المقاصد والمفارقة بين علم الكلام والفقه
يحيى محمد
لا اعتقد ان هناك مسألة اخطر واهم من المقاصد في البحوث الفقهية. واذا اخذنا باعتبار ان لهذه القضية جنبة كلامية وانها كانت محط مفارقات بين علمي الكلام والفقه؛ فان المسألة تزداد خطورة واهمية. فمن المعلوم ان علم الكلام يتقدم على الفقه بمستويين منطقيين. احدهما هو ان تأسيس الفقه يتوقف اساساً على القضايا الاصولية المحررة في علم الكلام، فمن غير اثبات هذه القضايا فانه لا تقوم للفقه قائمة، وبالتالي فان الفقه بلا كلام كالشجر بلا جذور تمد اليه مستلزمات الحياة. أما الامر الاخر الذي يهمنا فهو ان لعلم الكلام صفة توجيهية مؤثرة على علم الفقه، ذلك ان مطارح علم الكلام هي مطارح كلية اصولية قد تؤثر بشكل او بآخر على توجيه القضايا الفقهية. فمن ابرز الامثلة على ذلك قضايا التحسين والتقبيح التي تبحث في علم الكلام، الا انه يستفاد منها في علم الفقه. فمثلاً ان قاعدة البراءة الاصلية تستند لدى عدد من المذاهب الى مقولة الحسن والقبح العقليين، وذلك تحت عنوان قبح العقاب بلا بيان.
لكن بالرغم من الصفة التوجيهية التي يحملها علم الكلام إزاء الفقه فانا نجد احياناً بعض المفارقات التي تنتاب العلاقة بينهما على صعيد المذهب الواحد، ومن ذلك ما يتعلق بقضية المقاصد. فالاشاعرة رغم انهم في علم الكلام يعولون على نفي الغرض والتعليل والحكمة في الفعل الالهي، وبالتالي فان فكرة المقاصد منتفية لديهم - على الاقل في مجال الفعل والخلق - باستثناء ما ابداه بعضهم من تردد في كتبه كما لدى الغزالي؛ لكن مع ذلك فان هذه الفكرة حاضرة لدى المتأخرين منهم على الصعيد الفقهي. وقد كان الاشعري واتباعه ومن لف حوله من الفقهاء يعدون علل الشرع لا تخرج عن كونها مجرد أمارات وعلامات محضة مثلما هو الحال في سائر امور الخلق، حيث ارتباط الاقتران بالاشياء انما هو ارتباط عادي ليس بينهما ربط سببي ولا علة ولا حكمة ولا تأثير. وان الغزالي ومن تبعه يرى انه بالاستقراء عُرف ان المأمور به تقترن به مصلحة العباد بحصول ما ينفعهم، وكذا ان المنهي عنه تقترن به المفسدة، وبالتالي فبحسب عادة الشرع اذا حصل الامر والنهي فانه سيُعلم قرين ذلك من المصلحة والمفسدة، لا ان الله تعالى استهدف هذه المفسدة وتلك المصلحة، اذ من المحال لدى الاشاعرة ان يفعل الله لغرض وحكمة.
ورغم ما يلاحظ من ان هذه النظرية تبغي اقامة جسر رابط من الاتساق بين علمي الكلام والفقه، وذلك بتمديد الاعتبارات المعوّل عليها في العلم الاول وسحبها الى العلم الآخر؛ الا ان واقع الامر لا يخلو من مفارقة وتناقض، سواء في الكلام او الفقه. ففي كلا هذين العلمين يلاحظ ان نظريتهم تستلزم العناصر الغائية التي استبعدوها، حيث ان وجود الأمارة والعلامة في علاقات الاشياء هو في حد ذاته لا يمكن ان يفسر الا على نحو الاعتراف بمبدأ القصد والغرضية، وذلك طبقاً لمنطق الاستقراء الذي عوّل عليه الغزالي ومن تبعه. فلو أنا أخلينا الساحة الالهية من الغرض والحكمة في العالمين التكويني والتشريعي؛ لكان من المستحيل ان ندرك أي أمارة وعلامة بين الاشياء يمكنها ان تهدينا الى معرفة القوانين العادية في عالم التكوين، وكذلك القوانين القياسية في عالم التشريع.
وبعبارة أخرى، اذا توخينا منطق الاحتمالات فان فرض نفي الغرض الإلهي لا بد أن يستلزم كماً هائلاً جداً من الامكانات المحتملة للمشيئة الالهية التي فيها تكون الأمور غير منظمة ولا متسقة بالكامل سوى امكان واحد فقط في عالم التكوين، ومثله في عالم التشريع، وجميع هذه الامكانات تكون متساوية الاحتمال، حيث لا مرجح لبعضها على البعض الآخر اتساقاً مع فرضية نفي الغرضية. لذا فان قيمة احتمال تحقق الاتساق الكامل في علاقات الاشياء للعالمين الآنفي الذكر هي في غاية الضآلة وسط العدد الهائل من الامكانات المحتملة. وعليه فانه طبقاً لحساب الاحتمالات أن تحقق الامكان ذي العلاقات المتسقة لا يكون معقولاً أبداً تبعاً لفرضية نفي الغرضية، بينما هو معقول جداً تبعاً للمبدأ المقابل. أي أن إدراكنا لوجود الاتساق في العالمين هو دليل تام على اثبات مبدأ الغرضية والحكمة. وهو أمر ينطبق على عالم التكوين بلا ادنى شك لقوة ما فيه من نظام وتكامل واتساق، كما ينطبق ايضاً على عالم التشريع، لكونه هو الاخر يمتلك الاتساق والنظام الذي يكشف بما لا مزيد عليه من الاغراض والمقاصد الواضحة، وبالتالي فان انتظام التشريعات واتساقها دال، بحسب منطق حساب الاحتمالات، على وجود الحكمة في التشريع، حيث يكسب قيمة احتمالية قدرها مجموع احتمالات الامكانات الاخرى المقابلة، وهي قيمة كبيرة جداً تتحول الى قطع ويقين من الناحية العملية. على هذا فان فكرة الاشاعرة تنطوي على التناقض، فهي تستبعد من جانب مبدأ الغرضية، لكن بمقولتها تفضي الى الأخذ بها لا محالة.
هذا من جانب، ومن جانب اخر هو ما ظهر من تناقض لدى المتأخرين من الاشاعرة الذين اعترفوا بوجود مقاصد وعلل محددة في الشرع، في حين انهم نفوا ذلك على صعيد عالم التكوين. ومن هؤلاء الامام الجويني وتلميذه الغزالي في بعض كتبه، والامدي في (الاحكام)، والشهرستاني في (نهاية الاقدام)، والفخر الرازي في بعض كتبه. وقد عدّ الشاطبي هذا الاخير ممن اضطر في كتبه الاصولية ان يدافع عن علل الاحكام مثلما في كتابه (المحصول في اصول الفقه) بما لا يتسق مع كتبه الكلامية، حيث اعتبر تلك العلل بمعنى العلامات المعرّفة للاحكام الشرعية. فلدى هؤلاء أن المقاصد والعلل غائبة على صعيد الخلق والايجاد، لكنها حاضرة على صعيد الأمر والتشريع، او أنها غائبة على نحو الكلام والعقيدة وحاضرة على نحو الفقه والشريعة. مع ما يلاحظ ان الخلق والتشريع كلاهما من قبل الله تعالى، فذاك عبارة عن خلقه وتكوينه، وهذا عبارة عن امره ونهيه، وكلاهما عبارة عن كتابين، تكويني وتدويني. وعليه كيف يتسق القول بوجود مقاصد واغراض لله في التشريع دون ان يكون له مثلها في الخلق والتكوين؟!
يضاف الى انه بحسب الاستقراء وحساب الاحتمالات نرى ان تشخيص المقاصد في الشريعة يبعث على تأكيد صحة ما يستنتجه الوجدان العقلي المستقل بخصوصها. اي ان المصالح المقصدية المدركة بالعقل هي صحيحة لا من حيث ادراك العقل القبلي مستقلاً فحسب، بل حتى من جهة ما يدل عليه الاستقراء وحساب الاحتمالات طبقاً للمقارنة بين النتائج العقلية المستقلة والنتائج الشرعية، وذلك لأن تطابق منتجات التشريع ومنتجات العقل لا يمكن ان يكون صدفة ما لم يكن هناك وحدة تجمعهما معاً. الامر الذي غاب على الشاطبي، رغم اعترافه بوجود المقاصد والغايات التي يدل عليها الاستقراء الشرعي من حيث ان الاحكام موضوعة لمصالح العباد. اذ انكر ان تكون هذه المصالح والمقاصد مما يمكن ان تُدرك بالعقل المستقل، وظلّ مخلصاً في هذه الناحية مع الاتجاه الاشعري برفض نظرية الحسن والقبح العقليين، وإن خالفهم في اثبات تلك الغايات والمقاصد. لكن الاشكال الذي يواجهه الشاطبي في هذا الصدد هو ان اعتماده على منهج الاستقراء في اقرار المقاصد الشرعية هو ذاته يمكن توظيفه في توكيد قضايا الوجدان العقلي الخاصة بادراك الحسن والقبح، حيث ان التوافق الحاصل بين الاحكام والاصول الشرعية وبين قرارات العقل لا يمكن ان يكون صدفة بحسب منطق الاستقراء وحساب الاحتمالات، لذلك فبنفس المنهج الذي اعتمده الشاطبي يثبت خطأ نظريته في عزل العقل عن التشريع.
على ان المفارقة التي وجدناها بين الفقه والكلام لدى متأخري الاشاعرة؛ نجدها بشكل اخر لدى الامامية الاثنى عشرية. فهي في علم الكلام تؤمن بمبدأ الغرضية، وان العقل قادر على كشف الغرض والحكمة من الفعل الالهي، كما وتؤمن تبعاً لذلك بغرض التكليف وحكمة التشريع على النحو الاجمالي. لكنها في علم الفقه تجد العقل عاجزاً عن ادراك مقاصد الاحكام الشرعية. فالعقل الذي تؤمن بقدرته الكشفية المفتوحة في علم الكلام هو غير ذلك العقل الذي تعترف بعجزه عن ان يدرك مقاصد التشريع وملاكات الاحكام الا على نحو ما ينص عليه الشارع. وهذا يعني ان المقاصد وإن سُلّم بوجودها في التشريع الا انها كالمنفاة لعدم امكان ادراكها ومن ثم توظيفها، خلاف ما هو عليه الحال في الكلام. ألامر الذي يفضي الى نوع من المفارقة، حيث قدرة العقل على الاثبات في هذا العلم الاخير وعجزه عن ذلك في الفقه.
بذلك يكون الاتجاهان الامامي والاشعري حاملين لمفارقتين مقلوبتين ومتعاكستين. فمن الناحية المنطقية ان من المفترض والمتوقع ان تلجأ الاشاعرة الى نفي المقاصد من التشريع، ونفي ان يكون للعقل قدرة على استكشاف التعليل من النص ما لم يكن صريحاً بذلك، وكذا نفي العمل بالاجتهاد ومنه القياس ما لم يدل على ذلك النص صراحة يلزم الوقوف عنده، وحتى في هذه الحالة يفترض ان لا ينبني الاجتهاد على التعليلات والاغراض، باعتبار ان ذلك يعود بها من جديد الى قبول فكرة المقاصد والاغراض الالهية التي يقتضي الامر نكرانها؛ اتساقاً مع اتجاهها الكلامي في نفي مبدأ الغرضية.
كذلك من المفترض والمتوقع ان تلجأ الامامية الى العكس، وهو ان تؤمن بقدرة العقل الاجتهادية عبر النصوص في الكشف عن مقاصد التشريع والعمل بالقياس المعلل اتساقاً مع ايمانها الكامل بمبدأ الغرضية والقدرة العقلية على كشف الحكمة والاغراض على صعيد الفعل الالهي ومبرر التكليف.
لكن تظل المفارقة التي هي عليها الامامية مفهومة ومبررة، حيث أن إبعادها للعقل عن الممارسة الاجتهادية التي تتضمن التعليل والقياس وكشف المقاصد؛ انما يعود الى ما تستند اليه من النصوص الكثيرة المانعة عن ممارسة مثل ذلك الدور، وهي النصوص المروية عن اهل البيت (ع). لهذا أنها أجرت الفاعلية العقلية ضمن اطار القضايا الكلامية دون الفقهية. مع هذا يمكن القول ان الفقه لدى الامامية لم يتقولب على قالب واحد، بل أخذ اشكالاً متعددة وابعاداً تطورية مختلفة. فاذا كان أغلب المتقدمين منهم اقفلوا الباب بوجه العقل وأوصدوه، معولين في ذلك على صِرف الجوانب الحرفية للنصوص بلا أدنى أثر للاجتهاد؛ فان أغلب المتأخرين كانوا على خلاف ذلك، حيث أبدوا اهتماماً متزايداً على قضايا الاجتهاد وتوظيف العقل ولو ضمن حدود. لكن الأمر المثير هو ما حدث بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران، حيث النقلة النوعية لصالح الممارسة العقلية ورد الاعتبار للنظر الى المقاصد بعد ما كانت في السابق من القضايا التي يمنع التحرك في اطارها الاجتهادي طالما أنها بعيدة عن أن تنتزع من النصوص. ففي ايران اليوم نجد خطوة اولية وبداية مفتوحة لمطالبة الفقه الامامي للتحدث عن حجية المصالح والمقاصد التي يمكن للعقل ادراكها من الواقع وإن لم تستنبط من النصوص وآلياتها. وهي خطوة أخذت طريقها نحو الممارسة وإن لم تُستحكم بالتنظير لحد الآن، لكنها تظل - على أي حال - مبشّرة بفتح الطريق أمام الامامية نحو اجتهاد جديد من شأنه العمل على رفع المفارقة وبناء الاتساق بين تمسكها العقلي المفتوح في علم الكلام وبين اعتباراتها الاجتهادية في علم الفقه. بينما ظل الحال مع الأشاعرة كما هو من المفارقة والتناقض من غير رفع ولا بناء جديد حتى يومنا هذا. فهم ما زالوا متمسكين بذات القالب الكلامي من نفي مبدأ الغرضية، وإن وضعوا الى جنبه ما ينقض ذلك في مقولاتهم الفقهية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق