فكرة المجال واليات التفسير والتأويل

يحيى محمد

اعتاد علماؤنا ان يقسموا قراءة النص الديني وفهمه الى قراءة تفسيرية واخرى تأويلية. وهم في غالب الاحيان لا يميزون من الناحية المنهجية بين القراءات التأويلية التي يمارسها المتكلمون وبين القراءات الباطنية التي يسقطها العرفاء وغيرهم من ذوي النزعات الغنوصية. وعادة ما يقصد علماؤنا بالقراءة التفسيرية هي تلك التي تتضمن حمل الفاظ النص على معناها البيّن او الظاهر، وعلى خلافها القراءة التأويلية، حيث انها تحمل الالفاظ على غير ظاهرها.

وواقع الامر ان هذا التقسيم لا يفي وطبيعة ما تقوم به اليات القراءة، وذلك لوجود الفرق الجوهري بين الممارسات التأويلية كما يزاولها المتكلمون، وتلك التي يسقطها العرفاء والغنوصيون. ويعود السبب في عدم هذا التمييز الى غياب فكرة جوهرية عليها تتحدد طبيعة الية قراءة النص الديني، وهي الفكرة التي نطلق عليها (المجال.(

ونقصد بالمجال هو ان هناك نوعاً من المحور المحدد في الطرح يدركه كل من اراد قراءة النص، سواء استطاع تحديد القراءة ام لم يستطع، وسواء عمل وفق الظهور اللفظي للنص ام لم يعمل، وكذا سواء انه احتمل نوعاً من القراءة ام انه توقف كلياً دون ادراك ما هو المقصود من النص. فكل ذلك لا يخل بفعل ادراك المجال العام له، وهو انه يتحدث حول محور ما بدلالاته المجملة اللفظية والسياقية. فمثلما يكون للنص دلالته اللفظية المفصلة ضمن علاقاته السياقية فان له كذلك دلالته المجملة التي هي غير الدلالة اللفظية المفصلة. فهذه الدلالة لها من الظهور هي غير الظهور اللفظي المفصل، بمعنى ان للنص ظهورين: لفظي ومجالي.

فمثلاً قد نتوقف ازاء ما يعنيه قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} طه/5، فمع انه قد لا نعلم بالضبط ما يراد من هذا النص القرآني، لكن مع ذلك اننا ندرك المجال الذي يتحدث عنه النص، فهو لا يتحدث عن الخبز والشعير، ولا عن الانسان والحيوان، ولا عن طبيعة العلم والحياة، ولا عن القضايا المطروحة حالياً كالاصالة والمعاصرة وحقوق المرأة وشؤون السياسة والاوطان وغير ذلك.. انما يتحدث عن نوع من العلاقة التي تربط الله بشيء اطلق عليه العرش، فهل هذه العلاقة هي كعلاقة الملوك بعروشهم؟ وهل ان العرش هنا هو نفس ما نتصوره من مفهوم جسمي؟ وكذا هل معنى الاستواء هو ما نفهمه من الظاهر المتبادر في الذهن ام شيء اخر؟ فمهما حددنا نوع القراءة ام لم نحدد اي شيء من ذلك ونتوقف كتوقف الامام مالك او اشد منه؛ فان مجال النص والقراءة هو مجال حاضر لا يغيب، ولو لم يكن حاضراً لكنّا قد استعنا بمجالات اخرى كتلك التي افترضناها وهي ابعد ما تكون من ان يعنيها النص، كمجالات الخبز والشعير!

اذن ان ادراك المجال لا يتوقف على فعل تحديد القراءة. فحتى لو كان هناك نوع من التحفظ في ابداء اي نوع من القراءة المحتملة، فان ذلك لا يشكل عقبة عن ادراك المجال، طالما امكن معرفة ما تدور عليه الاحداث اللغوية بالاجمال والعنوان العام. مما يعني ان شرط ادراك المجال هو معرفة مثل هذا العنوان، فلو لم يدرك لكان النص معبراً عن الخفاء والغموض التام، مثلما هو الحال بخصوص قراءة الحروف المقطعة في اوائل سور النص القرآني، حيث انها مبهمة المعنى اجمالاً وتفصيلاً، عنواناً واحداثاً، وبالتالي فان المجال فيها مبهم غير ظاهر.

فالمجال يعبر عن المعنى المجمل للموضوع الذي يتم طرحه على بساط البحث من النص اللغوي. او انه عبارة عن ذلك الظهور في المعنى العام للمحور الذي يتناوله النص، وان هذا الظهور العام يتشكل مما نفهمه من الاجمال الكلي للالفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة المحور الذي يطرحه النص وان لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية ولا اشارية، بل يكفينا في ذلك معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الاحداث اللغوية للنص، وذلك شبيه بما يحصل من تبادر للمعنى المجالي عند النظر الى عناوين الكتب والمقالات، حيث تنبؤنا - غالباً - عن طبيعة الاحداث التي تتضمنها هذه الدراسات وإن لم نقرأها ونطلع عليها بعد.

ليس هذا فحسب، بل علينا لحاظ ان الظهور المجالي هو ظهور يعبر عن الادراك المجمل للكل، وهو الادراك الذي يستبق ادراك الاجزاء، فمنه يبدأ تحديد مفاصل الاجزاء المتمثلة بالدلالات اللفظية. وهو بذلك اشبه بالصيغة الجشطالتية، حيث فيها يتقدم الكل على الاجزاء، وان هذا الكل لا يساوي مجموع اجزائه، وايضاً فان قوانينه تختلف عن قوانينها. وكذا بخصوص المجال فانه لا يعبر عن مجموع الدلالات اللفظية، وان الظهور فيه هو ليس من الظهور اللفظي (المفصل)، وادراكه يحصل بالتبادر المباشر، وهو سابق في ظهوره لظهور الدلالات اللفظية، بل ان حضوره شرط في تحديد هذه الدلالات.

على ان بفكرة المجال يمكن التمييز بين ثلاث اليات مختلفة، وهي التي نطلق عليها الاليات الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية.

اذ يشترط في الالية الاستظهارية هو انها تحقق العمل تبعاً لمحورين اساسيين، احدهما انها لا تخرج في قراءتها عن الظهور المجالي للنص، وبالتالي يفترض انها لا تحوله من هذا المجال الى مجال اخر مختلف. أما المحور الاخر فهو انها تقيم قراءتها وفق الظهور اللفظي للنص. وبالتالي فان لهذه الالية شرطين ينبغي الحفاظ عليهما، وهما المجال والظاهر، وان الاخذ بالظاهر يقتضي الاخذ بالمجال من دون عكس.

ويشترط في الالية الاستبطانية هو انها تتخلى عن كلا الشرطين من القراءة الاستظهارية الانفة الذكر، فهي لا تحتفظ بالمجال كما يطرحه النص، كما انها تبعاً لذلك لا يمكنها ان تحافظ على ظاهر لفظ النص. فعدم الحفاظ على المجال يفضي الى عدم الحفاظ على الظاهر من دون عكس. وخاصيتها الاساسية هو انها تعمل ضمن مجال مختلف جديد لا يمت بصلة مع المجال المطروح. او يمكن القول انها تعمل على استبدال المجال الظاهر بمجال اخر، هو ذلك الذي يتحدث عن (الخبز والشعير!)، وان مبرر هذه الممارسة قائم على ما لبعض المنظومات المعرفية من دوافع اسقاطية عند قراءتها للنص الديني، فهي بحسب قبلياتها المعرفية تقرأ النص وفق المجال الذي تفكر فيه، ومنه يتحول الظهور اللفظي الى رمز يشير الى مضامين هذا الفكر. وابلغ من مارس هذا الدور من الالية الاستبطانية هو الاتجاهات الغنوصية والعرفانية. فمثلاً ان لابن عربي تصوراً رمزياً لقصة يوسف، معتبراً ان المقصود بيوسف من حيث الباطن هو النفس المؤمنة، واباه يعقوب هو العقل، واخوته هم النفس الامارة واللوامة، وان امرأة العزيز هي النفس الكلية وهكذا.. فهذه التصورات الرمزية تتحدث عن مجال اخر غير المجال الظاهر في النص.

أما الالية التأويلية فتتصف بأنها وسط بين الاليتين الاستظهارية والاستبطانية. ذلك انها تتقوم بشرطين، احدهما تعمل عليه الالية الاستظهارية، والاخر تعمل عليه الالية الاستبطانية. كما انها في القبال تتخلى عن شرطين لكل منهما. ذلك انها تحافظ في قراءتها على الظهور المجالي دون ان تستبدله بمجال اخر بعيد، وهو ما يجعلها تتفق مع الالية الاستظهارية دون الاستبطانية. لكنها من ناحية اخرى لا تعمل بظاهر اللفظ، مما يجعلها تتفق مع الالية الاستبطانية دون الاستظهارية. فوظيفتها محددة - اذن - بالقراءة التي تعمل على تأويل الظهور اللفظي ضمن المجال الذي يلوح في افق النص، وذلك استناداً الى القبليات المعرفية وعلى رأسها تلك التي تتصف بالطابع المنظومي. ويكفي ان نحدد شرطها بكونها لا تعمل بالظهور اللفظي فحسب، حيث يفهم من ذلك انها تحتفظ بالمجال.

***

هكذا ننتهي من حيث المقارنة بين هذه الاليات الثلاث، هو ان الالية الاستظهارية خاصيتها الحفاظ على الظاهر اللفظي، وذلك لان هذا الفعل يقتضي في الوقت ذاته الحفاظ على المجال من دون عكس. بينما الالية الاستبطانية هي على الضد من الاولى، حيث خاصيتها الاساسية هي ترك المجال وابداله باخر بعيد، الامر الذي يقتضي عدم الحفاظ على الظاهر اللفظي من دون عكس. في حين ان الخاصية الاساسية للالية التأويلية هي خاصية جهوية او نسبية، حيث يمكن تحديدها بعدم الاخذ بالظهور اللفظي فحسب، وفيه ان هذا التحديد لا يقتضي اهمال المجال وتركه. كما يمكن تحديدها بانها تعمل وفق المجال فحسب، وفيه يفهم انه ايضاً لا يقتضي ذلك العمل بالظاهر اللفظي. فهذه الالية ليس فيها محل اقتضاء مثلما لاحظنا ذلك في الاليتين السابقتين.

ويمكن التعبير عن الفوارق بين الاليات الثلاث بالصيغة الرياضية كالاتي:

الاستظهار = الظاهر + المجال

الاستبطان = ــ المجال ــ الظاهر

الـتـأويـــل = المجال ــ الظـاهـر

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار