بين التفكير الماهوي والوقائعي


يحيى محمد

هناك سؤال قد يشكّل اليوم هاجساً كبيراً ينتاب الفكر الاسلامي حول علاقة الخطاب او التشريع بالواقع. ويمكن ضبطه بالصيغة التالية:

ما هو نوع التعامل الذي لجأ اليه الخطاب لتحديد موقفه من القضايا المشخصة للواقع، فهل كان يطبق منطقاً ماهوياً او وقائعياً؟ وهل كان يفترض الوجودات الخارجية بانها تحمل ماهيات ثابتة ام وقائع متغيرة ليُجري عليها احكامه ومواقفه؟ وبالتالي فهل جعل عنوان تعامله مع المشخصات الخارجية تابعاً للقوالب الحدية والماهيات الكلية المغلقة من امثال: الاسلام والايمان والشرك والكفر وغيرها من المفاهيم الكلية العامة، ام انه قيّد هذه القضايا بحدودها الاعتبارية الذهنية وجعل المشخصات الخارجية تدخل ضمن تعامل آخر قائم على المغايرة تبعاً للملابسات الجارية في الواقع؟

ولكي نجنب انفسنا والقارئ معنا الخلط والغموض لابد من ايضاح ما نقصده بالتعامل الماهوي وما يقابله من التعامل الوقائعي.

بادئ ذي بدء ان مفهوم ((الماهوي)) مستمد من معنى الماهية، وكذا مفهوم ((الوقائعي)) مستمد من معنى الواقع. فالمقصود بالماهية عبارة عن الطبيعة النوعية للشيء كأمر ثابت يتصف بالكلية والعموم. وما نقصده بالواقع فهو عبارة عن ذلك الشيء المشخص والملتبس مع غيره من المصاديق والصفات والطبايع الجزئية، واهم ما يحمله من خصوصيات هو خصوصية التغير والمرونة. ومن حيث المقارنة نلاحظ ان الماهية ذات طبيعة كلية لا تقبل التغير ولا الالتباس. في حين ان الواقع هو ذو طبيعة مصداقية لا يكون الا في وضع من التغير والتلبس الدائمين.

لكن حيث انه لا يوجد واقع من غير ما يقابله من ماهيات اعتبارية تطابقه؛ فالملاحظ ان التباس الواقعة بغيرها من الوقائع او الصفات يجعل من الواقع حاملاً لمصاديق الماهيات مجتمعة مع بعض حتى لو كان هذا الاجتماع والاتحاد يعبر عن نوع من التضاد او التنافر نتيجة التلبس والتغير، بخلاف ما عليه الماهيات التي لا تقبل التلبس والانفتاح. فالايمان مثلاً ذو طبيعة محددة من الناحية الكلية، فلا يمكن جمعها مع طبيعة أخرى، بل يظل المفهوم اشبه بالكائن الفرد الذي لا يقبل الانفتاح على غيره ليلتبس به، ما لم يكن في الأصل معبراً عن جمع عدد من المفاهيم الثابتة. أي ان هذه المفاهيم تصبح ضمن حقيقته الذاتية التي لا يمكن نزعها عنه. وبالتالي فانها ليست مورداً للتلبس مثلما يحصل الحال في الواقع. لهذا فان الايمان كمفهوم هو غيره كواقع. فمن حيث انه واقع نجده ملبساً بعدد من الصفات المختلفة التي تجتمع معاً في شخص واحد، كإن يكون الشخص متصفاً بالايمان والشجاعة والعلم والكرم، وهي صفات تعود الى ماهيات مختلفة قد اجتمعت - بعد ان لم تكن - في شخص واحد، حتى انها قد تتنافر احياناً رغم انها مجتمعة وعائدة الى ذات الشخص، اذ قد يكون متصفاً بالايمان والعلم والشجاعة لكن في الوقت ذاته يتصف ايضاً بالشحة والبخل وسوء الخُلق. كما قد يتصف بصفات مترددة كإن يكون تارة سيئاً واخرى حسن الخُلق، او يكون كريماً وأخرى بخيلاً. وهي صفات متضادة الا انها ترد على الشخص الواحد وتتلبس به مع سائر الصفات الأخرى. الأمر الذي لا يتصف به عالم الماهية اطلاقاً.

والسؤال هو: هل ان الخطاب تعامل في ترتيب احكامه ومعالجاته للمصاديق الخارجية طبقاً لاعتبارات الماهية ام تبعاً لالتباسات الواقع وتغيراته؟ فهل نفهم ان الخطاب حينما مقت الكفر انما يعني مقتاً للكافرين جمعاً وضرورة؟ وكذا هل حينما احب الايمان فانه يستلزم منه محبة المؤمنين كافة مهما كان أمرهم؟ وهل ان الدعوة الى محاربة الشرك تعني دعوة الى محاربة المشركين كافة بالضرورة؟ وبالتالي هل لا بد من ممارسة القياس المنطقي بجعل الماهيات الكلية مقدمات اساسية تتحكم في استتباع النتائج المحتمة؟

على انه يمكن صياغة السؤال بنحو آخر، وهو ان الخطاب دعا - مثلاً - الى محاربة المشركين وقتالهم، كما دعا الكافرين الى الالتزام بدفع الجزية وفرض ((الصغار)) عليهم، فهل ان هذه الاحكام صدرت طبقاً للعناوين العامة الكلية كالشرك والكفر، بحيث كلما وجد الشرك والكفر طُبق عليهما مثل تلك الاحكام، ام أنها صدرت بالنظر الى ملابسات الواقع المشكّل من مثل تلك الصفات مع غيرها من الصفات الأخرى لم يُعلن عنها صراحة؟

صحيح انه من حيث النظر الفلسفي ان التعامل لا يصح ان يكون بغير اعتبارات تحكم الماهيات، فطالما ان الوقائع تنتمي الى ماهيات محددة ؛ فان اي تعامل يأخذ الواقع بعين الاعتبار انما يكون بفعل تحكم الماهيات، وعند تضاد الماهيات وتنافرها لا بد من ترجيح بعضها على البعض الآخر. فهذا أمر مفروغ عنه بحسب المنطق الفلسفي للأمور.

لكن بحثنا انما هو بصدد الماهيات المعلنة على لسان الخطاب او المنتزعة عنه، وذلك في قبال الوقائع غير المعلنة، سواء من حيث ذاتها او من حيث ماهياتها. ففي هذه الحالة هل نعد الخطاب يطبق منهج ما ينطق به من الماهيات فحسب، أم انه يراعي أخذ ما لم ينطق به، أي يكون مراعياً لملابسات الواقع وما يشكله من مصاديق لماهيات اخرى غير مصرح بها؟ فهذا هو محل السؤال. وبالتالي فان الخلاف بين التفكير الماهوي والتفكير الوقائعي يتحدد بالموقف من المشخصات الخارجية إن كان قد اخضعها الخطاب الى نمط الماهيات المعلنة او المنطوق بها فحسب، ام ان الامر مفتوح للنظر كذلك في ملابسات الواقع. فبحسب التفكير الماهوي ان التعامل يجري على نحو واحد طبقاً لما هو معلن من ماهيات، ولو بطرق متعددة من الاستنتاجات البيانية الصرفة المعزولة عن أخذ الواقع بنظر الاعتبار، في حين يختلف الحال بحسب التفكير الوقائعي.

فاذا قلنا مثلاً ان الخطاب نصّ على وجوب محاربة المشركين، وعلمنا في الوقت ذاته انه خصّ بذلك البالغين منهم واستثنى عنهم النساء والشيوخ؛ فانه تتشكل لدينا حصيلة من المفاهيم العامة او الماهيات الكلية، وهي الشرك والبلوغ والرجولة. فلو انا وجدنا مصداقاً يحمل هذه المواصفات لكانت محاربة المشركين واجبة ومفروضة بحسب منطق التفكير الماهوي، وذلك لان الماهيات معلنة وجاهزة ولم يبق سوى ممارسة القياس المنطقي لننتهي بالنتيجة الحتمية من وجوب محاربة المشركين بحسب تلك الصفات. في حين انه بحسب منطق التفكير الوقائعي فان الامر قد يختلف ويتفاوت بحسب ما عليه الواقع. ذلك ان الشرك تجب محاربته وهو امر مفروغ عنه، لكن في الوقت ذاته اننا مطالبون من جانب آخر باحترام القيم الحسنة حيثما كانت. وفي الواقع قد يجتمع الشرك مع هذه القيم في شخص واحد، اذ سبق ان علمنا ان المصاديق المتنافرة يمكن ان تجتمع وتتزاحم في الواقع، وبالتالي فقد يلزم من ذلك نوع من العمل بالموازنة والترجيح، بحسب ما تقتضيه الاهمية. فمثلما ان الله تعالى دعانا الى محاربة الشرك، فانه دعانا في الوقت ذاته الى تقديس القيم العليا، خصوصاً اذا ما اعتبرناها من تجليات صفاته. وبالتالي فان المفاهيم المتضادة لا تقتضي التعامل الموحد، بل يشهد الوجدان على سلامة التغاير في المعاملة تبعاً للتنوع في الوقائع.

وحقيقة الامر ان منطق التفكير الوقائعي انما يتقوم بالاعتماد على تحكم ماهيات المقاصد الكلية العامة. فهو ايضاً من جانب يمارس تفكيراً ماهوياً، كما انه يمارس نوعاً من القياس، الا ان نتائجه تختلف عما عليه نمط التفكير الماهوي الذي حدد دائرته ضمن المنطوقات من الماهيات النوعية للاحكام من غير اضافة واقعية.

على ان ظاهر نصوص الخطاب اذا ما أُخذت على نحو التجزئة والانفصال كحقائق مغلقة اشبه بالمونودونات فانها تدل على النمط الماهوي، وبالتالي يصبح من المنطقي أن يقال: ما الذي يمنع النص من ذكر كافة التفاصيل التي تفيد المسلك الوقائعي، وعلى الأقل ابداء الطريقة العامة للمسلك، حيث هل يعقل أن يريد النص غير ما يظهره من معنى؟ مع هذا فان حقيقة الامر لا تضطرنا الى مثل هذه النتيجة لعدد من الاعتبارات التي تفضي الى قلب الاشكال رأساً على عقب. ولايضاح الموقف منهجياً لا بد من تحديد الشروط التي يتوقف عليها صدق المسلك الماهوي وسلامته. وكذا يمكن فعل نفس الشيء بالنسبة للمسلك الوقائعي.

فمن الشروط الاساسية لصحة المنطق الماهوي هو أن لا تتضارب مضامين النصوص فيما بينها. ذلك ان مثل هذا التضارب يجعل من الماهية الواحدة متضاربة في ذاتها. فلا يمكن على هذا الضوء بناء أي قياس منطقي طالما ان المقدمات متناقضة. وهو حال لا يشترط فيه بحسب المنطق الوقائعي، بل على العكس انه يؤيد هذا المنطق تماماً؛ ذلك ان حل مثل هذا التضاد لا يكون الا بأخذ اعتبارات تغاير الواقع، حيث منها ينشأ تبرير التعارض والاختلاف في الاحكام.

كما ان من شروط صدق المنهج الماهوي هو ان لا يتضارب مع حقيقة الواقع بأي نحو من الانحاء، وذلك لضرورة استلزام ان تكون الماهية مطابقة للخارج. ومثل ذلك ان لا يفضي هذا المنهج الى معارضة مع مقاصد التشريع العامة. فلو افضى الى ذلك لدلّ على خطأ هذا المنهج، مثلما يقال نفس الشيء بصدد المنهج الوقائعي، ذلك من حيث انه يستند في الأساس الى المقاصد، وبالتالي فأي تعارض معها انما يفضي الى معارضة ذاتية، فضلاً عن معارضة التشريع وهدفه.

لكن يظل أن المنهج الوقائعي لا يملك الحجة او الصفة المبررة من الناحية التشريعية للخطاب ما لم توجد ادلة تثبت كونه مقبولاً من قبل تشريع الخطاب، وعلى الاقل لا توجد معارضة له بنحو ما من الانحاء. فمن غير ذلك يصبح هذا المنهج مؤسساً تأسيساً خارجاً عن حدود اعتبارات الدائرة التشريعية، مثلما يتصف به المنهج العلماني الذي يقف كدائرة في قبال دائرة التشريع، الأمر الذي يجد رفضاً مطلقاً من قبل المنهج الوقائعي. لذا فمن الناحية التشريعية يتقوم هذا المنهج بعدد من الاعتبارات والادلة التي سنتناولها مجملة على التوالي ثم ندع ما تحتاج اليه من تفاصيل الى ما بعد، وذلك كالآتي:

1ــ انه بحسب المنهج الوقائعي يتقوم الخطاب ذاته بفضل المصدر المعرفي المستمد من الواقع. حيث ان المرتكز الأول الذي يقوم عليه هذا المنهج هو ((الواقع))، وذلك كمصدر معرفي تتقوم على ضوئه سائر المصادر المعرفية الأخرى، ومنها المعرفة الناشئة من النص، على ما رأينا من قبل.

2ــ يستفاد من الخطاب في نصوصه الغزيرة ما يؤكد صحة الاعتماد على الواقع كمصدر معرفي لا غنى عنه، مثلما يستفاد منه بشأن اتباع الطريقة العقلية الوجدانية. فالخطاب لا يكف من الحث على التعقل والتفكر والنظر في الآفاق لأجل التيقن والتحقيق. وبذلك يشكل الواقع مصدراً معرفياً لوّح اليه الخطاب في كثير من المواضع.

3ــ يلاحظ ان هناك قضايا كثيرة من نص الخطاب لا تُفهم باتساق ابداً من غير عرضها على الواقع ذاته. وبها يُعلم ان الخطاب قد عدّ الواقع - وكذا العقل - مصدراً مسلّماً به في الفهم. ذلك أننا لو اكتفينا بمجرد اللفظ والبيان اللغوي دون حساب للواقع؛ لكُنا قد عرّضنا الخطاب الى التصادم معه، او لكان الخطاب يعبر عن لغة لا يفهم معناها، خاصة بالنسبة الى تلك النصوص التي تشكل من البداهة الرجوع في فهمها الى الواقع والعقل والوجدان بما لا يتطلب لزوم الاشارة اليها، مثلما رأينا من قبل.

4ــ في أحيان معينة نجد أن تطورات الواقع ترغمنا على اعادة النظر في فهم النص، بحيث ان ابقاء الفهم معزولاً عن هذه التطورات يفضي الى التضارب مع الواقع. وهو أمر بقدر ما يتسق مع النهج الوقائعي؛ بقدر ما يبطل النهج الماهوي.

مع هذا يمكن القول اننا اذا كنا نضطر في كثير من الاحيان للرجوع الى الواقع لفهم غرض الخطاب وإن لم نجد اشارة من النص تلوّح الى ذلك؛ فانه في قضايا كثيرة أخرى لسنا مضطرين فعلاً الى الرجوع الى الواقع لفهمها. فهي قضايا مشكوكة يتنازع عليها كل من المنهجين الماهوي والوقائعي، فكيف يمكننا أن نرجح الفهم الوقائعي مع ان ظاهر النص يميل الى الفهم الماهوي؟

ما سنشهده فعلاً هو ان معاملة الخطاب للقضايا المشخصة في الخارج لا يمكنها ان تكون جارية بالمعنى الماهوي الذي تشبثت به الطريقة التقليدية للنظام المعياري، ودليلنا على ذلك ما سنكشف عنه من المسائل التي سلكها الخطاب في معالجته للقضايا المشخصة والتي مارسها بحرية واطلاق. ويمكن تحديدها على نحو الاجمال كالآتي:

1ــ ما أبداه الخطاب من تعارضات في الجوانب الحرفية من النصوص. وهو أمر جعل الطريقة التقليدية للنظام المعياري تضطرب وتضطر الى ان تلجأ الى الأخذ ببعض المعارضات على حساب البعض الاخر، او أن تعمل على تقنين هذه التعارضات عبر عمليات التخصيص والتقييد والنسخ وما اليها. مع هذا لم تفلح في حل التعارضات لكثرتها، مما جعل الآراء تتضارب بشدة قديماً وحديثاً، من دون حل جذري لأصل المشكل.

والملاحظ ان الدلالة التي تفيدنا بها التعارضات اللفظية الاطلاقية تتناقض والمنهج الماهوي. ذلك اننا لو طبقنا عليها هذا المنهج لافضى الأمر الى فرض مقولة التناقض والتضاد على أصل الخطاب، فيصبح بعضه يناقض البعض الآخر، او ان الماهية المنتزعة عنه انما هي ماهية متناقضة، وكل النتائج المترتب عليها لا بد ان تكون هي الأخرى متناقضة. وهو فرض لا يمكن قبوله، سواء من حيث الشهادة الوجدانية، او من حيث وجود البديل المناسب الذي دلّ عليه الخطاب بنحو ما من الانحاء، وهو صحة اللجوء الى الواقع لفهم غرض الخطاب كما اشرنا الى ذلك قبل قليل. الأمر الذي يفرض صدق المنهج الوقائعي في فهمه للقضايا المثارة من قبل الخطاب.

2ــ ما سلكه الخطاب من تعامل مع الواقع بحرية تامة من التنويع والتغيير، الأمر الذي لا يتسق مع التعامل الماهوي للقضايا، باعتبار ان هذا الأخير ليس له الا طريقة موحدة للتعامل مما يتفق مع حقيقة الماهية بأنها صورة موحدة لا تتقبل الانفتاح والالتباس بغيرها كما عرفنا.

هكذا فان القضايا المشكوكة يمكن حلها بما يُستكشف من الطريقة العامة لسلوك الخطاب إزاء المشخصات الخارجية، كما هو واضح من النقطتين الآنفتي الذكر.

يظل انه اذا كان هذا حال الخطاب فما هو الموقف العملي الذي ينبغي علينا ممارسته ازاء القضايا الخارجية المشخصة؟ فحالنا هنا بين أمرين:

فإما أن نتعامل مع هذه القضايا تعاملاً قائماً على المنهج الماهوي فنخالف بذلك ما سلكه الخطاب من جانب، كما وسنقع في دوامة لا تنتهي من التناقضات والصدام مع مقاصد التشريع والواقع.. أو لا بد من ان نسلك طريقة المنهج الوقائعي فنكون بذلك قد حققنا الغرض من اعتبار الخطاب مصدر ارشاد وإلهام؟

لكن قد نطرح التعامل بصيغة اخرى مختلفة كالآتي:

فنحن إما أن نحدد أنفسنا بذات ما نتصور من ان الخطاب قد وقف تماماً عند النتائج الاخيرة للقضايا التي أثارها، ولو في مرحلته النهائية بعد عمليات التصفية من النسخ وما اليه.. او أننا نتجاوز هذا الحال ولا نتقيد بما توقف عنده الخطاب؟

ويلاحظ في هذا الطرح اننا لو أبدينا انحيازنا الى الفرض الأخير فان ذلك سيثير عند القارئ شكلاً من أشكال الحرج الشرعي بما لم يلحظ في الطرح الأول. بل ان الكاتب لا يخفي هذا الحرج من نفسه اذا ما نظر الى الأمر بذات الصورة التي ينظر اليها القارئ. وقد يقال ان هذا ما يتفق مع الطرح العلماني الذي يجرؤ على ان يكون التعامل متجاوزاً لما انتهى اليه الخطاب.

وكمسعى لدفع هذا الحرج دعنا نجمع ما بين الطرحين الآنفي الذكر في صيغة جديدة قد تكشف عن الغرض المراد بوضوح اكثر.

دعنا نقول: اننا إما ان نتعامل مع القضايا المشخصة طبقاً لمفهوم الماهية فنكون قد التزمنا بالوقوف عند حد ما انتهى اليه الخطاب، لكنا قد خالفنا منهجه في المعالجة وورطنا انفسنا بمزيد من التعارضات الذاتية والوقوع في الصدام مع كل من مقاصد التشريع والواقع.. او لا بد من ان نلجأ الى المنهج الوقائعي، فنكون قد تأسينا بطريقة الخطاب ورفعنا عن انفسنا حرج التناقضات والصدام مع المقاصد والواقع، وإن كلفنا ذلك عدم التقيد بالكثير من الاحكام التي انتهى اليها الخطاب، اذ العبرة في المقاصد لا الاحكام ذاتها؟

ويلاحظ اننا في الطرح الجديد قد قربنا الصورة الى ذهن القارئ وإن لا زال هناك ما يعتريها من غشاوة بما لا يتسع المجال الآن لرفعها. لكنا فقط نشير الى نقطتين بهذا الصدد ونرجئ التفصيل الى ما سيأتي فيما بعد:

1ــ اننا في هذا الطرح نفترض حتمية اسقاط أحكام الخطاب في صدام مع مقاصده ومع الواقع؛ اذا ما انتهجنا المسلك الماهوي بالالتزام المطلق بالاحكام المقررة لدى الخطاب.

2ــ ان ما عبّرنا عنه من عدم التقيد بالكثير من احكام الخطاب طبقاً للنهج الوقائعي؛ ليس في اصله وحقيقته يعبّر عن فك القيد والانفصال، بل انه يفسر صلة هذه الاحكام بالواقع الخاص طبقاً للمبدأ الاصولي القائل بأن تغير الموضوع يفضي الى تغير الحكم. وهو امر يجعل من المعالجة بعيدة كلية عن الطرح العلماني.

كيف والملاحظ ان فهم النص ليس بوسعه أن يكون متسقاً في كثير من الاحيان ما لم تؤخذ الدلالة الواقعية بعين الاعتبار، وهو ما يؤكد صدق المنهج الوقائعي. خصوصاً ان الأمر لا يتوقف عند حدود الاحكام وانما يشمل مختلف قضايا النص التي لها علاقة بالمشخصات الخارجية.

***

ويلاحظ انه على شاكلة ما سبق يمكن فهم ما اثاره الخطاب من تعارضات تخص القضايا التوصيفية والغيبية العالقة بالمشخصات الخارجية، مثل مسائل الثواب والعقاب والتكفير والتفسيق وما اليها. فقد نجد احياناً ان القضية الواحدة يلوحها اكثر من حكم متعارض. ومن ذلك قوله تعالى:((ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها)) النساء/ 3 9. وهو من حيث الظاهر يقع في معارضة مع قوله تعالى: ((قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً)) الزمر/ 3 5. وفي الاحاديث نجد مثلاً قول النبي (ص): ((من مات وهو يعلم انه لا اله الا الله دخل الجنة))، وقوله(ص): ((من قال: اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله، وان عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه، وان الجنة حق، وان النار حق، ادخله الله من اي أبواب الجنة الثمانية شاء)) ( 1). ومثل هذه الأحاديث تقع بحسب الظاهر البياني في معارضة مع نصوص أخرى لا تكتفي بالشهادتين مثل قوله تعالى:((ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون)) المائدة/ 4 4، وقول النبي (ص): ((ليس بين الاسلام والكفر الا ترك الصلاة)) ( 2).

هكذا نجد احياناً ان الفرد - او الجماعة - يتوارد عليه عدد من المواصفات والاحكام المتعارضة لاعتبارات متضادة مبينة بالنص، فيحكم بعضها - مثلاً - بالأسلمة والايمان ودخول الجنة، فيما يحكم البعض الآخر بالكفر ودخول النار. وربما تبعاً لما سبق صوّر البعض حالات المعارضة واستصوبها بفعل المطاوعة التي تبديها النصوص، كما هو الحال مع قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن الذي يقول: ((ان القرآن يدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالاجبار صحيح وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بذلك فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين. وسُئل يوماً عن أهل القدر وأهل الاجبار فقال كلٌّ مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزّهوا الله.. وكذلك القول في الأسماء فكل من سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب ومن سماه كافراً فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس مؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو منافق ليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب ومن قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأن القرآن قد دل على كل هذه المعاني.. وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافه وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب.. ولو قال قائل ان القاتل في النار كان مصيباً ولو قال هو في الجنة كان مصيباً ولو وقف فيه وأرجأ أمره كان مصيباً، إذ كان انما يريد بقوله ان الله تعالى تعبّده بذلك وليس عليه علم الغيب. وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له ان ذلك كله طاعة لله تعالى)) ( 3).

على ان الرجوع الى ذات النصوص غالباً ما لا يفي بحل مثل تلك التعارضات إن لم تتدخل دلالة خارجية يستعان بها لفهم التعارض والتمايز. ذلك ان هذه التعارضات انما تكشف عن تعارضات الواقع وتلوناته، بحيث لا يمكن ان تجمع ضمن احكام ماهوية موحدة، خصوصاً وان الوجدان العقلي يلعب دوراً كبيراً بجعل الامور تتخذ تماسكاً منطقياً معقولاً مما يتفق مع الدلالات الخلقية التي تؤكد عليها مقاصد الخلق والتشريع، وبالتالي فان من الممكن تفكيك الاطلاقات الظاهرة من النصوص، ومنها النصوص المتعارضة، وتحويلها الى مضامين غير مطلقة او ماهوية.

وعليه سنقدم للقارئ - في هذه الحلقة - نموذجاً مستمداً من موقف الخطاب من المشركين وأهل الكتاب طبقاً لمنهج فك التعارضات الاطلاقية عن طريق المسلك الوقائعي. لذا لا نريد ان نقول هنا شيئاً سوى التأكيد على ان هناك ثلاث دلالات متعاضدة يمكنها حل ما يعترضها من المظاهر الاطلاقية وصور التعارضات المبتنية عليها، وهي كل من دلالة العقل والواقع والمقاصد.

وما نريد التأكيد عليه أخيراً هو انه لا يفهم مما سبق ذكره ان طريقة النظام المعياري تحرّم اللجوء الى الواقع مطلقاً. فهي أحياناً تضع له حدوداً هامشية، واخرى تضطر اليه اضطراراً بحسب ما تفرض عليها الحاجة الزمنية، لكنها من حيث المبدأ تتعامل مع القضايا تعاملاً ماهوياً بحسب ما هو مقرر في النص، بل ولدى السلف أيضاً. وبالتالي فالتمييز بين ذوي المسلكين الوقائعي والماهوي ليس باعتبار الحدود الفاصلة بينهما على ارض الواقع، ذلك انه لا توجد مثل هذه الحدود يمكن الاشارة اليها على نحو كامل وتام، طالما ان هناك بعض التداخل، وان ذوي النهج الماهوي من الطريقة التقليدية يلجأون أحياناً الى الاستعانة بالمسلك الوقائعي عند الحاجة او بصورة ثانوية، كما سنشهد لذلك الكثير من الحالات. وعليه فالتقسيم الذي أبديناه يظل تقسيماً منهجياً بحسب الاطار الكيفي، وذلك من خلال النظر في مبادئ وأنماط كل طريقة وتحليلها عقلياً مع اضفاء الصورة التامة لها كمسلك بغض النظر عما يلوحها أحياناً من تداخل على أرض الواقع.

الهوامش

( 1) هناك الكثير من مثل هذه الأحاديث، مثل ما روي انه (ص) قال: ((اشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما الا دخل الجنة)). وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من شهد ان لا اله الا الله، وان محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار)). وقال (ص): ((لا يشهد أحد ان لا اله الا الله واني رسول الله فيدخل النار، او تطعمه)). كما جاء في عدد من الروايات انه (ص) قال لمعاذ بن جبل: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) قال معاذ: الله ورسوله اعلم. قال (ص): ((فان حق الله على العباد ان يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل ان لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قال معاذ: يا رسول الله أفلا ابشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا))(صحيح مسلم، ج 1، ص 5 5ــ 2 6). وجاء عنه قوله ايضاً: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من كِبْر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان))(سنن ابن ماجة، ج 1، ص 3 2).

( 2) عن جابر قال: قال رسول الله (ص): ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) رواه احمد ومسلم وابو داود والترمذي وابن ماجة. وعن بريدة قال رسول الله (ص) : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) رواه احمد واصحاب السنن. وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: ((كان اصحاب محمد (ص) لا يرون شيئاً من الاعمال تركه كفر غير الصلاة)) رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين. وقال محمد بن نصر المورزي: سمعت اسحاق يقول: ((عن النبي(ص): ان تارك الصلاة كافر)). وقال ابن حزم: جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وابي هريرة وغيرهم من الصحابة: ((ان من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد)) ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفاً (السيد سابق: فقه السنة، ج 1، ص 0 8).

( 3) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص 5 5ــ 7 5.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار