الجابري والتصنيف الثلاثي للعقل العربي
يحيى محمد
لا يُشك أن الجابري أقام تصنيفاً جديداً لعلوم التراث يُعدّ ثورة منهجية كبيرة، وهو يستحق التقدير، إذ فيه أعاد ترتيب العلاقات بين العلوم والمعارف التراثية بطريقة جديدة تتجاوز الاختلافات المظهرية لتنظر إلى ما تكنّه من توافقات أو إختلافات بنيوية داخلية تتمثل بآليات المعرفة ووسائلها ومفاهيمها الأساسية. حيث بدلاً مما كان تصنيفها إلى علوم النقل والعقل، أو الدين واللغة، أو علوم العرب وعلوم الأجانب، وبدلاً من إظهار الانفصال والاستقلال بين كل من علوم الفقه والنحو والبلاغة واللغة والكلام، وكذلك بدلاً من إظهار التجاور بين علمي الكلام والفلسفة، وأيضاً بدلاً من جعل التصوف في قائمة العلوم الدينية، والكيمياء في قائمة العلوم العقلية مع الرياضيات والطبيعيات.. بدلاً من كل ذلك أقام الجابري تصنيفه اعتماداً على البنية الجوانية فانتهى إلى وجود ثلاثة نظم معرفية متكاملة؛ هي النظام البياني الذي يعتمد على قياس الشاهد على الغائب كمنهج في إنتاج المعرفة، ونظام العرفان المؤلف من تصوف وباطنية وكيمياء وتطبب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم تنجيم، حيث يؤسسها النظام العرفاني القائم على ((الكشف والوصال)) و ((التجاذب والتدافع)). في حين هناك نظام ثالث هو النظام البرهاني الذي يؤسس كلاً من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات أو الميتافيزيقا، والذي يقوم على مبدأ ((الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج))(1).
وقد عدّ الجابري تصنيفه هذا يطابق ما أشار اليه القشيري، فهو عبارة عن برهان وبيان وعرفان(2). لكن مقاصد الـقشيري وتقسيمه لهذه الـطرق تختلف كثيراً عما رمى اليه الجابري. فالبرهان عند القشيري هو من خاصة علم الكلام بالدرجة الرئيسية، بخلاف ما عند الجابري من أنه خاصة الفلاسفة الأرسطيين. يضاف إلى أن القشيري يعتبر هذه الطرق عبارة عن أنوار بعضها أكمل من البعض الآخر بغير تضاد ومعارضة، وأن الترتيب والكمال فيما بينها يسير باتجاه معاكس لما هو مرتب عند الجابري. فالقـشيري يـرى أن أبلـغها كمالاً يتمثل بالعرفان ثم البيان وأخيراً البرهان. ويلاحظ أن تقسيمه هذا لا يعبّر عن تقسيم معرفي فحسب، بل كذلك فيه جنبة لاهوتية أو معيارية غير معرفية، حيث يتفاوت بالقيمة الايمانية، أي أنه عبارة عن معرفة ومعيار معاً(3).
مهما يكن يلاحظ أن التمايز بين الأنظمة المعرفية عند الجابري قائم على رصد الاختلاف في إسلوب كسب المعرفة، أو الاستدلال وقيمته المعرفية المتمخضة عنه. فبحسب رأيه أن للنظام البياني دلالة لغوية غير لزومية تفيد الوضوح والظهور حتى في مظهره الاستدلالي، ذلك لأنه استدلال قائم على القياس غير البرهاني، أي إنه لا ينتج القطع واليقين، بخلاف ما هو الحال في النظام البرهاني الذي يجعل من القياس أو الاستدلال ما يفيد البرهان واليقين، إذ يضمّنه علاقة اللزوم بين المقدمة ونتيجتها بكشفه عن علاقة السببية بين الوقائع الخارجية. هذا في حين إن العرفان لا يقوم على هذا ولا على ذاك. فهو مجرد تعبير عن ادعاء شخصي بكشف الحقيقة، وهو يقوم على روابط سحرية غير لزومية ولا معقولة، مؤسسة على ركيزة ((المشابهة في العلاقة))، لهذا فهو لا ينتج إلا النتائج غير المعقولة.
خلل التصنيف
لكن الملاحظ أن التصنيف الذي أبداه الجابري ينتابه الخلل والقصور لعدة اعتبارات. فمن جهة هو أن الجابري ضمّن تقسيمه الآنف الذكر شكلاً صورياً عليه افتعل التضاد بين الأنظمة، كما هو الحال في افتعاله للتضاد بين النحو والمنطق مع أنهما في الأساس صوريان وليسا نظامين فكريين كسائر الأنظمة المعرفية التي ميزتها أنها تمتلك رؤية كلية عن العالم أو الوجود. كذلك فإن ((البيان)) الذي عدّه نظاماً بحاله قد جرّده من الفعالية العقلية المستقلة رغم احتوائه على علم الكلام، كما مع المعتزلة التي جرّدها من الممارسة العقلية المستقلة، وكذا الحال مع الامامية الاثني عشرية التي وضعها في مصاف الباطنية ضمن النظام العرفاني واتهمها بعدة تُهم باطلة على ما سنرى. ولا شك أن نظريته هذه تفضي إلى نفي أن يكون الفكر العربي الاسلامي حاملاً لأي دلالة عقلية مستقلة، وذلك باعتبار أن البيان هو النظام الوحيد الذي يمثل أصالة الفكر العربي، أما النظامان الآخران فهما من الأنظمة الدخيلة عليه كما هو معروف.
يضاف إلى ما سبق أن التصنيف المذكور يتضمن تضاداً تاماً بين العرفان الكشفي والبرهان الفلسفي، مع أن الروابط التي تربطهما تجعل من نتاج أيّ منهما يمكن أن يردّ إلى الآخر على ما كشفنا ذلك في بعض مـن الـبحوث المستقـلة(4)، بل يكـفي تزييف هـذا الـزعم بما سنتعرض اليه خلال بحثنا لنقد القطيعة المزعومة بين الفكرين المغربي والمشرقي.
صورية الأنظمة والصراع المزعوم
من الغرائب التي احتواها مشروع الجابري هو محاولته التي استهدفت أن تجعل من العلوم الصورية أنظمة فكرية بعضها يضاد البعض الآخر، بل وتنتج قضايا معرفية من غير اعتبار للأُصول المولدة، وهي الأُصول التي لا يستغنى عنها في أيّ عملية من عمليات الانتاج المعرفي، رغم أنها لا تفضي بالضرورة إلى حالة القطع واليقين، حتى أن ادعاء بعض الدوائر المعرفية بأن ما تنتجه من معارف يقوم على البرهان ويتصف بالقطعية؛ لا يعني بالضرورة أنها كذلك حقاً. وذلك باعتبارها ليست محايدة، بل موجهة أساساً من قبل تلك الأُصول. فالطريقة البرهانية في الاستدلال والوصول إلى نتائج يقينة أو قطعية قد تدّعيها أحياناً حتى العلوم التي يكثر الظن فيها، كما هو الحال في علم الفقه، وكما مارسها أمثال إبن حزم الأندلسي والشريف المرتضى وإبن ادريس الحلي ومحمد أمين الاسترابادي وغيرهم، فكيف هو الحال مع علم الكلام الذي ينافس الفلسفة في ادعائه بكشف الحقائق، أو حتى استخدام طريقتها المنطقية للبرهان، كما فعل المتأخرون من أصحاب النظام المعياري؟! مما يعني أن وراء ما يُدعى من طرق برهانية شروطاً موجّهة غير محايدة هي التي تضفي على السلوك المعرفي نهجه البرهاني. فهذه الشروط عبارة عن مصادرات قبلية تحقق للجهاز المعرفي ما يتطلّع اليه من قطع وبرهان، وهو ينطبق على النظام الفلسفي (البرهاني)، إذ لولا ما يحمله من مصادرات قبلية خاصة ليست هي محل اتفاق الجميع لما أمكنه أن يصل إلى نتائج هي بمثابة المقطوع بها والمبرهن عليها مع أخذ اعتبار شروطها من المصادرات القبلية. ونفس هذا الحال ينطبق على طريقة أهل الكلام، فهي أيضاً تُعدّ برهانية أو مفضية إلى القطع مع أخذ اعتبار شروطها من المصادرات القبلية، حتى مع اعتمادها على منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب. فطريقة البرهان تظل صورية لا يسعها إنتاج مادة الدليل ولا مادة النتيجة، فمثلما يمكن إجراءها على علوم الطبيعة والميتافيزيقا بحسب الشروط الخاصة؛ يمكن إجراءها أيضاً على علوم البيان أو المعيار كالفقه والكلام بحسب الشروط الخاصة أيضاً. هذا مع انه كما بيّنت الكشوف العلمية الحديثة أن طريقة البرهان الأرسطية هي محل اعتراض جذري لكونها تفضي إلى المصادرة على المطلوب.
على ذلك فإن صورية المنطق ـ ومنه القياس البرهاني ـ تقتضي أن لا يكون بينه وبين البيان أي تضاد ومعارضة، مما يجعل المحاولة التي سعى اليها الجابري بهذا الخصوص غير موفقة، إذ لم يكتفِ باظهار التضاد بين النظامين البياني والبرهاني على مستوى الرؤية كما هو الحال على صعيدي علم الكلام والفلسفة، بل وادعى كذلك وجود التناقض والانفصام بينهمـا على صعـيد الـمنهج متمثلاً بالـنحو والـمنطق(5)، بالـرغم من إن هـذين الـعلمين يعالجان موضوعين مختلفين وإن تداخلا في بعض القضايا المشتركة. وهو طبقاً لهذا الادعاء حاول أن يُفسر بعض القضايا الميتافيزيقية استناداً إلى صورية هذين العلمين، حيث ربط بين انطلاق لائحة المنطق الأرسطي من مقولة ((الجوهر)) وبين قول الفلاسفة بقدم العالم، وأيضاً على نفس الشاكلة في الطرف المضاد ربط بين انطلاق لائحة النحو العربي من مقولة ((الفعل)) وبين قول الكلاميين بحدوث العالم، أو خلقه من لا شيء. كذلك فعل نفس الشيء في تفسير خلو قائمة النحو العربي من مقولات (الوضع والملكية والاضافة) بالقياس إلى حضورها في المنطق الأرسطي. إذ رأى أن ذلك الغياب ينسجم مع نزعة علم الكلام في نفي أن يكون لتلك المقولات حقيقة تصدق على الانسان، فهي تُحمل عليه مجازاً، إذ المعتبر أن الله هو المالك والفاعل والواضع حقيقة لا الانسان، وبالتالي فهو يفسر هذا النفي الكلامي لمصداقية تلك المقولات على الانسان من حيث كونها غائبة في لائحة النحو(6).
لكن بغض النظر عن غرابة هذا الربط بين النحو والكلام، فالملاحظ أن ما ذكره لا يصدق على جميع علماء الكلام. فإذا كان من الواضح إنه يصدق على الأشاعرة فعلاً، الا أن الحال مع غيرهم يختلف تماماً، خاصة فيما يتعلق بنظرية الوضع والاضافة كما هو ملاحظ لدى المعتزلة. اما مقولة الملكية فمن الواضح أن لها أثرها الحضوري في النحو كما هو الحال في (لام الملكية). بل حتى مقولة الاضافة هي أيضاً تحظى بهذا الحضور بما تعبّر عن نسبة بين طرفين هما المضاف والمضاف اليه، بالرغم من وجود الاختلاف في حقيقة هذه النسبة إن كانت عبارة عن (الماصداق) كما هو في النحو، أو (المفهوم) كما هو الحال في المنطق، على ما كشف عنه الفارابي في كتابه (الحروف) وأشار اليه الجابري في (بنية العقل العربي).
مع أنه يمكن القول إن غياب لفظة لا تدل بالضرورة على غياب معناها، كما سبق أن أكد على ذلك المستشرق (جولدتسيهر)، إذ ذكر بأن البعض قالوا بأن الاسلام خال من الفكرة الأخلاقية المسماة بـ ((الضمير))، مبررين قولهم هذا بأن اللغة العربية وسائر اللغات الاسلامية الأُخرى كلها تخلو من كلمة خاصة للتعبير بدقة عما يُقصد من هذه اللفظة. وقد ردّ (جولدتسيهر) على هذا الزعم قائلاً بأنه ((لو كان الأمر كذلك لكنّا ندعي بحق بأن شعراء (الفيدا) كانوا يجهلون عاطفة العرفان بالجميل لأن كلمة (شكر) غريبة عن اللغة الفيدية)). وقد سبق للجاحظ في كتابه (البخلاء) أن فنّد ملاحظة أحد أصدقائه بأن عدم وجود كلمة ((الجود)) في لغة الروم يمكن أن تتخذ دليلاً على بخل الروم المطبوع فيهم. كما انتقد كذلك الذين أخذوا من فقدان كلمة ((نصيحة)) في اللغة الفارسية دليلاً على الغش الغريزي في هذا الشعب(7).
يضاف إلى ذلك إن طبيعة النحو الصورية وخصائص موضوعاته المستقلة ولو نسبياً لا يسعها أن تفسر القضايا الميتافيزيقية بمجرد وجود خيط ضعيف جداً من المناسبة بينهما، خاصة إذا ما كانت هذه القضايا قابلة لأن تُفسر باتساق بحسب المنطق الجواني الذاتي لطريقة الأصل المولد في الجهاز المعرفي.
على أن الذي برّر للجابري أن يصنع من نظام النحو نظاماً مضاداً لنظام المنطق هو تلك المحاورة الطويلة التي أوردها أبو حيان التوحيدي بين العالم النحوي أبي سعيد السيرافي (المتوفي سنة 9 7 9م) والعالم المنطقي أبي بشر متى بن يونس (المتوفي سنة 0 4 9م)(8)، فبها برّر لوجود نظامين متكاملين ومتضادين، معتبراً هذه المحاورة بداية الوعي باختلاف وتضاد النظامين، حيث اكتمال البيان من جهة ولحضور المنطق الأرسطي بتمامه بعد ترجمة كتاب (البرهان) من جهة أُخرى، الأمر الذي أفضى ـ بنظره ـ إلى حالة الانفجار والانفصال إلى حيث لا يلتقيان(9). خصوصاً وقد جاء بعد تلك الحادثة مَن عمل على توكيد ذلك الانفصال كما فعل المنطقي أبو سليمان السجستاني (المتوفي سنة 1 9 3 هـ) الذي شدّد على فصل العلاقة بين البيان والبرهان، مما جعل الجابري يعتبر ذلك لحظة جديدة في تطور الـعلاقة بين الـنظامين(0 1) . هذا مع أن إفتعال الـتضاد بين الـمنطق والـنحو قد سبق أن ردّ عليه الفارابي الذي أعاد العلاقة الحقيقية بينهما فيما يختلفان وما يشتركان عليه من بحث، موضحاً أنه حتى في مجال ما يشتركان فيه تختلف الغاية بينهما، فغاية ما يريده المنطق من بحث هو عموم اللغة، في حين إن غاية ما يريده النحو منه هو خصوصية اللغة لا عمومها(1 1). والعجيب إن الجابري بعد أن شدّد على وجود التضاد والتنافي بين المنطق والنحو في كلا كتابيه (التكوين والبنية) جاء ليقرر في بعض فقرات الكتاب الأخير (بنية العقل العربي) مشروعية ما قام به الفارابي مقتنعاً بطريقته التوفيقية(2 1)، وكأنه نفى ما ثبّته من قبل.
والواقع إن مناقضة أهل البيان للمنطق لا يقصد منه ـ في الغالب ـ مناقضة المنطق من حيث ذاته، فهو في حد ذاته لا يعد مضاداً للبيان أو المعيار، بل لأن الفلاسفة وضعوه واستخدموه لأغراضهم ((الوجودية)) حتى أصبح ملاصقاً لأعمالهم الفلسفية؛ لذا أبعده أهل المعيار عن اهتمامهم وحرّمه بعضهم للغرض ذاته، حتى حان وقت إعادة ترتيب اعتباره وتوظيفه داخل حيز البيان كما فعل إبن حزم والغزالي والفخر الرازي وغيرهم، على ما يشير إلى ذلك إبن خلدون في مقدمته(3 1).
بل يلاحظ أن أغلب الذين نقضوا الفلسفة وعلوم الأوائل عموماً هم من أهل المعيار لا البيان اللغوي والنحوي، كما هو الحال مع السلف وإبن قتيبة والغزالي ـ في شخصه المعياري الأشعري لا الوجودي ـ وإبن الصلاح صاحب الفتوى الشهيرة في تحريم المنطق باعتباره مدخلاً للفلسفة، وكذلك إبن تيمية الذي له كتب ورسائل عديدة في نقض كل من المنطق والفلسفة والتصوف. حتى أن إبن حزم الأندلسي كان يعتبر أن من العلل الأساسية لرفض مثل تلك العلوم هو الاعتقاد بأنها تبعث على الكفر ومناوئة الشريعة(4 1).
هكذا فليس هناك تضاد بين المنطق والنحو، بل ما حصل من تضاد إنما هو بين الروحين الوجودية الحتمية والمعيارية، بحيث لا يمكن الجمع والتوفيق بينهما الا لحساب إحداهما على الأُخرى، إذ نرى أن بينهما قطيعة جوانية ((منطقية)). الأمر الذي يفرض دراسة هاتين الروحين كموضوعين في ذاتهما بغض النظر عن العناصر الصورية المحايدة التي توظفها كل منهما، مثلما فعلنا ذلك في كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام).
العقل العربي وتغييب العقل
سبق أن أشرنا إلى أن من المؤاخذات التي يُؤاخذ عليها الجابري في تصنيفه لأنظمة الفكر العربي؛ هو انه جعل من ((البيان)) نظاماً مجرداً عن الاستقلالية العقلية رغم احتوائه لعلم الكلام، وقلنا إنه بهذا يجعل من الفكر العربي الاسلامي فكراً يغيب فيه العقل كلياً الا ما طرأ عليه من الخارج، وبالتحديد من أرض اليونان عبر الفلسفة.
فللنظام البياني في مشروع الجابري وجهان، أحدهما ظاهر من التسمية كمنطوق، لما له من دلالة لغوية تتسق مع التنظير الذي أراده صاحب المشروع في اعتبار اللغة العربية أساس العقل العربي. أما الوجه الآخر فهو ذو دلالة خلفية كمفهوم يعبّر عن نفي كل ما ليس بقائم على البيان أو اللغة، وبالتحديد فإنه يعبّر عن نفي الوجود العقلي المستقل. والذي يؤكد هذه الدلالة هو أنه كان صريحاً فعلاً في نفي الاتجاه العقلي المستقل، أو نفي الوجود العقلي الا بحدود ما هو موظف لحساب الـبيان وخدمـته. وبالتـالي فإن رأيه يتمـاشى مع وجـهة نـظر إبن خلدون الذي يعتقد بأن علم الكلام إنما كان لدفع ((الملحدين)) وشبههم، حيث برأيه انه لهذا السبب استخدم علماؤه النظر العقلي مثلما استخدمه ((الملحدون))، دون أن يريدوا بذلك تقرير الحقائق عن طريقه، بل كان العقل عندهم لأجل خدمة الايمان والشرع، وهو يتناسب مع تعريفه لعلم الكلام بأنه ((علم يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية والرد على المبدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة))(5 1).
وكذا الحال مع الجابري، فهو ينظر إلى المتكلمين، والمعتزلة منهم بالخصوص، يرفعون شعار العقل من حيث ((إنهم يريدون الدفاع عن العقيدة أمام من لا يؤمن بكتاب ولا سنة.. فالعقل هنا مع المعتزلة.. مجرد أداة، فهو في جميع الأحوال في خدمة الكتاب والسنة وليس بديلاً عنهما))(6 1)، وعليه لا فرق بينهم وبين الـفقهاء والـنحاة، فالجميع ينظرون في (الدليل): ((والدليل عندهم هو النص أساساً. واذن فتكوين العقل البياني إنما يتم عبر حفظ النص والنظر في النص، وبالتالي فاهتمامه سيتركز أساساً على (نظام الخطاب) وليس على نظام العقل))(7 1). ومع ذلك فإن الجابري يفرّق شكلياً بين السلطة المرجعية التي تتحكم في علم الكلام وبين تلك التي تتحكم في كل من الفقه والنحو. إذ بنظره إنه إذا كانت تلك السلطة في الفقه والنحو هي النص، فإنها في علم الكلام عبارة عن الميتافيزيقا ((لكن لا الميتافيزيقا التي يشيّدها (العقل المجرد)، بل التي يستنبطها العقل المؤول للنص. ذلك لأن العقل في علم الكلام ليس مشرّعاً، فهو لا يبتدئ بصورة مطلقة، بل يبتدئ الحجج والأدلة لنصرة العقيدة ككل أو مذهب هذه الفرقة الكلامية أو تلك في فهم وتأويل قضايا العقيدة والدفاع عنها))(8 1).
مهما يكن فالملاحظ أن الجابري لا يرى استقلالاً خاصاً بالطريقة العقلية بالقياس إلى الطريقة الأُخرى المنافسة لها، فهو يجمعهما معاً تحت غطاء وسقف واحد مما يطلق عليه بالبيان أو النظام البياني الذي يعاني برأيه من غياب أولوية التفكير على التعبير، وأولوية المعنى على اللفظ، وأولوية العقل على النص، وذلك باعتبار أن مفكريه كانوا يضعون طاقاتهم الفكرية ويقيدونها في حدود عملية استثمار النص، لا أكثر(9 1). هذا على الرغم من أن مشروعه لا يتورع عن أن ينقل النصوص الاسلامية التي تحمل الدلالات العقلية في أسبقية المعنى على اللفظ، كتلك التي ينقلها عن المعتزلة، مثل الجاحظ والهمداني(0 2).
والحق إن الجابري قد خلط بين ورقتين، أو إنه أخفى ورقة في طي أُخرى. فما ذكره عن النظام البياني يصدق على قسم من أقسام التفكير داخل الفكر الاسلامي. فقد سبق لنا في كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام) أن اعتبرنا النظام المعياري يحمل دائرتين من التفكير، هما الدائرة البيانية والدائرة العقلية. أما ما فعله الجابري فهو أنه أقحم الدائرة الأخيرة في طي الأُولى، وهو أمر غير مقبول. ذلك أن الطريقة العقلية ـ كما أوضحنا ذلك في الكتاب المشار اليه ـ لم تمارس مجرد عملية التأسيس القبلي والخارجي للخطاب أو الشريعة حتى يُفترض أن يقال بأن ذلك كان لمواجهة العقائد الأُخرى ومن ثم جاء لخدمة الخطاب أو النص. بل هناك أمر آخر أهم، وهو ما يتعلق بالتأسيس البعدي والداخلي للخطاب وذلك عبر آلية الفهم. فطبقاً لهذا التأسيس يكون التوظيف مقلوباً، فهو ليس توظيفاً للعقل لخدمة البيان أو النص، بل العكس هو الصحيح. وما يزيد في الأمر تأكيداً هو أن هذا التأسيس أو الفهم لم يتشكل طبقاً لموجهات النص والبيان، بل كان مُثبّتاً من قبل التشريع القبلي للعقل. فمثلاً جاء عن الشريف المرتضى، وهو بصدد تأويل بعض الآيات التي لها علاقة بعصمة الأنبياء، قوله: ((إنه إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أن المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام؛ صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما يُفعل مثل ذلك فيما يرد بظاهره مخالفاً تدل عليه العقول من صفاته تعالى وما يجوز عليه أو لا يجوز))(1 2) . فالقاعدة التي يقررها هذا الاتجاه هو أن للعقول ((دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل..))(2 2).
وهذا الحال من الاتجاه نجده حتى لدى الأشاعرة المتأخرين، كالفخر الرازي الذي أكد في كثير من نصوصه على ضرورة الثقة بالعقل وممارسة التأويل حين تعارضه مع النقل، مُبدِياً أن دلالة العقل قطعية بخلاف دلالة النص التي لا ترقى بأكثر من الظن(3 2).
هكذا إن ذلك الحال يدل على وجود تأسيس قبلي للنظر العقلي به يتأسس الخطاب خارجاً وداخلاً، أو قبلاً وبعداً. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على وجود منافسة بين التشريع العقلي والتشريع البياني للنص.
على إنه من الضروري أن نعرف بأن النظام التشريعي للنص لما كان قائماً أساساً على ((المعيار))، وكذا هو الحال في النظام التشريعي للعقل، فهو أيضاً يقوم على ذلك ((المعيار))، الأمر الذي يميّزه عن نظام التشريع العقلي للفلسفة والذي يتأسس على ((الوجود)) لا ((المعيار)).. فهذا الحال من الاتفاق في المشاركة بالمعيار بين العقل والنص، والذي يجعل مدار قضاياهما مشتركة، من حيث أن العقل يبحث أساساً في المطارح التي يطرحها النص أو ما يتعلق بها مباشرة أو غير مباشرة؛ كل ذلك يشكل سبباً للوهم الذي أوقع الجابري في الالتباس الآنف الذكر، إذ بوجود طابع الشُركة المعيارية، ولكون العقل المعياري يتغذى من نفس المائدة التي أحضرها النص؛ فإن الجابري لم يفرّق بين الأمرين، فظن أنهما يعبّران عن تشريع واحد هو تشريع النص أو البيان.
على ذلك هناك مفارقة يبديها المشروع بخصوص غياب العقل في النظام البياني. ذلك إن هذا النظام يُعد بنظر الجابري عبارة عن فكر لا يقوم على أي فعّالية عقلية مستقلة، مع أنه في الوقت ذاته يعمل على توليد وتأسيس قضايا لها خصائص عقلية صرفة، كما في توليد النحو لقضايا علم الكلام على ما قدمنا.
دفاع عن العقل الشيعي
يُخطئ الجابري خطأً جسيماً حينما يجرّد الإمامية الاثني عشرية من صفتها المعيارية أو البيانية ليضعها في دائرة العرفان والباطنية المحضة، شبيهاً بالاسماعيلية. ذلك إنه ميّز بين السنة والشيعة تمييزاً جذرياً قائماً على أساس اختلاف النظام المعرفي. فهو يرى وجود عقلين ((باعتبار أن الأمر لا يتعلق بعقيدتين بل بنظامين معرفيين مختلفين يقرءان نفس العقيدة))(4 2). وهو في محل آخر قدّم بعض الأدلة والمؤشرات التي تثبت بنظره النزعة الباطنية للاتجاه الشيعي الإمامي. فهو من جهة اعتبر العالم الشيعي القديم هشام بن الحكم الذي ينتمي إلى مجموعة الإمام موسى الكاظم متأثراً بالديناصية، وهي حركة غنوصية تلتقي مع الهرمسية. كما أنه من جهة ثانية استدل على تلك النزعة من خلال وجود بعض الروايات ذات المسحة الباطنية في كتاب (الكافي في الأُصول والفروع) الذي يعدّ أهم كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة الإمامية. يضاف إلى أنه اعتبر الإمامية تتفق مع الاسماعيلية في نظرتها إلى الأئمة وعلاقة الإمام بالنبوة، لا فقط من جهة الروايات، بل أيضاً ((اعتماداً على منهجهم المفضل، منهج المماثلة))، أي المماثلة العرفانية. وفوق كل ذلك فإنه يساوي بينهما في نظرتيهما إلى مصادر الشريعة، إذ يعتبر الإمامية تنظر بذات النظرة التي يراها العالم الاسماعيلي الباطني القاضي النعمان (المتوفي سنة 3 6 3 هـ) الذي يرفض القياس والاجتهاد والاستدلال وكذلك الاجماع(5 2).
والواقع إن هذه الدلالات ليست سليمة ولا دقيقة للغاية. ففيما يتعلق بهشام بن الحكم، فالمطلع على الكتب الشيعية التي تتناوله؛ تنفي عنه تهمة الديناصية بعد إلتحاقه بالإمام الصادق، وعلى الأقل فإنها ليست راضية عما يحمله من أفكار. لذلك فقد عرّضه مثبّت التنظير الشيعي العقائدي الشريف المرتضى مع غيره من رجال الشيعة إلى النقد، إذ استنكر عليه وعلى جماعة أُخرى من الشيعة كعلي بن منصور وعلي بن اسماعيل بن ميثم ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين وإبن سالم الجواليقي؛ قولهم بأن الله عزّ وجل في مكان دون مكان وأنه يتحرك ويتنقل(6 2).
وليس الشريف المرتضى وحده من عرّض هؤلاء الكبار من الشيعة إلى النقد، فهناك غيره من المتأخرين من أبدى عدم وجود القطع في الوثاقة بأولئك ومن على شاكلتهم من أمثال أحمد بن محمد بن عيسى وزرارة بن أعين وليث المرادي وحريز وعبد العظيم بن عبد الله الحسني وغيرهم من أعـاظـم رجـال الـشيعـة الـقـدماء(7 2). مما يـدل على أن ما يـحملـه اولئـك من أفكار ومسالك لا تعني بالضرورة أنها من صلب التنظير الشيعي كما تثبّت بعد عصر الغيبة وإلى يومنا هذا، خاصة وأن كتبهم مفقودة بالكامل، وأن النزعات الباطنية المغالية المحكاة عن بعضهم لم تكن بمرضاةٍ لدى جلّ الشيعة خلال عصر التنظير. بل هناك بعض الروايات الشيعية التي تنقل نزعات بعض اولئك الرجال مع ما تتضمن من استنكار للأئمة عليها، ومنها الحديث المنقول في كتاب (الكافي) للكليني الذي رواه عن الإمام الصادق بشأن ما يعتقده هشام بن الحكم في طبيعة الذات الالهية. إذ جاء في الحديث أن البعض قد حكى للإمام الصادق بأن هشام بن الحكم يقول بأن الله جسم صمدي نوري، فاستنكر الصادق هذا الرأي وردّ عليه بالدليل والبرهان(8 2). وعلى العموم فإن مثل هذا الاعتقاد لم يقبل وسط الإمامية باستثناء فلاسفتهم وعرفائهم، لأنه يتلاءم مع نزعتهم الوجودية. حتى إن صدر المتألهين الشيرازي وجد لكلام هشام الآنف الذكر معنى عميقاً يعبّر عن حقيقة ما يريده الفلاسفة من اعتقاد، كما في كتابه (شرح أُصول الكافي)(9 2).
أما فيما يتعلق بكتاب (الكافي) ورواياته، فمع أنه معدّ من أهم كتب الأخبار المعتبرة عند الشيعة الإمامية، الا أنه وسائر كتب الأخبار الأُخرى لا تحظى بتوثيق وقبول جميع ما فيها من أخبار، بخلاف الحال مع ما ينظر اليه أهل السنة بالنسبة إلى بعض كتبهم الحديثية. ومع الأسف فإن العديد من المفكرين المعاصرين ومنهم الجابري ومحمد أركون وغيرهما ينظرون إلى كتاب الكافي عند الشيعة وكأنه صحيح البخاري عند السنة، أي أنهم يظنون أن الشيعة تنظر اليه نظرة قدسية ملؤها الصحة. فالاتجاه الأُصولي الإمامي ـ على خلاف الإخبارية ـ يعرّض الأخبار الواردة في كتب الحديث الشيعية إلى شتى أنواع النقد، سواء على الصعيد الخارجي المتعلق بالسند، أو على الصعيد الداخلي المتمثل بالمتن، مثلما فعل الـشيخ الـمفيد(0 3)، وزاد عليه تلميذه الـشريف الـمرتضى الـذي أكـثر من نقد الرواية والراوي، فاستخف بمصنفات أصحاب الحديث التي تعتمد على خبر الآحاد، وطعن بوسائط النقل ومنهم الكليني(1 3).
وقد استمر هذا المنهج النقدي لكتب الحديث والرواية لدى جميع الأُصوليين من الإمامية، إلى درجة أن المتأخرين منهم عملوا بنفس الطريقة التي سبق اليها الاتجاه السني في نقد السند من الحديث، والذي فيه يقسّم الخبر إلى أربعة أقسام رئيسية هي الصحيح والحسن والموثق والضعيف. وقد أطلق الشيعة على هذه الطريقة بطريقة ((الاصطلاح الجديد))، باعتبار أن مفهوم ((الصحيح)) عند القدماء منهم هو غير مفهومه بحسب هذا الاصطلاح، كما أن التقسيم برمته لم يكن معروفاً أو مأخوذاً به لديهم، فأول من استعاره من الاتجاه السني هو العلامة جمال الدين بن المطهر الحلي (المتوفي سنة 6 2 7 هـ) أو شيخه جمال الدين بن طاووس، ثم صار مسلكاً يحتذي به جميع الأُصوليين من بعده، الأمر الذي أنكره الإخباريون عليهم(2 3).
وبهذا النهج من ((الاصطلاح الجديد)) عُرّضت كتب الحديث الفقهية إلى النقد والتمحيص، حتى قُدّر ما ضُعّف من الأخبار الموجودة في المجامع الخبرية المعتمدة إلى ما يتجاوز النصف من الأخبار. ففي الكافي وحده، أحصى المجلسي في كتابه (مرآة العقول) الأخبار التي تُطرح استناداً إلى ذلك الاصطلاح وبغض النظر عن القرائن الأُخرى، فأوصلها إلى أكثر من ثلثي الأخـبار الموجـودة فـيه(3 3). كما وقُـدّر عدد الأحاديث الموجودة في الكافي بـ (9 9 1 6 1)، وبحسب الاصطلاح الجديد للحديث يكون منها (2 7 0 5) حديثاً صحيحاً، و(4 4 1) حديثاً حسناً، و(8 1 1 1) موثقاً، و(2 0 3) قوياً، و(5 8 4 9) ضعيفاً(4 3).
فهذا النوع من النقد للرجال والرواية لم نألفه لدى الاتجاه السني. وبالتالي فإن الشيعة الإمامية لم تحصر ممارسة نقدها العلمي على رجال وروايات غيرها، بل كما لاحظنا أنها قد طبّقت ذلك فيما يتعلق بأهم مصادرها الأساسية، سواء من حيث كتب الأخبار أو من حيث رجالها ومنهم الكبار والأعاظم من أصحاب أئمة أهل بيت النبوة. ومازالت هذه الحركة من النقد سارية الـمفعول حتى يومنـا هـذا(5 3) ، خـصوصاً أنها الـيوم تـمس أهم وأخطر عضو في الكيان الشيعي علمياً وعملياً، ألا وهو المرجعية.
على أن وجود روايات لها دلالات عرفانية باطنية في كتب أهل السنة كما في الصحاح وغيرها لا يجعل من الصحيح اعتبار أهل السنة عرفاء أو باطنيين، فمن الأولى أن يكون الشيعة كذلك، باعتبارهم يعرّضون جميع كتب الحديث والرواية للنقد بدون استثناء. من هنا فإن الجابري لم يُجِد الموازنة بين الحقلين السني والشيعي، إذ حصر البيان (= المعيار) في الأول بينما جرّده عن الثاني باستثناء الزيدية.
يضاف إلى ما سبق إن الإمامية كنظام معياري لم تستخدم المماثلة الباطنية العرفانية. فهي في غالبها أُصولية اجتهادية عقلية تتفق مع الاعتزال في طريقة تفكيرها، ويكفي ما أشار اليه الشهرستاني من أن الإمامية بعد عصر الغيبة قد انقسمت إلى إخبارية ومعتزلة أو أُصولية، مُذكراً إنه كان بينهما نزاع وصل إلى حد السيف والتكفير(6 3). فالنزعة العقلية ظاهرة عند أغلب رجالها منذ نشأة التنظير المعياري لها بعد عصر الغيبة. لهذا هي متهمة من قبل أصحاب البيان الإخباري في إتباعها للاتجاه السني في تقديم الأدلة العقلية على النقلية، سواء في الأُصول أم الـفروع(7 3). فهي تعدّ العقل أحد مصادر الـتشريع الأربعة للفقه (الكتاب والسنة والاجماع والعقل). وقد اقترن اعترافها بالعقل كأحد مصادر التشريع مع بداية نشأة التنظير عندها، كما يظهر ذلك جلياً لدى تصريحات الشريف المرتضى في عدد من المناسبات والرسائل، والتي منها قوله: ((لا تخلو الحادثة الشرعية التي تحدث من أن يكون حكمها مستفاداً من نصوص القرآن، إما على جملة أو تفصيل، أو من خبر متواتر يوجب العلم، وقلما يوجد ذلك في الأحكام الشرعية، أو من اجماع الطائفة المحقة.. فإن فرضنا أنه لا يوجد حكم هذه الحادثة في كل شيء ذكرناه؛ كنّا فيها على حكم الأصل في العقل، وذلك حكم الله تـعالى فيها إذا كـانت الـحـال هذه))(8 3). هذا بالـرغم من أن الاعتقاد الـسائد داخل حقل الفضاء الشيعي هو أن الاعلان بهذا المصدر قد جاء صراحة خلال القرن السادس، وذلـك عـلى يـد إبـن ادريس الـحلي (الـمتوفي سنـة 8 9 5 هـ)(9 3) ، أي أنـه جـاء بعد الـشريف المرتضى بأكثر من قرن من الزمان. والواقع إن إبن ادريس اتبع الشريف المرتضى في عدد من المواقف، كموقفه من خبر الآحاد والاجماع وكذلك الموقف الذي نحن بصدد البحث فيه، وهو الاعلان عن مصدر التشريع العقلي، إذ يقول في سرائره: ((.. فاذا فُقدت الثلاثة ـ أي الكتاب والسنة المتواترة والاجماع ـ فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عند مأخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها، فإنها مبقاة عليه وموكولة اليه. فمن هذه الطريق يتوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية))(0 4).
هكذا إن تأسيس الإمامية للعقل كمصدر أساس من مصادر التشريع يجعلها بحق أولى من غيرها في ممارسة الاجتهاد. وبالفعل إنها مارست هذه العملية في مجال الفقه كما هو الحال في مجال العقائد وعلم الكلام وذلك منذ نشأة تنظيرها المعياري خلال القرن الرابع الهجري، ومازال بابها مفتوحاً في المجال الأول ـ الفقه ـ بعد أن أقفل الاتجاه السني أبوابه في الاجتهاد منذ ذلك القرن وحتى يومنا هذا، باستثناء بعض الومضات التاريخيـة الخاطفة(1 4).
مع ذلك لا ينكر ما تحمله الإمامية من مسحة وجاذبية باطنية، سواء عند العقليين منهم أم البيانيين. لكن هذه المسحة لم تتأسس أبداً على النظام الوجودي، إذ ليس لها علاقة بدينامو التفكير الوجودي أو الأصل الفعّال المتمثل بالسنخية، وإن كان لا ينكر أن ما ظهر من تلك المسحة كان يتناسب مع ذلك النظام، ولعل أحدهما كان متأثراً بالآخر كما يلاحظ في التماثلات الخاصة التي ينطوي عليها كل من مفهوم الإمامة عند الشيعة ومفهوم الولاية عند العرفاء، وكأن أحدهما مستوحى من الآخر، الأمر الذي جعل عرفاء الشيعة بالخصوص يمزجون بين الأمرين، حيث ظهرت فكرة ولاية التكوين العرفانية الوجودية كأساس لحمل فكرة الولاية الشرعية التي يتضمنها مفهوم الإمامة المعياري عند الشيعة.
وعلى العموم إن من دواعي وجود المسحة الباطنية لدى الإمامية؛ وجود عدد ضخم من الروايات الشيعية حصيلتها هو أنها تشكل قوة جذب باتجاه الباطن، فأغلبها يتعلق بأسرار الإمامة مما يتناسب مع أسرار الولاية العرفانية، كعلوم الأئمة وقدراتهم ومعاجزهم الخارقة، بل وكلامهم المنطوي في ذاته على العديد من طبقات الباطن في المعنى(2 4). يضاف إلى الروايات التي تؤكد على بعض المصاحف والجفر التي فيها أسرار الخليقة والشريعة كما هو الحال في ((مصحف فاطمة)). فكل ذلك وغيره من روايات الباطن قد حفّز بعض الاتجاهات العرفانية على أن تتحدى أهل المعيار الشيعي، وذلك بوجود أكثر من ألفي حديث منقول عن الأئمة يؤيد اتجاهها الباطني، كما جاء على لسان شيخ الكشفية السيد كاظم الرشتي وهو يتحدى معاصريه خلال القرن التاسع عشر(3 4).
لكن الملاحظ هو أن تلك الروايات التي تتناغم مع النزعة الباطنية العرفانية؛ تتناسب في نفس الوقت مع ما يتضمنه المفهوم المعياري للإمامة عند الشيعة في بعض جوانبه وخطوطه، خصوصاً وأنهم يقولون بأن النبي (ص) أودع علمه الخاص لدى الإمام علي، ومنه إلى سائر الأئمة الآخرين بالتسلسل، بخلاف ما يقوله أهل السنة من أن النبي لم يودع أحداً شيئاً إلا وأظهره وبيّنه وأذاعه، مما يعني أن هؤلاء الأخيرين هم من دعاة البيان الخالص، في حين أن الإمامية تظهر بمظهر البيان الممتزج بالباطن، وهو ما يقرّبها نحو العرفان، مما يظهر أثره الازدواجي على الذهنية الشيعية، خاصة وإن رواياتها في العقائد عموماً وفي أسرار الأئمة خصوصاً لم تخضع للتحقيق والتنقيح متناً وسنداً مثلما حصل في الفقه. وهذا الإهمال جعلها تتخذ شكلاً انسيابياً قابلاً للنفاذ بسهولة نحو الذهنية الشيعية لتصنع فيها سلطة خفية تتحكم أحياناً في منطقها المعياري من التفكير، فتجعلها تميل نحو النزعة الباطنية، وإن كان ذلك لم يؤثر جوهراً على ذلك المنطق في مجال التنظير كما في الفقه والكلام وسائر العلوم المعيارية الأُخرى. الأمر الذي يجعلنا نخطئ لو أنّا حشرنا هذه الفئة ضمن الدائرة الباطنية من النظام الوجودي، بل ونخطئ فيما لو قلنا بأن هناك اسلاماً شيعياً في قبال الاسلام السني كما يروّج اليه العديد من المستشرقين. فالنظر اليهما من منظار ابستمولوجي يجعلهما قائمين ضمن نظام واحد من المعرفة، إلى درجة يمكن اعتبار أحدهما يعمل كإمتداد للآخر، كما فصلنا ذلك في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام).
الهوامش
(1) تكوين العقل العربي، ص 3 3 3 ـ 4 3 3.
(2) بنية العقل العربي، ص 4 8 2 ـ 6 8 2.
(3) القشيري: لطائف الإشارات، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور ابراهيم بسيوني، دار الكاتب العربي، القاهرة، ج 2، ص0 8 1 و 4 9 1 ـ 5 9 1 و 2 1 2.
(4) يلاحظ بصفة خاصة ما جاء في القسم الثاني من كتاب (مدخل إلى فهم الاسلام)، وكذلك كتابنا (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).
(5) انظر: بنية العقل العربي، ص 7 5 5.
(6) انظر: التراث والحداثة، ص 7 4 1 ـ 8 4 1. كذلك: بنية العقل العربي، ص 0 5 وما بعدها.
(7) جولدتسيهر، أجنتس: العقيدة والشريعة في الاسلام، نقله إلى العربية كل من محمد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحق وعلي حسن عبد القادر، دار الكتاب المصري في القاهرة، الطبعة الأُولى، 6 4 9 1م، ص 8 2.
(8) التوحيدي، أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، تصحيح أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، الليلة الثامنة، ج 1، ص 7 0 1 وما بعدها.
(9) تكوين العقل العربي، ص 0 6 2.
(0 1) المصدر السابق، ص 1 6 2 ـ 2 6 2.
(1 1) الفارابي: إحصاء العلوم، تصحيح وتقديم وتعليق عثمان محمد أمين، مطبعة السعادة بمصر، 0 5 3 1هـ ـ 1 3 9 1م، ص 8 1ـ 9 1.
(2 1) بنية العقل العربي، ص 8 2 4.
(3 1) يذكر إبن خلدون بأن صناعة المنطق قبل إمام الحرمين الجويني لم يكن ظاهرة في الملة، وما ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون ((لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك)). لكن منذ الجويني فإن هذه الصناعة قد أخذت طريقها وسط أهل الملة، ثم انتشرت وقرأها الناس وفرقوها عن العلوم الفلسفية من حيث أنها عبارة عن قانون ومعيار للأدلة فقط (تاريخ إبن خلدون، ج 1، ص 5 3 8).
(4 1) رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، نفس المعطيات السابقة، ج 4، ص 8 9 وما بعدها.
(5 1) تاريخ إبن خلدون، ج 1، ص 1 2 8 وما بعدها.
(6 1) تكوين العقل العربي، ص 0 2 1.
(7 1) بنية العقل العربي، ص 7 0 1.
(8 1) المصدر السابق، ص 5 5 1.
(9 1) المصدر السابق، ص 4 0 1.
(0 2) فهو ينقل عن الجاحظ قوله وهو بصدد التعليق على الآية القرآنية الكريمة (وعلم آدم الأسماء كلها): ((لا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا مسمى لغو كالظرف الخالي، والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئاً جامداً لا حركة له وشيئاً لا حس فيه وشيئاً لا منفعة عنده، ولا يكون اللفظ اسماً الا وهو مضمَّن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له ولا يكون اسم الا ويكون له معنى )). كما وينقل عن القاضي الهمداني قوله: ((إعلم أن المواضعة إنما تقع على المشاهدات وما جرى مجراها لأن الأصل فيها الاشارة على ما بينّاه. فإذا ثبت ذلك فيجب متى أردنا التكلم بلغة مخصوصة أن نعقل معاني الأوصاف والأسماء فيها في الشاهد، ثم ننظر: فما حصلت فيه تلك الفائدة نجري عليها الاسم في الغائب، وهذا في بابه بمنزلة معرفة ما له أصل في الشاهد في انه يجب أن يعلم أولاً ثم ينبني عليه الغائب)) (بنية العقل العربي، ص 8 6 و 9 6).
(1 2) المرتضى، الشريف علم الهدى: أمالي المرتضى، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، 3 0 4 1هـ، ج 2، ص 5 2 1 ـ 6 2 1. وعلى شاكلة هذا النص انظر للشيخ أبي جعفر الطوسي كلاً من: الاقتصاد في الاعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون في طهران، ص 2 6 1. والرسائل العشر، تقديم محمد واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين في قم، ص 5 2 3.
(2 2) رسائل الشريف المرتضى، إعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم في قم، 5 0 4 1هـ، ج 1، ص 1 2 1. كذلك: المرتضى: تنزيه الأنبياء، منشورات الشريف الرضي، قم، ص 4 1 و 4 2 و 3 9.
(3 2) ينظر بهذا الصدد مصادر الفخر الرازي التالية: أساس التقديس في علم الكلام، مطبعة كردستان العلمية في مصر، ص 0 1 2 ـ 1 1 2. وأُصـول الـدين، راجـعه وقـدم له وعلّـق عـليه طـه عـبد الـرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 4 0 4 1هـ ـ 4 8 9 1م، ص 5 2. ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، راجعه وقدم له وعلّق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولى، 4 0 4 1هـ ـ 4 8 9 1م، ص 1 7. كذلك انظر: چلبي، المولى حسن: شرح المواقف، طبعة حجرية قديمة، ج 1، ص 9 0 2.
(4 2) انظر: تكوين العقل العربي، ص 8 6.
(5 2) انظر: بنية العقل العربي، ص 2 2 3 ـ 1 3 3.
(6 2) رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 1 8 2.
(7 2) الـبهبهاني، وحيد الـدين: رسالة الاجتهاد والأخبار، وهي ملحقة خلف عدة الأُصول للـطـوسي، طـبعـة حجريـة لمـطبعة ميرزا حبيب الله في طهران، 7 6 3 1 هـ. ش، ص 2 5 ـ 9 5 و 8 7 ـ 9 7. كما انظر: النجفي، محمد حسن: جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، دار الكتب الاسلامية، طهران، 7 6 3 1هـ. ش، ج 2 2، ص 8 6.
(8 2) انظر: كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسم والصورة، في: أُصول الكافي للكليني، دار صعب ـ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1 0 4 1هـ، ج 1، ص 4 0 1.
(9 2) الشيرازي، صدر المتألهين: شرح أُصول الكافي، طبعة حجرية قديمة، باب النهي عن الجسم والصورة.
(0 3) المفيد، أبو عبد الله محمد العكبري: شرح عقائد الصدوق، أو تصحيح الاعتقاد، وهو ملحق خلف كتابه (أوائل المقالات)، مكتبة الداوري في قم، ص 4 6 ـ 5 6. كذلك: نعمة، عبد الله: فلاسفة الشيعة، منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، ص 4 6 4.
(1 3) هناك نصوص كثيرة للشريف المرتضى تُظهر هذا التوجّه، وبكيفية خاصة في: رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 6 2 ـ 7 2 و 0 1 4 / ج 3، ص 0 1 3 ـ 1 1 3.
(2 3) البحراني، يوسف: الدرر النجفية، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ص 5 6 1. والعاملي، الحر: وسائل الشيعة، المكتبة الاسلامية بطهران، ج 0 2، ص 8 6.
(3 3) الحسني، هاشم معروف: الموضوعات في الآثار والأخبار، دار الكتاب اللبناني ببيروت، الطبعـة الأُولى، 3 7 9 1م، ص 4 4.
(4 3) البحراني، يوسف: لؤلؤة البحرين، حققه وعلق عليه محمد صادق بحر العلوم، مطبعة النعمان في النجف الأشرف، ص 4 9 3 ـ 5 9 3. لكن يلاحظ أن مجموع تلك الأعداد يعطي (1 2 1 6 1) ولا يعطي العدد الكلي المتمثل بـ (9 9 1 6 1).
(5 3) انظر على سبيل المثال كتاب (الموضوعات في الآثار والأخبار) لهاشم معروف الحسني.
(6 3) الملل والنحل، ص 0 7. وانظر أيضاً ما ذُكر في آخر شرح المواقف من نص له نفس دلالة ما ذكره الشهرستاني. عن : الاسترابادي، محمد أمين: الفوائد المدنية، طبعة حجرية، تبريز، ص 3 4.
(7 3) كما هو الحال فيما ذكره الجزائري والبحراني في نقدهما لطريقة الأُصوليين العقلية (الجزائري، نعمة الله: الأنوار النعمانية، طبعة تبريز في ايران، ج 3، ص 9 2 1 ـ 1 3 1. والبحراني، يوسف: الحدائق الناضرة، مؤسسة نشر جماعة المدرسين في قم، ج 1، ص 5 2 1 ـ 7 2 1.
(8 3) رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 7 1 3 ـ 8 1 3.
(9 3) انظر مثلاً: المظفر، محمد رضا: أُصول الفقه، دار النعمان في النجف، الطبعة الثانية، 6 8 3 1هـ ـ 6 6 9 1م، ج 3، ص 2 2 1.
(0 4) إبن ادريس الحلي: السرائر، انتشارات المعارف الاسلامية بطهران، الطبعة الثانية، ص 3.
(1 4) انظر بصدد المقارنة في الإجتهاد بين الاتجاهين الشيعي والسني كتابنا: الإجتهاد والتقليد والإتباع والنظر، وبصفة خاصة الفصلين الأول والثاني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 0 0 0 2م.
(2 4) ذكر أهل البيان الإخباري بأن هناك العديد من الأحاديث التي تؤكد من أن للأئمة في كلامهم سبعين وجهاً ممكناً من المعنى . (انظر: الدرر النجفية، ص 7 8 ـ 8 8. كذلك: الكاشاني، الفيض: الأُصول الأصيلة، ص 7 1 ـ 8 1).
(3 4) الرشتي، كاظم: دليل المتحيرين، مطبعة السعادة بكرمان، الطبعة الثانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق