التكافؤ المعرفي بين المختص وغيره

يحيى محمد

يتأسس بحثنا هذا على الفرض الذي يعتبر الحجة المعرفية هي ليست رهينة المختص فقط. فقد يكون غير المختص منافساً في حجته للاول وانهما معاً يتكافآن من الناحية المبدئية فيما يقدمانه من تصديقات معرفية منضبطة، بحيث ليس كل ما يصدر عن المختص يُقبل من غير اهمال، ولا كل ما يصدر عن غير المختص يهمل من غير قبول. والسؤال هو كيف يمكن ان نثبت هذا المدعى؟ وما هي الضوابط والاعتبارات التي نقدمها بهذا الصدد؟ وهل ينطبق ما نريد اثباته على العلوم الطبيعية ام ينحصر الامر على الدراسات الانسانية فحسب؟ ثم ما هو الغطاء الشرعي لفحوى تطبيقه على الدراسات الدينية؟

فنحن اذا ما امكننا الاجابة عن تلك الاسئلة فسيتاح لنا استلهام المقارنة وتطبيقها على الفقيه والمثقف الديني باعتبارهما فاعلين مهمين في الدراسات الاسلامية. فرغم ان الاول مختص والاخر خلافه على الغالب؛ الا ان ما يحملانه من تصورات وما يستندان اليه من مصادر وآليات واصول معرفية مختلفة؛ كل ذلك يضعهما على محك التنافس وعتبة الاختبار.

اذن ينبغي ان ندلل على وجود اشتراك مبدئي في حقانية المعرفة التي تصدر عن الانسان باعتباره صاحب عقل ووجدان، سواء كان مختصاً او غير مختص، وذلك عندما نثبت ان العلم لا يتوقف على تقديم الادلة الصناعية، بل واحياناً يكون العلم الوجداني مرجحاً على العلم الناتج عبر تلك الادلة، وذلك بحسب ما سنذكره من الاعتبارات التالية:

1 ــ التساوي في الكشف الوجداني

ذلك ان هناك وجداناً كاشفاً للعلم يتساوى فيه كل من المختص وغيره حتى مع عدم قدرة هذا الاخير على تقديم الادلة الصناعية. ففي حالات معينة يصح للفرد ان يعتمد على وجدانه واطمئنانه في الرفض والقبول وإن لم يعلم وجه الدليل العلمي في القضية بالدقة والضبط. فمثلاً ان الكثير من الناس يؤمنون بوجود الله ووحدانيته اعتماداً على الوجدان وليس بفعل الدليل العلمي، وذلك لعدم معرفتهم صورة هذا الدليل على نحو الضبط والتحديد. انما تحليل آلية الاعتقاد هذه يمكن ان تُستكشف بفعل ما يقوم به العقل الباطن من الربط بين تراكمات الاحساس بالقرائن الدالة على ذلك الاعتقاد. وهو الوجه الذي نبّه عليه القرآن الكريم بالتذكير في تأمل الايات الكونية وبداعة نظامها، حيث انه اقرب الى فهم الوجدان، بلا حاجة لصنعة الدليل وصياغته المنطقية 1 .

مع هذا يصح الفات النظر الى الدليل العلمي بطريقة صب القالب المنطقي على الرؤية الوجدانية. ففي مثالنا السابق يفسر التصديق بوجود الله طبقاً للقيم الاحتمالية المتجمعة تبعاً للقرائن الاستقرائية. اي انه لا مانع من ان يُضفى على الرؤية الوجدانية صبغة الدليل العلمي، شبيه بما نبّه عليه ابن خلدون الذي يرى ان ما يقام من تجربة حدسية يجب ان يصاغ ضمن القوالب المنطقية التي تليق بالعلم المعنية به، ذلك انه يوصي بالرجوع الى قوالب الأدلة وصورها لافراغ المطلوب الحدسي فيها وايفائه حقه من ((القانون الصناعي)) ثم كسوته بصور الالفاظ وابرازه الى عالم الخطابة والمشافهة كي يكون وثيق العرى صحيح البنيان 2 . مما يعني ان هناك قضايا يتساوى فيها التصديق بين المختص وغيره؛ سواء في ملكة التصديق ذاتها، او في قوته وقيمته. فالوجدان العقلي واحد ومشترك بينهما بالتماثل. ويعزز هذا الامر ما قدمته بعض الدراسات الانثروبولوجية من نتائج كشفت عن وجود ذهنية واحدة لدى البشر بخلاف الزعم الذي يرى وجود ذهنيتين مختلفتين، بدائية وحديثة. فمثلاً ان دوركايم في كتابه (أُصول الحياة الدينية) أكد على ان المعارف الروحانية والدينية التي تشكل بنية التفكير لدى ذهنية المجتمعات البدائية هي ذاتها كانت السبب في تبلور الفكر المنطقي لدى المجتمعات الحديثة. اي ان الفكر المنطقي لدى الذهنية الحديثة لم يقاطع الفكر الروحاني والديني لدى الذهنية البدائية، بل ان هذه الاخيرة هي اساس الاولى ومصدر نشوئها. وبالتالي فان مصدر العلوم والفلسفة انما هو التصورات الدينية والروحانية، وان الذهنية الحديثة لم تستطع قط ان تمحو الاثار والمنطلقات المعرفية التي انبتتها الذهنية البدائية، مثلما هو الحال مع مفاهيم كل من الزمان والمكان والسبب وغيرها من المفاهيم التي ألفتها الفلسفة والعلوم، فهي بالتالي وريثة الدين، وانه لا توجد الا عقلية واحدة شمولية، وان الاختلاف بين الذهنيتين السالفتي الذكر انما هو اختلاف في الدرجة وليس النوع 3 .

و ما يفاد من ذلك هو ان نظام المعرفة لدى البشر يجري وفق قواعد وقوانين عامة مشتركة، وهي وإن لم تكن موضع التفات لدى اغلب الناس بمن فيهم اصحاب التخصصات المعرفية المختلفة، وكذلك رغم كونها محدودة العدد؛ الا انها ذات آليات فاعلة في الوعي الباطن او اللاشعور، حيث يوظفها كل منّا في نتاجه المعرفي غير المحدود، ولولاها ما كان للبشر ان يمتلك القدرة والحرية على النتاج المفتوح، بل لكانت المعرفة لديه لا تخرج عن كونها انعكاسات مباشرة ومحددة للبيئة. في حين ان وجود هذا النظام الشامل، يجعل القدرة على التفكير وتوليد المعرفة غير متناهية، حيث تتم اليات الاستدلال والاستنتاج وإن كنا غير واعين بها. والمهم هو انها تنطلق من مبادئ واليات صحيحة يشترك في توظيفها المختص وغيره، سواء كان ذلك بوعي او بغير وعي. فمثلاً ان القياس المنطقي والاستقرائي يفهمه ويعمل به كل انسان بدلالاته المباشرة وإن لم يعِ قواعد اليات التحكم فيهما. فاغلب معارف الانسان قائمة على هذا النحو. كذلك فبفضل هذا النظام الفطري الذاتي، يستطيع الانسان ان يميز بين صحيح المعرفة وخطئها، فمثلاً انه من السهل عليه ان يدرك صدق القياس القائل: اذا كان كل انسان فان، وان محمداً انسان، فمحمد فان. بل ويدرك ان النتيجة في القياس السابق لو غيرت بنحو ما، مع بقاء المقدمة كما هي، فان القياس يصبح خاطئاً، مثلما انه يدرك خطأ القياس الذي يقول: بعض الحيوانات تغرّد، والحمار حيوان، لذا فالحمار يغرّد. وكل ذلك يعود الى ما للانسان من قدرة على التمييز بفعل ما يمتلكه من قواعد وآليات ذاتية قادرة على اداء الدور غير المتناهي في كل من التوليد والتمييز المعرفي؛ رغم انه في الغالب لا يعي كيفية ما يزاوله من الاداء المعرفي.

2 ــ التساوي في العلم الذي يعجز البرهان عليه

هناك من العلم ما يخلو من الدليل مطلقاً، وفيه يتساوى العالم المختص وغيره. ذلك اننا نجد قضايا لا تخضع الى اعتبارات الدليل رغم انها موضع ايمان يتساوى فيها المختص وغيره عادة. ولست اقصد بذلك البديهيات وضرورات العقل والادراكات المباشرة للعلم الحضوري، وانما بعض القضايا الخارجية التي يعجز البرهان عن ان ينالها. فهي محض اعتقاد وجداني يتفق عليها الناس وإن اختلفوا في مراتبهم الثقافية والعلمية. ومن ذلك قضية الواقع الموضوعي العام، حيث ليس من الممكن الاستدلال على صدقه واستبعاد ان يكون مجرد احساس نفسي كالذي يحدث في المنام. فمن المحال على الدليل العلمي استبعاد ما يفترضه احدنا ويقول ان هذه الحياة مجرد حلم طويل ليس في قباله ما نطلق عليه الواقع الموضوعي. فمثل هذه القضية ليست من القضايا العقلية الضرورية او البديهية كما ذهب الى ذلك الفيلسوف الطباطبائي صاحب (الميزان) وتابعه في ذلك المفكر الصدر في (فلسفتنا) 4 ، كما انها ليست استقرائية مثلما آل اليه اعتقاد هذا الاخير في (الاسس المنطقية للاستقراء) 5 . انما هي قضية وجدانية صرفة لا تخضع الى منطق الضرورة ولا الى منطق الدليل. فمن الناحية العملية نجد انفسنا ملجئين بالغريزة الى توكيد الواقع الموضوعي دون التأثر بأي شك قد يفرضه المنطق علينا 6 . وهنا تتجلى اعظم آيات الرحمة الالهية، حيث لولا هذه الغريزة الملجئة لكان منطق الشك قد القى بظلاله علينا وجعلنا في شقاء دائم غير منقطع. ورحم الله الغزالي حينما قال: ((من ظنّ ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة)) 7 .

وعلى نفس الشاكلة نواجه بعض القضايا الميتافيزيقية التي نراها واضحة وضوحاً شافياً وإن لم يتحقق لدينا البرهان عليها. ومن ذلك قضية نفي التسلسل غير المتناهي للعلل الفاعلة. فرغم محاولات الفلاسفة من وضع العديد من الادلة الصناعية لهذا الغرض، ومن المتأخرين من اوصل هذه الادلة الى عشر كما فعل صدر المتألهين وإن ناقش بعضها ونقدها 8 ، فرغم ذلك يمكن القول انصافاً انه لا يوجد فيها ما يرضي الوجدان ويقطع دابر الشبهة. ومع انه لسنا هنا بصدد مناقشتها، ولعلنا سنقوم بذلك في دراسة خاصة، لكنا نقول: ان كلاً من قضيتي الاصل النهائي والتسلسل غير المتناهي كلاهما يستمدان نفس القدر منطقياً من فكرة الازلية. وبالتالي فليس لدينا دليل صناعي يمكننا به ابطال التسلسل او اثباته. فتصور الازلية في حد ذاته يتيح الامكان لكلا القضيتين المتعارضتين. اذ الازلية عبارة عن وعاء وجودي لا نهائي، كما قد يشغله الواحد الاصل، فكذا قد يشغله الكثير المتسلسل بلا فرق بحسب الحد المنطقي. لهذا لم يمنع الفلاسفة - ذاتهم - فكرة التسلسل في العلل او الاسباب العرضية التي لها صفة الإعداد الشرطي طبقاً لذات المبدأ من الازلية، بل ان مفاد مذهبهم هو القول بهذا، وقد سبق ان اشار ابن رشد الى ذلك النوع من التسلسل عندما حاول التفرقة بين العلل العرضية والعلل الذاتية، حيث اعتبر ((أن الفلاسفة يجوزون وجود حادث عن حادث الى غير نهاية بالعرض إذا كان ذلك متكرراً في مادة منحصرة متناهية مثل أن يكون فساد الفاسد منهما شرطاً في وجود الثاني فقط ..)) 9 . فالفلاسفة أجازوا التسلسل في العلل العرضية، لكنهم منعوه في العلل الذاتية، رغم ان المآل واحد، وان الوعاء هو هو، لا فرق بين ان يشغله واحد او كثير، عرضياً كان او ذاتياً.

مع هذا فمن حيث الوجدان نجد ان فكرة التسلسل للعلل الذاتية مستبعدة في قبال فكرة الاصل الواحد. بل حتى ان الوجدان يتقبل فكرة تسلسل العلل العرضية، في حين ليس الامر كذلك مع العلل الذاتية رغم عدم وجود البرهان القاطع ضدها. فالوجدان يميل الى فكرة الاصل الاول بغض النظر عن التسلسل اللانهائي الذي يصدر عنه عرضياً، طالما ان الوجود محكوم بالازلية حتماً. فلدينا هنا ثلاثة تصورات متنازعة: احدها يقول بفكرة الاصل الاول مع وجود بداية للحوادث، والثاني يقول بنفس هذه الفكرة لكن مع عدم وجود بداية للحوادث. أما الثالث فلا يعترف بوجود الاصل وينظر الى جميع الحوادث والعلل بأنها تسلسلية غير منتهية الى اصل محدد. ويلاحظ ان التصورين الاولين يقبلهما الوجدان لانهما ينطويان على نفس المآل من وجود اصل اول لا سابق له بخلاف التصور الاخير. لذا تجد الناس يتفقون على الاصل الاول سواء كان طبيعة او الهاً، في حين يصعب العثور على من يقول بوجود سلسلة غير متناهية من العلل الذاتية. بل حتى من الناحية العلمية ان العلماء يتوقفون عند حد لبداية الحوادث الكونية، ويستهجنون البحث في توالي الحوادث الى ما لا بداية له. وفي المحصلة انك إما ان تجد من يقول بوجود اصل مع ما يتبعه من علل عرضية متسلسلة لا نهائية كما يقول فلاسفتنا القدماء، او من يقول بوجود اصل ينتج عنه حوادث لها بداية كما هو قول الكلاميين من اهل الاديان السماوية، او من يقول بوجود حوادث تنتهي عند حد معين كما هو رأي الماديين، لكن ربما لا تجد من يقول بان علل الحوادث ليس لها اصل ولا بداية. وبهذا كأن الوجدان البشري لا يستوعب مثل هذا الفرض الاخير، رغم عدم وجود ما يبرهن على نفيه. أما تفسير ذلك فيعود الى ان الوجدان يميل الى الفروض التي تتصف بالبساطة ويفضلها على الفروض الاكثر تعقيداً طالما تساوى الغرض بين الفرضين. ومبدأ البساطة هو من اهم المبادئ التي يقبلها العلم المعاصر، وهو غير معني بالتفتيش عن حقائق الامور الواقعية، او ما يطلق عليه التحقق، بل يؤخذ به لاعتبارات وجدانية ونفعية، وهي ان القضية البسيطة مرجحة على نظيرتها المعقدة حينما تتكافأ في النتائج 0 1 . الامر الذي يصدق على ما نحن بصدده. اذ لا فرق بين الاصل الاول والتسلسل غير المتناهي من حيث ان كلاً منهما يشغل الوجود الازلي، لكن التعويل على فكرة الاصل الاول يعني ان هذا الاصل فيه من آنات الزمان الوجودي ما يمكن اعتبارها بمثابة العلل المتسلسلة غير المتناهية. وحيث ان الفرضين يحققان نفس النتيجة بلا اختلاف؛ لذا لا حاجة من افتراض فكرة التسلسل طالما انها متحققة في فكرة الزمان الوجودي للاصل الاول، وذلك لاعتبارات البساطة في هذه الاخيرة قياساً مع نظيرتها السابقة.

وقريب من ذلك الى حد ما، يمكن ان يقال بشأن قضايا فلسفية لازالت تعد من المسائل الشائكة، مثل قضية الفضاء (الكوني) او الخلاء. فربما ان الوجدان يميل الى اعتباره غير متناهي الابعاد، مع وجود المادة المتناهية. حيث من الصعب ان يتصور العقل محدودية الفضاء وذلك للاشكال الذي يرد عما بعده، اذ كيف يمكن تصور ما هو خارج عنه؟! في حين يسهل على العقل ان يتقبل فكرة اللانهاية فيه. على ذلك فان الفكرة العلمية في تمدد الكون وانه شبيه بالمنطاد الآخذ بالتوسع والانتفاخ؛ ليست معقولة ما لم يكن تصور ذلك يجري ضمن فضاء غير متناه يسمح بعملية التوسع والتمدد 1 1 . وبالتالي فان فكرة اللانهاية في الفضاء هي كفكرة اللانهاية في الزمان الوجودي تعد من الوجدانيات التي يتقبلها العقل البشري، لكن لا باعتبار انها بسيطة وانما لكونها مفهومة مقارنة مع غيرها من الاطروحات المنافسة التي تفتقر الى حد ما نطلق عليه (المفهومية).

إن الامثلة التي عرضناها تؤكد لنا بان التصديق لا يتوقف دائماً على الادلة الصناعية، وان من الممكن ان يشترك في حقانية مثل هذا التصديق كل من المختص وغيره.

3 ــ ترجيح العلم الوجداني على الدليل الصناعي

ان من الجائز ترجيح العلم الوجداني التلقائي وتقديمه على العلم الممنطق الصناعي. وهو حكم نال قبولاً لدى عدد من المفكرين المسلمين. فقديماً ذهب ابن خلدون الى ان بعض العلوم يمتلك من الموارد ما يترجح فيها الرؤية الوجدانية العادية على تلك التي تنطبع بطابع الدليل الصناعي، وبالتحديد انه قام بترجيح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص، وذلك بشأن معرفة شؤون الواقع وكيفية التعامل معه، مثلما هو الحال مع القضايا السياسية. فقد اعتبر العلماء معتادين على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل امور كلية عامة ومطلقة ثم يطبقونها على الوقائع الخارجية، او يقيسون الامور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الامر الذي يجعلهم يقعون في كثرة من الغلط حين ينظرون في السياسة باعتبارها تحتاج الى مراعاة ذلك الواقع، والنظر في كل حالة جزئية فيه بما يلائمها من الاحكام. وهو بهذا ينتصر لغير المختص والذي يطلق عليه ((العامي سليم الطبع المتوسط الكيس))، اذ يرى انه لقصور فكره عن الغوص في المعاني العميقة والتجريد، وعدم اعتياده لذلك فانه يقتصر في كل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الاحوال والاشخاص على ما اختص به دون ان يعدي حكمه بالقياس والتعميم، بل لا يفارق في اكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج كما يقول الشاعر:

فلا توغلن اذا ما سبحت فان السلامة في الساحل 2 1 .

وحديثاً ذهب محمد عبده الى ان اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان ولا على التخصص، فاعتبر ان الادلة العقلية كما وضعها المتكلمون وسبقهم الى كثير منها الفلاسفة الاقدمون ((قلما تخلص مقدماتها من خلل، او تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، او في نفسه اذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من اولئك الاميين ما لا يلحقه في يقينه الاف من اولئك المتفننين الذين أفنوا اوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالاً من ادنى المقلدين)) 3 1 .

بل احياناً يلجأ اصحاب التخصص الى اعتباراتهم الوجدانية وسائر التأثيرات الثقافية والبيئية بصورة تلقائية، وربما من غير وعي، حتى لو كان ذلك على حساب الصنعة. ومن ذلك ما تفرضه عليهم التأثيرات العرفية والمرتكزات العقلائية التي قد تؤدي دورها على حساب الصنعة الاستدلالية. وقد بات معلوماً ما لهذه العوامل من دور فاعل في الفكر العلمي، فاصبحنا نسمع عن عناصر الحدس والخيال والثقافة البيئية والاغراض الميتافيزيقية والنواحي الشخصية وغيرها من العوامل التي تدخل ضمن وشائج الذهنية العلمية التي يستحيل التخلص منها، فمثلاً يُعتقد ان نظرية الكم او الكوانتم للفيزياء الذرية كانت الى حد بعيد وليدة الهزيمة العسكرية الالمانية في الحرب العالمية الاولى 4 1 . ومن الناحية المبدئية اخذ الفكر العلمي يميل الى الاعتراف بوجود التعقل والاستدلال من غير صرامة المنطق الصوري، بل واعتبار ان من الممكن وجود هذا التعقل بكيفية صحيحة بدون منطق، كما هو صريح ما يقوله (جونسن ــ لايرد). وكذا ما صرح به (هلتون) من انه ((لا توجد طريقة مقعّدة، ولا نسق منطقي للاكتشاف، ولا تطور متصل بسيط. بل ان سيرورة الاكتشاف متنوعة بقدر ما تتنوع أمزجة العلماء)) 5 1 . ومثل ذلك ما يؤكده العالم الفيزيائي (أرنست ماسن) من ان العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة ليست عملية بسيطة، وانما هي عملية بالغة التعقيد. وهي عنده في المقام الاول ليست منطقية بالرغم من انه يمكن ادخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي الى اكتشاف معرفة جديدة انما يرجع الى التجريد والخيال 6 1 . وعلى رأي فيلسوف العلم المعاصر (فيليب فرانك) انه اذا درسنا بدقة كيف نعثر على مبادئ جديدة في العلم، يتضح لنا ان مبدءاً مثل قانون القصور الذاتي، او مبدأ النسبية، لا يمكن اختراعهما بأي طريقة نظامية (استدلالية او استقرائية)، ولكن يتم ذلك فقط باستخدام القدرة الذاتية الاختراعية، وهي ما تسمى ايضاً الخيال واحياناً الحدس، كالذي أكد عليه اينشتاين في احدى محاضراته 7 1 . وفي هذا الاطار عُرف ان هناك صنفين من العلماء يمارسون الحدس الاستكشافي بشيء من الاختلاف: فهناك الصنف المحترز الذي يعمل بالاحتياط ولا يقبل تفسير الظاهرة موضع البحث الا بعد وفرة عدد مقبول من القرائن. كذلك هناك الصنف المغامر الذي يتسرع الى وضع الفروض التفسيرية ولو بحد ضئيل من الشواهد المؤيدة مع غياب المكذب. بل لقد وُصفت الطريقة العلمية في منهجها الحدسي بأنها عادة ما تمارس مغالطة منطقية؛ كتلك التي مُثلت بالقياس التالي:

ان الكلب هو حيوان لبون.

ان هذا الذي أمامي هو حيوان لبون.

اذن ان هذا الحيوان هو كلب.

فقد عُد هذا التصوير المتضمن للمغالطة المنطقية، يمثل بدقة ما عليه النظريات العلمية 8 1 .

وفي علم الفقه يرجح المفكر الصدر ان فتاوى الفقهاء حول موارد السلطنة (الناس مسلطون على أموالهم) انما جاءت بحسب ما تأثر به الفقهاء من ارتكازاتهم العقلائية اكثر مما تأثروا به من الصناعة الاستدلالية 9 1 . وعلى رأيه ان هناك حالة نفسية عند كثير من الفقهاء تمنعهم عن إعمال الصنعة في مقام استنباط الحكم الشرعي لكثير من الموارد الفقهية، الامر الذي دعاهم الى التفتيش عن اساليب استدلالية مستحدثة لتلائم تلك الحالة النفسية؛ كدعوى حجية الشهرة والاجماع المنقول وانجبار الخبر ووهنه تبعاً لعمل الاصحاب الاسلاف وإعراضهم..ثم ان من القواعد التي اصطنعت لايفاء تلك الحالة النفسية؛ مسألة الارتكاز العقلائي في السيرة، اذ كلما بطلت تلك الدعاوى في أذهان الفقهاء فانهم يعوضون الامر في توسعتهم لدليل الارتكاز العقلائي كي يفتوا بما يتفق والحالة النفسية التي هم عليها، بعيداً عن المألوف من الصنعة الفقهية المتوارثة 0 2 . والمفكر الصدر يتقبل الاطمئنان الناشئ عن هذه الحالة، ويرى ان حجية الاعتقاد غير متوقفة على الدليل، وذلك ما دام ان العلم ذاته غير متوقف على البرهان والدليل، وانما قد يحدث بعلة تؤثر في النفس تكويناً بلا برهان 1 2 . مع ذلك فباعتقاد تلميذه (كاظم الحائري) ان هذا الكلام انما صدر عن السيد الصدر قبل استكشافه لمنطق الاحتمالات وما يؤول اليه الحساب الاحتمالي في المعرفة الموضوعية وامكاناتها عند البحث والتفتيش العلمي، وبالتالي لا يخلو علم موضوعي في غير الضروريات عن ذلك 2 2 . الا ان ما يشكل عليه هو ان من القضايا ما تتحدد بالوجدان وإن لم يستطع الانسان ان يقدم الدليل عليها، وبالتالي يصح له الاعتماد على قناعاته الوجدانية الكاشفة سواء امتلك لذلك دليلاً او لم يكن لديه الدليل الكافي. وهو موضع اشتراك المختص وغيره. ومهما يكن فان السيد الصدر في كتابه (دروس في علم الاصول) - وهو من الكتب المتأخرة - أقر بحجية القطع سواء كان القطع موضوعياً يستند الى البديهة او الدليل، او كان ذاتياً لا يستند الى ذلك مثلما يكثر لدى عوام الناس 3 2 . وبهذا تكون الحجية عند الصدر ليست رهينة الدليل والبداهة.

وما يجب ان يلاحظ بهذا الصدد هو ان هناك نقاط ضعف منهجية قد تتسرب الى المختص فتجعل نتائجه اقل قبولاً من نتائج الوجدانيات العقلائية لغير المختصين. ومن ذلك ما سنذكره من هذين الاعتبارين:

1 ــ قد يبتعد المختص عن المطلوب لكثرة ايغاله بقوالب الاستدلال، فكلما طال الاستدلال كلما زاد احتمال الوقوع في الخطأ.

2 ــ قد يفضي المنهج المتبع في التفكير الى ان تكون نتائجه الظنية هي على خلاف ما يصدّق به الوجدان. مما قد يجعل الاستسلام الى قرار هذا الاخير اقرب وافضل تصديقاً من الاعتماد على الدليل الصناعي مهما كان دقيقاً ومنضبطاً، وذلك ان الدقة والضبط ليستا كافيتين في حد ذاتهما اذا ما اخذنا المنهج المعتمد بنظر الاعتبار، فالقياس المنطقي مثلاً هو صحيح ودقيق، لكنه مع هذا لا يكشف في حد ذاته عن الواقع الموضوعي. فكيف اذا ما اعطى الدليل الصناعي نتائج هي من حيث الوجدان واضحة البطلان 4 2 ؟!

على ان ما ذكرناه لا يقتصر تطبيقه على الدراسات الانسانية، وانما يمتد احياناً الى العلوم الطبيعية. فهناك قضايا منهجية تتنافى والمشاهدة الوجدانية، مثلما هو الموقف من مبدأ الغرضية والحكمة الذي لا تقره هذه العلوم رغم ان الشواهد عليه لا تقبل العد والاحصاء. كذلك هناك قضايا مضمونية لا زال العلم يتقبلها مع ان بعضها واضح البطلان والبعض الاخر فيه الكثير من الغموض والشكوك. ومن ذلك التفسير المادي لنشأة الحياة وتطورها اعتماداً على المصادفات العشوائية، وكذلك التسليم بنظرية التطور رغم ان الادلة عليها ليست كافية لكثرة ما ينتابها من شكوك.

فهنا نجد ان الحجة الوجدانية لغير المختص هي اقوى اعتباراً من حجة اولئك المختصين الذين رضوا لانفسهم ان يتبعوا النهج التعسفي من التفكير المادي الصرف.

هكذا ننتهي الى انه لا فرق في القضية الوجدانية بين ان تكون ملبّسة بالدليل العلمي او عارية عنه، وبالتالي فان صحة التصديق وقوته لا تتوقفان بالضرورة على الصياغة المنطقية للدليل. كذلك لا ضرورة تدعو لترجيح الدليل العلمي على ما يخالفه من القضية الوجدانية. فقد تكون هذه القضية أصح مما يقدم من تلك الملبسة بالدليل الصناعي ما لم يكتسب هذا الدليل صفة القوة الترجيحية من التصديق. ويظل التصديق في جميع الاحوال يعبر عن حالة وجدانية نابعة عن البصيرة او العقل الوجداني والا لأدى الامر الى تسلسل الادلة الى ما لا نهاية له.

الغطاء الشرعي

اذا كنا نعد الدين الاسلامي خلواً من السلطة الكهنوتية وان التخصص في قضاياه المعرفية غرضه تبليغ العلم الصحيح او ما هو اقرب الى الصحة؛ فان رجوع غير المختص الى المختص يفترض امرين هامين: احدهما جهل غير المختص بالقضية التي يراد لها التبليغ. والثاني عدم الشك بصحة القضية التي يعرضها المختص. فلو ان هذين الامرين متحققان للزم ان يكون الرجوع الى المختص واجباً. اما اذا لم يتحقق احدهما او كلاهما فلا جدوى من الرجوع اليه.

وهذا يعني ان فهم القضايا الاسلامية والعلم بها لا ينحصر في دائرة المختصين، مثلما يلاحظ من التلقائية التي كانت تسود بين الصحابة في اخذهم للعلم الشرعي دون الرجوع الى وسائط منهم ما لم يكونوا على جهل او شك فيما يواجهونه من قضايا. فالمهم هو الفهم المقرب للصحة سواء بُني الامر على التخصص وممارسة الادلة الصناعية او على غيره مما يجري بصورة تلقائية. وقد جاء عن النبي (ص) قوله: ((إستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك 5 2 ، وفي رواية اخرى قوله: ((إستفت قلبك وإستفت نفسك، البِرّ ما إطمأنت إليه النفس وإطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك 6 2 .

وهنا نواجه عدداً من القضايا كالاتي:

1 ــ هناك من القضايا الاسلامية ما يستسلم اليها الوجدان دون ان تحتاج الى التخصص عادة، وذلك لوضوحها ولكونها تشكل روح الدين ومقاصده. فمن حيث انها قطعية تعد حجة لا تحتاج الى جعل شرعي كما يقول اصوليونا.

2 ــ ان الفهم المقرب للصحة لا يتوقف بالضرورة على التخصص. ولا على من تتحقق فيه الاعلمية، فملاك الحكم هو الرجحان والاقربية لا التخصص والاعلمية من حيث ذاتهما. ومن حيث الاعلمية يلاحظ ان حكم الاعلم ليس بحجة في حق المجتهد الأقل منه علماً، فالأعلمية شيء والأخذ بالأقربية شيء آخر، وان المجتهد المفضول إنما يعول على ما يراه أقرب الى حقيقة الحكم ولا يعول مطلقاً على ما يقوله الأعلم لعلمه بأن الأقربية مقدمة على الأعلمية. وان الاقربية انما تتحقق بحسب الرؤية التي يُرى فيها الراجح من الادلة، وهو أمر لا يتوقف تحقيقه عند المختص، انما يمكن لغيره ممن يتصف بخاصية التمييز بين الادلة ومن له قوة البصيرة او الوجدان العقلي ان تتحقق لديه الاقربية والترجيح حتى لو كان ذلك على خلاف ما يراه المختص. بل ان التخصص قد يفضي احياناً الى الابتعاد عن ذلك الفهم المقرب. حيث ان اهم ما تتوقف عليه الاقربية هو طبيعة المنهج المتبع، بدلالة ان المختصين كثيراً ما تختلف رؤاهم تبعاً لاختلاف مناهجهم. بل على الرغم من وجود التخصص في عدد من العلوم التقليدية يلاحظ انها اصبحت اليوم في عداد العلوم غير المنتجة لسلوكها النهج المختل في البحث وفهم القضايا، وينطبق عليها ما كان يقوله عرفاؤنا من ان العلم النظري (التخصصي) قد يكون حجاباً مانعاً للعلم الصادق والكشف عن الحقائق.

3 ــ ان ارتكاز الفهم المقرب على النهج السليم يجعل من امكانية غير المختص من ذوي التمييز والنظر ان يدلو بدلوه وذلك من خلال اتباعه هذا النهج، طالما ان الامر لا يتوقف على التخصص. لكن يظل ان التخصص مع ضميمة المنهج الصحيح يجعل الاقربية اعظم واقوى. مع هذا فالمشكلة تنحصر في المنهج المتبع، اذ ان المختصين التقليديين في الشؤون الاسلامية ما زالوا يتبعون ذات المناهج رغم ما فيها من ضعف وداء تبعاً لما تنتجه من رؤى تتصادم احياناً مع المقاصد، واخرى مع الواقع والوجدان.

4 ــ اخيراً ان ما يميز لنا المنهج السليم عن غيره هو بالدرجة الرئيسية يعتمد على ما يقدم من رؤى يراعى فيها حالة التوافق مع مبادئ الاسلام وكلياته، وكذا روح النصوص ومقاصدها، وايضاً وجدان العقل والواقع.

الوجدان والضابط الموضوعي

على انه سواء لدى المختص او غيره من اصحاب التمييز والنظر نجد ان النزعة غير الموضوعية بامكانها ان تتسرب الى الذهنية وبأشكال متعددة. ولا يقال ان هذه النزعة تقل لدى المختص عن غيره باطلاق. بل على العكس، ربما تزداد عنده تلك النزعة مقارنة مع الاخر، وذلك تأثراً بطبيعة مجال البحث وحيويته. فمثلاً في قضايا العقائد وما يتأسس عليها كثيراً ما تصاب الذهنية العلمية بداء النزعة غير الموضوعية، فيشطح عندها الخيال وتتأسس بها الاوهام مما لا نجده لدى الذهنية العادية العقلائية غير المختصة. ومن ذلك ان علم الكلام التقليدي قد أُصيب بداء نزعة الايديولوجيا المذهبية، حيث فيه كانت المذهبية كانتماء اجتماعي هي اساس تكوين العلم لا العكس، واصبح العمل المعرفي مساقاً بايديولوجيا المذهب عوض ان يساق بابستمولوجيا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير. فالتقليد عوض الاجتهاد المحض هو السائد على البحث والتفكير لدى المختصين في العقائد. حتى ان الغزالي أخذ يحلل هذه الظاهرة التي شاعت بين اوساط العلماء المختصين بحسب الحيل النفسية فذكر يقول: ((وأما إتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقاً وقواهم على إتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الإعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت إنه مذهب الأشعري لنفر وإمتنع عن القبول وإنقلب مكذباً بعين ما صدّق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين بإسم العلم، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم في نظرهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما إعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الإعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه، وإنما الحق ضده، وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الإستحسان والإستقباح بتقديم الإلفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا)) 7 2 .

وفي القبال لا يقال ان الاعتماد على وجدان غير المختص هو دعوى للهوى. ذلك ان الانسان سواء كان مختصاً او غيره كثيراً ما يتعرض الى مغريات الهوى. بل ما يواجهه المختص من مغريات يفوق غيره عادة. واصبح من البيّن انه لا يخلو زمان الا وفيه عدد غير قليل من الفقهاء يصطنعون أدلة التشريع تحت هيمنة سلطان الهوى، وعلى رأس ذلك هوى السياسة. ولقد كان الغزالي يكثر من ذم الفقهاء ويفسر علة الاهتمام بالفقه بسبب الجاه والسياسة 8 2 .

لكن مع ذلك ان القيد الذي نضعه في الاعتبار كمسلك للوقاية او التخفيف من الهوى والنزعة غير الموضوعية التي قد تنشأ لدى غير المختص؛ هو التعويل ما أمكن على الوجدان العقلائي بما يكتسبه من وجدان نوعي له طبيعة العموم والشمول لا الفردية والخصوص. فلكي تكتسب القضية الوجدانية القبول الموضوعي وتكون محل اعتبار لابد ان يحرز فيها الموافقة العقلائية، سواء من حيث التصور في المرتكز الذهني، او من حيث الاجراء الاستخباري اذا ما استدعى الامر ذلك، وهو يمكن ان يتم بطرق عديدة قد يُضمن فيها سلامة الاجراء وربما عدم التحيز، مثلما تتكفل بذلك مناهج البحث في علم الاجتماع.

وهذا يعني ان الرؤية الكشفية العرفانية لما كانت فردية لا تكتسي صفة الشمول والعموم؛ فهي على هذا ليست محل قبول لعدم احرازها الشرط الذي ذكرناه من موافقة الوجدان العقلائي.

الهوامش

1 كما يلاحظ ذلك في مثل قوله تعالى: {أفلا ينظرون الى الابل كيف خُلقت والى السماء كيف رُفعت والى الجبال كيف نُصبت والى الارض كيف سُطحت} الغاشية/7 1 ــ0 2 . وقوله: {أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ق/6 ــ8 ... الخ.

2 المقدمة، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص5 3 5 ــ6 3 5 .

3 يقول دوركايم في كتابه المشار اليه: ((لم يكتفِ الدين باغناء فكر الانسان المكوَّن سابقاً له، بعدد من الافكار، بل عمل على تشكيل هذا الفكر. ان قسماً مهماً من معارف الانسان حتى والشكل الذي تبلورت فيه هذه المعارف يعود فضله الى الدين. تجدر الاشارة الى ان عدداً من المفاهيم الاساسية التي تهيمن على فكرنا تغرس جذورها في الدين: مفهوم الزمان والمكان والنوع والعدد والسبب والجوهر والشخصية، فهي الاطر المتينة للفكر)) ( فردريك معتوق: علم اجتماع المعرفة في الغرب، ضمن الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير د. معن زيادة، معهد الانماء العربي، ط1 ، 8 8 9 1 م، المجلد الثاني، ص8 8 8 ــ9 8 8 ).

4 الصدر، محمد باقر: فلسفتنا، دار التعارف، بيروت، ص4 0 3 ــ5 0 3 .

5 الأُسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف، بيروت، ط4 ، ص3 6 4 .

6 لاحظ: يحيى محمد: الاسس المنطقية للاستقراء/بحث وتعليق، مطبعة نمونه، قم، ط1 ، 5 0 4 1 هـ ــ 5 8 9 1 م، ص3 4 2 وما بعدها.

7 الغزالي: المنقذ من الضلال، مطبعة الجامعة السورية، ط5 ، 6 5 9 1 م.

8 صدر المتألهين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة، دار احياء التراث العربي، ط3 ، 1 8 9 1 م، ج2 ، ص4 4 1 ــ7 6 1 .

9 ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص6 5 ــ7 5 .

0 1 من ذلك انه قد استبدل التصور البطليموسي بالتصور الكوبرنيكي للنظام الشمسي بسبب بساطة هذا الاخير مقارنة مع الاول، وليس بحسب الصواب والخطأ. اذ اختزل كوبرنيكوس الدوائر الفلكية الصغيرة للنظام الشمسي من (0 8 ) دائرة كما افترضها بطليموس الى (4 3 ) دائرة فقط، اي انه تخلص من (6 4 ) دائرة صغيرة (لاحظ: ولترستيس: الدين والعقل الحديث، ترجمة وتعليق وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1 ، 8 9 9 1 م، ص6 7 وما بعدها). كما لاحظ:

Hemple, Philosophy of Natural Science, 1996, current printing 1987, USA, p.41.

1 1 من ذلك ان نظرية انشتاين العامة تعترف بأن الكون آخذ بالتوسع، حيث ان التحول في الطيف الضوئي هو باتجاه الاحمر؛ مما يدل لدى العلماء بان المجرات والنجوم تبتعد عنا. مع هذا ان انشتاين يري الكون منتهياً لكنه غير محدود، الامر الذي يفسر ظاهرة التوسع، وذلك شبيه بالمنطاد. فمن حيث انه منتهي يرى ان الذي يسير من نقطة معينة ويواصل سيره باستقامة فسوف يعود الى نفس النقطة مثلما يجري الحال على الارض، مع اخذ اعتبار ان سطح الارض له بعدان، في حين ان التحرك في الكون يجري ضمن ثلاثة ابعاد وليس على سطحه، كما انه ليس هناك شيء خارجه. لاحظ حول ذلك: ألبرت أينشتين: أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 6 8 9 1 م، ص0 3 . ولاحظ:

Russell, B. Human Knowledge, first published in 1948, Sixth Impression, London, 1976, p. 34.

تلك هي نظرية انشتاين، مع ما يلاحظ ان فكرة التوسع لا تتسق مع مقولة عدم وجود شيء اخر خارج حدود المجال الكوني المذكور، اذ على الاقل لابد من افتراض وجود الخلاء الذي يسمح بالتوسع. لكن تظل ان نظرية انشتاين باعتبارها علمية فانه لا ينظر لها ان تعبر عن حقيقة الكون كما هو، خاصة وانه ينتابها بعض الشذوذ الذي لم تستطع تفسيره كغيرها من النظريات الفيزيائية.

2 1 مقدمة ابن خلدون، طبعة دار الهلال، بيروت، 6 8 9 1 م، ص6 3 3 ــ7 3 3 .

3 1 محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، ط2 ، ج1 ، ص9 2 2 ــ0 3 2 .

4 1 فعلى ما ذكره الاستاذ جيمس بيرك ان العلماء الالمان كانوا يتوقعون انتصار بلادهم ضد الحلفاء، خصوصاً ان المانيا آنذاك كان لها هيبة دولية وازدهار مالي ورقي اجتماعي، لكن لما فوجؤوا بالهزيمة أصيبوا بالخيبة والحاجة الى فلسفة اخرى لا تقوم على مبادئ النظام والعقلانية وتفسير الوقائع طبقاً للسببية الحتمية. وقد تسرب العداء للسببية الى كافة اوجه الحياة الالمانية. واخذ يتعرض كل من يؤيدها الى الحرمان من الدعم المالي والمنح والمراكز الوظيفية. وفي القبال اخذ التشجيع ينصب على تأييد نظرية اللاسببية التي تفسر القضايا الموضوعية تبعاً للمصادفات والاحتمالات، وعند ذلك الحين ظهرت نظرية الكم واصبح مبدأ الاحتمال وعدم اليقين هو اساس هذه النظرية في علوم الفيزياء الذرية، وذلك على يدي العالمين الالمانيين شرودنجر وهايزنبرج (انظر: جيمس بيرك: عندما تغير العالم، ترجمة ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة (5 8 1 )، الكويت، 4 1 4 1 هـ ــ 4 9 9 1 م، ص6 2 4 ــ8 2 4 ).

5 1 بنّاصر البُعزاتي: الاستدلال والبناء/بحث في خصائص العقلية العلمية، دار الامان-المركز الثقافي العربي، ط1 ، 9 9 9 1 م، ص8 5 2 .

6 1 فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 ، 3 8 9 1 م، ص6 8 3 .

7 1 فلسفة العلم، ص6 7 .

8 1

John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis. 3rd ed. London. p.175.

9 1 لاحظ حول ذلك: كمال الحيدري: لا ضرر ولا ضرار، تقرير ابحاث السيد محمد باقرالصدر، دار الصادقين، قم، ط1 ، ص6 8 3 .

0 2 كاظم الحائري: مباحث الاصول، تقرير ابحاث السيد محمد باقر الصدر، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، 8 0 4 1 هـ، القسم الثاني، ج2 ، ص1 3 1 .

1 2 فعلى رأي السيد الصدر ان نزوع العلماء نحو البحث عن الدليل ربما يكون من نتائج المنطق الارسطي القائل بأن الشيء إما ان يكون ضرورياً او مكتسباً ينتهي الى الضروري، وكان لهذا المنطق أثره على مختلف العلوم بما فيها علم الفقه، لكن العلم ليس ناشئاً على الدوام تبعاً للبرهان، بل قد ينشأ عن علة تؤثر في النفس تكويناً وإن لم يكن هناك برهان ولا دليل. ذلك ان العلم هو امر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلة والمعلول، فحيث توجد علة العلم فان هذا الاخير يوجد حتماً؛ سواء تعرفنا على هذه العلة او لا (المصدر السابق، ص4 3 1 ). ولا شك ان فصل العلم عن الإحكامات والمباني المنطقية، كالذي يذهب اليه المفكر الصدر، يجد له صدى كبيراً لدى الكثير من فلاسفة العلم المعاصرين (يلاحظ بهذا الصدد كتاب: الاستدلال والبناء/بحث في خصائص العقلية العلمية).

2 2 المصدر السابق، هامش ص4 3 1 .

3 2 محمد باقر الصدر: دروس في علم الاصول، ج2 (الحلقة الثالثة)، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط4 ، 7 1 4 1 هـ، ص4 3 1 .

4 2 ومن الامثلة على هذا النوع ما جاء في الصنعة الفقهية ما صدر عن عدد من الفقهاء، ومنهم بعض مشايخ صاحب (جواهر الكلام)، من فتوى ترى انه يجب على المحبوس في المكان المغصوب الصلاة على الكيفية التي كان عليها اول الدخول الى هذا المكان؛ فإن كان قائماً فقائم، وإن كان جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال الى حالة اخرى في غير الصلاة ايضاً، وذلك باعتبار ان اي حركة انما هي تصرف في مال الغير بغير اذنه، ومن هؤلاء من يقول انه ليس له ان يحرك أجفان عيونه اكثر مما يحتاج اليه، ولا يديه ولا سائر اعضائه، وان الحاجة تقدر بما تتوقف عليه حياته ونحوها. وهي فتوى ادعى اصحابها ان الفقهاء عليها. لكن صاحب (الجواهر) اعتبرها من الخرافات غير اللائقة، خاصة وانها تفضي الى ظلم المحبوس بأعظم من ظلم الظالم الذي الجأه الى هذا الحبس المغصوب (النجفي: جواهر الكلام، ج3 ، ص6 1 4 ــ7 1 4 ). وواضح ان الاستدلال في الصنعة الفقهية هنا يتصادم كلياً مع ما عليه حكم الوجدان العقلي ومقاصد الشرع.

وهناك أمثلة اخرى على هذا النحو ذكرناها في كتابنا المخطوط: (مقاصد التشريع والواقع).

5 2 ابن القيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بيروت، 3 7 9 1 م، ج4 ، ص4 5 2 .

6 2 الشاطبي: الاعتصام، دار الكتب الخديوية، مصر، تقديم محمد رشيد رضا، ط1 ، 3 1 9 1 م، ج2 ، ص2 4 3 ــ3 4 3 . والحر العاملي: وسائل الشيعة، ج8 1 ، أبواب صفات القاضي، ص1 2 1 .

7 2 الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، بيروت، 8 8 3 1 هـ ــ9 6 9 1 م، ص3 7 1 .

8 2 الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، ج1 ، ص2 4 و8 6 ــ9 6 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار