من نظرية خلق القرآن الى جدلية النص والواقع
يحيى محمد
القرآن الكريم هو خطاب لغوي موحى الى صدر النبي (ص)، وهو وإن كان منزلاً من صاحب العزة والجلالة، وكذلك رغم انه عبارة عن كلام الله، الامر الذي يميزه عن سائر كلام البشر، الا انه مع ذلك لم يفارق ملابسات الالفاظ والعبارات الدارجة بكل ما تحمله من معاني عرفية سائدة في مكان وزمان محددين، وبكل ما تتضمنه من فكر لا يتعالى غالباً عن فهم وادراك الجماعة التي خوطبت به مباشرة. فالقرآن بهذا الاعتبار خطاب يتصف بنوع من الازدواج، ذلك ان مصدره علوي مجرد عن الواقع بما يحمله من معاني الوحي، لكنه من جانب اخر ملابس للواقع كل الملابسة. فهو من حيث كونه تنزيلاً لم يعد مجرد وحي سماوي يحمل صفات التجريد، بل اضحى خطاباً يتذرع بالواقع ليتخذ منه مسلكاً للغاية التي أُنزل لأجلها. لذلك نزل بلغة بشرية لها معاني مشخصة في بيئة محددة هي البيئة العربية بكل ما تحمله من ظروف وملابسات خصوصية. الأمر الذي أفضى - ولابد - الى نوع من الجدل بينه وبين الواقع، بل وافضى الى ان يكون حاملاً لصور الواقع الذي جاراه بالجدل والاحتكاك. لكن رغم هذا ظل الهدف الذي ينشده الخطاب هدفاً شاملاً ومطلقاً لم تؤثر عليه اعتبارات التنزيل من اللغة والاحتكاك بالواقع. ذلك ان الرسالة التي حملها الخطاب هي رسالة تكليف الانسان بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني الامانة والمسؤولية، وبكل ما تتضمنه من علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وما تستهدفه من استخلاف وحساب. وهي معاني عامة ومطلقة لا تتقيد بظروف واحوال، وإن كانت وسائل تحقيق ذلك لا يمكنها ان تتجاوز ما عليه الظروف من المكان والزمان، اي انها لا تتجاوز الواقع.
ان ما سبق ايراده يتسق مع بعض النظريات التي شهدها تاريخ الفكر الاسلامي والتي خصّت طبيعة الخطاب الالهي، وهي المسماة بمسألة كلام الله. صحيح ان هذه المشكلة هي من المسائل العقلية المجردة التي ليس لها علاقة بالواقع، وقد عالجها المسلمون معالجات لها سمة تجريدية عقلية احياناً ونصية احياناً اخرى، وقد ظلت دائرة الخلاف مستحكمة بين المسلمين قروناً طويلة لارتباطها بنمط التفكير العقلي المجرد من غير ان تثمر شيئاً يذكر على صعيد الواقع.
فقد ذهب البعض الى ان كلام الله قديم، وهو عبارة عن صفة لازمة عن الذات الالهية، او هو عبارة عن معنى نفسي قائم بذاته كما هو رأي الاشاعرة. وفي قبال ذلك ذهب بعض آخر الى ان كلام الله مخلوق، كما هو رأي المعتزلة التي لم توافق على مقولة القدم باعتبارها تعني اثبات شيء آخر غير الله، مما يستلزم لديها الشرك. بينما لجأ جماعة الى اعتباره محدثاً، كما هو رأي محمد بن شجاع الثلجي (المتوفي سنة 662هـ)، وهو المنقول عن بعض أئمة اهل البيت (ع). في حين رأى آخرون انه ليس بمخلوق وإن لم يحددوا هويته، وهو المنقول عن اهل السلف.
ومن الواضح ان هذه الاراء لم يكن يعنيها خصوصية النص والواقع، فبعضها كان موظفاً لاثبات الرسالة، وبعض آخر وُظف للدفاع عن التوحيد الخالص بعيداً عما يظن انه من الشرك. وفي جميع الاحوال ان دائرة الاهتمام لم تكن معنية بالواقع وتأثيره، رغم الصلة الاكيدة بهذا الامر، وذلك تبعاً للحاظ هذين الفرضين المتنافسين:
1ــ ان يقال بان الكلام الالهي يعمل على تحديد مسار الواقع والتحكم في مصيره وذلك بما يتسق ومقولة قدم الكلام.
2ــ ان يقال بأن الامر متبادل التأثير، فمثلما ان للكلام او النص دوراً في تغيير الواقع وتحديد مساره، فان للواقع ايضاً تأثيره غير المنكر على مسار الكلام، وذلك بعد التسليم بما يمتاز به هذا الكلام من فاعلية واستقلالية نسبية. فنص الخطاب مشكَّل بما يتناسب وطبيعة الخصوصيات التي تمتاز بها حوادث الواقع، ولولا هذه الخصوصيات ما كان للنص ان يتخذ الشكل الذي اتخذه في التعبير. كذلك فأن تغير الواقع وتنوّعه قد عملا ولا شك على ترتيب اشكال متغايرة للصور التي تضمنها النص، كما هو الحال فيما يعرف بالنسخ والنسأ وكذا التدرج في الاحكام والمفاهيم والتعليمات. الامر الذي يتسق ومقولة إحداث الكلام او خلقه.
وبحسب الفرض الاول يمكن تصوير الكلام القديم بأنه اشبه بشريط مسجل تتردد فيه الكلمات النفسية بثبات وتواصل، ازلاً وابداً. لكن مع اخذ اعتبار ان هذا التردد لا يتخذ صورة التدافع في الكلمات بحيث تتقلب وجوداً وعدماً، او حضوراً وزوالاً، كما ان بعضه لا يتقدم على البعض الآخر. وهو من هذه الجهات يساوق العلم الالهي الثابت. وبالتالي فهو ليس كما نحن عليه من الكلام الذي بعضه يدافع البعض الاخر ويتقدم عليه.
لكن المشكلة في هذا الامر هو انه كيف يمكن ان نتصور جريان كلام على وتيرة واحدة ثابتة تتصل ازلاً وابداً لحادث عابر لا يشكل سوى قطرة ضئيلة من بحر الوجود او الزمان والمكان؛ كإن نتصور ترداد قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها .. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها .. فلما قضى زيد..) وذلك بثبات واتصال ازلاً وابداً بلا انقطاع، رغم ضيق الحادثة من الناحية الوجودية؟ فكيف يمكن للكلام ان يرتبط بحادثة ضيقة الوجود وهي لم توجد بعد، ومن ثم يظل الحال هكذا ابد الدهر رغم فناء الحادثة وانتهائها؟ ثم كيف نتصور ان يكون في هذا الكلام ناسخ ومنسوخ ولم توجد الحادثة المحكوم عليها بالنسخ بعد؟ فمثلاً كيف نتصور ان يتردد كلام مثل قوله تعالى: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإنْ يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون))، ثم يتبعه ناسخه او ناسئه: ((الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفاً، فانْ يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإنْ يكن منكم الف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين))، وهما على هذا الشكل من النسخ الاخير للاول ازلاً وابداً بلا انقطاع، مع انهما مربوطان بحادثة ضيقة الوجود؟ خصوصاً وان اياً منهما لا يتقدم على الآخر، ولا يكون لاحدهما من الصلاحية والاعتبار اكثر من نظيره، بخلاف ما ينعكس عليه الامر حين يعاصران الحادثة ويتجسدان بنص بعضه يتقدم على البعض الآخر، وله من الصلاحية والاعتبار ما يختلف فيه عن قرينه. لهذا نعتبر ان مقولات كالنسخ والنسأ والتدرج في الاحكام وكذا الاخبار عن الوقائع الشخصية والاحكام الخصوصية؛ هي كلها مما يتسق واطروحة إحداث الكلام وخلقه لا قدمه.
مهما يكن فان الاختلاف في طبيعة الاتساق لكلا الفرضين له انعكاسات على ادراكنا لقيمة الخطاب المنزّل بما تتضمنه من قدسية. ذلك اننا لو اعتبرناه قديماً وصفة من صفات الله الذاتية؛ لكان لا فقط ان ذلك يجعله ثابتاً من غير ان يكون قابلاً لانماط التغيير بفعل الواقع من المحو والنسخ والازالة وما اليها، بخلاف الحال فيما لو اعتبرناه محدثاً ومخلوقاً حيث يكون حاله كحال اعتبارات عالم التكوين من الخلق، فيقبل المحو والازالة بمشيئة الله تعالى، كما ويقبل الجدل مع الواقع تأثراً وتأثيراً.. فكذلك تصبح القيمة المعرفية والمعنوية المضفاة على الخطاب في الحالتين مختلفة ولابد. فمثلاً ان القول بكونه صفة يجعله متعالياً عن امكانية اعطاء قيمة مضادة، فاذا اعتبرنا الكلام صادقاً، فان ذلك يمنع ان يكون هناك امكان للكذب والخداع وخلف الوعد والوعيد، وهو امر قد تمسكت به الاشاعرة لتصحح اثباتها للشريعة، بخلاف ما لو قلنا انه مخلوق، حيث لا يجد العقل في هذه الحالة اي معنى للاستحالة في اعطاء القيم المضادة كامكانية الكذب والخداع والخلف في الوعد والوعيد. ولا شك ان هذا التفاوت المعرفي هو في حد ذاته يعكس تفاوتاً في القيمة المعنوية او القدسية، حيث انه في الحالة الاولى يتخذ وكأنه صورة الاله، بينما في الحالة الاخرى لا يكون كذلك. الامر الذي له انعكاس على طبيعة تعاملنا معه فهماً وعلاقة.
من هنا برز التفكير في مسألة ما اُصطلح عليه بالصرفة، ومن ثم طبيعة الاعجاز الخاص بالخطاب. فالصرفة بحسب عدد من العلماء هي المقصودة من الاعجاز في الخطاب كما هو رأي النظام ومن ثم الجاحظ وكثير من المعتزلة وابن حزم وابي اسحق الاسفراييني، ومن الامامية ابن سنان والشيخ المفيد، وربما تلميذه الشريف المرتضى الذي له كتاب بعنوان (الصرفة في اعجاز القرآن). والمقصود بالصرفة وعلاقتها بالاعجاز هي كما حددها النظام بأنها تعني >ان الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدوراً لهم، لكن عاقهم امر خارجي فصار كسائر المعجزات<. وليس هذا المفهوم هو الوحيد عنها، فقد ذُكر ان من قال بها على قولين: >احدهما انهم صُرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. والثاني انهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز ان يقدروا عليه<.
ولا شك ان القول بالصرفة يتسق مع نظرية خلق القرآن، من حيث انه شيء محدَث قابل بذاته للصياغة المماثلة والتقليد، كما يقبل المحو والازالة كأي مخلوق آخر في عالم التكوين. في حين ان الرأي الذي يعد الاعجاز والتحدي بمجرد اللفظ والكلام يتسق تماماً مع مقولة القدم وصفة الذات للكلام، حيث انه لا يقبل أي امكانية من امكانيات الصياغة المماثلة والتقليد، كما ان من اعجازه ان يفترض انه لا يقبل اي شكل من أشكال التغيير والتجديد؛ سواء من حيث الواقع وضغوطه، او من حيث اعتبارات اخرى غيره. أما القول بالصرفة فهو وإن كان لا ينفي الاعجاز في الكلام، الا انه يضع خاصية هذا الاعجاز لا تعود الى الكلام ذاته، وانما الى اعتبارات المشيئة الالهية، اي انه من حيث ذاته ليس معجزاً، كما انه من حيث الذات يكون قابلاً للتغيير كأي مخلوق اخر في عالم التكوين.
هكذا انه مع مقولة إحداث القرآن تصبح العلاقة التي تستحكم بين النص والواقع علاقة منطقية يمكن فهمها بما تحمله من صور الجدل والتغيير في الاحكام. فمن جانب ان النص يحمل صوراً منتقاة ومحددة من الواقع؛ كثيراً ما تكون محكومة بطابع نسبي من الزمان والمكان، او من الظروف الطارئة غير العامة والمطلقة. كما ان النص من جانب اخر كثيراً ما يستجيب الى امر الواقع. الامر الذي يؤكد حالة التفاعل والجدل بين حمل النص للمعاني والمفاهيم المنزلة وبين استجابته للواقع بنوع ما من المحكومية.
تظل هناك ناحية اخرى نشير اليها، وهي ان النص مثله مثل عالم التكوين؛ كثيراً ما نتوهم ان عقولنا تتطابق مع مداليله بالفهم والمصداقية، مع ان حقيقة الأمر هي شيء آخر. فتاريخ الفكر البشري غارق بالوهم - حتى عهد قريب - من ان عقولنا تتطابق كلياً مع ما ينكشف لها من مضامين الواقع. لكن بفضل الثورة العلمية ثبت ان الانسان كان مغالياً في هذا الامر الى ابعد الحدود. ولعل من المفيد التذكير كيف ان العقل البشري ظل حاملاً لجملة من الافكار المجانبة للحقيقة عن الواقع طيلة قرون مديدة حتى انكشف له الصواب فيما بعد، وكان من ذلك توهم الانسان ان الارض مسطحة وساكنة، او انها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حول الارض، وان سرعة الاجسام الساقطة الى الارض تتناسب اطراداً مع أوزانها، وان النجوم المرئية هي موجودة بالضرورة فعلاً... الخ. فهذا الامر يشبه من بعض الجوانب ما تقرر لدى الفكر الاسلامي من رسم العلاقة بين العقل والنص، اذ كان الغالب من العلماء يظن ان العقل قد حسم الامر مع النص؛ إما من حيث انه يطابق منطوقه تماماً عند لحاظ ما يبديه العقل موافقاً لما عليه ظاهر النص، وعلى الاقل لا يُرى في البين تعارض بينهما، او ان النص بظاهره يفيد مثل هذا التعارض، الامر الذي اقتضى الاستنجاد بالعقل وممارسة ظاهرة التأويل، وذلك من أجل جعل العلاقة بين النص والعقل تتخذ شكل التطابق التام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق