الفكر الاسلامي والفهم المقصدي والتعبدي للدين


يحيى محمد

تنقسم هذه الدراسة الى قسمين مترابطين، احدهما يتعلق بالاساس المنهجي من الفكر الديني، والاخر بالتطبيق. ولنبدأ بالاساس المنهجي كالاتي:

الفكر هو علاقة معرفية تربط الذهن بالموضوع. او هو قراءة الذهن ورؤيته للموضوع. ففيه ان العلاقة قائمة بين القراءة والرؤية من جهة، وبين الموضوع من جهة اخرى. فطالما هناك تفكير بشري فانه لابد من هذه العلاقة الثنائية. فمثلاً في علم الطبيعة هناك علم وهناك طبيعة مستقلة من جهة ثانية، او قل هناك شيئان: شيء لذاتنا وشيء في ذاته.

وهذا التقسيم يجعل العلاقة بين الفكر والموضوع ليست متطابقة بالضرورة، فهي اشبه بعلاقة الماهية بالوجود حسب تصور فلاسفتنا القدماء، اذ الوجود واحد لكنه يتعدد بتعدد قابليات الماهيات ويتنوع بتنوعها. وهكذا فان الفكر يتعدد مع ان الموضوع واحد. وهذا ما يبرر اختلاف القراءات الى الدرجة التي يرى فيها الكثير ان النص مفتوح وقابل الى ما لا نهاية له من القراءات، واليه يعود السبب فيما يطرح احياناً من تساؤل حول ما اذا كان للنص معنى مقصود كشيء في ذاته ام لا؟ فهذه النسبية تدل على ما للفكر من تأثر بكل من الذهن والموضوع، مثل تأثر الصورة في المرآة بكل من الشخص وهذه الاخيرة. فالمرآة المستوية لا تعطي ذات الصورة التي تعطيها المرآة المقعرة او المحدبة، لكن جميع المرايا تظل معبرة عن شيء واحد لا غير، هو ذلك الشخص، دون ان تخلط بينه وبين غيره من الاشياء. ونفس الحال يجري مع الفكر والقراءات.

هكذا ان الفكر مهما يكن فانه واقع لا محالة بتأثير الذهن البشري واعتباراته القبلية؛ الخاصة منها والعامة، سواء كانت هذه الاعتبارات منضبطة او غير منضبطة. وليس الفكر الديني ومنه الاسلامي بمنئى عن هذه الحقيقة العامة، حيث انه ايضاً متأثر بما عليه الذهن البشري واعتباراته القبلية، فهو بالتالي فكر بشري اجتهادي قابل للتعدد كغيره من مذاهب الفكر. وحتى التيار المتصف بالنقلي او الاخباري او البياني يستند الى عدد من القبليات المعرفية تجعله تياراً اجتهادياً كغيره من التيارات الدينية، كالذي اشار اليه ابن رشد في بعض المواضع (1).

مع هذا فان ما يقدمه الفكر البشري من اجتهاد في قراءته للموضوع لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع ( الخام)، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه. فنحن هنا اشبه ما نكون امام غابة كبيرة تشهد بوجود الاشجار الكثيفة دون شك، وكأن الاشجار تعلن عن نفسها، أما سائر الاشياء الاخرى مثل انواع محددة من الحيوانات فانها لا تشهد بنفسها على ذلك الا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك اشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا اشياء لا نعلم عنها على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة، وعليه فالموضوع الخام، لم يعد موضوعاً لا ينطق بحقائق فعلية، رغم ان هذه الحقائق تتوقف معرفتها على الادراك، لكنها تظل واضحة لا تحتاج الى جهد في التحديد والتعيين. اذن في المادة او الموضوع الخام هناك حقيقة عامة تشهد عليها القرائن الكثيرة مما يجعلها ظاهرة بنفسها دون جهد ادراك، سواء كان الموضوع الخام عبارة عن واقع او وجود او نص او عقل. لكن حيث ان الحقائق المنكشفة لمضامين الموضوع تبقى محدودة، لذا فان ما يتبقى من مضامين سوف يتم التعامل معه بالتفكير والاجتهاد، وذلك من خلال العلاقات التي تربط قبليات الادراك بالموضوع، فعند هذا الامتزاج يتحول الموضوع الى علم وتفكير، حيث ان العلاقة الكشفية الممتزجة تارة تتم مع موضوع الطبيعة فينتج لنا علوم الطبيعة، واخرى مع النص فينتج لنا علوم النص، وثالثة مع العقل فينتج لنا علوم العقل... الخ.

وبعبارة اخرى انه عندما يُعرض الموضوع على الذات البشرية فله وجه من الحقائق المنكشفة، مثلما له وجه اخر متلبس مع ما عليه قبليات الذات الكاشفة. والحقائق هنا لا يقصد بها الحكم على ما يتضمنه الموضوع من صواب او خطأ، بل يقصد بها الجانب الوصفي فحسب. فمثلاً يمكن ان نصف نصاً ما من حيث هذه الحقائق التي لا تخطئها الذات القارئة بنحو ما من الاجمال والعموم، لكن ذلك لا علاقة له بمضمون ما يريد النص اثباته، سواء كان على صواب او خطأ. لذا يمكن ان نطلق على مثل هذه الحقائق بالحقائق الاصلية او (الموضوعية)، حيث يعبّر الموضوع في انكشافه عن حقائقه الاصلية، وهو كونه على ما هو عليه من الخصائص المنكشفة.

ويلاحظ انه عندما يكون العقل هو الموضوع، ففيه يحصل نوع من الاتحاد بين الكاشف والمكشوف، او العاقل والمعقول، اذ يصبح العقل كاشفاً عما في نفسه، وهو من الحضور المباشر. وليس الامر كذلك فيما يتعلق بغير العقل من موضوعات، حيث فيها يكون الكاشف غير المكشوف، او ان العلاقة بينهما هي علاقة غير مباشرة.

***

لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد: ما هي خصوصية الفكر الديني او الاسلامي، او ما الذي يمايزه عن غيره من ضروب التفكير؟

في بداية الامر علينا ان نعرف بان خصوصية اي فكر تعتمد على ما يستند اليه هذا الفكر من مصادر معرفية منضبطة. وهذه المصادر على نوعين متلازمين لا غنى لاي فكر وعلم من ان يرجع اليهما للانتاج والتوليد المعرفي، وهما كالاتي:

مصادر ذاتية: وهي تشكل خصوصية الفكر المعني، وبدونها ينتفي ذلك الفكر. وتمتاز بانها تحمل اعتبارات معرفية خاصة غير مشتركة لدى تيارات الفكر المختلفة.

مصادر عارضة: وهي ليست ذاتية، او ليس لها خصوصية الفكر المعني، لكنها قد تلعب دوراً اعظم من المصادر الذاتية نفسها. وتمتاز بانها تحمل اعتبارات معرفية قد تكون مشتركة وقد تكون خاصة.

والمقصود بالاعتبارات المعرفية انها الدواعي والادلة التي عليها تتولد النتائج المعرفية. وهذه الدواعي والادلة قد تكون ذات طبيعة دينية، او تكون علمية كاعتبارات مبدأ البساطة والتجريب، او تكون وجودية كاعتبارات مبدأ السنخية، وقديماً قال فلاسفتنا: ((لولا الاعتبارات لبطلت الحكمة - الفلسفة -)) (2).. وقد تكون دواعي وادلة مشتركة. ويمكن تحديد الاعتبارات المشتركة، التي هي موضع ثقة جميع الدوائر المعرفية، بكل من: اعتبارات حقائق الواقع الموضوعي، والاعتبارات الرياضية الثابتة، والاعتبارات المنطقية الواضحة، والاعتبارات العقلية المشتركة كمبدأ السببية، والاعتبارات الوجدانية المشتركة كالتسليم بحقيقة الواقع الموضوعي العام. وجميع هذه الحقائق المشتركة يمكن عدها ثابتة باستثناء الاولى، باعتبارها نسبية وتخضع لاعتبارات منطق حسابات الاحتمال والترجيح. كما ان هناك نوعاً اخر من الاعتبارات المشتركة يخص قضايا القيم الاخلاقية، وهي وإن بدت ثابتة في عدد من القواعد الكلية، مثلما عليه قاعدة العدل، الا ان مصاديقها متأثرة بما عليه طبيعة الواقع وتغيراته، لهذا فقد تفضي بعض المصاديق الى ان تكون ذات اعتبارات خاصة وليست مشتركة. كما قد تتزاحم القواعد عند تضارب مصاديقها مع بعضها بما يمكن ان نطلق عليه (تزاحم القيم)، مثل التزاحم الذي يحصل احياناً بين قاعدة الصدق وقاعدة حفظ النفس المحترمة.

ومن حيث مصادر المعرفة انه اذا كان العقل والواقع يفضيان الى اعتبارات مشتركة تارة، واخرى غير مشتركة، فان الامر مع النص الديني يختلف، ذلك انه لا يسفر الا عن اعتبارات خاصة؛ رغم انها قد تكون مدعومة باعتبارات مشتركة من العقل او الواقع.

وحقيقة الامر ان فلسفة الاعتبارات يمكن ان تطبّق على المجالات الانسانية المختلفة، كالنواحي النفسية والاجتماعية والحضارية وغيرها. فكل طرف في هذه النواحي يرتبط مع الاخر باعتبارات ذاتية وعارضة، كما ويرتبط معه باعتبارات خاصة ينفرد فيها الطرف لنفسه، واعتبارات عامة يشترك فيها مع غيره. فمثلاً ان الحضارات العالمية تختلف فيما بينها بنواحي بنيوية خاصة، يمكن ان تميز حضارة ما عن اخرى، لكن مع هذا الاختلاف هناك مشتركات تجمع بين الحضارات تجعلها اقرب الى النزعة الانسانية العامة بما تحمله من قيم متقاربة في نواحي عديدة، ومنها القيم الاخلاقية العليا.

ومثلما تتصف المصادر الذاتية بانها موضع ثبات واتفاق بين المنتمين للفكر المعني، فان المصادر العارضة يسود فيها التغير والاختلاف. فمثلاً في علم الطبيعة الحديث ان التجربة والاختبار تعد من ابرز محددات المصادر الذاتية لهذا العلم، لكن يضاف اليها مصادر عارضة بعضها ميتافيزيقية واخرى تتعلق بما يطلق عليه الحدس والخيال، او غير ذلك. وبالتالي فلو ان هذه المصادر العارضة تغيرت او انتفت فان ذلك لا يغير من طبيعة خصوصية العلم الطبيعي وهو انه قائم على الاختبار والتجريب، بخلاف الحال فيما لو انتفى الاختبار كلياً، حيث ان ذلك يزعزع الطريقة العلمية باكملها ويجعلها نمطاً اخر من التفكير.

وتتحدد المصادر الذاتية للفكر الاسلامي بالنص او الكتاب والسنة، واذا كانت السنة شارحة للكتاب وتبياناً له فان الاصل يصبح مقتصراً على الكتاب. اما المصادر العارضة فتتنوع وتختلف بحسب الفرق والاتجاهات، ومن هذه المصادر العقل الكلامي والعقل الفلسفي والذوق الكشفي، وكذا القياس والاستصلاح والاستحسان، وغير ذلك من المصادر والاعتبارات.

ولو عدنا الى المصادر الذاتية فسنجد ان ابرز القضايا المعتبرة فيه هي نظرية التكليف، وذلك لكثرة ما تشهده من القرائن الدالة عليها، وهي من حيث كونها ابرز القضايا فان ذلك يجعلها المحور الذي يدور حوله الفكر الاسلامي والديني عموماً، وبالتالي فان هوية هذا الفكر محددة بهذه النظرية.

وتتضمن نظرية التكليف اربعة محاور هي موضع اتفاق المسلمين اجمالاً وان اختلفوا حولها تفصيلاً، وهي: محور المكلِّف والمكلَّف ورسالة التكليف وثمرة التكليف.

لكن اذا اخذنا باعتبار ان كل فكر وعلم يمكن تقسيمه منهجياً الى نوعين من الفكر: احدهما نطلق عليه (فكر في ذاته)، والاخر (فكر متحقق)، فسيصبح ان الفكر الاسلامي بما هو في ذاته انما يعبر عن تلك الهوية المجملة من نظرية التكليف، وانه بهذا الشكل يحمل الاعتبارات الذاتية لا العارضة، لكنه من حيث كونه فكراً متحققاً فان ذلك يعني النظر اليه من حيث تجسده في التراث المعرفي فعلاً (3). وان العامل الاهم الذي يعد من طبيعة الفكر المتحقق يتجلى في الاعتبارات العارضة لا الذاتية. فعليها يتنوع الفكر ويتجدد، بل وبها يصبح الفكر قائماً على الجمع لا الطرح.

وهذا يعني ان التعدد في الفكر الاسلامي كان - في الغالب - بفضل الاعتبارات العارضة، ومن ذلك ان اغلب الطرق المعرفية لهذا الفكر قائمة على الاعتبارات العارضة لا الذاتية.

بل تبعاً لهذه الاعتبارات اخذت نظرية التكليف تظهر برؤيتين متعارضتين في مرآتين مختلفتين تمام الاختلاف. ونقصد بذلك الفهم الذي اقامه كل من النظامين المعياري والوجودي لنظرية التكليف حسب تأثير الاعتبارات العارضة لهما في الغالب.

واكثر من هذا يمكن القول انه لما كان لكل علم اعتباراته المختلفة، وان بعض هذه الاعتبارات ذاتية والاخرى عارضة، لذا من المتوقع ان تحصل هناك انواع من التعارض، منها ما يحصل بين الاعتبارات العارضة ونظائرها، وكذا بين الاعتبارات الذاتية ونظائرها، وايضاً بين الاعتبارات العارضة والذاتية، وقد يمتد الامر الى ان يكون التعارض بين الاعتبارات العارضة وحقائق الموضوع الخام - كحقائق النص العامة مثلاً -، وكذا العكس. ذلك ان الاعتبارات العارضة قائمة بدورها على موضوع خام اخر ليس هو ذاته الذي تقوم عليه الاعتبارات الذاتية، الامر الذي يعني وجود مدارات مختلفة من التفكير يتنافس بعضها مع البعض الاخر، ومن ذلك التنافس بين مدار التفكير العارض الذي تنشأ عليه الاعتبارات العارضة، ومدار التفكير الذاتي الذي تنشأ عليه الاعتبارات الذاتية، وحيث هناك مداران للتفكير، احدهما ذاتي واخر عارض، او قل ان لدينا موضوعين كلاهما يتصفان بالخام، ولهما حقائقهما المنكشفة المستقلة، احدهما ذاتي، والاخر عارض، فهذا يفضي الى ان يكون هناك نوع من التنافس وربما الصراع والصدام، حيث لكل منهما اعتباراته الخاصة، وهي الاعتبارات الذاتية والعارضة. وقد يفضي الصراع الى ان يكون صداماً بين الاعتبارات العارضة وبين حقائق الموضوع الذاتي، ومن ابرز الشواهد عليه ما حصل مع النظام الوجودي، حيث افضى التفكير ضمن مداره الوجودي العارض الى أن كانت نتائجه لا تتفق مع موضوع النص الخام او حقائقه الاصلية (4). وهنا ان المشكلة ليس في النزاع الذي يحصل بين التفكيرين الذاتي والعارض، وذلك لان كلاهما عبارة عن تفكير اجتهادي، انما المشكلة في الصدام الذي قد يحصل بين التفكير العارض وبين الموضوع الذاتي. مثلما قد يحصل الصدام بين التفكير الذاتي وبين الموضوع العارض، فالتفكير الذاتي، وهو في قضيتنا عبارة عن التفكير البياني، قد يتحول الى ما يشكل صداماً مع الحقائق الاصلية للموضوع العارض كالعقل والواقع والوجود.

مهما يكن فجميع الطرق المتحققة للفكر الديني، باعتباراتها الذاتية والعارضة، كانت تعاني من مشاكل اساسية ثلاث كالاتي:

الاولى: انها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة في فحص مفاهيمها ومقولاتها، ويعود السبب في ذلك الى انها تعد حالها من المذاهب القطعية.

الثانية: انها غيبت الاعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الاتجاهات العقلية انما كانت اتجاهات عقلية تجريدية، او انها تتعامل في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يكن هناك تمييز بين هذين النوعين من العقل.

الثالثة: انها كانت تستند في الاساس الى الاعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة. بل وكانت اعتباراتها والنتائج المترتبة عليها تجريدية في كثير من الاحيان، الامر الذي يصعب اخضاعها للاختبارات الواقعية المباشرة. وهذا يعني انها تتقوقع ضمن دوائر مغلقة من التصورات والمنظومات الذهنية التي لا تقبل الاختراق او الفحص الخارجي والاحتكام الى المنطلقات العامة المتمثلة بالواقع والاصول العقلية العامة، وكل ما يمكن فعله هو الفحص الضمني لتبيان ما قد تتعرض اليه من تعارضات ذاتية او ضمنية. ومن الامثلة التي تخص التعارضات الذاتية للاعتبارات في المنظومات المغلقة؛ ما جاء عن النظام الوجودي بخصوص العذاب وعلاقته بالاسماء. فهناك اعتبارات حكمية وعرفانية متناقضة، فمن الاعتبارات الدالة على عدم الخلود في العذاب ما ذكره صدر المتألهين في عدد من كتبه كالشواهد الربوبية وغيرها وهو ان القسر لا يدوم في الطبيعة وان لكل موجود غاية يصل اليها يوماً . كذلك ان الرحمة الالهية وسعت كل شيء. لكن في قبال هذه الاعتبارات هناك اعتبارات اخرى منافية يمكن ان تكون دالة على العذاب الدائم، وذلك ان النفوس خاضعة للاسماء الالهية، وان من الاسماء الالهية ما يظهر بمظاهر الانتقام والعذاب، وان من مقتضيات الاعيان الثابتة هو ان تكون على ما عليه بعد ان يفاض عليها الوجود، فالسعيد من سعد في بطن امه والشقي من شقي في بطن امه. وكذا يمكن ان يقال بخصوص نظرية الصدور وما تتضمنه من تعارضات ضمنية (5). وعلى هذه الشاكلة ما جاء في النظام المعياري من اعتبارات تجريدية وضمنية متعارضة، كما هو الحال في الموقف من بعض قضايا الحسن والقبح وغيرها.

وعلى خلاف المنظومات المغلقة هناك المنظومات المفتوحة التي تتقبل التمحيص والفحص الخارجي، كما تتقبل منطق الترجيح والاحتمال، كالذي عليه المنظومات العلمية.

والسؤال المطروح: ما هي المعايير المتبعة للتقسيم الذي عرضناه حول المنظومات المغلقة والمفتوحة؟ فما معنى كونها مغلقة او مفتوحة؟

ان ما نقصده من المنظومات المفتوحة هو ان تكون قابلة لخوض البحث فيها خارج اطار ما تعارف عليه من المسلمات الضمنية الخاصة، وسحبها الى ساحة خارجية تتصف بالقبول باعتبارها موضع ثقة الجميع. ومن ابرز المعايير المتفق عليها هو معيار الواقع وحسابات الاحتمال. فكل منظومة تتقبل مثل هذا الاختبار الخارجي فانها تكون مفتوحة، والا كانت مغلقة، الامر الذي يفضي بها الى ان تكون موضع جدل ونقاش لا ينتهي، لعدم القدرة على تمحيصها بنحو محايد وبعيد عن الاعتبارات المعرفية الخاصة. اذ يصبح كل حوار بمثابة ((حوار الصم)). فمثلها كمثل من يدعي ان عنده علماً بعدد النجوم، حيث لا يمكن اثبات صحة دعواه او نفيها. وبالتالي فليس هناك من امكانية للتفاهم الا عبر المشتركات، سواء كانت هذه المشتركات عبارة عن حقائق معرفية مستنتجة، او كانت عبارة عن اعتبارات معرفية يتم التفاهم على ضوئها.

ولا شك ان هذا التقسيم لا يوازي تقسيم القضايا الى تجريبية وميتافيزيقية، ذلك ان بعض القضايا الميتافيزيقية تقبل الاختبار من منطق حسابات الاحتمال والواقع، وعلى رأس ذلك المسألة الالهية، وفي القبال هناك قضايا واقعية لا تقبل الاختبار، ولو من الناحية العملية، مثل حساب عدد النجوم في الكون، وحجم الفضاء.

***

تلك كانت نقاط ضعف الاتجاهات المعرفية للفكر المتحقق، من غير فرق بين تلك التي عولت على الاعتبارات الذاتية او العارضة، حيث الاولى انطلقت من مقولة ((انما أُمرنا ان نأخذ العلم من فوق))، اي من النص (6). أما الثانية التي تشعبت بها الطرق والاتجاهات فاغلبها كانت تجريدية؛ إما بحكم موضوعاتها الخاصة، او لان معالجتها للقضايا المعرفية كانت تحت سلطة العقل القبلي. وعليه اذا اردنا ان يكون هناك فكر متحقق جديد يتجنب الوقوع فيما وقع به الفكر المتحقق التقليدي؛ لابد من الاخذ بالنقاط التالية (7):

1 ــ المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، اي مراجعة نقد الذات على التواصل.

2 ــ احضار الواقع بقوة ضمن مفاصل الفكر الديني، واحضار الدراسات التي تخص واقع الانسان وحقوقه.

3 ــ تقليص الاعتبارات الذاتية مع توسعة الاعتبارات العارضة. وهذا ما يتطلب العمل بجعل الاعتبارات الذاتية مجملة، على خلاف الاعتبارات العارضة، خاصة تلك التي تتعلق بالانفتاح على الواقع، والجمع بين هذين الاعتبارين يتيح لنا ان نعد الاعتبارات الذاتية موجهات دون ان يكون لها سلطة تكوينية في الذهن، وذلك على خلاف الاعتبارات العارضة كما تتمثل بالواقع (8).

4 ــ العمل على تفعيل الاعتبارات العارضة المشتركة لا الخاصة. فقد جرّب الفكر المتحقق الديني العمل وفق الاعتبارات الخاصة دون ان ينجح، وهو لم يجرب بعد العمل وفق الاعتبارات المشتركة. وحيث ان هناك نسقاً منطقياً يتحكم في العلاقة بين المعرفة والوجود والقيم، لذا كانت المهمة الملقاة على عاتق الاعتبارات المشتركة هي الانطلاق من البعد المعرفي ليتم بناء كل من النسقين الوجودي والقيمي، واخص بالذكر هنا ضرورة الارتكاز على منطق الاحتمال والاستقراء في التكوين المعرفي.

***

ومن حيث التطبيق يمكن للفكر الديني ان يجعل من نظرية الاستخلاف قاعدته للتحرك، فهي جامعة لاصلين هامين على مستوى الاعتقاد والسلوك، وهما الايمان بالله الواحد والعمل الصالح. فهي نظرية تستقطب عدداً من القضايا، حيث هدفها بناء (الانسان الصالح) وفقاً لمنظومة القيم، وذلك عبر الاطلاع على تجارب البشرية. فلو رجعنا الى النص الديني، كما في القرآن الكريم، نجد انه يستهدف هذين الاصلين دون شرط او قيد، وبالتالي فانه يستهدف بناء ذلك الانسان، كما يدل عليه ما لا يحصى من التعاليم الدينية. فغرض وجود هذه التعاليم واضح، وهو العمل على بلوغ الانسان ان يكون صالحاً، سواء مع نفسه او مع غيره من افراد المجتمع، وسواء مع الطبيعة او مع الله تعالى.

والحديث هنا عن مفهوم (الانسان الصالح) لا يتعلق بالجانب الفردي للانسان، ولا يتعلق كذلك بالمجتمع ككل، وذلك باعتبار ان هذه الصورة الاخيرة لا تخلو من طوباوية من الصعب تحقيقها، انما يتعلق الامر بالامكانات الواقعية لدى عدد كبير من الافراد والشرائح الاجتماعية التي باستطاعتها التغير تبعاً للمنطق الانساني لهذا المفهوم، فضلاً عن ان يكون لها القدرة على التأثير الايجابي في المجتمع تبعاً لما تحمله من قوة في المنطق والقيم. فمقومات هذا الانسان لا تميز بين عرق وعرق اخر، ولا بين مذهب واخر، ولا دين واخر، ولا بين مسلم وغيره، الا بقدر ما يمتلك من عناصر ومقومات الصلاح، فهي ذات نزعة انسانية عامة تستهدي بقوله جلّ وعلا: ((يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات/3 1 .

وعلى الصعيد النظري تختلف ابعاد هذا التصور عن ابعاد تصور حضارة الغرب الحديثة، حيث تطالب هذه الاخيرة ان يكون الانسان حراً دون قيود ما لم يمس حريات الاخرين، وليس الامر في التصور الديني الذي يطالب الانسان ان يكون صالحاً، وان الحرية - ضمن حدود - لا تعد غاية في هذا الصدد، بل هي وسيلة حقة دونها يعجز الانسان ان يصل الى مبتغاه من الصلاح المنشود.

كذلك فان التصور السابق يختلف عن التصور التعبدي الذي يضفي على الوسائل والاليات الدينية صفة التعبد، فيرى العمل بالدين هو ذاته عبارة عن العمل بما هو جاهز من الاليات والوسائل الدينية بكل ما تتضمنه من تشريعات جزئية. وبالتالي فبحسب هذا التصور الاخير انه لا يمكن فصل الدين عن اليات النُظم الاجتماعية المستنبطة من الاصول الدينية ومفاهيمها، وعلى رأسها اليات النُظم السياسية والاقتصادية والقانونية، ويكون غرضها تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات.

ونحن نطلق على الدعوات التي ترى هذه الاليات وتطبيقاتها جزءاً لا ينفصل عن الدين؛ سمة (الفهم التعبدي للدين). ونطلق على التصور السابق المخالف لهذه النظرية؛ سمة (الفهم المقصدي للدين).

وبحسب (الفهم التعبدي للدين) هناك مسألتان، احداهما الاليات كوسائل، والاخرى الجاهزية من التشريعات الجزئية التي تلعب - في الغالب - دور الغاية لتلك الوسائل، والتي تمثل لديه عين الدين ذاته. ومنه يفهم قول الامام الغزالي: ((الملك والدين توأمان، فالدين اصل والسلطان حارس، وما لا اصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع)) (9).

وكلا المسألتين معرضتان للنقد الذاتي. فاذا بدأنا بالغاية، فان مفادها اعتبار الدين هو عين الجاهزية من التشريعات التي يراد تطبيقها عبر تلك الوسائل او الاليات. فالدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين. ومن الممكن ان تأخذ المسألة بعداً اخر، وهو اعتبار تطبيق تلك الجاهزية عين العدل، فكل ما يطرح خلاف تلك الجاهزية ليس من العدل ولا من الدين بشيء. فالشريعة هي العدل، والعدل هو الشريعة. وقد يعني هذا ان من غير الممكن الارتكاز على الوجدانيات العقلية لتقرير ما هو العدل، وذلك تأثراً بالموقف الاشعري. وبالتالي لا توجد مراعاة لما يمكن ان تفضي اليه النتائج من تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات، وما قد تفضي اليه الامور خلاف الهدف المنشود، وهو بناء الانسان الصالح. بل نحن على ثقة ان عملية التطبيق لابد ان تسفر عما هو خلاف العدل ومقاصد الدين، وذلك باعتبارهما ليس لازمين عن تلك المفاصل الشرعية بالضرورة، بل الامر يتوقف عما عليه طبيعة الواقع والظروف، وحيث ان هذين الاخيرين في حالة تغير مستمر فان من المحال - على ذلك - ان تكون تلك المفاصل مناسبة ومتفقة مع العدل والمقاصد باستمرار، فهي مجعولة ضمن اعتبارات ما كان عليه الواقع، ولا يعقل ان تكون ثابتة ثبات هذين الاخيرين، فهي ذات طبيعة اجرائية جزئية قد تتفق احياناً مع المقاصد، وقد تتضارب معها احياناً اخرى، وكل ذلك يعتمد على ما عليه طبيعة الواقع وتغيراته التي لا تتوقف باي حال من الاحوال، كالذي فصلنا الحديث عنه في اكثر من دراسة، مثل (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع). الامر الذي يعني ان التصور السابق سوف لا يعمل على اقامة الدين وتطبيقه، بل على تشويهه او اجتثاثه والغائه. فالدين إما ان يعبر عن مقاصده بغض النظر عن طبيعة ما تكون عليه التشريعات المناسبة، او يعبر عن جاهزية تشريعاته فحسب، اي دون اخذ اعتبار ما عليه المقاصد ذاتها، ومن المحال واقعاً ان يكون الدين جامعاً بين المقاصد وجاهزية التشريعات او ثباتها، حيث الاهتمام باحدهما يلغي الاخر ويهدمه. وبالتالي فاما ان نعمل على مراعاة المقاصد وعلى رأسها مبدأ العدل فنلغي الثبات والجاهزية من التشريعات، او نعمل على مراعاة هذه الاخيرة فنلغي المقاصد والعدل، وبالتالي سوف يكون نظرنا للدين اما ان يمثل العدل والمقاصد، او يمثل الجاهزية من التشريعات الثابتة. ومن التعسف اعتبار هذه الاخيرة عين العدل، فيصبح هذا الاخير شكلياً لا حقيقة له كالذي ترمي اليه نظرية الاشاعرة بما يخالف العقل والوجدان. اذن ان المقاصد هي المعنية في تحديد ما هي التشريعات تبعاً لما عليه الواقع المتغير، وليست التشريعات معنية بتحديد المقاصد. والتصور الانف الذكر قام بقلب هذه المعادلة الوجدانية فاصبحت المطالبة باقامة الدين تعني في الوقت ذاته الغائه وتعطيله من الاساس.

واذا كان هذا الامر ينطبق على ما اعتبر غاية، فانه ينطبق على الاليات بالاولوية، حيث انها هي الاخرى لا يمكن اعتبارها تعبدية ولا توقيفية، بل كل ذلك يخضع الى الموجهات التي تمتاز بها المقاصد بمراعاة ظروف الواقع واحواله. صحيح انه سواء من حيث الاليات او التشريعات هناك صور تمتاز بقابلية اعظم من غيرها في التوافق مع المقاصد الى درجة قد تعد اشبه بالثابتة، لكنها تظل قليلة، وهي في جميع الاحوال لا يمكنها ان تتعالى على ظروف الواقع واحواله وتقلباته. وينطبق هذا الحال حتى مع الصور التي يكثر فيها جوانب التعبد كالصلاة والصيام مثلما بينا ذلك في كتاب (فهم الدين والواقع) (0 1 ).

أما بحسب (الفهم المقصدي للدين) فليس هناك وسائل تعبدية ثابتة ومقيدة لتحقيق تلك المهمة السامية؛ غير العمل بالقيم الوجدانية والاخلاقية وترسيخ حالات الصلة بالله. فليس هناك تفصيل يتعلق بطبيعة اليات النظام السياسي فضلاً عن غيره من اليات النُظم الاخرى. فمثلاً ليس هناك ما ينص على اليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريته في الحكم. فمثلاً نحن نعلم ان عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الاخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الاول يختلف عما جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ان ما جرى مع الثلاثة مختلف عما جرى مع الرابع. وليس جميع العمليات السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما ان هذه الاخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع اهل الحل والعقد، وكذا يقال بخصوص البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي فليس هناك اليات ثابتة ولا مفصلة في التنصيب، فضلاً عما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان الاول والثاني، وبين ما احدثه الخليفة الثالث من تغيير.

ومن حيث النصوص القطعية يعترف بعض الفقهاء المعاصرين ان المبادئ الدستورية في القرآن الكريم تعد قليلة للغاية. فالاستاذ عبد الوهاب خلاف يعتقد ان نصوص القرآن قد اقتصرت على تقرير مبادئ اساسية ثلاثة عامة، وهي كل من الشورى ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) الشورى/8 3 ، والعدل ((واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) النساء/8 5 ، والمساواة ((انما المؤنون اخوة)) (الحجرات/0 1 ) (1 1 ). مع ان المبدأين الاول والاخير لهما دلالة على كل من الشورى والمساواة بين المؤمنين فحسب، وهو امر لا يتناسب والواقع الحديث للدولة. كما ان نصوص القرآن في القانون الاقتصادي قد اقتصرت على تقرير حق الفقير في مال الغني، وكذا حق الفقراء والمساكين في مال الدولة، حيث لهم سهم من الصدقات والغنائم والفيء، وعلى رأي الاستاذ خلاف لم تُفصَّل احكام هذا البر بالفقراء وذلك لتُفصِّل كل امة ما يناسبها (2 1 ). وفي قانون العقوبات وتحقيق الجنايات اقتصرت نصوص القرآن على تحديد خمس عقوبات لخمس جرائم، هي: القتل والسرقة والسعي في الارض بالفساد، والزنا، وقذف المحصنات، اما غيرها فهو - على رأي الاستاذ خلاف - متروك لولي الامر (3 1 ).

وعلى الصعيد السياسي نحن نعلم ان الانبياء لم يُطلب منهم ان يكونوا قادة سياسيين، مثلما طُلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة. او هم غير مكلفين بهذا الامر ما لم يبايعهم الناس، خاصة ان بعض الانبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها. ومن الشواهد على ذلك ان موسى وهارون (ع) لم يذهبا الى فرعون للانقلاب عليه وابدال منصبه بمنصبهما، بل ذهبا اليه لاجل الاصلاح فحسب، كالذي يكشف عنه قوله تعالى: ((إذهب انت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)) طه/2 4 ــ 4 4 . وأيضاً الحال فيما إرتضاه يوسف (ع) من عمل تحت امرة وزعامة أحد ملوك مصر، مع انه نبي مبعوث من قبل الله تعالى، فقال جلّ وعلا: ((وقال الملك أئتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)) يوسف/4 5 ــ 6 5 . كما من الانبياء مَن طلب منه الناس ان يولّي عليهم ملكاً يرأسهم، وقد تحقق هذا الطلب، كالذي حصل في زمن نبي الله داود (4 1 ). ويخمن بعض العلماء ان هذا النبي الذي لم يسمّه القرآن هو صموئيل (5 1 ). وابلغ من ذلك دلالة ما جاء في قوله تعالى من الفصل بين النبوة والملك او الرئاسة والسياسة: ((اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكاً)) المائدة/0 2 . وعليه يمكن ان نتخيل لو ان نبينا محمداً (ص) قد بعثه الله الى دولة فيها حاكم أسلم على يديه، وليس الى قبائل كثيرة متناثرة كما هو واقع ما كانت تشهده شبه الجزيرة العربية، فهل نتصور انه سيطالب بخلع الحاكم وتنصيب نفسه بحجة النبوة؟

كل ما يمكن قوله ان قيادة النبي للامة على المستوى الاداري قد تمت بشكل تلقائي لعدم وجود زعامة مسبقة.

ويخطئ اصحاب الفهم التعبدي حينما يجعلون اليات النظام الديني السياسي، او غيره من النُظم الاجتماعية، جزءاً متأصلاً في اللحمة الدينية لا تقبل الخلع والانفصال، حالها في ذلك كحال الصلاة والصيام إن لم يكن ابلغ منها، وكأنها الشعيرات النابتة في حجر الرخام (المرمر)، حيث من المعلوم انه لا يمكن عزلها عنه بأي شكل من الاشكال ما لم يتم تهشيمه كاملاً. فهذا هو الفهم التعبدي الذي جرى اتخاذه بعناوين مثل عنوان الخلافة، وولاية الفقيه، وقبل ذلك تحت عنوان الامامة. مع ان هذا العنوان الاخير اصبح معطلاً لا فائدة ترجى منه على الصعيد السياسي، وكذا الحال في الشروط الموضوعة لهذا العنوان، كشرط القرشية لدى الاتجاه السني، وشرط العصمة لدى الاتجاه الشيعي.

وواقع الامر انه ليست الامامة التي يتحدث عنها الناس بانها من صلب الدين وضروراته هي الامامة بالمعنى السياسي. فهذا المعنى تخالفه الكثير من القرائن والشهادات، وذلك بخلاف ما لو اخذت بالمعنى الديني (6 1 ).

هكذا ان اختيار النظام السياسي لما كان غير مطلوب في حد ذاته، بل لما يمكن ان يحققه من اهداف تخص الحاجات الانسانية، فان ذلك يجعلنا امام عدد من الخيارات الممكنة، ونرى ان خيارنا للنظام الذي يخدم اطروحة (الفهم المقصدي) يعتمد على ما يحمله هذا النظام من فقرات دستورية، وامكانات فعلية للتنفيذ، مع اخذ اعتبار الظروف الواقعية بعين الاعتبار.

وبعبارة اخرى، انه حيث لا يوجد تصور محدد ثابت لاليات النُظم الاجتماعية يمكن ان نجده في طيات النص الديني، فهذا يعني ان هناك اشكالاً عديدة مفتوحة قابلة للتطبيق. اي ان اليات هذه النُظم تختلف عما عليه سائر اليات القضايا الدينية التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها. وبالتالي فبقدر ما تكون اليات هذه النُظم باعثة على خلق الاجواء التي من شأنها بناء (الانسان الصالح) بقدر ما تكون مطلوبة، وبقدر ما تفعل العكس بقدر ما تصبح مستبعدة. فمثلاً من الناحية السياسية لا يمتنع ان يكون المطلوب نظاماً علمانياً عندما تثبت افضليته في العمل على خلق مثل تلك الاجواء بشكل اقوى من النظام الديني. فالعبرة هنا بصلاح الوسيلة وذلك لعدم وجود برنامج محدد، سواء من حيث النظر العلماني او الديني.

ومن الناحية النظرية يمكن ان نتصور نوعاً من الافضلية في نظام يعتمد على الموجهات الدينية والوجدانية في صور التعامل مع الوقائع والاحداث، مع اخذ اعتبار الاجتهاد في الواقع بكل ملابساته والعمل طبقاً لمعطياته تحت تحكم تلك الموجهات بما فيها المقاصد الدينية النبيلة. لكن حيث ان الواقع ما زال يفتقر الى مثل هذه الصورة، فان الخيار لا يتم بمعزل عن لحاظ طبيعة البرامج المقدمة والظروف التي تنفذ فيها مع القدرة على التنفيذ. فالغرض هو كل ما يمكن ان يقربنا نحو بناء ذلك الهدف المنشود؛ سواء كان ذلك عبر وسيلة دينية او عبر وسائل اخرى ربما تكون انجع منها، خاصة عندما تهيء الحريات العامة وتعمل على المساواة بين الناس امام القانون لا فرق في ذلك بين الحاكم والمحكوم، وعندما تكون السلطات الثلاث منفصلة، وكذلك عندما تجعل العمل التربوي والتغييري في المجتمع ممكناً، الامر الذي يشكل ارضاً خصبة للداعين الى انشاء ذلك الانسان ((ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)) النحل/5 2 1 .

ويمكن القول ان علاقة (الانسان الصالح) بالمقاصد الدينية هي علاقة ضرورية غير قابلة للانفكاك، فلا يمكن تصور احدهما دون الاخر. فالغرض من الدين لا يحيد عن هذا المطلب النبيل. وليس الامر كذلك مع اليات النُظم الاجتماعية وعلى رأسها النظام السياسي، حيث لا يمتنع ان يكون الدين محايداً ازاءها اذا ما استثنينا مطالبته بجملة من القيم والموجهات التي لها علاقة مباشرة بالغرض الديني الانف الذكر. مما يعني انه لا يوجد نظام محدد تفصيلي سواء استعنا بالنظريات الشيعية او السنية. وبالتالي فليس هناك ما نعده من التعبديات كما يزعم اصحاب الفهم التعبدي، ولا توجد مؤشرات تدل على هذا المعنى من التعبد.

***

اذن ان البرامج السياسية والاقتصادية وغيرها من البرامج الاجتماعية لدى الفكر الديني ليست بالضرورة على النقيض من البرامج التي يقدمها الفكر العلماني. فالفارق بينهما يمكن ان يتحدد ببعض المصادر المعرفية، ذلك ان الفكر الديني لا يمانع الاخذ بجميع ما يعتمد عليه الفكر العلماني ويضيف اليه خصوصيته المتعلقة باعتبارات النص. وهذا هو معنى كون الفكر يتخذ طابع الجمع لا الطرح في الغالب. وبالتالي قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في بعض الحالات، منها ما قد يحصل من تقارب عند اعتماد الرؤيتين على الاعتبارات العقلية والواقعية وغيرها من الاعتبارات المعدة عارضة لدى الفكر الديني. كما قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في النتائج رغم اختلاف الاعتبارات المعتمدة لدى كل منهما، كإن يكون الاعتماد لدى الفكر الديني على الاعتبارات الذاتية (النص)، ولدى الفكر العلماني على العقل والواقع. مع هذا فالفوارق بينهما تظل متوقعة وكثيرة، لكن ذلك يحصل ايضاً بين البرامج المختلفة التي يقدمها ذات الفكر الديني باطيافه المتنوعة، وكذلك يحصل بين البرامج المختلفة التي يقدمها الفكر العلماني. فمثلاً ينقسم النظام السياسي داخل الفكر الديني الى نظام ديني استبدادي، والى نظام يعمل بالتعددية. وكذا هو الحال ما يحصل داخل الفكر العلماني.

مما يعني ان الخطأ في البرامج، سواء كانت دينية او علمانية، وارد، وان صفة الاجتهاد لدى كل منهما قائمة، وانه لا قدسية في الاجتهاد الديني، وان الاحكام الواردة فيه ليست احكاماً لاهوتية او الهية بحتة، وكذا ان السلطة والسيادة ليست الهية ثيوقراطية، بل لها طبيعة بشرية مصطبغة بالصبغة الدينية، وحصيلتها في النتيجة هي حصيلة بشرية قائمة على الفهم والاجتهاد، ومن ثم فهي قابلة للخطأ. وان الافضلية بين الفكرين لا تتحدد بمجرد الانتماء، بل لابد من معرفة طبيعة ما عليه البرامج؛ سواء كانت دينية او علمانية. ذلك ان للنزعتين عدداً غير محدد من البرامج التطبيقية. وبالتالي قد يتفوق برنامج ديني على علماني، كما قد يحصل العكس، طالما ان المصادر والاعتبارات المعتمدة قد تتفاوت وتختلف فيما بينها، وقد يطغى بعضها على البعض الاخر، مما قد يختلف فيه الامر من برنامج الى اخر. فليس كل من يعول على النص يصيب الاجتهاد الصحيح، ومثل ذلك من يعول على العقل والواقع، وان الصواب صواب سواء كان مستمداً من النص او غيره.

ويمكن القول ان جميع الانظمة الحديثة لم توفق بعد الى الصواب في تعاملها مع الشعوب المحكومة، وان الداء فيها تارة يكون في الابتعاد عن الروح الدينية وقيمها السامية، واخرى انها قد لا تعول على الموجهات الوجدانية في الممارسة والتطبيق، ومن ذلك الاخلال في العدالة والتمييز والاضطهاد، او لكونها لا تعير اهمية للمقاصد الدينية واعتبارات الحقائق الواقعية. فلا يخلو نظام من انظمة الحكم الحديثة دون ان يمسه داء او اكثر مما قدمنا. وبالتالي فانها لا تعبر عن طموح (الانسان الصالح)؛ مهما تسترت تحت غطاء ديني كان او علماني. وان المسؤولية الملقاة على عاتق النظام الديني كبيرة، باعتباره يمارس نوعين من الفهم والاجتهاد، احدهما يتعلق بالنص، والاخر بالواقع، وان اغفال اهمية فهم هذا الاخير هو الداء المزمن الذي رافق التفكير الديني منذ نشأته والى يومنا هذا، وبالتالي فاغلب الفشل الذي يصاب به هو عدم اعطاء الواقع حقه من الاهمية في الفهم والمعادلة التي تربطه بالنص، ولذلك تتفوق بعض التجارب العلمانية الغربية على مشروعاتنا السياسية، ومع ان لكل نواقصه، الا ان هناك فوارق كبيرة في درجة النقص والخلل. وقديماً قال ابن تيمية ايام الحملة المغولية، نقلاً عن بعض العلماء: أن ((الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام، وذلك ان العدل نظام كل شيء)) (7 1 ). ومثل ذلك ما افتى به الفقيه رضي الدين علي بن طاووس بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، وذلك ايام السلطان هولاكو. وهو الحال الذي ايده بعض رواد الاصلاح الديني الحديث مثل الكواكبي (8 1 )؛ مفضّلاً ان يحكمنا الملوك الغربيون عن ان يحكمنا الرؤساء المسلمون، ومعتبراً ان الاوائل افضل من الاخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، وذلك لكونهم اقرب للعدل وأقدر على اعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة، وهو بذلك عدّ التشريع الغربي عبارة عن حبل الله لانه في يد الامة (9 1 ).

ويظل ان الخيار الديمقراطي هو الخيار المطلوب، وان التيار الديني هو اكبر من يمكنه الاستفادة من هذا الخيار في مجتمعاتنا الاسلامية، الى الدرجة التي قد يكون التحقيق فيه - دينياً - مفضياً الى اعتباره واجباً متعيناً قبال غيره من الخيارات، فهو خيار استراتيجي لا تكتيكي، حيث المكسب فيه معلوم، سواء في الفوز او الفشل، وذلك لان هناك فرصاً حقيقية لتجنيد الطاقات في التوعية والتغيير الاجتماعي، مستفيداً في ذلك من الحرية المتاحة وقابلية مجتمعاتنا لقبول الخطاب الديني اكثر من غيره (0 2 ).

ومن الغريب فعلاً ان يعرض اغلب الكتّاب الاسلاميين والكثير من حركات التيار الديني عن ذلك الخيار، بدل التهافت عليه، وهي اذ تفعل ذلك فانما تتمسك ببعض الوان الاستبداد الديني والسياسي، رغم ما يفضي اليه الامر من تشويه سمعة الدين وفقدان الثقة وحالة الاحباط التي تصيب المجتمع جراء التطبيق، كالذي رأيناه في اكثر من مكان وتجربة.

نعلم ان هناك تحسساً للتيار الديني ازاء عدد من القضايا التي تتضمنها فكرة التعددية والخيار الديمقراطي، ومن ذلك الجلوس مع الاحزاب المعارضة في المجالس النيابية. وقد يجاب عليه بان ذلك لا يكون اعظم من قبول النبي (ص) لصلح الحديبية مع ما فيها من بعض الخسارة المعنوية قبال الكسب الذي تضمنته المعاهدة. فما يحصل في المجالس النيابية من الخسارة المعنوية للطرف الديني، بل وجميع الاطراف، قبال ما يناله من الكسب؛ ليس باعظم من تلك الحالة التفاوضية التي جرت بين النبي وخصومه من المشركين، ولا اعظم من المعاهدة - اذا ما صحت - التي اقرها النبي مع اليهود وغيرهم في المدينة، والتي عُرفت بصحيفة المدينة، ولها طابع المواطنة والحقوق المدنية. وفي جميع الاحوال هناك مكسب تناله جميع الاطراف المتعارضة، وهو رفض العنف وتحويل الصراع مما يمكن ان يكون صراعاً دامياً الى صراع التنافس في التأثير لكسب المقاعد والاصوات.

كذلك ان من القضايا التي يتحسس بها التيار الديني هي ان المشاركة في المجالس النيابية تعني عنده الرضوخ الى تقبل ((المنكر)) لدى ما تحمله اطراف المعارضة من برامج علمانية. وهذه الحساسية يمكن ان يجاب عليها بان ذلك لا يكون اعظم من تقبل الفرد المسلم للمنكر عندما يصعب تغييره فيعمل بأضعف الايمان، وهو الرفض القلبي، وذلك تبعاً للحديث النبوي: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان)). حيث في حالة الجلوس على طاولة المجالس النيابية هناك حفظ لحياة الجماعة لا الفرد وحده، وان الخسارة المعنوية التي تطال الجميع يستعاض فيها بالقدرة على التغيير في الاوساط الاجتماعية، وذلك لان الخيار الديمقراطي مشروط بحماية الحريات العامة، ومنها الحرية الدينية والثقافية والاعلامية والسياسية.

يظل ان اشكالات الحركات الدينية على التعددية السياسية كثيرة من حيث اعتبارها مناقضة لاصول الاسلام، ومن ذلك ان الاسلام يقر بالوحدة لا التعددية، وانه لا يقر الا بحزب الله كجماعة دون غيره، وان الحرية في الاسلام محددة وليس هو الحال في التعددية، وان المجالس النيابية وما تتضمنه من المعارضة لا تنسجم مع الفكرة الاسلامية الموحدة، وان الاسلام يعمل طبقاً للحق وليس بحسب الاكثرية، وان العمل بتعيين مدة الحكم يعد شرطاً ليس للاسلام فيه اصل، وان في الاسلام هناك البيعة من قبل اهل الحل والعقد بعد التعيين، وعلى الاقل بين المؤمنين كافة، في حين ان الانتخاب يكون من قبل الناس جميعاً دون تمايز... الخ.

واذا اردنا ان نضيف الى ذلك؛ ما كان يجمع عليه الفقهاء من عدم شرعية التعددية في الدولة الاسلامية، وتقييد المنصب الرئاسي بالشرط القرشي تارة وبالعصمة تارة اخرى (1 2 ).. مع علمنا كيف ان مثل هذه الشروط والقيود اخذت تتراجع ولم يعد لها ذلك الصيت والاثر لعدم امكانية تحقيق بعضها، وصعوبة بعضها الاخر.

مهما يكن تذكرنا الاشكالات السابقة بما كان يُطرح من اشكالات على التعددية العقائدية، تبعاً لمقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال، حيث ان الحق المختلف فيه واحد. وعلى هذا تعني التعددية المعرفية ان جميع الفرق المختلفة باستثناء واحدة منها هي فرق ضالة إن لم تكن كافرة، وبالتالي فان الاسلام لا يقر الا بواحدة، هي فرقة حزب الله، او الجماعة التي تدعيها كل فرقة لنفسها (2 2 )، وكذا ان الحرية الفكرية في المجال العقائدي غير مقبولة، وكثيراً ما يمنعها العلماء باساليب مختلفة، كاسلوب الفتوى التي تأمر بحرق كتب اهل الضلال... الخ.

ومثلما ان الاشكالات في المجال العقائدي تفترض وجود عقائد ثابتة يمكن تحصيلها دون التباس، فكذا ان الاشكالات في المجال السياسي تفترض وجود برنامج ديني مثالي ناجح للتطبيق، وهو موضع الخلاف، ذلك انه لا يوجد برنامج موحد يتفق عليه جميع اصحاب الحركات الاسلامية، وانه كذلك يمارس عملية الاجتهاد المعرفي عبر الارتباط بالنص، كالذي يجري في المجال العقائدي، يضاف الى انه حتى مع سلامة الاجتهاد وفق متطلباته الدينية، فان ذلك لا يكفي لحل المشكل السياسي، حيث يلتبس ذلك بحالة ما عليه الواقع، اذ ان فهم هذا الاخير له اثره البالغ في انجاح المشروح السياسي وفشله. وبالتالي فاننا نتعامل مع اطياف مختلفة، سواء في الحالة الدينية او العلمانية.

ومن حيث التقارب في مواقف الفكر الديني ازاء القضايا العقدية والسياسية، يلاحظ انه على الصعيد العقدي ان الفرق الدينية كانت تتداول قضاياها بانحاء شتى من الاجتهاد، الا انها في الغالب تتنكر لهذا الاجتهاد ولا تعترف به (3 2 )، وهي وإن كانت تعددية في واقع امرها الا انها احادية التصور، لا تسمح بحق الاخر في الاختلاف والتعدد، وبعضها يتهم البعض الاخر بالضلال والكفر، بل يمكن القول انها ليست مجرد تعددية من حيث الواقع، بل وتتصف بالتداخل فيما بينها، سواء على نحو المضمون الفكري، او على نحو المنهج والطريقة. فمثلاً على مستوى المضمون رغم ان جميع الفرق تتفق على اصل التوحيد، الا انها تختلف فيما بينها حول مضمون هذا الاصل، فهناك التوحيد بالمعنى التشبيهي، وفي قباله التوحيد بالمعنى التنزيهي، كما هناك التوحيد بالمعنى الاشعري، وكذا بالمعنى الفلسفي والمعنى العرفاني المعبر عن وحدة الوجود، وغير ذلك من المعاني. وهذا الاختلاف في المعاني لا يمنع من وجود حالة التداخل والتضمن لدى الفرق الكبيرة، فالمعنى التنزيهي للتوحيد وارد سواء في الساحة الشيعية او السنية، ومثله المعنى التشبيهي، وكذا المعاني الاخرى، فضلاً عن موارد الاختلاف في غيرها من القضايا، فالاعتداد بمرجعية العقل وارد لدى الساحتين، كما ان انكار العقل وارد هو الاخر لديهما (4 2 )، وكذا يقال بخصوص قضايا رئيسة اخرى كقضية الحسن والقبح العقليين (5 2 )، وقضية القياس وما اليها (6 2 )، حيث مثل هذه القضايا تجد من يعول عليها في الساحتين، كما تجد من ينكرها فيهما ايضاً. فالتعددية الاجتهادية في الساحتين هي تعددية تداخلية وليست تعارضية. وينطبق هذا الحال على الخلاف المنهجي، فجميع المناهج التي يتضمنها كلا النظامين المعياري والوجودي في الفكر الاسلامي واردة في الساحتين دون اختلاف (7 2 ).

كذلك ان الحركات السياسية الدينية وإن كانت حركات اجتهادية وتعددية يتداخل بعضها في البعض الاخر، الا انها تتنكر لطابعها الاجتهادي وتنظر الى الامور بعين واحدة لا تعترف فيه بالتعددية التي تقسمها، ولا بالتداخل الذي يجري فيما بينها، خاصة تلك التي تقسمها الاعتبارات المذهبية. وهو الامر الذي شهدناه في الفكر الديني على المستوى العقدي كالذي اشرنا اليه قبل قليل. دعك عن انها احياناً تقتبس الفكر الاخر عند الحاجة وتصبغ عليه ما تراه مناسباً من مرجعيتها الدينية، ومن ذلك قضية الديمقراطية التي قد تعني عندها مفهوم الشورى دون اختلاف.

هكذا ينبغي ان لا نربط مصير الدين بالقضية السياسية او غيرها من النُظم الاجتماعية بقدر ربطه بالغاية التي استهدفها الدين ذاته. وبعبارة اخرى ان العبرة بالغايات لا الوسائل والاليات، الامر الذي يجعل التصدي الى جوانب التربية والفكر والتثقيف من الاولويات في العقل المسلم، أما التصدي للمسألة السياسية فهي من الامور التابعة لتلك الجوانب، والعمل معها ينبغي ان يتخذ الكثير من الحيطة للخطورة التي تترتب عليها، سواء من الناحية الدينية او الواقع الاجتماعي.

الهوامش

(1) ابن رشد: مناهج الادلة في عقائد الملة، تقديم وتحقيق محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، ط3 ، ص4 3 1 . وانظر ايضاً الفصل الاول من كتابنا: مدخل الى فهم الاسلام، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 9 9 9 1 م.

(2) صدر المتألهين الشيرازي: ايقاظ النائمين، مقدمة وتصحيح محسن مؤيدي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 2 8 9 1 م، ص1 3 .

(3) لاحظ دراستنا: علم الكلام والكلام الجديد/الهوية والوظيفة، قضايا اسلامية معاصرة، العدد الرابع عشر، 2 2 4 1 هـ ـ1 0 0 2 ، ص1 7 1 ـ2 0 2 .

(4) انظر بهذا الصدد كتابنا الفلسفة والعرفان والاشكاليات الوجودية، دار الهادي (تحت الطبع).

(5) لاحظ بهذا الخصوص التعارضات المتعلقة بالنظام الوجودي في خاتمة كتابنا: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.

(6) انظر الفصل الثالث من كتابنا: جدلية الخطاب والواقع، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2 0 0 2 م.

(7) لاحظ تفصيل ذلك في: علم الكلام والكلام الجديد/الهوية والوظيفة، مصدر سابق.

(8) يلاحظ بهذا الصدد الفصل الاخير من كتابنا: فهم الدين والواقع، دار الهادي (تحت الطبع). كذلك الفصل الاول من القسم الثاني لكتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، مؤسسة الانتشار العربي، 3 0 0 2 م.

(9) الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج1 ، ص7 1 . ومن الجدير بالذكر ان هذا النص وما على شاكلته يُنسب الى ملك الفرس الساسانيين اردشير خلال القرن الثالث بعد الميلاد، وقد اعتبر احد المفكرين انه رغم ما رددته ادبيات الفكر الاسلامي لهذا النص فان الفكرة المنتزعة عنه قد فُهمت خلاف ما اراده لها واضع النص (اردشير). وعلى العموم يعتقد هذا المفكر ان ما جاء في فكرة ذلك النص وما على شاكلته كان اصله من اردشير الفارسي وليس له اصل ديني (محمد عابد الجابري: العقل الاخلاقي العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي، ج4، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1 0 0 2 م، ص5 5 1 ). مع ان العلاقة التي تربط الملك بالدين هي علاقة مبررة عقلياً، وذلك سواء فهمنا الدين بمعناه التعبدي كما هو سائد، او فهمناه بالمعنى المقصدي كما ندعو اليه، وقد كانت السيرة منذ عهد النبي والخلفاء الراشدين جارية على احد هذين الفهمين، وتبعاً للفهم التعبدي فان تلك السيرة كانت جارية بحسب المعنى الذي يبدو من نص اردشير قبل اردشير نفسه.

(0 1 ) انظر الفصل الاخير من هذا الكتاب.

(1 1 ) عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، دار القلم في الكويت، الطبعة الثانية، 0 7 9 1 م، ص8 5 1 . ويقترب من هذا الموقف ما ذهب اليه السيد محمد حسين الطباطبائي، حيث اعتبر انه لا يوجد اطار معين ثابت للتشريع للسلطة والحكم في الاسلام مراعاة لتغير الظروف، وذلك اذا ما استثنينا بعض الاهداف العامة كمصلحة الاسلام والمسلمين، والوحدة العامة، والعقيدة التي توحدهم (الطباطبائي: مقالات تأسيسية في الفكر الاسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الاولى، 5 1 4 1 هـ).

(2 1 ) مصادر التشريع الاسلامي فيما لا نص فيه، ص9 5 1 .

(3 1 ) المصدر السابق، ص9 5 1 .

(4 1 ) حيث جاء في قوله تعالى: ((ألم ترَ الى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.. وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً)) البقرة/6 4 2 ـ7 4 2 .

(5 1 ) محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، دار الفكر، الطبعة الثانية، ج2 ، ص5 7 4 .

(6 1 ) سبق ان تعرضنا لهذا الامر خلال محاضرتين في احد المراكز الثقافية الاسلامية في بريطانيا سنة 4 9 9 1 م، وكانت بعنوان: الإمامة في الإسلام. ولازلنا نحتفظ بمادة هاتين المحاضرتين.

(7 1 ) مجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 4 0 4 1 هـ، ج8 2 ، ص6 4 1 .

(8 1 ) عبد الرحمن الكواكبي: ام القرى، الاعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 ، 5 9 9 1 م، ص3 9 2 ــ4 9 2 .

(9 1 ) الكواكبي: طبائع الاستبداد، المصدر السابق، ص3 2 5 . كما لاحظ كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، القسم الاول.

(0 2 ) انظر مثلاً ما ترتب على ما آلت اليه حركة الاخوان المسلمين في مصر منذ اواسط الثمانينات في قبولها التعددية، وقد سبقتها حركة الاتجاه الاسلامي في تونس منذ 1 8 9 1 م والتي تغيّر اسمها الى حركة النهضة في تونس سنة 8 8 9 1 م (لاحظ: راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الاسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 3 9 9 1 م، ص7 5 2 وما بعدها).

(1 2 ) مع ما قيل في شرط القرشية بانه يحظى بالنص والاجماع، الا ان العديد من العلماء اسقطوه، وعلى رأسهم الامام الباقلاني كما ينقل ابن خلدون في مقدمته، وكذا الفضل الرقاشي وابو شمر وغيلان الدمشقي وجهم بن صفوان والخوارج وجمهور المعتزلة وعلى رأسهم ضرار بن عمرو وابراهيم النظام (لاحظ حول ذلك: الماوردي: الاحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 5 0 4 1 هـ ـ5 8 9 1 م، ص6 . وتاريخ ابن خلدون، المكتبة المدرسية ودار الكتاب اللبناني، ط3 ، 7 6 9 1 م، ج1 ، ص4 4 3 ــ6 4 3 . والنوبختي: فرق الشيعة، ص9 ــ0 1 . والشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة، دار دانية، بيروت ــ دمشق، ص8 3 و1 5 و1 6 ).

(2 2 ) انظر في هذا الصدد: مدخل الى فهم الاسلام، ص6 4 .

(3 2 ) انظر كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر ، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 0 0 0 2 م، ص9 0 2 ـ0 1 2 .

(4 2 ) اغلب الاتجاهات البيانية النقلية في الساحتين السنية والشيعية، ومعها بعض الاتجاهات العرفانية، تتنكر للدليل العقلي، وذلك بخلاف غيرها من الاتجاهات.

(5 2 ) اغلب علماء الامامية الاثني عشرية يقرون قضية الحسن والقبح العقليين وملازمتها للقضية الشرعية، لكن بعضهم كالاخبارية وبعض الاصوليين لا يقرون ذلك. وعلى العكس من هذا في الساحة السنية حيث اغلبهم لا يقرون تلك القضية، وبعضهم يقرها كما جاء على لسان ابن القيم الجوزية فضلاً عن المعتزلة.

(6 2 ) تقر اغلب الاتجاهات السنية مبدأ القياس الفقهي، والقليل منهم منعه، كما هو الحال مع داود الظاهري وابنه وابن حزم وغيرهم. وعلى خلاف ذلك منع اغلب علماء الامامية الاثني عشرية هذا المبدأ، لكن اقره القليل منهم؛ كابن عقيل وابن الجنيد من المتقدمين، وبعض المتأخرين ممن عاصر الشيخ الانصاري (لاحظ حول ذلك كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، ص8 8 ).

(7 2 ) سبق ان تعرضنا الى ذلك في محاضرتين حول التعددية لدى الفكر الديني والسياسي (دار الاسلام، لندن)، وقد نُشرت احداهما تحت عنوان (الاسلاميون والمجتمعات التعددية) وذلك في: اسلام 1 2 ، اصدار المنبر الدولي للحوار الاسلامي، العدد 6 2 ، 1 2 4 1 هـ ـ 0 0 0 2 م.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار