيث أن الأداة عبارة عن منهج صوري، لذا أن وظيفتها هو أنها تحدد طريق الحركة ومنها الحركة الاستدلالية التي ينشط فيها التأسيس القبلي للتوليد والفهم. فقد تكون الأداة عقلية أو نقلية أو كشفية أو واقعية.. الخ، إلا أن كونها صورية يجعلها غير قادرة على تحديد المضمون الحقيقي للانتاج ومن ثم الفهم الا بوساطة ذلك التأسيس كآصرة معرفية تربط بينهما، وذلك لأنه يحمل آثارهما معاً. فهو عبارة عن منهج ورؤية في الوقت نفسه. فهو منهج تبعاً لقدرته العامة على التوليد والانتاج الذاتي، وهو رؤية باعتباره مفرزاً افرازاً معرفياً كقضية ما من القضايا. ومع هذا لا نعدّه عائداً الى الانتاج المعرفي الخاص، ذلك لأنه أصل هذا الانتاج وعلة نشوئه وتولده. فهو أصل مولد وفعّال يعمل كآصرة لربط الأداة المنهجية بالرؤية الخاصة للمعارف المنتجة. وهو بالتالي عبارة عن ((دينامو)) للتفكير؛ به يتحدد الطابع الأكسيمي المنظم للفهم والانتاج. ومن ثم فإنه يقع موقع الروح والجوهر بالنسبة للجهاز، إذ لولاه لكان من غير الممكن توليد معرفة أكسيمية اشتقاقية، فضلاً عن أن طاقته التوليدية الكامنة لا تنضب ولا تقبل النفاد. وعليه فإن بمعرفة الأصل المولد الفعال يمكننا إدراك روح الجهاز وطبيعة ممارساته الاستدلالية وربما مضامينه الكامنة أو المستنتجة عنه. فغالباً ما يكون الاستدلال موجهاً بصورة صريحة أو خفية باتجاه ما يتسق مع هذا الأصل. كما ويمكننا إدراك الشروط المعرفية له، إذ إنه لا يعرّفنا على طبيعة الانتاج المعرفي الذي يتسق معه ويلزم عنه منطقياً، بل ويعرفنا كذلك على ما هو شرط معرفي لتأسيسه البنيوي. يضاف إلى أن بمعرفته يمكن إدراك روح النظام العام الذي ينتمي اليه الجهاز المعرفي الخاص به(1).

هكذا إن القراءة الجوانية تنفذ إلى صميم الظاهرة المعرفية ـ لا خارجها ـ، حيث تفترض الظاهرة كقالب منطقي يحظى بدرجة معقولة من النظام الهندسي الأكسيمي طبقاً لما يفرضه المنطق الخاص بالأُصول المولدة للمعرفة والتي نطلق عليها (دينامو التفكير). الأمر الذي يغني ـ في مثل هذه الصورة ـ عن بحث التطورات المفصلية للظاهرة المعرفية ومراحل ظهورها وما يمكن أن تتأثر به من عوامل خارجية مختلفة عبر التاريخ. فليس من مهام ذلك المنهج الخوض في البحوث التي تجعل همّها محصوراً في التفتيش عن عوامل البيئة والتاريخ في نشأة الظاهرة المعرفية كأداة ورؤية، والتي تمنح ثقافة الوسط مصدر ظهورها بالكامل، وذلك على نحو آلي ومنعكس شرطي. فعيب هذه الدراسات المغالية هو أنها تعمل على قتل الروح الداخلية للظاهرة المعرفية. إذ مهما نجحت في الكشف عن العوامل التي لها أثرها في بناء وتأسيس بعض جوانب الظاهرة؛ فإنها تتصاغر أمام حقيقة ما تستضمره من مغنطة هندسية للنظام الأكسيمي الدال على النشاط الذاتي والجواني للأصل المولد الفعال. لذلك نحن نعتبر هذه الدراسات واقعة في ملابسة من الوهم والحقيقة، خصوصاً حينما يتستر خلفها دوافع آيديولوجية ((تأسيسية)). فلو سلمنا بصدق نظرية هذه الدراسات وما تفرضه من تأثير حاسم للوسط على كل من الأداة والمحتوى للفكر؛ لكان هذا مانعاً من دراسة هذا الفكر دراسة منطقية تكشف عن العقل الداخلي للظاهرة المعرفية الممغنطة بمجال الأصل المولد الفعال. وذلك أن وجود الاتساق بين المعارف الإنتاجية والأصل المولد يجعل العلاقة بينهما على فرض صدق تلك النظرية قائمة على محض الصدفة، إذ لا فرق هناك بين وجود الاتساق وعدمه، حيث بكلا الحالين يكون مرد تفسير هذه العلاقة إلى العامل البراني. وهو أمر لا يقبله منطق الترجيح في الإحتمالات، إذ أن وجود الاتساق له دلالة على التأثير المنظم للمحور المشترك، مما يعجز عن تفسيره عامل الوسط الخارجي، بخلاف التفسير المنبعث من الحكم الذاتي للظاهرة المعرفية بحسب منطق الأصل المولد كمحور مشترك قادر على توضيح وتفسير ذلك النظام والاتساق في العلاقة المعرفية.

ومع أنه قد يقال بأن ثبات الوسط كالبيئة الجغرافية أو العرق هو بمثابة المحور المشترك للتفسير وعلة وجود الوحدة والاتساق في الظاهرة المعرفية بين الأصل وفروعه.. إلا أن هكذا افتراض لا تتقبله حقيقة وجود التفاوت والاختلاف بين الأجهزة المعرفية وأُصولها المولدة حتى لدى الوسط والعرق الواحد. وبعبارة أُخرى، أنه لو صح مثل هذا الافتراض لكان من المناسب أن لا نجد تكثّراً في الأجهزة المعرفية ولا نحظى بأكثر من أصل مولد واحد يستحوذ على الوسط الثابت بكامله. لكن حيث أن في الوسط الواحد العديد من الأجهزة وأدواتها وأُصولها؛ ففي هذا دلالة على أن الوسط ـ على ما له من تأثير نسبي كبير ـ ليس هو العامل الحاسم ولا المحور المشترك الذي بامكانه تفسير الأكسمة في الظاهرة المعرفية وتبرير التعدد في الأجهزة وأُصولها الابستمولوجية.

وكمقارنة بين القراءتين ((الجوانية الأكسيمية)) و ((البرانية الوسطية)) نرى أن القراءة الأُولى تنحو بحسب منطقها الهندسي المغنيطي إلى إبراز الاتساق والوحدة في الظاهرة المعرفية والفكر. أما القراءة الأُخرى فهي إن لم تبعثر الـظاهرة المعـرفية طـبقاً لمقولة تأثير صيرورة التاريخ وتغيرات البيئة فإنها تعمل على تفسيرها طبقاً لمنطق الثبات في عامل الوسط البراني، إذ تجعل من وحدة هذا الوسط علّة لنشوء الوحدة والاتساق في الظاهرة المعرفية. مع أنه بحسب القراءة الأُولى حتى لو افترضنا أن المصادر الأُولى لنشأة أدوات الفكر وأُصولها المولدة تعود إلى الثقافة السائدة في الوسط، والتي هي بدورها تعود إلى ظروف الوسط ذاته؛ فمع ذلك فإن ما ينشأ عن تلك الأدوات والأُصول من معارف علمية مستجدة لا يصح اعتبارها منعكسة عن تلك الظروف أو عدها تعبر عن رد فعل ميكانيكي عن الوسط. ذلك أن من المعقول أن يبعث الوسط على أشكال ساذجة من التفكير غير المنتظم. كما ومن المعقول أن يكون أثره العام على مجمل العملية المعرفية، لا على تحديدها بنحوٍ آلي وحتمي مفصلاً بعد آخر. وكذا من المعقول أيضاً أن يبعث على صور معرفية آيديولوجية متمظهرة بمظهر الشكل العلمي المنتظم التفكير. لكن هذه الصور تظل متقلبة، وذلك حين تكون هناك دوافع سياسية أو اجتماعية أو غيرها تستبطن العملية المعرفية وتقبع خلف تأسيسها بالكامل. أما أن يبعث الوسط على صور متسقة ومنظمة من التفكير الأكسيمي؛ فهذا غير معقول، طالما أن الوسط وما يستضمره من دوافع آيديولوجية يخضعان إلى التغيّر والصيرورة باستمرار.

الآيديولوجيا بين تأسيس المعرفة وتوظيفها

يمكن القول ان العـلاقة بين المـعرفة الـعلمية والآيـديولوجيا هي ليـست دائـماً علاقة معبّرة عن ((الصدام)). ذلك أن الصدام لا يحصل الا إذا جاءت الآيديولوجيا على حساب الحقيقة والدقة في العملية المعرفية. فبعض الآيديولوجيات لها أهداف مستقبلية عامة تحفّز على الاثبات العلمي والدقة في العملية المعرفية دون أن تقف عثرة في طريقها. بل يمكن القول أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تكون هناك معرفة علمية دون أن يقبع خلفها دافع آيديولوجي يعبر عن غرض ما من الاغراض الانسانية، مهما كان نوعه وسعته، خصوصاً فيما يتعلق بالمعارف التي تلفّ حول دوائر الدراسات الانسانية.

على أن فضول الآيديولوجيا في العملية المعرفية لا يعني دخالتها في كافة مفاصلها وجزئياتها، بل يكفي أن يكون لها غرض عام تستفيده من مجمل العملية المعرفية. وعلى هذا الاساس يمكننا أن نحدد القيمة الإحتمالية للفضول الآيديولوجي في علاقته بجزئيات العملية المعرفية، وذلك من خلال ما تتمتع به هذه العملية من قدرة أكسيمية، حيث كلما كانت المعرفة شديدة المغنطة والارتباط؛ كلما كانت القيمة الإحتمالية للفضول الآيديولوجي ضعيفة. مما يعني أن الآيديولوجيا تخبو وتغيب حينما يكون هناك اتساق وارتباط بين مفاصل المعرفة ضمن المنظومة أو المذهب الواحد. إذ لا قدرة للآيديولوجيا على تأسيس الاتساق والارتباط بين المعارف الجزئية، الا إذا كان القصد منها عاماً هو ايجاد الاتساق ذاته، بغض النظر عن نوع المفاصل المعرفية، وهو مما لا يحدث الا نادراً. أو يحصل في بعض الأحيان هو أنها قادرة على تأسيس الأداة المنهجية أو حتى الأصل المولد طبقاً لأغراضها الخاصة، لكن مع هذا فكل ذلك ليس له علاقة بتأسيس المفاصل الجزئية للمعرفة المنظمة، مفصلاً بعد مفصل وجزئية بعد أُخرى، فتأسيس الآيديولوجيا لهذه الخصوصية أكسيمياً هو مما لا يتفق مع منطق حساب الإحتمالات، إذ يصبح تفسير الارتباط والمغنطة بين المعارف قائماً على محض الصدف والاتفاقات بالقياس إلى مسبباتها من الاغراض الآيديولوجية المتنازعة. وبالتالي ليس من السهل على الغرض الآيديولوجي أن يفسر ـ كمحور مشترك ـ جميع قضايا المذهب أو المنظومة المعرفية الممغنطة بعضها بالبعض الآخر حسب الاتساق. فبحسب منطق الإحتمالات أن من المعقول على الغرض الآيديولوجي أن يشكل محوراً لتفسير قضية ما أو قضيتين معرفتين بدرجة معتبرة من الإحتمال، الا أن مع إزدياد القضايا الممغنطة برباط الشد والأكسمة فإن هذا المحور يصبح عاجزاً عن أن يحظى بدرجة معتبرة من القيمة الإحتمالية، الأمر الذي يفقد جدارته في التفسير ويكون غير ثابت، مثلما لا تثبت كتابة جملة منتظمة المعنى بافتراض أنها جاءت عن طريق الصدفة، كأن يُفترض أنها حدثت نتيجة لهو طفل لا يعرف القراءة ولا الكتابة.

على أنه إذا لم يكن للآيديولوجيا حضور على مستوى تأسيس مفاصل الـمنظومة الـمعرفية وجزئياتها المتسقة؛ فإن من الممكن لها أن تحضر على صعيد توظيف تلك المفاصل والجزئيات المعرفية لأغراضها الخاصة. مما يعني أن هناك فارقاً بين التأسيس الآيديولوجي للمعرفة وبين التوظيف لها، الأمر الذي يحل لنا ذلك ((الازدواج)) الذي حلّ لدى الكثير من المذاهب والمنظومات المعرفية التي ظهرت وترعرعت خلال تاريخ الفكر الإسلامي. فمع أن هذه المذاهب لم تمارس في الغالب ظاهرة النقد الذاتي، وهي الظاهرة التي لها علاقة عكسية بالآيديولوجيا، حيث أنها تغيب مع حضور النقد وتحضر مع غيابه، وبالتالي فإن ضعف حضور النقد الذاتي في التراث له دلالة على حضور الآيديولوجيا، لكن مع ذلك يمكننا أن نعتبر في الوقت نفسه أن وجود الكثير من المنظومات في تراثنا لم يكن له صلة بالآيديولوجيا بحسب المعنى الذي سلف ذكره، وذلك من حيث أنها تحمل صفة المغنطة والاتساق. فلا يمكننا مثلاً أن نردّ مقولات المعتزلة في العدل واللطف والحسن والقبح العقليين وحرية إختيار الانسان وغيرها من المقولات؛ إلى أغراض آيديولوجية ببعثرتها وانتزاعها عن انتظامها الخاص في المنظومة المعرفية. كما لا يمكننا أيضاً أن ننتزع مقولات الأشاعرة عن النظام الخاص بها باضفاء سمات الآيديولوجيا عليها، كمقولة الكسب وقدم القرآن وجواز تكليف ما لا يطاق والحسن والقبح الشرعيين وما اليها من المقولات الأُخرى. وكذا الحال مع المقولات الفلسفية والعرفانية في نظرية الفيض والحتمية ووحدة الوجود وقدم العالم وتأثير العالم العلوي على السفلي وما اليها. ذلك أن أيّ عملية تفكيك بين المقولات المتسقة تفضي إلى الاصطدام مع منطق حساب الإحتمالات كما مر معنا.

وبهذا نصل إلى بيت القصيد من معنى وجود الازدواج في حضور وغياب الآيديولوجيا لدى الكثير من المذاهب المعرفية في تاريخ الفكر الإسلامي. فعندما نقول أنها حاضرة غائبة في نفس الوقت، أنما نعني أنها حاضرة على مستوى توظيف المنظومة المعرفية بما تحمله من جوانب اتساقية مشدودة برباط الأصل المولد، الا أنها في الوقت نفسه تعد غائبة على مستوى التأسيس داخل المنظومة المتسقة بنظام المغنطة والارتباط.

وبذلك ندرك أهمية التعرف على الأصل المولد وعلاقته بإنتاجه المعرفي، فهو عبارة عن مصدر التشريع والعقل المنتج في الثقافة والفكر للجهاز المعرفي. مما يعني أن أي عملية لفهم التراث لا تأخذ بهذا النظر من الاعتبار تظل ناقصة ومشوشة. وأقل ما يمكن أن يقال في المقارنة بين هذه الطريقة ((الجوانية)) لبحث التراث المعرفي، وبين الطرق الأُخرى ((البرانية)) التي تركّز على فاعلية ونشاط العوامل الخارجية كأساس لإنتاج مفاصل الفكر والظاهرة المعرفية؛ هو أن هذه العوامل لما كانت متغيرة وغير ثابتة؛ لذا فإنها لم تعد موجودة اليوم كما كانت في السابق، ومع ذلك لا يلاحظ هناك تأثير على ثبات حالات العلاقات المنطقية التي تربط ثنايا الفكر والظاهرة بعضها بالبعض الآخر. يضاف إلى أن الكثير من مفاصل التراث المعرفي رغم أنه لم تعد لها اليوم تلك الحاجة والقيمة كما كانت بالأمس بحكم ظروفها الخاصة، الا أن طريقة المعرفة والتفكير ـ رغم ذلك ـ لا زالت حيّة حاضرة تمد يد التوجيه إلى عقلنا الحاضر باستمرار، فهي فعّالة لا تموت بموت ما أنتجته من فكر ومعرفة، الأمر الذي يفرض علينا قراءة التراث المعرفي طبقاً لافتراض أوله كآخره، إذ بعضه مستضمر في البعض الآخر ضمن دوائر خاصة، وكل ما يظهر من أفكار ومعارف إنما يعبّر عن ولادة جديدة تقوم بها العقول المولّدة داخل هذه الدوائر.

هكذا فالطريقة الأكسيمية الجوانية تنهج إلى قراءة التاريخ الفكري للتراث طبقاً لتحديد ((الوحدات المعرفية)). فهي لا تعير أهمية إلى الافتراض القائل بوجود وحدة للتاريخ كما تحاول بعض الاتجاهات البرانية أن تثبتها. فكل ما يهمّها هو النظر إلى المعرفة كوحدة قائمة في ذاتها، الأمر الذي يجعلها تنظر إلى التاريخ كتشكيلة قائمة على وحدة المعرفة لا العكس. ومن الواضح أن بين الاعتبارين فارقاً كبيراً حتى مع افتراض أن مقولة وحدة التاريخ يمكنها أن تبرر ثبات الوحدة المعرفية. ذلك أن هذا الافتراض لا يجعل للوحدة المعرفية استقلالها الذاتي الخاص، ولا النظر الجواني الدينامي، فالذي يشغل اهتمامه في الأساس هو العلّة والأصل العائد إلى وحدة العامل البراني، إذ ينظر إلى هذا العامل كعلة مؤثرة وحاسمة تفضي بالأفكار المعرفية إلى أن تتخذ طابع التطور والوحدة والاستمرارية خلال التاريخ. أي أن تطور الفكرة ووحدتها واستمراريتها المنظّمة تحدث نتيجة التطور التاريخي أو العامل البراني، فبوحدته واستمراريته وارتباط أحداثه يتحقق الإتصال والتطور المشدود بعضه بالبعض الآخر في الفكر داخل الظاهرة المعرفية.

مشروع الجابري والتحليل البراني لوحدة العقل

إن أهم الدراسات الحديثة التي جسّدت النهج البراني بشكله الأخير هي تلك التي تعود إلى الاستاذ الجابري. ذلك أنها اتخذت من وحدة العامل الجغرافي والاستمرارية التاريخية أساساً لتعليل وحدة العقل العربي الإسلامي، فتوصلت إلى أن مردّ آلية البنية والثبات تعود إلى وحدة التكوين والمنشأ التي تحددها البيئة العربية، ومن ثم تجسّدها الصيرورة التاريخية متمثلة بالعامل السياسي. مما يعني أن هذه الدراسة قد جمعت بين التحليلين البيئي والتاريخي كأساس لإثبات الوحدة المعرفية، وعملت على المزاوجة بين ثلاثة أنواع من الطرح؛ هي الطرح البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الآيديولوجي(2).

ففي الجزء الأول من مشرع نقد العقل العربي (تكوين العقل العربي) كرّست الدراسة جهدها لممارسة التحليل التاريخي والكشف عن الاستمرارية التاريخية كأساس لتجسيد الوحدة المعرفية. وكما يقول الجابري: ((نحن مطالبون إذاً باعادة كتابة تاريخنا بإحياء الـزمنيـة والـتاريخيـة بين مفاصـله وفي أصولـه وفروعـه))(3)، مستفيـداً في ذلـك من الـصيـرورة التاريخية للعامل السياسي البراني.

أما في الجزء الثاني من المشروع (بنية العقل العربي)؛ فقد كان الجهد منصباً باتجاه التحليل الجغرافي ومفرزاته كأساس لتحديد الوحدة البنيوية المتمثلة بطبيعة العقل العربي. فقد حاول الجابري في طرحه البنيوي أن يثبت لنا تاريخاً قائماً على الوحدة المعرفية، لكنها وحدة مؤسسة على العامل الجغرافي ومفرزاته اللغوية. فهو لم ينظر إلى التاريخ العربي من أنه تاريخ فرق ومقالات وطبقات، بل رآه تاريخاً استمرارياً ووحدوياً قائماً على أساس بناء الـرأي(4)، ومن ثم قـرأ الـفـكر الـعـربي الإسلامي بوصفـه حامـلاً لأدوات مـشتركـة ثابتـة تـضم مختلف الاتجاهات المعرفية، مما جعله يتجاوز اختلاف موضوعات هذا الفكر ليغور إلى صميم البنية المشتركة للعقل كوحدة معرفية تسترها الاختلافات الظاهرية من الموضوعات. فقد أخذت قراءته الجديدة ((تنظر إلى الأجزاء من خلال الكل وتعمل على إبراز الوحدة من خلال التعدد وتعتمد في التصنيف البنية الداخلية وليس المظاهر الخارجية وحدها))، كما أنها تبرز ((جوانب الإتصال والارتباط، بل الوحدة العضوية بين قطاعات تعتبر في التصور السائد قـطاعات مستقلـة منفصلـة بعضها عن بعـض))(5). وبهذا فإنه استخدم منظاراً كلياً في قراءته لتطور الثقافة العربية، فنظر إلى فروعها مثل النحو والفقه والكلام والبلاغة والتصوف والفلسفة وغيرها ((كغرف في قصر واحد متصلة مترابطة يقود بعضها إلى بعض عبر أبواب ونوافذ، وليس كخيام منعزلة مستقلة منصوبة في ساحة غير ذات سور ولا سياج))(6). وهو مع ذلك لم يُخفِ كون هذه النظرة الأكسيمية الجوانية أساسها منبعث عن الطابع الجغرافي ومفرزاته الخاصة.

هكذا فتلك الدراسة تتناول منوالين متواصلين يستحقان النقد. الأول يتعلق باثبات وحدة التاريخ العربي واستمراريته؛ كموضوع يتحقق فيه البناء المعرفي الوحدوي. اما الثاني فيتعلق بالدور الذي أُعطي للعامل الجغرافي ومفرزاته في تكوين العقل العربي وتحديد بنيته أو وحدته المعرفية. فقد جاء كلا الطرحين ـ الذين شغلا الجزئين الأول والثاني من مشروع نقد العقل العربي على التوالي ـ على حساب المنطق الأكسيمي للمعرفة، ولو من حيث لم يرد المشروع ذلك، لأنه قام أساساً لتثبيت هذا المنطق، كما شهدت عليه محاولته الخاصة بطي تاريخ الفكر العربي ضمن الوحدة المعرفية المتمثلة بالعقل العربي. لكن تأسيسه لهذه الوحدة وإقامتها على وحدة التاريخ والجغرافيا جعلته يضطر إلى أن يمارس حالة الهدم والتفتيت فيها، خصوصاً وقد كان للعامل الآيديولوجي دوره في هذا المجال على ما سيتبين لنا لاحقاً..

المشروع وصناعة الوحدة في التاريخ

الذي يطلع على الجزء الأول من مشروع (نقد العقل العربي)؛ يرى أن هناك إرادة قوية همّها السعي نحو إثبات وجود نوع من الاستمرارية والتطور المعرفي كسلسلة متصلة من الحلقات بعضها يفسّر البعض الآخر ويوضحه، إنطلاقاً لا من النظر إلى ذات النظام المعرفي وآلياته الجوانية الخاصة، بل من الظروف البرانية التي تحيط بأجواء الفكر من هنا وهناك، وكأن هناك حتمية خارجية تعمل على إيجاد الدينامية والتنظيم في الفكر داخل الظاهرة المعرفية. وربما كان هاجس هذه الإرادة نابعاً عما رآه صاحبه من الاوروبيين وهم يكتبون تاريخهم على صورة الوحدة والاستمرارية بشكل حقب بعضها يفسر البعض الآخر ويؤسسه. الأمر الذي أفضى بذلك التفكير إلى أن يفبرك لنا تاريخاً معرفياً لا نجده الا في عالم الخيال والأحلام، وأن يفرض على نفسه أنواعاً من الإسقاط والتأويل والأدلجة.

فعلاً إن شاغل النهضة هو الهاجس الآيديولوجي الذي كان وراء تأسيس النظر للتاريخ في مشروع الجابري. فهو يرى أنه من غير الممكن التحرر من الآيديولوجيا في الدراسات الانسانية، خصوصاً فيما يتعلق بالدراسات التراثية(7). وهو بهذا الهاجس كان يطالب بإعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي من حيث إحياء الزمنية والتاريخية فيه؛ تعويلاً على العامل السياسي. فالثقافة في نظره عبارة عن عملية سياسية، وإن الأفكار عبارة عن ردود فعل لها(8). وبذلك جرى توظيف لمختلف التيارات المعرفية للحساب ((السياسي))، الأمر الذي جعل المشروع يعتبر التيارات المعرفية قد عملت على تأدية الأغراض الآيديولوجية، سواء من حيث التأسيس المعرفي أو التوظيف. فأصبحت مفاصل الفكر العربي تجري في وعاء الوحدة المعرفية طبقاً للتأثير الحاسم للسياسة وأغراضها الآيديولوجية؛ على كلا الصعيدين التأسيسي والتوظيفي.

المشروع وتقسيم تاريخ الثقافة العربية

أول ما يلاحظ هو أن الجابري قام بتقسيم تاريخ الثقافة العربية إلى لحظتين اعتبرهما منفصلتين بفاصل ((القطيعة الابستمولوجية)). ويُعدّ هذا المفهوم من أهم المفاهيم التي وظّفها في المشروع خدمة لأغراضه الآيديولوجية. وهو مفهوم يرجع تاريخ استخدامه إلى فيلسوف العلم الفرنسي (باشلار)، ذلك أنه أول من استخدمه في مجال العلوم الطبيعية، معتبراً أن العلم لا يتطور بصورة إتصالية تراكمية، بل يتحول بطريقة إنفصالية فيها تسود المفاهيم الجديدة تاركة خلفها تلك المفاهيم التي سبقتها. وقد أُستخدم المفهوم في مجالات أُخرى غير علمية، إذ طبقه الفيلسوف الفرنسي (التوسير) على العلاقة بين هيجل وماركس، إذ كان هذا الأخير تابعاً للأول، حتى إنتهى به الأمر إلى أن ينقلب عليه منهجياً بعد دراسته وتحليله للاقتصاد الرأسمالي، كما في كتابه (رأس المال). الأمر الذي أدى بالجابري إلى أن يقوم هو الآخر بعملية توظيف وتطبيق للمفهوم على تاريخ الفكر العربي الإسلامي، معتبراً أنه يمكنه بذلك أن يصنع تاريخاً لفلسفة لا تاريخ لها، وهي الفلسفة العربية، من حيث أنها كانت قراءات مستقلة ومتوازية لـفلسفـة معينـة(9). ذلك أنه بمفهوم الـقطيعة جعل الـفكر الـعربي منقسماً إلى لحظتين؛ إحداهما مشرقية ترتبط بكل من الاسماعيلية والفارابي وابن سينا والسهروردي والغزالي وصدر المتألهين ثم داخل الفكر الايراني إلى اليوم الحاضر، بينما ترتبط اللحظة المغربية بكل من إبن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن خلدون والشاطبي، وكل من يقوم على النموذج الأرسطي باستخدامه طريقة ((البرهان)) وتحصيل القطع في النتائج من خلال التسليم بمبدأ السببية الحتمية. وهو بذلك المفهوم يقضي على ما هو مسلم به من القول بأن الفلسفة في الأندلس هي استمرار للفلسفة في المشرق. فبرأيه أن الفلسفتين متقاطعتان بكل من الاشكالية والمنهج والمفاهيم والرؤية(0 1).

وإذا كان الجابري في مشروع (نقد العقل العربي) قد جعل للاعتبارات السياسية دورها الرئيسي لخلق وتجسيد الوحدة للتاريخ المعرفي؛ فإنه قبل ذلك، وتحديداً في كتابه (نحن والتراث)، جعل الدور المؤثر على الفكر العربي الإسلامي محدداً بالعلاقات المادية. لكنه سواء بهذا العامل أو بذاك؛ قد عمل على هدم وتفتيت صميم البُنى الحقيقية للفكر وأنظمته الذاتية، سواء في لحظته المشرقية أو المغربية، أو حتى في العلاقة التي تربطهما معاً، والتي صوّرها بأنها علاقة إنفصال لا علاقة إتصال وارتباط.

القراءة التأويلية للحظة المشرقية

إن من أبرز الأمثلة على القراءة التأويلية للحظة المشرقية تلك التي لاحت الفارابي. ففي كتاب (نحن والتراث) لا يبرئ الجابري قراءته لفلسفة الفارابي السياسية الدينية عن الطابع الآيديولوجي، بل وينـفي أن تكـون هـناك قـراءة دون أن تقع في هذا الـمستنقع(1 1). فهي قراءة واقعة تحت مظلة منهج الإسقاط المادي على الفكر العربي الإسلامي. فلقد كان الفارابي يجعل من الدين مثالاً تابعاً وحاكياً لعالم العقل أو الفلسفة، مما يتسق تماماً مع البناء العام للجهاز المعرفي الفلسفي الذي يقوم على فكرة علاقة الشبه بين الأصل وما يتفرع عنه والمسماة بـ ((السنخية)) كأصل مولّد ورابط لمختلف أنواع المعرفة الفلسفية بما فيها تلك العلاقة الخاصة التي تربط الدين بالعقل أو الفلسفة. الأمر الذي يبطل تلك الإسقاطات القسرية التي لا تأخذ بنظر الاعتبار المنطق الجواني لذلك الجهاز، ومنها التفسير الذي يستمد غذاءه وقواه من العلاقات المادية والسياسية ليسقطها قسراً على دراسة الفكر العربي الإسلامي، مثلما هو الحال في نظرية الفارابي حول علاقة الدين بالفلسفة، وكذلك الحال في سائر أعماله كما في نظريته حول المدينة الفاضلة، وأيضاً نظريته حول التوحيد بين الحكيمين (افلاطون وأرسطو) أو الفلاسفة عموماً. فجميع هذه النظريات قد قُرأت بطريقة تمّ فيها تجاوز المنطق الأكسيمي الذي فيه تُردّ الفكرة إلى أصلها ونظامها الكلي ضمن الجهاز المعرفي.

فالجابري يعتبر أن المعلم الثاني قد جاء بعد الثورات واستقلال الكثير من الإمارات ليعبّر في مدينته الفاضلة عن تطلعات القوى الجديدة النامية والمهددة في آن واحد. وبحسب رأيه أن الفارابي حين يجعل من ((رئيس المدينة قطب الرحى وعندما يرفع منزلته كمنزلة السبب الأول لسائر الموجودات فإن عمله ذلك ليعبر عن الرغبة في قيام حكم مركزي يسود فيه العقل، ويكون قادراً على الإمساك بجميع السلطات، وبالتالي توجيه المجتمع العربي وتوحيده فكرياً وسياسياً واجتماعياً)). ومن ثم فهو ينظر إلى أن مشروع الفارابي للتنظيم الاجتماعي هو الذي أوحى له بالنظام الهرمي على الصعيد الميتافيزيقي، كظاهرة من الظواهر المعروفة للقلب الآيديولوجي(2 1).

وطبقاً لهذا النمط من التحليل الآيديولوجي البراني، فإن بعض الباحثين اعتبر أن فلسفة الفارابي بجميع مواضيعها تتبع نظريته في السياسة. فالمستشرق (بول كراوس) يصرح بأن ((النظرية السياسية تهيمن على فكر الفارابي لدرجة أن باقي الدراسات الفلسفية (ولا أقصد الإلهيات والأخلاق والسايكولوجيا فحسب، بل أعني الطبيعة والمنطق كذلك) تتبع تلك الـنظريـة وتـخضع لـها))(3 1). وعلى هـذا الـمنـوال من الـتحـليل اعتبر صاحب كـتاب (الـفلسفة السياسية عند الفارابي) أن عملية الجمع التي قام بها ذلك الفيلسوف بين رأيي الحكيمين (افلاطون وأرسطو) إنما كان لغرض سياسي هو توحيد الفلسفة من أجل توحيد المدينة(4 1).

وقد سبق لجميل صليبا أن أبدى تفسيراً برانياً خصّ به فلسفة إبن سينا، حيث رأى أن بعض مضامينها قد عكس ما كانت عليه الحياة السياسية آنذاك. فنظريته الخاصة بالإله المجرد والبعيد عن ((الحياة والحركة والرحمة والمحبة وغيرها من الصفات التي نجدها في الأديان)) لم يُنظر اليها من حيث البعد الجواني لمنطق الجهاز المعرفي للفلسفة، بل اعتبرها كافراز من افرازات الانعكاس عن الحياة السياسية آنذاك. فالإله الذي يتحدث عنه الشيخ الرئيس هو انعكاس عما في نفسه من صورة الخليفة العباسي بعد إنحلال الخلافة العباسية وصيرورتها إلى إمارات ودويلات شبه مستقلة ((إذ كان الخليفة مقيماً في بغداد، لا يعرف ما يفعله السلاطين في ممالكهم المختلفة. فكان الخليفة هو الواحد الذي لا يتحرك، والخير المطلق الذي لا يدرك، والمبدأ الأول الذي تتجه نحوه العقول، وكان الأُمراء والسلاطين عقول مستقلة عنه، ومتصلة به، لأنها تشاركه في ابداعه، وتستمد الخير منه. أن كل كوكب في إلهيات إبن سينا ملك يتحرك في السماء تسبيحاً لله تعالى، كما يتحرك السلاطين والأُمراء في خدمة الخليفة المقيم في بغداد. فكأن السماء دولة فُصلت القوة المدبرة فيها عن القوة المحركة، وكأن الحياة السياسية نُظّمت على صورة الأفلاك وحركاتها. وعلى ذلك فليست أفكار إبن سينا رؤيا من رؤى السماء، بل هي أضغاث أحلام مفعمة ببخار الأرض))(5 1).

والواقع إنه لو صدق هذا الاستنتاج الذي أبداه جميل صليبا لكان قد صحّ لا بخصوص فلسفة إبن سينا ولا حتى الفارابي ومن جاء بعدهما، بل للاح الفلسفة الاغريقية أيضاً، باعتبارها قائمة على ذلك المنطق من التجريد الالهي. وعليه، هل يسعنا أن نقول بأن الفلسفة الاغريقية قد أنعكست عن الحياة السياسية للخلافة العباسية قبل ولادتها بقرون طويلة؟!

أما بخصوص الفارابي فهو كإبن سينا لم يخرج عن نهج الاتساق للمنطق الجواني للجهاز المعرفي الفلسفي ولم يقم بأي عملية من عمليات القلب الآيديولوجي السياسي. فكل ما هنالك هو أنه عمل آيديولوجياً على توظيف ذلك المنطق لخدمة أغراضه السياسية، لا أنه قام بتأسيس الآيديولوجيا على حسابه. فقد سبق لنا أن ميّزنا بين نمطين من الآيديولوجيا؛ أحدهما عبارة عن التوظيف المعرفي المغرض، ميزته هو أنه لا يأتي على حساب منطق المعرفة العلمية فيقلبه، أما الآخر فهو التأسيس المعرفي الذي يعمل على هدم وقلب ذلك المنطق. وقد قام الفارابي فعلاً بعملية التوظيف، لا التأسيس كما توهم الباحثون. فكل ما فعله هو أنه قام بسحب بساط منطق ((السنخية)) ليتم له تطبيقه على كل من الدين والسياسة، بل وعلى توحيد الفلاسفة، فضلاً عن الوجود، حيث سبقه في ذلك الفلاسفة أنفسهم. وهو بهذا العمل لم يمارس لعبة القلب الآيديولوجي ولا التأسيس المعرفي (الآيديولوجي)، بل وظّف الأصل المولد للجهاز المعرفي الفلسفي ـ المتمثل بالسنخية ـ لمزيد من الإنتاج المعرفي خدمة لبعض الأغراض التي حلم بها أو التي طمح إلى تحقيقها دون أن يتجاوز المقاييس الفلسفية المعترف بها على ما فصّلنا ذلك في بعض البحوث(6 1).

هذا فيما يخص ((اللحظة المشرقية))، أما ((اللحظة المغربية)) فقد أُغمرت بكاملها في بحر القراءة الآيديولوجية بما فيها من إسقاطات قسرية غرضها تحقيق تاريخ معرفي موحّد قائم على الاعتبارات السياسية. ذلك أن صاحب مشروع (نقد العقل العربي) أقام علاقات وامتدادات بين مفكري المغرب والأندلس لأدنى مشابهة ومناسبة، ليثبت وجود وحدة واستمرارية في التاريخ المعرفي لهذه اللحظة. فربط بين كل من إبن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون والشاطبي، وضمهم جميعاً تحت سقف واحد من النظام المعرفي، بالرغم مما يحمله بعضهم إلى البعض الآخر من منافاة وتضاد على مستوى طريقة التفكير وروحها المعرفية. فطبقاً لتفسيره السياسي رأى أن آيديولوجيا دولة الأندلس كانت توظّف المشروع الظاهري لإقصاء العرفان بدءاً من إبن حزم وحتى إبن رشد(7 1). وتصور أن حركة التجديد الضرورية للأمويين في الأندلس جعلتهم يتجاوزون ما تبنّاه خصومهم من العباسيين والفاطميين، وحيث أن ما تبنّاه العباسيون من آيديولوجيا هي تلك التي تقوم تارة بمحاولة الجمع بين النظام البياني ـ القائم على علوم الشريعة واللغة ـ والنظام البرهاني الفلسفي، وأُخرى بالجمع بين البيان والعرفان، أما الفاطميون فقد كانت آيديولوجيتهم قائمة على العرفان؛ لذا فإن حركة التجديد والتجاوز لدى الأمويين في قبال خصومهم أخذت تبحث عن طريقة مختلفة لترتيب العلاقات بين تلك الأنظمة الثلاثة للفكر العربي الإسلامي (البياني والبرهاني والعرفاني)(8 1).

فابتداءاً كانت هناك مطالبة بترك التقليد والرجوع إلى الأُصول، سواء في الفلسفة بالرجوع إلى أرسطو، أو في الفقه من خلال الرجوع إلى القرآن والسنة وترك تقليد المذاهب الفقهية، أو في اللغة عن طريق الرجوع إلى لغة العرب ونبذ القياس والتعليلات. لكن الأهم من ذلك كله هو ما صوّره الجابري من أن السياسة الأموية أفضت إلى أن يكون محور التفكير قائماً على أساس النظام البرهاني لا غير، أي أن أصحاب اللحظة المغربية أصبحوا ينتمون إلى المنطق الأرسطي ضد النزعتين المشرقيتين البيانية والعرفانية. فبرأيه أنه قد أنبنت طريقة هؤلاء على نقد مبادئ القياس والتجويز والعرفان والعادة وإمكان الكرامات، وشُيدت في قبالها مفاهيم بديلة تحرر فيها العقل من سلطات اللفظ والأُصول والتجويز، وهي السلطات الثابتة التي بعضها يدعو إلى البعض الآخر والتي تحكّمت ولا زالت تتحكم بالنظامين المشرقيين البياني والعرفاني. أما جوهر النظام البرهاني فهو أنه يسـتمد طاقته من منطـق الـبرهان الأرسطي بالإرتكاز إلى مفهوم السببية الحتمية الذي به تثبت أن الأشياء الخارجية طبائع لا تقبل ((التجويز))(9 1). فالـجابري يـعـد مسألة الـسببية الـحتمية هي ذاتها مسألة الـعقل، حـيث إنكارها يعني إنكاراً للعقل ذاته، الأمر الذي يميز طريقة الفلاسفة عن غيرهم من ذوي النزعات الأُخرى البيانية والعرفانية(0 2). لهذا فسنركز على هذه النقطة بالخصوص لنكشف عن زيف ما تبناه هذا المفكر.

الخلط بين مفكري اللحظة المغربية

بـادئ ذي بدء إن نـظرية الجابري لما كان قـد ركـبهـا هـاجس بـناء الـوحدة والاستـمرارية التاريخية للحظة المغربية طبقاً للتفسير السياسي للدولة في الأندلس على ما سبق أن عرفنا؛ فإن ذلك اضطره إلى أن يخلط بين مفكري هذه اللحظة ويضمهم جميعاً تحت سقف النظام البرهاني الأرسطي مع كل من الفيلسوفين الأندلسيين؛ إبن باجة وإبن رشد، رغم أن بعضهم ينتمي صراحة إلى ((النظام البياني)) أو المعياري، وبعض آخر ينتمي إلى النظام العرفاني. فإبن حزم والشاطبي وإبن خلدون ينتمون إلى النظام الأول، فهم على الأقل لم يركنوا إلى سلطة مفهوم السببية الأرسطية كما توهّم الجابري، بل خضعوا تحت سلطة أُخرى، هي التجويز ((البياني)) أو ((المعياري)). كذلك فإن إبن طفيل لا ينتمي إلى النظام البرهاني، بل هو صريح الميل والانتماء إلى العرفان، كما سيمر علينا تفصيل ذلك فيما بعد.

أ ـ إبن حزم والإسقاط الأرسطي

فإذا بدأنا بابن حزم، نجد أنه وإن كان قد اعتـمد كثـيراً على النتاج الأرسطي، الا أنه لم يتخذ من المنظومة الأرسطية أصلاً لمذهبه. فما فعله إنما هو توظيف المنطق لأغراضه المعيارية المتعلقة بتأسيس النظر القبلي وفهم الخطاب أو الشريعة. وهو يختلف مع الطريقة الفلسفية اختلافاً جوهرياً من حيث موقفها من علاقة السببية التي تشكل صلب التفكير الفلسفي. فإذا كانت هذه العلاقة عند الفلاسفة تتضمن معنى الضرورة والحتمية والمناسبة بين العلة والمعلول؛ فإن الأمر عند إبن حزم على العكس. لكن لا يعني ذلك أنه يتجه اتجاهاً أشعرياً استناداً إلى تفسير العادة. إذ لا ينكر أن يكون للطبيعة طبائع وعلاقات سببية ثابتة، في الوقت الذي لا ينظر إلى هذه الطبائع والعلاقات نظرة الفلاسفة اليها. فنظرية هؤلاء تتضمن الاعتقاد بوجود الضرورة والحتمية في الطبائع والعلاقات، مما يعني استحالة خرق قوانين الطبيعة وعلاقاتها. أما لدى إبن حزم فإن ثبات الطبائع والعلاقات لم ينتج عن الضرورة والحتمية كما يقول الفلاسفة، بل هو نتاج ((أمر الله)) كسنّة ثابتة غير قابلة للتبديل والتحويل إلا بأمره. لهذا أجاز المعجزة وخرق القوانين، من حيث أنها متوقفة على أمر الله دون غيره من الخلائق، فهو الجاعل وهو الخارق. لذلك فهو ينفي أن تكون هناك إمكانية لتغيير الطبائع بعد أن جعلها الله ثابتة، فيقول: ((إن هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز لم يزل عدماً غير موجود، وباطلاً لم يتحقق ساعة من الدهر. فمن المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً، وبين قلب انسان إلى أن يصير حماراً، أو قلب حمار إلى أن يصير انساناً، وهكذا ممتنع البتة))(1 2). فالامتناع عند إبن حزم ليس له علاقة بالخالق، حيث كل الأُمور موكولة اليه، وهو وحده القادر على خرق ما ثبته كأمر معجز(2 2).

وهنا يبرز دور إبن حزم وغرضه من ذلك التنظير. ذلك أنه استهدف تأسيس الخطاب من الخارج عبر إثبات صدق النبوة. وعلى الأقل إنه قد أحكم هذا الإثبات وجعله أمراً عقلياً فاعتقد بصحة ما يحصل من خرق للطبائع في العالم، مقرراً أن العقل يستحيل عليه تقبل أن يكون المخلوق قادراً على خرق الطبائع؛ كقلب العصا حيّة تسعى، وشقّ البحر، وإحياء الموتى، وخروج الناقة من الصخرة، وعدم احتراق الانسان وهو يُرمى في النار، واشباع عشرات الناس من صاع شعير، ونبعان الماء الكثير من بين أصابع انسان لإرواء عسكر بكامله. فكل هذا يدل على صدق النبوة وصحتها(3 2).

على هذا فإنه ليس كالفلاسفة الذين لا يملكون ما يمكن تبريره من أمر المعجزة، باعتبار أن علاقات الطبيعة وطبائعها قائمة عندهم على الضرورة والحتمية. كما أنه ليس كالأشاعرة الذين ليس باستطاعتهم إثبات النبوة عبر المعجزة، وذلك لأن الأشياء عندهم ليس فيها طبائع ثابتة ولا علاقاتها قائمة على الثبات.

ب ـ الشاطبي والإسقاط الأرسطي

ونفس الشيء مع الشاطبي، فهو أيضاً ينتمي إلى النظام المعياري ولم يفكر ضمن دائرة التفكير الفلسفي، ولا يحمل أي أساس من أُسس هذا التفكير، بل على العكس إنه ينقد طـريقـة الـفـلاسفـة ويعدّها مذمومة شرعاً(4 2). وإذا ما كان هذا الـفقيـه الـمالـكي استخدم مبدأ الاستقراء للتوصل إلى فهم كلي لأُمور الخطاب؛ فإن ذلك لا يؤثر في الأمر شيئاً ولا يخرجه عن خصوصيته المعيارية. إذ الأداة التي يستعين بها هي أداة صورية. وغالباً ما كان أصحاب هذا النظام يستخدمون مثل هذه الأداة لأغراضهم المعيارية، ومع ذلك لا يصح أن نعتبرهم من ذوي الاتجاهات الفلسفية أو الوجودية. ذلك أن عملية الإنتماء لا تتحدد بالأشكال الصورية البحتة التي يمكن توظيفها هنا أو هناك، إنما تتحدد بالتوجهات التي تدفع بها الأُصول المعرفية المولدة، من حيث هي رؤية ومنهج في الوقت نفسه. فابن حزم مثلاً يخضع تحت حكم المنهج الظاهري البياني، وذلك من حيث أن سلطة اللفظ في نص الخطاب هي المتحكمة في اتجاهه طولاً وعرضاً، بالرغم من أنه يستخدم الطريقة الاستقرائية في التفتيش عن تعزيز معنى اللفظ داخل الحقل البياني، وذلك ضمن ما يتعلق بفهم الخطاب، ونفس الشيء يجري فيما يتعلق بالنتاج المعرفي الذي يقيمه على ذلك الفهم. فهو يوظف الاستقراء والمنطق كآلية صورية وليس كمعرفة قبلية تقبل التوليد والإنتاج. ونفس هذا الحال ينطبق على ما فعله الشاطبي.

ويخطئ الجابري حيث يرى أن من موارد نزعة الشاطبي البرهانية هو اتباعه لطريقة مقاصد الشريعة، إذ حاول أن يجد لها رباطاً بإبن رشد الذي طبقها على العقيدة، فظن أن الشاطبي أخذها عنه وطبقها على الشريعة، موحياً الى أنه لا يوجد لها قبل هذا الفيلسوف ذكر واعتبار(5 2). وهو بهذا يجهل أو يتجاهل أن هذه الـمقاصد سبـق أن أثارها إمام الـحرمين الجويني، ثم جاء الغزالي (المشرقي) الذي ينتمي بنظره الى فئة ((اللامعقول)) أو ((العقل المستقيل)) فأثارها بقوة في مجال الشريعة وليس في مجال العقيدة كما لدى إبن رشد. فمما يقوله بهذا الصدد: ((مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم))(6 2).

إضافة إلى أن المفهوم الذي حمله الشاطبي عن السببية هو المفهوم الأشعري باعتباره أشعرياً. إذ عنده أن المسببات من الله، لا من فعل المتسبب(7 2). وبالتالي فهو يفسر السببية طبقاً لـ ((العادة)) ويعدّ ما جاء به الأنبياء والأولياء من معاجز وكرامات عبارة عن خرق للعادات، وأن كل عادة يمكن تخلّفها: ((فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها، والعقل لا يفرق بين خلق وخلق، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق، ولذلك قال بعض المحققين من أهـل الاعتبار: سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق الـعوائـد لـيتفطن الـعـارفـون))(8 2). فبهذا الاعتبار أقام تأسيسه لـلـخطاب من الـخارج، شبيهاً بما سبق الـيه إبن حـزم(9 2). فعلى رأيه ((أنه لولا أن اطراد العادات معلوم لما عـرف الدين من أصـله، فـضلاً عن أن تعرف فروعه، لأن الدين لا يعرف الا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدّر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله. فإذا وقع مقترناً بالدعوة خارقاً للعادة؛ عُلم أنه لم يقع كذلك مخالفاً لما اطرد إلا والداعي صادق. فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطراراً، لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم حاصل، فدلّ على أن ما إنبنى عليه العلم معلوم أيضاً. وهو المطلوب))(0 3) .

ج ـ ابن خلدون والإسقاط الأرسطي

أما الحال مع إبن خلدون فهو أوضح. إذ إنه يؤيد علم الكلام ويعترف بإنتمائه إلى المذهب الأشعري(1 3)، بل ويـنحاز إلى المسلـك الـصوفي، في الـوقت الـذي يـتنـكر للـفلسفـة باعتـبارها غارقة في الممارسات العقلية. وقد عقد فصلاً في مقدمته بعنوان ((في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها))، الأمر الذي دفع ببعض المفكرين إلى عدّه ممن قصد إلى إبطال العقل(2 3).

بذلك يمكن اعتبار إبن خلدون عبارة عن مزيج مركب من النظامين المعياري والوجودي معاً، حيث يجعل العقل المتمثل بعلم الكلام أداةً وقنطرة للنفس أو التصوف. ذلك أنه يضيف إلى النفس من حيث أنها مقام للعلم مقاماً آخر هو مقام الحال والإتصاف، فيرى أن المتكلمين قد أخطأوا حينما تصوروا أنهم يستطيعون الوصول إلى التوحيد المطلق عن طريق العقل، إذ برأيه أن العقل محصور نطاقه في هذا العالم الظاهر ومن ثم لا سبيل إلى معرفة التوحيد الخالص الا بالنفس عن طريق العرفان المفضي إلى المشاهدة والإتصال بالعالم الآخر. وهو الإتصال الـمباشر الـذي تتحقق به الـسعادة(3 3) . فهو على شاكلـة الـغزالي يرى أن هناك جانباً باطنياً في الانسان، حيث يمكنه أن ينسلخ من طبيعته البشرية الظاهرة بكشف حجاب الحس والبدن ليصير من جنس الملائكة، وعندها يتلقى العلوم الغيبية فيشهد الملأ الأعلى ويسمع الكلام النفساني والخطاب الإلهي. وإذا ما كان هذا يحصل للأنبياء بلمحة البصر باعتبارهم مفطورين على الإنسلاخ من البشرية بالوحي؛ فإن سائر البشر يمكنهم تحقيق مثل هذا الإتصال بالاكتساب والـتمرن على الـرياضات الـروحـية(4 3). بل إنه يكاد أن يكرر مقال الـغزالي وطريقته، لا فقط من حيث إنتمائه إلى الأشاعرة ونقد الفلسفة وتحديده لمجال العقل وجعله قنطرة نحو العرفان، بل حتى في تصويره لكيفية المشاهدة العرفانية، إذ يذكر أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح، وغالب سلطانه وتجدد نشؤه وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيّد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الادراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم الدينية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأُفق الأعلى، أُفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدركه سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم))(5 3).

وخلافاً لمزاعم الجابري نرى أن إبن خلدون ينجر حتى الى تزييف ما يسمى بالبراهين المنطقية التي يتشدق بها الفلاسفة والمناطقة، حيث أنه يكشف عن الثغرة التي سبق اليها إبن تيمية في الكشف عن مغالطة هذه البراهين المدعاة وإلفات النظر الى ما تحمله من رؤية فوقانية (تراندستالية)، وذلك بالتمييز بين الإمكان العقلي الافتراضي والإمكان الواقعي مثلما فعل ذلك الـغربيون بعده بعدة قـرون. فإبن خلـدون ينقد تلك البراهين المدعـاة ويرى أن ((ما كان منها في الموجودات الجسمانية، ويسمونه العلم الطبيعي؛ فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة، كما في زعمهم، وبين ما في الخارج، غير يقيني. لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها، ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، اللهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك، فدليله شهوده لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟... إنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه، فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا، فوجب تركها. وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات، ويسمونه الـعلم الإلهي وعـلم ما بعد الطبيعة؛ فإن ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصل اليها، ولا البرهان عليها. لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية، حتى نجرد منها ماهيات أُخرى، بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها. ولا مدرك لنا في إثبات وجودها، على الجملة، إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الانسانية، وأحوال مداركها، وخصوصاً في الرؤيا التي هي وجدانية لكل واحد. وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل الى الوقوف عليه. وقد صرح بذلك محققوهم، حيث ذهبوا الى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه، لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. وقال كبيرهم افلاطون إن الإلهيات لا يوصل فيها الى اليقين، وإنما يقال فيها بالأخلق والأولى، يعني الظن، وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط، فيكفينا الظن الذي كان أولاً، فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها؟!))(6 3).

هكذا فنحن طبقاً لـ ((قوانين)) الجابري واعتباراته، نكون قد رأينا مفارقات عديدة بين إبن خلدون وبين الفلسفة ومنهم إبن رشد، فكيف حق له أن يجمع بينهما ضمن سقف واحد، بل ويدعي بأن إبن خلدون لا يقصد من نقده للفلسفة إلا فلسفة إبن سينا المشرقية(7 3). فلو كان هذا صحيحاً؛ لماذا رجّح التصوف على غيره من المسالك، بل واعتبره من العلوم النقلية، وهي العلوم التي تحظى بالاحترام والتقديس باعتبار أن مصدرها الشرع؟! وكذا اعترافه بعلوم السحر التي لا تمت الى ((المعقول)) بصلة.

بل فوق كل هذا جاء مفهوم إبن خلدون للسببية مخالفاً لما هو الحال عند الفلاسفة، إذ يراها لا تخرج عن العـادة ومستقرها(8 3) ، وبالتالي أنها لا تحمل آصرة الضرورة والحتمية. لذلك فهو من هذه الجهة يجعل من نفسه أسيراً للنظام المعياري، رغم الميول والإنحياز الذي يبديه إزاء التصوف كمنهج للكشف والمشاهدة.

د ـ إبن طفيل والإسقاط الأرسطي

على أن الجابري لم يخطئ في ضم كل من إبن حزم والشاطبي وابن خلدون ضمن قائمة (النظام البرهاني)، بل وأخطأ كذلك في ضمه لابن طفيل ضمن نفس القائمة بالرغم من باطنيتـه الـصريحة(9 3). فهو استناداً إلى منطقه الآيديولوجي الـمؤسس على فكرة إبراز الـنزعة الوحدوية للتاريخ المعرفي لكل من المغرب والأندلس؛ اضطر إلى أن لا يعترف بباطنية إبن طفيل وعرفانيته، إذ جعله فيلسوفاً على شاكلة إبن رشد، كي لا يتصدع نسق التفسير السياسي الذي بناه من منطلق كون الدولة الأموية في الأندلس سعت منذ بداية تأسيسها الى تبني النظام البرهاني الارسطي لمحاربة النزعتين البيانية والعرفانية اللتين تحكمتا في التفكير الآيديولوجي لخوصومها من العباسيين والفاطميين، وتابعها في ذلك دولة الموحدين بعدها، وهي التي شغل فيها ابن طفيل منصباً سياسياً كبيراً، مما يعني ان الدولتين - على رأيه - قد استهدفتا عن قصد ودراية تبني النظام البرهاني واقصاء العرفان منذ المشروع الحزمي وحتى الرشدي.

***

هكذا قام الجابري بقلب العلاقات بين نزعات ((اللحظة المغربية))، فبدلاً من أن يستخدم مفهوم ((التوظيف)) في علاقة أصحاب البيان والعرفان بالبرهان الأرسطي، فإنه استخدم مفهوم ((التأسيس))، لكنه مع ذلك يفهم من ((التأسيس)) أحياناً ـ وكما يبدو ـ على أنه ((توظيف))(0 4)، مما يجعل شائبة الـخلط تلوح الـمفهوميـن. فابن حـزم والـشاطبي وغيرهـما من أصحاب ((البيان)) لم يؤسسوا البيان على العقل الأرسطي كما يفعل الفلاسفة، إنما وظّفوا بعض قواعده الصورية بما لا ينافي نظام البيان، بل خدمة له.

وإذا كنّا فيما سبق عرفنا كيف أنهم أقاموا علومهم طبقاً لسلطة التجويز بالمعارضة مع فكرة السببية الحتمية التي تبنّاها الفلاسفة؛ فإنهم كذلك لم يتخلوا أبداً عن سلطة اللفظ. فظاهرية إبن حزم طافحة في هذا المورد، وكذا الحال مع الشاطبي الذي يرى بأن العقل لا يصح له أن يستقل عن الوحي(1 4). ونفس الشيء مع إبن خلدون. وكذا أنهم لم يتجاوزوا سلطة القياس إذا ما استثنينا إبن حزم لظاهريته. وعليه فماذا بقي عندهم من بنية ليتفقوا فيه مع الفلاسفة؟!

آيديولوجيا المشروع

والواقع إن السبب الذي أفضى بالجابري إلى قلب المفاهيم والخلط بين المفكرين للحظة المغربية، يعود إلى ما يحمله من آيديولوجية ((تأسيسية))، ذلك أنه يشترط على النهضة العربية التي يدعو لها هو أن تكون منتظمة طبقاً لتراث وحدوي وتاريخ استمراري، مثلما حصل في العالم الغربي. لكن حيث إنه لا يوجد عنده سوى لحظتين، مشرقية ومغربية، وأن الأُولى ما زالت حاضرة في تفكيرنا إلى يومنا الحاضر، وحضورها قد اقترن مع ظاهرة الإنحطاط الحضاري التي مرت بها الأُمة العربية والإسلامية دون أن تغيّر من الواقع شيئاً، الأمر الذي جعله يصبغ عليها جميع أنواع التهم، فهي بنظره لحظة لا عقلية، قوامها اللامعقول المتمثل أساساً بالنزعة السينية التي أدخلها الغزالي بصوفيته في الإسلام، والتي تمسك بها العرب قروناً عديدة فأخرجتهم خارج التاريخ، بخلاف الحال مع اللحظة المغربية لأنها سرعان ما غُيّبت ولم يظهر لها حضور واقتران مع ظاهرة الانحطاط، بل كان لها تأثيرها العميق على النهضة الغربية، خصوصاً فيما يتعلق بالفلسفة الرشدية.. كل ذلك جعل من الجابري يراهن على هذه اللحظة التي تضم تلك الفلسفة ذات النزعة ((العقلانية)) القائمة على ((البرهان))(2 4)، الأمر الذي اضطره إلى أن يفرض تأويله واسقاطاته عليها كي تتم عملية الإلتحام والإحياء الحضاري من جديد، شبيه بما فعله العالم الغربي. وكأنه بهذا يستند إلى نموذج كشاهد ليقيس عليه ما هو غائب !

فهذا هو السبب الأساس الذي فرض على الجابري أن يسقط مفهوم القطيعة المعرفية على التاريخ الفكري بين المشرق والمغرب العربي. فعلى رأيه أنه بدون هذه القطيعة يصبح التراث ميّتاً يعيق مسيرتنا الـمستقبلية(3 4). وهو بطريقته الـتاريخيـة هذه لم يعمل على خلط وجمع ذوي النزعات المتنافية كما رأينا، بل عمل كذلك على تفكيك وتهشيم العلاقة الوحدوية التي تربط بعض الاتجاهات بالبعض الآخر، حيث حوّلها إلى علاقة تضاد ومنافاة، كما هو الحال في فصله المطلق بين الفلسفة والعرفان، إذ جعلهما ينتميان إلى نظامين متنافيين لا يلتقيان، مع أنهما ـ إذا ما استعرنا لسان إبن رشد ـ عبارة عن توأمين متآخيين بالجوهر والغريزة، وهما يرضعان من ثدي واحد، ويشكلان نظاماً مشتركاً في قبال النظام ((المعياري))، كما كشفنا عن ذلك في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام) .

***

إلى هذا الحد نجد أن هناك تضاداً بين تأسيس الوحدة الابستمولوجية في التاريخ المعرفي كما يرمي اليه الجابري، وبين تأسيس هذا التاريخ في تلك الوحدة كما ندعو اليه. فالفارق بينهما هو ذاته يعبّر عن التنافس بين أن يكون التأسيس مجعولاً نحو اعتبار العقل في التاريخ أو التاريخ في العقل، أي بين أن تكون قراءة التراث المعرفي برانية أو جوانية. ويتحد هذا الفارق بخصوصية أشد بالبحث عن معرفة هوية التراث. فالمنافسة بين التاريخ والعقل، أي بين أن يكون العقل في التاريخ أو التاريخ في العقل؛ تتحول إلى منافسة تخص البحث عن هوية التراث فيما لو كانت طبيعته قومية ((تاريخية)) أو متعالية ((عقلية))، كإن تكون دينية ((معيارية)). فحتى العنصر الأكسيمي للتراث ووحدته الجوانية يمكن النظر اليه بالبحث عما إذا كان عرضياً طارئاً على المعرفة من الخارج، كإن يكون مصدره البيئة الجغرافية أو العرق أو ما شابه ذلك، أم أنه ذاتي في النظام المعرفي لا يعلل بالعناصر البرانية؟

الهوامش

(1) ينظر بهذا الخصوص التفاصيل التي ذكرناها حول الأُصول المولدة في كتاب: مدخل إلى فهم الإسلام، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (1)، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 9 9 9 1م، خاصة الفصل الأول منه.

(2) الجابري، محمد عابد: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأُولى، 1 9 9 1م، ص 7 9 2.

(3) الجابري، محمد عابد: اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 9 8 9 1م، ص8 3.

(4) الجابري، محمد عابد: تكوين العقل العربي، سلسلة نقد العقل العربي (1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 8 8 9 1م، ص 3 3 3.

(5) نفس الصفحة والمصدر السابق.

(6) المصدر السابق، ص 6.

(7) التراث والحداثة، ص 2 8 2 و 5 8 2.

(8) انظر: تكوين العقل العربي، ص 6ـ 7.

(9) انظر: التراث والحداثة، ص 2 6 2 .

(0 1) المصدر السابق، ص 7 2 3 ـ 8 2 3.

(1 1) الجابري، محمد عابد: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي في المغرب، الطبعة الخامسة، 6 8 9 1م، ص 3 8.

(2 1) المصدر السابق، ص 8 7 ـ 1 8.

(3 1) بنعبد العالي، عبد السلام: الـفـلسفـة السيـاسيـة عند الفارابي، دار الطليعة ببيروت، الطبعة الثالثة، 6 8 9 1م، ص4 1.

(4 1) المصدر السابق، ص 7 9 ـ 8 9.

(5 1) عن: مروة، حسين: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة السادسة، 8 8 9 1م، ج 1، ص 3 9.

(6 1) انظر بهذا الخصوص: مدخل إلى فهم الإسلام، القسم الثاني، ضمن الفصل المعنون: ((الأصل المولد والطروحات الجديدة عند الفارابي)).

(7 1) تكوين العقل العربي، ص 6 1 3.

(8 1) المصدر السابق، ص 9 9 2.

(9 1) الجابري، محمد عابد: بنية العقل العربي، سلسلة نقد العقل العربي (2)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 7 8 9 1م، ص 0 6 5 ـ 4 6 5.

(0 2) تكوين العقل العربي، ص 8 8 2.

(1 2) إبن حزم الأندلسي: رسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق الدكتور احسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأُولى، 3 8 9 1م، ج 4، ص 2 6.

(2 2) إبن حزم الأندلسي: المحلى، تصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام بالقلعة بمصر، ج 1، ص 2 3.

(3 2) إبن حزم الأندلسي: علم الـكلام على مذهب أهـل الـسنة والـجماعة، تحقيق الـدكتور أحمد حجازي السّقا، نشر المكتب الثـقـافـي، الأزهـر، الـقـاهـرة، الـطـبعـة الأُولـى، 9 8 9 1م، ص 6 2 ـ 7 2. كذلك: إبن حزم: رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، نفس المعطيات السابقة، ج 4، ص 7 9 1.

(4 2) الشاطبي: الموافقات في أُصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 5 9 3 1هـ ـ 5 7 9 1م، ج 1، ص 1 5 ـ 6 5.

(5 2) بنية العقل العربي، ص 9 3 5 ـ 0 4 5.

(6 2) الغزالي، ابو حامد: المستصفى من علم الأُصول، وبذيله كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، المطبعة الأميرية في مصر،، الطبعة الأُولى، 2 2 3 1هـ، ج 1، ص 7 8 2.

(7 2) المصدر السابق، ج 2، ص 9 3 3.

(8 2) الشاطبي: الاعتصام، تقديم محمد رشيد رضا، دار الكتب الخديوية بمصر، الطبعة الأُولى، 3 1 9 1م، ج 3، ص 2 2 2 ـ 7 2 2.

(9 2) الفارق في التأسيس الخارجي للخطاب أو الشريعة بين اتجاهي إبن حزم والأشاعرة ـ ومنهم الشاطبي ـ هو أن الأول يجعل وجود الطبائع الثابتة للأشياء مبرراً لإستحالة خرق علاقات السببية إلا في حدود معاجز الأنبياء تبعاً لقدرة الله تعالى وإرادته. أما الثاني فحيث إنه لا يعتقد بوجود مثل تلك الطبائع، ويرى الأفعال كلها متسببة عن الله؛ فإن خرق العادات عنده ليست منحصرة بحدود معاجز الأنبياء، إنما هي جائزة حتى لدى كرامات الأولياء. وبالتالي فإن ما يبرر إثبات المعجزة عنده لا يتوقف عند ذلك الخرق كما هو الحال عند إبن حزم، بل يضاف اليه الدعوة إلى الرسالة والتحدي.

(0 3) الموافقات، ج 2، ص 0 8 2 ـ 1 8 2.

(1 3) تاريخ إبن خلدون، المكتبة المدرسية ودار الكتاب اللبناني، الطبعة الثالثة، 7 6 9 1م، ج 1، ص 5 2 8.

(2 3) أدونيس: الثابت والمتحول، دار الفكر ببيروت، الطبعة الخامسة، 6 0 4 1 هـ ـ 6 8 9 1م، ص 4 7.

(3 3) تاريخ إبن خلدون، ج 1، ص 6 8 1 و 1 9 1 و 4 2 8 ـ 7 2 8.

(4 3) المصدر السابق، ج 1، ص 8 6 1 ـ 1 7 1 و 6 4 8.

(5 3) المصدر السابق، ج 1، ص 6 6 8 ـ 7 6 8.

(6 3) مقدمة ابن خلدون، ص 6 1 5 ـ 7 1 5.

(7 3) نحن والتراث، ص 6 8 2.

(8 3) تاريخ إبن خلدون، ج 1، ص 2 2 8 ـ 3 2 8 و 5 2 8.

(9 3) الملاحظ أن الجابري لم يعد يذكر إبن طفيل في الجزء الثاني من مشروعه (نقد العقل العربي) كما ذكره في الجزء الأول (تكوين العقل العربي)، ربما لأنه مقتنع بباطنيته التي أخفاها في هذا الجزء.

(0 4) بنية العقل العربي، ص 8 4 5.

(1 4) الشاطبي: الاعتصام، دار المعرفة، بيروت، تقديم محمد رشيد رضا، 2 0 4 1هـ ـ 2 8 9 1م، ج 1، ص 7 4.

(2 4) نحن والتراث، ص 9 4. وتكوين العقل العربي، ص 9 4 3.

(3 4) المصدر السابق، ص 3 1 2.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار