تعامل الخطاب الديني مع غير المسلمين - بين منهجين
يحيى محمد
نرى انه لا غنى عن المعالجة المنهجية في الكشف عن طبيعة تعامل الخطاب الديني لقضايا الواقع، ومنه التعامل الخاص مع المشركين واهل الكتاب.
فمن الناحية المنهجية هناك مسلكان مفترضان للتعامل، احدهما نطلق عليه المسلك الماهوي، والاخر المسلك الوقائعي. ونقصد بالاول ان يكون التعامل مع قضايا الواقع تعاملاً كلياً ثابتاً عبر جزئيات النص دون مراعات للتغيرات الحاصلة في الوقائع الخارجية، اي انه تعامل اسقاطي احادي التأثير. وعلى خلافه المسلك الاخر الذي يأخذ بعين الاعتبار مسألة التغيرات الحاصلة في الواقع، مع اعتبارات المقاصد الكلية للتشريع، وهو على ذلك ثلاثي التأثير، حيث يتمثل التأثير بكل من النص والمقاصد والواقع فضلاً عن الاعتبارات الوجدانية.
والسؤال المطروح: هل تعامل الخطاب مع قضايا الواقع ومنها قضايا الشرك والكفر من منطق المسلك الماهوي الذي يكون فيه النص هو الحاكم والمؤثر باطلاق، ام انه تعامل معها وفقاً لتغايرات الواقع وتحولاته؟
وبعبارة اخرى، لقد دعا الخطاب القرآني الى محاربة المشركين وقتالهم، كما دعا اهل الكتاب الى الالتزام بدفع الجزية وفرض ((الصغار)) عليهم، فهل ان هذه الاحكام صدرت طبقاً للعناوين العامة الكلية كالشرك والكفر، بحيث كلما وجد الشرك والكفر طُبق عليهما مثل تلك الاحكام، ام أنها صدرت بالنظر الى ملابسات الواقع المشكّل من مثل تلك الصفات مع غيرها من الصفات الأخرى لم يُعلن عنها صراحة؟
لعلنا نجد هنا مسلكاً للخطاب هو غير ذلك المسلك الذي تبنته طريقة الاجتهاد التقليدية. فقد عوّلت هذه الاخيرة على النهج الماهوي في اتخاذها النص كمؤثر يكاد ان يكون وحيداً في التعامل مع مجريات الواقع ومنه واقع المشركين واهل الكتاب. في حين تعامل الخطاب الديني مع هذه المجريات تعاملاً قائماً على النهج الوقائعي وليس الماهيات.
وابلغ ما استندت اليه طريقة الاجتهاد التقليدية في تبرير مسلكها هو الاظهار الاطلاقي الذي اعتمده الخطاب، فظنت انها بذلك تتبع نفس النهج الذي عليه هذا الاخير، وهو النهج الماهوي في تحويل جزئيات النص الى كليات قابلة للتطبيق والاسقاط على مختلف الظروف والاحوال. مع ان هناك مؤشرين يكشفان عن الطابع الوقائعي لتعامل الخطاب، أحدهما يمنع جريان ذلك الاظهار الاطلاقي ويكشف عن مآله، حيث ان الخطاب أفاد تعارضات بين الاطلاقات الحكمية مما لا يتفق مع التعامل الماهوي، لكونه يفضي الى التناقض، اذ كيف يمكن ان تكون الماهية الواحدة عرضة لحكمين متضادين؟!
أما المؤشر الآخر فهو ان الخطاب قد تعامل مع الواقع لا من منطق الاستعلاء والتجريد، وانما من حيث الملامسة والتفاعل. فهو بهذا لم يهبط هبوطاً اسقاطياً، بل تنزّل نزلة سياقية تراعي ظروف الواقع وتتجاوب معه. الامر الذي يتسق مع التعامل الوقائعي دون الماهوي. وهذا ما يتضح كالاتي:
فبخصوص موقف الخطاب القرآني من المشركين نجد ان آية السلم التي تتحدث عن الصلح مع المشركين ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها..)) الأنفال/1 6 ؛ تبدي اطلاقاً في قبول السلم عند ميل المشركين اليه. وفي قبالها نجد آية أخرى تأمر بقتل المشركين من غير شرط، وهي المطلق عليها آية السيف، حيث يقول تعالى: ((فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد..)) التوبة/5 . فهذه الآية تتحدث بنفس المعيار والصيغة من الاطلاق المعارض. وهذا التعارض بين الاطلاقين قد فتح على الطريقة التقليدية باباً من الاضطراب والتشويش تبعاً لما هي عليه من المسلك الماهوي. اذ وقف المفسرون القدماء موقفاً يشوبه الاختلاف الشديد للتوفيق بين النصين دون مراعاة غالباً لظرفية كل منهما، كما يتضح من الآراء المضطربة كالآتي:
1 ــ قال بعضهم ان الآية نسخت آية السلم، ومنهم ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة والربيع والجبائي. وقال عنها الضحاك بن مزاحم: انها نسخت كل عهد بين النبي وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة. ونقل العوفي عن ابن عباس قوله: فيها لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت سورة براءة (التوبة). كما ونقل علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله أيضاً: أمره الله أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الاسلام ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق (1 ).
2 ــ جاء عن طائفة من المفسرين ما أفزع بعض المفكرين المعاصرين المهتمين ببحث التراث (2 )، وهو ان آية السيف قد نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالاعراض عن المشركين والصفح عنهم كما هو المنقول عن قول ابن العربي (3 )، وما نقله ابن الجوزي عن بعض ناقلي التفسير (4 )، بل ان ابن حزم ذكر ان آية السيف نسخت مائة واربع عشرة آية موزعة في ثمان واربعين سورة (5 )، خاصة وان هناك روايات معتبرة ترى ان سورة التوبة هي آخر السور التي نزلت من القرآن.
3 ــ هناك من يرى ان آية السلم ليست منسوخة بآية السيف، فلكل مجالها، اذ الاولى في الموادعة لأهل الكتاب خاصة، بينما خصّت الثانية عبدة الأوثان. ومن الذين نُقل عنهم أنهم قالوا أنها غير منسوخة عمر بن عبد العزيز، كما نُقل عن ابن عباس ومجاهد مثل ذلك بخلاف ما رأيناه من منقول عنهما قبل قليل (6 ). ويميل الشيخ الطوسي في تفسيره الى عدم النسخ وذلك باعتبار ان آية السيف نزلت في سنة تسع، وبعث بها رسول الله (ص) الى مكة ثم صالح أهل نجران بعد ذلك على ألفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب. وهو بذلك يفرق بين أهل الكتاب من الكفار وبين المشركين منهم، ففي كتاب (النهاية) يصرح بأنه لا يجوز ان يقبل من الكفار الا الاسلام او القتل، لكنه يستثني من ذلك أهل الكتاب ومن على حكمهم كالمجوس، استناداً الى ما روي عن النبي انه قال: سنوا بهم سنة اهل الكتاب (7 ). ومع هذا فانه لا يرى في آية السلم ما يدل على ان الكفار اذا مالوا الى الهدنة وجب اجابتهم اليها في جميع الاحوال، وذلك باعتبار ان الاحوال تختلف فتارة تقتضي الاجابة، واخرى لا تقتضيها كما اذا وتروا المسلمين بأمر يقتضي الغلظة مع حصول العدة والقوة (8 ).
وهناك جماعة اشكلوا على القائلين بالنسخ ومنهم الزركشي وابن كثير الذي يرى ان تلك الآية دالة على الامر بقتال المشركين اذا أمكن ذلك، أما لو كان العدو كثيراً فان من الجائز مهادنتهم طبقاً لآية السلم، وكما فعل النبي يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص (9 ).
4 ــ يرى البعض ان آية السيف انما يقصد بها تخصيصاً كل من حارب أو كان مستعداً للحرابة والإذاية، وكأنها تقول: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم، كما هو رأي ابي بكر بن العربي (0 1 ).
5 ــ كما ان هناك من يرى ان آية السيف ذاتها قد نُسخت بآية ((فأما منّاً بعد وأما فداء)) محمد/4 ، وهو القول المنسوب الى الضحاك والسدي، اي على عكس ما يقوله قتادة وغيره بأن هذه الآية منسوخة من قبل الاولى.
6 ــ يضاف الى تلك الخلافات القائمة بصدد اعتبار آية السلم إن كانت تخص اهل الكتاب ام تعم المشركين، وإن كانت قد نسخت بآية السيف ام لم تنسخ، وإن كانت هذه الأخيرة هي بدورها نسخت ام لا.. يضاف الى ذلك هناك خلاف آخر يتعلق بحدود المشركين الواجب قتلهم، فهل كل مشرك باستثناء ما نصّ عليه النبي كأهل الكتاب ومن على شاكلتهم كالمجوس، او ان المشركين الواجب قتالهم هم مشركو العرب فقط؟ فهناك خلاف بين ائمة المذاهب الفقهية الذين ينقسمون الى من يجوّز معاملتهم كمعاملة اهل الذمة، والى من يمنع ذلك ويحرمه.
***
هكذا يتضح مدى الاضطراب في مواقف الطريقة التقليدية بحكم نهجها الماهوي. مع ان وجود تعارض اطلاقي هو في حد ذاته كاشف عن المسار النسبي للأحكام المتخذة في هذا الشأن، وذلك بضرب الاطلاقات بعضها بالبعض الآخر. فآية السلم تعكس حالة الانشداد الى ظرف بصيغة المطلق، وكذا الحال في ما يعارضها من آية السيف. واذا ما فُهمت احكام هذه الايات بان بعضها قد ابطل البعض الاخر إبطال المطلق للمطلق؛ لكان هناك تعارض مطبق مع نفس المبادئ الثابتة التي حملها الاسلام؛ بذات الدلالات التي تتخلل نفس الآيات التي تقع معها موقع المعارضة بشكل مباشر او غير مباشر، والتي منها العدل وعدم الاعتداء او القتال من غير ضرورة، وكذا عدم الاكراه في الدين، وغير ذلك من المؤشرات التي تؤكدها الآيات القرآنية كموازين تدخل في صميم المثل والمبادئ التي حملها الاسلام، كقوله تعالى: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فان قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فان انتهوا فان الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين)) البقرة/0 9 1 -4 9 1 ، ((وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) الكهف/9 2 ، ((ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) يونس/9 9 ، ((لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) ... الخ.
فالذي يرى جميع تلك الآيات منسوخة بآية السيف، يصطدم مع ما فيها من دلالات ثبوتية تلوح هدف الشريعة والمبدأ الذي تقوم عليه، وهي دلالات تفوق حد الحكم ذاته. فالمقصد على خلاف الحكم ليس قابلاً للنسخ، حيث فيه يُكشف عن علة الحكم ومبرر وجوده، وبالتالي فان الحكم مقيد بهذه العلة وجوداً وعدماً. وهو أمر ينطبق على ما نحن بصدده من آية السيف، حيث تمتلك الدلالة الواضحة لعلة الحكم، وعليه لابد من تخصيص الحكم فيها بموارد العلة رغم عموم اللفظ.
هكذا فبقدر ما تتصف به الأحكام من نسبية وانشداد بالواقع الخاص وظروفه، بقدر ما يعكس هذا الأمر من وجود مقاصد مطلقة وثابتة تعمل على تغيير تلك الأحكام وتوجيهها بالشكل الذي لا يتناقض معها.
***
اما بخصوص الموقف من اهل الكتاب فالملاحظ اننا نجد مواقف متماسكة لدى الطرح الماهوي الذي يعول عليه اصحاب طريقة الاجتهاد التقليدية، وذلك فيما يتعلق بمسألتي فرض الجزية والصغار. لكن مع ذلك فسنلحظ ان هذا الطرح متناقض ومتصادم مع مقاصد التشريع وخلقياته العامة كالاتي:
إن آية الجزية هي من أواخر الآيات التي نزلت بخصوص اهل الكتاب، وقد ذُكر بأنها نزلت حين أمر النبي (ص) أصحابه بغزوة تبوك مع الروم (1 1 )، حيث يقول تعالى: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) التوبة /9 2 . ولا ريب ان نص الاية يفيد وجوب دفع الجزية وجوباً لازماً .
مع هذا فالسؤال الذي يرد بهذا الصدد: هل الوجوب المشار اليه يفيد الاطلاق على نحو الحقيقة مثلما يبدو ظهوره من النص؛ بحيث كلما وجدت المصاديق من أهل الكتاب لزم مطالبتهم بالجزية مع الصغار، وذلك طبقاً للقياس المنطقي المستفاد من النهج الماهوي؟ فصورة هذا القياس تتخذ الشكل التالي:
ان فرض الجزية والصغار واجب على الكتابيين.
ان هؤلاء الجماعة من أهل الكتاب.
اذن يجب أن يدفعوا الجزية مع الصغار.
تلك هي الصورة القياسية المحددة بالنهج الماهوي كما تبناها اصحاب الطريقة التقليدية كأصل أساس. ففرض الجزية لديهم هو قانون يتحكم في مصير اهل الذمة تحكماً صارماً لا يدفعه الا بعض الاستثناءات المستندة بدورها الى بعض الصور البيانية المعارضة.
وكذا فان صورة القياس المنطقي التي مرت معنا تنطبق على مبدأ الصغار لدى الطريقة التقليدية. فالصغار الوارد في الاية يعد كالجزية واجباً بنص صريح الاية. فحكمها ليس مجرد تعبير عن ضريبة تُعطى، بل تنص الآية ان يكون الدافعون ((صاغرين)). ومع ان معنى الصغار مختلف لدى العلماء، الا ان غالبيتهم عدّوه لا ينفك عن معنى الاذلال والعقوبة، فوقفوا موقفاً متشدداً ازاء الحرية الشخصية والدينية لأهل الكتاب، ففرضوا المغايرة ببعض الممارسات الحياتية كالملبس والتنقل، كما وحددوا ممارساتهم العبادية، واعتمدوا في ذلك على ما روي من الشروط التي كتبها عمر بن الخطاب، حيث جاء فيها انه الزم الغيار على اهل الذمة في المركب والملبس والتسمية والتكنية والتكلم باللغة، كما فرض عليهم ربط الكستيجات ــ وهي الزنانير العريضة المدورة ــ في أوساطهم وأمر بختم اعناقهم، ومنعهم من لبس بعض الالبسة الخاصة بالعرب ومن بعض الممارسات (2 1 ). وثمة رواية تقول ان عمر قد أمر عمرو بن العاص ان يختم في رقاب اهل الذمة في مصر بالرصاص، وفرض عليهم بعض القيود الخاصة في الملابس والمظهر لغرض تمييزهم (3 1 ). والواقع ان اغلب الفقهاء انما فهموا الصغار بالشكل الذي حُدد بحسب الوثيقة العمرية، ولم يؤخذ بصورته النعتية كما هو وارد في الاية؛ كإن يكون دفعها هو الصغار على ما رآه البعض. وبذلك اصبحت تلك الوثيقة هي من أهم تطبيقات المنطق الماهوي الذي لجأ اليه اصحاب الطريقة التقليدية في تحديد نظرتهم نحو الصغار وموقفهم العام من أهل الذمة. فللوثيقة تأثيرها الكبير على القرارات الفقهية التي انتهجها الفقهاء، كما انها كانت سلكاً يتسلك بها الملوك والسلاطين بين الحين والاخر كلما رأوا الحاجة الزمنية تبعث على ذلك.
***
اذن نخلص مما سبق ان هناك فهماً ممطلقاً جرى تثبيته في تحديد الموقف من أهل الكتاب من غير تمايز ولا لحاظ ما يخص شأنهم من ملابسات. مع انّا نجد ثلاث حقائق تتعارض مع النتائج المتولدة من ذلك الفهم ومنطقه الماهوي، وهي كالاتي:
أولاً: يلاحظ ان النتائج المتولدة عن الفهم الماهوي للصغار - كما لدى الغالبية - هي نتائج وشروط تتصادم مع اخلاقيات الاسلام ولا تتفق مع ما يتسم به من العدل والرحمة. ولكونها ذات صبغة اطلاقية أو ماهوية فقد وُظفت من قبل الملوك والسلاطين لتلعب دوراً في الحياة السياسية والاجتماعية بين الحين والآخر، مداً وجزراً.
والنقطة المركزية التي تهمنا من ذلك هو انه من الناحية المبدئية ليس من المقبول ان تتأسس النظرية الفقهية الى الدرجة التي تكون فيها مصادمة لروح القرآن واخلاقه، او لمبادئه ومقاصده، وذلك طبقاً للتمسك بالنهج الماهوي. اذ انه بحسب النهج الوقائعي كان من الممكن ان تكون بعض المواقف حازمة وشديدة، وذلك بما يتناسب مع ما يبادره المقابل من فعل عدائي، لا أن تصبح مثل هذه المواقف متخذة كشكل مبدئي دائم استناداً لما يفرضه النهج الماهوي.
وبعبارة أخرى إننا حين نقدّر كون الاحكام مفتوحة نسبياً بعيداً عن الاطلاق والاغلاق فان ذلك لا يجعلها غير محكومة بمبادئ القيم ومقاصد التشريع، والتي على رأسها مبدأ العدل الذي هو الأصل المتفق عليه في جميع العقود، ومنه عقد الذمة. فتبعاً لهذا الأصل الذي به قامت السماوات والارض وانزلت لأجله الكتب السماوية؛ لا يمكن ان نتقبل ما تتحدث عنه الطريقة التقليدية في التعامل مع اهل الذمة على نحو تعذيبهم وتعريضهم للارهاق والاهانات الجسدية والنفسية. فعلى الأقل كان الأولى بهذا النظام ان يتحفظ ويحتاط من ان يفتي بما هو على خلاف العدل ومقصود الشرع، وذلك بأن يعد ما ورد من بعض الاحاديث الدالة على ما ظاهره جواز تعذيب أهل الذمة او ظلمهم بأنه إما أن يخصّ جماعات معينة تنصب العداء والأذية على الدوام، أو أنه من المتشابه الذي لا يقف معارضاً لأصل العدل او يزاحمه، بل يُترك أمره لله تعالى ويُعمل بما هو محكم وبيّن، وهي طريقة تتفق في المبدأ مع ما يراه الشاطبي من ان الشاذ لا يقف معارضاً لما هو مطرد وانما يُحسب من المتشابه الذي لا يعلم بأمره غير الله تعالى . وعليه فلو اكتفينا بهذه الدلالة لكان وضع الاحكام المسطّرة من قبل الطريقة التقليدية في غير محلها.
ثانياً: يلاحظ ان ما آل اليه الموقف التقليدي من أهل الذمة بحسب النهج الماهوي هو السقوط في المفارقة والتناقض. ذلك انه من جانب يلتزم بالشروط العمرية او ما يشاكلها بحسب فهم الغالبية للصغار، لكنه من جانب آخر يسوق ما بوسعه من الاحاديث التي تأمر بعدم ايذاء الذميين وظلمهم. ومن ذلك ما ذكروه من النصوص الكثيرة عن النبي وصحابته في التوصية بالمعاملة باهل الذمة خيراً ، كتلك التي نقلها ابو يوسف وابن سلام وغيرهما؛ مثل قول النبي (ص): ((من ظلم معاهداً .. فأنا حجيجه))، وقوله ايضاً: ((ملعون من ضارّ مسلماً او غيره)). ونُقل عن عمر (رض) انه قال ((اوصي الخليفة من بعدي باهل الذمة خيراً، ان يوفي لهم بعهدهم وان يقاتل من ورائهم وان لا يكلفوا فوق طاقتهم)). كما كتب هذا الخليفة الى ابي عبيدة يأمره ان يمنع المسلمين من ظلم احد من اهل الذمة (4 1 ). ومثل هذا ما جاء عن الامام علي في كلمة له مضيئة يقول فيها: ((واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: إما أخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق)) (5 1 ). ونُقل عنه قوله أيضاً: ((إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا)) (6 1 ).
لكن مع كل ما يذكر بشأن الوصية بأهل الذمة نرى ان الفقهاء لا يمانعون من اخضاعهم تحت بند الاعتبارات الاخرى المضادة كتلك المسماة بالوثيقة العمرية. فمثلاً ان بعض الفقهاء القدماء كابي يوسف يذكر الكثير من النصوص التي توصي بعدم ظلمهم، لكنه يستدرك بعد اطالته الذكر ويرى رغم ذلك انه ينبغي ان يعاملوا طبقاً لما جاء في تلك الوثيقة من ختم الرقاب والغيار وغيرها. وكأن ما جاء في تلك النصوص لا يناقض الوثيقة المزعومة على ما فيها من غلظة وعدم تسامح يبعثان على الشك في صدورها. وربما دفعاً للشعور بالتناقض والمفارقة قد يحتج البعض بما نُقل عن عمر انه قال في حق أهل الذمة: أهينوهم ولا تظلموهم (7 1 )، وبالتالي يصبح كل ما جاء في الوثيقة من فظاعة يمكن طيّه في ملف الإهانة لا الظلم!
ثالثاً: لو غضضنا النظر عما آلت اليه الطريقة التقليدية في مثل تلك النتائج التي من الواضح انها لا تتفق مع روح الاسلام واخلاقه، واتجهنا صوب القضية المحورية من الكشف عن صحة المسلك الوقائعي في فهمه للخطاب، وذلك بدلالات مستمدة من الخطاب وشرعه، فسنجد قرائن عديدة تشير الى ما نحن بصدده كالآتي:
1 ــ توجد بعض المعارضات الاطلاقية التي نصّت عليها جملة من الآيات القرآنية؛ من قبيل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين)). حيث يمكن ان يقال ان الشطر الأخير من هذا النص لا يتسق مع ما جاء في آية الجزية من الامر المطلق بقتال اهل الكتاب او دفع الجزية مع الصغار، خصوصاً اذا ما حملنا معنى الصغار على الاذلال كما هو الموقف الذي تتبناه الطريقة التقليدية في الغالب. اذ كيف يمكن التوفيق بين الامر بالبر والقسط من جهة، وبين قتالهم او اذلالهم من جهة اخرى؟!
فلو قيل ان اية الجزية قد نسخت ما قبلها؛ لقلنا ان النسخ لا يلوح دلالات المبادئ والمقاصد، بل ولا يتحقق اعتباطاً من غير تغاير في الواقع والاحوال، الامر الذي يتسق مع ما عليه النهج الوقائعي من جعل الاحكام بحسب ما يبديه الواقع من تغايرات.
2 ــ هناك بدائل مختلفة ومفتوحة قد مارسها النبي الاكرم (ص) وأصحابه دون الالتزام بصرامة الاطلاق الظاهر في نص آية الجزية، مما يتسق تماماً مع النهج الوقائعي. فقد ورد عن النبي (ص) انه كان يأخذ من بعض الذميين الجزية ويصالح البعض الآخر بعد ان شُرّعت في السنة الثامنة او التاسعة من الهجرة على قولين، حيث نزلت الآية كأول نص يأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ومع ذلك فقد صالح بعضهم من دونها، كمصالحته لأهل نجران (8 1 ).
ومثل ذلك ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في مصالحته مع بني تغلب من النصارى وغيرهم، فبدل ان يأخذ منهم الجزية ضاعف عليهم الصدقة وأعفاهم عنها(9 1 ). كما نُقل ان هذا الخليفة اعفى يهودياً من اعطاء الجزية كمكافأة على حسن مشورته في تحسين الوضع الاقتصادي. ذلك انه في عام المجاعة المسمى بعام الرمادة أشار يهودي من أهل مصر الى قناة تربط نهر النيل بالبحر الأحمر، فتمكن بهذا الوالي عمرو بن العاص من ارسال السفن مشحونة بالميرة من مصر رأساً الى اقرب مرفأ من المدينة، وسر بذلك عمر وكافأه على مشورته هذه بإعفائه من الجزية (0 2 ).
3 ــ ان ما يستفاد من معاملة النبي الاكرم وخلفائه الراشدين لأهل الذمة هو أن ما فُرض عليهم من جزية انما كان كضريبة بدل النصرة والحماية التي توفرها الدولة لهم. فهي لم تُفرض على العجزة والنساء والشيوخ والأطفال والمرضى ورجال الدين الا اذا كانت لهم خلطة مع الناس (1 2 ). بل وكانت تلغى فيما لو تطوع الذمي في الجيش الاسلامي. فمثلاً في معاهدة سراقة بن عمرو مع ارمينيا (سنة 2 2 هـ) اشترط عمر على أهلها الاشتراك في الجهاد نظير اعفائهم من الجزية (2 2 )، كما جاء في صلح آخر له مع الجراجمة كالسابق (3 2 ) . وجاء في صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة قوله: ((اني عاهدت على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية والا فلا حتى نمنعكم)) (4 2 ). وجاء ان ابا عبيدة بن الجراح عندما اعلمه نوابه على مدن الشام بتجمع الروم كتب اليهم: ردوا الجزية على من أخذتموها منه. وأمرهم ان يقولوا لهم: انما رددنا عليكم اموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وانكم اشترطتم علينا ان نمنعكم وانا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم ان نصرنا الله عليهم (5 2 ) . كما جاء في كتاب سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان: ((ان لكم الذمة، وعلينا المنعة على ان عليكم الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضاً عن جزائه، ولهم الأمان على انفسهم وأموالهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك)) (6 2 ). ومثل ذلك ما جاء في بعض كتب حبيب بن مسلمة وغيره من قواد الخلافة الراشدة (7 2 ).
***
بعد هذا الاستعراض الذي خضناه يمكن ادراك اننا أمام صيغ شرعية متعددة ومختلفة لأساليب التعامل مع أهل الذمة، سواء من حيث الاعتبارات المعنوية، او من حيث الجزية كضريبة مادية. وبالتالي فاننا نقف عند نوع من التعارض بين ما رأيناه من الاطلاق الظاهر في النص والذي يبدي وجوب الالتزام بدفع الجزية مع الصغار، وبين ما شهدناه من سيرة مغايرة تثبت حقيقة عدم الاطلاق. وهو أمر إن دلّ على شيء فانما يدل على عميق الأثر الذي تحدثه تمايزات الواقع من نتائج واحكام مختلفة. وهكذا فنحن لا يمكننا أن نفهم الخطاب فهماً صحيحاً ومتسقاً الا من حيث اعتبارات النهج الوقائعي الكاشف عن أثر الدلالات الواقعية التي تعمل على فتح الاطلاق في النص وتحويله الى نمط من الاجراء النسبي. الأمر الذي يؤكد خطأ النهج الذي مارسته الطريقة التقليدية، حيث ان ما صوّرته هذه الطريقة من تحنيط لقضايا الاحكام لا يدل عليه نهج الخطاب وممارسته أبداً.
نعم قد يقال بهذا الصدد ان ما شهدته السيرة النبوية من تنويعات هي حالات مقررة لا تعارض الأصل العام من الجزية والصغار، كما يحصل في حالات التخصيص والتقييد. وهو أمر يبعث على التوقف عند حدود ما شهدته السيرة وما نطقت به النصوص كما هو لازم النهج الماهوي.
لكن يلاحظ ان المغايرة والتنويع في الاحكام بخلاف الأصل المعتمد عليه كالجزية والصغار؛ لم تصدر الا من حيث وجود تجددات وتغايرات في الواقع. فلولا مثل هذه التجددات ما كنّا نرى تنويعاً ولا مغايرة للاحكام. وبالتالي فطبقاً لهذا المبدأ لا بد من لحاظ ما يجري في الواقع وجعله أساساً في بناء الاحكام وتنوعاتها، خصوصاً عندما تحدث تحولات جوهرية ينقلب فيها الحال من روح حضارية الى اخرى. الأمر الذي يجعلنا نتسائل: كيف يُسند الحكم ويستصحب بصورة ثابتة مما كان عليه في مثل تلك الروح السابقة من الحضارة الى غيرها تبعاً للنهج الماهوي؟! فلو قُدّر - فرضاً - ان يعيش رسول الله (ص) بيننا اليوم، هل يا ترى انه يثبت على ما أمر به من مثل تلك الاحكام رغم عمق التطور الحضاري؟ وهل كانت التغايرات التي أحدثها في الاحكام خلال عصره ليس لها علاقة بأمر الواقع؟ واذا كان الأمر هكذا فما هو مبرر التغاير والعمل بالمعارضات وكذلك نسخ الاحكام او تأجيلها؟
كل تلك التساؤلات لا تجد لها اجابة شافية من قبل الطريقة التقليدية. فكل ما يمكن ان يقال انما يصب في النهج التعبدي ولو كان ذلك بمصادرة الواقع والغاء كل من العقل والوجدان.
على ان فكرة التمايز طبقاً للحدود العقائدية هي فكرة مبررة تماماً في زمن الرسالة وما قبلها وبعدها. فهي أحدى الأساليب الاجرائية التي كانت تنفع في الحفاظ على تماسك الجماعة وديمومتها، لكنها ليست في حد ذاتها الاسلوب الوحيد في الاجراء. فمثلاً كان التمايز القبلي هو التمايز الشائع في الوسط العربي وعدد من الأوساط قبل عصر الرسالة. وحالياً نجد ان فكرة الأوطان بحدودها الجغرافية هي الاسلوب المتبع للحفاظ على وحدة الجماعة. وهو اسلوب مضطر بدوره لأن يقوم على التمايز في الحقوق والواجبات بين ذلك الذي ينتمي الى البلد وبين غيره من الغرباء الوافدين. مع هذا فليس بوسعنا ان ندعي ان هذا الاسلوب او ما سبقه هو أفضل الأساليب المتبعة، فذلك يتوقف على الاعتبارات التاريخية وما يلزمها من امكانات وقدرات. وكما هو ملاحظ فان مثل هذه الأساليب تظل تمايزية ليس بوسعها العمل على انهاء التمايز. بل حتى لو قدرنا ان تكون هناك وحدة بشرية تتجاوز فكرة الأوطان كما يتمناها الكثير منّا؛ فلا بد من أن تكون هناك جملة من التمايزات تفرضها تغايرات الظروف والاعتبارات الثقافية من منطقة لأخرى.
مع هذا سبق أن علمنا بأن التشريع الاسلامي لم يعمل على مَطلقة التمايز. فالتمايز الموضوع كما في الجزية والصغار قد وجد خرقاً له من ذات التشريع، وذلك عند لحاظ الولاء وعدم العداء من الطوائف الدينية الاخرى، مثلما تدل عليه حالات انخراط الذميين في صفوف الجيش الاسلامي. فهي ظاهرة دالة على الولاء والنصرة والمودة، لذلك قوبلت برفع الجزية والصغار.
هكذا يلاحظ ان الحكمين الخاصين بالجزية والصغار لا يمكن أن يُتخذا بمعزل عن فهم الواقع. أي ان الواقع هو عنصر أساس في تشكيل كل منهما، وبالتالي فلا ضرورة تقتضي الجمع بينهما. فلا مانع - اذن - من أن يُكتفى بالجزية كضريبة قبال الحماية من غير صغار إن قدّرنا ان هذا الأخير يعني شكلاً ما من الاذلال كما هو الظاهر، وذلك عند ضمان الولاء وعدم العدوان.
وبعبارة اخرى اننا اذا اعتبرنا تفسير الجزية تبعاً للحماية التي تقوم بها الدولة الاسلامية لرعاياها من الذميين كما اتضح لنا من قبل؛ فان الأمر مع الصغار شيء يختلف. ذلك ان مبرره مستمد مما لوحظ فيه من محاربة وتربص وعداء، كما يشهد على ذلك الكثير من نصوص الخطاب فضلاً عن السيرة.
فقد نزلت الاية في ظرف الامر بغزوة تبوك مع الروم التي رفعت شعار المسيحية من غير ان تتمسك بها. صحيح انه ورد في الاية تنديد للصفات العقائدية التي التزم بها اهل الكتاب، لكن من الواضح انه لا يراد من ذلك ذات العقائد، بدلالة ان اهل الشرك هم أخس حالاً منهم ومع ذلك فان القتال معهم انما كان لاغراض وقائية او دفاعية كما علمنا، فكيف الحال مع اهل الكتاب الذين تربطهم بالمؤمنين وشائج عقائدية من الايمان بالتوحيد - مع الاختلاف في ذلك - والرسل واليوم الآخر.
لهذا فان المفسرين قدموا وجهين من الجواب عن علة وصف الاية لهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما يطلعنا على ذلك الماوردي: أحدهما هو انهم وإن أقروا بالله وباليوم الآخر الا انهم لم يقروا بحقوقه، فكانوا كمن لم يقر به. والآخر هو لأجل الكفر بنعمته تعالى فوصفهم بذلك (8 2 ). أما وصفهم بانهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه وجهان كما أشار الماوردي: أحدهما ما أمر الله تعالى بنسخه من شرائعهم. والآخر ما أحله لهم وحرمه عليهم بحسب ما جاء في كتبهم. وكذا فان وصفهم بانهم لا يدينون دين الحق، والمقصود بالحق هنا هو الله، ففي الاية وجهان هما العمل بما في التوراة والانجيل، والثاني الدخول في دين الاسلام (9 2 ).
فمن ذلك قد يفهم ان الاية كانت بصدد اظهار التناقض الذي عليه اهل الكتاب، وذلك بين اعتقاداتهم التوحيدية من جانب، وبين ممارساتهم السلوكية من جانب آخر (0 3 ).
لهذا ظهرت هناك آثار من النصوص تحذر من ولائهم والتودد اليهم، كما هو الحال مع قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)) المائدة/1 5 ــ2 5 ، وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين)) المائدة/7 5 ، وقوله: ((يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم..)) الممتحنة/1 . فمن المتسق ان يفهم من هذا التحذير بما عُرف من مواصفات الشر التي ابدتها جماعات أهل الكتاب والمشركين ضد دين الحق وأهله كما يدل على ذلك ما جاء من ذكر لأسباب نزول تلك الآيات على ما نقلته التفاسير الاسلامية (1 3 )، لا انه حكم مطلق لا يقبل الانفتاح كما تحاول الطريقة التقليدية تصويره، وذلك بتحويل ظاهر الاطلاق في النص الى شكل مغلق من المعنى بحسب النهج الماهوي، كما يلاحظ ذلك مما ذكره القرافي محاولاً الجمع بين ما ورد من النص في منعه للموالاة والمودة للكافرين ومنهم أهل الكتاب، وبين ما جاء في نص آخر يأمر ببرّهم، مثل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم)).. وقال النبي: استوصوا بأهل الذمة خيراً. واعتبر ان الجمع بين مثل هذه النصوص هو ان الاحسان لأهل الذمة مطلوب، وان التودد والموالاة منهي عنهما، اي ان نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره دالاً على مودة القلوب (2 3 ).
وهو أمر غير حاسم لدى السلف، ذلك انه جاء في قوله تعالى: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم))، وقد قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها من حارب الله ورسوله، كما قاله قتادة والفراء. والثاني من خالف الله ورسوله كما قاله الكلبي. والثالث من عادى الله ورسوله كما قاله مقاتل (3 3 ). كما ورد في اية الممتحنة قوله تعالى: ((عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)) الممتحنة 7 ، أي يجعل محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وإلفة بعد الفرقة (4 3 )، وقد ورد في المقصود فيهم قولان أحدهما أهل مكة حين اسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، كما قاله ابن زيد. والثاني انه اسلام ابي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما: تزويج النبي (ص) بأم حبيبة بنت ابي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين ابي سفيان كما قاله مقاتل. والثاني ان النبي (ص) استعمل ابا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله اقبل فلقى ذا الحمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، كما قاله الزهري (5 3 ). فكما نلاحظ ان هذا الخلاف في التفسير يجعل من الحكم الخاص بعدم المودة لأهل الكتاب والمشركين أمراً غير حاسم. مع ان بعض الايات لا تبدي عتاباً او نهياً للحب الذي يكنه المؤمنون لبعض الكافرين والمنافقين رغم كيدهم وبغضهم، ومن ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانة من دونكم لا يأونكم خبالاً، ودّوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من افواههم وما تُخفى صدورهم أكبر، قد بيّنا لكم الايات إن كنتم تعقلون. هاءَنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، واذا لقوكم قالوا آمنا واذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور)) آل عمران/8 1 1 ــ9 1 1 ، وهي من الايات التي ذكر العديد من المفسرين انها كانت بصدد اليهود المجاورين للمسلمين في الحجاز (6 3 ). فأي عظمة وتسامح ابلغ من هذا؟!
بل ماذا نقول فيما تصرح به آية (آل عمران/6 7 ) من حب الله للمتقين وهي بصدد الحديث عن أمانة بعض من اهل الكتاب، حيث يقول عزّ من قائل: ((ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك الا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين)) آل عمران/5 7 ــ6 7 ؟! وماذا نقول في تحليل القرآن للزواج من الكتابيات، مع ان من شأن الزواج ان تسود فيه المودة والرحمة بصريح قوله تعالى: ((ومن اياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) الروم/1 2 ؟!
هكذا فان دلالة ما سبق من الآيات قد تجد وضوحاً في ان القصد من النفرة انما هو بصدد ما يلاحظ من الجحود والعداء والحراب، وهو أمر يختلف فيه الحال من وضع الى آخر، ومن واقع الى غيره.
***
ننتهي مما سبق الى عدد من النتائج كالآتي:
1 ــ ان قانون الجزية ليس الزامياً، حيث انه في عصر النص لم يكن ملزماً فكيف الحال بما بعده من العصور.
2 ــ انه اذا فهم من الجزية بأنها ضريبة بدل النصرة والحماية، فان قوانين المواطنة الحالية التي تقرها الدول يمكن ان تكون عوضاً عنها.
3 ــ ان التمايز بحسب الاعتبارات الدينية في المجتمعات وقت عصر النص كان عرفاً سائداً تترتب عليه الكثير من النتائج، في حين اصبح التمايز في الوقت الحاضر قائماً على المواطنة، حيث يترتب عليها هي الاخرى الكثير من النتائج، وبحسب الاعتبارات الحالية يصبح التعويل على التمايز الديني اسلوباً لا يتسق وطبيعة التطورات التي افرزها الواقع الحديث، فهو يلقي بكثير من المشاكل الاجتماعية والسياسية ولا يخدم الفكرة الدينية ومقاصدها.
4 ــ ان ما يفسر حكم الجزية والصغار مع غيره من الاحكام التي جاءت معارضة له هو تمايزات الواقع وما يتحكم بها من مقاصد الشرع وعلى رأسها مبدأ العدل. وعليه فان المحاور الرئيسية للتعامل مع الاحكام تتمثل بكل من النص والواقع والمقاصد، وهو الأمر الذي يستهدفه النهج الوقائعي خلافاً لنظيره الماهوي. فالطريقة التقليدية رغم تعدد طرق فهمها بأشكال التعامل مع أهل الكتاب بحسب قانون الجزية ومبدأ الصغار؛ الا انها غارقة في المعنى الماهوي الذي يجعل من دلالة النص دلالة مستغلقة ومطلقة لا تقبل الفك ولا الانفتاح. فهي بحسب النهج الماهوي لا تركن الى الاستعانة بدلالة اخرى كتلك المستمدة من الواقع.
5 ــ تبعاً لما مرّ معنا يعد الكفر كماهية كلية مصدراً قد قصده الشرع بالمحاربة المطلقة. لكنه من حيث الواقع لا بد وأن يلتبس بعناوين اخرى تتحد معه، لذا فان المعاملة الشرعية له تتلون وتتباين بحسب ما يتحد معه، اذ قد يتحد بعدم العدوان والتحريض، فيتخذ الشرع ازاء الواقعة المتحدة اسلوباً من التعامل يختلف عن ذلك الذي يلابس نهج التحريض والعدوان. وكذا قد يتحد بالنسوة والشيخوخة، كما قد يتحد بالأبوة والأُمومة، وهو أمر يبعث على المغايرة في المعاملة، مثلما جاء في قوله تعالى: ((وإن جاهداك على ان تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً)). ويمكن ان يقال نفس الأمر في التمييز بين الكفر الملتبس مع الاستغلال والفساد وسائر ضروب الظلم، وبين ذلك الساكن الذي لا يؤدي مثل هذا الدور، فشتان بين رؤوس الكفر من الطغاة الجبابرة، وبين غيرهم من المستضعفين من الناس. هكذا يلاحظ ان تعامل الخطاب مع الماهيات المجردة هو تعامل ثابت لا يتغير، الا انه من حيث الواقع يراعي ملابساتها الخارجية، باعتبار ان وقائع الماهيات (المصاديق) غير معزولة عن الوقائع الاخرى التي تتحد معها وتجعلها مورداً للمواقف المتغيرة بحسب ما عليها من تغايرات. الأمر الذي يدل على الظاهرة النسبية في تعامل الخطاب، مما يؤكد خطأ التصور التقليدي الذي يجعل من الظرف ((ممطلقاً)) تجري عليه ظاهرة القياس او ((الاستصحاب)) التي تثبت عين الحكم باطلاقه واغلاقه. وهو التصور الذي حكم على كل زمان طوال التاريخ وعلى كل مكان في الارض من موقع لحظة ما عاشته الرسالة المحمدية ومن نقطة شبه الجزيرة العربية. بل انه وقف عند آخر ما نزّل من الاحكام التشريعية الالهية، فطبّق آخر مرحلة من مراحل الرسالة السماوية، وهي مرحلة ما بعد الفتح، والغى جميع الاحكام التي تتنافى مع ما جاء في هذه المرحلة، سواء تلك التي تعود الى المرحلة المكية او المدنية. كما انه عوّل على آخر الاحكام عند التعارض حتى لو كانت تنتسب جميعاً الى مرحلة ما بعد الفتح، مما يعني انه اختزل الشريعة السماوية بما صادف ان تحقق من احكام خلال مدة ما بعد الفتح، تاركاً وراءه الكثير من الاحكام ضمن ما يسمى بالمنسوخات. وهذا الاختزال للاحكام باختزال الواقع كان له أثره المناهض لمقاصد الشرع العامة.
هوامش الفصل الرابع
(1 ) تفسير ابن كثير، دار القلم، بيروت، ط1 ، ج2 ، ص1 9 2 ــ2 9 2 . والقرطبي: الجامع لاحكام القرآن، دار الكاتب العربي، مصر، ط3 ، 7 8 3 1 هـ ــ 7 6 9 1 م، ج8 ، ص3 7 .
(2 ) انظر: محمد أركون: الفكر الاسلامي/نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، ط1 ، 0 9 9 1 م، ص 3 8 1 ــ4 8 1 .
(3 ) السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، دار ابن كثير، دمشق ــ بيروت، ط1 ، 7 0 4 1 هـ ــ 7 8 9 1 م، ج2 ، ص 4 1 7 .
(4 ) ابن الجوزي: نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت.
(5 ) ابن حزم: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 6 0 4 1 هـ ــ 6 8 9 1 م، ص2 1 ــ8 1 .
(6 ) الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، مقدمة المحقق آغا بزرك الطهراني، دار إحياء التراث العربي ببيروت، ج2 ، ص3 4 1 .
(7 ) الطوسي: النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، تقديم آغا بزرك طهراني، انتشارات قدس محمدي في قم، ص3 9 1 ، ج2 ، ص6 3 .
(8 ) التبيان، ج5 ، ص0 5 1 .
(9 ) الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبي الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، ط2 ، ج2 ، ص2 4 . وتفسير ابن كثير، ج2 ، ص2 9 2 و0 8 2 . والجامع للقرطبي، ج8 ، ص3 7 .
(0 1 ) ابن العربي: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ج2 ، ص1 0 9 ــ2 0 9 .
(1 1 ) الشوكاني: فتح القدير، دار الفكر، 1 0 4 1 هـ ــ 1 8 9 1 م، ج2 ، ص2 5 3 .
(2 1 ) ابن القيم: احكام أهل الذمة، حققه وعلق حواشيه صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط2 ، 1 0 4 1 هـ ــ 1 8 9 1 م، ص8 3 7 وما بعدها. كذلك: ابو يوسف: الخراج، دار بو سلامة، تونس، 4 8 9 1 م، ص0 3 1 . ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص2 5 6 .
(3 1 ) قاسم، قاسم عبده: أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، دار المعارف، ط2 ، 9 7 9 1 م، ص3 3 .
(4 1 ) اعتمدنا في جميع النصوص التي ذكرناها على كل من: الخراج لأبي يوسف، ص2 0 1 و8 2 1 ــ9 2 1 . والخراج ليحيى بن ادم القرشي، صححه وشرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، دار المعرفة، بيروت، ضمن موسوعة الخراج، 9 7 9 1 م، ص4 7 ــ7 7 . والاموال بن سلام، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، ط1 ، 1 8 9 1 م، ص9 7 . كذلك: البلاذري: فتوح البلدان، ص7 6 1 .
(5 1 ) صبحي الصالح: شرح نهج البلاغة، الكتاب4 5 ، ص7 2 4 .
(6 1 ) ابن قدامة: المغني، مكتبة الرياض الحديثة، السعودية، ج8 ، ص5 4 4 . وابن عابدين: رد المختار على الدر المختار، طبعة قديمة، ج3 ص4 4 3 .
(7 1 ) القرافي: الفروق، نشر عالم الكتب، بيروت، ج3 ، ص6 1 . ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص3 5 6 .
(8 1 ) ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج5 ، مادة (نجران)، ص8 6 2 . كذلك: الاموال، ص5 8 ــ6 8 . واحكام اهل الذمة، ج1 ، ص0 3 ، ج2 ، ص8 9 6 . والشوكاني: نيل الاوطار، ج8 ، ص5 1 2 .
(9 1 ) الخراج لأبي يوسف، ص3 2 1 . والخراج للقرشي، ص6 6 . والاموال، ص0 2 . واحكام اهل الذمة، ج1 ، ص7 7 . وفتوح البلدان، ص5 8 1 ــ6 8 1 .
(0 2 ) مقدمة محمد حميد الله لأحكام اهل الذمة، ص1 9 ــ2 9 .
(1 2 ) احكام اهل الذمة، ج1 ص9 4 ــ 0 5 . انظر ايضاً: الماوردي: الاحكام السلطانية، ص4 4 1 .
(2 2 ) تاريخ الطبري، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ج3 ، ص6 3 2 ــ7 3 2 .
(3 2 ) فتوح البلدان، ص4 6 1 .
(4 2 ) عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الاسلام، مؤسسة الرسالة، بغداد، ط2 ، 6 9 3 1 هـ ــ 6 7 9 1 م، ص4 5 1 .
(5 2 ) الخراج لابي يوسف، ص1 4 1 .
(6 2 ) تاريخ الطبري،ج3 ، ص3 3 2 .
(7 2 ) الاموال، ص3 9 . وفتوح البلدان، ص3 0 2 ــ4 0 2 .
(8 2 ) تفسير الماوردي، ج2 ، ص0 5 3 .
(9 2 ) تفسير الماوردي، ج2 ، ص0 5 3 ــ1 5 3 0 والاحكام السلطانية، ص2 8 1 .
(0 3 ) لاحظ بهذا الصدد: الصعيدي، عبد المتعال: رأي في آية من آيات القتال، رسالة الاسلام، ج9 ، ص9 8 1 وما بعدها، وص4 0 3 وما بعدها.
(1 3 ) انظر مثلاً: تفسير الماوردي، ج2 ، ص6 4 . وج5 ، ص6 1 5 . وتفسير ابن كثير، ج2 ، ص2 8 . وج4 ، ص4 6 3 . ومجمع البيان، ج3 ، ص4 5 3 . وج9 ، ص5 4 4 .
(2 3 ) الفروق، ج3 ، ص4 1 ــ6 1 .
(3 3 ) تفسير الماوردي ج4 ، ص4 0 2 . كذلك: تفسير ابن كثير، ج4 ، ص 9 2 3 .
(4 3 ) تفسير ابن كثير، ج4 ، ص 8 4 3 .
(5 3 ) تفسير الماوردي، ج4 ، ص2 2 2
(6 3 ) رشيد رضا: تفسير المنار، دار الفكر، ط2 ، ج4 ، ص0 9 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق