نشأة المثقف وقضية الاصلاح الديني

يحيى محمد


مفهوم المثقف !

مفهوم المثقف من المفاهيم الحديثة التي شهدت الكثير من الاختلاف والتباين في الاراء. فتارة يُقصد به من تكون وظيفته عبارة عن العمل الفكري في قبال الاعمال اليدوية، وهو بهذا يشمل اهل الاختصاص وغيرهم من ذوي الاهتمام بالقضايا العلمية والمعرفية. كما قد يُقصد به ذلك الذي يحمل معارف وعلوماً لها علاقة واهتمام بقضايا المجتمع العامة. فالطبيب والمهندس والفيزيائي وغيرهم من ذوي الشهادات العلمية الطبيعية لا يعدون من المثقفين، بينما يعد الفقهاء ومنتجو الاراء والافكار السياسية ومن على شاكلتهم ضمن هذه القائمة، وذلك لما لهم من معارف عامة لها علاقة بقضايا المجتمع. وهناك من يرى انه لا بد للمثقف من عنصرين تكوينيين: احدهما الدرجة العلمية العالية كشهادة الدراسات العليا التي تجعل من الدارس يمتاز بمعرفة مميزة. والثاني هو المعرفة الحديثة التي ميزتها الاعتماد على العلوم والاداب الحديثة، وقد أُشرط لذلك ان يكون المثقف حاملاً للغات الاجنبية لاهميتها البالغة من حيث كونها لصيقة بتلك المعارف ومدخلاً لها، او على الاقل >التعلق بقراءة المترجمات<. وهذا يعني ان الفقيه والعالم الديني لا يعدان من ذوي الثقافة؛ لافتقارهما للعنصر التكويني الثاني عادة .

والواقع نحن ازاء >كائن< يتصف بمواصفات موضوعية نطلق عليه >المثقف<. وما ذُكر سلفاً لا يعد شرطاً ضرورياً في تكوين ما يُفهم من هذا الكائن. نعم لا بد ان يكون المثقف حاملاً لمعارف متعددة مختلفة، وان هذه المعارف ليست بمعزل عن قضايا المجتمع العامة، وتمتاز بانها تعتمد بدرجة كبيرة على الواقع وكذا العقل بما لهما من دور تكويني، وقد يضاف اليهما مصادر معرفية اخرى كتلك المستمدة من الوحي او النص. فالثقافة بهذا المعنى ظاهرة واسعة التحقق في عالمنا اليوم، سواء نتج ذلك عن الدراسات الاكاديمية مباشرة او بفعل الجهود الذاتية للافراد. لكن المهم هو ان لا تنحصر المعرفة بحدود التخصص، بل تمتد الى ضروب مختلفة من المعرفة مع القدرة على التفكير والتمييز بكل ما له علاقة بالافكار ذات الصلة بالمجتمع.

ولايضاح هذا الامر علينا ان نبحث عن كيفية نشأة هذا الكائن الحديث - كظاهرة عامة - والانقسامات التي حلّت في أوساطه. فالذي يلاحظ بوضوح ان هذا الكائن بجميع توجهاته وتياراته انما يعد افرازاً من افرازات تطورات الواقع. فهو مدين بوجوده وحضوره الى الجامعات والمعاهد العلمية الحديثة. فهذه الحواضر تشكل الرافد الرئيس لما يستحضره المثقف من معارف وثقافة، بحيث يمكن القول ان نشأة المثقف وتاريخه يعبران تعبيراً مطابقاً عن نشأة هذه المؤسسات وتاريخها. الأمر الذي يكشف عن أن البناء المعرفي الذي تتشكل به هذه الهياكل العلمية لابد وان تضع بصماتها الشاخصة في البنية العقلية لوعي المثقف الباطن. مما يعني اننا لكي نحدد طبيعة هذه البنية لا بد ان ندرك سلفاً خصائص البناء المعرفي الذي تمتاز به تلك الهياكل. وليس من الصعب تحديد طبيعة هذا البناء، ذلك ان الميزة الرئيسية لوظيفة التشكيلات العلمية الحديثة هو انها تمارس آلياتها المعرفية بالخوض في القضايا التي يكون فيها >الواقع< هو الرافد الرئيس بمختلف اشكاله وصنوفه. لهذا فان البناء المعرفي لهذه المؤسسات هو بناء ذو طبيعة واقعية ممزوجة بما يناسبها من التحليل العقلي. الأمر الذي يترتب عليه ان تكون البنية المعرفية للعقل المثقف مطبوعة بالطابع الواقعي مع اصطباغها بصبغة التحليل العقلي او العقلائي.

هذا هو المثقف بصورة عامة، ويلاحظ ان في تركيبته عدة عناصر ضرورية يمكن اجمالها على الشكل التالي:

1ــ يتصف المثقف بأنه ذو قدر واسع من الاطلاع والمعارف الفكرية المتنوعة. وبالتالي فان مفهوم المثقف يقف في قبال مفهوم المختص نسبياً. فالمختص صاحب علم ذي موضوع محدد، وله منهجية دقيقة وصارمة بفعل الصنعة العلمية، أما المثقف فصاحب معارف لا تتحدد بموضوع معين بالذات، ولا تحمل منهجية دقيقة كتلك التي تفرضها الصنعة العلمية والتخصص. مما يعني انه بقدر ما يضيق الموضوع لدى المختص؛ بقدر ما يتسع في القبال لدى المثقف ليشكل موضوعات متنوعة عديدة. وبعبارة اخرى، ان معارف المثقف تعبر عن مبادرات فردية لم تتحدد ضمن أُفق علمي تخصصي ذي مناهج وقواعد معرفية محددة. فهي بالتالي ليست كالمعارف التخصصية الناتجة عن الهيئات العلمية العامة.

2ــ ان اطلاع المثقف الواسع يؤهله لأن يمتلك القدرة على الادراك النظري فهماً وتأسيساً. اي انه يمتلك المقدرة على فهم ما يُطرح من النظريات الفكرية العامة، كما له القابلية على الابداع النظري من تأسيس المفاهيم والمناهج والمذاهب المعرفية العامة.

3ــ ان معارف المثقف مستمدة في الاساس من النظر والاطلاع على شؤون الواقع وممارسة التحليل العقلي. وبالتالي فان المثقف ذو مقدرة عالية على النقد والتفكير والتمييز بين الاراء التي لها علاقة بالواقع ومجرى الاحداث العامة.

4ــ ينصب اهتمام المثقف على قضايا المجتمع، باعتباره كائناً معرفياً فاعلاً يمكنه ان يؤثر على حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من افكار وما يقدمه من معارف، ومن ثم بما يساهم به في صنع الرأي العام باعتباره يوجه خطابه الى الجمهور. فهو من هذه الناحية لا يقع ضمن طبقة سياسية او اجتماعية او اقتصادية محددة في قبال نظيراتها في المجتمع، بل يمكن لبعض من اعضاء تلك الطبقات ان تشكل فئة المثقفين، كما ويمكن ان تنتمي الى نفس الرؤى الثقافية رغم وجود الاختلاف الطبقي بينها. وواقع الامر ان هذا الشرط المشار اليه حول اهتمام المثقف بالمجتمع انما يعبر عن الحالة الطبيعية من ارتباط المثقف المعرفي والمتعدد الوجوه بقضايا الواقع، ذلك ان هذا الارتباط من شأنه ان لا يجعل الفرد في عزلة عن القضايا التي هي اكثر اثارة ومساساً وتشويقاً، واقصد بها قضايا المجتمع العامة، وبالتالي فانه يصح نعته - كما هو معروف - بالداعية الذي من شأنه ان يحمل ايديولوجيا معينة تنطوي على تصور وموقف محددين من الاحداث والاوضاع الخارجية العامة.

على ان هناك درجات متفاوتة من المثقفين يمكن اجمالها بنوعين متميزين؛ احدهما ذلك الذي تكون له المقدرة التامة على التنظير وابتكار الافكار وانشاء المذاهب والمناهج، ويمكن ان نطلق عليه >المفكر<. أما النوع الاخر فهو لا يمتلك مثل هذه الخصوصية، انما له القدرة على التمييز وتبني ما يطرقه النوع الاول من افكار ومذاهب بحسب ما يرد في نفسه من اقتناع وتصويب. وتوجد بين هذين النوعين درجات متفاوتة غير محددة من الاصناف الوسطى.

اذن فنحن أمام طبقتين متميزتين من المثقفين، احداهما نطلق عليها طبقة المفكرين، وهم الذين يمثلون الرؤوس العليا من الثقافة، أما الاخرى فهي عبارة عن طبقة المثقفين العاديين.

ثلاث بنى عقلية منتجة

اذا كنا قد حددنا كينونة المثقف بشكل عام وبغض النظر عن انتماءاته وتطلعاته، فان من الممكن تحديد طبيعة المثقف الديني الملتزم باضافة بعض العناصر الضرورية في تكوينه. فما نقصده بالالتزام ليس ذلك الذي جاء به سارتر وروّج له المثقفون العرب منذ منتصف القرن العشرين، انما هو الايمان الصادق بالاسلام كمبدأ عقائدي وحضاري ليس في ذلك اختلاف بينه وبين الفقيه، اي ان كلاً منهما يجعل مرجعيته في التفكير محددة بالاسلام مع فارق وتفاوت بالفهم والاسلوب. اذن ان ما يميز هذا المثقف هو انه يرتبط بالاسلام ارتباطاً وجدانياً جاعلاً منه معتقداً حقاً صالحاً للمصادقة والمطابقة مع الواقع. لهذا فهو يجمع في مصادره المعرفية بين الاسلام وبين الواقع. لكن تعويله على الاسلام في سلوكه الاجتهادي ليس من جهة جزئياته وتفاصيله، وانما بكلياته العامة متمثلة بالدرجة الرئيسية بمقاصد التشريع، على ما سنعرف.

بهذا يصبح المثقفون في مجتمعنا ينقسمون الى تيارين رئيسيين واسعين، احدهما يلتزم بمبدأ الاسلام ويعمل على حمل المشروع الديني والذي اطلقنا عليه المثقف الديني. والاخر على خلافه ليس له علاقة بالمشروع الديني، اسلامياً كان او غيره، والذي يُطلق عليه العلماني. فالفارق بين التيارين يتحدد بحسب الموقف من الدين كمشروع يراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية. ويمكن لحاظ هذا الفارق على الصعيدين الايديولوجي والمعرفي، اذ ما يحرك هؤلاء هو غير ما يحرك اولئك، كما ان توليد المعرفة والقيم المتبناة مختلفة بينهما. مع هذا فهناك اطار مشترك يجمعهما في توليد المعرفة هو الاطار الثقافي ولو بمعناه العام من الاحتكام الرئيس الى الواقع والعقل الانساني، بغض النظر عن الاعتراف او عدم الاعتراف بوجود مصدر آخر غيبي يعمل على رفد المعرفة الانسانية طالما ان هذه الاخيرة لا تأتي ولا ينبغي ان تأتي على حساب المعرفة الاولى.

اذن تتشكل لدينا ثلاث دوائر بنيوية للمعرفة، هي دائرة الفقيه ومن على شاكلته من النصوصيين، ودائرة المثقف العلماني، واخيراً دائرة المثقف الديني. ويلاحظ ان بين الدائرتين الاوليتين تضاداً حاداً، فكل منهما يقع على الطرف البعيد من الطرف الاخر، أما الدائرة الاخيرة فتقع في الوسط تجمع بعضاً مما تحمله الدائرتان الاوليتان، أي انها تشترك مع كل منهما في جوانب معينة وتختلف معهما في جوانب اخرى، وفي الغالب ان ما تتفق فيه مع احداهما هو عين ما تخالف فيه الاخرى، والعكس صحيح ايضاً. وبالتالي فان المثقف الديني يتمسك بحبلين احدهما هو ذات ما ينتمي اليه الفقيه، وإن اختلف معه بالكيفية، والاخر يعود الى ما ينتمي اليه العلماني وإن اختلف معه هو الاخر بالكيفية والتفسير. ويمكن تمثيل العلاقة بين الدوائر المعرفية لهذه البنى الثلاث من خلال الرسم البياني التالي:

البنى الثلاث وعلاقتها بالامة

قديماً كان الفقيه يشكل العنصر المختص الوحيد الذي له تأثير بارز على الساحة الاجتماعية للامة الاسلامية، بل وعلى المسار السياسي لانظمة الحكم المتعاقبة. فليس هناك من مختص استطاع ان يجاريه وينازعه في هذا الميدان. اذ كان الفلاسفة آنذاك لا علاقة لهم الا باصحابهم من اهل الفلسفة وذوي الفكر المتعالي، حيث المطالب الفلسفية هي مطالب خصوصية معمقة لا يستوعبها الا القليل من الناس، والأهم من ذلك انها تدور في مدارات ليس >للعوام< فيها ادنى تفكير. وكان للمتصوفة واهل العرفان دوائرهم الخاصة التي عزلوا فيها انفسهم عن عموم المجتمع وقضاياه. وكان المتكلمون منشغلين بقضايا تجريدية بعيدة عن واقع الامة وهمومها، وعلى الاقل فان ما كان يهمهم هو طرق الجدل وافحام الخصوم التي ترضي العوام. وكذا الحال مع المفسرين والمحدثين، حيث انهم لم يهتموا سوى التعامل مع النص بعيداً عن المشاكل التي يعج بها الواقع الاجتماعي. في حين كان الفقيه هو الوحيد الذي استطاع ان يجد مساحة واسعة من النفوذ داخل المجتمع، وذلك بحكم ما لديه من الصنعة التي وظيفتها التعامل مع الواقع بلا انقطاع، اذ كان للناس حاجتهم الفعلية لمعرفة الاحكام التي يجدونها في هذه الصنعة، كذلك فان الانظمة الحاكمة هي الاخرى قد وجدت حاجتها فيها طلباً للغطاء الشرعي وتبرير الواقع، حتى لو كان فاسداً.

لقد كان الفقيه يمارس دور الولاية العلمية حيال غيره. فله ولاية على العامة تبعاً للحاجة التكليفية، كما ان له نوعاً من الولاية على السياسة عندما يضع لها الغطاء الشرعي، فكما يقول الفقهاء انه لا بد للسياسة من ان تتبع العلم الشرعي، رغم ان الامور قد جرت بشكل معكوس، حيث اصبح العلم الشرعي محكوماً بهوى السياسة عندما استطاع السلطان ان يفرض على الفقهاء ايجاد التبريرات >الشرعية< لما يقوم به من افعال.

اذن كانت العلاقة الجارية آنذاك ثلاثية تتمثل بكل من السلطان والفقيه والامة. كما كانت الادوار الفاعلة بين هذه العناصر تعود الى كل من السلطان والفقيه، حيث يحتل السلطان المرتبة الاولى من التأثير على العنصرين المتبقيين، ويتبعه في ذلك الفقيه. ولم يكن للامة من دور سوى المحكومية بالتقليد والطاعة. فالتقليد هو الركن الذي رسخه الفقيه في اعماق عقل الامة، وقد ساعده في ذلك ما كانت عليه هذه الاخيرة من امية، لهذا لم يكن لها من خيار سوى اتباعه وقبول بضاعته المعرفية. اما الطاعة فهي التي فرضها السلطان وغرسها في روح الامة بالقوة والتخويف. وبهذا لم يكن للامة من دور غير تقليد الفقهاء وطاعة السلاطين.

هكذا كانت العلاقة ثلاثية. مع هذا فهناك عنصر آخر لم يكن له ذلك الدور المؤثر لهامشيته ومحدوديته، وهو الذي يعود الى ما يطلق عليهم >الكتّاب<، فمنهم فئة وظفهم السلطان كمستشارين نظراً الى ما يحملونه من ثقافة ومعرفة عالية بشؤون البلاد العامة وما يعتمدونه من مقاييس مردها الى العقل والواقع. وكان ابرز من مثّل هذا الدور هو كل من ابن المقفع في القرن الثاني وابن خلدون في القرن الثامن للهجرة. وعادة ما كان الكتّاب من الموالي الذين ينتمون الى اقوام وحضارات اخرى على رأسها بلاد فارس؛ الامر الذي هيء لهم ان يمتلكوا من الخبرة والمعرفة ما يفوقون بها غيرهم. فمثلاً كان ابن المقفع يعترض على طريقة الفقهاء لكونها صنعة لا تعير اهتماماً الى حقيقة الواقع وكليات المبادئ الفطرية العامة وعلى رأسها العدل. كذلك هو الحال مع ابن خلدون الذي كشف عن الطريقة الاستعلائية للفقهاء في تجريد القضايا وتحويلها الى مطلقات وكليات ذهنية كثيراً ما تصطدم بالواقع ولا تتطابق معه، وهو يعدها لا تنفع في المعالجات المتعلقة بشؤون الواقع المتغير. وينطبق عليهم مقولة بعض الفلاسفة: ان ما تربحونه من ناحية الدقة انما تخسرونه من ناحية الموضوعية.

أما الحال في العصر الحديث فقد تغير، اذ اصبحت العلاقة الجارية رباعية، وصار التنافس على الامة ثلاثياً بدل أن كان ثنائياً.

لا شك انه لم يتغير شأن الفقيه، اذ مازال يتبنى ترسيخ مفاهيم التقليد ويطالب الامة باتباعه، كما لم يتغير شأن السلطان، حيث ظل يمارس القوة لاجل اخضاع الامة لارادته والحكم عليها بالطاعة. لكن ما حدث جديداً فهو ظهور دور المثقف في الساحة الاجتماعية. فلاول مرة يُطلب من الامة او الجماهير ان تدرك مسؤوليتها في اتخاذ القرارات العامة واعتبارها مصدراً كلياً او جزئياً للسلطات السياسية. كما لاول مرة تمارس حيالها عمليات الاقناع والتنمية المعرفية ومحاولة خلق ما يطلق عليه الرأي العام. وقد افضت مثل هذه المطالب والممارسات الى التنافس على روح الامة وعقلها بين المثقف من جانب، والسلطان والفقيه من جانب اخر. اذ قدّم المثقف في بادئ الامر بضاعة حديثة تخاطب الجماهير لا بعنوان التقليد، ولا بعنوان سياسة الاخضاع والاذلال، وانما بفعل التأثير والاقناع، جاعلاً من نفسه مسؤولاً عن الامة ومعبراً عن طموحها وارادتها. وقد امتد دوره لينال تأثيره حتى على السلطان الذي خضع لاطروحاته النظرية، مثلما يلاحظ جلياً فيما تأثرت به الانظمة العربية بالمثقفين القوميين. لكن دون ان ينكر في المقابل ما حققه السلطان فيما بعد من ان يحمل المثقف على ان يكون مبشراً لسياسته وممارسة الاستبداد المعرفي حيال الامة والجماهير. فالمثقف الذي بدأ دوره مع الامة خارج لعبة السلطان؛ عاد بعد ذلك ليكون ضمن هذه اللعبة ولو على حساب الامة التي عدّ نفسه مسؤولاً عنها من قبل.

واذا ابعدنا انفسنا عن محاكمة المثقفين وانقساماتهم السياسية وحجم الالتزام الذي اتخذوه على انفسهم، ونظرنا اليهم كطرف فاعل جديد قدّم الكثير من المعرفة التي اثرت على توجهات الامة والسلطان؛ فان ما يهمنا فعلاً هو التعرف على الجانب المعرفي الابستمولوجي من الوظيفة الذهنية للمثقف.

بادئ ذي بدء، يمكن القول ان مثقفي اليوم هم ككتّابنا القدماء اعتمدوا على ثقافة دخيلة تنتمي الى حضارة اخرى غير حضارتنا الاسلامية. وفي كلا الحالين انه مثلما كان الكتّاب ينافسون ذوي الاختصاص من اهل الفقه في طروحاتهم المعرفية وعلاقتها بالواقعين الاجتماعي والسياسي، فكذا ان المثقفين اليوم يؤدون نفس الدور من المنافسة للفقهاء، وذلك بغض النظر عن اختلاف الاغراض والوظيفة لكل منهما. اذ كان الكتّاب موظفين لخدمة السلطان، في حين عدّ المثقفون انفسهم مسؤولين عن الامة ومعبرين عن طموحاتها وتطلعاتها.

على ان المثقف العربي كان شديد التأثر بالمثقف الغربي، الى درجة انه اخذ الغالب منه يعكس ذات المضامين والوظيفة والاغراض تقريباً. فاذا كان هذا الامر بيّن فيما يخص المثقف الماركسي؛ فان غيره غالباً ما اخذ يتأثر بما عليه طلائع المثقفين الغربيين في فرنسا، واقصد بهم مثقفي عصر الانوار خلال القرن الثامن عشر. اذ كان لهؤلاء دور يضاهي سلطتين حاكمتين، احداهما معرفية تتمثل بالعقائد والاراء اللاهوتية التي تقدمها الكنيسة، واخرى سياسية تعود الى ما عليه الانظمة الاستبدادية الحاكمة انذاك. وقد عارض المثقفون السلطتين بأن ارسوا قبال الاولى دعائم العقل والمنطق، وقدموا حيال الاخرى معالم الديمقراطية ودور الامة والشعب والمناداة بالدستور والعدالة والحرية والمساواة. فعلى هذه الشاكلة من الصراع جرى الحال لدى مثقفينا العرب، وإن كان اخف وطأة واضعف تأثيراً، ذلك انهم عارضوا الكهنوت التقليدي وتجلياته المعرفية والسياسية. ويصدق هذا الامر حتى على المثقفين الاسلاميين، فهم على الصعيد المعرفي رجّحوا العقل والواقع على النقل عند التعارض، مخالفين بذلك الطريقة التقليدية التي يعوّل عليها الفقهاء. وكذا انهم على الصعيد السياسي عارضوا التبريرات التي يقدمها الفقهاء في تكريس الحكومات الاستبدادية، بل وادخلوا حق الامة في الخيار والحكم طبقاً لقيود الدستور والقانون والمناداة بالحرية والعدالة والمساواة. ومن ذلك ان رشيد رضا عدّ مصدر القوانين يتمثل بالامة؛ باستثناء ما هو منصوص في الكتاب والسنة الذي حسبه قليلاً جداً.

مهما يكن فمن حيث المسلك المعرفي نجد ان التركة الوحيدة الفاعلة التي خلفها لنا التاريخ الاسلامي هي تركة الفقيه، ومع ظهور ما يطلق عليه النهضة الحديثة ظهرت هناك عناصر فاعلة اخرى منافسة، اذ افضى التحديث على مستوى التعليم كبناء المدارس والجامعات وما قدمته البعثات العلمية الى الغرب؛ كل ذلك افضى الى ايجاد عناصر تختلف بنية وتطلعاً عن تلك التي نراها عند الفقيه بشكله التقليدي. اذ ظهر على ايدي العناصر الجديدة - المثقفين - الاهتمام بقضايا فرضتها الظروف الحديثة كالترجمة وتسهيل اللغة وتشكيل المصطلحات الحديثة وكتابة القواميس اللغوية والموسوعات العلمية ونقل المفاهيم الغربية ونشر الصحف والكتب والمجلات واعادة الاعتبار للتراث العقلي والمعنوي والاهتمام بقضايا الساعة والسياسة وما يجري في العالم اجمع. لقد كانت مصر ومن ثم بلاد الشام هي اول المتأثرين بالوضع الجديد من المنافسة بين الفقيه والمثقف الجديد. وكان الفقيه يتمثل آنذاك بالمؤسسات الدينية الرسمية وعلى رأسها جامعة الازهر، في حين ارتبط المثقف الجديد بالمؤسسات العلمية والثقافية الحديثة، او انه كان شديد التأثر بها. فعلى صعيد المثقف العلماني نجد امثال ناصيف اليازجي (0081ــ1781) واحمد فارس الشدياق (4081ــ7881) وبطرس البستاني (9181ــ3881) واديب اسحاق (6581ــ5881) ويعقوب صروف (2581ــ7291) وجرجي زيدان (1681ــ4191) وشبلي الشميل (0681ــ7191) وفرح انطون (4781ــ2291) وجميل صدقي الزهاوي (3681ــ6391) واحمد لطفي السيد (2781ــ3691) وغيرهم. أما على صعيد المثقف الديني فنجد رفاعة الطهطاوي (1081ــ3781) وعلي مبارك (3281ــ3981) وخير الدين التونسي (0181ــ9981) وجمال الدين الافغاني (9381ــ7981) وعبد الرحمن الكواكبي (4581ــ2091) ومحمد عبده (9481ــ5091) ومحمد اقبال (6781ــ8391) وغيرهم. فكلا المثقفين العلماني والديني قد تأثر بالحضارة الغربية والتحديث الجديد غاية التأثر، بل انهما يدينان بوجودهما الى عملية التحديث والاحتكاك بالغرب، ومازالا يعملان تأثراً بهذا الاعتبار خلافاً للفقيه الذي غلب عليه التحفظ.

واذا كانت مهمة الفقيه هي الحفاظ على ما كان امام تيار النهضة والتحديث والتغريب؛ فعلى خلافها كانت مهمة المثقف العلماني، وذلك إما بهجر ما كان من تركة بلا إعادة احياء، او بربط التحديث بالتراث ربطاً ضعيفاً؛ اعتماداً على المفاهيم المستوردة من الغرب كالحرية والتقدم والعقلانية وما اليها. فما يفكر به العلماني هو جعل التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمة على مفهوم المواطنة او القومية كضرورة لا غنى عنها في النهضة المنشودة، وكان ابرز واقدم من يمثل هذا الاتجاه انذاك هو مدرسة بطرس البستاني.

في حين كانت مهمة المثقف الديني هي التوفيق بين التركة الموروثة وبين الواقع الجديد، مع تغليب هذا الواقع، او الالتفاف عليه من منطق ان ما انتجه الغرب من علم وثقافة انما اخذه عن المسلمين وقام بتطويره حيث تمّ ما يطلق عليه النهضة الغربية الحديثة. وقد بدا هذا الاهتمام اول الامر من خلال مدرسة الشيخ حسن العطار وتلامذته >وذلك ابان الحملة الفرنسية على مصر، اذ كان العطار خطيب اول حفل لتخرج اول فوج لمدرسة الطب، في كلمة اشار فيها الى ان العلم دولي وان الحضارة عالمية. وهو الذي حرض تلاميذه على عبور البحر الى الغرب، فكان تلميذه رفاعة الطهطاوي اول رائد للفكر العربي المعاصر، فقد استطاع وهو ازهري ان يدرس الفرنسية وان يترجم منها وينشئ تياراً ضخماً قوامه الجمع بين ثقافة العرب وثقافة الغرب< . لذلك عُد رمزاً للرابطة بين الازهر والثقافة الغربية.

ان من الطبيعي ان تواجه اي نهضة صراعاً وجدلاً بين خط يريد ابقاء كل ما كان على ما كان، وبين رفض مضاد لما كان، وبين محاولة تجديد واصلاح ما كان لما ينبغي ان يكون. ان مثل هذا الصراع قد حصل منذ ظهرت وتبينت معالم >النهضة الحديثة< في بلادنا الاسلامية والعربية. فلقد كان الاتجاه الاول المتمثل بالفقيه يحتمي بسيرة السلف القدماء ويتوقف عندها بالتقليد مقتدياً بمقولة الامام مالك: >لا يصلح امر هذه الامة الا بما صلح به اولها<. اذ ظهر في اوساط هذا الاتجاه من يشاطر تلك المقولة بشعار: >الدين كما تركه لنا الائمة أما ما سوى ذلك من امور الدنيا وعلوم العصر فلا علاقة للازهر به<. بل كان القرن التاسع عشر حافلاً بهذا التوجه حتى نعى المصلح خير الدين التونسي على المسلمين كراهية الاخذ باساليب التنظيمات المدنية الحديثة في الاصلاح، ودفع الشُبه التي تحرم هذه التنظيمات كما كان يروّج لها الكثير، كما ونقد الاعتقاد السائد والقائل بان كل ما يصدر عن اوروبا حرام او مخالف للشريعة، فضلاً عن انه انكر على العلماء اعراضهم عن استكشاف قضايا الواقع وجهلهم بمعرفة امراض الامة الاسلامية. اما الاتجاه الثاني المتمثل بالمثقف العلماني فقد لجأ الى الطرف المضاد من الاول وكان شعاره على شاكلة القول: >ما لنا والرمادان افضل تكريم للاسلاف ليس في الاحتفاظ بالرماد الذي تركوه، بل في الاحتفاظ بالشعلة التي حملوها متأججة<. وبالتالي فانه عمل على تطويع التراث ونص الخطاب الالهي الى ما يخدم مصالح الحاضر، بفعل الضغوط التي فرضتها الحاجات الزمنية وتطورات الواقع.

هكذا كان الرواد الاوائل من المثقفين الدينيين يعانون من هيمنة اتجاهين متضادين، كل منهما يمسك بحبل غير ما يمسك به الاخر، مما جعل المهمة التي يحملونها تعبر عن محاولة التوفيق والجمع بين الحبلين كطريق للنهضة والتقدم. فمثلاً ان المصلح خير الدين التونسي (0181ــ9781) حصر عوائق التقدم في فئتين، هما رجال الدين ورجال السياسة >أما رجال الدين فانهم يعرفون الشريعة ولا علم لهم بامور الدنيا، وان رجال السياسة يعرفون الدنيا ولا يعلمون الدين، وهم يريدون ان يطبقوا النظم الاوروبية بحذافيرها من غير رجوع الى الدين. فنقول للاولين اعرفوا الدنيا. ونقول للاخرين اعرفوا الدين<. وقد حفزه هذا الامر الى وضع كتابه (أقوم المسالك في معرفة الممالك). اذ اشتمل على داعيين، احدهما تحذيره للمسلمين من الإعراض عن الاخذ عن غيرهم من الاوروبيين، والاخر هو ايجاد الجسر الذي يربط بين كل من رجال الدين ورجال السياسة، معتبراً ان لكل منهما ضرورة تكمل الاخرى، بحيث انه بتعاونهما يمكن للامة ان تنهض. وقد وجد لذلك تبريراً في التوفيق بينهما من خلال الجمع بين المادتين اللتين يشكلان موضوع البحث عندهما. فهو يقول: >ان ادارة احكام الشريعة، كما تتوقف على العلم بالنصوص، تتوقف على معرفة الاحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص. فالعالم اذا اختار العزلة والبعد عن ارباب السياسة فقد سد عن نفسه ابواب معرفة الاحوال المشار اليها، وفتح ابواب الجور للولاة<. لهذا فقد حث الفريقين على العمل لمعرفة الوسائل الكفيلة للنهضة.

وعلى اثر ذلك ظهر اتجاه وسط يعبر عن حمله لهاتين المهمتين أُطلق عليه >حزب الاصلاح الاسلامي المعتدل الجامع بين الاستقلال في فهم الدين وحكم الشرع الاسلامي وكنه الحضارة الاوروبية<. وهو الحزب الذي يقبل التغييرات الضرورية على ان يربطها بمبادئ صالحة او يوفق بين التغيير من جهة وبين صيانة أساس الامة الخلقي. وقد كان رشيد رضا (5681ــ5391) من المؤيدين لهذا الاتجاه، اذ يرى ان على هذا الحزب المعتدل ان >يُنشئ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للامامة العظمى وللاجتهاد الشرعي بعد دراسة اصول القوانين الدولية وخلاصة تاريخ الامم وسنن الاجتماع ونظم المؤسسات الدينية كالبابوية.. وجميع المسائل الضرورية لتطبيق الاسلام على العالم الحديث تطبيقاً صحيحاً<.

على ان التباعد بين رجل الدين ورجل الدنيا، او الفقيه والعلماني ومن على شاكلتهما، مازال قائماً حتى يومنا هذا. وقد كانت الامة في بعض الفترات منقسمة على نفسها بين هذين التوجهين، ومن ذلك شهادة محمد عبده على ان جسم الامة في عصره كان منقسماً بين فئتين عظيمتين هما >طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم<، لذلك جاءت دعوته مخالفة لكل منهما. واحياناً يُخيّل للبعض في بعض الفترات انه لا يجد بين الناس في الغالب الا صنفين: متدين جاهل او عاقل متهتك. وكأن الحلقة المفقودة هي حلقة المثقف الديني الذي بوسعه ان يشكل وسيطاً بين الطرفين المتضادين، وأن يكون جامعاً لجملة من اعتباراتهما. ومع ذلك فقد اظهر المثقف الديني رواجاً واتساعاً؛ خصوصاً في العقود الاخيرة، تارة بنحو من الاستقلالية الفكرية، واخرى عبر التنظيمات السياسية وكذلك الحركات الثقافية.

أخيراً ان ما نشهده اليوم من انشطار حاد وواسع بين التيارين الديني والعلماني؛ ليس كله يمكن ارجاعه الى ما كان عليه الوضع من انقسام بين الرواد الاوائل، ذلك ان بعضه كان يعود الى ما حمله المثقف الديني من ازدواج غير منظر في توفيقه بين الدين والواقع الجديد، الامر الذي جعل الاجيال التالية المتصلة به تنقسم على نفسها بين جيل ينسب نفسه الى التحديث والعلمانية، وجيل ينسب نفسه الى الاصالة والتدين. اي ان ما ظهر على اعقابهم هو جيل المثقفين الاسلاميين وجيل المثقفين العلمانيين. حتى ان هذا الجيل الاخير من المثقفين اخذ يصف المثقف الديني من الرواد اوصافاً متضادة ومتقابلة، فبعضهم يراه مثقفاً علمانياً او ليبرالياً، وآخر يراه سلفياً، فمثلاً اعتبر الطيب التيزيني كلاً من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ضمن التيار السلفي، بينما عدّهما غيره ليبراليين، حيث الشائع عن الطهطاوي بانه >رائد الليبرالية العربية الاسبق< وانه >عصري ليبرالي< وان >الشرق العربي والاسلامي دخل به الى عصر التنوير. كما ان الدكتور سعد الدين ابراهيم وضع كلاً من الطهطاوي وخير الدين التونسي والافغاني وعبده في صنف الليبراليين. كذلك فهناك من اعتبر الكواكبي من العلمانيين لتشديده على الوطنية وترجيحه للوفاق الوطني والقومي على الديني والمذهبي، وانه فرّق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم من حيث التخصص ومنع الجمع بينها، ومن ثم أُتهم بفصل الدين عن السياسة باطلاق. بل اكثر من هذا ان هناك من حسب ان الاسلمة تنقلب الى العلمنة عند التطبيق.

المثقف وتوجهاته التعددية

اذا ما نظرنا الى المثقف العلماني نجد ان له توجهات عديدة مختلفة يصل بعضها الى التضاد والتنافي. وهي على العموم توجهات لا تتعدى في نظرنا الاشكال الخمسة التالية: العلموي كما يتمثل لدى شبلي الشميل وفرح انطوان ويعقوب صروف واسماعيل مظهر وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، والذرائعي (البراجماتي) مثلما هو الحال لدى المفكرين القوميين كبطرس البستاني وابراهيم اليازجي وجرجي زيدان وانطون سعادة وزكي الارسوزي وساطع الحصري وقسطنطين زريق، والعقلاني (التنويري) الذي غالباً ما يلجأ اليه المفكرون القوميون حيث يماهون بين النزعتين العقلانية والنفعية، والميتافيزيائي كما يتمثل لدى المفكرين الماركسيين من أمثال ميشال كامل وياسين الحافظ وحسين مروة وهادي العلوي وصادق العظم ومطاع صفدي وطيب تيزيني وعبد الله العروي، واللاعقلي كما هو الحال لدى عبد الرحمن بدوي وعلي حرب، وعادة ما يعمل هذا الشكل الاخير على نقض العقل وتقويض مقولاته المعرفية وفضح التزاماته العملية.

ولعل اول شكل برز في تاريخ الفكر العربي الحديث هو الشكل العلموي الممتزج بالذرائعية. فالجيل الاول من المثقفين العلمانيين حمل خليطاً من العلمانية العلموية والنفعية البراجماتية، اذ كان مهتماً بالكيفية التي يمكن ان تتحقق بها نهضة العرب بعد السبات الذي قضوه قروناً طويلة، ومن ثم بلوغهم حد السيادة بمثل ما كانوا عليه من قبل، وذلك انطلاقاً من التأثر بالنتاج الحضاري والعلمي للغرب. وعليه كثر الاهتمام لدى هذا الجيل بدوائر المعارف والموسوعات العلمية والادبية والمعاجم اللغوية، وكذلك زاد الاهتمام بانشاء الصحف والتركيز على التعليم ومنه تعليم المرأة، مثلما يظهر ذلك لدى بطرس البستاني (9181ــ3881).

هكذا فان المثقف العلماني على خمسة أشكال قد تتداخل وتتمازج بنسب واعتبارات، وهي مازالت سائدة حتى يومنا هذا، ويمكن تسليط بعض الضوء عليها كالاتي:

1ــ النموذج العلموي

وهو ذلك الذي يجد في العلم ضالته الوحيدة في البحث عن الحقيقة وتأسيس المجتمع السليم. وبالتالي فانه لا يقدم اطاراً قبلياً يعتمد عليه غير وثوقه بالنتاج العلمي، ولا يحمل منظومة محددة غير تلك التي تصاغ صياغة بعدية قابلة للتغيير باستمرار تبعاً لما يقدمه العلم من حقائق نسبية. مما يعني لديه ان نهضة المجتمع لا تتحقق بالدين او غيره من العناصر الحيوية الفاعلة. بل غالباً ما ينظر الى الدين من الناحية المعرفية نظرة العائق في سبيل التقدم، ويراه طوراً قد انتهت مهمته تاريخياً، وذلك طبقاً لقانون الاطوار الثلاثة من تطور الفكر الانساني الذي وضعه اوجست كونت، حيث فيه يكون الطور الديني هو اول المراحل التاريخية للتفكير البشري بما يتصف من سذاجة واسطورية، وبعده جاء دور الطور الفلسفي الميتافيزيائي منذ الحضارة الاغريقية وحتى العصر الحديث، ثم اخيراً انتهى الامر عند الطور العلمي الذي نجني ثماره اليوم.

2ــ النموذج الميتافيزيائي

وهو ذلك الذي يفترض وجود نسق قبلي ثابت كحقيقة مطلقة تتجاوز حدود التاريخ والزمان والمكان. ومنه يتم التعامل مع القضايا الموضوعية سواء من حيث فهمها بحسب ما عليه النسق، او العمل على تطبيق مضامينه ومفرداته ولو افضى الامر احياناً الى تغيير الواقع تغييراً جذرياً، مثلما هو الحال مع الاطروحة الماركسية التي تفترض وجود نسق قبلي جاهز خُيل للماركسيين العرب ان من الممكن تطبيقها على ارض الواقع ومنه الواقع العربي.

3ــ النموذج الذرائعي

وهو الذي لا يهمه إن كان مصدر الحقيقة قبلياً او بعدياً، انما يهمه توظيف الحقائق لقضايا نفعية تخدم المجتمع. وبعبارة اخرى ان ما يستقطب تفكير المثقف الذرائعي هو المصلحة التي يسديها الى المجتمع الذي ينتمي اليه عبر اتخاذه معياراً ما من المعايير المعرفية، وليس هو عبارة عن نفس هذا المعيار، فهو من هذه الناحية قابل لاتخاذ اياً كان من الاطر والانساق المعرفية سواء كانت قبلية او بعدية طالما انها يمكن ان تكون عنصراً فاعلاً للمجتمع من الناحية النفعية. مما يعني انه يكاد يكون في الاصل خلواً من اي اطار او نسق معرفي؛ قبلياً كان او بعدياً، لكنه ليس بوسعه التجرد من هذا الغطاء، ومن ثم كان عليه الامتزاج والاخذ بالصيغ الثقافية من الاشكال الاخرى، خاصة الشكلين التنويري والديني، مثلما يلاحظ جلياً لدى المثقف القومي العربي المنشغل بحلم اعادة مجد العرب.

4-النموذج العقلاني

وهو الذي يؤمن بالعقل ايماناً مطلقاً من حيث قدرته على الكشف عن الحقائق وتحقيق ما تصبو اليه النفوس من نهضة انسانية، لا من منطلق ذرائعي ولا ميتافيزيائي ولا علموي، وانما يكفي للعقل ان يحمل قدراته الذاتية في الكشف والمحاكمة والنقد. فهو على حد تعبير المفكر القومي قسطنطين زريق عبارة عن >العقل الممتحن المنضبط المولّد< في قبال >الذاكرة الساردة المرددة المقلدة<. فهذه هي عقلانية المثقف التنويري التي يستبعد فيها اي وصاية خارجية تعمل على الاخلال بالممارسة العقلية، كما ويستبعد ايضاً دخالة كل ما هو غيبي خارج عن الحدود الطبيعية، بل >يميل الى الموقف القائل بأن المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة، وأقصى ما يعترف به هو المجهول الذي قد يصبح يوماً ما معلوماً<. ويسلم بأنه لا طريق للانعتاق العقلي سوى الحرية. ويوصي عادة بضرورة العمل بالديمقراطية في الممارسات السياسة. كما انه يضع فلاسفة التنوير قدوة له بما حققوه من مكاسب، وعلى رأسها مكاسب الحرية والمساواة والاخاء التي بشرت بها الثورة الفرنسية فيما بعد.

5ــ النموذج اللاعقلي

وهو على خلاف سابقه لا يمنح المنطق العقلي دوراً فاعلاً ومميزاً في كشف الحقائق وحل المشاكل العامة. وانه في الغالب ينظر الى العقل والواقع نظرة وجودية لا تبعث على التفاؤل في تحقيق ما ينشده الانسان من مبادئ والتزامات. فالعقل لا اعتبار له فيما يقدمه من مقولات منطقية او التزامات عملية. وعلى ما يراه البعض فان خلف العقل جانباً مظلماً يتمثل بالباطن الحيواني او اللامعقول والذي يدفع بالعقل اتجاه مآربه ورغباته. وبالتالي كان لا بد من فضح العقل ومقولاته ونقض منطقه والكشف عن عوراته برده الى منطقته المقفلة المظلمة من العناصر الباطنية اللامعقولة، وذلك بغية السيطرة عليها وكبح جماحها او ادارتها بالشكل المناسب. وهذا النوع من المثقف والمتأثر بجملة من الفلاسفة الغربيين، كنيتشه والوجودية وفوكو وغيرهم، يعد نادر الحضور بين مثقفينا قياساً ببقية الانواع الاخرى.

مهما يكن فالملاحظ من حيث الواقع هو ان النماذج الخمسة التي عرضناها لا تعد في غالب الاحيان مستقلة عن بعضها البعض، كما انها ليست منفصلة كلية عن المثقف الديني كما سنرى.

المثقف الديني والنماذج العلمانية

في البدء نتساءل عن نصيب المثقف الديني من تلك النماذج او الاتجاهات الخمسة، فهل يمكن عده نفعياً او علموياً او ميتافيزيائياً او عقلانياً او انه مثقف لا عقلي؟

حقيقة الامر ان جميع هذه النزعات تتجسد فيه وان بنسب وهيئات مختلفة. وقد يصح القول ان الشكل الميتافيزيائي هو المرتكز المعرفي الاساس الذي يحدد هويته الخاصة، حيث يتمثل بظاهرة الوحي والنص. لكنه ليس خلواً من سائر النزعات المعرفية الاخرى التي تكشف عن طبيعة ثقافته، ففي الغالب انه قائم على مزيج من العلموية التي تستند الى حقائق العلم واعتباراته، والعقلانية التي تتمثل بالانشداد الى منطق العقل في محاكمة القضايا العامة. اما النزعة اللاعقلية بالطريقة النقضية التي عرضناها فهو خلو منها، لا بمعنى انه لا يعتقد بوجود جانب مظلم حيواني ولا معقول في النفس البشرية، بل انه لا يجعل من العقل مطية هذا اللامعقول الى الدرجة التي تتقوض فيها مقولاته المنطقية والتزاماته الوجدانية. لكن مع هذا فهناك صنف من المثقفين الدينيين ممن لا يعتمد على منطق التفكير العقلي بقدر ما يعتمد على دواعي الحدس والوجدان، مثل عثمان أمين في جوانيته، وعباس محمود العقاد في وجدانيته. ويظل الجانب الذرائعي - لدى المثقف الديني - مكملاً لتلك الاشكال المعرفية ومستنداً الى ما تفرضه من اعتبارات.

على ان بين المثقف الديني والمثقف العلموي تنازعاً واختلافاً فيما يخص علاقة الدين بالحياة والواقع. فالمثقف العلموي يعتقد ان هناك تضاداً بين الدين والعلم، وفي احسن الاحوال لا يرى ان بالامكان قراءة الواقع، ومنه الواقع العلمي، بعين دينية. فهو بالتالي لا يرى بديلاً عن العلم يمكنه تفسير الواقع والكشف عن اسراره وخفاياه.

وعلى خلاف المثقف العلموي يرى المثقف الديني ان ما يضعه الاول من تضاد بين العلم والدين وما ينصّب نفسه كنصير للاول على حساب الثاني؛ انما جاء نتيجة خطأ في التقدير. فالتضاد المنسوب ليس الا تضاداً بين منهجين مختلفين للفهم، احدهما يعود الى ما عليه المسلك البياني والذي ينتمي اليه الفقيه ومن على شاكلته، حيث الميل الى جعل التكوين المعرفي منحصراً بالنص؛ على شاكلة ما يقوله الامام ابن حنبل: >انما أُمرنا ان نأخذ العلم من فوق<، او ما يقوله استاذه الشافعي: >العلم طبقات شتى.. ولا يصار الى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من اعلى<. اذ جرى الكثير من تفسير الواقع والكشف عن اسراره وخفاياه ضمن الاعتبارات الواردة في نصوص الرواية والحديث. وبالتالي فان هذا المسلك يعتمد في الأساس على عالم التدوين والأمر في فهم عالم التكوين والخلق، رغم عدم وجود قطع في سند العالم الاول او دلالته. أما المسلك الاخر فيعود الى المنهج العلمي الذي اتخذه العلماء لتفسير الواقع الموضوعي من خلال الفحص والمراجعة المستمرة اعتماداً على عدد قليل من المسلمات. من هنا فاذا كانت هناك قطيعة فهي ليست بين العلم والدين، وانما بين النهجين العلمي والبياني. فالعلم يعتمد على معطيات الواقع والتحليل العقلي وهو ليس معنياً بالنصوص الدينية، وعلى خلافه يصدق الامر مع المنهج البياني الذي يجد في النص مصدره الرئيسي لتكوين المعرفة، رغم تعامله القائم على الظنون في الغالب وليس القطعيات. وعلى ما يقوله محمد عبده: >يرى القارئ انه لم يكن هناك جلاد بين العلم والدين، وانما كان بين اهل العلم وبين اهل الدين شيء من التخالف في الاراء<.

لهذا فان المثقف الديني وجد نفسه منذ بداية ظهوره معنياً بحل هذه القطيعة عبر عملية التوفيق التي نهجها؛ مخالفاً بذلك كلا النزعتين المتشددتين. فهو يتقبل من جانب النتاج العلمي والسلوك المنهجي الذي يتبعه العلماء في الكشف عن اسرار الواقع وخفاياه؛ خلافاً لما عليه المسلك البياني التقليدي، لكنه من جانب اخر حريص على التمسك بالمبادىء والقيم التي جاء بها النص، مما جعله يختلف تماماً عن النهج الذي عليه المثقف العلموي. وبالتالي يرى ان العلم والدين توأمان، او انه لابد ان ينتهي امرهما الى التآخي. بل ان المثقف الديني يعد النتاج العلمي لعلماء الطبيعة يشكل دعماً كبيراً لتأييد ما ينطق به النص. فالنص عنده سابق في الكشف عن خفايا الواقع مقارنة بما عليه العلم، مع الاعتراف بكونه كاشفاً على نحو الاجمال لا التفصيل، وذلك باعتبار انه لم يوضع بديلاً عن الكشف العلمي وانما مهمته الاساسية تنحصر بالهداية.

وبهذا فان احدى الوظائف التي حملها المثقف الديني على عاتقه هي المزاوجة بين النهجين البياني والعلمي، او بين الفقيه والعلماني. وبعبارة ادق انما جاء ليزاوج بين العلم والدين، او الواقع والنص، مخالفاً بذلك السير المتصلب الذي عليه كلا النهجين الخاصين بالعلماني والفقيه.

على ان نفس ما ذكرناه ينطبق تماماً على ما يخص العلاقة بين المثقف العقلاني والمثقف الديني، وذلك من حيث التنافس الحاصل بينهما حول فهم الواقع وتفسيره، وكذلك حول العلاقة التي تربط العقل بالدين، فما يتصوره المثقف العقلاني من ان هناك تضاداً بين العقل والدين، وان الدين هو الجانب اللامعقول بالقياس الى الاداة العقلية، وان المحاكمة تظل في جميع الاحوال خاضعة للعقل وليس الى ما هو غيبي خارج عنه، فكل ذلك يمكن الاجابة عنه بمثل ما ذكرناه بصدد المثقف العلموي.

فمن ناحية ان ما ذُكر من تضاد بين العقل والدين ليس صحيحاً، بل الصحيح ان يقال ان هناك تضاداً بين النهجين البياني والعقلي، وقد يسفر هذا التضاد عن تناقض في مضامينهما، لكن ذلك لا شأن له بالدين وعلاقته بالعقل. وقديماً ظهر الكثير ممن يطرح فكرة التضاد من اصحاب النهج البياني، على الصعيدين الكلامي والفقهي. وواقع الامر ان التضاد الذي ذكروه ليس تضاداً مع الدين وانما مع فهمهم له، اذ اصبح من البين ان جميع المدارس والمذاهب الدينية انما تمارس انماطاً من الاجتهاد في الدين دون ان تكون ناطقة عنه على وجه القطع. ولا يستثنى من ذلك المدارس البيانية التي تعول على الظواهر الحرفية من النصوص. وربما يكون ابن رشد هو اول من وعى كون الممارسة التي تبديها تلك المدارس ومنها المدارس البيانية انما هي ممارسة اجتهادية قائمة على بعض الاصول والمسلمات القبلية. لذا كان علم الطريقة علماً حيوياً لدراسة الفكر الاسلامي دراسة تتولى الكشف عن المولدات المعرفية والاسس القبلية لمناهج الفهم الديني.

مهما يكن فالملاحظ ان المثقف الديني لا يجد في العقل ما يمكن ان يكون مضاداً للمضامين الدينية، وانه لا يصح عنده اعتبار الدين شكلاً لا معقولاً مقارنة مع العقل. بل يرى ان احدهما جاء ليشهد ما لدى الاخر. فالعقل مؤيد بالدين، والدين مؤزر بالعقل؛ بلا تناقض ولا تعارض. فاغلب القضايا الدينية هي مما يشهد عليها الوجدان العقلي بالاقرار، خاصة تلك التي لها علاقة بالمصالح العامة. تظل هناك قضايا تعبدية وغيبية لا يعلم العقل عنها شيئاً، وهو امر ليس غريباً طالما ان ذلك يجري حتى في العلوم الطبيعية، حيث هناك من الخفايا ما يعجز العلم عن ادراكها.

أما علاقة المثقف الديني بالمثقف الميتافيريائي فيلاحظ ان للاول نوعاً من التعالي الغيبي يجعله من هذه الناحية لا يختلف عن الثاني. فكلاهما يستند الى منظومة ميتافيزيائية متعالية رغم ما بينهما من الاختلاف الكبير على صعيد المحتوى. كذلك فانهما يطمحان الى تحقيق نموذج مثالي بحسب ما تمليه عليهما نزعتهما الميتافيزيائية التي تتعالى على التاريخ وظروفه الزمانية والمكانية. فما يطمح اليه المثقف الديني هو تحقيق الامر الرباني المتمثل بخلافة الانسان الصالح على ارض الواقع. وما يطمح اليه النموذج الميتافيزيائي، كما في الماركسية، هو تحقيق المجتمع الشيوعي (اللاطبقي) تبعاً للحتمية المادية والتاريخية المفترضة.

وبخصوص المثقف الذرائعي ففارقه عن المثقف الديني هو انه من حيث نفعيته لا يملك تكويناً معرفياً محدداً، وبالتالي فهو بحاجة للامتزاج بغيره من الاشكال الثقافية الاخرى. أما المثقف الديني فرغم انه ليس خلواً من النفعية الا انه يعدها مؤطرة باطار منظومته المعرفية والقيمية. واعني ان النفعية لديه هي نفعية محكومة وليست منفصلة او مستقلة عن تلك المنظومة.

وعلى العموم فان الفارق بين المثقف الديني والعلماني يمكن لحاظه من حيث تصور كل منهما لعلاقات الانسان؛ علاقته بنفسه وبالمجتمع والطبيعة والميتافريقا الغيبية. فالمثقف الديني ينطلق من نظرية الاستخلاف وحمل الامانة الربانية ليس من حيث قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والارض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً} (الاحزاب/27) فقط، ولا من حيث قوله تعالى: {ان الارض يرثها عبادي الصالحون} (الانبياء/501) فحسب، انما كذلك من حيث النبوءة التي تبشر بمغزى هذا الاستخلاف والذي عارض فيه المولى جل وعلا ما توقعته الملائكة بقوله: {واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اني اعلم ما لا تعلمون} (البقرة/03)،

على مثل هذه الايات يقيم المثقف الديني تصوره الذي يؤسس فيه علاقات الانسان المتعددة طبقاً لمفهوم الامانة والاستخلاف، كالذي يلاحظ بوضوح لدى مثقفي ما بعد منتصف القرن العشرين. مما يعني ان منطلقاته هي منطلقات متعالية غيبية، لكنه لا يفصلها عن ارض الواقع. فهو يعي انها تتجسد في الواقع عند تحقق شروطها، ويرى ان الاسراع في التجسيد واحكامه يتوقف على فهم الموضوعات التي تناط بها تلك العلاقات، وهي كل من النفس والمجتمع والطبيعة والميتافيزيقا، ومنه تنشأ الحاجة الى العلوم المتعلقة بها، وذلك بغية الافادة منها في تأسيس علاقات مناسبة وتوظيفها للهدف المشار اليه.

ويبدو ان المثقف الديني لا يربط نظرية الاستخلاف بشكل النظام السياسي بقدر ما يربطها بوجود المجتمع الصالح، بحيث يرى كل صلاح في العلاقة الانسانية تعبيراً عن تحقيق درجة من درجات الاستخلاف غير المنقطعة. والمطلوب هو توسيع رقعة الاستخلاف والشد على حمل الامانة اكثر فاكثر.

والملاحظ ان لنظرية الاستخلاف عند المثقف الديني بعدين، احدهما ديني مجمل، والاخر واقعي مفصل. فهو يرى ان هناك سنناً طبيعية مرصودة في الواقع ولها علاقة بالاستخلاف وقد اشار اليها النص اجمالاً. ومن ذلك ان رشيد رضا يرى ان من السنن التي تفيد الغرض هي البقاء للاصلح، فهي سنة الله التي بها يتم الاستخلاف، والاصلح يتمثل بالصالحين >الذين يصلحون لاقامة الحق والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران، ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد: {فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض}<. بل انطلاقاً من هذه السنن فان من امثال رشيد رضا لا يتحفظ من اعتبار أحقية الغرب وصلاحه علينا طالما انه يتفوق علينا تبعاً لسنة البقاء للاصلح والاستخلاف. فبحسب رأيه ان الغرب على الحق والصلاح وانه افضل من اخلاق ممالك المسلمين واعمالهم وعدلهم واصلاحهم واتباعهم لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة، ولولا ذلك ما استطاعوا ان يتسلطوا على المسلمين.

هذا هو الاساس المعرفي الذي ينطلق منه المثقف الديني في ربطه لعالم الغيب بالشهادة، او النص بالواقع، مما يبرر اختلافه الجذري عن المثقف العلماني بجميع اشكاله وصوره. فليس من بين هذه الاشكال من يعد للحساب الغيبي اعتباراته في الحركة الانسانية. وحتى الشكل الميتافيزيائي فانه لا ينظر الى الحركة الانسانية كحركة ناشئة عن التخطيط الغيبي، بل هي نتاج عملية تاريخية حتمية تحكمها قوانين مادية معللة بذاتها من غير علل خارجية.

بين المثقف الديني والفقيه

قلنا إن ظاهرة المثقف الديني هي ظاهرة جديدة لم تُعرف من قبل. فقديماً ظهر الفقيه كمجتهد من أحضان أهل الاتباع من الصحابة والتابعين، وقد اضطره الأمر الى ان يخالف في كثير من الأحيان مواقف أهل الاتباع طبقاً لما فرضته الصنعة الفقهية التي قام بتأسيسها بحسب الاصول المعتمدة. كما ان الناظر ولد هو الآخر من أحشاء أهل الفقه من المجتهدين، فأداه الأمر الى ان يخالف أئمة الاجتهاد احياناً. لكن الحال مع المثقف الحديث يختلف بعض الشيء. ذلك انه لما كان مديناً في مرجعيته المعرفية الى الواقع، ولكونه لم يلد في أحضان الفقهاء ولم يكن في ميدانه الجديد من أهل الصنعة التي هم عليها؛ فانه لذلك شكّل ظاهرة جديدة هي التي افضت الى ما نطلق عليه القطيعة فيما بينه وبين الفقيه.

مع هذا نشير الى ان فئة (الكتّاب) من القدماء كانوا اقرب العناصر الفاعلة معرفياً الى مسلك المثقف الديني، وذلك من امثال ابن المقفع وابن خلدون، اذ ان لهم مرتكزات معرفية تختلف عن تلك التي يمتلكها الفقيه، وقد اظهر كلا المفكرين المشار اليهما براعة في نقد الالية الفقهية وابراز صدامها مع الواقع وكليات العقل العامة، وكشفا عما لدى هذه الممارسة من تناقض. وبالتالي فان نموذج ابن المقفع وابن خلدون هو اقرب ما يكون لنموذج المثقف الديني الذي نتحدث عنه، وذلك لاعطائهما الدور لكل من العقل والواقع وممارسة النقد ورفض الطريقة التي تبناها الفقيه ولو من نواحي جزئية.

اذن ان المثقف الديني مثلما يختلف عن المثقف العلماني فانه في المقابل يختلف عن الفقيه. فهذا الاخير يكاد يلغي بدوره حظ الواقع من المنظومة المعرفية؛ مكتفياً في الغالب بما جاء في النص وحكم السلف، وهو بذلك يقف على الطرف الاخر الذي يعاكس فيه نهج العلماني. لذا جاء المثقف الديني ليربط بين المسلكين، وينظر بكلا العينين، احداهما باتجاه النص خلافاً للعلماني، واخرى باتجاه الواقع خلافاً للفقيه.

وكمقارنة بين المثقف الديني والفقيه؛ يلاحظ ان هناك تطلعات واهدافاً اتجه نحوها الاول بعيداً عن التحفظات والمسالك التي ورثها الثاني. ولابراز هذا المعنى سنسلط الضوء على مواقف عدد من المفكرين الرواد، بعضهم يزدوج فيه الحال من امتلاك ناصية كل من المثقف من جهة، والفقيه او المفسر المختص من جهة اخرى، لكن خصال الثقافة فيه بارزة الى درجة غير قليلة من حيث ميوله وتكوينه الفكري، كما هو الحال مع محمد عبده الملقب بالشيخ الامام، وبدرجة اضعف مع تلميذه رشيد رضا. أما البعض الاخر فهو لا ينتمي الى ما ذكرناه من التخصص الفقهي او التفسيري، لكنه ذو معرفة عالية بالشؤون الاسلامية وثقافة واسعة في ما عداها من قضايا الواقع، كما يتجلى الامر لدى عبد الرحمن الكواكبي. وبالتالي فان من الممكن مقارنة المواقف المعرفية لهؤلاء المفكرين مع نظائرها التي تعود الى الفقيه. فالذي يطلع على افكار هؤلاء يرى انهم يقفون موقفاً مضاداً للنهج الذي ارتسمه الفقهاء قديماً وحديثاً، وقد اتصفت اراؤهم بالجرأة والصراحة؛ تتوسط في مسالكها بين النهجين العلماني والفقهي. ومن حيث المقارنة نبرز ما يلي:

1ــ الدعوة الى تجديد النظر في الدين

لعل اول ميزة امتاز بها المفكر الديني هو انه دعا الى تجديد النظر في الدين، ولم يتوقف عند حد فتح باب الاجتهاد بالمعنى التقليدي. كما انه حوّل النص الى مرتع للنظر لدى جميع المدركين ليفيدوا منه ما يفهمونه من دون التوقف عند حدود ما يقوله المفسر والفقيه وما اليهما من اصحاب الطرق التقليدية. وهو بهذا يعد نفسه غير مرتبط بالفقيه والمفسر التقليدي لعدة اعتبارات كالاتي:

أــ انه على الاقل لا يعمل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء، بل انه يعده من اهم اسباب انحطاط الامة وتخلفها. بل في احيان معينة نجد ان المثقف ينكر التقليد كلياً ويعده من الشرك الذي تجب محاربته من غير هوادة كالذي يذهب اليه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، ومن ذلك تنديد هذا الاخير بمقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق يخالفون فيه نصوص الايات او ظواهرها، مستشهداً بما نقله الفخر الرازي عن احد شيوخه قائلاً: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الايات فلم يقبلوا تلك الايات ولم يلتفتوا اليها وبقوا ينظرون الي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الايات مع ان الرواية عن سلفنا وردت على خلافها. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الاكثرين من اهل الدنيا. وقد اعتبر رشيد رضا ان هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مر القرون بما في ذلك العصر الحديث.

ب ــ انكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية، ومن ذلك ان الكواكبي اعتبر ان توسيع الفقهاء لدائرة الاحكام انتج تضييق الدين على المسلمين تضييقاً اوقع الامة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع ان يعد نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الاخذين بالعزائم >فبذلك اصبح الجمهور الاكبر من المسلمين يعتقدون في انفسهم التهاون اضطراراً، فيهون عليهم التهاون اختياراً كالغريق لا يحذر البلل. لانه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الاطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته؟ وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد افسدت العجمة لسانه لتصح صلاته؟ وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب امامه في الصلاة؟ او يعرف شدّات الفاتحة الثلاث عشرة وينتبه لاظهارها كلها ليكون ادى فريضته؟<. وقد ضرب الكواكبي مثلاً بارزاً على التوسع المغالي وما انتجه من تشعبات كثيرة من الاراء فيما يتعلق بالاحكام الخاصة بالسواك. اذ جاء عن النبي (ص) قوله: >لولا ان اشق على امتي لأمرتهم بالسواك<، فعلى هذا الحديث تشعبت الاراء واتسعت، حيث اخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود المستخدم في السواك وعن طوله وطريقة استعماله والامكنة والاوقات التي ينبغي فيها استخدامه وما الى ذلك من تفريعات منافية للمقصد الشرعي.

كما ان محمد عبده هو الاخر قد ندد بطريقة بحث الفقهاء في التوسيع والتفريع واصفاً اياها بانها هي التي ضيعت الدين، حيث ان الفرد العامي الذي يسعى الى كسب معاشه لا يسعه صرف سنين طويلة في تعلم احكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة المألوف استخدامها لدى الفقهاء كما في الازهر، فعلى حد قوله: >أي حاجة الى هذه الابحاث الطويلة؟ والتدقيقات في مسائل المياه والطهارة والصلاة؟! قال (ص): (صلوا كما رأيتموني اصلي). وشرح صلاته ووضوءه، مما يمكن بيانه في ورقات قليلة.

ج ــ والمفكر الديني اذ لا يعول على الفقيه بالتقليد ولا يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية فان له طرقاً معرفية عدة قام بممارستها، ويمكن تصنيفها الى اربع طرق رئيسة هي: انفتاحه على النص مباشرة والعمل بمسلك الفهم المجمل، والتمسك بمسلك السلف الاوائل قبل بروز الخلاف، وممارسة النظر والترجيح بين الاراء العلمية، ثم الاعتماد على مصادر معرفية اخرى. أما بيان هذه الطرق فسيكون كالاتي:

الانفتاح على النص مباشرة: ذلك ان المفكر الديني انفتح على النص مباشرة دون وسائط الفقهاء عادة. فالكواكبي قد شدد على ضرورة فهم القرآن من غير تقييد وذلك طبقاً لمسلمة كون الدين مبنياً على العقل، وانه لا بد من التبصر في مقاصده. فالقرآن الكريم من اوله الى اخره اذا ما لوحظت مقاصده وتفهم اسباب نزول آياته لا تجد فيه حكماً الا وتلقاه العقل بالاجلال والاعظام من غير حاجة للرجوع الى غيره ممن عمل بالتوسعة والتدقيق وبالتالي التشويش والتضليل.

كذلك فان محمد عبده طالب بقراءة القرآن وفهمه مباشرة بعيداً عن التفاسير، بل انه حذّر من هذه التفاسير. وعلى هذه الشاكلة اعتبر ان لكل مسلم ان يفهم عن الله من كتابه، وعن رسوله من كلامه، بغير وساطة احد من سلف ولا خلف، وانما يجب عليه قبل ذلك العلم بالوسائل التي تؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها واساليبها، واحوال العرب والناس زمن البعثة النبوية، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار، فانْ لم تسمح له حاله بالوصول الى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه الا ان يسأل العارفين بهما، كما عليه ان يطالب المجيب بالدليل، لا فرق في ذلك إن كان السؤال في العقائد او في الفقه والاحكام العملية >فليس في الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه<.

كما ان رشيد رضا هو الاخر اعتبر ان مسائل الدين البحتة من العبادات والحلال والحرام لا يُرجع فيها الى اراء الفقهاء، وانما تُسند مباشرة الى الشرع من الكتاب والسنة. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله الى اولي الامر الذين هم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، وما يقررونه يجب على حكام المسلمين تنفيذه وعلى الرعية قبوله. وهو في محل اخر اعتبر ان مثل هذه القضايا تفوضها عامة الناس الى اولي الامر منهم ومن ثم تتبعهم فيها. وهذا يعني - بحسب رأي هذا المفسر - انه سواء في القضايا الدينية البحتة، او القضايا الدنيوية، فانه لا يصح الاعتماد على رأي الفقهاء.

بل من حيث الدقة ان المفكر الديني اذ ينفتح على النص مباشرة فانه يميل في كثير من الاحيان باتجاه الفهم المجمل. فهو كثيراً ما ينزع على الدين نزعة الاجمال ولا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي الفها الفقهاء واهل الاختصاص، بل يميل الى اعتبار التدقيقات ليست صفة الدين ذاته وانما هي صفة الواقع لامكانية اختباره ومعرفة قضاياه بسهولة. وربما لهذا نجد مثلاً ان الكواكبي يصرح بالاجمالية في عدد من العبارات، منها اعتباره ان الاسلام >وضع شريعة حكمة اجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان<. وعليه اعتبر ايات الاحكام لا تعدو عن مائة وخمسين آية، وفي محل اخر عدها لا تتجاوز المائة. وقد امتدح الطريقة التي بها يُفهم المعنى المتبادر باطمئنان مع النفور عن التوسع في البحث وعدم اعارة السمع للاشكالات، ومن ثم لا حاجة للتدقيقات والابحاث التي تسبب التشديد والتشويش. بل اكثر من هذا انه اكد على ضرورة التمسك بكل ما يقبل الاتفاق وترك غيره من الموارد التي تثير الاختلاف، وذلك عن طريق الاجتماع على ما نعلمه ونفهمه من النصوص والتخلي عن كل ما يرد من نقول متخالفة.

وشبيه بهذا الموقف نجد ما يؤكده رشيد رضا في موارد الاخذ بالقطعيات وتقليص دائرة الاحكام والتكاليف، مؤيداً موقفه هذا بذكر احد الشواهد من السيرة النبوية، وهو ان بعض الاعراب كان يجيء النبي (ص) من البادية فيسلم، فيعلّمه النبي ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد فقط، فيعاهده الاعرابي على العمل به، فيقول النبي (ص): >أفلح الاعرابي إن صدق<. فهذا الشاهد يمثل عند رشيد رضا اعظم اسباب قبول الناس بالاسلام، >لكن الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الاجتهادية حتى صار العلم بها متعسراً، والعمل بها متعذراً<. ورشيد رضا يتمسك بالمطالبة بكل ما هو قطعي بحيث يفهمه كل من عرض عليه النص، أما ما هو غير قطعي من الآيات الظنية الدلالة والاحاديث الاحادية الظنية الرواية او الدلالة فهي عنده موكولة الى اجتهاد من تثبت عنده في العبادات والاعمال الشخصية، والى اجتهاد اولي الامر في الاحكام القضائية والمسائل السياسية.

التمسك بمسلك السلف الاوائل: حيث ان المفكر الديني لجأ الى الاخذ بمسلك الصحابة والتابعين قبل بروز الخلاف ونشأة الفرق والمذاهب، ولو من خلال تحقيق بعض المتأخرين كابن تيمية، وذلك في القضايا الغيبية والمسائل العبادية. واكبر الظن ان هذا المعنى الذي اتجه صوبه بعض المثقفين الرواد، كالذي يلاحظ بوضوح لدى الشيخ الامام وتلميذه، انما جاء كرد مناسب على الطريقة السائدة لدى العلماء والفقهاء الذين يذهبون مذهب التقليد للمذاهب المعروفة، سواء في الاصول او الفروع. لهذا فان الشيخ الاستاذ يطالب: بـ >تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الامة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعه الاولى<. فهو يعد هذا التحرير للفكر صديقاً للعلم من حيث انه باعث على البحث في اسرار الكون وداعي الى احترام الحقائق الثابتة، كما انه يطالب بالتعويل عليها في ادب النفس واصلاح العمل.

ممارسة النظر المعرفي: ذلك ان المفكر الديني قام بممارسة الترجيح بين الاراء العلمية الموروثة في الحالات التي لا يسعفه النص ولا يجد طريقة اخرى تقربه الى التحقيق.

الاعتماد على مصادر معرفية اخرى: ذلك انه اعتمد على مصدرين هامين من مصادر المعرفة، هما العقل والواقع كما سنعرف. وإن كان يظل ان المفكر الديني لا يملك تقنيناً منهجياً واضحاً وصريحاً كالذي نراه لدى الفقيه.

2ــ توسعة المصادر المعرفية

لقد اعاد المفكر الديني العقل الى اطاره الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد المعرفي، اذ كان على وعي من ان حصر المعرفة بالنص لا يجدي نفعاً. وبذلك عبّر الكواكبي من انه >اضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين ادرى منّا حتى في مباني ديننا<. وهو يؤكد بأن ميزة الدين الاسلامي كونه مبنياً على العقل المحض، وبالتالي انه >افضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وانفع وازع يضبط النفس من الشطط، واقوى مؤثر لتهذيب الاخلاق، واكبر معين على تحمل مشاق الحياة، واعظم منشط على الاعمال المهمة الخطرة، واجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون اصح مقياس يستدل به على الاحوال النفسية في الامم والافراد رقياً وانحطاطاً<. ومثل ذلك عدّ محمد عبده >العقل من أجلّ القوى، بل هو قوة القوى الانسانية وعمادها، والكون صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية الى الله وسبيل للوصول اليه<. وهو قد أعاد الاعتبار لاولئك الذين أُتهموا بالبدع ممن لجأوا الى مرجعية العقل مثل المعتزلة.

من جانب اخر فقد عُد النظر الى الواقع مصدراً رئيساً للمعرفة لا غنى عنه. فمحمد اقبال عبّر عن هذا المصدر بالتجارب والملاحظات والخبرات، بل ورأى ان هناك اتجاهاً تجريبياً عاماً للقرآن يتبدى من خلال ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة، مؤكداً ان النظر في الكون والآفاق والانفس، وكذا الوقوف على أخبار الأولين، هي من مصادر المعرفة الانسانية بحسب القرآن الكريم. أما مرجعية الواقع بنظر الكواكبي فانها تشمل مختلف الميادين، بما فيها الواقع الغربي، وكذا التجارب الحضارية والحاجات الاجتماعية وجميع اصناف الثقافة المعتمدة على الموضوعات الخارجية؛ كالعلوم الاجتماعية من الحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي والجغرافي والطبيعي والسياسي والادارة الداخلية والحربية.

واذا كان البعض من الرواد من ابدى انه لا يعمل بغير الكتاب والسنة، كالذي نراه لدى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، فواقع الامر ان تصريحات كهذه انما اتت كرد على مسلك الفقهاء المقلدين الذين وضعوا النصوص المباشرة من الكتاب والسنة خلف اظهرهم. وهو ما يتبين مما ذكره رشيد رضا نقلاً عن محمد عبده بأن شيخاً من اكبر الشيوخ سناً وشهرةً في العلم قال في مجلس ادارة الازهر على مسمع الملأ من العلماء: >من قال انني اعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق<، بمعنى انه لا يجوز العمل الا بكتب الفقهاء. فردّ عليه محمد عبده قائلاً: >من قال انني اعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق<.

صحيح ان هذين العَلَمين يعملان بالكتاب والسنة كمختصين لا يختلفان من هذه الناحية عن الفقيه، الا انهما لم يتوقفا عند هذا الحد، بل اضافا الى ذلك مصدراً معرفياً هاماً مستمداً من الواقع، الى الدرجة التي عملا فيها على تأويل النص لصالح الواقع، او ترجيح مطالب هذا الاخير على الاول، خصوصاً اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار مدى الضغوط الزمنية والحضارية التي صادفتهما. ويكفي ان نعلم بان رشيد رضا قد رجّح العلوم الكونية على الفقهية والكلامية في فهم القرآن، وانه اعتبر ادخال العلوم الطبيعية هو اهم اركان التفسير والعمل بهدي القرآن لامتلائه بذكر آيات الله في خلق السماوات والارض. الامر الذي دعاه الى الجمع بين العلمين الكوني والديني. كل ذلك مما له دلالة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية في فهم النص.

على ان اعتماد المفكر الديني على الواقع كمصدر رئيس واساس للمعرفة جعله يبعد نفسه عن الممارسة التقليدية لدى المفسر والفقيه. وهي الممارسة التي تمعن النظر في النص عبر غور معالمه اللغوية والالتزام بصورها الحرفية، او من حيث الارتباط غير المباشر بالنص عبر آليات التقليد التي لجأ اليها الفقهاء المتأخرون التابعون للأئمة الاوائل. فعلى عكس ذلك لجأ المفكر الى التعامل مع النص تارة بالتأويل والتوجيه بحسب ما تفرضه المعرفة المستوحاة من الواقع، واخرى من حيث اعتباره مجملاً يحتاج الى التفصيل المستمد من النظر الى هذا الواقع واعتباراته، كالنظر الى تجارب المجتمعات والتأثر بميادين العلم. وبالتالي فقد جعل المفكر من الواقع اداة لفهم النص؛ مبعداً نفسه في ذلك عن التدقيقات اللغوية التي يوليها كل من المفسر والفقيه جلّ اهتمامه.

اذن فالمفكر الديني يجعل من الواقع اداة موظفة لدورين في علاقته مع النص:

أ ــ دور التفصيل

وهو الدور الذي أُعتبر فيه النص مجملاً لا يُحل اجماله عادة بالطرق التقليدية من التحليل اللغوي، وانما بفعل ما يقدمه الواقع من تفصيل. ومن ذلك ما اشار اليه محمد عبده وهو بصدد تفسيره لاية اختلاف الناس {كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}، معلقاً عليها بقوله: أنا لا اعقل كيف يمكن لأحد ان يفسر الاية وهو لا يعرف احوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. لقد اجمل القرآن الكلام عن الامم، وعن السنن الالهية، وعن آياته في السماوات والارض، وفي الافاق والانفس، وهو اجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الارض لنفهم اجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة. كذلك انه ذكر بصدد حاجة المفسّر الى التعرف على الواقع لأجل تبيان دور القرآن في هداية البشر جميعاً، فاعتبر ان من الواجب على المفسر ان يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، ذلك لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وبالتالي كيف يفهم المفسّر ما قبّحته الايات من عوائدهم على وجه الحقيقة إن لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه؟ ثم انه استند الى ما روي عن عمر بن الخطاب بقوله: >إنما تنقض عُرى الاسلام عروة عروة اذا نشأ في الاسلام من لا يعرف الجاهلية<، حيث بيّن ان المراد من ذلك أن من نشأ في الاسلام ولم يعرف حال الناس قبله فانه سيجهل تأثير هدايته وكيف ان الله تعالى غيّر احوال الناس واخرجهم من الظلمات الى النور >ومن جهل هذا يظن ان الاسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الامر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الاداب من أين جاء<.

كذلك فان رشيد رضا حاول ان يبيّن دور الواقع في تفصيل ما يجمله النص، ومن ذلك انه فسّر قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} النساء/62؛ اعتماداً على ما يجري في الواقع، وذلك وهو بصدد الآيات المتعلقة بما أُحل من النكاح وقيوده وشروطه، فجاءت تلك الاية التي علّق عليها بقوله: >هذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من الاية من حيث انه لم يذكر معمول (ليبين) لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة ارشادنا الى كون ديننا دين الفطرة {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون}، فقد جاءت هذه الاية بعد آية الزوجية بثمان آيات. وقال تعالى: {وفي الارض آيات للموقنين، وفي انفسكم أفلا تبصرون}<. فهذا هو دور الواقع في تفصيل ما يجمله النص.

ب ــ دور التوجيه والتأويل

وهو الدور الذي يغلب أثره عند ربط النص بمباحث العلوم الطبيعية، وكذلك ميادين السنن الكونية والاجتماعية. وقد قام محمد عبده بتبرير ادخال العلوم الطبيعية في التفسير والفهم والتأويل من خلال تأويله لآية {يتلو عليهم آياته} مفسراً اياها بأنها عبارة عن بيان الايات الكونية والاستفادة منها والاعتبار بها. وان الكواكبي عدّ المباحث العلمية الحديثة هي تبيان للاعجاز القراني، حتى اخذ يعدد الكثير من الآيات التي لم يعرف مضمونها الحقيقي الا بفعل المكتشفات الحديثة.

يظل ان الجمع والتوفيق بين العلمين الكوني والديني كان يشوبه الكثير من التعسف في التأويل لصالح الواقع والنظريات العلمية. فمثلاً قام محمد عبده بتحميل العديد من الايات ما لا تحتمله من معاني التفسير العلمي مما جعله عرضة للنقد. ومن ذلك انه فسر سورة الفيل تفسيراً قائماً على المكروبات والجراثيم، فجوّز ان تكون الطير الوارد ذكرها في السورة عبارة عن بعض الحشرات كالبعوض والذباب، كما وجوّز ان تكون الحجارة هي جراثيم بعض الامراض. كذلك ان رشيد رضا اعتبر الجراثيم المرضية (المكروبات) يصح ان تكون نوعاً من الجن. كما ان الكواكبي هو الاخر قام بتأويل وتوجيه عدد من الايات طبقاً لما هو سائد من نظريات وحقائق علمية والتي منها حدوث الجدري الذي اصاب اصحاب الفيل بالمكروب {وارسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل}، وامتلاء الكون بالاثير وانه اصل مادة الحياة {ثم استوى الى السماء وهي دخان}، وان القمر منشق من الارض {أفلا يرون أنّا نأتي الارض ننقصها من اطرافها} {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وكالإخبار عن المركبات البخارية والكهربائية {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}، وكذا الإخبار عن إمساك الظل او التصوير الشمسي {ألم ترَ الى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً}، وكذلك تطور الكائنات الحية بحسب ما ادلى به واثبته العلامة داروين {ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين}.. والكواكبي لا يجد في كل ذلك ما يخالف اصلاً دينياً كما هو الجاري لدى الفقيه والمفسر التقليدي.

مع هذا نشير الى ان للمفكر الديني دوراً في التعامل المعاكس لما قدمنا وذلك بجعله مقاصد النص ومبادئه العامة تتخذ اطاراً من التوجيه لمفاصل المعرفة المستمدة من الواقع. وبالتالي فان العلاقة بين النص والواقع لدى المفكر الديني هي علاقة مزدوجة من حيث ان المعرفة المستمدة من احدهما تؤثر على الاخرى. لكن بشكل عام يمكن القول ان المفكر الديني يحفظ للنص مقامه ليس في التكوين التجزيئي مثلما هو الحال لدى الفقيه؛ وانما في التوجيه الكلي باعتباره مصدراً للهداية والارشاد مثلما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.

3ــ الميل الى التفسير السنني

ميل المفكر الديني الى الاخذ بالاسباب الطبيعية وتفسير النصوص التي تتحدث عن الاحداث والوقائع تفسيراً سننياً مع الابتعاد عن التفاسير القائمة على الخوارق الغيبية غير الطبيعية، وذلك اتساقاً مع ما عليه المنهج العلمي المتبع في الغرب، بل واعترافاً بما له من فضل على التنبيه في ذلك على ما سيأتينا ذكره. فهذه التوفيقية هي التي نادى لها رشيد رضا معتبراً ان الله أقام سنناً طبيعية مجبرين عليها، ووكل الينا إقامة سنناً تشريعية مختارين فيها، فاذا لم نوفق باختيارنا بين النوعين من السنن فانه سيثبت الجبري ويبطل الاختياري.

على هذا فان المفكر الديني لا يتقبل ما يُنقل من نصوص ظاهرها يدل على الخوارق غير العادية الا عندما تثبت ثبوتاً قطعياً. فهو يعمل على تكذيب الخبر المنافي للسنن إن كان غير قطعي السند مما يرجع الى اخبار الاحاد، او يسعى الى تأويله إن كان السند فيه قطعياً كما في الايات القرآنية الكريمة. وهذا النمط من التعامل مع النصوص هو الجاري في سيرة التفسير لدى الشيخ الامام وتلميذه، وذلك من حيث ممارسة التأويل للنصوص القطعية التي تتصف بالغيبية او تبدي جوانب الخرق للعادة، ومن ثم اضفاء الصبغة الطبيعية السننية على المعنى المؤول وجعل الفكر الاسلامي فكراً يحمل معان معقولة برد الامور الى التجارب والمشاهدات الحياتية والعلمية؛ بحيث تتسق مع الاكتشافات الحديثة وتقرّب المعنى منها، كما يلاحظ في التأويلات التي لاحت قضايا ومفاهيم قرآنية ظاهرها غيبي وتحويلها الى معاني طبيعية لها شواهد من الواقع، كالتأويلات التي تخص مفاهيم الجن والشياطين وما تضمنته سورة الفيل وغير ذلك مما هو خلاف الطريقة التي نهجها الفقيه والمفسر التقليدي.

على ان هناك توجيهات للايات تخدم الغرض من التفسير السنني، وهي ليست بتأويلات بالمعنى الذي يبعد عن ظاهر النص. ومن ذلك ان محمد عبده قام باضفاء الصبغة السننية والافادة من الواقع في تفسير الايات التي تتحدث عن القرار الالهي في اختيار الانسان خليفة له في الارض وما اتبعه من رأي الملائكة ورد الباري عليهم وعرض الاسماء عليهم وسجودهم لهذا الخليفة وعصيان ابليس عن السجود، فكل ذلك تناوله الشيخ الامام بطريقة قرّب فيها المعاني الغيبية الى صور منتزعة من حقيقة الواقع البشري والسنن التي تحكمه. وبعبارة اخرى انه صوّر العلاقة بين آدم وابليس والملائكة في العلم والاوامر المناطة بهم بأنها ذات طبيعة تكوينية سننية تقبل الفهم بما ندركه من طبائع الامور في الحياة البشرية. فبداية انه اعتبر ان اخبار الله الملائكة بجعل الانسان خليفة في الارض هو عبارة عن تهيئة الارض وقوى هذا العالم وارواحه مسخرة لوجود الانسان يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الارض، وان سؤال الملائكة عن جعل هذا الكائن يفسد في الارض تبعاً لاختياره واعطائه الاستعداد في العلم والعمل لا حدّ لهما انما هو تصوير لما يحمله الانسان من هذه الامكانيات، وتمهيد لبيان انه لا ينافي خلافته في الارض. كما ان تعليم ادم الاسماء كلها بيان لاستعداد الانسان لعلم كل شيء في هذه الارض وانتفاعه به في استعمارها. وان عرض الاسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب انما هو تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الارواح المدبرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته. وان سجود الملائكة لادم عبارة عن تسخير هذه الارواح والقوى له حتى يرتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك. وان إباء ابليس واستكباره عن السجود فهو تمثيل لعجز الانسان عن اخضاع روح الشر وابطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والافساد في الارض .

4ــ إعادة الاعتبار للمصلحة والمقاصد

أعاد المفكر الديني اعتبارات المصلحة والمقاصد بخلاف الفقيه الذي لم يولِها عادة الاهتمام الكافي، بل ولا يقرها إن كانت على خلاف المنصوص فيه، بدلالة رفض الفقهاء ما جاء به الطوفي من قبول ترجيح المصلحة على حكم النص عند التعارض. في حين جاء المفكر الديني ليحيي هذه الناحية ويفعّل دورها وتطبيقها على القضايا المستجدة والمعاصرة. الامر الذي جعل البناء المعرفي للمفكر يختلف انتاجاً عن المألوف لدى الفقيه.

فرشيد رضا اعتبر ان المراد بكلمة الفقه كما وردت في نصوص الشريعة ومنها النصوص النبوية؛ عبارة عن معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، وليست هي علم أحكام الفروع المعروف. فالمعنى الاخير مستحدث مثلما بيّن ذلك الغزالي والحكيم الترمذي والشاطبي وغيرهم. وعلى ذلك كان رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل هذا الفقه المقاصدي في الغالب. وهنا تأتي أهمية كتاب (الموافقات في اصول الشريعة) للشاطبي عند هذا الشيخ واستاذه الذي كثيراً ما كان يوصي طلابه بالاهتمام بدراسة الكتاب والتحقيق فيه، كما ينقل ذلك عبد الله دراز في مقدمة تحقيقه للكتاب. كذلك فان رشيد رضا قام بنشر رسالة نجم الدين الطوفي (في رعاية المصلحة) في احد اعداد مجلته (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية.

فابتداء ان السيد واستاذه رأيا ان العمل فيما ليس له حكم في الكتاب والسنة برأي اولي الامر في كل زمن بشرطه؛ هو أولى من العمل برأي فقهاء القرون الخالية باعتباره اقرب للمصلحة. لذا أشرط ان يكون اصحاب الرأي عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيها اليها. أما من حيث الموقف المعرفي من نظرية الطوفي، او علاقة المصلحة بالنصوص، فالملاحظ ان رشيد رضا يعد التعارض بين المصلحة العامة وبين العمل ببعض النصوص انه يرجع في الحقيقة الى التعارض بين النصوص، لان مراعاة المصلحة مؤيدة بها. وهذا هو اهم مبررات الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. مشيراً الى انه قلما يوجد في الكتب المتداولة بحث مشبع في هذه المسألة الهامة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها >وانك لترى المشتغلين بالفقه لا يبالون بتقديم نصوص علماء مذاهبهم على العمل بما تحفظ به المصلحة العامة فما بالك بنصوص الكتاب والسنة<. لكنه مع هذا اشار في محل اخر الى تقييد العمل بأصل المصلحة في قبال النصوص ضمن حدود لم ترد لدى الطوفي كما سيتضح عما قريب.

ومن حيث التطبيق فان قضية الرق تعد اهم القضايا التي عولجت تبعاً للمقاصد. فقد اخذ تيار المثقفين يتنكرون للرق ويقدرون ان الشريعة حاربته بالتدريج، وعلى حد قول الشيخ الامام، كما ينقله الكواكبي ويؤيده فيه، بان >قصد الشريعة الاسلامية ابطال الرق اساساً بالتدريج<. كما ان رشيد رضا برر جواز منع الرقيق بتحريم المباح طبقاً للمصلحة، وذلك انه عدّ المصلحة اصلاً في الاحكام السياسية والمدنية يرجع اليه في غير تحليل المحرمات او ابطال الواجبات. وكأنه يريد ان يقول ان تحليل المحرمات وابطال الواجبات غير جائزين، لكن تحريم المباحات او ايجابها جائز طبقاً للمصلحة، وهو ما ينطبق على قضية الرق. وبمثل هذا الاعتبار يمكن تبرير ما فعله محمد عبده بشأن فتوى تحريمه للزواج المتعدد. ولا شك ان مثل هذه الاحكام وتبريراتها هي على خلاف الموروث الفقهي.

5ــ الاهتمام بالحقوق الانسانية العامة

ان اهتمام المفكر الديني منصب على قضايا الحقوق الكلية التي تهم المجتمع والامة، بخلاف الفقيه الذي حصر اهتمامه الغالب في القضايا الجزئية بالتفريع والتوسيع. وان هذا الفارق يعود الى اختلاف المصادر التي يعولان عليها في الاخذ والاعتبار. فبينما يقتصر الفقيه عادة على النص وسلطة السلف؛ فان المفكر يجد في الواقع ومقاصد التشريع المدار الاكبر لحركته المعرفية ونشاطه الانساني. وبالتالي كان له موقف واضح وصريح ازاء حقوق الانسان؛ تأثراً بالمصدرين السابقين. فهو ينادي بالعدل والحرية والمساواة دون تمييز ديني بين الناس. وهو يدافع عن حقوق المرأة ويساويها مع الرجل في قضايا كثيرة مما هو خلاف النظر السائد في التركة الفقهية. كذلك انه يدعو الى الدستور وتقييد صلاحيات الحاكم؛ خلافاً لمفاهيم الفقه التقليدي عن الخلافة وسلطتها غير المحدودة، حيث انها تنعقد بقيد، لكنها ما ان تنعقد فانها تصبح طليقة بلا تقييد ملزم سوى ما هو صريح الشرع. فهذا هو الاتجاه الذي آل اليه الطهطاوي والتونسي والافغاني والنائيني والكواكبي وغيرهم. والذي لفتهم اليه هو التجربة الغربية. فكما يرى رشيد رضا ان الحكم الدستوري المقيد لم يلتفت اليه المسلمون الا من خلال رؤية الغربيين ومعاشرتهم رغم انه واضح وصريح في القرآن. الامر الذي جعل المفاهيم الغربية تختلط بالاسلامية، ومن ذلك ما ظهر من خلط بين المفاهيم الثلاثة التالية: الشورى والديمقراطية والاشتراكية. فمثلاً ان الكواكبي يرى ان الاسلام مؤسس على اصول الحرية برفعه كل سيطرة وتحكّم، وبأمره بالعدل والمساواة والقسط والاخاء، وبحضه على الاحسان والتحابب، وقد جعل اصول حكومته الشورى الارستقراطية او ما يطلق عليه شورى الحل والعقد في الامة، كما وجعل اصول ادارة الامة التشريع الديمقراطي، اي الاشتراكي.

وما يعنينا هنا ان المفكر الديني هو الذي لفت العقول الى وجود التقييد في الحكم الدستوري في القرآن والاسلام، وذلك بفعل المرجعية الواقعية والافادة من الخبرة البشرية. أما الفقهاء فلم تسعفهم ادواتهم باكتشاف ذلك التقييد او الاعتراف به تبعاً للمسلك التجزيئي الذي سلكوه بعيداً عن اعتبارات الموجهات الكلية في النص.

6ــ الحساسية اتجاه الواقع الاجتماعي والسياسي

يمكن القول انه بفعل تأثر كل من المثقف والفقيه بمصادره المعرفية؛ فانه تنشأ لكل منهما حساسية خاصة تختلف عما لدى الاخر حيال ما يواجهانه من قضايا. فالذي يثير حساسية المثقف الديني هو قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي، خصوصاً تلك التي تتعلق بالمصالح والحقوق العامة. في حين ان ما يثير الفقيه هو القضايا الدينية من الشعائر والحدود والعبادات وما اليها. وبعبارة اخرى ان ما يثير المثقف هو الواقع، وما يثير الفقيه هو النص او الدين. لذا تجد هذا الاخير لا يمانع عادة من مداهنة السلطان المسلم الظالم، ويمتنع ان يفعل نفس الشيء مع السلطان الكافر العادل. وعلى خلافه يلجأ المثقف الديني، حيث يميل الى مداهنة السلطان العادل وإن كان كافراً ويفضله على السلطان الظالم وإن كان مسلماً.

على ذلك نجد الكواكبي كثيراً ما يمجد الحكومات الغربية ويفضلها على الحكومات المسلمة تبعاً لاعتبارات العدالة وخدمة المجتمع. فهو قد شكر اوروبا في منعها الرقيق، كما وامتدح التشريع الغربي وعدّه حبل الله لانه في يد الامة. كذلك انه فضّل ان يحكمنا الملوك الغربيون عن ان يحكمنا الرؤساء المسلمون؛ معتبراً ان الاوائل افضل من الاخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، وذلك لكونهم اقرب للعدل وأقدر على اعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة، مؤيداً وجهة نظره هذه بفتوى الفقيه رضي الدين علي بن طاووس الذي افتى بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، وذلك ايام السلطان هولاكو. ونحن نعلم ما ينقله ويقوله ابن تيمية في تلك الايام من الحملة المغولية، وهو أن >الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام، وذلك ان العدل نظام كل شيء<.

وتبعاً للحساسية الواقعية فان مفكرنا هذا قد رجّح الوفاق الوطني والقومي على الديني والمذهبي، حيث دعا الى المساواة والاخاء والوطنية مع غير المسلمين، ومجّد ما استطاعت اليه امريكا والنمسا في الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق القومي والوطني دون المذهبي. وهو القائل بعد ذلك مباشرة: >دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الاديان تحكم في الاخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، الا وهي: فلتحي الامة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء اعزاء<. وهو في القبال اعتبر الدين سلاحاً ذا حدين، حيث يكون فعالاً في الاصلاح والافساد، في الخير وفي الشر. وقد عدّه اقوى تأثيراً من السياسة في ذلك. بل واعتبر الاستبداد السياسي متولداً عن الاستبداد الديني. الامر الذي اهتم فيه بعلوم الحياة والفلسفة العقلية وحقوق الامم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية؛ معتبراً انها هي التي يخاف منها المستبدون دون غيرها من قضايا الدين التقليدية، لهذا فقد رجحها على العلوم الدينية.

وعلى العموم يمكن القول انه اذا كان هناك تمييز بين حق الله وحق الانسان فالملاحظ ان الحساسية الثقافية يغلب عليها الدفاع عن الحق الاخير، بخلاف الحساسية الفقهية التي تنحو باتجاه الدفاع عن الحق الاول.

7ــ التأثر بالواقع الغربي

لعل أهم ما يلفت النظر هو ان المفكر الديني لا ينكر فضل الغرب في تعريفنا بما لم ينتبه اليه فقهاؤنا وعلماؤنا من قبل. وهو يعي هذه المفارقة الحادة، حيث الزعم ان ما اكتشفه الغرب هو ذاته ما كان يؤكد عليه الاسلام والقرآن، رغم ان علماء المسلمين قد غفلوا عنه كلياً. مما جعل بعض المفكرين الدينيين لا يتحفظ من ابداء الخجل أمام هذه المفارقة الجسيمة، فكما يقول الشيخ حسين النائيني وهو بصدد تبرير الديمقراطية او ما يطلق عليها الشوروية العمومية: >مع مزيد الاسف والحسرة ما أشد جهلنا - عبدة الظالمين وحاملي شعبة الاستبداد الديني - بمداليل الكتاب والسنة وأحكام الشريعة وسيرة النبي المطهر والامام المكرم.. وترانا عوضاً من ان نقول في حق الشوروية العمومية: هذه بضاعتنا ردّت الينا، نعدها مخالفة للقانون الاسلامي، فكأننا لم نقرأ تلك الايات الواضحة الدلالة او لم نحصل على مفادها<. ثم انه في محل اخر يقول: >أما اليوم وقد حصلنا بعد اللتيا والتي على شيء من التنبه والشعور، وقمنا نأخذ مقتضيات ديننا من الاجانب مع تمام الخجل قائلين هذه بضاعتنا ردت الينا. وقبل ذلك كتب رشيد رضا عام (7091) وهو بصدد اثبات الحكم الدستوري يقول: >لا تقل ايها المسلم ان هذا الحكم (الدستوري) هو اصل من اصول ديننا استفدناه من الكتاب المبين وسيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الاوروبيين والوقوف على حال الغربيين، فانه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت انت وامثالك بان هذا من الاسلام، ولكان اسبق الناس الى الدعوة لاقامة هذا الركن علماء الدين في الاستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤكد حكومة الافراد الاستبدادية ويعد من اكبر اعوانها... فلولا اختلاطنا بالاوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة او أُمم الى الامر العظيم، وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الحكيم<. وعلى هذه الشاكلة كتب عام (9091م) وهو بصدد التأكيد على الأخذ بالاسباب والسنن الطبيعية فقال: أما قول البعض >ان الاخذ بالاسباب والعمل بمقتضى السنن الطبيعية وانطباق ذلك بحسب اجتهادنا على القرآن لم يكثر ولم ينتشر عند بعض المسلمين الا بسبب ما رأوه من تقدم الامم الغربية باتباع هذه السنن وسبب ضغط اوروبا على الكثير منهم؛ فهو صحيح في الجملة ولا يضرنا أن تعدّنا حوادث الزمن للعمل بما يرشدنا اليه القرآن، وأن نفهم منه ما لم نكن نفهمه نحن ولا آباؤنا الاولون. فان كلام الله تعالى بحر لا تنفد حِكَمه، بل هي تفيض في كل عصر على المستعدين بما يناسبه<.

مهما يكن فقد تأثر المفكر الديني بالواقع الغربي وسلّم بالكثير من منتجاته الحضارية، جاعلاً لهذه المنتجات اصولاً اسلامية لتمريرها في اوساط الامة؛ تبعاً لمقولة: هذه بضاعتنا رُدت الينا. وواضح ان الاستعارة لا تتوقف عند حدود البضائع المادية، وانما تمتد الى المفاهيم والمبادئ النظرية، كالاعتراف بالمساواة والحريات العامة والاشتراكية والوطنية وغيرها مما يعدها الفقيه بأنها اجنبية تتصادم مع النص ولا تتلاءم مع المرجعية الدينية. فالطهطاوي مثلاً هو اول من تحدث عن الوطنية ودعا الى الاعتزاز بالتاريخ المصري والتراث الفرعوني، كما وادخل النشيد الوطني، واول من كتب عن >الوطنية القومية<. كما ودعا الى الدستور والحرية.

وكذا هو الحال مع محمد عبده والكواكبي فيما تأثرا به بجملة من مفاهيم الغرب وافكاره، ومن ذلك مبادئ الثورة الفرنسية المتمثلة بالحرية والاخاء والمساواة. وعلى هذه الشاكلة ما قام به محمد اقبال من توظيف عقيدة التوحيد الى معان ايديولوجية تتسق والمفاهيم الغربية، حيث عدّ هذه الفكرة - التوحيد - قابلة لأن يستخلص منها مفاهيم يمكن تنفيذها؛ وذلك على مستوى المساواة والاتحاد والحرية. فهنا ان العقيدة قد تم توظيفها في خدمة الايديولوجيا الاجتماعية، وذلك على خلاف مسلك الفقيه الذي شأنه التحفظ في تعاطيه مع المعاني العقدية، او تأثره بالعناصر الاجنبية والغربية.

يضاف الى ان المفكر الديني استحسن جملة من الممارسات والنشاطات الفنية المزدهرة في الغرب، ومن ذلك النحت والرسم واقامة المسارح والتمثيل، فضلاً عن تذوق الموسيقى والغناء وما اليها. مع ان ذلك يعد من الممارسات غير الشرعية لدى الفقيه على الغالب.

8ــ المرونة والانفتاح على الاخر

يمكن القول ان المثقف اكثر مرونة وانفتاح على الاخر من الفقيه، سواء كان الاخر ينتمي الى الدائرة الاسلامية او خارج عنها. ففي الدائرة الداخلية انه يخالف نزعة الفقيه التي تمرست على الفرقة والتمذهب والتضليل تبعاً لمقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. والمثقف الديني على خلاف الفقيه يتوق الى جمع الشمل ويؤمن بالاخوة الصادقة بين الطوائف الاسلامية، بل وينحاز الى الاخوة العالمية الشاملة. فمثلاً ان الكواكبي بفعل المرونة والتطلع الى تجارب الامم له احاسيس تسع لعالم الانسانية كلها، بحيث يصبح الناس جميعاً هم قومه وليس قبيلته، والارض هي وطنه وليس بلده الذي ولد فيه وترعرع، معتبراً ذلك من جملة الكمالات بالخصال. لكن التفضيل عنده هو بحسب التقوى التي فهمها فهماً يختلف عما لدى الفقيه وهو انها تعم غير المسلمين باطلاق. وفعلاً انه لا يتحفظ من ثنائه ووثوقه بالاخر المتمثل بالغرب، وذلك لما قدمه من تشريعات وتنظيمات عدّها هي نفسها التي يقصدها الدين ويرضى بها الله تعالى. واكثر من هذا انه يبشر بقرب ميلاد مجتمع اشتراكي بلا دولة، او بمجتمع >العولمة< الذي تحكمه الشركات. فهو يمدح المعيشة الاشتراكية معتبراً اياها من ابدع ما تصوره العقل، مثنياً بذلك على بعض الحكومات التي لم تسمح بالتملك الا ضمن حدود ضيقة.

***

اذن يتضح مما قدمنا ان المسالك المعرفية بين المفكر الديني والفقيه هي جد مختلفة، وان المفكر كان يعي تمايزه عن الفقيه والقطيعة معه، ويرى نفسه رسول الاصلاح سواء على الصعيد المعرفي وذلك باعادة فهم الدين فهماً حضارياً مؤدلجاً لا يتصادم فيه مع الانفتاح الحضاري ومتطلبات العصر، او على الصعيد الاجتماعي عبر العمل على توعية الامة ودفعها بالطريق التي يكون لها شيء من الحق والخيار.

ومن حيث معارضته لمسلك الفقيه فقد عبّر الكواكبي عن ذلك بقوله في (ام القرى) على لسان احد اعضائها المجتمعين: >وعندي ان داءنا الدفين: دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين، وبعبارة اخرى تحت ولاية الجهال المتعممين<. ومن المعلوم ايضاً ما كان يبديه محمد عبده من نفرة لمسلك الفقيه التقليدي، حتى انه هوجم لمعارضته لنظام الازهر القديم، وقيل له في التدليل على مصداقية هذا النظام بأنه قد تعلم ووصل عن طريقه الى ارقى الدرجات، فأجاب: >إن كان لي حظ من العلم الصحيح فانني لم احصله الا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الازهر، وهو الى الان لم يبلغ ما اريد له من النظافة<. كذلك فان لجمال الدين الافغاني كلمة بالفارسية ينكر فيها ما تسالم عليه رجال الدين من رؤى ومعارف؛ منبهاً الناس بالتخلي عما جاءوا به من شريعة وهمية لا تمت الى حقائق الدين بصلة، اذ يقول وهو يخاطب الايرانيين: >ان وطننا العزيز ايران يسير في سياسته في طريق معوج، وفي ديانته في طريق معوج. ايها الناس تمسكوا بحقائق الدين المحمدي، ان الذي تتمسكون به الان هو شريعة الملالي، وهي غلط، فقد كتب كل ملا - اي رجل دين - كتاباً على مقدار تفكيره وليس ذلك الملا مقصراً فيما كتب، اذ ان مقدار تفكيره ومعلوماته كانت محدودة الى هذه الدرجة، ولو اننا جمعنا كل هذه الكتابات واضفناها الى بعضها لما تمكنت ان تزيد في عظمة الاسلام، بل العكس تصغره<.

مع هذا فمن الناحية المعرفية ان ما يؤاخذ عليه الرواد من المثقفين الدينيين هو ان ربطهم للواقع بالدين لم يكن ربطاً يحمل تنظيراً ابستيمياً. فالعلاقة التي اجريت بينهما هي علاقة يغلب عليها الطرح الايديولوجي، حيث انهم عاشوا في عصر اتصف بالانبهار لكل ما ظهر للغرب من مكاسب. وقد انعكس هذا الانبهار على محاولاتهم الرامية الى التوفيق بينهما، فاخذوا يتعللون إما بالالتفاف على المكاسب الغربية واعتبارها مكاسب اسلامية في الاصل، او بالسعي نحو ابراز الاتفاق بين ما لديهم من نصوص دينية وبين ما عليه روح العصر الغربي بمفاهيمه ونظرياته ونتاجه العلمي، وإن ادى ذلك الى جر النصوص الى حلبة التأويل والتلاعب والالتفاف. وفي الجملة رؤوا انه لا بد من ان يفسروا الشريعة على ضوء الحاجات الحديثة وما يقتضيه الامر من التأثر بالعالم الغربي ومنتجاته العلمية والثقافية.

على ان نقطة الخلل في ذلك هو انهم لم يعالجوا الاشكاليتين الدينية والواقعية - ومنها العلمية - كلاً على حدة قبل الانتهاء الى ما يمكن ان يتم بينهما من توافق او خلاف.

أما من جاء بعد هؤلاء، وهم يشكلون مختلف الحركات الثقافية والسياسية الاسلامية، فيلاحظ ان منهم من التزم بالخط الذي اسسوه، وذلك من حيث الجمع بين الكتابين الكوني والنصي باعتبار ما لأحدهما من اكمال للاخر، مثلما يظهر لدى الاتجاه الذي يحمل سمة (اسلامية المعرفة)، والذي يعتبر الواقع مصدراً آخر للمعرفة يضاف الى النص. فتأسيس الفكر الاسلامي او اسلامية المعرفة لدى هذا الاتجاه تتم عبر >الاعتماد على المنهجية المعرفية القرآنية التي تجمع بين قراءة الوحي وقراءة الوجود، او منهج الجمع بين القراءتين<. ذلك ان هذا الاتجاه يجعل من القرآن الكريم ذاته هو من أسس اعتبار القراءتين معاً. فمثلاً جاء في اول كلمة للوحي قوله تعالى: {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الاكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم} اذ اعتبر الاتجاه المشار اليه ان القراءة المأمور بها في هذه الايات ما هي الا >تعبير يتسع ليشمل المسطور في الكتب والمنشور في الوجود، فسور الكتاب تقرأ وآفاق الكون تقرأ، وتتلازم القراءتان حتى ينتج من هذا التلازم علوم ومعارف وخبرات وتجارب، يقام عليها العمران وتنبثق منها حضارة الايمان<. الامر الذي يذكرنا بما مرّ علينا من تأويل محمد عبده لقوله تعالى: {يتلو عليهم اياته}، حيث عدّ معنى (الايات) في هذه الاية بأنها الايات الكونية لتبرير ادخال العلوم الكونية في التفسير. يظل ان هذه الطريقة تريد ان تقرأ الوحي والكون بمنهجية واحدة من غير ان يحصل نزاع وتضارب بين المعرفتين المستلهمتين منهما. وبالتالي فان اسلامية المعرفة هي منهج معرفي >يمثل بديلاً للمادية والوضعية المتجاهلة لله وللغيب من ناحية، كما يمثل بديلاً عن اللاهوتية والكهنوتية المستلبة للانسان والطبيعة من ناحية اخرى<. اي انها بالتالي بديل عن توجه كل من المثقف العلماني والفقيه. وعليه ان ما تهدف اليه هو >اعادة النظر في علوم ووسائل فهم النص وخدمته وقرائته، قراءة الجمع مع الكون والتداخل المنهجي معه، وتخليصه من كثير من انواع التفسير والتأويل والربط الوثيق النسبي، من خلال اسقاط الاسرائيليات، والربط الشديد بأسباب النزول والمناسبات<. وهو يقارب ما كان يطمح اليه المفكرون الدينيون من الرواد.

مهما يكن فالغالب في المثقف الديني هو انه ظل خاضعاً تحت تأثير وحكم الواقع المعاصر رغم ما يزخر به هذا الاخير من اشكال نسبية. اذ جعل منه روحاً كلية قابلة للاسقاط والتطبيق على مختلف البيئات والتشكيلات. فاهتماماته بالقضايا المثارة حالياً؛ كقضية الحداثة وحقوق الانسان والحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة وغيرها؛ ليست معزولة عن التأثير الحاسم للفكر الغربي، حتى تم ارجاع جملة من المبادئ المفرزة غربياً الى اصول اسلامية، وذلك كدلالة على التأثير الغربي بجعل المثقف يستهوي ما ينتجه حيال الجمود الذي حط بالفقيه.

هذا فيما يخص اولئك الذين اتبعوا الطريقة التي سار عليها الرواد من المثقفين الدينيين. لكن في قبالهم ظهر الكثير ممن لم يسلك هذا الخط الذي ارتاده سلفهم، بل ان بعضهم اتخذ الطريقة المعاكسة لهم، وذلك بالرجوع كلياً الى النص، متجاهلاً بذلك الواقع، بل ومكفراً له احياناً. وربما يعود سبب ذلك الى غياب التنظير الابستيمي في ربط النص بالواقع، مما جعل بعض الشخصيات الريادية البارزة تؤول الى ان تضع اعتبارات المصدرين بعضها بجنب البعض الاخر من غير لحاظ ما يطرأ عليهما من تعارضات واشكاليات، فتارة تراه سلفياً حرفياً، واخرى واقعياً عقلياً.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار