حقيقة المعاد في الفكر الفلسفي العرفاني

يحيى محمد

في الرؤية الوجودية للفلاسفة والعرفاء هناك شكلان من الحركة عليهما يتأسس التصور العام للمعاد، احداهما نزولية >حلولية<، واخرى صعودية >اتحادية<. فمثلما هناك رقائق للصور تتنزل الى ادنى درجة لها في العالم السفلي، بما يطلق عليه سلسلة قوس النزول، تكون قبالها صور تترقى لتعود مرة اخرى الى التجرد والالتحاق بالعالم العلوي تبعاً لما يطلق عليه قوس الصعود. وبالتالي فان المعاد عبارة عن العودة الى عالم الادراكات المجردة من العقول والنفوس السماوية، او هو عبارة عن ذات العالم الالهي. مما يؤكد ان فهم طبيعة المعاد لا يتم الا بفهم المبدأ الذي تنزل عنه العالم وعلة هذا التنزل.

وفي جميع الاحوال ان حلقات السلسلتين الانفتي الذكر تمثل حالات متفاوتة من الادراك، وان التجرد فيه هو غاية العودة والمعاد. وبخصوص الانسان فان معرفته هي المركز الذي يمثل فيه غرض وجوده في الحياة 1 .

اذن نحن نواجه اشكالية اساسية لها علاقة بالبحث في علة النزول والصعود لصور الكائنات ومنها النفوس البشرية. فلماذا تتنزل الوجودات؟ كما لماذا تعود الى ما كانت عليه مرة اخرى؟ وكيف تجري العملية ازلاً وابداً، حيث المبدأ هنا يساوق العودة والمنتهى؟

لا شك ان هناك صوراً متعددة تطرحها الرؤية الوجودية لتبرير النزول والصعود ومن ثم دوام الفيض ازلاً وابداً، فتارة ان الامر عائد الى ما عليه نظام العلية، واخرى الى ما تستلزمه طبيعة الصفات والاسماء الالهية، وكذا ما يتضمنه العشق والحب، والى فعل العناية والسلوك نحو الغاية الكمالية عبر الاتصال المعرفي والاتحاد بالاصل مرة اخرى... الخ. فهي تفاسير متعددة لكنها تحمل مضامين متقاربة.

فامامنا عدد من القضايا الجوهرية التي لها علاقة بالمبدأ والمعاد، ابرزها طبيعة الدوام الذي تفرضه مسألة ازلية الحدوث والصنع التي تحدثنا عنها فيما سبق، بما في ذلك دوام وازلية الانواع الحية وعلى رأسها الانسان، وما نوع العلاقة التي تربط هذا الدوام والابدية بشكل النشأة التي عليها المعاد. كما لابد من بحث طبيعة اللحوق الى عالم الاخرة بحسب المفاهيم الوجودية، وتبيان ما تؤكده هذه المفاهيم من العودة الى العالم الاصلي، عالم الكمال والتجرد والوحدة، او عالم العقل والعلم والادراك المفارق، مع الاخذ بعين الاعتبار كيف يمكن ان تفسر العقوبات الربانية وسائر الشرور، وذلك باعتبارها لا تتفق مع فكرة الرجوع الى الاصل الكامل.. واين موقع كل ذلك من حتمية المراتب الوجودية وثباتها؟.. الخ.

المعاد ونظرية دوام الانواع

لا شك ان الضرورة الفلسفية تقضي بان انواع الكائنات تستمد وجودها وبقاءها من وجود عللها الثابتة، فهي بالتالي ثابتة الوجود بثبات هذه العلل. ومن المتفق عليه ان علل هذه الانواع عبارة عن عقول مفارقة. فالانواع الارضية من الجماد والنبات والحيوان كلها موجودة بوجود العقل المفارق. حيث يتمثل هذا العقل لدى المشائين بالعقل الفعال الاخير، وهو اخر العقول الطولية، لكنه لدى الاشراقيين بزعامة الشيخ السهروردي عبارة عن العقول العرضية المفارقة، وهي التي لا يتعلق بها جعل ولا تأثير، بل تعد عقولاً تشتمل عليها الذات الالهية، فهي موجودة بالجعل الثابت للذات، ولها احكام ثابتة وآثار لازمة هي مظاهرها. وسواء لدى المشائين او الاشراقيين، فان لوازم هذه العقول من الانواع الارضية، تتصف بالوجود والبقاء الثابت ازلاً وابداً، رغم زوال الافراد على التوالي. فمن حيث الازل ان كل فرد يسبقه اخر، وهكذا من غير بداية محددة. ومن حيث الابد فان كل واحد يلحقه اخر الى ما لا نهاية له. ومبرر كل ذلك يستند الى ضرورة بقاء المعلول عند بقاء علته الثابتة، او لوجود اعتبارات اخرى ثانوية كوجوب ثبوت الفيض ودوامه، ووجود العناية التي تأبى انقطاع النوع، او لعدم التعطيل في الوجود والاسماء الالهية المقدسة كالذي يقوله العرفاء، او لكون القاصر لا يدوم، وما الى ذلك من مبررات.

ان جميع تلك الاعتبارات تؤكد ضرورة بقاء المعلول سواء كان متعلقاً من الناحية الفعلية بشخص معين كالافلاك والاجرام التي لكل منها علة يعبر عنها بالرب، بما في ذلك الارض 2 ، او كانت افراداً متكثرة بالفعل كما في الانواع الارضية. اذ الغاية الذاتية ليست وجود شخص محدد بعينه، وانما هي وجود الماهيات النوعية بالخصوص 3 .

على ان الذي يحفظ دوام قابلية وجود افراد غير متناهية العدد في الطبيعة؛ انما هو التضاد والكون والفساد. فعلى رأي الفلاسفة انه لولا التضاد ما صح الكون والفساد، ولولا الكون والفساد ما امكن وجود اشخاص ونفوس غير متناهية، سواء كانت حيوانية او انسانية او غيرها 4 . فالتضاد والفساد والكون يحفظ الوجود غير المتناهي للافراد، وكل ذلك متعلق بحفظ وحماية العقل الفعال كما لدى المشائين، او تلك العقول والارباب كما لدى الاشراقيين 5 .

بذلك الحال اقتضى ان تعتبر الانواع دائمة الافاضة ازلاً وابداً، فمن الازل لا بداية لافرادها، ومن حيث الابد لا نهاية لفنائها. وكما قال صدر المتألهين: ان الانواع >لا محالة صادرة عن الواهب مبدعة قبل الزمان والزمانيات والامكنة والمكانيات، قبلية بالذات في عالم الدهر، اذ لا مانع في ذاتها من قبول فيض الوجود، ولا ضاد للجواد المطلق. ولا مبطل ومعطل للمفيض الحق عن وجوده وفعله ومنعه وابداعه. فهي لا محالة فائضة عنه ابداً. واما التي تفتقر في خصوصيات افرادها الشخصية الى سبق امكان استعدادي وراء امكانها الذاتي فهي ايضا فائضة، حيث طبيعتها المرسلة في عالم الصنع والابداع وان كانت في تعيناتها الشخصية مرهونة الهويات بالمادة والاستعدادات والازمنة والاوقات. وبالجملة فالافاضة عليها من جانب المفيض ثابتة دائمة وان كان المفاض عليه، وهي الانواع بحسب الهويات والوجودات، متجددة داثرة بائدة. فاذن جميع الماهيات وصور الانواع على الدوام فائضة من جانب الله ابد الدهر وان كان العالم الجسماني بجميع ما فيه ومعه وله حادثاً زمانياً مسبوقاً بعدم زماني<> .

كما ذكر ان النفوس الانسانية الناطقة تستمر في حدوثها ازلاً وابداً، وذلك باعتبارها غير متناهية بخلاف الابدان المتناهية، وحيث انها لا تحدث الا مع الابدان >فلابد من وجود مدة غير منقطعة، وادوار غير متصرمة ليحصل بحسب الادوار والحركات واستعدادات القوابل المتعاقبات نفوساً ناطقة قرناً بعد قرن ونسلاً بعد نسل، ليتم الازل بالابد ويكمل البداية بالنهاية ولا يصير نعمة الله بتراء ولا جوده منقطعاً وفضله معطلاً، ولذلك قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} 7 .

فكل ذلك يجري من خلال استمرار الفيض ودوام الجود بنسق واحد على الاشياء ازلاً وابداً 8 ، حيث يظل الفيض سارياً على العالم الطبيعي الذي تتبدل وجود أجزائه ويتجدد حالاً بعد حال، لكن كلياته تبقى ابداً كالافلاك وكليات العناصر الاربعة وكليات الانواع المركبة المحفوظة بتعاقب الافراد 9 .

***

وهذا التفكير في الواقع يواجه مشكلتين كالاتي:

اولاً:

ان بقاء الفيض والاستناد الى العلية والمعلولية يجعل من اثبات القيامة الكبرى امراً قد يصعب تحقيقه، ذلك ان الانواع لما كانت رهينة وجود عللها، وان عللها العقلية ثابتة لا تقبل التحول والتغير، فهي لا محالة لابد ان تظل ثابتة مدى الدهر، حتى يكون الفيض سارياً على نسق واحد ازلاً وابداً من دون حدوث امر طارئ يستجد عليها. وليس من حل لهذه المشكلة الا بالقضاء على فكرة العلية وسلب الثبات من العلل العقلية والانوار المجردة.

ومع انه قد يقال ان الاخذ بفكرة الاتحاد ورجوع الخلائق الى المبدأ الاصل بالاتحاد والفناء فيه؛ يمكن ان يقدم لنا تبريراً مفيداً وناجحاً لقيام القيامة الكبرى، وهو الامر الذي يتجاوز فكرة العلية بالكامل، لكن مع ذلك فان هذا الطرح العرفاني لا يتجاوز الثبات في وجود الاسماء الالهية من ارباب الانواع، ولا كذلك ثبات مربوباتها من الانواع ودوام الفيض. اي انه لا فرق بين الطرحين الفلسفي والعرفاني من ضرورة وجود كائنات ثابتة تعمل على دوام الفيض وبقاء الانواع ازلاً وابداً، سواء فسّرنا الامر تبعاً لفكرة العلية والعقول المفارقة، ام لفكرة الارباب والاسماء الالهية عبر التجلي الالهي، حيث كما يقول ابن عربي: ان كل تجلي يعطي خلقاً جديداً، ويذهب في قباله بخلق اخر، وهذا الذهاب هو الفناء عند التجلي 0 1 . وكذا ما يشير اليه حيدر الاملي من ان المعاد عبارة عن عود مظاهر بعض الاسماء الى مظاهر اسماء اخرى. او عبارة عن ظهور الحق بصور اسمي الباطن والآخر مع اسماء اخرى كالعدل والحق والمحيي والمميت، كما ان الدنيا والمبدأ عبارة عن ظهوره بصور اسمي الظاهر والاول مع اسماء اخرى كالمبدئ والموجد والخالق والرازق وامثالها، وذلك لتوفية حقوق كل اسم من اسمائه غير المتناهية. على ان اسماءه بحسب الجزئيات والاشخاص غير متناهية، لكنها بحسب الكليات والانواع متناهية، فيجب ان يكون الحق متجلياً على الدوام بصور اسمائه وصفاته دنيا واخرة، لهذا ذهب بعض العرفاء الى ان الدنيا والاخرة مظهران من مظاهر الحق، وعليه لابد ان يكونا حادثين على الدوام من غير انقطاع وتوقف في آن او زمان. هكذا فان القيامة عبارة عن تغيير عالم الظاهر وتبديله ورجوعه الى الباطن دائماً، كما ان الدنيا عبارة عن ظهور الباطن بصور الظاهر على الدوام ورجوعه اليه ايضاً، وذلك لان الاسماء وإن كانت كثيرة لكن لا يخرج حكمها عن هذه الاربعة: الاول والاخر والظاهر والباطن، وهي ذاتها عبارة عن الدنيا والاخرة. على ان لكل اسم اقتضاء واحكام، فالاخرة من اقتضاء الاسم القهار والواحد والاحد والصمد والفرد والمعيد والمميت وغير ذلك، كما ان الدنيا من اقتضاء الاسم الظاهر والمبدئ والاول والموجد وغير ذلك، رغم ان كل واحد من هذه الاسماء هو نفس الاخر، وذلك باعتبار ان المغايرة في الاثر والاحكام لا في الذات والحقيقة 1 1 .

وعليه يظل ان الفارق بين الطرحين الفلسفي والعرفاني هو ان الرؤية العرفانية تجيز عمليتي الحلول والاتحاد ازلاً وابداً بتجاوز فكرة العلية والثنائية التي تؤكد على الفوارق الثابتة بين العلة ومعلولها. مما يعني ان كلا هذين الطرحين لا يسعهما تفسير مسألة الحشر الجماعي للقيامة الكبرى؛ ما لم يُعترف بتكثر الحشر والقيامة وتسلسلهما ازلاً وابداً، حيث يتم في كل مرة حشر الخلائق العائدة واستبدالها بغيرها، وهكذا على نسق واحد من دوام الفيض والحشر ازلاً وابداً. لكنا سنجد لصدر المتألهين بعض الاراء التي تتناقض مع فكرتي دوام الفيض وبقاء الانواع واربابها، وذلك تعويلاً على ما ابداه من تلفيق جامع بين العرفان والنص الديني.

ثانياً:

لقد افادنا العلم الحديث بان لكل نوع عمراً محدداً على وجه التقريب، وان بعض الانواع الحية قد انقرضت، فكيف نوفق بين هذه الحقيقة وبين تأكيد الفلاسفة على ضرورة وجود الانواع ازلاً وابداً؟ فهناك اربع دعائم ذكرها صدر المتألهين كي يبرهن على قوله بوجود الانواع ازلاً وابداً:

اولها كون العناية الالهية تأبى انقطاع الانواع.

وثانيها ضرورة جريان قاعدة الامكان الاشرف في كليات الانواع.

وثالثها ان ثبوت المثل النورية، او العقول العرضية التي لها عناية بافراد انواعها المادية، ينافي انقطاع كليات الانواع ولو للحظة واحدة من الزمان.

اما رابعها فهو ان افراد الطبيعة عند العرفاء عبارة عن اسماء الله وتجلياته، فكيف يجوز ان لا تدوم هذه الاسماء والتجليات؟

فهذه الدعائم كلها تعبر عن حقيقة واحدة تتفق مع منطق العلية والسنخية في ثبات العلة والمعلول؛ مهما تلونت الاعتبارات والمجازات.

بيد ان هناك بعض الاجوبة افادها المرحوم الطباطبائي ليجد عناصر الاتساق ويوفق بين ثبات العلية ودوام الفيض كضرورة من الضرورات الفلسفية من جهة، وبين حقيقة انقراض بعض الانواع كضرورة علمية من جهة اخرى. فبداية انه نقد فكرة العقول العرضية لدى الاشراقيين ولم يوافق عليها اطلاقاً، اذ اعتبر ان ما ذكره الفلاسفة من دوام وجود الانواع واستمرار النظام المدبر لها؛ مبني من وجه على فكرة ثبوت أرباب الانواع، ومن وجه اخر على اصول موضوعة متعارف عليها بحسب منطق علم الفلك القديم. لكنه لم يكترث بالوجهين معاً، واعترض على ما قدمه صدر المتألهين من ذرائع، فأجاب عن الذريعة الاولى الخاصة بالعناية؛ بان هذه العناية لا تنفك عن مراعاة حال المقتضيات والشرائط والعلل المعدة، فمن الجائز بحسب ذلك ان يكون استعداد الاوضاع والاحوال لظهور بعض الانواع محدوداً زماناً، مما يأذن بالانقراض، وقد تسنح له فرصة الوجود مرة اخرى حين يستأنف حضور الاستعداد من جديد، فيكون الفيض والعناية محفوظين رغم ما يحصل من تقطعات مؤقتة، بل لديه ان انقراض بعض الانواع نهائياً من دون عودة ورجوع، لا يمنع حفظ دوام الفيض والعناية، من حيث ان سائر الانواع الاخرى تظل مستفيدة منه. ولا شك ان ذلك مبني على رفض فكرة ارباب الانواع. وشبيه بهذا الجواب ما اجاب به عن الذريعة الثالثة، وهو ان العقول العرضية على فرض تقديرها ليست بعلل تامة، وانما هي فواعل يتوقف فيضها على اجتماع الشرائط المعدة، فكلما اجتمعت هذه الشرائط استأنفت الانواع ظهورها من جديد. أما جوابه عن الذريعة الثانية فهو انه لم يسلّم بثبوت الاخس الذي يمثل شرط توقف القاعدة عليه. في حين ان جوابه عن الذريعة الرابعة فهو انه رغم تسليمه بان صور الافراد عبارة عن اسماء الهية وتجليات ربانية لكنها ليست من الاسماء والتجليات الكلية، بل هي اسماء وتجليات كونية لا يجب فيها الدوام والاستمرار 2 1 .

على ان ما قدمه صدر المتألهين من ذرائع كان متسقاً مع روح العرفان والفلسفة معاً. فمن حيث العرفان لابد للاسماء والتجليات الكونية ان تكون محفوظة ومصانة عن النقص. أما من حيث الفلسفة فان ثبات العلية بين العلة والمعلول لابد ان يكون محفوظاً ايضاً. ولم تكن محاولة الطباطبائي موفقة من الناحية الفلسفية، فلو ان بعض الانواع انقرضت لكان يجب ان يكون هناك تخلخل في الشروط المادية. مع ان هذه الشروط هي ايضاً تمثل انواعاً محكومة بشروط اخرى وارباب اخرى، فكل تغير مفاجئ يحصل فيها لابد ان يقتضي تغيراً في غيرها من الشروط النوعية، وهذا الحال محال لأنه يؤدي الى تسلسل الانواع بغير نهاية. أما لو فرضنا ان مقتضى التغير يلوح نفس الارباب، فهو محال ايضاً؛ باعتبارها تمثل - عند الفلاسفة - عقولاً ثابتة لا تتغير ازلاً وابداً.

والواقع ان هذا الاعتراض لا يصدق على الاشراقيين والعرفاء فحسب، بل يعم حتى المشائين الذين نفوا ان تكون هناك عقول عرضية مضافاً الى العقول الطولية. اذ يظل ان كل تغير نوعي طارئ يقتضي التغير في علته العقلية المفارقة، وهو امر محال باعتبار ان العلل المفارقة علل ثابتة لا تقبل التغير ازلاً وابداً.

المعاد والعودة الى الاصل الالهي

يجمع الفلاسفة على ان النفس لها اصل الهي سابق على البدن، وهم من هذا المنطلق اعتقدوا بضرورة مفارقتها له بعد اكتمال مهمتها من بلوغ الحد الذي يجعلها قابلة للانفصال عنه كلياً. مما يعني ان النفس لابد لها ان تعود الى عالمها الالهي الذي تنزلت منه. اي فكما ان هناك تنزلاً، فهناك عود وصعود. وهنا نجد عدداً من المسائل المتعلقة بهذه العودة. فاولاً ان النفس لها قوى ودرجات متباينة من الادراك والتجرد، وعلى هذا التعدد والاختلاف لا بد ان نعرف اي هذه القوى مؤهلة للعودة، وايها يندثر وينمحي مع هلاك البدن؟ ثم كيف جرى تفسير العودة لدى الرؤية الوجودية؟ كذلك ما هو مصير النفوس الشريرة والجاهلة؟ فهذه المسائل وغيرها سنتعرف عليها كالاتي:

يؤكد الفلاسفة بان النفس التي تفارق البدن هي تلك التي تتصف بالتجرد وتكون موضعاً للعلم العقلي. فهم يتفقون كما ينقل ابن رشد على ان النفس المخالطة للهيولى، والتي توصف بانها مخلّقة لانواع الاجسام والابدان الارضية ومصورة لها، فانها تعود الى مادتها الـروحانية الإلـهية 3 1 . أما النفس التي لا تخالط الهيولى والتي ليس لها علاقة بتخليق البدن وتصويره، فان الفلاسفة يختلفون في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع الى الأصل الإلهي. فعند ارسطو ان جميع قوى النفس تبطل سوى العقل المكتسب المسمى بالعقل المستفاد، وذلك بخلاف العقلين المتبقيين، وهما العقل الهيولاني والعقل بالملكة. فالعقل الهيولاني هو عقل بالقوة، اي محض استعداد لقبول وادراك المعقولات، فهو بالتالي خال من الصور. أما العقل بالملكة فهو العقل الذي تحصل فيه المعقولات وكان من الممكن استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد ولا تكلف. في حين ان العقل المستفاد فهو ذلك الذي تكون فيه المعقولات حاضرة عند العقل من غير غياب. فهذه هي القوى الثلاث للعقل، وكلها داثرة عند ارسطو باستثناء العقل الاخير. لكن اتباع ارسطو من المشائين القدامى وجدوا ان العقل الهيولاني هو ايضاً يعد باقياً لا يقبل الفساد والاندثار. وان ابن رشد له اكثر من موقف، حيث انه في >تهافت التهافت<> المعقول الواحد، ويحكم عليها حكماً كلياً، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني اصلاً 4 1 ، كما انه ليس مجرد محض قوة واستعداد فحسب. لكنه في >تفسير ما بعد الطبيعة<> . أما لدى غير ابن رشد من الفلاسفة المسلمين، فالمعول عليه هو ان العقل الهيولاني وكذا العقل بالملكة كليهما يعدان غير مندثرين، ومن ذلك ما يؤكد عليه ابن سينا 6 1 .

***

ومن حيث تفسير الرؤية الوجودية لكيفية المعاد فالملاحظ ان هناك عدداً من الاطروحات، احدها تلك التي قال بها اغلب الفلاسفة، وهو ان المعاد ليس جسمانياً، وانما يجب ان يكون محلاً للعلم بما لا ينقسم ولا يمكن الاشارة اليه حسياً 7 1 . وهو ما قال به الفارابيان واتباعهما. فابن سينا - مثلاً - صرح بنفي المعاد الجسماني في رسالة >الاضحوية في امر المعاد<> كما انه لوّح الى نفيه في رسالة >دفع الغم من الموت<> وفي كتاب >المبدأ والمعاد<>في السعادة والشقاوة الوهمية في الاخرة دون الحقيقية<> وابدى في كتاب >النجاة<> وإن كان في موضع اخر من الكتاب المذكور، وكذا في >الهيات الشفاء<، ذكر نصاً حاول ان يظهر فيه مظهر المعتقد بالمعاد الجسماني، وكما قال: >يجب ان تعلم ان المعاد منه مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث.. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان للانفس<> .

واهم ما في الامر هو ان الشيخ الرئيس قام بتقديم بعض التبريرات التي دفعته الى نفي المعاد الجسماني، حيث انها مستلهمة من الغاية التي حصر الفلاسفة عنايتهم بها، وهي الغاية المتمثلة بالادراك المعرفي المجرد. وذلك باعتبار ان المادة تصبح معيقة لبلوغ هذه الغاية، ومن ثم تحصيل السعادة التامة 3 2 .

وقد اختلف الفلاسفة حول النفوس الساذجة عن العلوم كلها ان كانت تعدم او تعاد 4 2 . فإبن سينا حيث انه لم يتمكن من اثبات تجرد القوة الخيالية للانسان؛ فقد صار متحيّراً في بقاء النفوس الساذجة بعد الموت، فتارة اضطر الى أن يقول ببطلانها كما في رسالته >المجالس السبعة<، وأُخرى قال إنها باقية لكونها تدرك بعض الأوليات والعمومات 5 2 . وهو لم يقطـع باستـخدام النفس للجرم السماوي بعد مفارقة البدن، ذلك انه وإن كان يبدو عليه شيء من الميل الى هذا الاعتقاد في شرحه لكتاب >اثولوجيا<، إلا أنه في كتاب >المباحثات< اعترف بالقصور عن ادراك مثل هذا الأمر، دون أن يجزم إن كان فعلاً يمكن للنفس أن تستخدم الجرم السماوي بعد مفارقة البدن ام لا 6 2 . كما ظهر لدى شيخه الفارابي بعض الترددات بخصوص النفوس الجاهلة والشريرة. ففي كتابه >آراء أهل المدينة الفاضلة<> . لكنه في >السياسة المدنية<> . بل ان هذا المعلم رغم انه اقر - في مجمل ما كتبه - بجوهرية واستقلالية النفس عن البدن ورأى أنها تفارق البدن كلياً دون أن تعود اليه 9 2 ، لكن كما ذكر ابن طفيل، انه في شرحه لكتاب >الأخلاق<>شيئاً من أمر السعادة الانسانية وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلاماً هذا معناه: >وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز<.. إذ جعل مصير الكل الى العدم. وهذه زلة لا تقال<> .

والاطروحة الثانية في كيفية تفسير المعاد هي لابن رشد الذي تبنى موقف الفلاسفة الاغريق من المشائين، حيث انكر المعاد النفساني في صورته الجزئية، مثلما انكر الحشر الجسماني حيث مآله الفساد والتحلل، واعتقد ان النفوس بعد مفارقة الابدان لابد ان تكون واحدة بالعدد. وبالتالي فالخلود الذي يتحدث عنه ابن رشد ليس فردياً، حيث تتحد النفوس البشرية بعقل الانسانية الشامل والمعبر عنه بالعقل الفعال. وقد شبّه ذلك بالضوء حيث ينقسم بانقسام الاجسام المضيئة ثم يتحد عند انتفاء الاجسام، وكذا الامر في النفوس مع الابدان، اذ تتحد بانتفاء الاخيرة 1 3 . لكن لابن رشد رأياً اخر تجاوز فيه هذا الرأي المشائي، ذلك انه تبنى القول بالمعاد النفساني كالذي عليه الفارابيان حسب نظرية التمثيل التي سيمر علينا تفصيل الحديث عنها فيما بعد. واكثر من هذا اشار الى معنى اخر قد يكون مختلفاً عما سبق، ففي بعض كتبه - كما في التهافت والمناهج - اقر ببعث الاجسام، لكن لا بهذه الاجسام الطبيعية وانما بامثال لها 2 3 . فالعائد انما هو امثال هذه الاجسام الدنيوية وليس عينها، حيث ان المعدوم يحال ان يعاد نفسه 3 3 . وهو لم يحدد ان كان يقصد بذلك نفي المعاد الجسماني كلياً على طريقة الفارابي وابن سينا وغيرهما من جمهور الفلاسفة المشائين، ام كان يرى المعاد الجسماني على صورة المُثل المعلقة كما هو الحال عند الاشراقيين كالشيخ السهروردي، او لا هذا ولا ذاك، بل شبيه بما لجأ اليه صدر المتألهين، كالذي سيمر علينا عما قريب؟

والاطروحة الثالثة في تفسير المعاد هي للسهروردي القائل بان المعاد الجسماني يعبر عن عالم وسيط وجامع بين العالمين الحسي والعقلي، وهو عالم الخيال والمُثل المعلقة، وذلك انه يجمع صور جميع الموجودات العقلية والحسية. وتتصف هذه المُثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد والآخرة، وذلك على شاكلة ما كان يقوله افلاطون مع بعض الفوارق، حيث ان المُثل الافلاطونية نورية ثابتة، بينما المُثل المعلقة منها مستنيرة للسعداء ومنها ظلمانية للأشقياء. وفي جميع الاحوال ان المُثل المعلقة ليست حالّة في قوام مادي، كما إنها ليست خيالات نفسية داخلية كالذي عليه نظرية الفارابيين وغيرهما. وهو امر يتسق مع نظريته النورية في الشهود والحضور، حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك >البرازخ<>.

اما الاطروحة الرابعة فهي لصدر المتألهين، الذي عدّ مشكلة القول بنفي المعاد الجسماني هي من اهم المسائل التي دفعت الفلاسفة الى ان يعدوا الشرع خطابياً جاء ليقنع عوام الناس، الامر الذي أثار حفيظة هذا العارف فرد عليهم بنفس المقياس الذي شيدوه لفهم النص، اذ ذكر في رده بانه لو كان من الصحيح ان الشارع جاء ليقنع الناس بالايهام؛ للزم ان يضل الصالحين ويفضي بهم الى العذاب المؤبد، نتيجة الجهل بحقيقة علم المعاد 4 3 . وإن كان هذا العارف هو ايضاً لم يراع هذا التحذير الذي نبّه عليه. ومن ذلك انه اعتبر معصية ادم التي شهد لها النص القرآني والكتب السماوية الاخرى لا تفيد المعنى الحقيقي للنص، وانما هي من التجوزات والرموز، وذلك مداراة لضعفاء العقول من الناس 5 3 . وكأنه بهذا اعاد الصورة التي نادى لها الفلاسفة، وبرر لها بعضهم ضمن تصويره الخاص في روايته الرمزية >حي بن يقظان<.

وعلى رأي صدر المتألهين فان هناك انواعاً متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل الى ستة انواع. وتتصف اغلب هذه المعادات بأنها صورية وقائمة بحسب اعتبارات نظرية الاتحاد، حيث كل شيء يتحد بما يناسبه. ومن بين هذه المعادات هناك المعاد الخاص بالانسان والذي هو بدوره يكون له عدد من المعادات بحسب مقاماته ومراتبه، ومنه يعترف هذا العارف بالمعاد الجسماني لكنه صوري يخلو من العنصر الطبيعي المادي، وبالتالي فان له وجوداً متوسطاً بين عالمنا المادي والعالم العقلي المجرد، فلا هو من هذا العالم، ولا انه من ذاك، بل هو وسط بينهما. والمعادات الستة هي كالاتي 6 3 :

1 - عالم الروحانيات المحضة، وهي الارواح العالية والعقول القدسية والصور المفارقة والمثل الالهية والارباب النورية، حيث معادها الى الذات الأحدية.

2 - عالم النفوس الفلكية.

3 - عالم الاجرام العظيمة، حيث معادها بحسب قواها، فمن حيث قوتها الخيالية فالى عالم النفوس والامثال، ومن حيث قوتها الهيولية فالى دار البوار ومهوى الاشرار ومنزل الكفار، ومن حيث طبيعتها المتجددة في كل حين وزمان فالى ما اليه تميل وتستحيل من الصور المثالية المتماثلة المتصلة لا المتضادة المتخالفة المتفاضلة.

4 - عالم الصور المتضادة والعناصر المتفاسدة، حيث معادها يكون باعتبارين، احدهما باعتبار التصالح والجمع والوحدة فيما بينها، فاول معادها الى هيئة الجماد ومنه الى النبات ثم الى الحيوان. أما الاعتبار الاخر حيث معادها الى ما هو ضدها حيناً والى ما يماثلها حيناً اخر.

5 - عالم الهيوليات، ومعاد كل منها الى البوار والهلاك.

6 - عالم الانسان، حيث له عدة معادات بحسب نشآته العديدة الحاصلة له من تركيب جسده وطبعه وروحه ونفسه وعقله. ذلك ان له بحسب كل نشأة بعثاً وحشراً ومعاداً. مما يعني ان هناك خمسة منازل ومقامات في البعث للانسان: فالاول عبارة عن بعث قالبه الجسدي من قبر الارض بحسب غلبة الارضية عليه، والثاني عبارة عن بعث قلبه من قبر قالبه، والثالث هو بعث روحه من قبر قلبه، والرابع هو بعث نفسه من قبر روحه، والخامس هو بعث عقله من قبر نفسه 7 3 . وبحسب هذا التعدد في المعاد فان صدر المتألهين لجأ الى تأويل بعض الايات، كقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} الاعراف/9 2 ، حيث عدّها تعني كما بدأكم في الاول من العقل ثم النفس فالجسد، فستعودودن على العكس من الاكثف حتى الالطف فالالطف 8 3 .

ويستفاد من ذلك بان المعاد النهائي لاغلب الانواع التي مرّت معنا هو الصورة او الادراك على انواعه المختلفة. وتبعاً لنظرية صدر المتألهين يمكن القول بوجود نوعين من المعاد للنفوس البشرية، احدهما هو الذي تتحد فيه النفوس بالعقل الفعال كلياً 9 3 ، وذلك على شاكلة ما لجأ اليه ابن رشد في نظريته المشائية، اما الاخر فهو الذي تكون فيه النفوس على شكل صور مثالية عينية معلقة ومنفصلة عن بعضها، وذلك حيث اثبت مفارقة قوة النفس الخيالية التي كان الفلاسفة يظنون انها قوة مادية تفنى بفناء البدن.

وصدر المتألهين هو ابرز القائلين بتعدد انواع المعاد تبعاً لاعتقاده بتعدد انواع البشر. فعلى رأيه ان الانسان وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة الى الفعل، لكنه متخالف الماهية في الباطن، وذلك بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة الى الفعل 0 4 . فعند خروج النفوس من القوة الهيولانية تصير انواعاً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملكات، حيث كل نوع من جنس ما يغلب عليه من صفات بهيمية او سبعية او شيطانية او ملائكية 1 4 ، وان كل فرد من الانسان يعود الى مبدئه الذي انشأه، فالبعض يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون معاده اليه، وبعض اخر يكون مبدأ وجوده القريب هو اخر مراتب العقول المفارقة، لذا فان معاده يكون اليه، كما ان هناك بعضاً ثالثاً يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم عمّار عالم الشر، لذلك فان معاده الى النار التي هي اصل وجوده حيث يتألف منها الشيطان، وهكذا 2 4 ..

مهما يكن فان الصورة التي رسمها صدر المتألهين للمعاد الانساني هي ايضاً لم تعبّر عن ظاهر النص. صحيح انه صرح بوجود جسم صوري عيني، لكنه نفى - من الناحية المبدئية - ان يكون للجسم الطبيعي وجود في هذا العالم، معتبراً ان النشأة الاخرة ادراكية علمية، حيث فيها ابدان صورية ونفوس غير متناهية، اذ لا يمتنع اجتماع هذه الاعداد في غير الوضعيات المادية لعدم التزاحم والتصادم ونفي التركيب الوضعي والعلي 3 4 .

على ان اعتقاد صدر المتألهين بجسم صوري عيني جاء كطريقة تتوسط بين النص الديني وما عليه النزعة الوجودية القبلية تبعاً لمنطق السنخية. فقد خالف المشائين في نفيهم للمعاد الجسماني، كما خالف الاشراقيين الذين عولوا على المثل الخارجية، لكنه لم يقل بالبدن العنصري الطبيعي كالذي تبديه ظواهر النصوص الدينية، بل كان بدناً صورياً وشبحاً ظلياً وقالباً مثالياً لازماً للجوهر النفساني المفارق من دون ان يكون فيه استعدادات ومواد وحركات، فنشأة الابدان في الاخرة لا تكون من الجهات القابلية كما هو الحال في الدنيا، بل تصدر من الجهات الفاعلية بابداع الحق اياها كاظلال مثالية وصور فعلية للنفوس، فهي بهذا ليست مادية وذلك باعتبار ان المادة زائلة بتحولاتها الدائمة؛ بخلاف ما عليه الصورة التي تتصف بالثبات والفعلية والبقاء 4 4 .

والملاحظ ان صدر المتألهين رغم انه يسلم مبدئياً بضرورة الابدان الصورية في النشأة الاخرى، الا ان موقفه بشأن ابدان النفوس الشقية امر يختلف، اذ يعترف بان لها ابداناً طبيعية عنصرية، الامر الذي يلزم عنه بعض التناقضات، على ما سنعرف. وعلى العموم انه لدى هذا الفيلسوف بعض الترددات والمفارقات التي تخص الفوارق النوعية بين طبيعة اهل السعادة واهل الشقاء.

فبخصوص النفوس السعيدة من اهل الجنة يرى هذا العارف ان تمتعها يكون بما لديها من صور محسوسة تتضاعف بلا مزاحمة ولا تضايق، اذ ليس من المحال ان تجتمع صور غير متناهية دفعة، ذلك انه لا يجري عليها براهين الامتناع، اذ لا ترتيب فيها 5 4 . وبالتالي فان لأهل الجنة عالماً صورياً يتناسب مع كمالهم، فلا يجري عليهم تجدد واستحالة وتغير، بل ان حركاتهم وافاعيلهم تكون من نوع آخر ليس فيها نصب ولا لغوب 6 4 ، وان السماوات ودوراتها مطوية في حقهم، فلهم مقام في الزمان وفي المكان، وزمانهم هو زمان يجمع فيه الماضي والمستقبل في لحظة وآن منه، وان مكانهم هو مكان يحضر في مجلس جميع ما تسع له السماوات والارض، وان نعيمهم من الجنة لا يمكن ان يكون من جملة المحسوسات الطبيعية، انما هو من المحسوسات الصرفة المجردة عن عالم الطبيعة والهيولى، مثلما يراه الانسان في نومه من المحسوسات غير الطبيعية، والنوم جزء من اجزاء النبوة، ونشأته مثال النشأة الاخرة.

لكن بخصوص اهل النار نجد لدى هذا العارف تردداً، فتارة انه لا يفرق في شكل المعاد بين اهل النفوس السعيدة والشقية، فكلاهما عبارة عن صورة بلا مادة، وفعل بلا قوة7 4 ، وانهما معاً يلزم عنهما الابدان الظلية والقوالب الشبحية المثالية، مثلما يلزم الظل عن الضوء8 4 . لكنه تارة اخرى يرى ان ابدان النفوس الشقية هي من جنس عالم الطبيعة والمادة فيحدث لها التجدد والتبدل والاستحالة وتتقلب من صورة الى صورة، وذلك لان طبائعها من القوى الجسمانية المادية، وان دار الجحيم هي من جنس هذه الدار، وحيث ان افاعيل القوى المادية وانفعالاتها متناهية فلابد فيها من انقطاع وتبدل، وبالتالي لابد من تبدل الابدان واستحالة المواد من حركة دورية صادرة عن اجسام سماوية محيطة باجسام ذوات جهات متباينة كائنة فاسدة 9 4 . على ان مصدر التناقض هنا هو كيف يمكن الجمع بين الابدان المتغيرة المتجددة مع كون نفوسها عبارة عن صورة بلا مادة وفعل بلا قوة؟ ذلك ان حالة التأثير بينهما تجعل من احدهما على سنخ الاخر، فإما ان يكونا متجددين ومتغيرين معاً، او انهما تامان بالفعل سواء كان تمامهما بنحو السعادة ام الشقاء، والا ما علاقة احدهما بالاخر؟! وكدلالة اخرى على تناقض ما قدمه صدر المتألهين، هو ان التسليم بوجود الاجسام الطبيعية لاهل الشقاء في الدار الاخرى؛ يعني التسليم بوجود اعداد غير متناهية من مثل هذه الاجسام المادية، وهو امر قد احاله هذا العارف ليثبت به الوجود الصوري للاجسام كما عرفنا.

مهما يكن فان نظرية صدر المتألهين في ايجاد التفرقة النوعية للابدان بين اهل الشقاء واهل السعادة؛ هو مما لا تساعد عليه النصوص القرآنية، مثلما ان القول بوجود الجسم الصوري غير الطبيعي هو ايضاً مما لا تساعد عليه تلك النصوص.

ان عدم التوافق والتطابق بين ما عليه ظاهر النصوص من جهة، وبين ما عليه الرؤية الوجودية لهذا العارف من جهة اخرى، تثير لدى القارئ تلك الاشكالية التي طرحها صدر المتألهين حول الجهل بطبيعة المعاد والتي حكم فيها على كل من جهل المعاد وتصوره على غير حقيقته الفعلية بانه واقع في العذاب لا محالة. اذ هل يصح ان يقال ان نظرية صدر المتألهين لا تختلف عن سائر النظريات الاخرى التي لم تصور المعاد على صورته الحقيقية، او على الاقل انها قد ابتعدت عن ظاهر النصوص القرآنية، وبالتالي فانها محكومة بنفس ذلك الحكم؟ او يقال على العكس، وهو ان كل من آمن بالمعاد بالشكل الذي يخالف فيه نظرية هذا العارف فانه ممن يصيبه العذاب، وذلك كالذي صرح به في >المبدأ والمعاد<، معتبراً هذا الامر من الكفر والخذلان والعصيان 0 5 . علماً بانه في كتابه >الاسفار<> . وبالتالي هل يمكن القول ان اغلب المسلمين هم ممن يصدق عليهم ذلك الحكم من الكفر والخذلان؟!

مع هذا فهو في >كسر اصنام الجاهلية<> .

الادراك ومنشأ السعادة والشقاوة

بحسب الرؤية الفلسفية فان لوجود الانسان غاية تتمثل باللذة المعرفية، فتحصيل المعرفة هو السعادة التي وجد لاجلها الانسان، وان الادراك العقلي كلما ازداد علماً ومعرفة فانه يزداد سعادة، حتى يصل الحال الى السعادة القصوى وذلك عند بلوغه العقل الفعال. فأرسطو كغيره من الفلاسفة يرى الادراك هو سبب اللذة والسعادة 3 5 ، وكلما تنامى الادراك تنامت اللذة، حتى يكون تمام الادراك كفيلاً بتحقيق كمال اللذة. مما يعني ان السعادة القصوى تتحقق في حال كمال العقل، وهو لا يتحقق الا عبر الاتصال بالـعقل الـمفارق 4 5 ، حيث الـتجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود، وهو ما يمثل غاية الفيلسوف.

وسواء لدى الفلاسفة ام العرفاء فان المعرفة تشكل غاية الانسان وسعادته، وان ابلغ حالات السعادة هي معرفة الحق، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الفلاسفة يعدون هذه المعرفة تتجلى بالعلوم العقلية 5 5 ، أما العرفاء فيعدونها تتجلى بعلوم المكاشفة، وبالتالي فان ارفع علوم المكاشفة هي معرفة الحق وصفاته وافعاله، باعتبارها غاية قصوى تطلب لذاتها وتنال بها السعادة العظمى 6 5 . او كما يشير ابن طفيل في قصته >حي بن يقظان<> .

اذن بحسب هذه الرؤية تكون السعادة مطلوبة لذاتها والانسان يكدح لطلبها ولا ينالها الا بالحكمة او العرفان، وذلك لكي يتجلى لعقله او قلبه كل الكون ويتشبه بالاله الحق، او حتى يتحقق له الاتحاد بما فوقه من العقول المفارقة والمبدأ الحق. فهذا هو ما يعول عليه الفلاسفة والعرفاء بشكل او باخر. فقد عد الفارابي ان اقصى مراتب الكمال والسعادة التي يمكن ان يبلغها الانسان هو ان يصير في مرتبة العقل الفعال >جبريل<، وذلك عند مفارقة الجسم والمادة تماماًً 8 5 . وفي محل آخر قرر بان سعادة الانسان وكماله لا يحصل في بلوغ مرتبة ذلك العقل، بل دونه درجة، وذلك بتأمل الحقائق الازلية فيه، أما شقاء الانفس الجاهلة فيحصل بسبب حرمانها عن كسب تلك الحقائق والاتصال بالعقل المفارق 9 5 . اضافة الى ان هذا الفيلسوف عدّ من عوامل زيادة الابتهاج والسعادة هو ان النفوس الناطقة بعد الموت تتصل ببعضها للتشابه فيما بينها، فيعقل بعضها بعضاً على جهة اتصال معقول بمعقول، وكلما زاد عدد النفوس المجردة زاد تعقلها ومن ثم زادت لذاتها وابتهاجها تبعاً لذلك. اي ان النفوس السابقة تزداد ابتهاجاً كلما لحقها من النفوس المقبلة التي تتجرد عن ابدانها، وتظل العملية آخذة على التوالي بالابتهاج الى ما لا نهاية له بحكم الاتحاد بين النفوس المجردة، وهذه السعادة هي غاية ما يقصدها العقل الفعال 0 6 . كذلك فان ابن سينا رأى هو الاخر ان عقل الانسان في الدنيا آخذ بالتدرج والتحول الى مراحله العليا حتى تصبح المادة معيقة عن بلوغه اعلى درجات الكمال والسعادة، فتحصل المفارقة عن البدن كلياً عند الموت 1 6 . وهذا هو معنى القول بعودة النفس الى أصلها الإلهي، اي تحقيق اعظم قدر ممكن من التجرد والادراك بسبب مفارقة البدن، حيث تحصل اللذة والسعادة الأبدية القصوى.

هكذا يتضح ان الفلاسفة يجعلون من امر المعاد امراً يدل على ما له علاقة بكمال النفس من الناحية المعرفية والعقلية. وانطلاقاً من هذا الموقف فسّروا المسألة الدينية الخاصة بالثواب والعقاب، وكذا الايمان والكفر والجنة والنار، وذلك استناداً الى وجود العلم والحرمان منه. فالجهل العلمي في الفلسفة يمثل سبباً اصيلاً لمختلف الكفر والعذاب والشقاء، حيث تدرك النفس ما يفوتها من كمال العلم فتعذّب بتلك الحسرة 2 6 . وعلى العكس ان النفس حين تحصل على العلوم العقلية اليقينة فإن ذاتها تصير عقلاً قدسياً ونوراً الهياً من حزب الملائكة المقربين 3 6 . وافضى الحال الى ان يكون العلم باعثاً على السعادة والايمان حتى مع عدم مزاولة العمل الصالح في الحياة 4 6 .

وفي جميع الاحوال ان النفس بحسب الرؤية الفلسفية تنزع الى معشوقها من حيث الطبع لتكتمل به، وهو كمال القوة العقلية التي ترتسم بها صور نظام الوجود وحقائقه وما يترتب على ذلك من السعادة القصوى. فاذا كانت هذه النفس لاهية عن هذا المعشوق بسبب لهوها بالمادة والبدن؛ فانها تصاب بالالم والعذاب عند المفارقة بموت البدن وتحررها منه. فمثلها حينئذ كمثل الخدر الذي يمنعنا من الشعور بالالم عند وجود ما يستدعي ذلك، لكنه يظهر عند زوال هذا الخدر، فيكون العذاب. فالشقاوة اذن هي لاولئك الذين لهم القوة العقلية واكتسبوا الشوق الى كمالها من غير ان يحصلوا على شيء من فعل هذه القوة 5 6 . وينطبق هذا التصوير على النفس التي تبلغ حد الكمال من القوة العقلية، فاذا فارقت البدن فانها تستكمل الكمال الذي تبلغه، اذ في ملابستها للمادة تكون مثل ذلك المصاب بالخدر؛ لا تشعر باللذة التامة والسعادة القصوى، وهي تشعر بذلك عند مفارقة البدن، كمن زال عنه الخدر 6 6 .

مهما يكن فقد اشاد الفلاسفة بنيانهم في تفسير قضايا المعاد على المدارك المعرفية، فالجنة والنار وغيرهما هي تعابير يراد بها قوى الادراك المعرفي للانسان وما يترتب عليها من سعادة او حرمان. فمثلاً ان ابن سينا فسّر الصراط والجنة والنار وابوابهما وما اليها تبعاً لقوى الادراك الحسية والخيالية والعقلية. فالجنة عنده هي العالم العقلي، والنار او الجحيم هي عالم الخيال والوهم، والقبور هو عالم الحس، ويتم تحصيل الجنة او السعادة القصوى من خلال المرور بالصراط الدقيق من الحس فالخيال والوهم ثم الى العقل 7 6 . اي ان الجنة لا تتحقق الا عبر المرور بعالم العطب والجحيم. وقد كانت هذه الطريقة من تفسير موضع تأييد عدد من الفلاسفة كالذي ذهب اليه صدر المتألهين، حيث رجح ما عليه الشيخ الرئيس في تفسيره لابواب الجنة و النار 8 6 .

وهناك من ذهب الى ان عالم الكون والفساد هو نفسه جهنم، وذلك في قبال الجنة المتمثلة بعالم الارواح المجردة، وان النفس التي تقصر عن الكمال تبقى في جهنم محرومة عن العالم العلوي ولا تفارق عالم ما تحت القمر. فالالام والاوجاع لا تلوح الا النفوس المتعلقة بالاجساد، أما تلك التي تتجرد منها وتلتحق في عالم الافلاك فانها تكون بريئة من هذه الالام. فالنفس اذا كان عشقها الكون مع الجسد الحيواني، وان معشوقها اللذات المحسوسة وشهواتها الجسمانية، فسوف لا تبرح هذا العالم الارضي ولا تشتاق الصعود الى الملكوت الاعلى، وبالتالي لا تدخل الجنة وتتحول الى النفوس الملكية في عالم الافلاك السماوية 9 6 . فهذا هو رأي اخوان الصفا الذين اعتبروا النفس الاثمة الشريرة تظل معذبة نفسياً، ونادمة عمياء في جهالاتها، وسائحة في قعر الاجسام المدلهمة دون فلك القمر، كل ذلك يجري لها بعد ان تفارق الجسد التي هي فيه دون ان تصل الى عالم الاخرة 0 7 ، بل تبقى هائمة هاوية في عالم الكون والفساد بشكل ما يطلق عليه >التناسخ<، وذلك حتى يتم تطهيرها ومن ثم مفارقتها لهذا العالم الحسي. وهم بذلك ينوهون بوجود العذاب النفسي دون ان يعتقدوا بالنار الحسية كما هو مصور لدى النصوص الدينية 1 7 .

وارى ان هذا الرأي لاخوان الصفا هو اقرب التصورات اتساقاً مع المنظومة الفلسفية، وذلك لاعتبارين: احدهما ان حصر العذاب والشقاء في عالم الاجسام السفلية يتسق مع طبيعة هذا العالم مقارنة مع العالم العلوي السماوي، وحيث لا يوجد غيرهما؛ لذا فمن المنطقي ان يعد الاول نار جهنم، ويعد الثاني جنة الخلد. أما الاعتبار الاخر فهو ان الالتحاق بالعالم العلوي عبر مفارقة النفس للبدن لابد ان يجعلها سعيدة كاملة باعتبارها قد اصبحت ضمن عالم النفوس والمفارقات السماوية، فمن اين يأتيها الشقاء؟! لذا كاد البعض ينكر العذاب باعتبار ان مفارقة النفس للبدن تعني كمال النفس، وما يبقى منها من كدورات يمكن ان يمحى بالعذاب المحدود، كإن يكون هذا العذاب لايام معدودات، ثم بعدها ترجع النفس الى صورتها الحقيقية من الكمال فتعود الى حظائر القدس وحسن المآب 2 7 .

اذن فالقول بمفارقة النفس للبدن يستلزم تحقيق غايتها من التجرد والالتحاق باصولها العقلية المفارقة التي تضفي عليها السعادة والكمال. لكن الفلاسفة المسلمين لم يلتزموا بهذه النتيجة التي تترتب على منظومتهم الفلسفية اذا ما استثنينا اخوان الصفا، ربما لاعتبارات دينية لا غير.

ولا شك ان الامر لا يختلف كثيراً عما يذهب اليه العرفاء، حيث الغاية التي يؤكدون عليها هي المعرفة والشهود، وانهم يواجهون في بعض الاعتبارات نفس المشكل من مسألة العذاب والشقاوة، وذلك للاعتبارات الدينية، وإن كانت لديهم اعتبارات اخرى يمكن التعويل عليها في تبرير العذاب والشقاوة، كالتي سنطلع عليها بعد قليل.

اعتبارات تبرير دوام العذاب وانقطاعه عند العرفاء

يعترف الفلاسفة والعرفاء المسلمون بلزوم حصول العذاب والشقاء بعد الموت، لكنه على رأي اغلبهم لا يدوم، بل مآل الكل يصير الى الرحمة واللذة. مع هذا لا يعني انكارهم دوام العذاب انهم ينكرون الخلود في النار، فعلى رأي ملا هادي السبزواري ان دوام العذاب لم يبلغ حد الضرورة الدينية بخلاف الخلود الاخر 3 7 . ومن ذلك ان ابن عربي في >فصوص الحكم<> بل انه عد الجميع مأجوراً وسعيداً ومرضياً عنه واعتبر ان من العباد من تدركهم بعض الالام في الاخرة، ومع هذا فلا يقطع احد من اهل العلم الذين كشفوا الامر على ما هو عليه، انه لا يكون لهم في دار جهنم نعيم خاص؛ إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم، فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الالم، او يكون لهم نعيم مستقل زايد كنعيم الجنان في الجنان 5 7 . وهو في >الفتوحات المكية<> . في حين انه في بعض رسائله عدّ بقاء الصفات الذاتية لازمة والعذاب مؤبداً، وذلك على خلاف ما جاء في >الفتوحات<> الكافر، ولا السعيد في صورة الشقي، ولا الشقي في صورة السعيد، ولا الكلب في صورة الانسان، ولا الانسان في صورة الكلب، بل الكلب كلب والانسان انسان، ويزول حكم الاوصاف العرضية وتبقى الصفات الذاتية اللازمة متميزة لا تمتزج بأمر ولا تظهر في صورة عرضية ابداً، بل يتردد في ذاتها بين لوازمها إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً أبدالاً بدين لا يتناهى أمدها ولا ينقضي أبدها، نعيم محقق وعذاب مطلق، ولا تلتبس الصور على ناظرها ولا يحجب اولها باخرها، قد ظهرت في العين فلا تبديل ولا تحويل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً 7 7 .

على ان هناك تبريرات عديدة لانقطاع العذاب ونفي دوامه، منها ان الشقاء عارض غريب لا يدوم ولا يبقى، وذلك تعويلاً على ان مآل النفوس هو الرجوع الى اصلها من الكمال؛ مثلما هو الحال عند ابن سينا 8 7 . او باعتبار ان الرحمة ذاتية وهي تسع كل شيء، بينما الغضب عرضي قسري لا يدوم، وهو مسبوق بالرحمة. او لكون حركة الاشياء في النهاية كالبداية، وان الكل مساق الى الحق تعالى كما بدأ منه. او باعتبار ان منطق السنخية يقتضي ان يكون كل موجود عبارة عن لمعة من الاصل 9 7 . او لأن هناك بعض القضايا العقلية والوجدانية التي لا تسمح بخلود العذاب، كتلك التي ذكرها صدر المتألهين، ومن قبله ابن عربي. فالاول يشير الى ما ذكرناه من اعتبارات، بل ويضيف اليها بعضاً اخر، فيعتبر ان تعذيب الله بعض عباده عذاباً ابدياً فيه اشكال عظيم، خاصة عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، حيث ان الله خالق العباد وهو مبدئهم ومعادهم، وشأن العلة الفاعلة الافاضة والايجاد على معلوله، اذ ليس المعلول الا رشحة من رشحات وجوده ولمعة من لمعات وجوده، والتعذيب الابدي ينافي الايجاد والعلية. وايضاً فان ذاته محض الرحمة والخير والنور، وكل ما يصدر عنه يجب ان يكون من باب الجود واللطف والكرم، ووجود العاهات والشرور انما يكون عنه بالعرض وعلى سبيل الشذوذ والندرة، ولأنه سبقت رحمته غضبه، فان الرحمة ذاتية والغضب امر عارض، والعارض الاتفاقي لا يكون اكثرياً ولا دائمياً 0 8 .

وعلى نفس هذه الشاكلة لا ينكر ابن عربي كون الرحمة تعم كل شيء، بما في ذلك الغضب والالام والمعاصي والامراض والشرور، واعتبر هذه ال\مسألة لا تدرك بالعقل وانما بالذوق الصوفي، وهي فكرة تتسق مع اعتبار اي شيء يستبطن كل شيء بحسب منطق السنخية ووحدة الوجود، لكنه مع ذلك حتّم زوال الغضب والالام بالعودة الى النعيم والرضا الدائم 1 8 .

بل اكثر من هذا يذهب ابن عربي الى تأكيد تلك النتيجة عبر منطق اخر غير المنطق الوجودي، اذ يقول: لو ان الله تعالى >فوض امر خلقه الى احد من عباده وقدّره ومكّنه من التصرف فيهم، وكان خيّراً غنياً، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم انا وامثالي، وهو تعالى ارحم الراحمين<> .

على ان الاعتبارات السابقة قد تصلح كذرائع لنفي العذاب الطويل، وبعضها يمكن توظيفه في نفي العذاب مطلقاً، خاصة تلك التي تستند الى تشابه الوجود ووحدته وكون النهاية كالبداية. ولمثل هذه الذرائع صرح البعض بنفي اللعن والعذاب في الاخرة حتى بحق ابليس، فكما يقول الجيلي: >لا يلعن ابليس، اي لا يطرد عن الحضرة الالهية، الا قبل يوم الدين لأجل ما يقتضيه اصله، وهي الموانع الطبيعية التي تمنع الروح عن التحقق بالحقائق الالهية، وأما بعد ذلك فان الطبائع تكون لها من جملة الكمالات، فلا لعنة بل قرب محض. فحينئذ يرجع ابليس الى ما كان عليه عند الله من القرب الالهي وذلك بعد زوال جهنم، لان كل شيء خلقه الله لابد ان يرجع الى ما كان عليه.. قيل ان ابليس لما لُعن هاج وهام لشدة الفرح حتى ملأ العالم بنفسه، فقيل له: اتصنع هكذا وقد طُردت من الحضرة؟ فقال: هي خلعة افردني بها الحبيب لا يلبسها ملك مقرب ولا نبي مرسل<> .

وهناك اشكال يتعلق بانقطاع العذاب والشقاء الذي تحدث عنه العرفاء من حيث كونه من مظاهر القهر والغضب، وهو ان انقطاعه يفضي الى تناهي صفات القهر وعدم حفظ المراتب الوجودية. وقد اجيب عنه بوجهين، احدهما ان انواع مظاهر القهر يمكن ان تحفظ بتعاقب الاشخاص، فيثبت الخلود النوعي للعذاب رغم انقطاع العذاب الشخصي. والاخر هو انه حتى مع انقطاع العذاب كلياً، فان صفات القهر والغضب لا تتناهى، اذ ان صفات الحق بعضها عين البعض الاخر، وكلها عين ذاته، فلطفه عين قهره وغضبه، والعكس صحيح ايضاً 4 8 .

والوجه الاخير من الجواب وان كان يعبّر عن حقيقة ما تسفر عنه وحدة الوجود، الا انه يفضي الى ان يكون اصحاب الجنة ممن يشملهم الغضب والعذاب، لضرورة عدم تناهي صفات القهر، او على الاقل لكون الصفات بعضها عين البعض الاخر، وهي التي ينعكس أثرها على التوابع واللوازم. فحين يقال: >كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عذباً<> هو بعينه دال على ان العكس صحيح ايضاً، والذي يمكن ان يتخذ نفس المبرر المستمد من العادة 6 8 ، فاذا كانت العادة هي التي تفضي بأهل النار الى السعادة والنعيم، فلِمَ لا تفضي كذلك بأهل الجنة الى النصب والملل؟ مع ان نعيم الجنة يخلو من الشائبة واللغوب، كالذي جاء في عدد من النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من اساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير، وقالوا الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن ان ربنا لغفور شكور، الذي احلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} فاطر/3 3 ــ5 3 ، وقوله كذلك: {ادخلوها بسلام آمنين.. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} الحجر/6 4 و8 4 .

لكن على خلاف ما سبق هناك ذرائع مضادة لاثبات خلود العذاب، مثلما جاء عن بعض المعاصرين الذي رجح ما آل اليه صدر المتألهين في كتابه >العرشية<> وذلك شبيه بتلك الترددات التي اصابت ابن عربي كما رأينا. فقد اعتبر الاشتياني ان سبق الرحمة على الغضب لا ينافي دوام العذاب. فالرحمة الرحمانية التي وسعت كل شيء هي غير العنايات الخاصة التي تلوح اهل الايمان ولا تشمل اهل الكفر والعصيان. ورغم ان الرحمة لها الغلبة على الغضب فان هناك مخلدين في النار والعذاب، لكنهم الاقلية مقارنة مع اهل الجنة المخلدين. ومهما يكن فان دار الجحيم تظل دار بلاء ونقمة وان الامها وشرورها دائمية ليس لاهلها اي منجى وخلاص، وذلك تبعاً للنصوص القرآنية ومأثورات النبي واهل البيت، فكلها تجمع على خلود اهل الكفر والعصيان في النار من غير انقطاع. وعليه فان حمل البعض معنى العذاب على العذوبة، وكذا حمل معنى الخلود على الزمان الطويل، هو لعب بالايات القرآنية والروايات الواردة عن اهل البيت. وبنظر الاشتياني ان السر في خلود العذاب هو ان الدار الاخرة هي ليست دار اعادة واستعداد، بل انها دار فعلية وكمال، اذ تنتهي فيها الحركات، وذلك باعتبار ان النفس في الاخرة مستكفية بذاتها، وان النفوس البشرية رغم انها داخلة بحسب الظاهر تحت نوع واحد، لكن بحسب الحشر والنشأة الاخروية تكون انواعاً متباينة، فبناءاً على الحركة الجوهرية ان النفس الناطقة تتصور بصور مناسبة لافعالها واعمالها في هذه النشأة، لذا فان الهيئآت الردية المظلمة والصور البهيمية الكدرة اذا ما بلغت حداً من الملكة فانها تصبح صورة للنفس وداخلة في وجودها، وعند هذا الاستحكام يصير منشأ فعل النفس هو هذه الصور المؤلمة المسماة بالعذاب، حيث لا يوجد لهذا العذاب من رافع، لا من خارج النفس ولا من داخلها، انما يدور على اهل النار ويتجدد عليهم ازلاً وابداً، فمبدأ هذا العذاب هو جوهر ذواتهم وحقيقتهم ودوام المبدأ بدوام الحق، فالعذاب اذن تابع له، والوجود الفائض عن الحق يمر على المؤمن والكافر، فعلى الاول يكون نعيماً ورحمة وروح وريحان، ويكون على الكافر عذاباً وغصة، كالذي جاء في قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} النساء/6 5 ، وقوله: {ان شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم} الدخان/3 4 ـ6 4 . فللعذاب صعود ونزول اعداداً وايجاباً بالنسبة الى النفوس والابدان الاخروية، فمادامت النفس باقية فالعذاب باق، بل ان غاية وجود اهل النار هي ذوق العذاب فحسب 8 8 .

وما ننتهي اليه هو ان هناك ذرائع واعتبارات متعارضة، بعضها موظف لنفي الخلود في العذاب، والبعض الاخر موظف لاثباته. ومع ان الرؤية الوجودية تحاول في كلا المسعيين ان توفق بين مسلكها الوجودي وبين ما عليه النص الديني، فالملاحظ ان الذرائع المطروحة تارة تغلّب النص على المسلك، واخرى تغلب المسلك على النص. لكن في كلا الحالين نلاحظ ان هناك طرحاً من التبرير الوجودي.

***

من ناحية اخرى يمكن ان نميز بين اثر الرؤيتين الفلسفية والعرفانية على النتيجة المستخلصة بشأن العذاب، وذلك اعتماداً على منطق السنخية ومبدأ الوجودات. فحيث ان الرؤية الفلسفية قائمة على المشاكلة بين العلة والمعلول في الوجود، وان الوجود في اصله عبارة عن محض الخير، وان سلسلة الصعود تأتي في سياق سلسلة النزول، حيث النهاية كالبداية، من حيث التحاق كل شيء بعلته، وان النفوس الناطقة تلتحق بالمفارقات من العقول الخيرة، وكون الاشياء جميعاً هي من سنخ المبدأ الحق.. فان كل ذلك يبرر نفي العذاب، او على الاقل انه يبرر نفي العذاب الطويل.

اما من حيث الرؤية العرفانية فالنتيجة تختلف، ذلك انه بحكم مسألة الاسماء الالهية وما يترتب عليها من مظاهر؛ فان ذلك يبرر خلود العذاب ببقاء مظاهر القهر والغضب، كذلك فانه تبعاً لحكم الاعيان الثابتة فان من الممكن تبرير لماذا يصير مآل هذا الفرد الى السعادة، وذاك الى الشقاء، مما يتفق مع ما عليه تلك الاسماء.

الا انه وفق الرؤية العرفانية فان القول بوحدة الوجود قد لا يسمح بمثل تلك النتيجة البائسة، حيث تبعاً لذلك ان من المفترض هو نفي ان يكون في الوجود شر وعذاب وشقاء، فكله خير مع ما فيه من تفاوت لا يصل الى درجة الشقاء والشر الا بنحو عرضي غير دائم، بل كيف يكون ذلك وهو تجلي من تجليات الحق، او هو عينه؟!

والتعارض السابق قد يصادف ما يبرره في الثنائية التي وجدناها لدى التصوير العرفاني لوحدة الوجود وعلاقة الحق بالخلق، اذ تارة توصف بما اطلقنا عليه >المعنى العرفاني الخلقي<، واخرى توصف بما اطلقنا عليه >المعنى العرفاني الحقي<. اي تارة ان ما يظهر هو الخلق فيقتضي التضاد بحسب حقائق الاشياء، ومن ذلك سعادة الناس وشقاوتهم، اذ منهم السعداء المنعّمون ومنهم الاشقياء البائسون. واخرى ان ما يظهر هو الحق فيقتضي ذلك السعادة والنعيم للكل.

لكن من ناحية اخرى نجد انفسنا أمام تناقض في هذه الرؤية لا يبررها سوى انها محكومة بمصدرين معرفيين، احدهما وجودي اصيل، وهو الذي يبرر وحدة الوجود وما تنطوي عليه من مراتب متفاضلة تبعاً لمنطق السنخية، وهو في هذا الحد متوافق مع الرؤية الفلسفية، والاخر ديني وواقعي اريد له ان يخضع لذات المنطق من السنخية، وهو ذلك القائل بوجود الاسماء الالهية المتعارضة، حيث بعضها اسماء رحمة، واخرى اسماء غضب وانتقام، الامر الذي يبرر الخلود في العذاب، كما يفسر ما عليه الواقع من تعارض في التبعية بين الايمان والكفر، وكذا السلم والعدوان.

اذن لو تصورنا الرؤية العرفانية بما هي في ذاتها وبغض النظر عن تأثير كل من الواقع والنص الديني، لكان يفترض ان تكون منظومتها شاهدة على ان الوجود كله خير بخير من غير عوج ولا انحراف، ولا ضلال ولا كفر، ولا شر ولا عذاب. فكل ذلك مما يتسق مع مفاهيم وحدة الوجود والتجلي وكون الحق عين الاشياء بلا استثناء. في حين ما تقدمه هذه الرؤية إن هي الا محاولة تفسير ما يحدث من هذه الانحرافات دون المساس بتلك الوحدة، الامر الذي جعلها تفترض اموراً دخيلة من النص والواقع لتوفق بها مع مرجعيتها الوجودية التي تستند اليها في الاصل، ومن ذلك فروضها الخاصة بالاسماء الالهية المتعارضة، والتي منشؤها النص الديني، حيث بها وباتباعها من الاعيان يمكن تفسير ما يشهده الواقع من تعارض في الاتجاهات بين الخير والشر، وكذا تفسير ما يقدمه النص الديني من مآل متضاد للنفوس، فمنها السعيد ومنها الشقي.

نظرية الاتحاد والحشر والفناء

لا شك ان فهم الفلاسفة للمعاد قائم على التجرد الصوري النفسي، وذلك انهم يقيمون بينه وبين العقل الفعال رابطاً سببياً يردون فيه المعاد الى الطبيعة الادراكية للنفس البشرية. فكما ان العقل الفعال علة تكوينية للعقل الانساني، فهو ايضاً عبارة عن علة غائية تتحرر اليه النفس بعد الموت ومفارقة البدن. فمثلاً ان ابن سينا يرى ان النفس الناطقة اذا فارقت البدن فانها تصبح متصلة ومتعلقة بالعقل الكلي المفارق، باعتباره يقوم لها مقام الضوء للبصر، حيث تكتمل به 9 8 . وفي غالب الاحيان ان الفلاسفة يتوقفون عند حد الاتصال بالعقل الفعال كغاية نهائية لحركة الانسان وانتقاله من هذه الدنيا الى الاخرة، لكنهم مع ذلك يتجاوزون احياناً هذا المعنى لينقادوا الى القول بنظرية الاتحاد التي طالما اكد عليها العرفاء. فالفارابي مثلاً هو احد الفلاسفة الذين وقعوا في التردد، حيث اقر احياناً صحة مقالة الاتحاد بالعقل الفعال. كما ان ابن باجة هو ايضاً تجاوز القول باتصال العقل المستفاد بالفعّال فجعل الاتصال بينهما يعبر عن صيرورة الاول وتحوله الى نفس ذلك الأخير من دون اختلاف، معتبراً ذلك عبارة عن الحياة الآخرة وهي السعادة القصوى للانسان 0 9 . مع هذا فقد اخذ الامر لدى صدر المتألهين لوناً اخر اعمق مما رأينا، وذلك باعتباره اول من عمل على التنظير لمقالة الاتحاد فلسفياً، فهو لم يتوقف عند حدود الاتصال والافادة من العقل الفعال، بل استدل على الاتحاد من خلال الحركة الجوهرية للنفس وتكاملها. صحيح انه في كتاب >المبدأ والمعاد<> لكنه في غير هذا الكتاب تعدى هذا التقليد بالقول باتحاد النفس مع المفارقات، حيث اعتبر ان غاية كل ناقص هو الالتحاق بكماله، وهذا لا يحصل الا بحركة الاشياء الى كمالاتها التي تعشقها، وهي بذلك لا تتشبه بهذه المعشوقات فحسب، وانما تتحد بها، وفقاً لاتحاد العاشق بالمعشوق والعاقل بالمعقول ومن ثم تحصيل السعادة القصوى، وكل ذلك يتم عبر الادراك الذي يظهر لعموم الناس عند مفارقة النفس للبدن، حيث التجرد والرجوع من جديد الى عالمها الاصلي الذي فارقته من قبل.

اذن لنظرية الاتحاد علاقة وثيقة بفهم المعاد وحقيقة الحشر والموت الفناء، وبحسبها ان الحشر والالتحاق بالعودة الى المبدأ الحق انما يجري لحظة بلحظة وآناً بآن. ففي كل حين تتوالى الاحداث والافراد لتبعث وتعاد بصورة دائمة غير متناهية. وفي كل آن هناك حشر جديد وقيامة ساعة ورجوع الى الملأ الاعلى ومن ثم الى المبدأ الحق، بل في كل آن هناك خلق جديد ايضاً يحل محل تلك الاعادة على الدوام. هكذا يتوالى باستمرار كل من الابتداء والاعادة، والايجاد والايصال؛ حتى لا يبقى ثمة اثر ولا خبر. فكما ان الحيوانية تنبعث في كل حين من عالم الطبيعة الى عالم الملكوت العقلي، كذلك يوجد بدلُها نازلاً الى الفلك من ذلك العالم، وهكذا تتوارد الامثال النفسانية وتتجدد الاشكال والاوضاع والطبايع والمواد الجسمانية لهذا العالم في كل حين، وتنشأ الاخرة من الدنيا 2 9 . اذ العالم العلوي هو السبب في دوام العالم السفلي، وان النفوس السماوية المستفيضة مما فوقها من العوالي هي التي تجود على عالمنا الكوني من ذلك الفيض المقدس، وبذلك تتكامل النفوس وتلتحق بالعالم العلوي فتتصل بغاياتها ومعشوقاتها العقلية، فتنشأ الاخرة والقيامة في كل آن. فهناك صور تفاض وتتنزل من المبادئ العقلية فالنفسانية على مواد العالم الكوني، وذلك بحسب استعداداتها المتعاقبة التابعة للاوضاع السماوية، حيث يتم تكامل هذه المواد بتلك الصور، ومن ثم تتهيّء لقبول صور اخرى تالية بحسب ما يحصل للوضع السماوي اللاحق. هكذا تتعاقب الحركات وتتوارد الاوضاع فتتوالى الصور على جواهر السماوات، ويتلاحق اتصال النفوس بغاياتها ومعشوقاتها العقلية، فتكون لها معها حشر جديد ورجوع الى المبدأ الحق، وذلك في قبال ما يتنزل من الواردات التي تورد الخلق الجديد، حيث تتبدل اجزاء العالم واعيانها وطبايعها وصورها ونفوسها في كل حين حتى تزول تعيناتها وتضمحل تشخصاتها. ومن ذلك ان النفوس البشرية تتعرض في كل لحظة للحركة الجوهرية المتصلة، مما يفضي بها الى تفاني الروح الحيوانية، فتحيا وتسمو عندها الروح العقلية او الملائكية 3 9 .

وهذا الحال لا يقتصر على افراد عالم ما تحت القمر من الكائنات، بل يشمل كذلك العالم العلوي بافلاكه ونفوسه وعقوله، حيث لكل فلك افراد متصلة ولكل منها قبض وتسليم لله الواحد القهار آناً فآناً.

هذا ما يراد به من الحشر الذي هوّن صدر المتألهين التصديق به بما يشاهد من حشر لجميع القوى الانسانية في نفس واحدة، رغم تباينها في الوجود واختلاف مواضعها في البدن، فكلها تحشر وتفنى في ذات واحدة بسيطة. وكذا هو الحال مع رجوع الكل الى المبدأ الحق، ثم صدورها عنه مرة اخرى على الدوام والتوالي 4 9 ..

هكذا يتضح ان هناك سلسلة للصعود واخرى للنزول، احداهما تأخذ الاشياء وترجعها الى اصلها، والاخرى تقوم باستبدال ما ذهب منها بواردات اخرى أمثالها، حيث تجعل الدنيا متصلة بالاخرة، وهذه بالاولى؛ على نسق واحد بالدوام والاستمرار، فيتنزل الفيض من عالم الجمع والكمال والوحدة والاجمال ليتوزع على عالم التفرقة والنقص والتعدد والتفصيل، ثم يعود مرة اخرى الى ما كان، حيث كل شيء يلتحق باصله، وكل شبيه يتحد بشبيهه من دون موانع وحدود للعلة والمعلولية، مادام المعلول شأناً من العلة وطوراً لها، فهو يعود اليها ويتحد بها بصورة واردات متصلة باستمرار، ورقائق تنبعث منه شيئاً فشيئاً على سبيل الامثال لحظة بلحظة، حتى يتم الاضمحلال وهلاك التعينات جميعاً. وكما صرح صدر المتألهين بانه اذا انفصلت النفس عن الطبيعة لم تبق للطبيعة هوية منفصلة عن علتها النفسية، فلو ارتحلت عن مقام الطبيعة لبطلت هذه الاخيرة ودثرت؛ وذلك لكونها تقوم بالنفس، كما ان قوام النفس بالعقل، وقوام الكل بالحي القيوم. مما يعني ان الكل سيفنى في ذات الحق ويرجع اليه، فلا يبقى الا وجهه الكريم، حتى يعيد الخلق كرة اخرى بنفخته الصورية 5 9 .

ويلاحظ في هذا النمط من نظرية الاتحاد عند صدر المتألهين امور عديدة تستحق تسليط الضوء عليها بالنقد والتحليل، كما ياتي:

1 ــ الاتحاد ووحدة الوجود الشخصية

يبدو انه لا يمكن ادراج نظرية صدر المتألهين - كما عرضناها قبل قليل - ضمن لائحة العرفان المألوف، كما لا يكفي ان نصفها بانها تستغرق اشد درجات الوحدة الوجودية، فهي قد تجاوزت كلا المعطيين التقليديين الفلسفي والعرفاني، فلم تجعل حواجز وحدوداً بين العلة والمعلول، ولا بين الرب والمربوب، وكذا بين الاسماء وتبعياتها، والذات وصفاتها الفعلية. ولو انها اكتفت بظاهرة الاستبدال في الرقائق بين الصادارات والواردات في سلسلتي الصعود والنزول على نسق واحد من النظام؛ لكانت اوفق في الاحتفاظ بميدانها الفلسفي والعرفاني طبقاً لحتمية بقاء العلل والمعلولات، او الاصل وشؤونه، على ما هي عليه من الوجوب ازلاً وابداً، كالذي كان يبديه هذا الفيلسوف العارف من قبل، لكنها في الحقيقة لم تقنع بذلك ورامت ان تكون الاشياء جميعاً فانية ومتحدة بعللها، وهذه بالعلة الاولى الاصلية، مما يعني فناء الكل في وحدة الحق. لكن هذا الاعتبار يفضي الى ان تكون الواردات اكثر من الصادرات لا امثالها. وبعبارة اخرى، انه لابد ان تنقطع الصادرات في سلسلة النزول كي تتمم الواردات دورها في الفناء الكلي للاشياء، اذ لو كانت تلك الصادرات غير منقطعة ومساوية للواردات لما جاز فناء شيء سوى الرقائق والافراد التي تستبدل بامثالها على الدوام والابد من دون محو للتعينات واضمحلال التشخصات.

هكذا فنحن امام ابلغ درجات الوحدة الصوفية للوجود، حيث يضمحل الكل في الواحد، فلا يكون له اثر ولا تأثير. ومن حيث لحاظ سلسلتي النزول والصعود نجد هناك مفارقة في وحدة الوجود، تجعل العلاقة بينهما علاقة غير متسقة او متناقضة. فبحسب سلسلة النزول لما كان العاقل عين المعقول، وكذا الحاس عين المحسوس، والشاهد عين المشهود، وما الى ذلك؛ فان الحق لابد ان يصير عين الكل باعتباره يعقل ما دونه على التتابع والتفصيل تعقلاً شهودياً تابعاً لتعقله لصور الاشياء في ذاته، فيصبح بذلك عين العقول والنفوس والاجسام حتى الهيولى، فهو الواحد الكل كما تقوله الصوفية. لكن بحسب سلسلة الصعود فان اضمحلال التعينات وفناء الاشياء والمعلولات في عللها؛ يفضي الى ان يفنى الكل في الواحد القهار من دون تمايز بينهما، حيث يصبح الكل مفنياً في الواحد من غير عكس. وهذا يعني ان الاتحاد النازل سوف لا يكون مساوياً ومكافئاً للاتحاد الصاعد، ذلك ان الاتحاد النازل لا ينفي الكثرة المفصلة، وانما يجعل الكل واحداً بحسب الاتحاد بين الشاهد والمشهود، في حين ان الاتحاد الصاعد يفضي الى نفي الكثرة ولا يعترف في النهاية الا بوجود الواحد الاحد بلا شاهد ولا مشهود، ولا فاعل ولا مفعول. الامر الذي يجعل السلسلتين غير متسقتين فيما بينهما.

2 ــ الاتحاد وقيام الساعة الكبرى

تبعاً لمنطق السنخية ومقتضياتها تقضي الضرورة بثبات العلاقة بين العلة والمعلول، وكذا الاصل وشؤونه، من غير انقطاع، وبالتالي بقاء المعلولات كما هي الى الابد ما لم تتغير عللها، وحيث ان العوالي لا يطالها تغير ولا ينالها تجدد مطلقاً، خاصة العلة الاولى، فلابد ان تتبعها في ذلك السوافل، فتصبح المعلولات ثابتة بثبات عللها، فلا يصح فناء المعلول ولا تحوله الى صورة اخرى غير الصورة المألوفة ازلاً وابداً. لكن رغم ذلك ورغم ما صرح به صدر المتألهين بضرورة دوام الجود والفيض على نسق واحد للاشياء ازلاً وابداً 6 9 ، استناداً الى نزعته الاشراقية، فانه عاد ولجأ الى دواع تلفيقية بين الوحي والتصوف، فأقر بفناء الدنيا واضمحلالها الى الهلاك حين قيام الساعة الكبرى، من غير ان يكترث بالتلفيق والتناقض الذي تتضمنه هذه الفكرة بالقياس الى ما قبلها من اعتبارات اشراقية.

فقد اكد على وجود قيامتين صغرى وكبرى، الاولى عبارة عن موت كل واحد من الافراد طبقاً لقول النبي >ص<: >من مات فقد قامت قيامته<، وهو عبارة عن خروج الروح عن البدن. أما القيامة الاخرى فهي موت الجميع وقيامهم عند الله 7 9 ، فلا يبقى شر ولا كفر، اذ كل شيء في العالم يندثر ويزول. واستدل على ذلك من النصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: {اذا السماء انشقت واذنت لربها وحقت، واذا الارض مدت والقت ما فيها وتخلت} الانشقاق/4 ـ1 ، حيث اعتبر انشقاق السماء لخروج روحها ونفسها عن مضيق هذه النشأة الناقصة كي تصير متحققة بالوجود الحقاني بعد الموت عن الوجود الطبيعي والنفساني، وذلك بحسب نظرية الاتحاد. وكذا الحال مع الارض في مدها وانبساطها والقاء ما فيها من الجثث والموتى والقشور، وذلك كي يرمى القشر ويرقى اللب الذي في باطنه، فلا يبقى لها عين ولا اثر، حيث يلحق الخير بالخير ويتحد به، ويرجع الشر الى البوار والهلاك. وكذا اعتبر ان الايات القرآنية التي تقول: {اذا الشمس كورت، واذا النجوم انكدرت، واذا الجبال سيرت..} التكوير1 ـ3 ؛ انما تشير الى تبدل النشأة الطبيعية لجواهر هذا العالم الى النشأة الاخروية، وخروج الارواح من الاجسام الى ما عند الله، وقيامها وحشرها الى مبدئها الاعلى. فتكوير الشمس هو اندراس طبيعتها ونفاد قوتها الجسمانية، فاذا انصرمت القوة للجسم بطلت صورته وزالت حيويته الحسية وبعثت الى الدار الاخرة، وكذا انكدار النجوم له دلالة على انطماس طبيعتها، وتسجير البحار عبارة عن احالتها الى النار الاخروية. فكل ذلك عند صدر المتألهين لا محالة كائن 8 9 ، مؤكداً بان اجماع العقلاء منعقد على ان الدنيا تضمحل وتفنى ثم لا تعود ولا تعمر ابداً 9 9 ، وان كان علم الساعة عند الله تعالى، حيث لا يطلع عليها الا هو والراسخون في العلم 0 0 1 .

ولا شك ان هذه الاعتبارات النقلية التي استشهد بها صدر المتألهين لا تتفق مع نزعته الفلسفية والاشراقية التي فيها كان يقرر بقاء الانواع ازلاً وابداً، وكذا بقاء الفلك من غير انقطاع، وذلك اتساقاً مع منطق الاصل المولد >السنخية<.

3 ــ الاتحاد وفناء العقول

تبعاً للمنطق الفلسفي لابد للعقول المجردة ان تظل ثابتة لا تتعرض للتغير والتحول باعتبارها ليست من جملة العالم ومما سوى الله، بل باقية ببقائه وموجودة بوجوده من دون جعل وتأثير، كما صرح بذلك صدر المتألهين 1 0 1 . وهذا الحكم لا يتسق مع تلك النظرية من الاتحاد في فناء العقول ورقيها بالتحول الى ما هو اعلى منها شأناً، كالذي ذهب اليه هذا الفيلسوف العارف، وذلك بالتلفيق مع النص الديني في الموت والفناء للكل. فمن حيث منطقه الوجودي انه لا يعد الموت داخلاً في العدم، بل يعتبره نوعاً من الايجاد والتكميل 2 0 1 ، لكنه من حيث المرجعية الدينية فانه يتقبل موت كل الخلائق والوجودات الامكانية، وقد خرج من هاتين المقدمتين بنتيجة ملفقة ليست وجودية ولا دينية. فمثلاً انه في >اسرار الايات<>ص<> لم يبق الا ملك الموت وحملة العرش وجبرائيل وميكائيل، فيقال: فليمت جبرائيل وميكائيل، فتقول الملائكة: وهما رسولاك واميناك؟! فيقول: اني قضيت على كل نفس فيها الروح الموت، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله، فيقال له من بقي؟ فيقول: لم يبق الا ملك الموت، فيقال له: مت يا ملك الموت، ثم يأخذ الارض بيمينه والسماوات بيمينه، ويقول: اين الذين كانوا يدعون معي شريكاً، واين الذين كانوا يجعلون معي الهاً، ثم نفخ فيها نفخة اخرى فاذا هم قيام ينظرون 3 0 1 .

ولا شك ان تأويل الاماتة في هذا الحديث استناداً الى الايجاد والتكميل يتناسب مع نظرية الاتحاد المطروحة، لكنه لا يتفق مع منطق النص الديني كالذي استشهد به صدر المتألهين، كما لا يتفق مع المنطق الوجودي الذي يقر باحالة ان تكون العقول قابلة للتغير والتحول. ويصل بصدر المتألهين التناقض الى الحد الذي يعترف - في نفس الكتاب المشار اليه - بأن الملك ليس له ترق عن مقامه المعلوم 4 0 1 .

قانون الصعود وحالات النكوص

بحسب سلسة الصعود والرجوع الى اصل المبدأ الحق لا مجال للقول بالنكوص والعودة الى الوراء، فكل الكائنات تتوجه نحو غاياتها العالية فتتحد بها شيئاً فشيئاً، اذ تبعاً لمنطق الحتمية في العلاقة العلية لا يمكن ان ينقلب الكائن الى ما هو دونه. فمثلاً فيما يخص تطورات الانسان تنتقل النفس وتترقى على سبيل الاتصال من نوع الى نوع اخر، فتتحول الصورة الطبيعية لمادة خلقة الانسان من الجمادية الى النباتية ثم الحيوانية فالانسانية فالملكية وما بعدها طبقاً لنظرية الاتحاد. وبحسب منطق الفلاسفة فان النكوص والرجوع مرة اخرى الى ما هو اقل كمالاً من الاول يعتبر منافياً لسريان الفيض المتصل في تكميل الاشياء وايصالها الى غاياتها على نسق واحد، حتى صرح صدر الحكماء بان لكل طبيعة حركة جوهرية ذاتية الى غاية ما، وهي في كل مرحلة تصل اليها لا يمكنها العودة الى ما كانت عليه سابقاً، لذا من المحال ان يقع شيء من تلك الحركات والتحولات الانتكاسية بخلاف المجرى الطبيعي، فلا يمكن ان تصير القوة الحيوانية نباتية، ولا النباتية معدنية، ولا المعدنية صورة عنصرية، وهكذا من المحال ان تجري الاشياء على خلاف ما هي مفطورة عليه من المجرى الطبيعي 5 0 1 .

مع هذا فان صدر المتألهين ولدواع نقلية اعتبر ذلك الحكم لا ينافي الشقاوة والعذاب في الاخرة، كما لا ينافي المسخ مثلما حصل كثيراً في امة موسى >ع<> .

فبخصوص النكوص الاول ان صدر المتألهين عد الموت - مطلقاً - يمثل كمالاً لما ينطوي عليه من تجرد وعودة الى العالم القدسي 7 0 1 ، فاعتبر ان الايتين الكريمتين: {يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه} الانشقاق/6 ، {انا الى ربنا لمنقلبون} الزخرف/4 1 ؛ فيهما اشارة الى الانتقال الفطري للجوهر الطبيعي الى الله، حيث يستوي في هذا التوجه الذاتي والحركة المعنوية كل من المؤمن والكافر، المطيع والعاصي، فكلها مأمور بهذا الاتيان والسفر الى الله والدار الاخرة، فلا ينافي هذا التوجه الطبيعي الشقاوة والعذاب، باعتبار ان منشأ العذاب هو ايضاً تأكد الوجود وفعلية الذات وزوال الالتباس ورفع الغشاوة وكشف الغطاء وحدة البصر، كما في قوله تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ق/2 2 ، حيث تنتبه النفوس الشقية عند كشف الغطاء من نوم الطبيعة ورقدة الدنيا فتتطلع على معاصيها وجهالاتها، مما يفضي بها الى غاية الالم والتأذي وتبلغ حد الكمال في الشقاء حتى تلحقها الندامة والحسرة 8 0 1 .

على انه لو صح ان ذلك العذاب عبارة عن نوع من الكمال؛ لما ذم الله الاشقياء في الاخرة ووصفهم بالخزي والخسران الى الدرجة التي تمنوا فيها ان يكونوا تراباً. كذلك فان العودة والرجوع الى الاول لا يحتمل ان يكون متلبساً بالالم والشقاء وهو منبع اللذة والطمأنينة على ما تقتضيه السنخية، حيث النهاية كالبداية كما هو مقرر لدى التفكير الوجودي. وايضاً، لو صح ان العذاب عبارة عن نوع من الكمال فلماذا يكلف فيلسوفنا نفسه ذلك الجهد لانكار خلود العذاب واثبات انقطاعه دعماً للرحمة والخير وكون النهاية كالبداية على ما سيأتي ذكره؟! بل ما معنى العذاب ودخول الكافرين النار إن كان الوجود واحداً بذاته وصفاته، فهل ان ما يتعذب هو صفات الله واسماؤه ولو من حيث اعتبار ما عليه الاعيان الثابتة التي هي بحسب بعض الاعتبارات نفس الذات الالهية وان هذه الاخيرة هي كل الاشياء، او من حيث ظهور الحق بصفات المحدثات وصفات النقص والذم كما اخبر الحق بذلك عن نفسه على ما يقوله ابن عربي 9 0 1 ، وكما يقول الجندي: >فما تألم وما تنعم دنيا ولا اخرة الا الحق المتعين بك وفيك بحسبك، ولا حسب للحق الا انت، وبحسبك يظهر لك او عليك<>

أما النكوص الخاص بالمسخ فقد اقر به صدر المتألهين واعترف بوقوعه في الدنيا لاقوام غلبت نفوسهم الشهوية او الغضبية او الشيطانية، فصاروا قردة وخنازير وعبدة الطاغوت. ومع ذلك اعتبره لا ينافي توجه النفوس الى ما فوقها بحسب سلسلة الصعود؛ لكونها تحصل على شيء من الكمالات الحيوانية. ذلك ان ما يراه مستحيلاً انما هو رجوع نوع الى نوع اخر ادنى منه، وعودة كمال الى نقص، كإن تتقهقر الانسانية الى الخنزيرية وما شاكلها، أما جمع صورة الى صورة اخرى فليس بمستحيل عنده، فهو انسان خنزير - مثلاً - لا انسان بطلت انسانيته وحلت صورة الخنزيرية محلها 1 1 1 .

لكنه أقر في النشأة الاخرى بعد البعث بصيرورة النفوس الادمية الى صور انواع مختلفة الذوات بما يناسب اعمال الناس وافعالهم، وذلك عند ترسخ الملكات لديهم. فاعتبر انواع النفوس بحسب تلك النشأة كثيرة لكنها تقع تحت اجناس اربعة، هي الجنس الملائكي والشيطاني والبهيمي والسبعي. وفسّر على ذلك ما قيل: >ما من مذهب الا والتناسخ فيه قدم راسخ<. كما فسّر عليه بعض الايات القرآنية مثل قوله تعالى: {واذا الوحوش حشرت} التكوير/5 ، اذ اعتبرها تشير الى انقلاب جواهر نفوس بعض الناس الى نفوس الوحوش لغلبة صفاتها عليهم، فصارت نفوسهم في القيامة بهيئة الحيوانات بما يناسب طبائعهم واخلاقهم 2 1 1 . وقد اعترف بما اخذه عن الغزالي في >احياء علوم الدين<>الملكية والشيطانية والسبعية والبهيمية<، وذلك من جهة روحه ونفسه وشهوته وغضبه، فيكون المجموع المجتمع في الشخص الانساني حكيم وشيطان وكلب وخنزير، فالاول صورة الروح، والثاني صورة النفس، والثالث صورة الغضب، والرابع صورة الشهوة 3 1 1 .

والمهم في الامر هو ان مثل هذه الاعقاب والنكوصات من المسخ والتحول الى الصور الحيوانية، سواء في الدنيا ام الاخرة، لا يمكن التوفيق بينها وبين ما تقتضيه السنخية وسلسلة الصعود في توجه الاشياء الى كمالاتها؛ مهما قيل في المسخ الدنيوي من انه عبارة عن جمع صورتين في جوهر واحد، لا تحويل صورة الى صورة اخرى مخالفة لها. اذ يلاحظ في تلك النكوصات انها رُدّت الى ما هو ادنى منها، وهي وان ملكت كمالاً في صورها الحيوانية الجديدة، لكنها فقدت ما هو اهم من ذلك، حيث فقدت بعضاً من روحها المنطقية وذاتها النورانية.

قانون النزول وصور الانتكاس

اذا كان اصل الوجود عبارة عن محض الخير باعتباره محض الوجود، وكانت مراتب الوجود متشابهة بحسب السنخية، فان من المنطقي ان يُعد الخير سارياً في جميع المراتب. لكن على هذا يرد تساؤلان:

اولاً: لماذا اقتضت سلسلة النزول وجود الشرور والاعدام والكفر والشيطنة؟

وثانياً: لماذا لم تخضع هذه الشرور الى نسق تسلسل مراتب الوجود بمقتضى منطق السنخية كما سنرى؟

لقد اعتبر ارسطو واتباعه ان الشر امر عدمي نسبة الى الوجود والكمال، حيث في حد ذاته لا وجود له الا بالعرض، فهو إما عدم محض او امر يؤدي الى عدم. فمثلاً ان الموت والفقر والجهل البسيط وامثالها هي عدميات محضة، لكن البرد المفسد للثمار والاخلاق الذميمة والافعال القبيحة، لا تعد شراً، بل هي كمالات لامور جسمية ونفسية، رغم انها من حيث تأديتها الى الاعدام تُدرج في لائحة الشر 4 1 1 . والقاعدة العامة للحكماء تقر المقولة القائلة: كلما هو شر بالذات فهو من افراد العدم لا محالة 5 1 1 . فالشر الذاتي يساوق العدم، والخير يساوق الوجود، وكل ما هو خير وشر فهو نسبي، حيث يلتبس به الوجود والعدم.

ولو نظرنا الى مراتب الوجودات وكيف تتنزل من الاكمل فالاكمل، وارجعنا الكمال الى ذات الوجود، فان عدم الكمال يصبح عبارة عن ضعف الوجود، وبالتالي فان الشر لما كان امراً عدمياً فانه يعني نقصاً في الوجود، اذ لا وجود للعدم المطلق، وكل شر هو وجود، لكنه وجود ضعيف. بهذا يتفاوت الشر في سلسلة الوجودات بحسب المراتب، اذ كل مرتبة تالية تكون اضعف من المرتبة التي قبلها، فتصبح فاقدة لشيء من كمال، ومن ثم تكون شراً بالقياس الى ما قبلها، وإن كانت في حد ذاتها تمثل نوعاً خاصاً من الكمال والخير مهما كان ضعيفاً. وينطبق هذا الامر على القضايا الاخلاقية، اذ تصبح جميع الاخلاق الذميمة شراً وعدماً بالقياس الى ما فوقها من القوى الشريفة العالية الكمال، لكنها بالنسبة الى مرتبتها الخاصة وما هو دونها تعد من الخيرات الوجودية. وكذا الامر مع الالام والغموم والهموم، فهي بنظر اغلب الفلاسفة تعد وجودات خيرية باعتبارها ادراكات تصدر عن علل فاعلة كاملة، اما شرورها فيعود الى متعلقاتها من الاعدام والفقدان او المفسدات والمؤلمات، وهي بالتالي عبارة عن شرور بالعرض 6 1 1 .

ومن المعلوم ان مراتب الكمال تبدأ من اشرف الموجودات، وهو المبدأ الحق، ثم العقول العالية، ثم الجواهر المجردة كالنفوس الفلكية، ثم الصور المنطبعة السماوية، فالطبيعة العنصرية فالجسمية، الى ان تنتهي بالوجود الذي لا اخس ولا انقص منه، وهو الهيولى الاولى، حيث عندها تنقطع السلسلة النزولية 7 1 1 . وبحسب هذه المراتب ندرك ان المواد والاجسام هي ابلغ حالات الشر وصوره في عالم الوجود. وتأكيداً لذلك فان افلوطين عد المادة المحسوسة ذات وجود سلبي لانعدام الكمالات الالهية فيها، واعتبرها مصدر النقص وسبب الشرور 8 1 1 . كذلك ان صدر المتألهين اعتبر ان >كل ما هو اكثر برائة من المادة فهو اقل شراً ووبالاً<> .

هكذا يمكن القول ان الشر هو من ضرورات تنزلات الوجود. ولدى صدر المتألهين فانه من وجه يمكن اعتبار الشر عائداً الى المظاهر والمجالي، وإن كان مسلوباً عنها من وجه اخر، وذلك تبعاً لقسمة الاشياء الى الوجود والماهية، او الجعل والاعيان الثابتة، التي لها الخصائص الثابتة على ما هي عليه من غير تبدل ولا تحويل، وهي منشأ النقائص والذمائم والشرور والافات، وبهذا تكون وقاية للحق من نسبة النقص اليه 0 2 1 ، وعُدّت من حيث امكانها الفاشي في كل الموجودات المعلولة عبارة عن شرك خفي اخفى من كل شرك، وهي منبع كل شرك وكفر، ومبدأ كل شر وآفة، وقد وصفها صدر المتألهين بكفر الروح مقارنة مع مراتب اخرى للكفر، مثل كفر القالب والنفس والقلب 1 2 1 .

وتبعاً لمنطق السنخية فانه لا فصل بين الوجود والماهية او العدم، ولا بين الخير والشر، وكذا الايمان والكفر، والطهارة والنجاسة، والحسن والقبح.. الخ، وذلك وفقاً لاعتباري تنزلات الوجود وعلاقة هذا الاخير بالماهية. فمن حيث الاعتبار الاول ان كل وجود متنزل يستبطن عدماً، كما يستبطن كل خير شراً، وكذا كل ايمان كفراً، وكل طهارة نجاسة، وكل حسن قبحاً. وانه بحسب هذا الاعتبار هناك تناسب عكسي بين الضدين، حيث كلما اشتد احدهما ضعف الاخر، والعكس بالعكس. أما من حيث الاعتبار الاخر فهو ان الشيء الواحد يحمل ذلك الازدواج من الضدين، وذلك باعتبار كل من الوجود والماهية. فمن حيث وجوده يتصف الشيء بالخير او الايمان او الطهارة..الخ، أما من حيث ماهيته فانه يتصف باضداد تلك الصفات. وهذا الاعتبار هو الذي مال اليه صدر المتألهين، حيث رد الشر وما على شاكلته الى الماهية، أما ما يلابس هذه الماهية من الخير فقد عدّه عائداً الى نور الوجود الفائض عليها. فالشيء الواحد شر من حيث ماهيته، وخير من حيث وجوده، وكذا لو قسنا ذلك بالنسبة الى الطهارة والنجاسة كما فعل هذا العارف في مثاله عن الكلب والكافر الجامعين للضدين الطهارة والنجاسة، حيث اعتبر ان >الماهيات ما شمت رائحة الوجود، فعين الكلب نجس، ووجوده المفاض عليه طاهر، والكافر نجس العين من حيث ماهيته وعينه الثابت، لا من حيث وجوده، لانه الطاهر الاصل، كنور الشمس الواقع على القاذورات والارواث، فانه لا يخرج عن نورانيته وضيائه وصفائه لوقوعه عليها، ولا يتصف بصفاتها من الرائحة الكريهة والكدورة الشديدة<> . وهذا هو المعنى العرفاني الخلقي لوحدة الوجود كما تحدثنا عنه من قبل، حيث يعطي للماهية دورها الانفعالي الذي يتمظهر بمظهر الوجود، ويشير العرفاء الى ذلك بقول الحق تعالى: {ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك} النساء/9 7 ، الامر الذي يفسر قول البسطاني: >طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك<، وقوله ايضاً: >بطشي أشد من بطشه بي<> .

لكن من حيث ان ذات المبدأ الحق عين جميع الماهيات، فان هذه الذات تصبح حاملة لخلط من الاعيان الموصوفة بتلك الصفات المتضادة، وحيث انه ليس بالامكان ابدع مما كان، كما اشار اليه ذلك العارف في >شرح اصول الكافي<> لذا لا موضع للتعليل والاستفهام باداة >لماذا<، فكل ما يظهر في عالمنا السفلي هو نتاج المشاكلة مع العالم العلوي الالهي، وكل شيء يتجلى في العالم الاول يكون على نفس صورة ما في الذات، وبالتالي لا يمكن ان تعطى الاشياء باكثر مما تستحق، او انها لا تكسب شيئاً أكثر من افاضة الوجود عليها باعتبارها حقائق غير مجعولة، حيث البسها الحق هذه الحلية وخلع عليها من ثوبه وانارها بنوره.

هكذا نخلص الى ان تفسير حالات الشر استناداً الى نقص رتب الوجود وضعفه؛ لا ينفي ربطها من حيث الاصل بذات العلة الواجبة المتمثلة بمبدأ الوجود الحق، ذلك لانه لا يظهر شيء الا على شاكلة هذا المبدأ تبعاً لمنطق السنخية. كذلك فان تفسير تلك الحالات لا ينفي ربطها بالماهيات المستهلكة في عين الجمع، اذ بحسب اعتبار ذواتها مقيدة تكون منشأ الاحكام الكثيرة والذمائم والنقائص والشرور.

***

قلنا ان للشر صوراً مختلفة وكثيرة، مثل النقائص الطبيعية والقبائح الاخلاقية والمعاصي الدينية. وحيث ان الشر من مقتضيات تنزلات الوجود السفلية، او كونه من مقتضيات الاعيان الثابتة غير المجعولة، فقد أثار ذلك مشكلة بشأن التوفيق مع النص الديني ودور كل من الارادتين الالهية التكوينية والتشريعية.

اذ كيف يمكن التوفيق بين صور الشر المذكورة وبين ما عليه الارادة التكوينية، خصوصاً فيما يتعلق بتلك التي لها قيم ومعايير دينية، كالكفر والعصيان؟ ذلك ان الفلاسفة يقرون بحتمية ما عليه الارادة التكوينية للمبدأ الحق، وبالتالي كان لابد من الوجود الناقص او الشر المتضمن للمعاصي والاخلاق السيئة، مع الاعتراف بان الحق لا يرضى بهذه القيم التي اوجدها عبر تلك الارادة، فهو وإن اراد هذه القيم لكنه غير راض عنها، استسلاماً - كما يبدو - لقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} الزمر/7 . وقد مثّل الفلاسفة على ذلك بان من لسعت الحية اصبعه فانه يختار قطعها لاجل السلامة، فهو بالتالي يريد القطع ولا يرضى به 5 2 1 .

وانسجاماً مع الموقف الفلسفي فان صدر المتألهين قام بتصحيح ذلك المفهوم، فاعتبر المبدأ الحق يريد كل شيء ويرضى به من دون تفريق، لكنه اضطر لاجل هذا ان يأول النص القرآني الانف الذكر، معتبراً معناه ان الكفر وغيره من القبائح غير مرضية عند الحق بأنفسها وبما هي شرور، لكنها مرضية لديه بالتبعية والاستجرار. كذلك اتساقاً مع مذهبه فانه لم يتقبل رأي البعض القائل بان الارادة زائدة على الذات، وهو ان الله يعلم كل شيء لكنه لا يريد كل شيء، فعلمه الذي هو عين ذاته غير ارادته.. ومن الطبيعي ان يكون هذا الرأي غير مقبول عند فيلسوفنا وذلك لمنافاته للكثير من الاعتبارات الفلسفية وعلى رأسها منطق السنخية 6 2 1 .

مع هذا فالاشكال الذي يرد على موقف صدر المتألهين هو انه رأى في ماهية الكفر والشرور، من حيث انفسها غير مرضية عند المبدأ الحق، مع ان الاصح ان يقال بان الماهية مهما كانت فهي من سنخ الوجود، وهي عين الحق من حيث الجمع، فكيف لا يرضى بشيء له تحقق في ذاته من الصور والمظاهر والاعيان الالهية الثابتة؟! بل ما معنى هذا الرضا اذا كانت الامور جارية تبعاً لما عليه الحال من الحتمية الوجودية؟!

كذلك تعرض هذا الموقف الى نقد من قبل بعض الفلاسفة التابعين. فقد اعترض ملا هادي السبزواري على ما سبق، واعتبر ان علم الحق وارادته لا يتعلقان بالشرور بما هي شرور بالحمل الشائع، لكونها اعداماً، وهو لا ينافي تعلقهما بها بما هي شرور بالحمل الاولي الذاتي. كما ان الطباطبائي رغم موافقته لصدر المتألهين، الا انه اعتبر الاية الانفة الذكر لها دلالة على الرضا التشريعي لا التكويني 7 2 1 . مما يعني ان الارادة والرضا يجتمعان لديه في امر واحد تكويني، مثلما يجتمعان في الامر التشريعي.

على ان لصدر المتألهين موقفاً آخر يختلف عما سبق، ذلك انه اعتبر الخير من الوجودات الذاتية للمبدأ الحق، لهذا كان مرضياً عنده بخلاف الشر، حيث انه عرضي عدمي لا يرضى به الحق، مؤيداً كلامه بالاية المشار اليها ذاتها، فالشر بحسب هذه الرؤية يدخل في العالم بالقصد الثاني على التبع لا الاول، وذلك بخلاف الخير الذي هو قصد فعله الاول، وما بالذات اسبق مما بالغير، فالخير من ذات الحق، والشر من فعله. وقد استعان فيلسوفنا العارف ببعض النصوص القرآنية، حيث اعتبرها تلوّح الى المعنى السابق، مثل قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} 8 2 1 . وبذلك انكر ان يكون تحليله العرفاني يفضي الى اسناد الشرور والقبائح الى المبدأ الحق، حيث الشرور ما هي الا نتاج لوازم الوجود والايجاد 9 2 1 . مع ان هذا الاعتبار لا ينافي اسناد الشر من وجه اخر الى المبدأ الحق، سواء أخذنا بوجهة النظر الفلسفية او العرفانية، اي سواء قلنا ان الشر هو من متفرعات العلاقة العلية، حيث ليس هناك شيء في المعلول الا ويوجد قبله في العلة.. او قلنا ان الشر هو من مظاهر بعض اسمائه كالقهر وما شاكله، فما ينسب للشيطان وجنوده - مثلاً - انما يعود في الاصل والحقيقة الى ذات الحق، كالذي يقتضيه منطق السنخية ووحدة الوجود.

وفعلاً اعترف فيلسوفنا بهذا الامر في بعض كلماته، اذ نسب الشرور واختلاف الماهيات الى الاصل المتمثل في الذات الالهية او الى العلم الذي هو عينها، وكما يقول: >التفاوت في القوابل والحقائق الامكانية والماهيات انما يحصل لها بوجه من نفس ذواتها، وبوجه من الفيض الاقدس المسمى بالقضاء الازلي الذي هو عبارة عن ثبوت الاشياء في علم الله تعالى بالنظام الاليق الافضل من حيث كونها تابعة لاسماء الحق وصفاته التي هي عين ذاته، ووجود تلك الماهيات في الخارج باضافة الوجود عليها بحسب اوقاتها المخصوصة واستعداداتها من الحق يسمى عندهم بالفيض المقدس وهو بعينه القدر الخارجي، اذ التقدير تابع لعلم الله تعالى<> . وعليه فقد نسب الافعال التي تعود للشيطان الى مكيدة الهية، وارجع كل ما يتعلق بالقبائح الى المبدأ الحق، ففي تفسيره لقول الحلاج >ما صحت الفتوة الا لأحمد وابليس<>كإنه قال: هذان المظهران كل منهما كامل في بابه، متفرد في شأنه، احدهما مظهر اسماء المحبة، والاخر مظهر اسماء القهر، ومن فتح عينيه وشاهد ياء المتكلم في قوله تعالى: {وان عليك لعنتي الى يوم الدين} بالعين الاخرى؛ ليعرف ان هاتين النسبتين تتحدان في شيء واحد، وهو مجمع الموجودات ومرجع الكل، والجميع مظاهر اسمائه ومجالي صفاته، وحينئذ يعلم سر قوله: {فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين}، وقوله: {فبما اغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم}، فمَن أمره ظاهراً بسجدة آدم في قوله: {اسجدوا لادم} كان قد نهاه في السر عن سجدة غيره، فألهمه والقنه الحجة بقوله: {ءأسجد لمن خلقت طيناً}؟ فافهم ياحبيبي هذه الكلمات.. وتنبه لما قيل: ان نور ابليس من نار العزة لقوله تعالى: {خلقتني من نار}، ولو اظهر نوره للخلايق لعبدوه، انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، وذكر بعضهم النكتة في ان الخليل لماذا قال لما جن عليه الليل ورأى كوكباً قال: هذا ربي، مما روي عن كعب الاحبار انه قرأ في التوراة ان ارواح المؤمنين من نور جمال الله، وان ارواح الكافرين من نور جلال الله، وفي الادعية النبوية: اللهم اني اعوذ بك منك<> .

وقبل صدر المتألهين ذهب ابن عربي الى ان كل موجود عند ربه مرضي، سواء كان سعيداً او شقياً، وذلك تبعاً لما عليه الاسماء الالهية، حيث كل اسم له مربوباته الخاصة، فمن كان مربوباً الى اسم الهادي فهو مرضي عنده، وان كان مربوباً الى اسم المضل فهو مرضي عنده، لكن المربوب الى الاسم الاول هو غير مرضي عند الاسم الاخر، وكذا فان المربوب عند الاسم الثاني فانه غير مرضي عند الاسم الاول 2 3 1 . مما يدل على ان المرضاة تعطي معنى الارادة التكوينية. فالجميع بما في ذلك العاصي والمطيع مرضيون عند الحق في جمعه للاسماء وارادته للكل. مع هذا يظل الاشكال قائماً بخصوص الارادة التشريعية التي يُفترض ان تكون على وفق الارادة الاولى، والا فقدت معناها، او اصبحت مجازاً لا حقيقة. اي لكان هناك تفكيك يبعث على عدم الاتساق، كالذي وقع به القيصري حينما اثبت مرضاة الله للعصيان والكفر من حيث الارادة التكوينية لكنه نفاها بحسب ما عليه الارادة التشريعية، وذلك استجابة لنص الاية: {ولا يرضى لعباده الكفر} 3 3 1 . هكذا جعل من القضايا التشريعية لا معنى لها قبال القضايا التكوينية، فليس في الحقيقة شيء سوى المشيئة والارادة التكوينية المتمثلة بما عليه الاسماء الالهية ولوازمها من الاعيان الثابتة. وعليه اكد هذا العارف انه لا مجال لما قد يقال لمَ كان هذا فقيراً وذاك غنياً، وهذا عاصياً وذاك مطيعاً، مثلما لا يقال لِمَ كان هذا انساناً وذاك كلباً، فكل ذلك رهين العدل والحكمة بفضل ما عليه الاعيان الثابتة، او ان العدل هو اعطاء كل شيء على ما تقتضيه عينه الثابتة 4 3 1 . وشبيه بهذا ما ذكره حيدر الاملي من اسناد العطاء واحوال الخلائق الى الحق تعالى، معتبراً ذلك من العدل الذي يعني اعطاء الله كل موجود حقه الذي يستحقه في الازل من دون زيادة ولا نقيصة، وذلك حسب ما تكون عليه الصور العلمية او الاعيان الثابتة 5 3 1 . واقر انه بغير ذلك يصدق الظلم الفاحش باعتباره يعني وضع الشيء في غير موضعه. وقد سبق للفارابي ان ادلى بما يقارب المعنى السابق، حيث اعتبر العدل هو ان يوفى كل كائن بما هو مهيأ له من الوجود، حيث جرى العدل بان يحصل كل ممكن على قسطه من الوجود 6 3 1 . وكذا ما ذهب اليه السهروردي من معنى كون الحق قائماً بالقسط، او كما اشار اليه المحقق الدواني من ان هذا العدل يقتضي ايصال كل قابل الى ما يقبله من الوجود وما يتبعه من الكمالات 7 3 1 .

هكذا ان اصل اتصاف الاشياء، بما هي عليه من خير وشر، يستمد وجوده من الحقيقة الالهية، سواء اعتبرنا ذلك بحسب إفاضة الوجود، او بحسب تبعية الاعيان الثابتة للاسماء والصفات. أما مقاييس الارادة التشريعية والاعتبارات الدينية وسائر القيم المعيارية، فجميعها تعد مجازية دون ان يكون لها حقيقة لدى اصحاب المنظومتين الوجوديتين الفلسفية والعرفانية، فكل شيء عندهم مقدر بقضاء حتمي لا يقبل التغيير والتبديل، فالعدل في الفهم الوجودي هو ما يماثل ضرورة الوجود، والظلم على خلافه يعطي معنى الاستحالة. لذلك صرح الاملي - في بعض المناسبات - ان هناك استحالة ذاتية لاعطاء الماهيات من الوجود بأكثر او اقل من قابلياتها 8 3 1 .

على ان هناك رأياً ملفقاً في تفسير مصدر وجود الشر، بين الروح الوجودية من جهة، وبين بعض المظاهر المعيارية من جهة اخرى، فقد ارتضى الكيلاني تلك الفكرة الوجودية التي تقول ان الشرور هي من مقتضيات الذوات الامكانية، لكنه ردّ ببعض المظاهر المعيارية على شبهة من قال >لِمَ اوجد الله تعالى ذاتاً مقتضية للشر<، وذلك حيث اعتبر ان في ايجاد الحوادث لابد من مادة واستعداد كي لا يكون هناك ترجيح بلا مرجح، وبالتالي فلما استعدت مادة زيد لافادة الوجود؛ فإما ان يفاض عليه الوجود من المبدأ الفياض ام لا، وفي حالة عدم افاضة الوجود عليه من المبدأ الحق فاما ان يكون ذلك بسبب النقص والقصور في المبدأ الحق او بسبب البخل او لعدم علم الحق بالاستعداد، وكل هذه الافتراضات ممتنعة، وبالتالي وجب افاضة الوجود لمن استحق الوجود. فالمبدأ الحق فاعل بالجود الذاتي، والجود هو افادة ما ينبغي لا لعوض او غرض، انما يجب على المبدأ الحق تبعاً لارادته الكاملة الذاتية افادة ما ينبغي من الوجود لمن يستحقه، وبه يندفع اصل الشبهة. والحاصل >ان الواجب لما علم ان مادة زيد صارت مستعدة للوجود، افاده الوجود بالجود الذاتي، ولما صار موجوداً صار منشئاً للشرور والنقائص، فاستحق بذاته اللوم والعقاب، فيجب ان يعاقبه بمقتضى الجود الذاتي الذي هو افادة ما ينبغي، ولو لم يعاقبه لكان ظالماً، اذ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهل عدم معاقبة من هو مستحق للعقاب الا وضعاً له في غير موضعه<> .

ويلاحظ ان اغلب ما ذكره الكيلاني غير صحيح:

1 ــ ان البخل غير وارد فيما لو اراد عدم ايجاد زيد، سواء كان مؤمناً او كافراً، مادام انه معدوم.

2 ــ ان الجود الذي ذكره لا يعطي معنىً حقيقياً بحسب الاعتبارات الوجودية، وذلك لان الوجود تابع للعلم، وما هكذا شأنه لا يقال ان فيه جوداً.

3 ــ لو ان الله تعالى لم يوجد زيد، فيما لو علِم انه سيصبح كافراً ومعذباً، لكان يمكن ان يقال انه فعل ذلك بفعل رحمته، كما يمكن ان يقال ان ذلك هو ارجح من حيث الرحمة والجود مقارنة مع ايجاده ومن ثم تعذيبه.

4 ــ من الغريب ان يعتبر الكيلاني عقاب زيد هو امر واجب بدونه يحصل الظلم، ذلك اننا لو اعتمدنا على هذه المقاييس المعيارية، لكان من العسير ان نفسّر حسن الرحمة والغفران والتجاوز، بل وان نعدّ ذلك من التقوى، وقد ورد عن الامام علي انه فضّل العفو عن قاتله من ان يُقتل بالمثل، واعتبر العفو اقرب للتقوى.

***

مع هذا فالملاحظ ان النظام الوجودي وإن امكن ان يفسّر تلبسات الممكنات السفلية بحلى الكفر والشر والنجاسة وما اليها، لكن ما يقدمه من تفسير يعجز عن ان يصدق على جملة من الحالات التي يشهد عليها كل من الواقع والاعتبارات الدينية. فهذه الحالات لا تتسق مع نظرية التراتب الوجودي تبعاً لمنطق السنخية والامكان الاشرف، اذ يفترض ان تترتب فيها الوجودات على منوال الاخْير فالاخْير، وكذا الاطهر فالاطهر، فلو طبقنا قاعدة الامكان الاشرف على الوجودات المعدة شريرة ونجسة، لكان يفترض ان يكون موقعها في اواخر السلسلة الوجودية، مع انها ليست كذلك. فمثلاً يُنظر الى الكلب بأنه نجس تبعاً للاعتبارات الدينية، مما يلزم ان تكون مراتب الكائنات الادنى منه اكثر نجاسة، وهو خلاف المفروض، حيث ان النباتات واغلب الاجسام الطبيعية وغيرها من المراتب التي تقع دون مرتبة الكلب؛ تعد طاهرة لا نجسة.

ولو قيل ان الوجود بحسب ذاته طاهر، وهو ينطبق على كافة الوجودات، وبالتالي كانت جميع الاشياء طاهرة بهذا الاعتبار.. لقلنا ان ذلك لا يمنع من ان تختلف الوجودات في نسبة الطهارة مثلما تختلف في شدة الوجود وضعفه، فالوجود الضعيف يفترض ان يكون قليل الطهارة، والعكس بالعكس. وعندما تتحدد النجاسة بالماهية لبعض الكائنات فان ذلك يفترض ان يكون بحسب موقعها من السلسلة الوجودية، ولو اخذنا باعتبار ما يقره صدر المتألهين من الوجود بالمعنى الذاتي، حيث تكون الماهية عبارة عن صورة الوجود بالظلية والمحاكاة، فان العلاقة بينهما على صعيد الصفات تصبح واضحة التحديد من حيث السنخية، ومن هذه الصفات تلك التي تتعلق بالطهارة والنجاسة. وفي جميع الاحوال ان وصف الكلب - مثلاً - بالنجاسة بخلاف ما دونه من المراتب يعد خرقاً للمنظومة الوجودية واصلها المولد.

وعلى نفس هذه الشاكلة من الخرق ما جاء في وصف بعض الفلاسفة لابليس والشياطين تبعاً للاعتبارات الدينية. اذ بحسب منطق السنخية يفترض ان يحظى الشيطان بنسبة من الشر والقبح اقل من النباتات والحيوانات والاجسام المعدنية والعنصرية، مثل الماء والهواء والتراب وغيرها، وذلك باعتباره يتمتع بمرتبة وجودية اعلى، فهو على رأي البعض عبارة عن موجود نفساني متولد من طبقة دخانية نارية يغلب عليه الشرارة والاغواء والاضلال، ويتصف باللطافة و سرعة النفوذ 0 4 1 . وهو بنظر صدر المتألهين عبارة عن جوهر نفساني فاعل الشر، ومبدأ الغلط في الاعتقادات، والفسوق والعصيان في الاعمال، ومنشأ الوسوسة والمكر والخديعة، وارائة اشياء لا حقيقة لها، وانه كذلك عبارة عن اصل الضلال والعمى والجهل، سيما ذلك المشفوع بالرسوخ 1 4 1 . ومن الواضح ان وصف الشيطان باصل الشر والضلال يكافئ ما توصف به المادة عند الفلاسفة، حيث اعتبروها اصل ذلك الشر لبعدها عن مراتب الكمال في الوجود. وهكذا اصبح لدينا حكمان ملفقان، احدهما ديني يكون فيه الشيطان من ابرز دواعي الشر واصوله، واخر فلسفي يرى مبعث الشر صادراً عن المادة لضعف وعائها الوجودي.

مع هذا فان صدر المتألهين لم ينكر ما للشيطان من دور ايجابي عرضي في الحياة، حيث اعتبر وجوده قياساً مع وجود الملائكة كوجود القوة الوهمية بالنسبة الى القوة العاقلة، فرغم انها تفضي الى التضليل لكنها ضرورية لادراك الجزئيات، وكذا الشيطان رغم ما يسببه من شرور في الحياة فإن له دوراً هاماً في عمارة الدنيا وصلاحها، ولولا اوهام اتباع الشيطان من المعطلة والمتفلسفة والدهريين؛ لما انبعث اولياء الله واهل الحكمة والعرفان في تحقيق الحقائق وتعليم العلوم وطلب البراهين لبيان التوحيد، وكذا الحال مع قضايا تهذيب الاخلاق والاحوال والاعمال، حيث يستفيد الانسان كثيراً من مراقبة الاخرين له في اعماله واظهارهم عيوبه، كما يتجلى كمال الانسان حيث تبدو نقائص الاخرين وقبح اعمالهم، لهذا قيل: لولا معاوية ما كان علي 2 4 1 . لكن في جميع الاحوال ان وصف الشيطان باصل الشر والقبح هو وصف ملفق مع النصوص الدينية ولا يتناسب مع ما عليه المنظومة الفلسفية واصلها المولد.

وينطبق الحال على النفوس البشرية، من حيث انها مصدر للشر وباعث عليه بما يفوق غيرها مما هو دونها من المراتب، كالذي يشهد عليه الواقع وكذا النصوص الدينية التي تصف اقواماً بأنهم كالانعام او أضل سبيلاً. الامر الذي لا يتفق مع ما هو مقرر لدى الرؤية الوجودية في تحديدها لرتبة البشر الوجودية وفق منطق السنخية ونظرية الامكان الاشرف، اذ كلما كانت الوجودات اكثر تجرداً، فانها تكون اشد كمالاً وقرباً من المبدأ الحق، كالذي اقر به صدر المتألهين3 4 1 ، لكنه بدافع الوحي اعترف بخسة بعض الكائنات وحقارتها عما هو اقل منها تجرداً، ومن ذلك النفوس الانسانية الشريرة وما شاكلها. فاستناداً الى بعض النصوص القرآنية اعتبر >ان العالم كله في مقام الاستقامة على الصراط والعبودية والخضوع، الا كل مخلوق له قوة الفكر وتسلط الوهم واغواء الشيطان، وليس الا النفوس الانسانية النطقية من حيث اعيان تلك النفوس. أما ابدانهم وهياكلهم فهي ايضاً كسائر العالم في التسبيح والعبودية الذاتية، فأعضاء البدن كلها مسبحة ناطقة<4> . وفي الواقع ان المنظومة الوجودية تواجه اشكالاً حتى مع عدم لحاظ ما عليه النصوص الدينية، اذ كيف يمكن تفسير حمل النفوس البشرية لامكانات الشر القوية، وذلك بما يفوق غيرها مما هو دونها من المراتب الوجودية؟!

التنزل وعلة هبوط النفس

رغم ان تفسير عمليات الصعود كما في النزول تعد من الحتميات المتعلقة بدوران الوجود؛ الا ان اضفاء صفة الغاية على هذه العملية لا تفهم الا بنحو من المجاز لا الحقيقة، اذ الاصل لما كان محض الكمال والتمام فكيف نفسر على ذلك علة التنزل والتسافل تبعاً للمنطق الغائي؟

وبعبارة اخرى ان سلسلة الصعود متوقفة على جريان سلسة النزول، ولولا ان الاولى متوقفة على الاخيرة لكان يمكن تفسير هذه الاخيرة وفقاً للمنطق الغائي، وذلك من حيث ان الغرض هو الوصول الى الكمال. لكن المشكلة هي في سلسلة النزول التي لا يبررها المنطق الغائي، باعتبارها سلسلة قائمة على التسافل لا التصاعد، اي الجريان من الكامل الى الناقص، وان كل ما بوسع هذا الاخير هو العودة من جديد الى الكامل دون ان يضيف اليه شيئاً اخر غير موجود فيه. فمثلاً يمكن ان نتساءل: لماذا حدث للنفس ان تنزلت الى عالم الابدان المظلمة، مع انها كانت في الاصل ضمن عالم الكمال الجمعي؟

فهذه المسألة هي من المشاكل الهامة التي أرّقت عقول الفلاسفة القدماء، فاضطرتهم الى القول بان ذلك الهبوط انما نتج عما تعرضت اليه النفس في عالمها العلوي من ذنب وخطيئة قد اقترفتهما. وهو تفسير لم يرضِ صدر المتألهين، وحقّ له ان لا يتقبله، اذ كيف يمكن تصور ان تقترف النفس خطيئة، وهي في عالم العقل المقدس، حيث تكون كينونتها صافية نقية غير محتجبة ولا ممنوعة عن كمالها العقلي، وذلك بخلاف كينونتها في عالم الطبيعة والحس؟! 5 4 1 .

لذا كان لابد من تفسير اخر مختلف، كالذي يعرضه صدر المتألهين، اذ رأى ان علة النزول لغرض غائي مفاده إتمام ما بقي للنفس من خيرات لا يمكن تحصيلها الا بالهبوط والحلول في الابدان 6 4 1 . وهذا الهبوط والحلول لا يعني التخلي عن ذلك الكمال والعالم العلوي، وانما يعبر عن بعض نشآت النفس ومقاماتها ومراتبها، وهو تفسير يتسق واعتبارات الترتيب القائم في سلسلة الوجودات من العلة والمعلول تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الامكان الاشرف، لكنه مع ذلك لا يبرر التفسير الغائي. بل يمكن القول ان هذا التفسير لا يتسق مع ما عليه الشكل الحتمي لعلاقة السببية في المراتب الوجودية، حيث ان هذا الشكل ناظر الى تحديد النتيجة من العالي الى السافل، بخلاف التفسير الغائي الذي يفعل العكس، وهو انه يحدد النتيجة من السافل الى العالي. وبالتالي فان ما لجأ اليه صدر المتألهين لا يخلو من تناقض. فقد قرر ان العالم العلوي هو سبب هبوط النفس وسقوطها، معللاً ذلك لما يعود الى شؤون فاعلها وجهات علتها وحيثياتها، ولأن النفس ضعيفة فقد تشبثت بابدان ساكنة في منازل سفلية؛ تبعاً لاختلاف الاطوار والنشآتد 7 4 1 ، وكما يقول: >ان النفوس الانسانية موجودة قبل الابدان بحسب كمال علتها وسببها. والسبب الكامل يلزم المسبب معها، فالنفس موجودة مع سببها لان سببها كامل الذات تام الافادة، وما هو كذلك لا ينفك عنه مسببه، لكن تصرفها في البدن موقوف على استعداد مخصوص وشروط معينة، ومعلوم ان النفس حادثة عند تمام استعداد البدن وباقية بعد البدن اذا استكملت، وليس ذلك الا لان سببها يبقى ابد الدهر. فاذا حصل لك علم يقيني بوجود سببها قبل البدن، وعلمت معنى السببية والمسببية، وان السبب الذاتي هو تمام المسبب وغايته، حصل لك علم بكونها قبل البدن بحسب كمال وجودها وغنائها، والذي يتوقف على البدن هو بعض نشآتها، ويكون استعداد البدن شرطاً لوجود هذه النشأة الدنيوية والطبيعة الكونية، وهي جهة فقرها وحاجتها وامكانها ونقصها، لا جهة وجوبها وغناها وتمامها<> . وواضح ان هذا التفسير متسق ومقبول بقدر ما يعبر عن العلاقة الحتمية بين العلة ومعلولها، لكنه يخفق عندما يراد منه التعبير عن التفسير الغائي، كإن يقال ان علة هبوط النفس الى العالم السفلي هو لأجل تتميم الخيرات في هذا العالم، او كما يستشهد صدر المتألهين بكتاب >اثولوجيا<> النفس تنسى الفضائل والافعال المحكمة المتقنة عندما تكون خفية لا تظهر، وبالتالي لما عرفت قوة النفس ولا شرفها، وذلك ان الفعل انما هو اعلان القوة الخفية بظهورها، ولو خفيت قوة النفس ولم تظهر لفسدت ولكانت كأنها لم تكن 9 4 1 .

وكما قلنا ان الاشكال ليس في وجود النشآت والاطوار المختلفة للنفس، قبل حلول البدن وبعده، انما الاشكال في التفسير الغائي الذي يدعي حاجة النفوس للهبوط لكسب الكمال، مع ان العالم السفلي محكوم بالعالم العلوي، وان النفس في عالمها الكامل ليست في حاجة لافاعيل النفس في العالم السفلي، مثلما لا حاجة للعلة بمعلولها، وان العالي لا يلتفت الى السافل، فكل ذلك يجعل من النفس وهي في العالم العلوي غنية عما دونها، بخلاف النفس الدنيوية التي ابلغ ما تتطلع اليه من الكمال هو الالتحاق باصلها الثابت دون ان تضيف اليه شيئاً ابداً، اذ الفيض والجود والعطاء هو دائماً يسير باتجاه واحد من العالي الى السافل وليس العكس. وبالتالي فليس هناك ما ينفع النفس العلوية ولا ما يضرها، سواء ظهر للنفس الدنيوية افاعيلها أم لم يظهر، بل أنى لها ان تفعل شيئاً من ذاتها وهي محكومة بالاولى ومسيرة بها؟ دعك عن ان الواقع يطلعنا بان النفس الدنيوية قد تلوثت وحملت معها الكثير من الخطايا التي هي في غنى عنها عند عالم العقل الجمعي. لذا اشكل السهروردي على الفلاسفة عندما عدوا النفس قديمة فآل بها الامر الى النزول؛ معترضاً على ذلك بقوله انها لو كانت مجردة قديمة كما زعم الفلاسفة، اذن فما الذي الجأها الى مفارقة عالم القدس والحياة ومن ثم التعلق بعالم الموت والظلمات؟ ومَن ذا الذي قهرها على التعلق بالبدن؟ بل كيف انجذبت من عالم القدس والنور الى هذا البدن المادي؟ وبالتالي فهو ينتهي الى القول بحدوث النفس عند تمام استعداد البدن لقبولها، دون ان ينقص شيء من عالم القدس بفيضان النفوس الى غير نهاية 0 5 1 .

اخيراً يمكن القول ان مقالة هبوط النفس وحلولها في العالم السفلي لتتميم الخيرات؛ يأذن للقول بعدم وجود ممانعة ان يكون الواجب هو ايضاً قد تنزل الى العالم الجسماني كي لا يفوته من الخيرات شيء، مما يفضي الى وجود حقيقة واحدة سارية في الكل هي ما نطلق عليها الوجود المطلق او واجب الوجود كالذي تراه الصوفية. خصوصاً ان هذه الطريقة تعد الكمال هو في كل شيء باطلاق من دون تشتيت ولا تفريق، مما يبرر اعتبار الواجب الحق عين الكل من دون نقص؛ بما في ذلك ما نتوهمه نقصاً، كوجود الاعراض والمواد والاجسام وما شاكلها.

الخلاصة

يمكن ابراز اهم النقاط التي دارت في هذا البحث كالاتي:

ــ يعتبر المعاد بالنظر الوجودي عبارة عن حركة صعودية تبدأ من الادنى فالاعلى، حيث تسلك نفس الدور الذي تسلكه الحركة النزولية. وان النقطة الجوهرية في هذا الامر هي العنصر الادراكي المعرفي، حيث تتأسس الحركة الصعودية وفق الاتصال الادراكي بالعالم العلوي، وبالتالي فان النشأة الاخرة هي نشأة ادراكية علمية.

ــ عند الفلاسفة يمثل المعاد السعادة القصوى للانسان، وذلك باعتباره يحقق اعظم قدر ممكن من الادراك العقلي والاتصال بالمفارقات المجردة، حيث كلما ازداد الاتصال وتجرد الادراك فانه يكون اشد سعادة واقوى بهجة. ومن ذلك ان الاتصال بالعقل الفعال يحقق السعادة القصوى، وبالتالي فان اسعد الناس هم الفلاسفة لقوة اتصالهم بذلك العقل. وعلى العكس فان النفس التي تلهو عن العالم العلوي ومعشوقها العقلي الذي تكتمل به فان معادها الشقاوة والعذاب. مما يعني ان منشأ السعادة والشقاوة والجنة والنار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحضور العلم وغيابه. فالعلم العقلي هو اصل البهجة والسعادة، والجهل المعرفي هو اصل العذاب والشقاء. بل ان الجنة والنار وسائر ما يذكره النص الديني من عالم الاخرة هي تعابير ترمز الى ما عليه القوى الادراكية للانسان.

ــ بحسب الرؤية الوجودية فان المعاد يشكل ضرورة كمالية للنفس باعتباره يحظى بالتجرد والصورة من غير مادة. فهو صورة كمالية لكونه عبارة عن العودة الى العالم الاصلي، عالم العقل والوحدة والصور المفارقة. وان معاد النفس البشرية هو عودتها الى عالمها الالهي الذي تنزلت منه، فمثلاً ان العقل البشري الذي تشكل بفعل العقل الفعال يكون معاده عبارة عن اتصاله او اتحاده بهذا المفارق. فكل شيء يعود الى اصله.

ــ يذهب الفلاسفة الى ان معاد النفس عبارة عن مفارقتها للبدن. فالمعاد هو فقط لذلك الذي يكون محلاً للتجرد والعلم، وليس للجسم المادي المحسوس. لهذا اضطربت الاقوال بالنسبة الى النفوس الساذجة التي لم تتعقل بعد؛ هل انها تعاد ام تبطل وتموت.

ــ هناك عدد من الاطروحات لمعاد النفوس البشرية، تشترك في كونها عبارة عن معاد صوري غير مادي، منها ما يرى ان الحقائق نفسية داخلية مثلما يجري الحال في عالم الرؤيا والمنام، وهو ما ذهب اليه الكثير من الفلاسفة، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا. ومن هذه الاطروحات ما ذهب اليه السهروردي، حيث اقر بالمعاد الجسماني ولكن من حيث اعتباره عالماً خيالياً منفصلاً وغير حسي، وذلك شبيه بالمثل الافلاطونية المنفصلة عن النفس. وهناك اطروحة اخرى لصدر المتألهين الذي اعتبر المعاد جسمانياً حسياً لكنه صوري غير مادي ولا حال في قوام مادي، وانه وإن كان لا يفرق احياناً بين معاد النفوس السعيدة والشقية من حيث انهما معاً عبارة عن صورة بلا مادة وفعل بلا قوة، لكنه في محل اخر فرق بينهما، معتبراً النفوس الشقية ذات ابدان من عالم جنس الطبيعة المادية، حيث تتجدد وتتغير، بخلاف ابدان النفوس السعيدة التي تكون ابدانها صورية لا تخضع لقوانين التجدد والاستحالة، فهي صورة فعلية بلا قوة، وانها لا يقاس فيها زمان ولا مكان. وانه بحسب هذه النظرية فان معاد الانسان تجري تجزئته الى عوالم متعددة، كل منها يعود الى اصله الذي يناسبه، رغم وجود التداخل والوحدة الجمعية بين هذه العوالم، كقبور يتضمن بعضها البعض الاخر. حيث هناك معاد القالب الذي يبعث من قبر الارض، كما هناك معاد القلب الذي يبعث من قبر القالب، وبعده معاد الروح الذي يبعث من قبر القلب، ثم معاد النفس من قبر الروح، واخيراً معاد العقل الذي يبعث من قبر النفس. فهذه العوالم والقبور تجسد صور التنزلات التي تبدأ من العقل وتنتهي الى الارض وعناصرها المادية.

ــ اما المعاد لدى العرفاء فهو مفسر بحسب اسماء الله الحسنى، حيث عودة مظاهر بعض الاسماء الى مظاهر اسماء اخرى، وتحويل عالم الظاهر وعودته الى عالم الباطن، ازلاً وابداً من غير انقطاع، حيث ان الدنيا والاخرة مظهران من مظاهر الحق، وان الاخيرة ما هي الا عبارة عن ظهور الحق بصور اسمي الباطن والاخر.

ــ ذهب البعض الى ان النفوس الشقية لا تفارق عالم الدنيا والامها، وذلك باعتبار ان تحرر النفس من البدن كفيل بان يجعلها سعيدة، لكونها تصبح عارية مجردة قابلة للاتصال بمعشوقاتها من المفارقات والنفوس الجرمية السماوية. وقد قلنا ان هذا الرأي الذي يعود الى اخوان الصفا هو اقرب الاراء اتساقاً الى الروح الفلسفية.

ــ ان معاد النفوس غير قابل للانقطاع ازلاً وابداً، وذلك تبعاً لتناوب سلسلتي النزول والصعود، وهما سلسلتان حتميتان يعبران في معناهما عن حالتي الحلول والاتحاد. وفي هذه الحالة يتعين دوام الانواع وثباتها تبعاً لدوام الفيض وثباته، او باعتبار ما عليه العلاقة بين العلل ومعلولاتها، او الاسماء الالهية ومظاهرها. لكن في جميع الاحوال ليس هناك ما يبرر قيام القيامة الكبرى او قطع ما عليه الفيض في عالم الدنيا او تغيير مجراه.

ــ ان فهم المعاد من حيث هو عبارة عن العودة الى ما عليه الاشياء في الاصل؛ وجد تحليلاً يتسق وهذه العودة بالاعتماد على نظرية الاتحاد، حيث مثلما تتوارد الصور وتتنزل من فوق الى تحت في عالمنا الارضي، فانه كذلك تتصاعد الابدال وترتقي في العالم العلوي لتتحد به، وذلك في كل آن وحين من دون انقطاع، وبه تنشأ الدنيا من الاخرة عبر النزول، كما تنشأ الاخرة من الدنيا بالصعود والاتحاد. ومن ذلك ان النفوس البشرية يكون معادها عبارة عن اتحادها بالاصل الذي تنزلت منه، حيث يتحد كل شبيه بشبيهه، حتى ينجمع الكل في عالم العقل والجمع تحت ما يطلق عليه الحشر والفناء. وهو تعبير عما يمكن ان تؤول اليه العملية من وحدة الوجود، حيث مرد الكل الى وحدة الحق الذي تفنى فيه جميع الخلائق، وعودتها الى العالم الالهي، وهو عبارة عن القيامة الكبرى التي فيها يعود كل شيء الى اصله وطبيعته.

ــ لا تخلو الاراء التي يدلي بها اصحاب النظام الوجودي من تلفيقات، خاصة تلك التي لها علاقة بالنصوص الدينية. ومن ذلك تفسير القيامة الكبرى لدى صدر المتألهين بطريقة تتنافى مع ما يؤكده من دوام عملية الفيض على نسق واحد لا ينقطع ابداً، تبعاً لعلاقات العلة والمعلول، او تبعاً لعلاقات الاسماء بمظاهرها على النحو العرفاني. ومن ذلك ايضاً ما قرره من فناء كل شيء حتى الملائكة او العقول مع انها ثابتة بحسب النظر الوجودي، فكيف تتحول مما هي عليه الى امر اخر؟!

ــ ظهر هناك العديد من التلفيقات بين الرؤية الوجودية والنص الديني كما تبناها صدر المتألهين، ومن ذلك انه عدّ الشقاوة في الاخرة نوعاً من الكمال، وانه تقبّل حالات من النكوص في الحركة الصعودية للكائنات لدواع نقلية، كوقوع بعض الاقوام تحت عمليات المسخ. كما تقبّل ان يكون الشيطان اصل الشر مع انه اعلى مرتبة من المادة التي يعدها الفلاسفة مصدر الشر، وكذا الحال في موقفه من القيامة الكبرى.

ــ قد يلقى تقدير الفلاسفة والعرفاء بانقطاع العذاب بعض التوجيه، فمن حيث الاعيان الثابتة لا يمتنع ان تكون ذواتها معبرة عن السعادة للجميع، وإن كان بعضها محكوماً عليه بالشقاء قبل النعيم. ومن حيث نظام السببية قد يفضي العذاب الى ان يكون مطهراً للنفس من الادران، وبالتالي فانه يبرر تحول النفس الى النعيم. أما من حيث الاسماء الالهية فيمكن ان يقال ان تحول النفوس على التوالي من العذاب الى النعيم لا يعني انقطاع مظاهر الاسماء الجلالية ومنها اسم المنتقم، حيث تتحول نفوس ويأتي غيرها يحل محلها لتكون مصداق هذا الاسم الثابت، وهو امر يجري ازلاً وابداً بلا انقطاع.

ــ يبدو انه من الصعب على الرؤية الوجودية اقناعنا بتبرير العذاب في الحياة الاخرى. فمن حيث وحدة الوجود الشخصية لا يعقل ان تكون العين الواحدة سعيدة وشقية اذا ما كانت حقيقتها الجوهرية المتمثلة بالذات الحقة متصفة بالسعادة والنعيم. وكذا الحال من حيث الوحدة النوعية، اذ يصعب معها ايضاً تبرير العذاب اذا ما كانت اصول الوجودات سعيدة، فبحسب اعتبارات السنخية ان السعيد لا يولّد الا سعيداً، وان مرحلة الصعود هي مرحلة الالتحاق بالاصول المفارقة، وبالتالي كيف امكن للعذاب والشقاء ان يتولد؟! إلا ان يقال بان العذاب لا يكون الا في عالم الدنيا، وان النفس الشقية لا تفارق هذا العالم ما لم تتطهر وتستعد للكمال والرحيل الى عالم الاخرة والنعيم، كالذي يذهب اليه اخوان الصفا.

ــ من حيث النتيجة ان فهم المعاد لدى النظام الوجودي قائم على الالوهة، فهو يصوّر غاية الانسان محددة بالاتصال او الاتحاد بعلته المفيضة، وذلك ليكون هو هي، او انه على الاقل يكون بالقرب منها ليكتسب عنها صفاتها الالهية من العلم الشمولي والصنع والتكوين.

الهوامش

1 صدر المتألهين: اسرار الايات، ص 8 3 1 .

2 صدر المتألهين: الاسفار الاربعة، ج6 ، ص3 4 1 . والشواهد الربوبية، ص4 6 1 .

3 الاسفار، ج2 ، ص6 6 2 ــ7 6 2 .

4 السهروردي: المشارع والمطارحات، ص6 6 4 .

5 الاسفار، ج7 ، ص7 7 .

6 الاسفار، ج7 ، ص7 6 2 .

7 اسرار الايات، ص8 4 ــ9 4 .

8 الاسفار، ج7 ، ص5 0 3 .

9 لاحظ الاسفار، حاشية الطباطبائي، ج8 ، ص5 0 3 .

0 1 القيصري: مطلع خصوص الكلم، ج2 ، ص7 9 .

1 1 حيدر الاملي: اسرار الشريعة، ص6 0 1 ــ7 0 1 .

2 1 الاسفار، ج7 ، حاشية ص5 1 3 ــ6 1 3 و5 0 3 ــ6 0 3 ، وج2 ، حاشية ص6 6 2 ــ7 6 2 .

3 1 ابن رشد: تهافت التهافت، ص8 7 5 ــ9 7 5 .

4 1 تهافت التهافت، ص8 7 5 ــ9 7 5 .

5 1 ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3 ، ص9 8 4 1 ــ0 9 4 1 .

6 1 ابن سينا: كتاب النفس من الشفاء، طبعة جامعة اكسفورد، لندن، 9 5 9 1 م، ص 9 0 2 . كما انظر مقدمة كتابه المباحثات، في: أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ج1 ، ص0 2 1 .

7 1 نصير الدين الطوسي: رسالة قواعد العقائد، وهي منشورة خلف تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات اسلامي، 0 8 9 1 م، ص5 6 4 .

8 1 ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الاولى، 8 6 3 1 هـ ــ9 4 9 1 م، ص0 5 ــ1 5 و5 5 ــ7 5 . كذلك: المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص3 2 4 ــ4 2 4 .

9 1 رسالة في دفع الغم من الموت، ص0 5 .

0 2 المبدأ والمعاد، ص4 1 1 .

1 2 النجاة، ص2 1 7 .

2 2 انظر النجاة، ص2 8 6 . والهيات الشفاء، ص3 2 4 .

3 2 ابن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص0 2 2 .

4 2 صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، ص0 9 5 .

 5 2 الطريحي: ابن سينا، بحث وتحقيق، مطبعة الزهراء في النجف، 9 4 9 1 م، ص5 7 1 ــ 6 7 1 . والاسفار، ج9 ، ص5 1 1 .

6 2 المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج1 ، ص7 9 1 ــ8 9 1 .

7 2 الفارابي: آراء اهل المدينة الفاضلة، ص8 1 1 .

8 2 الفارابي: السياسة المدنية، تحقيق وتقديم وتعليق فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، 4 6 9 1 م، ص3 8 .

9 2 رسالة الدعاوي القلبية، ضمن رسائل الفارابي، ص0 1 .

0 3 انظر مقدمة حي بن يقظان.

1 3 تهافت التهافت، ص4 8 ــ3 9 .

2 3 تهافت التهافت، ص6 8 5 .

3 3 تهافت التهافت، ص6 8 5 .

4 3 المبدأ والمعاد، ص3 1 4 ــ4 1 4 .

5 3 الاسفار، ج8 ، ص4 6 3 .

6 3 مفاتيح الغيب، ص0 0 6 ــ1 0 6 .

7 3 مفاتيح الغيب، ص2 1 6 ــ3 1 6 .

8 3 مفاتيح الغيب، ص3 6 6 .

9 3 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8 ، ص6 8 .

0 4 المصدر السابق، ج8 ، ص0 3 1 .

1 4 المصدر السابق، ج7 ، ص3 9 3 .

2 4 المصدر السابق، ج8 ، ص5 5 ــ6 5 .

3 4 مفاتيح الغيب، ص0 0 6 .

4 4 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص5 7 3 ــ6 7 3 و5 9 3 ــ7 9 3 و6 0 4 ــ7 0 4 . والاسفار، ج9 ، ص8 1 ــ9 1 و2 3 .

5 4 الاسفار، ج9 ، ص9 7 3 .

6 4 ربما يستلهم صدر المتألهين - هنا - ويوظف ما سبق اليه افلوطين من تفسير الحركة في العالم العلوي.

7 4 الاسفار، ج9 ، ص8 1 .

8 4 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6 ، ص7 0 4 .

9 4 مفاتيح الغيب، ص2 8 6 . والاسفار، ج9 ، ص1 8 3 ــ2 8 3 .

0 5 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص5 9 3 . وتفسير صدر المتألهين، ج8 ، ص6 8 .

1 5 الاسفار، ج9 ، ص0 8 1 .

2 5 صدر المتألهين: كسر أصنام الجاهلية، حققه وقدم له محمد تقي دانش بژوه، مطبعة جامعة طهران، 0 4 3 1 هـ.ش. ــ2 6 9 1 م، ص7 و0 6 ــ1 6 .

3 5 تفسير ما بعد الطبيعة، ج3 ، ص6 1 6 1 .

4 5 المصدر السابق، ج3 ، ص2 1 6 1 .

5 5 السهروردي: رسالة هياكل النور، وهي منشورة مع ثلاث رسائل للمحقق الدواني، تحقيق احمد تويسركاني، مجمع البحوث الاسلامية، مشهد، الطبعة الاولى، 1 1 4 1 هـ، ص3 9 .

6 5 تفسير صدر المتألهين، ج6 ، ص7 9 .

7 5 ابن طفيل: حي بن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص3 8 1 .

8 5 السياسة المدنية، ص2 3 .

9 5 آراء اهل المدينة الفاضلة، ص5 8 .

0 6 آراء أهل المدينة الفاضلة، ص3 1 1 و4 1 1 . كذلك: السياسة المدنية، ص2 8 .

1 6 إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص0 2 2 .

2 6 الطوسي: تلخيص المحصل، ص0 9 3 . واسرار الايات، ص2 ــ6 و9 ــ0 1 . ومفاتيح الغيب، ص5 1 1 . ومقدمة ابن خلدون، ص5 1 5 .

3 6 اسرار الايات، ص8 2 . ومفاتيح الغيب، ص0 1 1 .

4 6 لاحظ اسرار الايات، ص4 .

5 6 النجاة، ص9 8 6 ــ0 9 6 . والهيات الشفاء، ص7 2 4 ــ8 2 4 .

6 6 الغزالي: معارج القدس، ص1 5 1 . ورسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص3 9 .

7 6 ابن سينا: رسالة اثبات النبوات، حققها وقدم لها ميشال مرمورة، دار النهار، بيروت، 8 6 9 1 م، ص8 5 ــ1 6 . وتسع رسائل لابن سينا، ص9 8 ــ0 9 .

8 6 اسرار الايات، ص 8 1 2 .

9 6 رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، اعداد وتحقيق عارف تامر، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الاولى، 5 1 4 1 هـ ــ5 9 9 1 م، ج3 ، ص3 5 ــ4 5 .

0 7 رسائل اخوان الصفاء، ج3 ، ص5 6 ــ6 6 .

1 7 رسائل اخوان الصفا، ج3 ، ص6 6 ــ7 6 .

2 7 تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص8 3 3 .

3 7 مجموعة رسائل السبزواري، مصدر سابق، ص0 7 4 . والشواهد الربوبية، ص3 1 3 . والاسفار، ج9 ، ص6 4 3 ــ7 4 3 .

4 7 الجندي: شرح فصوص الحكم، ص5 6 5 .

5 7 شرح فصوص الحكم، ص1 4 4 و9 5 4 . ومطلع خصوص الكلم، ج2 ، ص5 4 ــ6 4 .

6 7 الفتوحات المكية، ج1 ، ص2 3 3 ــ3 3 3 .

7 7 كتاب مراتب علوم الوهب، ضمن رسائل ابن عربي، مؤسسة الانتشار العربي >1 <، ص3 2 1 .

8 7 لاحظ: النجاة، ص5 9 6 . والهيات الشفاء، ص1 3 4 .

9 7 لاحظ: شرح الفصوص، ص3 8 5 ــ4 8 5 . والشواهد الربوبية، ص8 1 3 . ومفاتيح الغيب، ص2 7 1 و6 0 2 . وعرشيه، ص3 7 2 و0 8 2 ــ1 8 2 . والتعليقات على المظاهر الالهية، ص4 1 1 ــ5 1 1 .

0 8 تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص3 1 3 ــ4 1 3 .

1 8 ابو العلا عفيفي: الفصوص والتعليقات عليه، ج1 ، الفص التاسع عشر، ص2 7 1 ، والفص الحادي والعشرين، ص7 7 1 ــ0 8 1 ، وج2 ، ص6 3 2 و3 4 2 ــ6 4 2 .

2 8 محمود الغراب: الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، دار الفكر، دمشق، ص1 3 2 . والاسفار، ج9 ، ص 2 5 3 ــ3 5 3 . والشواهد الربوبية، ص9 1 3 . ورسائل السبزواري، ص0 7 4 ــ1 7 4 .

3 8 عبد الكريم الجيلي: الانسان الكامل في معرفة الاواخر والاوائل، حقق نصوصه وعلق عليه ابو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضه، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 8 1 4 1 هـ ــ7 9 9 1 م، ص9 9 1 . وقد ذكر صدر المتألهين ان معنى اللعن والطرد والغضب عند العرفاء هو صيرورة نوع شريف الى نوع خسيس >تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص7 7 2 <.

4 8 مجموعة رسائل السبزواري، ص3 7 4 ــ4 7 4 .

5 8 تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص1 2 3 .

6 8 شرح الفصوص، ص1 9 3 ــ 2 9 3 .

7 8 صدر المتألهين: عرشيه، ص2 8 2 . والشواهد الربوبية، ص8 7 7 ، وحاشية ص7 1 3 .

8 8 الاشتياني: التعليقات على المظاهر الالهية، ص6 1 1 ــ7 1 1 .

9 8 ابن سينا: كتاب في النفس على سنة الاختصار، ضمن رسائل الشيخ الرئيس، طبعة انتشارات بيدار، ص6 1 2 .

0 9 الفارابي:رسالة اتصال العقل بالانسان، ص6 6 1 .

1 9 المبدأ والمعاد، ص3 7 2 ــ4 7 2 .

2 9 اسرار الايات، ص3 6 . ورسائل السبزواري، ص7 2 5 .

3 9 اسرار الايات، ص4 6 و9 5 1 .

4 9 صدر المتألهين: عرشيه، ص2 6 2 ــ3 6 2 .

5 9 الاسفار لصدر المتألهين.

6 9 الاسفار، ج7 ، ص5 0 3 .

7 9 اسرار الايات، ص4 9 و6 9 .

8 9 اسرار الايات، ص1 9 ــ2 9 . وعرشيه، ص4 3 2 .

9 9 المبدأ والمعاد، ص6 4 4 .

0 0 1 عرشيه، ص1 6 2 .

1 0 1 الاسفار، ج3 ، ص7 2 1 ، وج6 ، ص2 0 3 ــ3 0 3 و5 1 3 ، وج8 ، ص6 9 3 . واسرار الايات، ص5 9 .

2 0 1 مفاتيح الغيب، ص5 3 6 . واسرار الايات، ص7 6 1 .

3 0 1 اسرار الايات، ص1 0 1 .

4 0 1 اسرار الايات، ص8 5 1 ــ9 5 1 .

5 0 1 اسرار الايات، ص8 4 1 ــ9 4 1 .

6 0 1 مفاتيح الغيب، ص8 5 5 .

7 0 1 اسرار الايات، ص7 6 1 .

8 0 1 اسرار الايات، ص7 8 ــ 8 8 و9 4 1 . والاسفار، ج9 ، ص7 2 ــ8 2 .

9 0 1 شرح الفصوص، ص6 4 3 .

0 1 1 شرح الفصوص، ص7 9 3 .

1 1 1 مفاتيح الغيب، ص8 5 5 .

2 1 1 اسرار الايات، ص0 5 1 ــ1 5 1 . والاسفار، ج8 ، ص9 9 3 ــ0 0 4 . وعرشيه، ص1 4 2 .

3 1 1 تفسير القرآن لصدر المتألهين، ج4 ، ص9 7 2 و8 8 2 .

4 1 1 مفاتيح الغيب، ص7 9 1 ــ 8 9 1 .

5 1 1 الاسفار، ج7 ، ص6 6 .

6 1 1 الاسفار، ج7 ، ص1 6 ــ6 6 .

7 1 1 المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص6 0 2 .

8 1 1 اعلام الفلسفة العربية، ص7 7 3 .

9 1 1 الاسفار، ج7 ، ص7 6 .

0 2 1 ايقاظ النائمين، ص1 3 .

1 2 1 مفاتيح الغيب، ص5 7 1 .

2 2 1 صدر المتألهين: رسالة جبر وتفويض، ص7 .

3 2 1 شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، ج1 ، ص0 3 .

4 2 1 صدر المتألهين: شرح اصول الكافي، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسمية.

5 2 1 رسالة جبر وتفويض، ص5 .

6 2 1 الاسفار، ج6 ، ص3 4 3 ــ4 4 3 .

7 2 1 الاسفار، ج6 ، حاشية ص4 4 3 ــ5 4 3 .

8 2 1 مفاتيح الغيب، ص7 9 2 .

9 2 1 مفاتيح الغيب، ص6 6 1 ــ7 6 1 .

0 3 1 الاسفار، ج2 ، ص4 5 3 . وايقاظ النائمين، ص3 3 ــ4 3 .

1 3 1 صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، ص3 7 1 ــ4 7 1 . والمبدأ والمعاد، ص8 9 1 .

2 3 1 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص7 1 4 ــ8 1 4 .

3 3 1 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص4 2 4 .

4 3 1 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص4 5 2 ــ5 5 2 .

5 3 1 اسرار الشريعة، ص7 8 ــ 8 8 .

6 3 1 السياسة المدنية، ص4 6 .

7 3 1 هياكل النور، ص7 8 . وشواكل الحور في شرح هياكل النور، ص3 9 1 .

8 3 1 اسرار الشريعة، ص 9 1 .

9 3 1 تحفه، ص8 8 2 ــ9 8 2 .

0 4 1 المبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص6 9 1 .

1 4 1 مفاتيح الغيب، ص4 6 1 .

3 4 1 مفاتيح الغيب، ص5 6 1 ــ6 6 1 . وتفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص3 5 2 ــ4 5 2 .

3 4 1 الشواهد الربوبية، ص0 8 1 .

4 4 1 لاحظ اسرار الايات، ص1 8 ــ2 8 . وكذا نفس المصدر، ص4 6 1 ــ5 6 1 .

5 4 1 الاسفار، ج8 ، ص3 5 3 .

6 4 1 الاسفار، ج8 ، ص 4 5 3 .

7 4 1 الاسفار، ج8 ، ص8 5 3 و9 6 3 .

8 4 1 الاسفار، ج8 ، ص6 4 3 ــ7 4 3 . كذلك اسرار الايات، ص5 0 1 .

9 4 1 عن: الاسفار، ج8 ، ص6 5 3 ــ7 5 3 .

0 5 1 رسالة هياكل النور، ص2 8 . كذلك: رسالة شواكل الحور في شرح هياكل النور، مصدر سابق، ص3 5 1 و8 5 1 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار