أثر الواقع على التشريع

يحيى محمد

لا يخلو اي حكم من احكام الشريعة من ان تتحكم به بعض الدلالات المعرفية تحديداً وتغييراً. وهي على اربعة انواع:

1 ـ الدلالة الحرفية للنص.

2 ـ دلالة العقل او الوجدان.

3 ـ دلالة الواقع، سواء كان الواقع عاماً، او خاصاً بالتنزيل، اي الذي فيه تم انزال الحكم وقت عصر نص الخطاب.

4 ـ دلالة المقاصد، سواء كانت خاصة او عامة، وكذا إن كانت وسيلة او غاية او شرطية ضرورية.

ورغم تعدد هذه الدلالات الكاشفة عن طبيعة الحكم الشرعي، يلاحظ ان بعضها يكشف عن البعض الاخر. اي ان بامكانها ان تلعب ادواراً مختلفة من الكشف المتبادل. فالدلالات الحرفية في موارد كثيرة تسبق فهم الواقع في الكشف عن مداليله. كما انها تنبه احياناً على الدلالة العقلية. وكذا بخصوص ما تعلن عنه بصدد المقاصد. لكن في القبال ان لدلالة الواقع دوراً هاماً في فهم طبيعة ما يريده النص او الدلالة الحرفية؛ وكذا الكشف عن المقاصد وما يقرر لدى العقل. ونفس الشيء بخصوص الدلالتين المتبقيتين العقلية والمقصدية ولو ضمن حدود، مثل فهمهما لمراد النص.

يضاف الى ما سبق فان للدلالة الواقعية ميزة أخرى اضافية، وهي انها تكشف عما يجري لبعض الاحكام من الضعف وعدم القدرة على الصمود امام تجددات الواقع. كما بامكانها الكشف عما يصيبها من خلل وتضارب مع المقاصد، الامر الذي يستدعي تغييرها تبعاً لمصلحة هذه المقاصد.

أ ـ الدلالة الحرفية للحكم

الدلالة الحرفية للنص، سواء من حيث المنطوق او المفهوم، هي دلالة تتكشف من حيث الظهور اللفظي والسياقي للنص، مع اخذ اعتبار الفحص والتفتيش في ما يمكن البحث عنه في سائر النصوص مما يعد من القرائن المنفصلة التي لها دورها في تأسيس الحكم. ذلك ان المسلّم به لدى العلماء هو ان النص من غير تلك القرائن لا يفي بالغرض، حيث أن الشارع الحكيم لم يُنشئ مراده من الحكم في النص جملة واحدة، انما سلك سبيل التفرقة من خلال النصوص الأخرى. الأمر الذي يكشف عن خطأ المسلك الذي يعول على حجية ظهور النص دون مراعاة أمر التفتيش عن التخصيصات والتقييدات وما اليها من الدلالات الأخرى النافية للظهور والمبثوثة في سائر النصوص. وعليه فقد نهى الاصوليون عن الأخذ بالظهور اللفظي الا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة، وتقررت القاعدة العامة التي تقول: ((ان اصالة الظهور لا تكون حجة الا بعد الفحص واليأس عن القرينة)) 1 .

هذه هي الدلالة التي شغلت اذهان الفقهاء والاصوليين من اجل الكشف عن الحكم الشرعي. حتى انك حين تطلع على كتب الفقه والاصول تجد بوضوح حجم الجهد والاهتمام الهائل المصروفين لأجل هذه الدلالة. فمباحث الظهور والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وغيرها كلها معنية بهذا الأمر. في ا لوقت الذي تجد اهمالاً كبيراً لسائر الدلالظات الاخرى، اذا ما استثنينا دلالة المقصد الخاص الذي له حيزه من البحث الاصولي والفقهي ضمن عنوان القياس. بل ان بعضها غاب وعياً عن البحث الاصولي والفقهي، كالدلالة الواقعية. أما الدلالات المتعلقة بالمقاصد العامة والعقل فانها تكاد ان تخلو من الوظيفة والفاعلية في التأثير على الاحكام انتاجاً وتغييراً، وكأنها تبحث في الاصول لأجل التقرير لا للتحقيق والبناء، على ما سيتضح لنا فيما بعد. هكذا ان اصول الفقه معنية فعلاً بأخذ اعتبار جميع الدلالات السابقة في الكشف عن الحكم الشرعي، وذلك لما في بعضها من تأثير على البعض الآخر، وبالتالي تحديد ذلك الحكم.

وواضح ان السبب الذي دفع العلماء الى تكريس جلّ اهتمامهم بالدلالة الحرفية دون غيرها والتي جعلت طريقتهم يغلب عليها طابع الاستغراق في النص وتشقيق الكلام؛ انما يعود الى عنصر ((القداسة)) المضفاة على النص بما يعبر عن كلام الله وما يتفرع عنه، خاصة عند اولئك الذين اعتبروا هذا الكلام من الصفات الذاتية الأزلية. فعلى ذلك هيمن المنهج الذي اطلقنا عليه حق الطاعة. بل اكثر من هذا يمكن اعتبار الجمع المتداخل بين عنصر القداسة والطابع الاجمالي للنص فضلاً عن حدوث ضغط الحاجة للواقع؛ هو من اهم العوامل التي ساهمت وافضت الى زيادة تعدد فهم النص والتعمق به. الى درجة يصدق القول بان العلاقة بين ذلك الجمع وبين تعدد الفهم والاستغراق فيه هي علاقة طردية؛ كلما اشتد الأول ازداد الثاني. الأمر الذي يفسّر لنا هذه التخوم التي احتواها تراثنا الاسلامي في تعلقه بفهم النص من غير أن يجد لذلك حداً ولا نهاية. حتى أن الاهتمام بالجوانب اللغوية والبلاغية والنحوية وتقعييدها ما كان له ذلك الشأن لولا تعلقه بتلك القداسة. لهذا فقد جاءت هذه العلوم المساعدة متأخرة في نشأتها عن علوم النص، كالحديث والفقه والتفسير.

على ان هذا الحال افضى بالفكر الاسلامي الى التعالي والتجريد. فلم يكن له من شاغل سوى الانخراط - في الغالب - تحت هيمنة منهج حق الطاعة، وهو المنهج الملتصق بالشكل الحرفي من النص، والذي يجعل تحرك الذهن لا يتجاوز اطار هذه الحدود. الامر الذي يبعد النظر عن التفكير في الواقع الا في الضرورة التي تفرضها ضغوط الحاجة والاضطرار. وبهذا أُغمط حق الواقع، وكان الأولى أن تكون الرؤية بعينين؛ احداهما للواقع والاخرى للنص، مثلما جرى الحال في الدورة الاولى من الحضارة الاسلامية حيث الجدل بين الخطاب والواقع، كما هو معلوم من ظاهرة النسخ وتدرج الاحكام. ونحن سنبين هذه الطريقة على ضوء ما اطلقنا عليه الفهم المجمل للنص وعلاقته بكل من الواقع والمقاصد، وذلك قبال ما هو متعارف عليه من الفهم المفصل.

ب ـ الدلالة المقصدية للحكم

المقاصد سواء الخاصة منها او العامة تارة تُستنبط من النص بالتصريح فتكون راجعة للدلالة الحرفية التي سبق الحديث عنها، واخرى تُنتزع بالاستنتاج بفضل الدلالتين العقلية والواقعية. وما نهدف اليه فهو بحث المقاصد التي لم يصرح بها والتي يستعان بتحديدها عبر الدلالتين الاخيرتين.

ذلك ان للمقاصد سواء الخاصة منها او العامة مكانتين، احداهما تتخذ شكل المدلول الذي تدل عليه بعض الدلالات الاخرى انفراداً او اجتماعاً. أما المكانة الثانية فهو انه بعد اثباتها عبر هذه الدلالات تصبح بدورها دالة على الاحكام، انتاجاً وتغييراً، وذلك بفضل التنبيه الذي تمارسه بعض الدلالات الانفة الذكر، خصوصاً الواقع الذي تتشكل منه عناصر موضوع الحكم. فعملية انتاج الحكم وتغييره تتأسس على شرطية ادراك العناصر المؤثرة للواقع، أي تلك التي تصلح ان تكون عناصر لموضوع الحكم. لكن معرفة هذه العناصر وتمييزها عن غيرها من العناصر الأخرى للواقع انما تتم عبر النظر الى طبيعة العلاقة التي تنشأ بينها وبين المقاصد؛ اتفاقاً أو اختلافاً. فلو ان العلاقة متفقة لكان الحكم نافذ المفعول لا يجد مبرراً لتغييره، طبقاً لثبوت عناصره المؤثرة. أما لو اختلفت العلاقة وتضاربت لكان يعني ان هناك مبرراً لتغيير الحكم، ولاعتبرنا ما حدث من اختلاف وتضارب ناتجاً عن تغير في عناصر الواقع المؤثرة، الأمر الذي يمكن فيه تشخيص هذه العناصر لوضع ما يناسبها من حكم على ضوء المقاصد؛ حتى تتم حالة الوفاق والاتساق.

هكذا فللمقاصد ثلاثة ادوار بعضها يكمل البعض الاخر كالآتي:

1 ـ دور الوسيط الذي يستثيره الواقع وما يطرأ عليه من تغيرات، اتساقاً أو تضارباً.

2 ـ دور المشخص للعناصر المؤثرة للواقع او موضوع الحكم.

3 ـ دور التحكم، حيث انها بفعل الوساطة وتحديد عناصر الموضوع يمكنها ان تتحكم في انتاج الحكم وتغييره. أي كما أنها دالة على التأثير المناط ببعض عناصر الواقع كما اشرنا الى ذلك في النقطة السابقة؛ فانها كذلك دالة على مقتضى طبيعة الحكم الواجب امتثاله.

1 ـ الدلالة الخاصة للمقاصد

سبق ان عرفنا بان للمقاصد مكانتين، احداهما كمدلول، والاخرى ككاشف أو دال. وبخصوص ما يعنينا من المقاصد الخاصة هي تلك التي لم تصرح بها الدلالة الحرفية للنص، اي انها مقاصد غير ظاهرة في اللفظ، انما بمشاركة عدد من الدلالات كدلالة النص مع الواقع او العقل يمكن استكشاف طبيعة هذه المقاصد للاحكام بنوع من القطع او الحدس او الاطمئنان، مثل احكام الحدود حيث تعلم بدلالة الواقع بانها للردع لما يلاحظ من وجود الشدة في العقوبة، خاصة وأن بعضها نصّ عليه القرآن صراحة بأن تقام وفق اشهاد طائفة من المؤمنين بقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} النور/2 .

2 ـ الدلالة العامة للمقاصد

وهي عبارة عن روح الشرع واساس الحكمة من وجوده. لذلك فمن الاهمية بمكان ان يجاز لها الاعتبار في الكشف عن الحكم الشرعي. فبها يتبين إن كان الحكم على اتفاق معها ام لا، وبها يُحدد مجرى تغيير الاحكام، وذلك باعتبار ان المقاصد الخاصة لا تقوم لها قائمة ما لم تتسق معها. فمثلاً ان الحدود لها مقاصدها الخاصة من الردع كما علمنا، وهي تتفق مع المقاصد العامة في حماية المجتمع وتأمين حياته وسلامته. وكذا الصلاة، حيث من مقاصدها الخاصة انها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغرض من هذا النهي سلامة المجتمع وصيانته من الانحراف والتحلل.

على ان الدلالة المقصدية قد تعطي صوراً وبدائل اخرى غير تلك المتعلقة بثنائية اثبات الحكم ونفيه. فالحكم البياني هو احد اطراف تحقيق الدلالة المقصدية الخاصة، لكن تغايرات الواقع تبعث على النظر في اطراف اخرى للدلالة المقصدية، وانه بحسب الاحتكام الى امر المقاصد الكلية العامة والنظر الى الواقع كان من الممكن تقدير الصور المصداقية للدلالة المقصدية الخاصة. فمثلاً ان الدلالة المقصدية الخاصة من الحدود هو الشدة في الردع، لكن للشدة صوراً واطرافاً متباينة يمكن تطبيقها على تغايرات الواقع المختلفة بحسب هدي المقاصد الكلية.

ج ـ الدلالة العقلية للحكم

سبق ان عرفنا في (جدلية الخطاب والواقع) ان الادراك العقلي له منظاران، احدهما قبلي، اي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصاً او واقعاً، والاخر بعدي يتأسس بما يتزود به من مادة الموضوع المدرك؛ الامر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجاً ومضيفاً. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير ان يبدي اي اضافة اخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، الا على نحو الاضافة ((الحسابية)) التي تؤكدها الدراسات المنطقية وذلك بتحويل درجة الاحتمال المتناهية القوة الى اليقين طبقاً للعملية الاستقرائية، حيث يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل ادراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا ادراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج الى تأمل وحمولة عقلية، ولو على نحو الاجمال. فليس للحساب الاحتمالي ان يصل بذاته الى اليقين ما لم يتم ذلك بحسب الاضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الاضافة التصديقية غاية في الضآلة قياساً مع ما يقابلها من قوة احتمالية، لهذا فهي غير محسوبة ومحسوسة الا عند النظر المنطقي.

هذا فيما يتعلق بظاهرة الادراك الاستنتاجي. أما ظاهرة الادراك الاضافي فيلاحظ ان للعقل دوراً في الاضافة الاخبارية عند مداخلته للموضوع المدرك. وهذه الاضافة تتفاوت ضعفاً وقوة، حيث تشترك مع المعطى الموضوعي لتحديد النتاج المعرفي الاخباري. مع هذا ففي جميع الاحوال يكون المعطى الموضوعي صغروياً في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والانتاج المعرفي، وهو امر يصدق حتى مع القضايا الاستقرائية المستمدة من الموضوع الخارجي، حيث تتحكم مبادئ ومصادرات الاحتمال كقضايا عقلية تفضي الى ترجيح القضية المستقرأة الى اكبر قيمة احتمالية ممكنة. لكن هذا التحكم ليس له علاقة بالاضافة العقلية الاخبارية التي تحدثنا عنها. فهو لا يعدو عن تحكم منطقي لا يكشف عما عليه الموضوع الخارجي. ولو انا اعتبرناه ضمن هذه الاضافة لكانت جميع قضايانا هي قضايا عقلية. لهذا فان المميز للاضافة العقلية الاخبارية انما يتحدد بمدى علاقتها في الكشف عما عليه الموضوع بعيداً عن الضبط المنطقي الذي يستهدف الكشف عما يستنتج من المعطى الموضوعي. فهي بالتالي عبارة عن اضافة حدسية كاشفة بدرجة من درجات التصديق بحيث تفوق ما عليه المعطى المنطقي. ومن ثم فحينما نواجه قضايا تشترك في الجمع بين الاضافة العقلية الاخبارية وبين المعطى الموضوعي؛ فان النتاج المعرفي لهذا الجمع يفضي الى تكوين نتيجة يمكن النظر اليها باعتبارين؛ احدهما يفيد الدلالة العقلية، والاخر يفيد الدلالة الموضوعية؛ نصية كانت او واقعية.

وحقيقة الامر ان ما يعنينا في الدلالة العقلية هو الكشف عن اهميتها في فهم النص وتحديد الاحكام بما يتفق والمقاصد. فمن ذلك ما يستخدم في بعض القياسات الفقهية التي تتكشف خلالها هذه الدلالة لفهم النص وانتاج الحكم.

كذلك ان حاكمية بعض العمومات على البعض الاخر لا تكون الا من حيث تحكيم الدلالة العقلية، ومنه اعتبار عموم حديث (لا ضرر ولا ضرار) حاكماً على سائر العمومات الاخرى للاحكام عند التعارض على ما ابرزنا ذلك من قبل. وكذا بخصوص الاحكام الفقهية التي تستند الى عدد من القواعد الاصولية مثل قاعدة الاستصحاب ومقدمة الواجب واجبة وغيرها.

لكن سواء في الدلالة العقلية او غيرها من الدلالات فان القضية المعرفية ومنها تلك التي لها علاقة بفهم النص والاحكام؛ تختلف بحسب قيمتها التصديقية. وقد سبق ان تناولنا ذلك على النحو الكلي، لكن بصدد تطبيقه بخصوص الفهم والاحكام انها تارة تكون ضرورية لا غنى عنها في الفهم، ومن ذلك ما يفهم من الايات التي تتحدث عن القدرة المطلقة لله تعالى كما في الآية: {ان الله على كل شيء قدير}؛ لا يراد منها القدرة الاطلاقية بحيث تشمل الممتنعات العقلية كالقدرة على خلق الشريك المماثل وما اليه. وبصدد التشريع فمثل نفي التكليف بلا بيان اللازم منه الحكم بالبراءة، وكذا نفي تكليف ما لا يطاق، والحكم بتقديم الاهم في مورد التزاحم بين الحكمين، وما الى ذلك.

وتارة اخرى تكون قطعية وإن لم تصل الى حد الضرورة؛ مثل مختلف الاحكام التكليفية التي نقطع بصحتها كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما اليها.

وثالثة تكون حدسية بحيث لا تجد احتمالاً معقولاً قبالها، مثل اعتبار قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) حاكمة على غيرها من الاحكام التكليفية.

ورابعة تكون عادية اطمئنانية كما عليه سيرة العقلاء في معاملاتهم وعلاقاتهم، حيث الاحتمال المقابل ضعيف لا يعتد به، مثل فهم النصوص التي تنهى عن التصوير لذوي الارواح طبقاً للمقاصد كي لا تتخذ للعبادة، وكذا فهم النصوص الخاصة بتحديد موارد الزكاة في عدد محدد ومحدود من الاشياء طبقاً لظروف الحياة بشبه الجزيرة العربية في عصر النص. وكذا مثل فهم الكثير من النصوص غير الصريحة طبقاً للمقاصد كالحديث القائل: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، حيث الغرض منه هو للتثبت من الحكم الذي يقضي به، وحديث: (القاتل لا يرث).

وخامسة تكون ظنية يقابلها احتمال ضعيف يعتد به، وذلك مثل كثير من القياسات القائمة على مجرد الشبه من وجه من غير اعتماد على ملاكات الاحكام والمقاصد.

وسادسة قد تكون الدلالة شكية او وهمية وما دونها.

على ان القيم الدلالية المعتبرة للقضية المعرفية انما تتحدد فقط بالمراتب الاربع الاولى. اي تلك التي تكون ضرورية وقطعية وحدسية وعادية. أما سائر المراتب الاخرى فهي بعيدة عن الاخذ والاعتبار.

د ـ الدلالة الواقعية للحكم

تنقسم هذه الدلالة الى الواقع الخاص بالتنزيل، اي ذلك المقترن مع نزول النص، والى الواقع العام المطلق. فالاول ضروري لفهم النص ومقصده الخاص. وكذا الثاني فانه ضروري من جانب لفهم النص عموماً، وبدونه قد تنقلب الكثير من موازين الفهم ويصبح النص الالهي برمته غير معقول ولا مقبول. وقد سبق في كتاب (جدلية الخطاب والواقع) أن مرّت علينا الكثير من النصوص التي لا يمكن تفسيرها الا على ضوء الواقع المطلق، مثل قوله تعالى: {فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض} الكهف/7 7 ، وقوله: {تدمر كل شيء بأمر ربها} الاحقاف/5 2 ، وقوله: { وآتاكم من كل ما سألتموه} ابراهيم/4 3 ، وكذا الآيات التي تتحدث عن ان الله هو الذي ينشئ السحاب وينزل الغيث وما اليها من نصوص كثيرة جداً، حيث لا تفهم فهماً معقولاً من غير معرفة الواقع العام.

على ان لهذا الواقع أهمية أخرى في مجال إدراك الاحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً الى هدي المقاصد. وبغير اخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار فانه لا مجال لاضفاء المعقولية او العقلانية على التشريع وما يترتب عليه من اجتهادات. فقد يتبين من الواقع العام وتبعاً للمقاصد ان الحكم المنصوص عليه انما مقيد بالواقع الخاص بالتنزيل وما على شاكلته. لهذا فلأهمية هذه الدلالة الكاشفة فانا سنعرض لها العديد من الأمثلة المتنوعة مقيدة بالعلاقة مع المقاصد التي نحن بصدد البحث فيها؛ لينكشف بذلك ما للتشريع من معقولية وعقلانية.

نماذج منتخبة

1 ـ المشقة في الصوم والواقع

نصّ الشارع الاسلامي على اباحة الفطر في شهر رمضان لكل من المريض والمسافر بقوله تعالى: {.. فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر} البقرة/5 8 1 . والحكمة من ذلك كما يدل عليها ما جاء بعد الآية من نص وما عليه الواقع الخاص؛ انما للتيسير ودفع المشقة. فالنص صريح في تعليل الامر بقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} البقرة/5 8 1 . كذلك ان الواقع الخاص يكشف عن ان المرض والسفر يبعثان على المشقة في مجتمع لا يمتلك وسائل النقل المريحة كما عليه اليوم. أي ان اجتماع جنسين مختلفين في النص لا يفسرهما غير دفع المشقة بدلالة الواقع. هكذا يكون ملاك الحكم محدداً بدفع المشقة، فحيث هناك مشقة كتلك التي تكون في المرض او السفر فان اباحة الفطر في الشهر المبارك تصبح قائمة.

لكن الملاحظ ان السفر في ايامنا الحاضرة - بخلاف ما هو الحال في السابق - لم يعد يبعث على المشقة في الغالب. فاذا كانت هذه المشقة هي اهم عناصر موضوع الحكم الخاص باباحة الفطر تبعاً لتحديد المقصد الشرعي؛ فإن مضمون الحكم سوف يختلف حالياً عما كان عليه سابقاً، بل وسوف يتغير الفهم الخاص بما يطلق عليه المسافة الشرعية. مما يعني ان ((الواقع)) قد كشف عن تغير موضوع الحكم بدلالة المقصد الخاص. وقبل ذلك عرفنا ان به أمكن الكشف عن طبيعة هذا المقصد، مؤكداً بذلك ما جاء في النص كتعبير عن المقصد الآنف الذكر.

وهنا نلفت النظر الى أن بعض الفقهاء في عصرنا الحديث اعتبر ان السفر مبيح للفطر على الاطلاق، وذلك لاختلاف ما روي عن النبي (ص) من حدود السفر المبيح، واعتبارها من الآحاد، والتعويل على اطلاق نص الآية القرآنية التي لم تحدد مسافة السفر المبيح. فقد ذكر الشيخ المراغي يقول: ((قد روى احمد ومسلم وابو داود عن انس: ان رسول الله (ص) كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة اميال. وروي عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح انه كان يقصر في الميل الواحد، واذا نظرنا الى نص القرآن فهو مطلق، وان كل ما رواه في التخصيص اخبار آحاد، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص؛ جاز لنا ان نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأي داود وغيره من الائمة)) 2 .

لكن يشكل على ما لجأ اليه هذا الشيخ هو انه لم يبدِ اعتداداً للمشقة التي دلّ عليها النص كمناط او ملاك للحكم، كما لم يربط بين المشقة المذكورة وبين الواقع؛ سواء الحالي منه او ذلك الخاص بالتنزيل.

كما نلفت النظر - في القبال - الى ان بعض الاتجاهات الفقهية أنكرت الدلالة المقصدية وبالغت في ممارستها الحرفية من خلال منطق الرواية. ورغم ان مضامين الاخبار التي استندت اليها كانت تختلف في مقاييس السفر (الشرعي) وتحديد الملاك، حيث بعضها دال على الأخذ بالمسافة (ثمانية فراسخ أو بريدين أو اربعة وعشرين ميلاً)، وبعض آخر دال على الأخذ بالزمان (بياض يوم او مسيرة يوم)، وبعض ثالث دال على اعتبار الأمرين مما يتفق وطبيعة الحياة آنذاك تبعاً لسير الجمال 3 ؛ الا ان مشهور الفقهاء واغلبهم رجحوا ولا زالوا الملاك الخاص بمعيار المسافة واعتبروا الزمان مقدراً عليه 4 ، رغم ان هذا الأخير هو اقرب للمحافظة على المقصد من الأول. فقد كانت مقادير المسافة وكذا الزمان لها ما يبررها من تقدير للمشقة في السفر آنذاك. وهما متعادلان من هذه الناحية، حيث كلاهما دالان على المشقة وان احدهما يقدر بالآخر 5 . لكن الأمر في أيامنا هذه مختلف! فلا المسافة المقررة تبعث على المشقة، ولا انها تطابق الزمان المقدر في قبالها. مما يعني ان بقاء الحكم مستنداً الى المسافة يفضي الى ان لا يكون له معنى تبعاً للمقصد الخاص به. بل حتى لو تجاوزنا حساب هذا المقصد بكل ما يملكه من دلالة الواقع والنص في الآية المشار اليها سلفاً، واعتبرنا ذلك الحكم أمراً تعبدياً خالصاً؛ فانا سنصطدم في ترجيحه على قرينه من الزمان الذي كان يعادله في السابق 6 ، الأمر الذي يبعث على التناقض. فلماذا اذن الاحتكام الى المسافة دون الزمان، ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح، خاصة وانه اقرب الى الحفاظ على المقصد، ولأن دلالة النص عليه أقوى بشهادة ما ذكره صاحب (جواهر الكلام) 7 ؟!

2 ـ قضايا المرأة والواقع

أـ بخصوص شهادة المرأة نصّ القرآن الكريم على أنها تعادل نصف شهادة الرجل في قضايا التداين ضمن التداولات المالية، وذلك بحسب ما جاء في قوله تعالى: {.. فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى} البقرة/2 8 2 . وقد اختلف الفقهاء حول دلالة هذه الآية فيما لو كانت خاصة او لها عموم. فالكثير منهم منع شهادة النساء في قضايا معينة كالحدود والدماء. وزاد بعضهم كل ما خرج عن التداول المالي، ومن ذلك ما ذكره صاحب (مهذب الاحكام) من ان شهادتها تُمنع في حقوق البشر التي تخرج عن النواحي المالية، وذلك كالشهادة على البلوغ والاسلام والولاء والجرح والتعديل والعفو عن القصاص والوكالة والوصاية والرجعة وعيوب النساء الظاهرة والنسب والهلال، وقد نُسب هذا الضابط الى مشهور الامامية 8 . وعلى خلاف من سبق ذهب الكثير من السلف الى الأخذ بالعموم أو الاطلاق الظاهر من الآية من غير استثناء، وكذلك من التعليل المعتمد على دلالة ((الواقع))، حيث ان ((مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق، وهذا المعنى موجود في النساء كما هو موجود في الرجال، وما يقدر من نقصهن مجبور بمضاعفة العدد، خصوصاً اذا كثرن وصرن معروفات بالصدق والحفظ)) 9 . وكان ابن حزم من الذين يؤكدون هذا المعنى 0 1 ، معتبراً ان رفض شهادة النساء في الحدود والقصاص ليس له اصل في السنة النبوية 1 1 .

كما ان الكثير ذهبوا الى الاعتماد على ظاهر منطوق الاية معتبرين انه لا يجوز قبول شهادة النساء في الامور المالية مهما كان عددهن ما لم يكن معهن شاهد من الرجال، ومن ذلك ما قاله صاحب (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ): ((لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن، ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما)) 2 1 . فالمناط المعول عليه في المسألة ليس المعرفة وقوة الكشف عن الواقع، بل هو وجود الشاهد الذكوري. وتبعاً لهذا المناط اعتبرالمحقق القمي من انه ((قد يحصل الظن بشاهد واحد أكثر من شاهدين ولا يعتبر ذلك، لأن الشارع جعل الشاهدين من حيث أنهما شاهدان مناطاً للحكم لا من حيث الظن الحاصل بهما)) 3 1 . مع ان هذا التصور يفرغ قضية الشهادة من مقصودها الخاص بالكشف عن الواقع، ويحولها الى صورة تعبدية لا يفهم لها معنى. وهو أمر يناقض ذات ما عوّل عليه الشارع من تقديم الشاهدين على الواحد، مع اخذ اعتبارات التوثيق، فذلك لا يستقيم الا مع قصد الكشف عن الواقع باجراء مناسب يتفق مع اغلب حالات الابتلاء.

وفي القبال اعتمد كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم على دلالة الواقع في اقرار التساوي بين شهادة النساء وشهادة الرجال لبعض المواقف. فبحسب هذا الرأي انه اذا كان سبب النصفية في شهادة المرأة يعود الى ضعف العقل لا الدين؛ فان هناك من الشهادات ما لا يخشى منها الضلال والخطأ عادة، لذا يقبل تساويها مع الرجل، وهي عبارة عن الاشياء التي ((تراها بعينها او تلمسها بيدها او تسمعها باذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فان مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته الى كمال عقل، كمعاني الاقوال التي تسمعها من الاقرار بالدَّين وغيره)) 4 1 .

طبقاً لهذا التحليل يلاحظ انه لا مانع من ان تكون شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل؛ اذا ما ضمنّا في العادة عدم خطئها وضلالها حتى في القضايا المعدة عقلية ومعنوية. ذلك اننا هنا لسنا أمام قضية تعبدية، فالقصد من التشريع بدلالة النص الآنف الذكر لا يخرج عن معنى التثبت في الشهادة. وهنا يأتي دور الدلالة الواقعية لحسم القضية. فمن حيث دراسة الواقع هناك احتمالان يخصان ادراك المرأة وذاكرتها، على الأقل في ما يتعلق بما نحن فيه. فلو اقمنا سلسلة متنوعة من الاختبارات الاحصائية النفسية على كل من الرجال والنساء لغرض المقارنة بينهم والكشف عن دقة ما يعبرون عنه من شهادات لحوادث مختلفة تجري أمامهم؛ لكنا نصل في النتيجة إما الى اثبات عدم وجود اختلاف محدد بينهما، أو الاقرار بوجود نقص طبيعي وفطري في الادراكات الخاصة بالمرأة. أما الافتراض الثالث الخاص بوجود نقص في الرجل لا المرأة فهو مستبعد تماماً. وعلى الفرض الأول يصبح ما شهده القرآن الكريم على النقص في ادراك المرأة لا يراد منه جانب الطبيعة والاطلاق كما هو الظاهر من النص، وانما قصد خصوص ما عليه المرأة وقت عصر النص، حيث تمتاز بضعف الادراك لقلة التعليم وضآلة الدور الذي كانت تمارسه في الحياة الاجتماعية العامة. أي طبقاً لهذا الفرض يمكننا ان نحدد فهمنا للنص بربطه بالواقع الخاص بالتنزيل عبر دراسة الواقع العام، وذلك بما يتسق مع المقصد المنصوص عليه. وهو أمر يفضي الى تغيير الحكم ولا بد. أما على الفرض الثاني الذي يثبت نقص ادراك المرأة بالمقارنة مع الرجل؛ فان الحكم القرآني يكون ناظراً الى الواقع العام لطبيعة المرأة بما هي كذلك وليس الى الواقع الخاص بالتنزيل. وفي جميع الاحوال نعلم كم هي فائدة الدلالة الواقعية في فهم النص وتحديد الحكم؛ سواء الخاصة منها او العامة.

علماً بان المفسرين اختلفوا في تعليل ما وصفت به النساء من انهن عرضة للضلال والنسيان، فقديماً عللوه تبعاً للمزاج، وهو ان مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وبالتالي فان التعليل مرده الى الامر الطبيعي الفطري، والذي يقتضي ان يكون الحكم حكماً ثابتاً لا يقبل التغيير مهما تغيرت الظروف والاحوال، ويكون القرآن الكريم ناظراً الى ما هو الواقع العام للمرأة وليس الى ظروفها الخاصة كما قدمنا. لكن حديثاً ذهب رشيد رضا الى ان تعليل الامر يعود الى ان المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من التداولات، الامر الذي تكون فيه ذاكرتها ضعيفة، بخلاف ما يحصل لها في الامور المنزلية التي هي شغلها الرئيسي 5 1 . مما يعني ان هذا التعليل مرده الى طبيعة ما عليه الاحوال والظروف، فلو انها تغيرت لتغير الحكم معها، وان القرآن الكريم ناظر في الحكم الى ما عليه ذات الظروف وليس الى الامر العام الذي يخص طبيعة المرأة بما هي مرأة.

ب ـ بخصوص ما ورد من تحريم لسفر المرأة بغير محرم؛ نجد هناك عدداً من الاحاديث، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابي سعيد الخدري قوله: ((لا تسافر إمرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها او ذو محرم)) 6 1 . واخرج الامام الترمذي في جامعه عن ابي هريرة ان النبي (ص) قال: ((لا تسافر إمرأة مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم)) 7 1 . واخرج الترمذي عن ابي سعيد عن رسول الله (ص) قوله: ((لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الاخر ان تسافر سفراً يكون ثلاثة ايام فصاعداً الا ومعها ابوها او اخوها او زوجها او ابنها او ذو محرم منها)) 8 1 . واخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي (ص) قوله: ((لا تسافر المرأة الا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها ذو محرم)) 9 1 . وقال ابن حجر العسقلاني: ((وقد عمل اكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفراً، فالمرأة منهية عنه الا بالمحرم، وانما وقع التحديد عن امر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين)) 0 2 .

ولا شك انه لو نظرنا للنصوص السابقة من زاوية علاقتها بالواقع الخاص بالتنزيل؛ لرأينا أن النهي الوارد فيها مفهوم ومناسب لتلك الظروف والاحوال القائمة؛ حيث لا أمان لسفر المرأة وحدها في ظل انعدام الأمن وبدائية المواصلات. اي ان القصد من التحريم معلوم بدلالة الواقع المشار اليه. لهذا فان مذهبي مالك والشافعي لا يأخذان باطلاق النهي الوارد في مثل تلك النصوص، حيث أجازا حج المرأة وحدها من غير محرم إن كانت في رفقة مأمونة. الأمر الذي فهما النهي المنصوص عن سفرها وحدها هو فقط عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة 1 2 .

مع هذا فهناك احتمالان يمكن تمحيصهما من قبل الواقع العام لأجل الافادة منهما بالنظر في الموقف الذي يفرضه تغير الواقع الخاص. فاذا كنا نعلم ان التحريم بدلالة هذا الواقع هو لأجل منع ما قد يحدث من ارتكاب المحارم الجنسية؛ فان تحقيق هذا المقصد يعتمد على دراسة طبع المرأة في ظل الظروف المؤمنة اجتماعياً. فإما ان يكون هذا الطبع ضعيفاً يميل الى ارتكاب تلك المحارم مما لا ينفع فيه الامن الاجتماعي، ومن ثم تبقى مبررات استمرارية الحكم وثباته قائمة بلا تغير.. او ان طبعها ليس كذلك. وعليه لا نجد تفسيراً معقولاً للنهي الا من حيث انه نهي باعتبار انعدام ذلك الامن المقترن مع طبيعة ظروف بدائية مواصلات السفر كما هو الحال في المجتمعات القديمة السابقة. وبالتالي لا يصح التعويل على الاطلاق الظاهر في تلك النصوص. انما يعتبر الحكم الوارد فيها رهين موضوعها المؤطر بالظروف الخاصة التي اشرنا اليها قبل قليل.

هكذا يتضح ان الحكم الانف الذكر لم يُعرف مقصده الا من خلال الواقع الخاص بالتنزيل، كما لا يعرف اطلاقه من نسبيته الا من حيث دراسة الواقع العام. فلو ان هذا الواقع دلنا على معرفة طبائع المرأة وميولها عبر الدراسات النفسية والاجتماعية لكان من الممكن تقرير ما اذا كان يوجد مبرر لبقاء الحكم كما هو ام لا؟

ج ـ من المعلوم ان الغرض من حجاب المرأة هو لسد الذريعة عن حدوث الاثارة والشهوة وربما الاعتداء؛ بدلالة الواقع وعدد من النصوص 2 2 ، وبالتالي منعاً لأذية كل من الرجل والمرأة على السواء طبقاً لشهادة الواقع. لكن يرد في الامر احتمالان يتعلقان بكيفية التحجب والكشف غير السافر للجسم. فبحسب الواقع العام إما ان يكون الطبع البشري منساقاً الى التأثر والشهوة عند اي كشف نهى عنه الشارع المقدس، او ان النهي المنصوص كان لازماً لاعتبارات بعض الحالات الخاصة بالواقع. فاذا دلّ الواقع المطلق على خطأ الفرضية الاولى اصبحت المسامحة في الحكم الثاني مقبولة غير خارجة عن الشرع، ويؤيدها ما ورد من مسامحة في الكشف المحتشم امام ملك اليمين او الخدم، وكذا نفس الحال مع كشف الإماء، وايضاً كبار السن من النساء وذلك لدفع العسر والتخفيف، مضافاً الى ما جرى من حالات الاختلاط والملامسة عند تضميد جرحى الحرب وسقيهم وما الى ذلك 3 2 .

لكن مع هذا لا بد من اخذ الملاحظات التالية بنظر الاعتبار كالاتي:

1 ـ انه حتى لو فرضنا خطأ الفرضية الاولى وبالتالي جاز الكشف غير السافر في الاحوال المناسبة؛ فان ما يلزم هو ان يكون هذا الكشف معقولاً لا يخرج عن حدود الحشمة المتعارف عليها، وذلك كي لا يفضي الى الصدام مع المقصد الخاص ولا يجر الى اضرار جانبية ولو بعناوين اخرى مختلفة.

2 ـ انه حتى مع فرض خطأ تلك الفرضية قد يلزم الابقاء على الحجاب المعهود كعمل وقائي سداً للذريعة وخشية من توظيف الامور الشرعية في غير مجاريها الصحيحة، خاصة مع كثرة الاهواء وضعف الوعي التربوي كما هو مألوف عند الناس.

3 ـ استناداً الى الواقع يعتبر الالتزام بالحجاب في الحدود المتعارف عليه من كشف الوجه والكفين حالة كمالية تصون العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، وهو لا يشكل عائقاً امام تطور الحياة والحركة النسوية عادة. لذلك فمن الناحية المبدئية ان المطالبة به تظل واردة ومبررة.

3 ـ فنون الرسم والواقع

من المعلوم ان اغلب الفقهاء تعاملوا مع نصوص الحديث التي حرمت الرسم والنحت لكل ما فيه روح من الحيوان والانسان تعاملاً حرفياً بعيداً عن الاحتكام الى القصد بدلالته مع الواقع وتحولاته. فقد جاء في بعض النصوص قول النبي (ص): ((ان أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)) 4 2 . وقوله: ((اشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) 5 2 . وقوله: ((ان الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: احيوا ما خلقتم)) 6 2 . وعن ابن عباس قال: ((سمعت محمداً (ص) يقول: من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة ان ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)) 7 2 . وعن ابن عباس ايضاً ان النبي (ص) قال: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير)) 8 2 . وعن ابي زرعة قال: ((دخلت مع ابي هريرة داراً بالمدينة فرأى في اعلاها مصوراً يصور فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: قال الله عز وجل: ومن اظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة)) 9 2 . وروى الطبراني عن صفية بنت شيبة قالت: ((رأيت رسول الله (ص) بلّ ثوباً وهو في الكعبة ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها)) 0 3 .

وقد استوحى الفقهاء من هذه النصوص كون التصوير يبعث على المضاهاة او التشبه في الخلق، وهو مما لا يجوز. وكما قال الخطابي: ((انما عظمت عقوبة المصور لان الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر اليها يفتن، وبعض النفوس اليها تميل)) 1 3 . وقال ابو بكر بن العربي: ان الذي اوجب النهي عن التصوير في شرعنا - والله اعلم - ما كانت العرب عليه من عبادة الاوثان والاصنام، فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة وحمى الباب. فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي (ص): من صوّر صورة عذّبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ.. قلنا: نهى عن الصورة وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على ان نفس عملها معصية فما ظنك بعبادتها)) 2 3 .

وحقيقة ان المضاهاة وتوظيف الصور لغرض العبادة من الامور التي اكدها الواقع التاريخي، وكما دلّ عليه صاحب (أحكام القرآن) 3 3 . الامر الذي نفهم فيه مغزى التحريم الوارد بشأنها، حيث يتسق مع الواقع الخاص بالتنزيل، مادام لا يعقل ان يكون النهي عن التصوير امراً تعبدياً لا يفهم معناه 4 3 . لكن حيث ان تحول الواقع دل على ان الغرض الذي كان يوظف لأجله التصوير قد زال وانمحى في اكثر البلدان والمجتمعات، ومنها المجتمعات الاسلامية، فلم يعد يوظف بقصد المضاهاة والعبادة، بل لاغراض فنية وعلمية وتحقيقية، كتلك التي يستفاد منها في الطب والكشف الجنائي؛ لذا فان بقاء الحكم المنصوص على ما هو عليه يصبح كالسالبة بانتفاء الموضوع بحسب تعبير المناطقة. ويؤيده ما جاء من اقرار الله تعالى لما كان يعمل لنبيه سليمان (ع) من التماثيل، كما هو واضح من الاية الكريمة: {يعملون له ما يشاء من محارب وتماثيل}، وبها احتج قوم على جواز التماثيل 5 3 . بل كذلك ما ورد من استثناء لُعب البنات الذي أُجيز تبعاً لبعض الاحاديث 6 3 .

هكذا تعرفنا بدلالة النص والواقع الخاص بالتنزيل على مقصد الحكم، ومن ثم عرفنا بدلالة الواقع العام لزوم تغيير الحكم تبعاً للقصد المعلوم بالدلالة الاولى.

على ان الفقهاء المحدثين وجدوا حرجاً في التحريم المطلق للتصوير؛ لكونه لا يتفق مع قضايا المعاملات الحديثة، لذلك فرقوا بين التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي الشائع استخدامه، فحملوا احاديث التحريم على النوع الاول، واجازوا الثاني بدعوى انه ليس فيه من الانشاء والخلق الذي يبعث على المضاهاة مثلما هو الحال في الاول، بل هو عبارة عن حبس خيال للموضوع المصور، انساناً كان او حيوان. مع اننا لو اخذنا مفهوم المضاهاة بهذا الشكل الساذج لكنا نعتبر كل الرسوم الخاصة بالطبيعة هي عبارة عن مضاهاة لخلق الله، ولاعتبرنا جميع الصناعات والتكوينات المستحدثة التي يتم فيها تقليد طبائع الكائنات هي من المضاهاة. وهو امر غير معقول. كما ان بعض الفقهاء ذهب الى التفريق بين الرسم والنحت، فأجاز الاول ونهى عن الثاني بنحو من الاحتياط، مثلما هو الحال مع السيد علي السيستاني 7 3 .

لكن في قبال ما سبق نجد من المحدثين من اباح التصوير على اطلاقه كما هو الحال مع الشيخ محمد عبده 8 3 ، وهو نفس الحال الذي لجأت اليه الدولة الاسلامية المعاصرة في ايران.

4 ـ الحدود والواقع

بخصوص الحدود وما ورد فيها من كيفيات، يلاحظ أن مقاصدها الخاصة معلومة بدلالة كل من النص والواقع. فالنص من قبيل قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} البقرة/9 7 1 ، الأمرالذي يدل عليه الواقع، حيث بالقصاص تزول دوافع الثأر ومسلسل سفك الدماء. وكذا فإن بدلالة الواقع يعلم ان الغرض من الحدود هو الردع.

لكن لما كان منشأ اعتبار الحدود يتوقف على ما تحققه من أغراض تتسق مع المقاصد الكلية العامة؛ لذا فان أي تجدد للواقع يبعد الحدود عن تحقيق أغراضها الخاصة، او يجعل من هذه الاغراض تتزاحم مع المقاصد العامة؛ فكل ذلك يوجب تغييرها بما يتسق وهذه الأخيرة. حتى ان هناك من يرى جواز ترك الامام للحدود في بعض الحالات والطوارئ لأجل ما هو أهم منها 9 3 . وليس بالغريب ان تشهد السنة النبوية والخلافة الراشدة شطراً من التنويعات التجديدية لقضايا الحدود استناداً الى تغيرات الواقع والنظر الى المقاصد. فرغم محدودية الظروف وضيقها الا ان ذلك لم يمنعها من ان تكون حافلة بالكثير من التنويعات والتغييرات تبعاً للمصالح والحاجات.

فقد روي ان النبي اسقط بعض الحدود عن التائب طالما اعترف بذلك قبل القدرة عليه. ففي حادثة ان النبي (ص) قال للرجل الذي قال له: ((يا رسول الله اصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فان الله قد غفر لك حدك)) 0 4 . وفي حادثة اخرى انه اسقط الحد عن الذي اعترف بالزنى 1 4 .

وجاء في سيرة النبي (ص) انه لم يؤاخذ بعض اصحابه بالعقوبة رغم كبير فعله وشائنته. ومن ذلك انه برئ مما صنعه خالد ببني جذيمة من قتلهم وأخذ أموالهم دون ان يعاقبه، وقال: ((اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد)). وبنظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ان النبي (ص) انما لم يعاقب خالداً على فعله وذلك لحسن بلائه ونصره للاسلام 2 4 .

كما ذكر ابن القيم ان الله نصّ على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الاولى 3 4 . اذ جاء بخصوص حد المحارب قوله تعالى: {الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}، والذين ذهبوا الى اسقاط الحدود بالتوبة قبل القدرة عليهم انما حملوا هذه الآية على جميع الحدود، كحد السرقة الذي نص العديد على سقوطه بالتوبة، كما هو الحال مع عطاء وجماعة غيره، وذهب اليه بعض الشافعية وعزاه الى الشافعي قولاً 4 4 . علماً بان حد السرقة كثيراً ما كان يعطل لأسباب خاصة، كما هو الحال عند الحروب وفي عام المجاعة 5 4 . وحد الشرب عليه اختلاف بين ما كان يُعمل به في عهد النبي وابي بكر وبين ما سار عليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) باشارة من الامام علي (ع) كما يقال. كذلك ظهر هناك عدد من الاجتهادات التي حددت احكاماً تتصف بالشدة تبعاً لمراعات الظروف السائدة آنذاك، وتحقيقاً لما يراد من مصلحة عامة، رغم ان هذا كان على خلاف ما عليه السيرة النبوية. ومن ذلك ما جاء من ان الامام علي قام باحراق الزنادقة الغلاة، بينما كان الامر في عهد النبي هو قتل الكافر، لكنه وجد خطورة المسألة فشدد العقوبة لزجر الناس عن ان يفعلوا مثل ذلك 6 4 . وقد سبق للامام (ع) ايضاً ان نصح الخليفة الصديق في احراق اللوطية بدل قتلهم باعتبار ان العرب لم تكن تبالي بالقتل وهي قد ألفته بخلاف الحرق بالنار حيث لم تألفه بعد 7 4 .

على هذا لا يصح اسقاط الحدود على الواقع بعد كثرة التحولات من غير دراسة مفصلة لأوضاعه؛ خاصة تلك التي تلوح اوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية، مادام انها من احكام الوسيلة التي تتأثر بمجريات الحياة والواقع. بل حتى مع التنفيذ والتطبيق يراعى جانب الدراسة للمخلفات التي تحدث على تلك الاصعدة ومحاكمتها بالنظر الى حجم ما يمكن أن تحققه من المقاصد العامة. فمثلاً لا يتوقع أن يحقق حد السرقة المقاصد المرجوة في البلدان التي تكون اوضاعها الاقتصادية متردية بالفقر والحاجة. وبخلافها يمكن أن يحقق هذا الحد غرضه لدى البلدان المتقدمة على ذلك الصعيد، على فرض ان الاوضاع الأخرى تكون ملائمة هي الأخرى.

5 ـ الجهاد والواقع

ليس الجهاد من التعبديات التي لا تفهم اغراضه ومغازيه. فهو بدلالة كل من النص والواقع الخاص بالتنزيل يراد منه دفع الظلم والعدوان ونشر الدعوة الدينية بحرية. والفقهاء بصورة عامة يعترفون بمقاصد الجهاد، لكنهم يختلفون فيما بينهم عن مضمون هذه المقاصد، وذلك ضمن اطروحتين: الاولى ترى ان الهدف من الجهاد هو فرض الدين على الاخرين ولو بالقوة، وذلك اعتماداً على ظواهر بعض النصوص القرآنية. أما الثانية فترى الهدف منه هو رد الظلم والعدوان.

وبحسب الاطروحة الاولى قسم الفقهاء العالم الى دارين؛ دار اسلام وحرب. فهو تقسيم تقوم مبرراته طبقاً للنهج الماهوي الذي سلكه الفقهاء في فهمهم لمراد الخطاب. فهذا المنطق الثنائي لا يرى غير الحرب اصلاً في طبيعة العلاقة التي تجري بين الدولة الاسلامية وغيرها، وذلك طبقاً للشروط المعتبرة من مثل وجود القوة الكافية وعدم دفع الجزية والاخضاع لمبدأ الصغار. وتبعاً لهذا النهج، الذي سنرى كيف انه يتصادم مع مقاصد التشريع، عُدّ كل من لم يدفع الجزية من اهل الكتاب بأنه حربي وإن لم يشهر السلاح او يقوم بالعدوان. وبذا قد جرى التمييز بين الذمي والحربي انطلاقاً من دفع الجزية وعدمه. ونسب البعض هذا الرأي الى اجماع علماء مذهبه 8 4 . وعلى هذا النحو فان الاصل في التوجه الاسلامي هو الحرب لا السلم، وانه بهذا يكون دين سيف لا دين سلم. وتأكيداً لهذا النحو من العلاقة الحربية؛ ذهب جماعة من الفقهاء الى ان اقل ما يفعل من الجهاد في السنة مرة واحدة، وكما ذكروا بانه يجب ان يقوم المسلمون بقتال الكفار مرة واحدة في كل سنة على الاقل ما لم يتعذر ذلك لعذر مشروع، مثل ضعف المسلمين في عدة او عدد. بل إن دعت الحاجة الى القتال في السنة اكثر من مرة وجب ذلك، باعتباره فرض كفاية فيجب منه ما تدعو الحاجة اليه 9 4 . وادعى الشيخ الكركي من الامامية ان على ذلك الاجماع في المذهب 0 5 .

واهم ما عولت عليه هذه الاطروحة هو الاطلاقات الواردة في النصوص التي تؤكد وجوب محاربة اهل الكفر، ومن ذلك ما جاء في سورة التوبة من آيتي السيف والجزية الآمرتين بقتال المشركين والكافرين ما لم تُدفع الجزية، مع أخذ اعتبار ما عليه الدولة الاسلامية من حالة القوة والضعف عادة. وقد أيدت هذه الاطروحة ما جاء في السنة من ان النبي كان يحث المؤمنين على قتال الكافرين بعد ان يدعوهم إما الى الاسلام او دفع الجزية، وما تشير اليه رسائل النبي (ص) الى ملوك البلدان غير الاسلامية 1 5 ، وكذا كان حكم الخلفاء الراشدين. وأهم من ذلك ما قيل بشأن قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}. فلدى العديد من المفسرين ان معنى الفتنة هو الكفر والشرك 2 5 ، وقال الامام الجصاص في تفسيره لهذه الاية بانه يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع ان الفتنة هنا الشرك.. 3 5 . وأما الدين فهو الانقياد لله بالطاعة... والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له. ودين الله هو الاسلام لقوله تعالى: {ان الدين عند الله الاسلام}، واعتبر بعض الباحثين المعاصرين ان قصد الامام الجصاص من قوله ((حتى يتركوا الكفر)) هو ((كفرهم المتعلق بالتشريع واتباع القانون الباطل، لأن التحليل والتحريم وتشريع الاحكام هو من الله وحده لا يجوز لغيره، فمن نازع الله هذا الحق او ادعاه لنفسه كان ذلك منه كفر في نظر الشريعة الاسلامية)) 4 5 .

لكن جاء عن بعض الصحابة ان تفسير تلك الاية مرهون بما كان عليه واقع المسلمين اول الامر من القلة، حيث كان الرجل يُفتن في دينه ليرده الكفار الى الكفر بعد ايمانه 5 5 ، او ليقتلوه او يوثقوه، حتى كثر الاسلام ولم يعد بامكان الكفار اضطهاد المسلمين او تعذيبهم، ومن ثم زالت الفتنة، مثلما ذهب الى ذلك ابن عمر، وهو المتبادر من معنى الاية عند صاحب تفسير (المنار) 6 5 ، خصوصاً وان في ذيل الاية وما قبلها من الايات المباشرة ما يمنع القتال بمجرد الكفر او الشرك، اذ قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فان الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين} البقرة/0 9 1 ـ3 9 1 .

وعلى ما نقله ابن القيم وارتضاه عن جماعة من ((ان القتل إنما وجب في مقابلة الحِراب لا في مقابلة الكفر، لذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزَّمنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا. وهذه كانت سيرة رسول الله (ص) في أهل الارض)) 7 5 .

أما بحسب الاطروحة الثانية فيلاحظ ان الاصل في العلاقة بين الدولة الاسلامية وغيرها هو السلم، وان القتال لا يكون بسبب الكفر ذاته، وانما لدفع الظلم والعدوان. وتظل آية {لا إكراه في الدين} حاكمة على غيرها من النصوص. فهذا الرأي هو الذي نسبه ابن تيمية الى جمهور الفقهاء من امثال ابي حنيفة ومالك وابن حنبل وغيرهم 8 5 ، والذي عدّ الادلة الشرعية من الكتاب والسنة والاعتبار تدل عليه، وذلك على خلاف الرأي المعارض الذي كشف عن الاثار السيئة المترتبة عليه، وهو الرأي المنسوب الى الشافعي وغيره 9 5 .

ان آية {لا إكراه في الدين} هي من الاهمية بمكان في ما نحن بصدده من البحث في هدف الجهاد والحرب الشرعية. ذلك انها تبطل قول من يرى الاكراه في الدين وقتاله ولو كان موادعاً ومسالماً. وهي على رأي رشيد رضا قاعدة كبرى من قواعد دين الاسلام، وركن عظيم من اركان سياسته 0 6 .

وعلى ضوء هذه الاية وآيات الموادعة والسلم ذهب اغلب الباحثين والفقهاء حديثاً الى اعتبار الاصل في العلاقة مع الدول غير المسلمة هي السلم لا الحرب، محتجين بان اصل الحرب انما كان لدواعي دفاعية ووقائية لصد الشر والعدوان، وليس لغرض الاعتقاد. ومن ذلك قول عبد الله دراز: ((ومن هذه المبادئ ان الحرب الشرعية لا تقوم الا من اجل دفع العدوان ويجب ان تتوقف بمجرد انتهائه)) 1 6 . وان الشيخ ابا زهرة عدّ الحرب من اغراء الشيطان، وان من يسير فيها انما يسير في خطوات الشيطان، وذلك اعتماداً على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين} البقرة/8 0 2 2 6 . وذهب الى ذلك ايضاً كل من محمد رشيد رضا كما في تفسيره (المنار) وكتابه (الوحي المحمدي) والعقاد في كتابه (عبقرية محمد) ووهبة الزحيلي في (آثار الحرب في الفقه الاسلامي) ومحمد الغزالي في (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين). كما جاء عن صاحب تفسير (المنار) وغيره بان العلاقة بين دار الاسلام وغيرها هي في الاصل علاقة سلم، وإن ما سماه فقهاؤنا بـ (دار الحرب) انما ينقسم الى حربيين إن كان اهلها معادين مقاتلين للمسلمين، والى معاهدين إن كان بين الفريقين عهد وميثاق على السلم وحرية المعاملة في التجارة وغيرها 3 6 .

ويلاحظ ان نهج الحرب اذا ما أخذناه بحسب المسلك الماهوي من مجرد الاعتماد على النصوص وبغض النظر عما تظهره من تعارضات اطلاقية، فان الحال يفضي الى الصدام ولابد مع المقاصد، ذلك لأنه من حيث دلالة الواقع ان الحرب ليست هي دائماً الحل الناجع حتى مع توفر القوة والقدرة، فقد تتخلف من آثار الضرر والدمار ما لا يحمد عقباه. أما ما يستفاد من تعارض الاطلاقات في نصوص الخطاب - حيث بعضها يدعو الى الحرب فيما يدعو بعضها الاخر الى السلم - فمن الواضح انها محكومة بحسب ما عليه طبيعة التمايزات التي يفرزها الواقع مع اخذ اعتبار حاكمية المقاصد من العدل وعدم العدوان 4 6 .

فبحسب المقاصد انه سواء اعتبرنا الجهاد جهاداً لاجل فرض الدين كما هو الاطروحة الاولى، او انه جهاد لاجل صد الظلم والعدوان كما هو الاطروحة الثانية، وكذا إن كان جهاداً لاجل مكافحة ما يطرح من طروحات منافية لما هو ديني؛ فانه سواء لهذا او ذاك فان الجهاد ليس بالضرورة ان يتخذ سبيل الحرب، وانما لكونه من الوسائل لا الغايات فانه يقبل ان يكون بأساليب مختلفة تقدر بحسب ما عليه الاحوال والاوضاع. فبغير هذا المعنى نعود الى تلك الصيغة التعبدية التي تفرغ الجهاد من مقصده وفحواه، رغم أنها تفضي الى ازهاق الارواح، وربما يكون ذلك من غير مبرر معقول؛ وهو ما يتنافى مع مقاصد الشرع واهدافه. فالجهاد والمجاهدة كما قال الراغب في (مفردات القرآن) هما عبارة عن استفراغ الوسع في مدافعة العدو 5 6 ، سواء كان ذلك من حيث مدافعة اهواء النفس الامارة بالسوء، او مدافعة العدو الخارجي باليد واللسان والمال وما اليها، وقد قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيل الله}. وبالتالي من الخطأ تصور أن تحقيق المقاصد لا يأتي الا من خلال الجهاد الحربي بأزهاق الارواح والنفوس، وبالتالي اعتبار الحرب والتصفية الجسدية هي الحالة الثابتة للجهاد. فبدلالة الواقع ان للجهاد وسائل متعددة قد ينفع بعضها في ظرف ما، ويضر في ظرف آخر، أو لا يحقق ما يرجى من المقاصد. ذلك ان له اشكالاً مختلفة تشمل ضروب الصراع والكفاح؛ مثلما هو الحال في الحرب ومن خلال صناديق الاقتراع والكلمة والاعلام والمبادرات السياسية والاقتصادية وصيغ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وما اليها. وبدراسة الواقع مع النظر الى المقاصد قد يتبين أيها أنفع وأنسب من الآخر في الأخذ والاعتبار بحسب المقتضيات والظروف.

وبعبارة اخرى ان العمل على ضوء المقاصد ولحاظ الواقع تصبح التعيينات المطروحة بشأن الجهاد تعيينات غير ثابتة الكيفية. فالواقع ينبهنا على وجود وسائل مختلفة من التعيينات الجهادية، بعضها يمكن ان يصطدم مع ما عليه المقاصد، وبعضها الاخر يتفق معها. فقد يكون الجهاد الحربي هو مما لا يتسق مع ما عليه المقاصد، وعلى العكس قد يكون الجهاد الحركي غير المسلح يعطي من الثمار ما لا يعطيه غيره. فمن حيث الجهاد الحركي يمكن القيام بأمرين معاً: مدافعة الطرف الاخر، والعمل على محاربة المنكر. ومن ذلك المساهمة في المشاركة السياسية مع مختلف الاتجاهات العلمانية وقبول مبدأ الديمقراطية كمنهج حركي عام تتحدد فيه المنافسة بين الاتجاهات المتباينة من دون الدخول في المعترك الحربي. اي انه يشترط ان يكون هناك احترام متبادل لدى جميع الاطراف حيال اي رؤية يتم انتخابها بحسب ما ترغب اليه الاغلبية؛ ضمن قواعد دستورية محايدة يتفق عليها الجميع. فهذا الشكل من المجاهدة يفتح المجال امام الرؤية الدينية ان تؤدي دورها في العمل البناء لتحقيق المقاصد؛ سواء كانت ضمن السلطة السياسية الحاكمة ام خارجها، وذلك بأقل الخسائر الممكنة مقارنة مع ما عليه الجهاد الحربي.

هكذا نرى ان للجهاد صنوفاً متنوعة؛ لا بحسب اعتبارات الواقع الذي نتعلم منه التغايرات المقتضية لتنويع المعاملة معه؛ بل كذلك لما قد يأتي اليوم الذي يكون فيه الجهاد الحربي هو آخر ما ينبغي ان يفكر به الانسان، خوفاً مما يفضي به الأمر الى فناء البشرية بحرب مدمرة شاملة لا يُعرف لها آخرة ولا نتيجة.

6 ـ الامر بالمعروف والواقع

بخصوص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد عدد من الاحاديث ابرزها الحديث المأثور: ((من رأى منكم منكراً فليغيره، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان)). وبحسب الفهم التقليدي المتداول للفقهاء ان هناك ثلاث مراتب للنهي: بالقلب والقول والقوة، وهناك اختلاف في التسلسل الذي ينبغي اتخاذه لايفاء الغرض، اقربها الى الوجدان ذلك الذي يحملها على التدرج من الايسر فالاعسر. وما يهمنا - هنا - هو فقط ما يتعلق بمرتبة القوة في النهي عن المنكر، وذلك استناداً الى لفظة (اليد) التي لها دلالة عرفية ظاهرة على القوة.

والسؤال الذي يحق طرحه بهذا الصدد: لو مارسنا هذه القوة في الحالات التي لا يجدي فيها النهي اللساني والقلبي، فهل يا ترى اننا سنصل الى المطلوب الامثل؟

ومن حيث الواقع لا شك ان للقوة اثراً ايجابياً في كثير من الاحيان، لكن في احيان اخرى لا تقل مساحة عن الاولى ليس لها ذلك المفعول، بل قد يكون لها مردود سلبي وخيم، خاصة بالنسبة الى الشعوب التي ألفت الحرية، مع ان من المكن اتخاذ وسائل اخرى للنهي غير القوة، لا سيما حينما يحمل المنكر تيار اجتماعي عام، اذ في هذه الحالة ليس من السهل على القوة ان تفعل شيئاً، انما لا بد من دراسة نفس الواقع الاجتماعي وما يتطلبه من صور للنهي، فقد يصلح ان يكون النهي من خلال انشاء نواد اسلامية او مكتبات او دور ثقافية او اتحادات رياضية او تسديد حاجات مادية او اقامة اعلام وفنون هادفة وما الى ذلك من الصور التي تستهدف محاربة المنكر، بما في ذلك الصور الباطنية لتغيير رواسب الافكار المنحرفة في العقل الباطن، بالطريقة التي لا يتحسس بها الفرد انها عملية غسل وتهذيب باتجاه المعروف.

ويلاحظ اننا هنا بين تفسيرين للمسألة من حيث النظر الى الواقع، احدهما عبارة عن محاولة فهم النص من خلال منظار الواقع، والاخر عبارة عن ربط المقاصد بالواقع.

فمن حيث التفسير الاول نرى ان جميع الطرق التي ذكرناها كوسائل للنهي عن المنكر بما فيها عامل القوة؛ كلها تنضوي تحت عنوان عام هو (النشاط الانساني). فليس من التأويل بشيء لو فسرنا (اليد) بهذا العنوان، حيث ينسجم مع سياق الحديث مثلما ينسجم مفهوم القوة، الا ان العنوان الاول قد دلنا عليه الواقع بصورة لا تقبل الشك، فلا يدع للنزاع محل. كما ان في الحديث الانف الذكر يعتبر التدرج من النشاط الانساني الى القول فالقلب؛ انسياقاً طبيعياً لا تكلف فيه. أما لو اخذنا بالعنوان الاخر (القوة)، لكان الانسياق تكلفياً فيما لو تدرجنا من الايسر الى الاعسر.

أما من حيث التفسير الاخر فانه لو قيل ان الظهور في لفظة (اليد) واضحاً تماماً في معنى القوة، فحتى مع هذا القول فان ما يثبته الواقع الاجتماعي اضافة الى النظر الى مقاصد الشريعة يجعل من الحصر في النص جارياً على المصاديق ما كان غالباً في التأثير بالنسبة للمجتمع الاسلامي القديم، مثلما يصدق على آية {ومن رباط الخيل} حيث المقصود منها ما هو السائد في المجتمع آنذاك، بشهادة تغير الواقع الحضاري مع اخذ اعتبار مقاصد الشريعة، طالما كان الحكم مفهوماً وليس من التعبديات 6 6 .

7 ـ الزكاة والواقع

أ ـ جاء عن موارد الزكاة من المحاصيل ما رُوي عن الشعبي انه قال: كتب رسول الله (ص) الى أهل اليمن: ((إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب)). وقد اعتاد الفقهاء في فتواهم التوقف عند هذه الاصناف الاربعة من الثمار في تحديد الزكاة، واعتبروا طبقاً للنص انه لا زكاة في غيرها من الزروع والثمار. مع ان تلك الموارد المذكورة لا يعقل ان تكون تعبدية وان غيرها من المحاصيل ليس عليها زكاة. لكن بعض الفقهاء مثل أبي حنيفة رأى ((ان هذه الاصناف كانت تمثل المحصولات الرئيسية في جزيرة العرب، وأن ما عداها من ثمر لم يكن مالاً له خطر)). اي انه افاد من الواقع في فهمه للنص فاعتبر الزكاة فيما هو رائج من المحاصيل، فيما صادق على الزكاة في سائر الثمار الاخرى، بل كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر؛ استناداً الى قوله تعالى: {وهو الذي انشأ جنات معروشات وغير معروشات... كلوا من ثمره اذا اثمر وآتوا حقه يوم حصاده} الانعام/1 4 1 . الامر الذي أوجب الزكاة بكل من ((التفاح والموز وسائر الفواكه، والفول والعدس والارز وسائر الحبوب، والبرتقال واليوسفي وسائر الموالح، والبن والشاي.. الخ)) 7 6 ، وهو أمر أيده فيه ابو بكر بن العربي 8 6 . وكذا ذهب رشيد رضا حديثاً الى ان الحكمة في الحصر بتلك الزروع هي كونها القوت الغالب في ذلك الوقت 9 6 .

ونفس الحال يمكن ان ينطبق فيه الامر على ما ذُكر من زكاة بحق الانعام وغيرها من الاشياء. وقد التفت بعض المعاصرين من الامامية الى ما تتضمنه الزكاة من معنى مقصدي، كما اشار الى ذلك الامام الخميني في بعض خطاباته نافياً ان تندرج ضمن التعبديات، كذلك احتمل البعض ان ما ورد من حصر لموارد الزكاة في اصناف تسعة ليس بعنوان تشريعي عام 0 7 ، وانما بعنوان الحاكمية والولاية بحسب ما تقتضيه الظروف آنذاك من رواج لتلك الاصناف، كما وضع في الحسبان احتمال ان يكون الحصر تشريعاً، الا انه جاء مخصوصاً للظرف السائد من حيث ان تلك الاصناف كانت من أشهر البضائع وأهمها 1 7 . والحال ان هذا التصور الحديث لم ينشأ الا نتيجة تحولات الواقع، فالواقع هو الذي دلّ عليه لا النص، رغم ان البعض ونتيجة لهذه التحولات حاول ان يرد الاعتبار الى بعض النصوص ولو على نحو التقريب، مثل استشهاده بما صنعه الامام علي من جعل الزكاة على الخيل 2 7 ، وكذلك بما رواه الشيخ الطوسي في (التهذيب) عن أبي بصير انه سأل الامام الصادق فقال: هل في الأرز شيء من الزكاة؟ قال الامام: نعم. ثم قال (ع): ان المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه، ولكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه 3 7 . وهناك عدد من الروايات التي تفيد هذا المعنى 4 7 ، لكن في قبالها يوجد عدد اخر من الروايات التي تؤكد ضرورة حصر الزكاة بما نصّ عليه النبي (ص) 5 7 . وكجمع بين النصوص ذهب الحر العاملي بأن الاحاديث التي تفيد عدم الحصر تدل على الاستحباب ونفي الوجوب، وما ظاهره الوجوب في روايات الحبوب يحتمل الحمل على التقية 6 7 .

ب ـ وطبقاً للمقاصد فانه لا يمكن الوقوف عند حرفية النص - في فقه الإمامية - مما ورد بشأن الزكاة في النقدين من الذهب والفضة. فالنقد في العصر الحديث تحول الى عملات ورقية، والوقوف عند حرفية النص يمنع جريان الزكاة عليها. الامر الذي يفضي الى خلاف ما قصد اليه الشارع من وضع الزكاة على المال المتداول، حيث لا يعقل انه جعلها بخصوص الذهب والفضة بما هما كذلك، والا لكانت الزكاة لا تنحصر بالنقدين منهما، بل لشملت سائر مواردهما مما لا يعد من النقد 7 7 ، الأمر الذي يفهم منه ان الملاك في ذلك هو المالية المتداولة او النقد. فبغير هذا الاعتبار سنقع في تعبدية ليست مفهومة ولا معقولة، في حين أنها تجري في قضية يُفترض ان يكون لها معنى محصل بشهادة الواقع. على هذا فقد صح ما لجأ اليه الشيخ محمد جواد مغنية في نقده للفقهاء المعاصرين من الامامية الذين وقفوا عند حدود القالب الحرفي من النص بغير اعتبار للدلالات الاخرى التي تبديها كل من المقاصد والواقع، فذكر يقول: ((قال فقهاء هذا العصر كلهم أو جلهم: ان الأموال اذا كانت من نوع الورق، كما هي اليوم، فلا زكاة فيها وقوفاً عند حرفية النص الذي نطق بالنقدين الذهب والفضة، ونحن على خلاف معهم، ونقول بالتعميم لكل ما يصدق عليه اسم المال و(العملة)، وان النقدين في كلام أهل البيت (ع) أُخذ وسيلة لا غاية، حيث كانا العملة الوحيدة في ذلك العهد، وليس هذا من باب القياس المحرم، لأن القياس مأخوذ في مفهومه وحقيقته ان تكون العلة المستنبطة مظنونة لا معلومة، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، ونحن هنا نعلم علم اليقين ان علة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في الورق، لا مظنونة، فتكون كالعلة المنصوصة او أقوى، لا من باب القياس المظنون المجمع على تحريم العمل به)) 8 7 .

8 ـ ربا القروض والواقع

ليس هناك قيمة يقرها وجدان العقل اعظم من العدل. فالعدل هو على رأس القرارات التي يدين له العقل بالصحة والصدق. وهو على رأس الاحكام التي تبشر بها جميع الاديان السماوية، وتعترف به كل الاعراف والقوانين الوضعية. كما انه يقع في قمة هرم المقاصد التي نادت بها الشريعة الاسلامية، واعتبرته هدفاً اعلى للرسالات الالهية، كما في قوله تعالى: {ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

على انه يكفينا من كل ذلك ما تطابق عليه العقل والشرع في ضرورة مراعاته من غير تفريط. فهو الاصل في كل العقود مثلما صرح بذلك ابن القيم في احد عناوين كتابه (اعلام الموقعين) 9 7 . لكن هل التفتت الطريقة التقليدية لهذا المقصد الكلي وهي تتدارس جزئيات الاحكام؟

لعل الامر البارز في هذه الطريقة هو انها حصرت نفسها في دائرة الاهتمام في الجزئي من الاحكام فحجبها ذلك عن رؤية الكلي. لذلك نجد الحرفية طغت على نتاجها، واصبح الدوران في فلك الجزئيات يشكل الغاية من جهودها المضنية. فكانت النتيجة من اهمال النظر في الكليات أن قدّمت لنا في كثير من الاحيان نتائج عكسية في معالجتها للجزئيات، اذ جاءت مخالفة لمقاصد الشرع، بل ومصادمة للعقل وحكمه الوجداني. ذلك انه اذا كان للواقع تأثير على الاحكام، واذا كان من الطبيعي ان تتبدل هذه الاحكام تبعاً لتغير الواقع؛ فان ما يحفظ بقاء الشريعة ويصونها من التغير والانحراف انما هو المقاصد الاساسية التي تصرف عقل المسلم باتجاه الوجهة الصحيحة، مهما كانت طبيعة التغيرات التي تصادف الاحكام الجزئية، خاصة اذا ما أيد ذلك وجدان العقل وصدّقه الواقع.

ولعلنا لسنا بحاجة الى التذكير من ان الاخذ بالجزئي اذا كان على حساب الكلي يفضي ولا شك الى هدم الشريعة من جذورها. وكما يقول الشاطبي: ان المجتهد ((تكون مخالفته تارة في جزئي، وهو اخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة العامة، كانت من اصول الاعتقادات او الاعمال، فتراه آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها)) 0 8 .

هذا هو حال مسألتنا التي نريد بحثها من زاوية خاصة، والتي شهدت صداماً حاداً بين الموقف الفقهي التقليدي الذي لجأ الى الحرفية من غير نظر الى الكليات، وبين مقاصد الشرع واحكام العقل. ذلك ان المنظور الفقهي لقضية القرض بالعملات النقدية يعتمد على مبدأ الوفاء بالمثل من غير اهتمام لما يفرزه الواقع من تغايرات تؤثر على طبيعة الحكم، نظراً لتدخل المقصد الكلي المغيب عن الرؤية. فما يصح من حكم في ظرف ما قد يبطل في ظرف اخر، والعكس بالعكس. لكن الذي يكشف عن صدقه وبطلانه انما هو المقصد الشرعي ذاته، فكيف اذا ما زاد عليه حكم العقل بالوجدان؟!

من المعلوم ان القوة الشرائية للنقد في المجتمعات القديمة، ومنها مجتمع عصر الرسالة، تتصف بضآلة التغير او الثبات نسبياً قياساً مع ما هو عليه العصر الحديث، والحاضر منه على وجه الخصوص؛ الذي هو عصر التشابك والسرعة والمفاجآت. فمما ذكره المؤرخون من ان الدينار كان في العصر الاسلامي الاول يساوي عشرة دراهم، لكنه صار في النصف الثاني من العهد الاموي مساوياً لاثني عشر درهماً، ثم ازداد في العصر العباسي وصار يساوي خمسة عشر او اكثر 1 8 . وذكر المقريزي انه في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي ابي علي المنصور بن العزيز؛ قد تزايدت الدراهم وازداد سعر الدينار حتى وصل يساوي اربعة وثلاثين درهماً 2 8 .

مع هذا فان ما ذكر من تغير في العملة وقيمتها الشرائية لا يمكن مقارنته عما يجري في وقتنا الحاضر من تضخم. إذ يلاحظ ان الحركة الاقتصادية لبلدان العالم والتغيرات الضخمة التي تطرأ عليها بين فينة واخرى اصبحت ملحوظة ومؤثرة بشكل واضح سواء على مستوى الدولة او الفرد، نظراً لما تحدثه من تغير في القوة الشرائية للاوراق المالية او النقد، وذلك على نحو مضطرد في كثير من الاحيان، بحيث غالباً ما تعاني اغلب البلدان من تدهور مستمر لهذه القوة.

وما يعنينا من هذا الامر هو كيف يمكن التعامل مع القروض المالية، اذ ما يعطى من مال لاجل طويل الامد يسترد بقيمة تختلف في الغالب مع القيمة المعطاة، ونحن في مثل هذه الحالة نكون قد وقعنا بنوع من المقامرة والغرر، وغالباً ما يكون الدائن هو المصاب بالخسران. وعليه هل يصح وفاء الدين بالمثل، اي بنفس الكمية النقدية للمال ولو لم تساو شيئاً يذكر.. او انه يقدر بوزن ما يحمله من قوة شرائية عند ابتداء العقد؟

لنوجه هذا السؤال الى طريقة الاجتهاد التقليدية لنتعرف على اجابتها ومبرراتها.

ليس من شك ان هذه الطريقة تلتزم الموقف المعتاد في التعامل مع قضايا الاحكام من منطق الحرفية، ومن ذلك قضيتنا المطروحة حول القرض. فهي تعتبر التشريع الخاص به ثابتاً لا يقبل التبديل، وذلك كي لا تقع في مستنقع الربا المنهي عنه من قبل الشرع، حتى جاء عن النبي (ص) قوله: ((كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا)) 3 8 . لذا ان الدائن لا يأخذ من المدين الا بقدر ما أدانه، وينطبق ذلك في مجال العملات النقدية، رغم دوام ما تتعرض له من الخلخلة والهزات ضعفاً وقوة، ظناً من ان الزيادة الموهومة - او النفع الموهوم - في الوفاء هي ربا.

فقد قال الامام مالك كما في (المدونة): ((كل شيء اعطيته الى اجل فرد اليك مثله وزيادة فهو ربا)). وجاء في المدونة: ((قلت: ارأيت إن اتيت الى رجل فقلت له سلفني درهم فلوس ففعل، وفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال - اي الامام -: انما يرد مثل ما اخذ السعر فأشبه الحنطة ان رخصت او غلت.

وقال الدردير في الشرح الصغير لـ (بلغة السالك): ((وان بطلت معاملة من دنانير او دراهم او فلوس ترتبت لشخص على غيره من فرض او بيع، وتغير التعامل بها بزيادة او نقص، فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته ان كانت موجودة في بلد المعاملة)). وقال ايضاً: ((ورد المقترض مثله قدراً وصفة او رد عينه اذا لم يتغير في ذاته عنده)). وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير الاخير: ((فالواجب قضاء المثل، اي لو كان مائة بدرهم ثم صارت الفاً بدرهم او بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صارت بمائة وسبعين وبالعكس، وكذا اذا كان المحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين او بالعكس وهكذا)).

وقال الامام الشافعي في كتاب (الام): ((ومن سلف فلوساً او دراهم او باع بها ثم ابطلها السلطان فليس له الا مثل فلوسه او دراهمه التي اسلف او باع بها)).

وقال الشيرازي في (المهذب): ((ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل، لأن مقتضى القرض رد المثل)).

وقال النووي في (روضة الطالبين): ((ولو اقرضه نقداً فابطل السلطان المعاملة به فليس له الا النقد الذي اقرضه)).

وقال ابن قدامة في (المغني): ((المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره او غلا او كان بحاله)).

وقال ابن قدامة ايضاً: ((وان كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً رد عدداً، وان استقرض وزناً رد وزناً)). وقال ايضاً: ((المستقرض يرد المثل من المثليات سواء رخص سعره او غلا او كان بحاله.. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا؛ً مثل ان كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، او قليلاً لانه لم يحدث فيها شيء انما تغير السعر فاشبه الحنطة ان رخصت او غلت)).

وفي مجلة الاحكام الشرعية في الفقه الحنبلي جاء في المادة (0 5 7 ): ((اذا كان القرض فلوساً او دراهم مكسرة او اوراقاً نقدية فغلت او رخصت او كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها)).

وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): ((لا يجب في القرض الا رد المثل بلا زيادة)). وقال: ((وليس له ان يشترط الزيادة عليه في جميع الاموال باتفاق العلماء، والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته)).

وقال ابن حزم في (المحلى): ((ولا يجوز في القرض الا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه اصلاً)). وهو قد اعتبر ذلك من الاجماع المقطوع به 4 8 .

كما ذكر صاحب (الجواهر) من الامامية انه لو اقترض شخص دراهم ثم اسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها، فإن ما يلزم به المقترض انما هو الدراهم الاولى الساقطة وليس الثانية، وهو في رأيه هذا يخالف ما ذكره الصدوق من ان الواجب على المقترض هو ما جاز التعامل به عند الناس 5 8 .

هذه جملة من نصوص الطريقة التقليدية نقلناها وهي تؤكد مبدأ المماثلة، وكان الاولى ان تدعو الى اتخاذ مبدأ التساوي في القيمة لا المماثلة، وفرق بين الامرين كبير.

ومن حيث الدقة ان المواد التي هي موضع القرض تارة تكون استعمالية، واخرى تبادلية سوقية. فاذا كان الغالب في المواد هو الاستعمال لا التبادل، او ان المقرض اقرض مادة كان يتعامل معها معاملة استعمالية؛ فان وفاء حق الدين يصح بارجاع المثل، سواء رخصت هذه المادة أم غلت، وذلك اعتماداً على مقدار القيمة التي تحققها المادة بالنسبة الى مالكها، وهي قيمة تجد قدرها بما كانت عليه من وضع استعمالي وليس تبادلي.اذ الشيء المستعمل لا ينقص من قدره شيء اذا ما رُد مثيله، سواء رخص في السوق أم غلى. لكن لو كانت المادة المقترضة تبادلية كما هو حال العملات، خصوصاً الورقية منها، فان قيمتها تتحدد بما يكشف عليه السوق باعتبارها تبادلية تحمل في طيها القدرة الشرائية المفترضة، وهنا لا يصح الوفاء بالمثل، اذ لو غلت المادة وأُريد ارجاعها بمثلها فان ذلك سيشكل ضرراً على المقترض، أما لو رخصت فان الضرر سيلحق بالمقرض. في حين انه اذا اردنا ان يكون لكل من الطرفين رأس ماله من غير نقيصة ولا ضرر فلا بد من تعيين القيمة التي عليها المادة وقت الاقتراض. فهذا هو العدل الذي تشهد له العقول والفطرة الانسانية.

وكان يمكن ان نعذر الطريقة التقليدية في دفاعها عن مبدأ الرد بالمثل لو انها اكتفت بالصيغ العامة دون اشارة ما الى الغلاء والرخص واسقاط العملة. لكن حيث انها كانت صريحة وواعية لامر ما يفرضه الزمان على تغير القوة الشرائية للنقد، فهي لهذا غير معذورة في تجاهلها للمقصد الشرعي من المعاملة القرضية. كل ذلك بسبب ما ألفته من الممارسة الحرفية في التفكير.

لا شك ان المعاملة بالمثل مبررة تماماً في مجتمع لم يشهد تحولات بارزة في القوة الشرائية للنقد 6 8 ، وكذا القيمة التبادلية للمال، كما هو حال عصر النص. فهي بهذا تمثل عين العدل الذي هو الاصل في جميع العقود. لذلك نرى الشرع ينهى عن الربا لما فيه من الظلم، والله تعالى يقول: {وإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون} البقرة/9 7 2 ، وهو امر لم يغفل فقهاء الاسلام عن التصريح به، من امثال ابن تيمية وغيره 8 8 ، او بحسب ما ورد عن الامامين الصادقين (الباقر والصادق ع) هو لئلا يذهب المعروف ويتمانع الناس 9 8 ، حيث يزول التعاون وتنعدم روح الاخوة.

لكن هل ينطبق هذا الامر على ما يجري من تحولات في قيمة المال المتعامل به في القرض كما عليه الوضع في ايامنا هذه؟ فهل هناك نفع وزيادة او ربا يتحقق فيه الظلم وينطبق عليه امثال الحديث النبوي: ((كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا))؟ هذا اذا ما غضضنا الطرف عن ان مفاد هذا الحديث يتسق حتى بحرفيته مع عدم المثلية لكونه يشترط في الربا وجود المنفعة الزائدة، والحال ان عدم التمسك بالمثلية لا يفضي بالضرورة الى هذه المنفعة، بل يصح ان يقال ان العكس حاصل اليوم في تطبيق مبدأ المثلية، وغالباً ما يكون النفع الزائد من نصيب المقترض على حساب المقرض.

لعل الملاحظ ان الامور قد انقلبت رأساً على عقب. فاذا كان النفع او الربا يتحقق غالباً في المجتمعات القديمة وعلى رأسها مجتمع عصر النص لمجرد الاشراط بالزيادة عند استرداد القرض؛ فان اليوم غير ذلك تماماً. ذلك ان تطبيق مبدأ الرد بالمثل ينشأ منه في كثير من الاحيان نوع من الغرر والمقامرة، يفضي الى شكل من النفع (الربا) العائد الى احد الطرفين المتعاقدين، المقرض او المقترض. فشتان بين اليوم والبارحة!

فالخلخلة والتغير الذي يطرأ على العملة النقدية، ومنه الهزات الفجائية العنيفة التي تفضي بها الى الانهيار او القفز غير المرتقب، يحوّل الموضوع الذي يستند اليه الحكم فيجعل العلاقة القائمة بين الدائن والمدين مما هي علاقة يفترض انها تقوم على العدل والانصاف الى علاقة قائمة على الظلم والاجحاف، لما فيها من غرر ومقامرة، او هو إن صح التعبير عبارة عن نوع من الربا، سواء لصالح الدائن او المدين. فليس كما يقال ان الربا حاصل في العدول عن تلك الصيغة باعتبار الزيادة المعطاة عند الوفاء وربما النقصان بحسب ما يقدّر من القيمة الشرائية، اذ الامر واضح من ان الزيادة والنقيصة المقدرتين لم تؤثرا على حقيقة التعادل والتساوي فيما تحمله من القيمة النفعية التي تشكل ملاك النقد والغرض من المعاملة الاقتصادية، ومنها المعاملة القرضية. فلولا الاستنفاع ما كان للنقد قيمة، ولكان حاله حال العملات الساقطة التي لا ينتفع بها.

على هذا نعجب من الرأي الذي يذهب الى وجوب استرداد النقد الساقط بحسب منطق المثل اذا ما كان بسقوطه تذهب المنفعة عن الدائن بعد ان استوفى غرضها المدين. وهو امر يفضي الى أشد حالات الاجحاف بحق الدائن، حيث ان استلامه للنقود الساقطة تعني استلام ما قيمته مهدورة ومنفعته زائلة، اي انه لم يستلم في حقيقة الامر شيئاً، وهو بخلاف ما قدمه للمقترض من قيمة نفعية، لهذا كان الاجحاف بليغاً. ولا يستبعد ما قد يستصحب هذا الرأي علماء في عصرنا الحاضر، وذلك بتقليد ما عليه الفقهاء القدماء، فيكون الامر اعجب مما سبق، اذ قد يعذر القدماء كون اسقاط العملة في الماضي لا يؤدي - عادة - الى اهدار قيمتها كلياً طالما ان العملة الرئيسية كانت من الذهب والفضة، وهما معدنان لا يفقدان كامل قيمتهما، حيث ان لهما موارد الاستعمال مثلما انهما يشكلان مادة للتبادل السوقي، لكن لا يشك بأن اسقاطهما لا بد وأن يؤثر على قيمتهما بالانتقاص، وبالتالي فانه يعود الضرر فيه على المقرض اذا ما تم ارجاعهما اليه. أما الحال في الحاضر فانه يختلف من حيث ان اسقاط العملة يفضي الى اهدار قيمتها كلياً.

على ان ما يهمنا في الوقت ذاته ان العبرة من التركيز على العملة الساقطة هو للكشف عن ان اصل القرض وحقيقته لا يمت الى ذات العملة وما عسى ان تكون عليه، وانما يتعلق بمردودها النفعي المتعارف عليه. فالقرض ليس قرضاً للنقد ذاته وانما لمقدار المنفعة التي يستنفع بها تبعاً للعرف او المرتكز العقلائي. وبذلك تكون المنفعة هي اصل العلاقة القرضية وإن لم يشترط بها في العقد، لكونها عرفية عقلائية لا تحتاج الى مشارطة. الامر الذي يعني ان العملة ليست في حد ذاتها ميزاناً مطلقاً لتقدير القيمة النفعية مادامت غير ثابتة ومستقرة، بل الميزان في ذلك هو تقدير تلك القيمة وقت زمن الاقتراض ومحل تعامل المقرض وتحويلها الى ما يعادلها من نقد.

وأرى من التناقض السافر على اولئك الذين ميزوا في الموقف بين الظرف الذي تتغير فيه القوة الشرائية للنقد او المال، وبين الظرف الذي فيه تسقط العملة من قبل السلطان، حيث رضوا بمبدأ المثل في الظرف الاول، بينما خرقوا ذلك بحسب الظرف الاخر لاعتبار سقوط القيمة من النقد كلياً، فاوجبوا رد ما يعادل القيمة المستحقة. فالعجب من بعض المعاصرين ممن ذهبوا الى مثل هذا الرأي رغم انهم شهدوا الحالات التي تهبط فيها العملة الى ما يقارب الصفر، فأي فرق في هذه الحالة بين العملة الساقطة وبين الظرف الذي تصل فيه الى حد كأنها ساقطة نظراً لانهيار قيمتها؟!

افترض انك قبل التسعينات من القرن المنصرم اقترضت مبلغاً من احد الناس بقدر مائة دينار عراقي، على ان تردّه اليه في اواخر التسعينات، ثم حلّ اليوم الذي تفي فيه التزامك هذا، وهو ان تعطيه المائة، لكن حيث ان العملة العراقية قُدّر لها السقوط والانهيار، ففي هذه الحالة تصبح كأنك اقترضت ما يمكن ان تنتفع به لشراء جهاز تلفاز او معيشة اكثر من شهر او استئجار شقة لشهرين، الا انك رددت الى صاحب المال ما يمكن ان ينتفع به في ذلك الوقت لشراء قرصة خبز او بيضتين فقط 0 9 . فاي فرق يظل بين هذه القيمة الاستردادية القريبة عن اللاشيء، وبين ما لو اسقط السلطان هذه العملة فترد اليه ذات العملة الساقطة والتي لا تختلف كثيراً عن هبوطها المشار اليه، فاي فرق جوهري كي يعتبر بعض فقهاء عصرنا وجوب الرد بالمثل في الحالة الاولى الهابطة دون الثانية الساقطة بفعل السلطان؟!

لا شك ان العامل المشترك الذي يجمع ما بين العملة الساقطة والهابطة هو ان قيمتها الاصلية قد تغيرت، وهو ذات المشترك الذي ينطبق على تغير القيمة؛ كثيراً او قليلاً، فجأة او تدريجاً، زيادة او نقيصة، فكلها تخضع الى عامل مشترك لا يقبل التفكيك، وهو التغير في القيمة الشرائية او النفعية.

وقد اخطأ الفقيه كاظم الحائري الذي اعتمد على حرفية الاية {وإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون} ليستنتج منها شرط توفر الاوصاف الذاتية في العملة والمثلية عند الوفاء. فهو بهذه الحرفية كأنه يضع للعملة قيمة ذاتية يدور عليها التعامل والتعاقد مثلما هو الحال في سائر المواد المنتفع فيها، بعيداً عن المقاصد وعدم الالتفات الى مضمون قوله تعالى في ذات الاية {لا تظلمون ولا تُظلمون}. اذ لا يشك ان الظلم والضرر متحقق اليوم لا محالة لدى تطبيق مبدأ المثلية. والغريب ان فقيهنا المعاصر حينما تعرض الى موضوع الغصب فانه يستنتج منه ما هو خلاف استنتاجه في حالة القرض، مع ان المبررات التي وضعها كأدلة في موضوع الغصب هي ذاتها تنطبق على موضوع القرض بلا فرق. فهو يقول: ((إن من غصب ألف دينار وبعد خمسين سنة تاب الى الله وأراد ارجاع المبلغ بعد أن سقط الدينار سقوطاً فظيعاً خلال خمسين سنة نتيجة للتضخم المتزايد في البلاد، وجب عليه ارجاع ما يناسب هذا التضخم، ولا يكفيه ارجاع نفس المبلغ القديم، وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر)) 1 9 .

مع ان نفس هذا المقال يصدق على موضوع القرض، حيث يصح ان يقال ان وفاء القرض ينبغي ان يحسب طبقاً لتساوي القيمة النفعية او الشرائية ((وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر)). وكذلك كي لا يكون عنواناً للغرر كما بينّا.

كما يمكن القول انه حتى لو سلمنا جدلاً بأن الاية السالفة الذكر لا تتحدث طبق ظروف العصر الذي لم يشهد تحولات في تغير القيم النفعية للاموال مثلما عليه الحال في الوقت الحاضر، اذ لا ريب ان المخاطب الاصلي والمباشر هو ذلك المجتمع بمختلف ملابساته كما بينا ذلك في (جدلية الخطاب والواقع)، وحتى لو ابتعدنا عن حكم العقل الخاص بان الوفاء بالمثل قد فقد موضوعه اليوم لكثير من الحالات تبعاً لما يجر اليه من الظلم والاجحاف بحق احد الطرفين، وكذا لو لم نستند الى كون تطبيق المثلية يفضي اليوم الى نوع من المقامرة والغرر المنهي عنهما في الشريعة، فحتى لو انا بعدنا عن كل ذلك واتجهنا الى ذات الاية الكريمة موضع البحث وقريب عن الادوات الحرفية التي تمارس في حقها؛ نرى ان الاية تشير في ذيلها {لا تظلمون ولا تظلمون}. ففي هذه الحالة إما ان نعتبر التطبيق الحرفي للاية في رد المثلية لا يتحقق فيه اي نوع من الظلم، وبذلك نكون قد عولنا على امر يشهد الوجدان على بطلانه احياناً، او ان الغرض من الاية هو تحقيق نفي الظلم برد رؤوس الاموال بالطريقة التي لا يكون فيها ظلم دون ان تحدد ما هي هذه الطريقة وما هو المقصود من رؤوس الاموال، هل هو النقد المتعارف عليه، او قيمة هذا النقد؟ فاذا كنا في تردد من ذلك تبعاً لذيل الاية، فان من الواضح ان نجري المعاملة طبقاً للقصد المذكور في الاية باعتباره الموجه لفهمها.

بل يشتد التناقض عندما لا يعول فقيهنا السابق على مبدأ استرداد ما يماثل العملة في حالة اسقاط السلطان لها، بدعوى ان رواج العملة هو ايضاً داخل ضمن الاوصاف الذاتية لها لا النسبية، حاله حال اللون والشكل وما الى ذلك 2 9 ، مع انه قد يقال انه حتى على فرض اعتبار الرواج من الصفات الذاتية بالمعنى الذي قصد اليه، فلا يعني ذلك كل ما دخل هذه الصفات يصح اعتباره. فلو ان من صفات العملة المتداولة اللون الابيض، فلا يصح استنتاج انه اذا تغير هذا اللون الى لون اخر فانه يفقد طبيعته التداولية وبالتالي يفقد الطبيعة الاستردادية بالمثل كما في القرض. ذلك ان هذا الامر يتوقف على ما يعتبره العرف او اصحاب القرار بغض النظر عن طبيعة ما تحمله العملة من صفات. بل كيف يقال هذا ونحن نعلم ان من الممكن ان تحمل العملة الساقطة صفات ذاتية تحقق مبدأ المثلية اكثر من الجديدة، وبالتالي كيف يصح العمل بالجديدة وهي تفتقد للكثير من الصفات التي تحوزها العملة الساقطة، ذلك ان من الممكن ان تتصف العملة الجديدة بصفات جد مغايرة لما كانت عليه العملة الساقطة، فما هو مبرر التعويل اذاً على العملة الجديدة في الاسترداد طبقاً لمبدأ المثلية؟! والاهم من كل ذلك ان قبول التعويض بالعملة الجديدة عوض الساقطة هو ضرب لمبدأ المثلية كلية، رغم انه موضع النزاع. لهذا لا مبرر للتفكيك بين حالتي تدهور العملة واسقاطها؟ فان قيل ان بالاسقاط يتحقق الضرر، وهو مبرر التعويض، قلنا كذلك الامر في حالة تغير القيمة الشرائية لها عند الارتفاع والهبوط.

وعلى العموم يلاحظ اننا بين امرين إما ان نحافظ على حرفية الحكم المنصوص في ايفاء الدين، وبه نصطدم مع العدل الذي هو الاصل في العقود والغاية من المعاملات، بل ونعمل على سد باب الخير والمعروف، اذ انه امر يبرر للناس ان لا يقرضوا غيرهم خشية من الوقوع في الضرر من النقيصة المستردة، او نعمل على تغيير الحكم استناداً الى تغير موضوعه بما يتفق مع ذلك الاصل الذي به قامت السماوات والارض، وانه من اعظم المقاصد التي تتوخاها الشريعة، وان الخدش به يعني خدشاً بالعقل والشريعة على السواء.

ولقد صدق ابن القيم الذي حكّم وجدانه في نظرته الى العدل وطرقه التي لا تتقيد بقيود ولا تتنافى مع شرع، فحيثما تحقق وبأي طريق كان فان ذلك لا يخرجه عن الدين ومقاصده. وعلى ما ذكره بان الله اعدل من ((ان يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها واقوى دلالة، وابين امارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيّن سبحانه بما شرعه من الطرق: ان مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط. فاي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له)) 3 9 . وكذا قوله: ((إن الله ارسل رسوله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والارض، فاذا ظهرت امارات الحق، وقامت ادلة العقل، واسفر صبحه باي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه ورضاه وامره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وادلته واماراته في نوع واحد وابطل غيره من الطرق التي هي اقوى منه وادل واظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق ان مقصوده اقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فاي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق اسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على اسبابها وامثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق الا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟)) 4 9 . وعلى شاكلته صرح الاستاذ المرحوم مرتضى المطهري قائلاً: ((اصل العدالة انها من معايير الاسلام، بحيث يجب ان يلحظ ما يتطابق معها وما لا يتطابق. تقع العدالة في سياق سلسلة علل الاحكام، لا في سلسلة المعلولات، فليس ما يقوله الدين هو العدل، بل حيثما يكون العدل ينطق به الدين. وهذا هو معنى كون العدالة معياراً للدين)) 5 9 .

هكذا يتضح انه ليس من العقل او الشرع التضحية بمقصد ثابت هو من اعظم المقاصد واشملها قبال حكم جزئي اقل ما يقال فيه انه من احكام الوسيلة التي تتغير بحسب الوقائع والظروف. لذلك كان من واجب القوانين المدنية للدولة الاسلامية - وكذا الفقهاء - ان تراعي وضع التقديرات النسبوية للقروض وفق معدلات التغير في القوة الشرائية للنقد ضمن مدد مقدرة قابلة للتجديد بين زمن واخر، كذلك وضع صيغ للحالات الاستثنائية الطارئة التي يصاب بها النقد بالهزات الفجائية قفزاً وانهياراً، دفعاً للظلم والاجحاف.

9 ـ المقدرات المالية والواقع

وينطبق ما سبق عرضه في الفقرة السابقة على جميع المقدرات المالية كالدية ونصاب الزكاة والكفارات وما الى ذلك من المقدرات التي قدرها الشرع، طالما انها تتعرض الى التغيير في قوتها الشرائية بفعل تغيرات الظروف والواقع. بينما كان نهج الطريقة التقليدية ينبني على الحرفية، اذ حددت تلك المقادير بشكل حدي طبقاً لما جاء في كلمات الشرع من النصوص، سواء بالبعران او البقرات او الشياه او الحلل - الثياب - او الدنانير الذهبية او الدراهم الفضية او غيرها. فمثلاً قُدّرت دية القتل بحسب ما جاء عن النبي (ص) بانها مائة من الابل او الف دينار من الذهب او عشرة الاف درهم من الفضة، او الف شاة او مئتا بقرة او مئتا حلة كل حلة ثوبان. وصرح صاحب (الجواهر) بانه لم يجد على هذه المقادير اي خلاف بين العلماء، بل عن كتاب (الغنية) ان الاجماع حاصل فيها 6 9 . كما قُدّر نصاب الزكاة عشرين دينار من الذهب او مائتي درهم من الفضة او خمس من الابل او اربعين من الغنم او خمسة اوسق من الزبيب او التمر. وقد اعتبر الاستاذ عبد الوهاب خلاف ان التخيير الوارد في قيم الدية مبني على التقارب في قيمها، ثم قال: ((ولا شك ان تساوي هذه المقادير او تقاربها امر زمني مراعى فيه حال البيئة وقت التشريع خاضع لنظرية العرض والطلب)). وكذا الامر مع قيم نصاب الزكاة 7 9 .

والملاحظ ان كل هذه المقادير اصبحت عرضة للتغير والتحول في قيمها الشرائية عما كانت عليه في عصر النص. لذلك هل يعقل ان توفى مقاديرها في ايامنا هذه بنفس ما هو مقدر حرفياً بالنص، رغم وجود فارق القيمة النفعية لتلك المقادير بين عصرنا الحاضر وعصر الرسالة؟!

لا شك لو أننا اتبعنا الطريقة الحرفية لوقعنا بمشكل المعارضة مع العدل والانصاف مثل ما لحظناه في قضية القروض. فمثلاً قدّرت اللجنة المنتخبة من علماء المذاهب الاربعة، كما في كتاب (الفقه على المذاهب الاربعة) الذي اعتمدته وزارة الاوقاف المصرية، ان تضع للزكاة نصابين احدهما مقدر بالذهب والاخر بالفضة، لكنها افضت الى جعل احدهما يفوق الاخر باكثر من ثلاث عشرة مرة حسب العملة المصرية، حيث يقدر الاول بـ (7 8 1 1 ونصف القرش) والاخر بـ (9 2 5 وثلثي القرش) 8 9 ، فهل يعقل ان يكون هناك نصابان متفاوتان الى هذا الحد، واي منهما يقع تحت دائرة التكليف لدى المكلف؟! ناهيك عن ان هذا التقدير لم يضع لتغيرات القوة الشرائية بين الماضي والحاضر حساباً، ولم يراع حالة التقارب في الانصبة التي جعلها الشرع لغرض العدل والتيسير في مجتمع لم يشهد الكثير من التحولات والتغيرات في القيم الشرائية للاشياء، الامر الذي يفسر ما اعتمده الشرع من التخيير بينها على المكلف.

والواقع ان هذه المشكلة مازالت قائمة لدى الفقهاء المعاصرين، اذ كيف يمكن تحديد معيار متسق تقاس على ضوئه الانصبة والمقادير الشرعية؟

لا شك ان الكثير من العلماء المعاصرين يميلون في مجال انصبة الزكاة التعويل على نصاب الفضة، خصوصاً وهو انفع للفقراء مقارنة مع الذهب، لكن في المقابل ذهب اخرون من امثال ابي زهرة وعبد الوهاب خلاف الى ان النصاب يجب ان يسوى بالذهب، باعتبار ما جرى على الفضة من التغيرات الكثيرة في قيمتها الشرائية عبر العصور، بخلاف الحال مع الذهب الذي ظلت قيمته النقدية ثابتة الى حد بعيد. وهو ما استحسنه القرضاوي شرط ثبات قيمة الذهب دون تغيرها 9 9 .

وقد يميل البعض الى الابتعاد عن التقدير بالنقود باعتبارها معرضة للتغير سواء كانت فضة ام ذهباً، وذلك بالتعويل على قيمة ذاتية ثابتة قد نص عليها الشرع، رغم اختلاف قيمها النقدية من بلد لاخر، وكذا من عصر لاخر. وعليه يمكن التعويل على ما ذكر من نصاب مقدر على الابل او الغنم، حيث ورد في النص ان النصاب يتحقق في خمس من الابل او اربعين من الغنم او خمسة اوسق من القمح، رغم ان النصاب الاخير يقل عن نصاب الانعام ربما لبعض المقاصد الشرعية كما اشار الى ذلك القرضاوي 0 0 1 . وذهب هذا الاخير الى ان من الممكن وضع معيار ثابت ((للنصاب النقدي، يلجأ اليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً، يجحف بأرباب المال او بالفقراء. وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الابل، او اربعين من الغنم، في اوسط البلاد واعدلها. وانما قلنا: اوسط البلاد واعدلها: لان بعض البلاد تندر فيها الثروة الحيوانية وتصبح اثمانها غالية جداً، وبعضها تكثر فيه وتصبح رخيصة جداً، فالوسط هو العدل، ولابد ان يوكل هذا التقدير الى اهل الرأي والخبرة)) 1 0 1 .

ويلاحظ انه حتى لو سلمنا ان قيمة الذهب لم يطرأ عليها تغيير في القوة الشرائية، رغم انه غير صحيح كما هو ملاحظ في عصرنا الحاضر، لكن مع هذا ان الاستناد الى معيار الذهب وغيره من النقود المقدرة لا يمكن ان يكون حلاً عادلاً وصحيحاً، وذلك اذا ما اخذنا باعتبار ان جعل الانصبة بحسب تلك المقادير انما كان يناسب ما عليه الحالة المعيشية في زمن عصر النص، وهو امر يختلف الحال فيه مع عصرنا الحاضر. بل يزداد الاختلاف سعة حينما ندرك ما يظهر من تفاوت كبير في قيم الاشياء لدى بلدان الحاضر واقطاره مما لم يشهده ذلك العصر الذهبي في الغالب. وعليه لم يبقَ الا ان نعتبر الامر رهين ما يُقدّر من قيمة شرائية للانصبة وقت صدور التشريع، اي ما يُقدّر من قيمة منفعية او معيشية لها انذاك، ثم يقدر الامر بما يقابله من هذه القيمة النفعية باعتبارها تمثل القيمة الحقيقية للاشياء المتعامل بها والمتعاقد عليها. فمن هذا المنطق لا تصح حالات الحل القائمة استناداً الى معيار النقد سواء كان بالذهب او الفضة، وكذا لا يصح الحل القائم على اعتبار قيم الاشياء التي نص عليها الشرع، وذلك باعتبارها هي الاخرى تتغير قيمها الشرائية او المنفعية، والمطلوب هو تحقيق ذات القدر من القيمة الحقيقية للمنفعة لدى من طُبق عليهم نص الخطاب، وهو مجتمع عصر الرسالة، حيث ان الانصبة لم تفرض عليهم فرضاً معزولاً عن واقعهم، مما يعني انه لابد من اخذ اعتبار هذا الواقع، وذلك بتقدير الانصبة قياساً مع قدرتها الشرائية او المعيشية انذاك، وتقدير هذا الامر على واقع الناس كل بحسب بلده والعصر الذي فيه.

وذات الامر ينطبق على تقدير الديات، حيث يلاحظ انه مقدر بحسب احوال المعيشة انذاك، فلا يصح المثول الى منطق الحرفية، بل العدل ان تراعى قيمة ما تعادله الدية من قوة معيشية انذاك كي تقدر على الوضع الحالي. وكذا يقال ذات الشيء في جميع ما ذكره الشرع من تقديرات.

ولعل ما يقرب الى هذا المعنى هو ما سلكه الصحابة من طريق قائم على النظر الى المقاصد عند الطوارئ الخاصة بتغير القوة الشرائية لبعض الاموال، كما هو الحال في عهد عمر بن الخطاب الذي تعامل مع مثل هذه الظروف بمنطق تحقيق المقصد الشرعي في تقييم المال بقيمته الاصلية او ما يقرب منها قدر الامكان. فمن ذلك ما رواه ابو داود من انه كانت قيمة الدية في عهد رسول الله 0 0 8 دينار او 0 0 0 8 درهم، حتى استخلف عمر حيث خطب فقال: إن الابل قد غلت، ففرضها على اهل الذهب، وهم اهل الشام، 0 0 0 1 دينار، وعلى اهل الوَرِق، وهم اهل العراق، 0 0 0 2 1 درهم 2 0 1 . كذلك انه رفع دية الفضة في زمانه لما رخصت، ولم ينكر عليه احد من الصحابة 3 0 1 . ومثل ذلك ما أشار اليه الامام علي في خلافته من تغيير ما فرض من زكاة الفطر عندما رخص السعر، فقد كان الصحابة قبله يرون الزكاة في البر او القمح نصف صاع، أما سائر مواد الزكاة فعليها صاع. لكن لما رخص السعر في خلافته فانه جعل الزكاة صاعاً على جميع المواد، لذلك قال: ((قد اوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء)). وفي حديث آخر قال علي: ((أما اذا اوسع الله عليكم فاوسعوا، اجعلوه صاعاً من بُرّ وغيره)) 4 0 1 ، مما يدل على ان الصحابة كانوا يدركون ان العبرة ليست بالحرفية والالفاظ، بل بروح التشريع ومقاصده.

0 1 ـ قضايا اخرى والواقع

هناك عدد كبير من النصوص في قضايا المعاملات الحضارية لا يفهم لها مغزى او معنى مفيد بغير النظر الى الواقع الخاص بالتنزيل. وهي على هذا الضوء تكون احكامها قابلة للتجديد والتغيير بعد كشف الواقع عن مقاصدها، كما يتضح مما يأتي:

أـ فمثلاً فيما يتعلق بنص الحديث القائل: ((لا سبق الا في نصل او خف او حافر))، نلاحظ انه لولا دلالة الواقع الخاص بالتنزيل ما امكن ان يعرف القصد من ذلك، وهو التشجيع على التمرن للاستعداد الحربي، اذ يستبعد تماماً ان يكون الحكم تعبدياً، وبالتالي فان تحول الواقع لا بد ان يغير من الحكم بما يناسب المقصد المذكور. وقد التفت الى هذا الامر عدد من الفقهاء المعاصرين. لكن من الخطأ ارجاع هذه المسألة الى القياس مثلما هو اعتقاد السيد رشيد رضا الذي رأى انه يقاس على رمي السهام بالرمي ببنادق الرصاص وقذائف المدافع 5 0 1 . فهذا الرأي غير صحيح باعتبار ان القياس لا يلغي الاصل وهو السبق في الموارد الثلاثة المنصوصة التي لم يعد لها فائدة تذكر في الحروب والممارسات القتالية. بل من غير الصحيح ما ذهب اليه هذا المصلح من قبول مبدأ القياس فيما يتعلق باحكام المعاملات القضائية والسياسية والادارية التي تختلف باختلاف الاحوال والازمنة مادامت النصوص فيها لا تفي جميع المتغيرات والاحوال 6 0 1 ، اذ لا يصلح لمثل هذه الامور القياس اذا ما استثنينا ذلك الذي له علاقة بمقاصد التشريع، وبالتالي فملاك القضية عائد الى المقاصد لا القياس.

ب ـ بخصوص آية النبأ في قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} الحجرات/6 ، نلاحظ ان منطوق الاية جاء متسقاً مع دلالة الواقع، فهو يمضي ما يكون عليه هذا الواقع عادة. أما المفهوم فهو امر اخر، حيث ان الواقع لا يدل عليه مثلما يدل على المنطوق، لذا لما كان القصد من الاية هو التثبت والتحقق، فان دلالتها بمفهومها لا يمكن ان يفضي الى علم ما من غير معرفة الواقع ذاته، مثلما ان بيان المنطوق للاية جاء ممضياً لما عليه الواقع. فسكوت الاية عن المفهوم هو اعطاء الصلاحية للأمارات الاخرى التي يكشف عنها الواقع للدلالة على الحكم سلباً وايجاباً .

ج ـ ومن ذلك ما جاء في آية الاستئذان من سورة النور، حيث يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ، طوّافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} النور/8 5 . وهي تعني جواز طواف ملك اليمين والصغار غير البالغين في غرف اصحابها الا في ثلاثة اوقات لا بد من الاستئذان فيها، باعتبارها فترات تتكشف فيها العورة عادة، حيث يضع الناس ثيابهم او يكونون بثياب النوم الخفيفة طلباً للراحة او النوم. وهي قبل صلاة الفجر وعند الظهر وبعد صلاة العشاء. وواضح ان جدوى الحكم وغرضه انما يعالج وضعاً عالقاً بالواقع الخاص بالتنزيل، حيث كانت الاوقات الثلاثة الآنفة الذكر هي فترات الاسترخاء التي تتكشف فيها العورة، لكنها لم تكن حالة مطلقة شاملة لمختلف الظروف، ومنها واقعنا الحالي.

هكذا فكما ان بدلالة الواقع علمنا القصد من الحكم؛ فان بدلالته ايضاً ينكشف ان الاوقات المذكورة ليست موضع ثبات لأن تقع موقع المظنة من انكشاف العورة كما كانت في عصر التنزيل، وإن كان القصد في الحكم يظل ثابتاً وبه يحدد ما يناسبه من حكم، سواء كان الامر يخص وقتاً محدداً او اكثر، وكذا سواء صدق الحال على العبيد او على غيرهم من الخدم، حيث مناط الحكم واحد يشمل الفئتين.

د ـ يضاف الى ما سبق فان هناك احكاماً منصوصة اثبت الواقع ظرفيتها ووجوب تغييرها بعد الكشف عن مقاصدها ولو بالمشاركة مع دلالة النص، مثلما جاء في آية المصابرة وحكم رباط الخيل، وكذا جملة من نصوص الحديث مثل تلك الخاصة بتحديد حريم الارض وما اليها 7 0 1 .

الواقع وضبط الفتوى

لعل أهم ما يحتاج اليه الاصولي والفقيه اليوم هو اعادة النظر في العلاقة التي تربط ما بين الفتوى والواقع. فما زال هناك عدد كبير من الفتاوى لم يُرعَ فيها حق الواقع وشروطه، بل استلّها الفقهاء من مجرد النص او مما ادى اليه اجتهاد السلف. كما ما زالت هناك قضايا اخرى تحتاج الى فحص من حيث علاقتها بالواقع كمرجع يناط به الكشف عما هو حقيقة وغير حقيقة، وما هو ممكن وغير ممكن، وما هو متسق وغير متسق، وما هو مقيد به او غير مقيد، وغير ذلك من الصور التي تُستكشف من خلال دراسة الواقع والتعمق بفهمه، سواء كان حاضراً، او تاريخاً، او استشرافاً، او عاماً ومطلقاً. فالعلاقة بين الواقع والفتوى تتخذ صوراً متنوعة وعديدة لا بد من اعطائها حقها في النظر والتفكير، مما من شأنه ان يعمل على حل المشاكل الفقهية والقضاء على حالات المعارضة والصدام. واغلب هذه الصور يتخذ فيها الواقع دور الضابط للفتوى وفهم النص.

فمن ذلك إن للواقع سعة في أن يكذّب الفتاوى التي يظهر منها أنها لا تتفق مع حقائقه الخاصة. فمثلاً انه يكذّب فتوى كراهة التعامل مع بعض الأقوام لانهم من الجن، والتي عمل بها عدد من العلماء لبعض الروايات، وعلى رأسهم الشيخ الصدوق كما عرفنا من قبل. وكذا انه يكذب الفتوى القائلة بان في الخصية اليسرى ثلثي الدية، وفي اليمنى الثلث، لان الولد يُخلق من اليسرى لا من اليمنى . حيث عمل البعض بهذه الفتوى طبقاً لرواية عن الامام الصادق (ع)، لكن البعض الاخر اهملها، وقال الشهيد الثاني: وقد انكر ذلك بعض الاطباء 8 0 1 .

كما يمكن للواقع ان يكون معارضاً لبعض الفتاوى ليحيل بينها وبين التنفيذ او التطبيق. ومن ذلك معارضته للفتاوى الصادرة بخصوص الموقف من الارض المفتوحة عنوة. فهذه الفتاوى على اختلافها اصبحت غير مقبولة من قبل الواقع وتتعارض مع منطقه الخاص. فرغم اختلاف اراء المذاهب الاسلامية وتشعبها في تحديد الموقف اللازم عمله بخصوص هذه الارض، الا انها جميعاً لم تعطِ ثمرة مفيدة بهذا الخصوص. فسواء اخذنا بالرأي الذي يقول أنها تُقسّم بعد التخميس على الجيش الفاتح كالغنائم المنقولة كما ذهب اليه الاجتهاد الشافعي.. أو بالرأي الذي يرى انها تكون وقفاً حبيساً على جميع المسلمين فتوضع ثمرتها في بيت المال وتصرف على مصالحهم وحاجاتهم العامة، كما ذهب اليه الاجتهاد المالكي.. او بالمذهب الذي يقول ان أمرها يعود الى نظر الامام وتقديره بحسب ما يرى من الحاجة والمصلحة، فإن شاء عزل منها الخمس او اكثر لبيت المال وقسّم الباقي على الفاتحين كما فعل النبي (ص) بارض خيبر، وان شاء ترك الارضين لأهلها وطرح عليها ضريبة الخراج كما فعل عمر بن الخطاب بالسواد، وهو الذي آل اليه ابو عبيد والاجتهاد الحنفي واكثر الكوفيين. 9 0 1 . أو بالرأي الذي يعتبر ارض العنوة مما يجوز اجارتها بالاجماع، والساكن منها تحل فيه لاصحابها، ويمنع من بيع مزارعها كما هو قول ابن تيمية. 0 1 1 . او بالرأي الذي يراها للمسلمين قاطبة لا يملك احد رقبتها ولا يصح بيعها ولا رهنها ولا توقيفها ولا توريثها، ولو ماتت لم يصح احياؤها لأن المالك لها معروف وهو المسلمون قاطبة، وما كان منها مواتاً في وقت الفتح فهو للامام، واليه ذهب الاماميون مستدلين برواية عن الامام الصادق (ع) يقول فيها: ((ومن يبيع ارض الخراج وهي ملك لجميع المسلمين؟)) 1 1 1 . فسواء أخذنا بهذا الرأي او بغيره من الآراء التي عرضناها للمذاهب الاسلامية؛ نجد أنها ساقطة - جميعاً - بحسب الموازين التطورية للواقع، وبعيدة كلية عن منطقه وحساباته الخاصة. فالاحكام في واد، والواقع في واد آخر لا يلتقيان. لذلك عدّ الشيخ محمد جواد مغنية الفتوى القائلة بعدم جواز بيع الارض المفتوحة عنوة بأنها فتوى نظرية تبريرية بعيدة عن الواقع، معلقاً على ذلك بقوله: ((لا اعرف احداً عمل بها، فان الناس، كل الناس، حتى الفقهاء يعاملون صاحب اليد على الارض الخراجية معاملة المالك من البيع والشراء والوقف والتوريث وما الى ذلك.. ويوجهون او يؤولون اعمالهم بتأويلات لا تركن اليها النفس، منها ان لصاحب اليد نحواً من الحق والاختصاص، فينتقل هذا الحق منه الى غيره دون رقبة الارض وعينها، ومنها ان الاصل في الارض ان تكون الموات، حتى يثبت العكس)) 2 1 1 .

ويدخل ضمن هذه الشاكلة من معارضة الواقع للفتوى؛ ما واجهته بعض الدول الاسلامية بخصوص عدد من الموروثات الفقهية كتحليل الانفال واخراج سهم السادة من حصص انتاج النفط وسائر المعادن الاخرى الثمينة.

كما يمكن للواقع أن يعمل على تقييد الاطلاق المفترض في الفتوى. ومن ذلك أن من المفيد أن يقيد مضمون الفتوى التي تبيح للناس ان يكونوا مسلطين على اموالهم، وهي الفتوى التي عمل بها اغلب فقهاء الامامية.

كذلك الحال مع تقييد الواقع للفتوى التي تشجع على زيادة التناسل او التكاثر طبقاً لبعض الأحاديث 3 1 1 . اذ ظل الفقهاء يعملون باطلاق هذه الفتوى لدى مختلف المذاهب الاسلامية طيلة قرون، وما زال الكثير منهم يتبع خطاها دون مراعاة للواقع، لكن جملة من التحولات اضطرت عدداً منهم في الساحتين السنية والشيعية الى أن يضعوا قيوداً لهذه الفتوى طبقاً لحسابات الواقع واعتباراته.

كما ان للواقع سعة في ان يعمل على تجريد الفتوى من شروطها بالكشف عن عدم لزومها وجدواها، او انها مما لا تتفق مع هذا الواقع. وذلك مثل الفتاوى التي تشترط القرشية والعصمة ووحدة النظام في الحكم السياسي. وكذا الفتوى التي تشترط وجوب الاعلمية في القضاء والتي تتعارض مع كثرة القضايا الحادثة مثلما أشار الى ذلك السيد الخوئي 4 1 1 .

كذلك ان للواقع سعة في أن يكشف عن المشاكل الاجتماعية التي تنجم عن بعض الفتاوى والاحكام، مثل الاحكام الدائرة في الاحوال الشخصية كما واجهها المقننون المحدثون، كتلك التي لها علاقة بالوصية والارث وأساليب الزواج والطلاق، مثل فتوى الطلاق الثلاث في الجلسة الواحدة التي ذهب اليها جمهور فقهاء أهل السنة.

كما ان للواقع ان يكشف عن نسبية بعض الفتاوى وظرفيتها الزمانية. مثلما لاحظنا ذلك في فتاوى عديدة كالضعفية في القتال، والفتوى الخاصة بالعورات الثلاث، ووجوب اعداد رباط الخيل، وتقسيم الغنائم على المجاهدين، والمراهنة في السبق للصور الثلاث المعروفة، وحريم الارض وصاع مصر وغيرها.

وايضاً فان للواقع ان يكشف عن تأييده لتمامية بعض الفتاوى واطلاقاتها. وذلك كتأييده للكثير من الفتاوى والاحكام التي تتحقق من خلالها المصالح والحقوق. وهناك العديد من القواعد الفقهية التي تجد مجالها الرحب في الاتساق مع متطلبات الواقع وتسديد حاجاته، مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

وكذا فان للواقع ان يلعب دور الحاكم في البت والحكم على الاشياء التي تقام عليها بعض الفتاوى، فهو من هذه الجهة مقدم على الاعتبارات الشرعية في الحكم على الاشياء، كتقديمه في الاستهلال على البيانات الشرعية من الشهادة والرؤية وما اليها، وذلك إن كان قول الفلكيين دقيقاً مثلما ذهب اليه الشيخ محمد جواد مغنية 5 1 1 .

ومثله ما جاء في بعض الاحاديث من ان امرأة ادعت العنن على زوجها، وانكر هو ذلك، وفي الرواية يوصى أن يقام الرجل في الماء البارد، فان تقلص احليله حُكم بقوله، وان استرخى حُكم بقولها. وقال صاحب الجواهر: ((لقد عمل بهذا الحديث ابنا بابويه وابن حمزة، وأهمله المتأخرون من الفقهاء لعدم الوثوق به وعدم الوثوق ايضاً بالانضباط، لأن قول الاطباء يثمر الظن الغالب بالصحة، الا انه ليس طريقاً شرعياً)) 6 1 1 .

مع هذا فسواء صحت الرواية ام لم تصح فان بالامكان اليوم التأكد من القضية بفضل الامكانات العلمية الحديثة، فيُحكم على ضوء نتائجها، ويقدم ذلك على البيان الشرعي الوارد في الرواية.

كما يمكن للواقع أن يكون حاكماً يقدم على فتاوى العلماء وآرائهم الفقهية. فمثلاً في المسألة التي تقول انه لو اختلف الزوجان في الدخول، فقالت الزوجة بالادخال، وانكر الزوج لذلك، لتثبت ان لها حق الامتناع عنه حتى تقبض معجل مهرها، وهو لكي يسقط عنه نصف المهر بالطلاق، وهي لتثبت المهر كاملاً ونفقة العدة 7 1 1 . فمع اختلاف الرأي بين الفقهاء في أي منهما يعول عليه؛ فان للواقع اليوم ان يحسم القضية في كثير من الاحيان ليثبت صحة دعوى الدخول او الانكار، وذلك عن طريق الفحص الطبي. وبذا يكون الواقع مقدماً على الرأي الفقهي. كما يقدم على الاراء الفقهية التي تحدد مدد الحمل عند الشك، فبعضها يرى ان اقصاه سنتين، واخر اربع سنين، وثالث سبع سنين، وهو أمر تترتب عليه العديد من الاحكام، لكن من حيث الفحص الطبي يمكن ان يتم الكشف عن الحمل او المولود إن كان يعود الى الزوج بعد الفراق او لا يعود اليه.

كما ان للواقع ان يقوم بدور الفاحص للكشف عن حقيقة الفتوى من جهة صدقها او امكانية ما تحمله من صور الموافقة والاتساق، كإن يثبت الفحص بأن الفتوى نسبية تتلائم مع بعض الظروف، او هي باطلة لا أصل لها، او انها ليست سليمة ما لم يرد عليها بعض الشروط من المخصصات او المقيدات... الخ. ومن ذلك تعريض التقسيم الذي احدثه جماعة من الفقهاء حول التمايز في سن اليأس بين القرشيات والعاميات للفحص. فما زال الفقه الامامي يتبنى هذا التقسيم ويفرق جوهرياً في جانب من جوانب التركيب الطبيعي للخلقة بين المرأة القرشية والعامية، حيث يجعل من مدة اليأس لدى الأُولى تطول على مدة اليأس لدى الأُخرى بمقدار لا يزيد عن عشر سنين. ومع أن هذا الإعتقاد يعد غريباً باعتباره يضع فارقاً فريداً لنوع الجنس البشري تبعاً للنسب الديني؛ إذا ما إستثنينا ظاهرتي النبوة والإمامة.. فمع ذلك، فإن تاريخ الفقه إلى يومنا هذا يشهد غياباً تاماً لأي تحرٍّ قام به العلماء لفحص الواقع والتأكد من القضية. إذ من السهل إجراء عملية إختبار ومسح إجتماعي لعينة مختلطة من العاميات والقرشيات ليتبين إن كان هناك فارق ملحوظ فيثبّت في كتب الفقه، أم لم يكن فيزال منها بتسقيط الروايات التي يرتكز عليها ذلك الإعتقاد.

أخيراً فان للواقع أهمية في مجال إدراك الاحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً الى هدي المقاصد الشرعية كما مرّ معنا. وكذا فان من خلاله يمكن ترجيح بعض الفتاوى على البعض الآخر، استناداً الى قدر الموافقة معه.

الواقع ومبدأ الموافقة

لعل ما أشرنا اليه من نماذج لاثر الواقع على ضبط الفتوى يدعو الى ضرورة تأسيس خطوات اجرائية تحقق المصالحة بين الحكم وبين الواقع. فطريقة عرض الحكم على الواقع لا يمكن أن تتم بواسطة أطباق الاسقاطات الجاهزة، بل لا غنى من اتخاذ مرحلتين اجرائيتين يتم خلالهما معرفة العلاقة الجدلية بين الحكم والواقع، احداهما قبلية والاخرى بعدية، وذلك كالاتي:

1 ـ المرحلة القبلية

في هذه المرحلة هناك خطوتان لا بد أن يسبقا ممارسة تنفيذ الحكم وتطبيقه، إحداهما تتعلق بدراسة الحكم واختباره من حيث ذاته قبل تنزيله الى الواقع، وذلك بلحاظ ما يحمله من قوة تشريعية من جانب، وكذلك ما يمكن ان يتوقع له من إمكانية وقابلية على الموافقة مع الواقع من جانب آخر. في حين تتعلق الخطوة الاخرى بدراسة الواقع والتعرف عليه عن كثب. وتكتسب هذه العملية من دراسة الواقع أهمية خاصة لاعتبارين؛ احدهما ان بها يمكن الاهتداء الى تحديد موضوع الحكم بدقة، وهي مشكلة باتت مقررة لدى الفقهاء اليوم، فبدونها يصعب تحديد الحكم المناسب ومعرفته بدقة، حتى ان بعض القدماء كان يشكو من عدم قدرته على التجاوب في تأسيس الاحكام للحالات المصداقية موضع الابتلاء في الواقع، في حين انه لا يشكو من التأسيس على النحو النظري الكلي المنعزل عن لحاظ الواقع، ذلك انه يكفيه ان يمارس عملية الاستنباط او الاجتهاد من المصادر النظرية المعتبرة. أما الاعتبار الآخر فهو لأجل معرفة درجة التوقع التي يحملها الواقع من امكانية على التعايش والموافقة مع الحكم الذي يراد تنزيله اليه. الامر الذي يفيد في تجنب ما قد تفضي اليه عملية التنفيذ من فشل وما قد ينجم عن ذلك من أضرار وإحباط.

ويمكن ان نلاحظ ان القيام بالصيغة الاجرائية من المسح القبلي يتصف بالامور التالية:

1 ـ يلاحظ ان كلاً من الخطوتين الاجرائيتين للمرحلة القبلية إحداهما تكمل الاخرى وتتممها، فلا غنى لاحداهما عن صاحبتها. ذلك ان الواقع بحاجة الى حكم، وان الحكم لا فائدة منه بغير واقع، وان احدهما لا يصلح ان يزاوج الآخر ما لم يتم التحقق من ذاته وإمكاناته ليتم القِران بينهما بمودة وسلام.

2 ـ في دراسة الواقع يؤخذ بنظر الاعتبار دراسة الموضوع قيد البحث. كما يؤخذ بعين الاعتبار دراسة الروح العامة للواقع التي يتأثر في أجوائها ذلك الموضوع. مضافاً الى الدراسات الاستشرافية التي يراد منها توقع ما سوف يكون عليه الواقع، لما له من أهمية في تقدير ما يناسب من صياغة الاحكام، وما يمكن ان يؤول اليه الحال عند التنفيذ والتطبيق وذلك كأستراتيجية يهدف من ورائها الضمان المستقبلي كما يلوح في الأُفق قدر الامكان. الامر الذي تحتاج فيه الى العلوم الانسانية.

3 ـ ان دراسة الواقع قد تتسع وقد تضيق طبقاً لطبيعة الحالة المقيدة تحت البحث. فلا شك ان الحالات الفردية الخاصة لا تتطلب نفس القدر الذي تتطلبه الحالات العامة من الدراسة. وقد يقتضي الامر ان يكون البحث مستوعباً للمظاهر التاريخية التي تتشكل فيها الظاهرة قيد الدراسة وما يستتبعها من تطورات وتحولات. فمثلاً لو أننا اردنا اختبار مبدأ من المبادئ السياسية للتعرف على مدى صلاحيته ووفاقه مع الواقع، كمبدأ الشورى او ولاية الفقيه او التعددية الديمقراطية او غيرها من المبادئ، فان ما يلزم هو ليس فقط لحاظ الواقع الخاص الذي يراد تطبيق المبدأ عليه، وانما كذلك لا بد من لحاظ التجارب السياسية التي مرت بها البشرية عبر التاريخ. فلا شك ان ذلك يفيدنا في محاولة تقليص الممارسات الخاطئة او تجنبها عند التطبيق تحت ظل التجربة الجديدة.

قد يلوح للبعض انه يمكن الاكتفاء في اختبار مبدأ معين بحسب ذاته للكشف عن مدى سلامته وصلاحيته في التطبيق دون حاجة للحاظ الواقع ودراسته. ولعل أقرب تمثيل لهذه الدعوى هو مبدأ الشورى. ذلك ان النظر في مقومات هذا المبدأ يمكن ان يكشف عن سلامته وصلاحيته، سواء من حيث اعتبار الناحية التشريعية، او من حيث اعتباره صحيحاً في ذاته. فمن الناحية الاولى يكفي انه قد نصّ عليه القرآن الكريم صراحة، وانه قد مارسته السنة النبوية والخلافة الراشدة على اكثر من صعيد. أما من الناحية الثانية فهو ان فحص الشورى من حيث ذاتها، وبغض النظر عما سوى ذلك، يجعلنا ندرك انها مبدأ صحيح وصالح لا غنى عنه في الحياة الخاصة فكيف بالعامة. فاستشارة الجماعة يزيد في قوة المعرفة والاحاطة والتنبه. وبالتالي فطالما كان المبدأ مستحسناً ومقبولاً ولو لم نجربه مباشرة في الواقع؛ فان ذلك يكفي لاقرار صلاحيته في التطبيق دون حاجة لدراسة الواقع والتعرف على تفاصيله.

وهو أمر وإن كان صحيحاً من حيث النظر في المبدأ في حد ذاته؛ الا ان الحال لا يتعلق بالمبدأ وحده، وانما يتعلق من جانب آخر بطبيعة ما عليه الواقع؛ إن كان باستطاعته ان يمتثل هذا المبدأ ام لا. فرغم شرعية المبدأ وعقلانيته الا انه قد يفشل أحياناً عند اسقاطه على الواقع. فعلى الأقل ان الارضية التي يمكن ان يعيش فيها هذا المبدأ هي ارضية ينبغي ان تتصف بقدر كاف من الحرية والجرأة والوعي. فالمجتمع الذي يفتقر الى مثل هذه المقومات قد لا ينفعه العمل بحسب هذا المبدأ ، بل ربما يكون من المناسب اخضاعه الى سلطة تتصف بقدر ما من الفردية والاستبداد، وليس العيب في الشورى وانما في الواقع ذاته.

ومن الناحية المبدئية ان الالتزام والتمسك الاطلاقي بالمبادئ المعلنة، على نحو الشورى وولاية الفقيه والسلفية والديمقراطية والليبرالية والماركسية وغير ذلك من المبادئ؛ هو التزام متعال لا يأخذ الواقع بنظر الاعتبار. فنحن إما أنصار هذه او تلك دون أن نسأل أنفسنا عسى ما مدى موافقة ذلك للواقع الذي نتعامل معه ونريد تطبيق ما نلتزم به من مبدأ عليه؟ خصوصاً ونحن نعلم ان نجاح الاسلام في تثبيت أركانه انما تمّ بفضل مراعاة الواقع وأخذ اعتباره في التفاعل والاحتكاك، كما يتبين من موارد النسأ والنسخ والتدرج في الاحكام. وعليه كيف يُعقل ان يكون هناك نظام واحد عادل يطبق على جميع المجتمعات دون أخذ اعتبار الخصوصيات الذاتية لها؟ ويمكن أن نتصور حجم الفارق فيما لو وضعنا نظاماً اسلامياً على النمط السلفي وطبقناه على المجتمع الغربي، وفي قباله وضعنا نظاماً غربياً صرفاً وطبقناه على المجتمع الاسلامي الملتزم، فكيف تكون النتيجة والحال هكذا؟!

من هنا فأول ما ينبغي فعله هو اصلاح الواقع، ومن ثم تزويده بالجرعة التي تتناسب وحجم الاصلاح. فيمكن تصوير الواقع بالكائن الحي الذي يمر بحالات مختلفة ومتفاوتة من الطفولة والبلوغ والصحة والمرض والنشاط والخمول والنمو والذبول وغير ذلك من الحالات والمراحل. فجميع هذه الحالات لا ينفعها صنف واحد من الجرعات اذا ما اريد للكائن ان يحافظ على سلامة حياته. فمثلاً انه لو كان صحيحاً معافى فانه لا يحتاج الى دواء، والا انقلب الدواء الى داء. ولو كان مريضاً فان الدواء الذي يقدم اليه لا بد وأن يناسب ما عليه من مرض، وبالتالي فان اول ما يحتاج اليه هو الفحص لتشخيص حالته وما يناسبه من علاج.

4 ـ ان المسح القبلي السالف الذكر لا يتحقق من الناحية المنطقية طبقاً للاجواء والشروط التي تفرضها العقلية التقليدية من الفهم الاجتهادي، وهي العقلية التي تتخذ النهج الماهوي وقوالب اللزوم والاطلاق محوراً جوهرياً لمنظومتها الفكرية. فالحال الذي ذكرناه لا يتسق الا مع التسليم سلفاً بالنهج الوقائعي والطابع الارشادي بعيداً عن الصيغ الماهوية من التعبد والاطلاق.

2 ـ المرحلة البعدية

تأتي هذه المرحلة كخطوة مكملة لخطوة المسح القبلي الذي فيه يتم التعريف بكل من الحكم والواقع قبل عملية المزاوجة. اما في المرحلة البعدية فانها تستهدف الكشف عن حقيقة الامر بعد عملية التنزيل والتطبيق، وذلك بلحاظ ما يتم من العلاقة الجدلية بين الحكم والواقع. فهي على هذا خطوة محك وفحص واختبار يراد منها التدقيق في مدى الموافقة على المعايشة بين الطرفين المتزاوجين، وبالتالي فانها نافعة في تصحيح مسار العلاقة الزوجية الى الحد الذي يحقق أكبر قدر ممكن من الموافقة. كما ان فائدتها تتجلى في اعادة الفحص والنظر عند ضعف التوافق وانعدامه، وذلك لبحث مصادر الخلل والاسباب التي تقف وراءه، فهل الأمر يعود الى الواقع، او الى الحكم، ام لسوء التطبيق؟

ويلاحظ مما سبق أننا ننهج استراتيجية جديدة تبتعد عن اشكالية الحجية التي تعول عليها الطريقة التقليدية كمحك للقبول والاعتبار. ذلك ان اشكاليتنا الجديدة تقبل النمط الاجرائي بما يتضمن الفحص الذي يحقق مبدأ القبول وعدمه تبعاً للموافقة. فاذا كان القبول وعدمه لدى الطريقة التقليدية يتوقف عند صيغة البحث الاستنباطي الذي يكشف عن الطبيعة المعرفية للقضية من شرعية وسلامة فقهية، وهي التي يطلق عليها الحجية؛ فان الوضع بحسب مبدأ الموافقة لا يقف عند ذلك الحد. فصحيح انه لا بد من احراز عدم الممانعة الشرعية بالشكل المرن الذي لا يتضارب مع الواقع ومرونته؛ الا ان ذلك لا يفي بالحاجة، طالما ان القضية ما زالت متعالية على الواقع وان من المحتمل ان تتصادم معه عند الاسقاط والمزاوجة، لذا كان لابد من انتهاج استراتيجية اخرى تبتعد عن الصورة الاصولية التقليدية التي ترمي شباكها لهدف تحقيق الحجية، ولو تحققت لعدّت ذلك اجتيازاً لقنطرة الفحص والاختبار وبالتالي جاز لها دخول حلبة الواقع من غير رقابة ولا محاسبة. فحقيقة الامر ان جوهر المسألة انما يعود الى اشكالية الموافقة مع الواقع وسلامة المزاوجة بين الطرفين، وليس الى البحث الخاص بالحجية والظنون المعتبرة التي تمرست عليها الطريقة التقليدية، بدلالة انه ليس كل ما هو حجة او مقطوع في شرعيته الاصلية يقبل الموافقة دائماً، والا فكيف نفسر حالات الصدام التي تعرضت اليها الكثير من الاحكام عند اسقاطها على الواقع؟! وهو الامر الذي جعل الفقهاء المحدثين في حيرة من أمرهم، فتارة تراهم يعتذرون بدعوى الضرورة والاضطرار، واخرى بدعوى لزوم التدرج في الاحكام والعمل طبقاً للأولويات، وثالثة بالفات النظر الى ضرورة التحقيق في موضوعات الاحكام، وغير ذلك من الدعوات التي لا تعد علاجاً حقيقياً او كاملاً للمصالحة بين الحكم والواقع، خاصة اذا ما أخذنا باعتبار ما يمر به الواقع من حالات واطوار مختلفة كتلك التي صورناها لدى الكائن الحي. الامر الذي يؤكد دعوتنا فيما طرحناه من مبدأ الموافقة وما يتضمنه من مرحلتين اجرائيتين من الفحص والاختبار.

ونشير اخيراً الى اننا استخدمنا مفهوم الموافقة عوضاً عن مفاهيم اخرى كالمطابقة والتأييد والقابلية على التحقق والنجاح وما اليها. ويعود ذلك الى ان مفهوم الموافقة هو مفهوم نسبي، يتسق والحالة التي نعالجها في ظل الاوضاع الاجتماعية وملابساتها. فالموافقة قد تقوى وقد تضعف، وقد تزداد او تنقص، وهي قد تتحقق في جوانب دون أخرى من القضية الواحدة ، وقد تكون هذه اهم من تلك او العكس. لذلك فان اجراء هذا المبدأ في مثل هذه الصور يختلف تماماً عما يصاغ مع القضايا العلمية الطبيعية التي تتخذ طريقها نحو مبدأ القابلية على التحقق والتأييد وما اليه.

أخيراً فهل نحن بحاجة الى التذكير بأن ما يلزم على الفقهاء هو القيام بصياغة قانونية لمبدأ الموافقة ضمن المطارح الاصولية!

***

ننتهي من كل ما سبق ان للدلالة الواقعية اهميتها في الكشف عن مقاصد الاحكام وتغييرها. الامر الذي يفضي الى اتخاذ الواقع كمعيار لاختبار الاحكام في الموافقة والمخالفة، وبالتالي كان لابد من توظيف الدراسات الانسانية الحديثة في كشفها عن حقائق الواقع وسننه وحاجاته. فهذا هو ما يبرر عقلانية التشريع والاجتهاد معاً، وبغير ذلك ينقلب الامر الى ضده.

كما ننتهي الى ان عرضنا السابق يكشف لنا عن ثغرتين اساسيتين لحقتا بطريقة الاجتهاد التقليدية: الاولى هو انها استناداً الى النهج الماهوي أبعدت الواقع من أن يكون له اثره الفاعل في تشكيل الحكم، اذا ما استثنينا بعض الموارد الهامشية، الامر الذي جعلها تتلقى باستمرار العديد من الصدمات اطراداً مع تحولات الواقع. فعلى الاقل قد تبين لنا لحد الآن عجز النظام المعياري من مواجهة بعض القضايا التي لها ارتباط بتحديد الواقع. حيث ان هذا الارتباط يجعلها في حالة من التعارض والتغاير باستمرار، الامر الذي فيه تكون منافية لما عليه مقاصد الشرع، طالما لم تؤخذ الدلالة الواقعية بعين الاعتبار، وذلك لما تشكله هذه الدلالة من وساطة في التوفيق بين الاحكام ومقاصدها الكلية. وهو امر يعبّر عن الحاجة لتشكيل مؤسسات للعلوم الانسانية تعمل على تحديد الموضوعات التي تناط بها الاحكام، وهي بلا شك تعمل على ابراز موضوعات جديدة لا قبل لها في السابق وإن ظهرت وكأنها ذات الموضوعات التي تعلّق بها الخطاب الشرعي.

أما الثغرة الاخرى فهو ان هذه الطريقة بقدر ما وضعت عنايتها ازاء الجزئيات من التشريع بقدر ما ابعدت حالها عن النظر الى كليات التشريع المعارضة. ذلك ان تزاحم جزئيات الاحكام قد غبشت الرؤية عن الكليات العامة منها. وهذه الحالة يمكن اعتبارها جارية لدى الغالب ممن يحصرون تفكيرهم وسط تزاحم الجزئيات، وهي تصدق على جميع موارد الحياة الانسانية، بما فيها دائرة العلوم الطبيعية. وواقع الامر ان التعارض بين الكلي والجزئي يفترض بطلان أحدهما على الاقل، لكن حيث انه من غير المعقول التخلي عن الكلي لضرورته، فان البطلان المفترض انما يكون بالنظر الى الجزئي، وهو بطلان لا يعني بالضرورة بطلاناً مطلقاً، وانما قد يكون بطلانه من حيث طبيعة علاقته النسبية بالواقع. بمعنى انه إما أن يكون باطلاً على نحو الاطلاق، او يكون باطلاً بالنسبة لوضع ما من الواقع دون آخر. فنحن هنا اشبه ما نكون ازاء ما يلاحظ احياناً من وجود تعارضات بين النظريات العلمية ككليات مسلّم بها وبين ما يعترضها من شذوذ في المصاديق. ذلك انه في هذه الحالة إما ان تكون النظرية خاطئة، او ان المصداق يخضع لظروف خاصة يحتاج فيه الى تفسير يجعله يتسق مع النظرية. هذا إن كان للمصداق حقيقة لا تنكر. ففي مثل هذه الحالة ليس من السهل التخلي عن النظرية إن كانت مدعمة بشواهد كثيرة مقنعة من غير منافس، انما يجري الامر اتجاه ما يمكن تفسيره للوضع الخاص بالشذوذ كي يطابق النظرية، طالما ان الخطأ لابد وأن يكون في أحدهما، والمعول عليه ولا شك هو تفسير الشذوذ تبعاً لافتراض ما يناسب مطابقته للنظرية إن أمكن ذلك، او رد النظرية بنظرية اخرى منافسة إن استطاعت تفسير الشذوذ، ومن ذلك ان العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الاولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كذلك انهم لم يطروحها ارضاً رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه 8 1 1 ، وانه قد انقضت عدة عقود على قبول هذا الشذوذ حتى اعتبرت شاهداً مكذباً للنظرية، خصوصاً وقد ظهرت هناك نظرية انشتاين كمنافسة استطاعت ان تفسر كل ما فسرته نظرية نيوتن، بل وفاقتها في تفسير ما لم تستطع تفسيره من الشذوذ 9 1 1 . وشبيه بهذا الحال يصدق عندما نجد معارضة بين الكلي وبين الجزئي من الاحكام، حيث لا يعقل اطراح الكلي لأجل التمسك بالجزئي إن لم يكن هناك منافس آخر للكلي المعلوم، انما المعقول هو تفسير الجزئي بما يجعله متفقاً مع الكلي، وبهذا يُحافظ على كليهما، وذلك من خلال وساطة الدلالة الواقعية، كما هو واضح مما اجريناه من نماذج وأمثلة.

الهوامش

1 اصول الفقه، ج1 ، ص7 5 1 .

2 محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، ط2 ، 6 9 3 1 هـ ـ6 7 9 1 م، ج2 ، ص6 0 6 .

3 انظر: وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، ابواب صلاة المسافر، ج8 ، ص1 5 4 وما بعدها.

4 انظر: جواهر الكلام، طبعة مؤسسة المرتضى ودار المؤرخ العربي، بيروت، ط1 ، 2 1 4 1 هـ ـ2 9 9 1 م، ج5 ، ص0 3 3 ،

5 جاء في احدى الروايات ان تقدير القصر في السفر قائم على اعتبار الزمان وان المسافة مقاسة عليه، لكن من غير اعتبار للمشقة كما هو مدلول الآية. فقد روي عن الامام الرضا (ع) انه قال: ((إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره اذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما)) ( وسائل الشيعة، ج8 ، ص1 5 4 ).

6 اعتبر صاحب (جواهر الكلام) ان التقدير بحسب الزمان والمسافة انما هو أمر واحد عند الشارع ((فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين وبالعكس، ومتى تحقق أحدهما تحقق الآخر في نظره)) (جواهر الكلام، ج5 ، ص0 3 3 ).

7 نفس المصدر والصفحة.

8 عبد الاعلى السبزواري: مهذب الاحكام، مطبعة الهادي، قم، ط4 ، 7 1 4 1 هـ، ج7 2 ، ص4 9 1 . وانظر ايضاً: فقه الامام جعفر الصادق، مصدر سابق، ج5 ، ص3 6 1 .

9 عبد الرحمن الناصر السعدي: المختارات الجلية من المسائل الفقهية، نشر الرئاسة العامة لادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، الرياض، ط2 ، 5 0 4 1 هـ، ص6 7 1 ـ7 7 1 .

0 1 الطرق الحكمية، ص3 8 1 .

1 1 عن: محمد الغزالي: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، دار صحارى، ط5 ، 9 0 4 1 هـ ـ9 8 9 1 م، ص9 5 .

2 1 الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، ص1 1 . وانظر ايضاً: جواهر الكلام، ج4 1 ، ص0 0 4 .

3 1 ابو القاسم القمي: قوانين الاصول، طبعة حجرية قديمة، ص3 4 4 .

4 1 الطرق الحكمية، ص7 7 1 . كذلك: اعلام الموقعين، ج1 ، ص5 9 .

5 1 المنار، ج3 ، ص4 2 1 .

6 1 فتح الباري، ج4 ، ص3 6 .

7 1 عن: زيدان، عبد الكريم: المفصل في احكام المرأة، مؤسسة الرسالة، ط1 ، 3 1 4 1 هـ ـ3 9 9 1 م، ج4 ، ص2 0 2 .

8 1 المفصل في احكام المرأة، ج4 ، ص 3 0 2 .

9 1 فتح الباري، ج4 ، ص0 6 ـ1 6 .

0 2 فتح الباري، ج4 ، ص0 6 . والمفصل في احكام المرأة، ج4 ، 3 0 2 .

1 2 محمد الغزالي: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار القلم، دمشق، ط1 ، 7 0 4 1 هـ ـ 7 8 9 1 م، ص5 9 .

2 2 كقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخُمُرهنّ على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن او آبائهن.. او ما ملكت ايمانهن او التابعين غير أُولي الإربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} النور/0 3 ـ1 3 ، وقوله: {يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذَين وكان الله غفوراً رحيماً} الاحزاب/9 5 ـ0 6 .

3 2 لابد من الاشارة الى انه لا يصح التسليم بما اتجه اليه الفقهاء الذين اعتبروا الخلطة في مشاركة النساء في الحروب التي خاضها النبي الاكرم (ص) وتضميدهن لجروح المجاهدين انما كان لوجود الحاجة الماسة. ذلك انه لو صح هذا الامر لظهر هناك نهي عن المشاركة عند ارتفاع الحاجة، مع انه لا يوجد مثل هذا النهي رغم التضخم الملحوظ في تزايد اعداد الجماعة الاسلامية قبل الفتح وبعده. وهناك نصوص متضافرة تبدي المشاركة النسوية بتلقائية، الصغار منهن والكبار، وبعضهن من نساء النبي وبناته، دون ان يظهر ما يثير الشكوك في طبيعة الابتلاءات التي يمكن ان تحدث من جراء ذلك التماس. ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: ((كنا نغزو مع النبي (ص) فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى الى المدينة )). وعن ام عطية الانصارية قالت: ((غزوت مع رسول الله (ص) سبع غروات اخلفهم في رحالهم واصنع لهم الطعام واداوي الجرحى واقوم على الزمنى)). وعن انس قال: ((كان رسول الله (ص) يغزو وام سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى)). وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان (غزو النساء وقتالهن). ومن النساء من قاتلن في الحروب مباشرة، فمنهن ام سليم التي اشتركت في غزوة حنين واتخذت خنجراً لتقتل به من يدنو منها من المشركين، كما اشتركت ام عمارة في حرب الردة ضد مسيلمة الكذاب، حيث جُرحت يومئذ اثنتا عشرة جراحة وقطعت يدها، كما اشتركت صفية بنت عبد المطلب في معركة الخندق وقتلت رجلاً من اليهود آنذاك. وقبل ذلك ان هذه الصحابية جاءت يوم احد وبيدها رمح تضرب به وجوه المشركين. ومن النساء من نُصب لها خيمة في المسجد بعلم النبي واذنه لتداوي فيها الجرحى، كما هو الحال مع رفيدة الانصارية.

ومما يذكر في الخلطة مما هو خارج عن الحرب ومداواة الجرحى ما اخرجه البخاري في صحيحه عن اسماء بنت ابي بكر انها قالت: ((تزوجني الزبير وما في الارض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت اعلف فرسه واستقي الماء واخرز غربه واعجن ولم اكن احسن الخبز فكان يخبزه جارات لي من الانصار، وكن نسوة صدق، وكنت انقل النوى من ارض الزبير التي اقطعه رسول الله على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال اخ اخ ليحملني خلفه، فاستحييت ان اسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان اغير الناس، فعرف رسول الله اني قد استحييت، فمضى رسول الله، فجئت الزبير فقلت: لقيني النبي ومعه نفر من اصحابه، فاناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النبي كان اشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى ارسل الي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني (لاحظ حول ما سبق: فتح الباري، ج6 ، ص9 5 و1 6 . والمفصل في احكام المرأة، ج4 ، ص9 6 2 ـ2 7 2 ، وص9 8 3 ـ2 9 3 ).

4 2 فتح الباري، ج0 1 ، ص4 1 3 . ط2 ، 2 0 4 1 هـ.

5 2 فتح الباري، ج0 1 ، ص8 1 3 .

6 2 فتح الباري، ج0 1 ، ص6 1 3 .

7 2 المصدر السابق، ص3 2 3 . ومثله مروي عن ابن عباس في وسائل الشيعة، ج7 1 ، كتاب التجارة، باب تحريم عمل الصور المجسمة والتماثيل، حديث9 ، ص8 9 2 . كذلك ورد ما يماثل ذلك عن الامام الصادق عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) انه قال: ((من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ)) (وسائل الشيعة، حديث6 ، ص7 9 2 ). وعن الامام الصادق انه قال: ((ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها..)) (المصدر السابق، حديث7 ، ص7 9 2 ).

8 2 المصدر، ص3 1 3 . كذلك: صحيح البخاري، دار احياء التراث العربي، ج4 ، باب بدء الخلق، ص8 5 1 .

9 2 المصدر، ج0 1 ، ص7 1 3 .

0 3 عن: عزت علي عطية: البدعة/تحديدها وموقف الاسلام منها، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2 ، 0 0 4 1 هـ ـ0 8 9 1 م، ص2 0 4 .

1 3 االمصدر السابق، ص3 0 4 ،

2 3 احكام القرآن، ج4 ، ص0 0 6 1 .

3 3 المصدر السابق، نفس الصفحة.

4 3 يلاحظ اننا نستبعد وجهة النظر التي تركز على الجانب التعبدي من التحريم وتعتبر عمل الصور المجسمة والغناء وما الى ذلك كلها من المحرمات في نفسها، لذا حرم بيعها وشرائها، كالذي ذهب اليه المحقق الحلي في (شرائع الاسلام، مطبعة الاداب، النجف، ط1 ، 9 8 3 1 هـ ـ 9 6 9 1 م، ج2 ، ص0 1 ).

5 3 القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 3 1 4 1 هـ ـ3 9 9 1 م، ج4 1 ، ص5 7 1 .

6 3 اذ ذُكر انه ثبت عن السيدة عائشة كما في صحيح مسلم ان النبي (ص) تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزُفّت اليه وهي بنت تسع ولُعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضاً قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي (ص) وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله (ص) اذا دخل ينقمعن منه فيُسرِّبُهنّ الي فيلعبن معي (الجامع للقرطبي، ج4 1 ، ص6 7 1 ).

7 3 عبد الهادي الحكيم: الفقه للمغتربين، وفق فتاوى السيد علي السيستاني، مؤسسة الامام علي، لندن، ط1 ، 9 1 4 1 هـ ـ8 9 9 1 م، ص1 3 3 .

8 3 عن: محمد البهي: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص6 1 1 .

9 3 جاء في (شرح النيل) ان الامام اذا ملك بعض المصر فقط فان عليه ان لا يقيم الحد كجلد وقطع، بل يحبس حتى يملك المصر، وقيل يقيم الحد، وقيل هو مخير حتى تضع الحرب أوزارها، والحكم في ذلك كالحد، وقيل لا يدع الأحكام، وقيل يجوز ترك الحدود لئلا يشغله ذلك عن الفتح، وقيل لزمه ترك الحكم لئلا يشغل (موسوعة الفقه الاسلامي المعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر، 0 1 4 1 هـ ـ 9 8 9 1 م، ج2 ، ص4 1 2 ).

0 4 اعلام الموقعين ج3 ص7 .

1 4 جاء في حادثة انه قال عمر للنبي (ص): ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى النبي معللاً ذلك بانه قد تاب الى الله. اذ روي ان امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد الى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرَّ عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فادركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فاخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه اليها، فقال: انا الذي اغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله (ص) فاخبرته انه الذي وقع عليها، واخبر القومُ انهم ادركوه يشتد، فقال: انما كنت اغثتها على صاحبها فادركني هؤلاء فاخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال النبي (ص): ((انطلقوا به فارجموه ))فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فانا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله (ص): الذي وقع عليها، والذي اغاثها، والمرأة، فقال: ((اما انت فقد غفر لك، وقال للذي اغاثها قولاً حسناً، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى رسول الله (ص) فقال: ((لأنه قد تاب الى الله)) (اعلام الموقعين، ج3 ، ص8 ).

2 4 مجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص5 5 2 . واعلام الموقعين ج3 ، ص8 .

3 4 اعلام الموقعين، ج3 ، ص8 .

4 4 القرطبي: جامع احكام القرآن، طبعة مؤسسة التاريخ العربي، 5 0 4 1 هـ ـ5 8 9 1 م، ج6 ، ص4 7 1 . والشوكاني: فتح القدير، دار احياء التراث العربي، ج2 ، ص9 3 .

5 4 نُقل عن ابن تيمية وابن القيم انهما أجريا تعديلاً فيما يخص الحكم الخاص بتنفيذ حد السرقة حين ثبوتها، فكما قال الشيخ محمد الغزالي: ((حسب ابن تيمية وابن القيم وما أفهمه أنا من السنن؛ استطيع ان اقول بأن القاضي يستطيع وقف التنفيذ في السابقة الاولى. فلو سرق تلميذ او شاب، وكانت سرقته الاولى او عثرة قدم زلت بصاحبها، فاذا وجده القاضي متألماً لذلك ونادماً او شاعراً بالخجل؛ له ان يوقف العقوبة ويستتيبه ويقبل توبته، وله ان يعزره بالكلام او بالجلد او السجن، حسبما يرى، ولكن اذا عاد للجريمة مرة او مرات اخرى تقطع يده)) (محمد الغزالي: تطبيق الشريعة حل لأزمة الاستعمار التشريعي في بلادنا، منبر الحوار، العدد3 1 ، 0 1 4 1 هـ ـ9 8 9 1 م، ص5 1 ).

6 4 الطرق الحكمية، ص2 2 .

7 4 ذكر ان خالد بن الوليد كتب لابي بكر في خلافته بانه ((وُجد في بعض نواحي العرب رجل ينكح كما تنكح المرأة))، فاستشار ابو بكر الصحابة، وكان فيهم علي فقال: ((ان هذا الذنب لم تعص به امة من الامم الا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم. أرى ان يحرقوا بالنار))، فكتب ابو بكر الى خالد وأمره بحرقه. (الطرق الحكمية، ص8 1 . واعلام الموقعين، ج4 ، ص8 7 3 ). وجاء عن الامام الصادق ان خالد بن الوليد كتب الى ابي بكر عن رجل يؤتى في دبره، فاستشار ابو بكر علياً فقال: احرقه بالنار، فان العرب لا ترى القتل شيئاً (فقه الامام الصادق، ج6 ، ص8 7 2 ).

8 4 محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق، طبعة انتشارات قدس محمدي، قم، ج2 ، ص9 6 2 . والفقه على المذاهب الخمسة، دار الجواد، بيروت، ط7 ، 2 8 9 1 م، ص5 6 4 .

9 4 المفصل في احكام المرأة، ج4 ، ص1 1 4 ـ2 1 4 .

0 5 جواهر الكلام، ج1 2 ، ص0 1 .

1 5 ابن طولون الدمشقي: إعلام السائرين عن كتب سيد المرسلين، تحقيق محمود الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2 ، 7 0 4 1 هـ ـ7 8 9 1 م، ص2 5 و 0 6 .

2 5 فتح القدير، ج1 ، ص1 9 1 ـ2 9 1 .

3 5 رغم ما جاء في كثير من الاحاديث من معنى الفتنة في الاية هو الشرك؛ فان المرحوم الطباطبائي اعتبر ذلك من مصاديق الفساد في الارض، اي ان الفتنة تعني الفساد في الارض وأن الشرك من مصاديق هذا الفساد (محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم، ج2 ، ص2 7 ).

4 5 عبد الكريم زيدان: مجموعة بحوث فقهية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 6 9 3 1 هـ ـ6 7 9 1 م، ص5 5 .

5 5 ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار الخير، ط1 ، 0 9 9 1 ، ج1 ، ص4 5 2 .

6 5 المنار، ج9 ، ص6 6 6 .

7 5 ابن القيم: احكام أهل الذمة، حققه وعلق حواشيه صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط2 ، 1 0 4 1 هـ ـ1 8 9 1 م، ج1 ، ص7 1 .

8 5 على رأي ابي حنيفة انه اذا امتنع اهل الذمة عن اداء الجزية ونقضوا عهدهم فان ذلك لا يبيح قتلهم ولا غنم اموالهم ولا سبي ذراريهم ما لم يقاتلوا، انما يجب اخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك، فان لم يخرجوا طوعاً أُخرجوا كرهاً (الاحكام السلطانية، ص6 8 1 ).

9 5 دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص1 6 .

0 6 المنار، ج3 ، ص9 3 . وعلى رأي ابن تيمية الذي ينسبه الى السلف فان الاية ليست منسوخة ولا مخصوصة او يصح نسخها وتخصيصها، وانما على حد قوله: ((النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فان أسلم عصم ماله ودمه، واذا لم يكن من أهل الكتاب لا نقتله، ولا يقدر أحد قط ان ينقل ان رسول الله (ص) اكره أحداً على الاسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في اسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبل منه ظاهر الاسلام))(عن:: وهبه الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ص7 6 ). ومثل ذلك اعتبر الشوكاني الاية محكمة غير منسوخة (فتح القدير، ج1 ، ص5 7 2 ). كذلك ذهب الطباطبائي من المعاصرين الى نفس هذه النتيجة من عدم نسخ الاية، فهي ثابتة الحكم لثبات علة الحكم {قد تبين الرشد من الغي}، وردّ على الذين اتهموا الاسلام بأنه دين سيف ودم؛ معتبراً الجهاد والقتال ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة، بل لاحياء الحق والدفاع عن فطرة الانسان (التوحيد). ((أما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال)) (الميزان، ج2 ، ص3 4 3 ـ4 4 3 ). وواضح من ذلك ان الطباطبائي يستثني من آية الرشد المشركين، او انه يعتبرها واردة بخصوص أهل التوحيد من الديانات السماوية، بخلاف ما هو لدى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

1 6 محمد عبد الله دراز: مدخل الى القرآن الكريم، دار القلم، الكويت، 0 0 4 1 هـ ـ0 8 9 1 م، ص2 1 1 ـ3 1 1 .

2 6 ابو زهرة: العلاقات الدولية في الاسلام، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 4 8 3 1 هـ ـ4 6 9 1 م، ص8 4 ـ9 4 .

3 6 المنار، ج0 1 ، ص3 1 3 .

4 6 انظر في هذا الصدد الفصل الرابع من (جدلية الخطاب والواقع).

5 6 المنار، ج0 1 ، ص6 0 3 .

6 6 انظر مقالنا: خطوات على طريق المرجعية الرائدة، الفكر الجديد، عدد7 ، 3 9 9 1 م، ص0 2 3 ـ7 2 3 .

7 6 دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص4 7 .

8 6 احكام القرآن، ج2 ، ص8 5 7 ـ 9 5 7 .

9 6 المنار، ج8 ، ص8 3 1 .

0 7 الاصناف التسعة التي حصر فيها وجوب الزكاة هي: الذهب والفضة، والابل والبقر والغنم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب. فمما جاء في ذلك من الروايات ما قاله الامام الصادق: أُنزلت آية الزكاة {خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها} في شهر رمضان، فأمر رسول الله (ص) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والابل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عما سوى ذلك.. (وسائل الشيعة، ج9 ، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث1 ، ص3 5 ).

1 7 كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (1 )، رسالة الثقلين، عدد 8 ، 4 1 4 1 هـ ـ 4 9 9 1 م، ص8 3 ـ9 3 . وانظر الحوار مع الحائري في: قضايا اسلامية، قم، عدد4 ، 7 1 4 1 هـ ـ7 9 9 1 م، ص2 3 .

2 7 انظر وسائل الشيعة، ج9 ، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة في الخيل الاناث السائمة، حديث1 ، ص7 7 .

3 7 لاحظ محمد مهدي الاصفي: نظرية الامام الخميني في دور الزمان والمكان في الاجتهاد، قضايا اسلامية، عدد4 ، ص9 9 2 وما بعدها. كما انظر: وسائل الشيعة، ج9 ، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الاربع من الحبوب، حديث1 1 ، ص4 6 .

4 7 فمن ذلك ما روي ان ابا الحسن (ع) كتب الى عبد الله بن محمد: الزكاة على كل ما كيل بالصاع. وكتب عبد الله عن الامام الصادق انه سأله عن الحبوب؟ فقال: وما هي؟ قال: السمسم والارز والدخن، وكل هذا غلة كالحنطة والشعير، فقال الامام الصادق: في الحبوب كلها زكاة. كما روي عن الامام الصادق انه قال: كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب، فقال سائل: أخبرني جعلت فداك هل على الارز وما اشبهه من الحبوب الحمص والعدس زكاة؟ فوقع الامام: صدّقوا الزكاة في كل شيء كِيل (وسائل الشيعة، ج9 ، ص1 6 ). كما روي عن الامام الصادق انه سئل عن السمسم والارز وغير ذلك من الحبوب هل تزكى؟ فقال: نعم هي كالحنطة والتمر (مستدرك الوسائل، ج7 ، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الاربع، حديث1 ، ص9 3 ). وعن الامام الصادق ايضاً انه قال: كل شيء يدخل فيه القفزان - المكاييل - والميزان ففيه الزكاة (المصدر، ص9 3 ).

5 7 فمن ذلك ما ذكره الامام الصادق من انه سُئل عن الزكاة؟ فقال: وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والبقر والغنم والابل، فقال السائل: فالذرة؟ فغضب (ع) ثم قال: كان والله على عهد رسول الله (ص) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك، فقال السائل: انهم يقولون انه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (ص) وانما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك؟ فغضب الامام وقال: كذبوا، فهل يكون العفو الا عن شيء قد كان، لا والله ما اعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (وسائل الشيعة، ج9 ، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث3 ، ص4 5 ). وعن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد الله بن محمد الى ابي الحسن (ع): جعلت فداك، روي عن ابي عبد الله (ع) انه قال وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة اشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة والغنم والبقر والابل، وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقال له القائل: عندنا شيء كثير يكون باضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الارز، فقال ابو عبد الله (ع): اقول لك: ان رسول الله (ص) وضع الزكاة على تسعة اشياء وعفى عما سوى ذلك، وتقول: عندنا ارز وعندنا ذرة، وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (ص)؟! فوقع (ع): كذلك هو، والزكاة كل ما كيل بالصاع (المصدر، حديث6 ، ص5 5 ـ6 5 ). وعن محمد بن الطيار قال: سألت ابا عبد الله (ع) عما تجب فيه الزكاة؟ فقال: في تسعة اشياء: الذهب والفضة، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، والابل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقلت: اصلحك الله، فان عندنا حباً كثيراً، قال: وما هو؟ قلت: الارز، قال: نعم، ما اكثره، فقلت: أفيه الزكاة؟ فزبرني وقال: اقول لك ان رسول الله (ص) عفا عما سوى ذلك وتقول لي ان عندنا حباً كثيراً، أفيه الزكاة؟! (المصدر، حديث2 1 ، ومثله حديث3 1 ، ص8 5 ـ9 5 . وانظر على شاكلة ما سبق من الروايات ما جاء في: مستدرك الوسائل، ج7 ، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، ص8 3 ).

6 7 وسائل الشيعة، ج9 ، ص4 6 .

7 7 انظر حول ذلك النصوص في: وسائل الشيعة، ج9 ، ص4 5 1 .

8 7 فقه الامام جعفر الصادق، ص6 7 ـ7 7 .

9 7 اعلام الموقعين، ج2 ، ص7 .

0 8 الموافقات،ج4 ، ص4 7 1 .

1 8 عن كتاب الخراج في الدولة الاسلامية للريس.

2 8 تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: النقود الاسلامية (شذور العقود في ذكر النقود)، تحقيق واضافات محمد بحر العلوم، دار الزهراء، بيروت، ط6 ، 8 0 4 1 هـ ـ 8 8 9 1 م، ص9 7 .

3 8 اعلام الموقعين، ج1 ، ص3 3 3 . وفقه الامام الصادق، ج3 ، ص4 7 2 .

4 8 اعتمدنا على ما سبق من نصوص على: علي احمد السالوس: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، دار الثقافة بقطر ـ دار الاعتصام بمصر، 0 9 9 1 م، ص1 2 ـ4 2 .

5 8 جواهر الكلام، طبعة دار الكتب الاسلامية، ج5 2 ، ص6 6 . يعود الخلاف الاساس في ذلك الى الخلاف الحاصل في الروايات المنقولة بهذا الصدد. فمن ذلك ما جاء عن يونس انه قال: كتبت الى الامام الرضا (ع) بأن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الايام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، او ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب الامام الي: لك ان تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما اعطيته ما ينفق بين الناس (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دراهم فسقطت، حديث1 ، ص6 0 2 . وعلى هذه الشاكلة لاحظ: مستدرك الوسائل، ج3 1 ، نفس العنوان من الكتاب والباب، حديث1 ، ص3 5 3 ـ4 5 3 ).

وفي رواية معارضة عن يونس ايضاً انه قال: كتبت الى ابي الحسن الرضا (ع) انه كان لي على رجل دراهم، وان السلطان اسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أغلى من الدراهم الاولى، وهي اليوم وضيعة، فاي شيء لي عليه الاولى التي اسقطها السلطان، او الدراهم التي اجازها السلطان؟ فكتب له الامام: لك الدراهم الاولى. (المصدر، حديث2 ، ص6 0 2 ). وعن الامام الرضا سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم او تغيرت، ولا يباع بها شيء: ألصاحب الدراهم الدراهم الاولى او الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الاولى (المصدر، حديث4 ، ص7 0 2 ).

فكما يلاحظ ان هناك شيئاً من التعارض الظاهر في الروايات في حل المشكل الخاص بالدراهم الساقطة. حتى ان الشيخ الطوسي حاول حل مثل ذلك التعارض بالقول بأنه متى كان على المقترض دراهم بنقد معروف فانه ليس له الا ذلك النقد، اما لو كان عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فانما له الدراهم التي تجوز بين الناس (المصدر، ص7 0 2 ).

6 8 هناك عدد من الروايات والنصوص التي تبدي حالة التغير في اسعار المواد وكيفية التعامل معها خلال القرن الثاني للهجرة. فمن ذلك ما جاء عن محمد بن الحسن انه كتب الى الامام ابي محمد (ع) يقول له: رجل استأجر اجيراً يعمل له بناءاً او غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطناً وغير ذلك، ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان اعطاه الى نقصان او زيادة، أيحتسب له بسعر يوم اعطاه، او بسعر يوم حاسبه؟ فوقع (ع): يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله. وأجاب (ع) في المال يحل على الرجل فيعطي به طعاماً عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقع (ع): له سعر يوم اعطاه الطعام (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من اشترى طعاماً فتغير سعره، حديث4 ، ص5 8 ). وعن محمد بن الحسن ايضاً انه قال: كتبت الى الامام (ع) في رجل كان له على رجل مال، فلما حل عليه المال اعطاه بها طعاماً او قطناً او زعفراناً، ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين او ثلاثة، ارتفع الطعام والزعفران والقطن او نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي اعطاه وحلّ ماله عليه، او السعر الذي بعد شهرين او ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقع (ع): ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام ان شاء الله. قال: وكتبت اليه: الرجل استأجر اجيراً ليعمل له بناءاً او غيره من الاعمال، وجعل يعطيه طعاماً او قطعاً وغيرهما، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان اعطاه الى نقصان او زيادة، يحسب له بسعره يوم اعطاه او بسعره يوم حاسبه؟ فوقع: يحسب له سعر يوم شارطه فيه ان شاء الله (المصدر، حديث5 ، ص5 8 ـ6 8 ).

ويلاحظ ان مثل هذه النصوص تؤكد على ان مورد التعامل انما هو بحسب السعر المتعارف عليه عند الاداء، ولم يؤخذ باعتبار التغيرات الجزئية للمواد الاستهلاكية، ربما لكونها ليست في مقام المال المتداول، لهذا كان النظر في ذلك الى ذات المال، اي يمكن ان تكون معنية باعتبار تحديد القيمة الفعلية التي يصلح فيها التبادل.

7 8 من النصوص التي تؤكد حصول بعض حالات تغير القيمة التبادلية للمال خلال القرن الثاني للهجرة؛ ما جاء عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي انه قال: سألت ابا الحسن موسى (ع) عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورقاً في حوائجه، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق، وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه، ثم يتغير السعر قبل ان يحتسبا حتى صارت الورق اثنى عشر بدينار، هل يصلح ذلك له، وانما هي بالسعر الاول حين قبض كانت سبعة وسبعة ونصف بدينار؟ قال: اذا دفع اليه الورق بقدر الدنانير فلا يضره كيف كان الصروف فلا بأس (وسائل الشيعة، ج8 1 ، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دنانير او دراهم، حديث1 ، ص3 8 1 ). وعن عمار قال: سألت ابا ابراهيم (ع) عن الرجل يكون لي عليه المال فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فاذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير، اي السعرين احسب له، الذي كان يوم اعطاني الدنانير، او سعر يومي الذي أُحاسبه؟ فقال: سعر يوم اعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه (المصدر، حديث2 ، ص3 8 1 ـ4 8 1 ). وعن الامام الصادق قال في الرجل يكون له على رجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه، فتصير الدنانير بزيادة او نقصان، قال: له سعر يوم اعطاه (المصدر، حديث5 ، ص5 8 1 ).

8 8 ابن تيمية: القياس، ضمن القياس في الشرع الاسلامي، مقدمة محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، ط2 ، 5 7 3 1 هـ، ص9 .

9 8 علل الشرائع، ج2 ، باب5 3 2 ، ص5 9 1 . وتاريخ المذاهب الاسلامية، ص2 1 7 .

0 9 شبيه بهذا ما وقع معي في السابق، اذ كان لي صديق أقرضني مبلغاً قدره خمسمائة وعشرون ديناراً عراقياً، وذلك عام 8 7 9 1 م، ومازلت بحكم الظروف المانعة لم اسدد المبلغ المطلوب، وحيث ان العملة العراقية أصابها الهبوط والانهيار خلال السنوات الاخيرة بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، حتى وصل سعر الدولار الواحد يقدر بالفي دينار او اكثر، في حين كان الدينار يساوي آنذاك اكثر من ثلاثة دولارات، وعليه فهل من العدل ان اسدد - لو امكنني - الدائن واسلمه الخمسمائة دينار على حالها؟! وهل يعقل ان يكون من الربا لو طالبني الدائن لاسلمه ما يعدل القيمة الشرائية للمبلغ بحسب ما كانت عليه آنذاك وقت نفوذ القرض.. فاين العدل من هذين الامرين؟!

1 9 كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (2 )، مجلة رسالة الثقلين، عدد 9 ، قم، 5 1 4 1 هـ ـ 4 9 9 1 م، ص4 0 1 .

2 9 المصدر، ص 5 0 1 .

3 9 الطرق الحكمية، ص6 1 ـ7 1 .

4 9 اعلام الموقعين، ج4 ، ص3 7 3 . بل العدل الذي قامت به السماوات والارض هو ذاته الذي قيل بشأنه -كما ينقل ابن تيمية- بأن ((الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام، وذلك ان العدل نظام كل شيء)) (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص6 4 1 ).

5 9 مهدي مهريزي: الفقه والزمان، قضايا اسلامية، عدد5 ، 8 1 4 1 هـ ـ7 9 9 1 م، ص6 7 2 .

6 9 جواهر الكلام، ج2 4 ، ص4 . كذلك انظر: فقه الامام الصادق، ج6 ، ص3 5 3 . ومصادر التشريع الاسلامي في ما لا نص فيه، ص3 6 1 .

7 9 مصادر التشريع الاسلامي، ص3 6 1 .

8 9 عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الاربعة، مكتبة ايشيق، استانبول، 7 9 3 1 هـ ـ7 7 9 1 م، ج2 ، ص1 0 6 . ويوسف القرضاوي: فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، ط3 ، 7 9 3 1 هـ ـ 7 7 9 1 م، ج1 ، ص2 6 2 .

9 9 فقه الزكاة، ج1 ، ص3 6 2 ـ4 6 2 .

0 0 1 فقه الزكاة ج1 ، ص6 6 2 .

1 0 1 فقه الزكاة، ج1 ، ص9 6 2

2 0 1 المنار، ج5 ، ص5 3 3 . كذلك: السيد سابق: فقه السنة، دار الفكر، بيروت، ط4 ، 3 0 4 1 هـ ـ 3 8 9 1 م، ج2 ، ص6 6 4 . وأحكام القرآن، ج1 ، ص5 7 4 .

3 0 1 المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص3 6 1 .

4 0 1 ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2 ، 1 0 4 1 هـ ـ 1 8 9 1 م، ج2 ، ص9 1 ـ1 2 . كذلك: فتح الباري، ج3 ، ص4 7 3 . ونيل الاوطار، ج4 ، ص3 5 2 .

5 0 1 المنار، ج7 ، ص9 9 .

6 0 1 المنار، ج5 ، ص9 1 2 .

7 0 1 انظر في هذا الصدد الفصل الثالث من كتابنا (جدلية الخطاب والواقع).

8 0 1 فقه الامام جعفر الصادق ج6 ، ص7 6 3 .

9 0 1 الزرقاء: الفقه الاسلامي في ثويه الجديد، ج1 ، ص5 7 1 ـ6 7 1 . وابن سلام: الاموال، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، ط1 ، 1 8 9 1 م، ص1 3 . وابن رشد (الجد): البيان والتحصيل، دار الغرب الاسلامي، بيروت، 4 0 4 1 هـ ـ4 8 9 1 م، ج7 1 ، ص4 1 5 .

0 1 1 مجموع فتاوى ابن تيمية، ج9 2 ، ص1 1 2 .

1 1 1 شرائع الاسلام، مصدر سابق، ج3 ، ص1 7 2 ـ2 7 2 . وفقه الامام الصادق، ج5 ، ص4 4 . وحسين علي منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، إيران ، ط2 ، 9 0 4 1 هـ، ج3 ، ص0 9 1 ـ1 9 1 .

2 1 1 فقه الامام الصادق، ج5 ، ص4 4 ـ5 4 .

3 1 1 من ذلك ما روي عن الامام الصادق (ع) عن النبي (ص) قوله: ((أكثروا الولد أكاثر بكم الأُمم غداً)) (وسائل الشيعة، ج1 2 ، كتاب النكاح، باب استحباب الاستيلاد وتكثير الاولاد، حديث8 ، ص7 5 3 . ومثله حديث4 1 ، ص8 5 3 ).

4 1 1 التنقيح، كتاب الاجتهاد، مصدر سابق، ص7 2 4 .

5 1 1 فقه الامام الصادق، ج2 ، ص9 4 .

6 1 1 فقه الامام الصادق، ج6 ، ص7 3 1 و9 3 1 .

7 1 1 الفقه على المذاهب الخمسة، ص2 5 3 ـ3 5 3 .

8 1 1 ذلك ان العالم الفلكي (لفيريار) قد اكتشف الانحرافات عن المدار المتوقع نظرياً في حركة كوكب عطارد، ومثلما هو الامر في حالة يورانوس حاول هذا العالم توضيح تلك الانحرافات كنتيجة من السحب الجذبي من كوكب لم يتم اكتشافه والعثور عليه، حيث افترض انه يقع بين عطارد والشمس وانه صغير الحجم جداً وذو كثافة عالية، لكن توضح فيما بعد انه لا يوجد هكذا كوكب، وانه أمكن تفسير تلك الانحرافات تبعاً لنظرية النسبية العامة لانشتاين. انظر:

Carl G. Hemple, Philosophy of Natural Science, 1996, current printing 1987, USA, p.54.

9 1 1 انظر مثلاً:

L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار