التشريع ومغايراته


يحيى محمد

يتفق أهل الاسلام اليوم بشقيه السني والشيعي على كون السنة النبوية تمارس ادواراً مختلفة من التشريع؛ تارة بعنوان التشريع العام او الدائم، واخرى بعنوان الرئاسة والحاكمية، وثالثة بلحاظ الظرف والحال الخاصين. ولا شك ان الدورين الاخيرين هما المعنيان ببحث اشكالية التغير في الاحكام، حتى اضحت اليوم موضع اهتمام الكثير من الفقهاء والمفكرين الاسلاميين بفعل ضغوط الحاجة الزمنية، خصوصاً بعد ولادة الثورة الاسلامية في ايران التي عدّت ذلك احد مبتنياتها الاساسية في تسيير حكم البلاد ضمن ما أُطلق عليه بخط ولاية الفقيه. لذا يلاحظ ان المسار الذي اتجهت فيه لا يختلف كثيراً عما كان يمارس في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. بل نجد رجالاً من الشيعة حتى قبل هذه الثورة استطاعوا ان يبرروا بعض الاعمال التي صدرت عن هذا الخليفة الراشد بعنوان حاكميته ورئاسته، كما هو الحال في نهيه عن عقد المتعة.

ان السيرة النبوية ماهي الا تطبيق حي للمبادئ القرآنية، فهي من هذه الناحية تعد ترجمان القرآن. وحيث ان القرآن الكريم يقر مبدأ النسخ وتغيير الاحكام؛ لذلك لا غرابة إن وجدنا هذه السيرة تزخر بهذا التغيير نتيجة اختلاف الظروف وتبعاً للمقاصد الشرعية وتحقيق المصالح؛ الى درجة يمكن القول انه لا توجد قاعدة عامة من قواعد السلوك الموضوعة الا وبجنبها ما يستثنى منها حفاظاً على تلك المقاصد والمصالح. الامر الذي جعل القائلين بالاستحسان يعدون ذلك مدركاً شرعياً للدلالة على هذا المبدأ الاصولي، كما هو الحال مع الشاطبي الذي عدد امثلة عديدة على مراعاة الشارع لمصالح الانسان بدفع الضرر عنه والرفق به والتوسعة عليه، سواء في مجال المعاملات ام العبادات والتقديرات ( 1). ويصدق هذا الأمر على ما يطلق عليه بالتخصيص والتقييد واخذ اعتبارات قواعد الحرج والتيسير ونفي العسر وما الى ذلك. فهي كاشفة عن أن التشريع يأخذ بنظر الاعتبار تغاير الظروف والاحوال واختلافها. الامر الذي لا يختلف فيه عن معنى تغيير الحكم عند تغير الظروف والاحوال.

مهما يكن سبق ان تحدد لنا ما يعنيه التسليم بعدم وجود عمومات او مطلقات تامة. فالعمومات والمطلقات لها مخصصات ومقيدات. وقد اعتبرنا مثل هذا التغاير انما جاء تبعاً لتغاير الظروف والاحوال، وقلنا ان حقيقة التشريع ما هي الا حقيقة المغايرة والتنويع، وقد شهد بذلك القرآن الكريم، وكذلك السنة النبوية التي اوصلت المغايرة الى اقصى مدى ممكن، سواء على صعيد العبادات او المعاملات والحدود والتقديرات. ومع انه احياناً لا يُدرك مغزى المغايرة والتنويع لدى التشريع، سواء في القرآن الكريم او السنة؛ الا ان الغالب في ذلك هو مما يُعلم مقاصده التي تستهدف مراعاة حاجات العباد وتحقيق مصالحهم على النحو الأتم.

1ــ مغايرات التشريع في العصر النبوي

لسنا معنيين هنا بالتحقيق فيما يُنقل من نصوص وأحداث للسيرة النبوية، بل نكتفي بالتسليم اجمالاً للفكرة العامة محل البحث، وذلك لعدة اعتبارات؛ منها ان المنقول كثير وفائض، كما انه مأخوذ من الدوائر التراثية المعتبرة. والأهم من كل ذلك انه يتسق مع ما شهده القرآن الكريم من النسخ وتغيير الاحكام.

ان من بين المغايرات المفهومة التي جاءت بها السنة النبوية، او كما نُقل عنها، ما عُرف بتخصيصها للسلم في بيع المعدوم، حيث نُقل ان النبي (ص) قد نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم ( 2).

ومن ذلك أيضاً منع النبي قطع يد السارق في الغزو، اذ كان يخشى ان يترتب عليه مضرة لحوق السارق بالمشركين حمية وغضباً. وهو المنقول أيضاً عن عمر والامام علي وابي الدرداء وحذيفة وغيرهم ( 3).

ومثل ذلك ان النبي (ص) اسقط الحد عن التائب طالما اعترف بذلك قبل القدرة عليه. وفي حادثة قال عمر للنبي: ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى النبي معللاً ذلك بأنه قد تاب الى الله. اذ روي ان امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد الى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرَّ عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فادركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه اليها، فقال: انا الذي اغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله (ص) فأخبرته انه الذي وقع عليها، واخبر القومُ انهم ادركوه يشتد، فقال: انما كنت اغثتها على صاحبها فادركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال النبي (ص): ((انطلقوا به فارجموه)) فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله (ص): الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة، فقال: ((أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي اغاثها قولاً حسناً، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى رسول الله (ص) فقال ((لأنه قد تاب الى الله)) ( 4). وفي حادثة انه قال للرجل الذي قال له: ((يا رسول الله اصبتُ حداً فأقمه عليّ، فقال (ص): هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فان الله قد غفر لك حدك)) ( 5).

وجاء في سيرته صلوات الله وسلامه عليه انه لم يؤاخذ بعض اصحابه بالعقوبة رغم كبير فعله وشائنته. ومن ذلك انه برئ مما صنعه خالد ببني جذيمة من قتلهم وأخذ أموالهم دون ان يعاقبه، وقال: ((اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد)). وبنظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ان النبي (ص) انما لم يعاقب خالداً على فعله وذلك لحسن بلائه ونصره للاسلام ( 6).

كما شهدت السيرة النبوية أشكالاً من المغايرة السياسية في التعامل مع المتهمين وذوي الجرائم. منها أن النبي (ص) حبس في بعض التهم وعاقب بالضرب في تهم اخرى، وذلك ليعترف المتهم بجريمته اعتماداً على بعض القرائن الدالة على ارتكابها، ومن ذلك انه أمر الزبير في ان يقوم بضرب المتهم حتى يقر بالمسروق، كما في قصة ابن ابي الحقيق. وقد ذكر ابن القيم في كتابه (الطرق الحكمية) أمثلة كثيرة دالة على سياسة النبي (ص) التي اعتمدت المغايرة طبقاً للمصالح العامة ( 7). واقتضت بعض هذه المصالح ان يصرح بأوامر وأحكام تهديدية، لكن سيرته الفعلية لم تتمسك بحرفية ما كان يصرح به. لذا قال بعض العلماء انه: ((قد يرد الامر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل، وانما يقصد به الردع والتحذير، كقوله (ص): من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه. وهو لو قتل عبده لم يقتل به في قول عامة الفقهاء، وكذلك لو جدعوه لم يجدع به بالاتفاق)) ( 8). ومنه ما نُقل عنه انه قال: إن شارب الخمر إن شرب في الرابعة اقتلوه، رغم انه لم يُقم هذا الحد على الفاعل ( 9).

ومن الفتاوى التي غيّرها النبي (ص) تبعاً لاختلاف الظرف فهو انه افتى بمنع ادخار لحوم الاضاحي، ثم غير الفتوى الى الاباحة تبعاً لتغير الظروف، وكذا عاد الامام علي في خلافته فصلى بالناس في احد الاعياد ونهاهم عن الادخار فوق ثلاث؛ مذكراً اياهم بنهي الرسول (ص) ( 0 1). ومثل ذلك ما ورد من تحريم النبي (ص) لأكل لحوم الخيل يوم خيبر، وذلك لتسارع المجاهدين نحو طبخها قبل تخميسها فظنوا وقتها ان التحريم مؤبد ( 1 1).

وفي رواية ان رجلاً سأل النبي (ص) عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر فسأله نفس الامر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، واذا الذي نهاه شاب ( 2 1).

مضافاً الى انه اضطر الى ارتكاب بعض الاعمال التي تعد محرمة لولا المصلحة الراجحة، مثل تقريره للزاني بصريح القول كما اشار الى ذلك الشاطبي استناداً الى ما رواه البخاري من قول النبي للمقر: ((لعلك.. لعلك..)) حتى قال له ((أنكتها؟)) ( 3 1).

على هذا أن الأُصوليين يقرّون أن المخالفة القطعية لواقع الحكم الإلهي لا تدل أحياناً على الحرمة؛ كما لو غيّر المجتهد رأيه أو عدل المقلّد إلى الأخذ برأي مجتهد آخر لعذر ما ( 4 1)، بل بنظر البعض أن الإقدام على ما يحتمل أن تكون منه مخالفة ذلك الواقع قد يحسن، بل وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع الآنف الذكر، وبالتالي تتحول المفسدة الناتجة من المخالفة إلى المحبوبية أو الوجوب بفعل المصلحة الراجحة ((فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه)) ( 5 1). وجاء عن ابن تيمية قوله: ((الشريعة جميعها مبنية على ان المفسدة المقتضية للتحريم اذا عارضتها حاجة راجحة أُبيح المحرم)) ( 6 1). فمن ذلك ما يذكر جواز التوسل الى فداء الاسارى بدفع المال للكفار، وكذا دفع المال لرجل يهدد بالزنى بامرأة كي لا يزني بها، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال ( 7 1).

كذلك ورد عن النبي (ص) في خطابه لام المؤمنين عائشة قوله: ((لولا حِدثان عهد قومك بالكفر لهدمت البيت ورددته على قواعد ابراهيم)) ( 8 1). وقول هذه السيدة ايضاً: لو أدرك رسول الله (ص) ما أحدثه النساء لمنعهن عن المساجد كما منعت نساء بني اسرائيل ( 9 1).

النبي ومبدأ ولاية الامر

يتفق الكثير من الفقهاء على ان بعض الاحكام الصادرة عن النبي (ص) لم تأتِ بوصفه مشرعاً عاماً او مبلغاً للاحكام، وانما بوصفه حاكماً ورئيساً للمسلمين، كممارساته في الشؤون السياسية والاقتصادية والقضائية والادارية وما اليها. وقد ذُكرت هناك نماذج لهذه الكيفية من الاحكام القلقة غير الثابتة او الدائمة. ويمكن ان يدخل ضمن هذا الاطار أغلب ما مرّ معنا. يضاف الى ذلك ما شهدته سيرة النبي (ص) من انه لم يلتزم بتطبيق حد التخميس للغنائم في بعض المواقف، اذ لم يلجأ الى التخميس في غنائم حنين، بل اعطى الطلقاء الكثير ولم يعط الانصار شيئاً ، وفي معركة بني النضير وزع ارض اليهود على فقراء المهاجرين وحدهم ولم يعط سواد الانصار شيئاً، وكذا في خيبر حيث انه قسّم نصفها وحبس النصف الآخر، وانه في فتح مكة لم يقسمها بين الغانمين ( 0 2). وطبقاً لهذا ذهب عدد من الفقهاء الى ان الارض المفتوحة عنوة يعود امرها الى الامام يفعل بها ما يراه صالحاً للمسلمين، إن شاء قسّمها او حبسها، كما هو رأي ابي حنيفة واصحابه، كذلك الثوري وأبي عبيد. وذهب بعض آخر الى انها تصير وقفاً للمسلمين ولا تُقسّم كما هو رأي مالك، ربما استناداً الى ما ذهب اليه عمر بن الخطاب كما هو معروف ( 1 2).

وشبيه بهذا الامر ما حصل في معاملة النبي (ص) بخصوص تطبيق الجزية على اهل الكتاب، حيث انه صالح البعض ولم يفرض عليهم حكمها، مثل مصالحته لأهل نجران على ما مرّ علينا.

وقد وظف بعض المعاصرين حوادث من السيرة النبوية لدعم نظرية ((الاحكام الولائية او الرئاسية)). ومن ذلك ما يذكر عن النبي (ص) من انه نهى عن منع فضل الماء والكلأ. وكما قال الامام الصادق: ((قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع فضل ماء وكلاء)). واعتبر المفكر الصدر ان النهي في هذا النص لا يمكن اعتباره نهياً تحريمياً ثابتاً كما هو الظاهر، وذلك عند أخذ اعتبار ما يراه جمهور الفقهاء من ((ان منع الانسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرمات الاصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر.. امكننا ان نستنتج: ان النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي أمر)) ( 2 2). كما نقد استاذنا الصدر اولئك الذين لا يتصورون النبي الا بوصفه مشرعاً ومبلغاً عاماً، لذلك يفسرون النص السابق بالنهي العام، لكنه عندهم ليس نهي تحريم، وانما نهي كراهة ((حيث يستبعدون ان يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شرعاً، في كل زمان ومكان)) ( 3 2).

ومثل ذلك نهي النبي (ص) عن بيع الثمرة قبل نضجها. ففي الحديث عن الامام الصادق انه سُئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من ارض، فتهلك ثمرة تلك الارض كلها؟ فقال: ((قد اختصموا في ذلك الى رسول الله (ص)، فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم)). وجاء في حديث آخر: ان رسول الله أحل ذلك فاختلفوا، فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وقد اعتبر الامام الصدر ذلك النهي من حيث أن النبي ولي امر المسلمين دفعاً للخصومة والاختلاف ( 4 2).

ومثله ما نقله الترمذي عن رافع بن خديج انه قال: نهانا رسول الله (ص) عن أمر كان لنا نافعاً ، اذا كانت لأحدنا ارض ان يعطيها ببعض خراجها او بدراهم، وقال: اذا كانت لأحدكم ارض فليمنحها أخاه او ليزرعها. واعتبر الامام الصدر بأنه ((حين نجمع بين هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الارض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف الى ذلك نصوصاً كثيرة واردة عن الصحابة، تدل على جواز اجارة الارض.. نخرج بتفسير معين للنص الوارد في خبر رافع بن خديج وهو ان النهي كان صادراً من النبي بوصفه ولي الامر وليس حكماً شرعياً عاماً . فاجارة الارض بوصفها عملاً من الاعمال المباحة بطبيعتها، يمكن للنبي المنع عنها باعتباره ولي الامر منعاً تكليفياً، وفقاً لمقتضيات الموقف)) ( 5 2).

وعلى هذه الشاكلة ما ذُكر من ان الامام علياً كان في أواخر عمره لا يصبغ لحيته وشاربيه بالسواد فذكّره رجل بقول رسول الله (ص): ((عظوا الشعر الابيض بالصبغ)). فأجاب الامام الرجل بأن النبي انما أمر بذلك لأن عدد المسلمين كان قليلاً وكان بينهم عدد من الشيوخ يشاركون في الحروب، فاذا نظر العدو الى صفوف المسلمين ورأى اولئك الشيبة سكن روعه وقويت معنوياته باعتباره يقاتل شيوخاً، لذلك امر الرسول بالصبغ ( 6 2).

النبي وممارسة النسخ

هناك جملة من التغيرات التي مارستها السيرة النبوية عُدّت ضمن عداد الناسخ والمنسوخ ربما لعدم العلم بعللها الحقيقية. فقد جاء في عدد من الاحاديث قول عدد من الصحابة ان حديث النبي كان بعضه ينسخ بعضاً كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً. وروي عن النبي (ص) انه قال: ((ان احاديثي ينسخ بعضها بعضاً)). كما روي عن الزبير بن العوام انه قال بأن الرسول كان يقول القول ثم يلبث أحياناً ثم ينسخه بقول آخر كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً ( 7 2).

ومن جملة الامثلة التي عُدت ضمن عداد المنسوخ ما جاء في قول النبي: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، الا فزوروها)) ( 8 2). ومثل قوله (ص): ((كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا المسكر)) ( 9 2). وكذا الحال مع ترك النبي للوضوء مما مست النار خلاف ما كان يفعله في السابق ( 0 3). ومثل تغيير فتواه في افطار المحتجم في شهر رمضان ( 1 3). وكذا أمره الناس بصيام ثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة حتى نزلت آية شهر رمضان ( 2 3). كما جاء عن الامام علي قوله ان الرسول (ص) أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس ( 3 3).

مهما يكن فقد ذكر العلماء اعداداً كبيرة من الاحكام النبوية التي تضمنت اطار النسخ والتغيير. ويكفي ان نعلم حجم ذلك ما جاء في كتاب (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار) لمؤلفه ابي بكر محمد بن عثمان الهمذاني (المتوفي سنة 4 8 5هـ) ( 4 3)، اذ ذكر المصنف الأبواب التي حدث فيها النسخ النبوي كما يلي:

فمن كتاب الطهارة جاءت الأبواب التي لاحتها أحكام النسخ والتغيير كالآتي: باب ما كان في بدء الاسلام ان لا غسل الا من انزال، باب النهي عن استقبال القبلة، باب مس الذكر، باب الوضوء مما مست النار، باب تجديد الوضوء لكل صلاة، باب ما جاء في جلود الميتة، باب المسح على الرجلين. ومن كتاب الاذان: باب في الرجل يؤذن ويقيم غيره، باب في تثنية الاقامة. ومن كتاب الصلاة: باب استقبال القبلة، باب في نسخ الالتفات في الصلاة، باب ما نسخ من الكلام في الصلاة، باب في مرور الحمار قدام المصلي، باب في الصلاة الى التصاوير والنهي عنها، باب ما ذكر في وضع اليدين قبل الركبتين، باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وتركه، باب ما جاء في التطبيق في الركوع، باب في قنوت النبي في جميع صلواته، باب في دعاء النبي على آحاد الكفرة، باب في اختلاف الناس في القنوت في الفجر، باب في النهي عن القراءة خلف الامام، باب في الاسفار في صلاة الفجر، باب في المسبوق يصلي ما فاته ثم يدخل مع الامام في الصلاة، باب موقف الامام من المأموم، باب إتمام المأموم بامامه اذا صلى جالساً ، باب في سجود السهو بعد السلام، باب صلاة الخوف، باب الصلاة قبل الخطبة في صلاة الجمعة. ومن كتاب الجنائز: باب الامر بالقيام للجنازة، باب عدد التكبير على الجنائز، باب الصلاة على المنافقين ونسخ ذلك، باب ترك الصلاة على من عليه دين ونسخ ذلك، باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ونسخ ذلك، باب النهي عن زيارة القبور ثم الرخصة فيها، باب الاستغفار لموتى المشركين ونسخ ذلك. ومن كتاب الزكاة: باب مقدار الزكاة. ومن كتاب الصيام: باب صوم عاشوراء، باب الرجل يصبح جنباً في شهر رمضان، باب الحجامة للصائم، باب الصوم والفطر في السفر، باب امر النبي بصيام ثلاثة ايام من كل شهر ونسخ ذلك برمضان، باب في السحور بعد طلوع الفجر الثاني. ومن كتاب الحج: باب في الرجل يحرم وعليه اثر الطيب، باب ما كان في اول الاسلام من منع دخول المحرم من الابواب ونسخ ذلك، باب الاشتراط في الحج، باب في استحلال النبي (ص) الحرم ونسخ ذلك. ومن كتاب الاضاحي والذبائح: باب النهي عن اكل الاضحية بعد ثلاث، باب الفرع والعتيرة، باب في اكل لحوم الحمر الاهلية ونسخ ذلك، باب الامر بتكسير القدور التي يطبخ فيها لحوم الحمر ثم تركها، باب ما جاء في اكل لحوم الخيل. ومن كتاب البيوع: باب الربا، باب نهي النبي (ص) عن لقاح النخل ثم الاذن بعد ذلك، باب المزارعة، باب النهي عن كسب الحجام والاذن فيه. ومن كتاب النكاح: باب نكاح المتعة. ومن كتاب العشرة: باب النهي عن ضرب النساء ثم الاذن فيه بالمعروف. ومن كتاب الطلاق: ذكر ما كان من المراجعة بعد الطلاق الثلاث ونسخ ذلك. ومن كتاب العدة: ذكر عدة المتوفي عنها زوجها في غير اهلها واختلاف الناس فيها. ومن كتاب الرضاع: ذكر ما ورد فيه من نسخ. ومن كتاب الجنايات: باب قتل المسلم بالذمي، باب في استيفاء القصاص قبل اندمال الجرح، باب في القود بالنار، باب المثلة ونسخها، باب نسخ القتل في حد السكران، باب جلد المحصن قبل الرجم، باب ما جاء فيمن زنى بجارية امرأته من الاختلاف. ومن كتاب السير: باب وجوب الهجرة ونسخه، باب الامر بالدعوة قبل القتال ونسخه، باب قتل النساء والولدان من اهل الشرك والاختلاف في ذلك، باب النهي عن قتال المشركين في الاشهر الحرم ونسخ ذلك، باب الاستعانة بالمشركين. ومن كتاب الغنائم: باب اخذ السلب من غير بينة وما فيه من الاختلاف. ومن كتاب الهدنة: باب في منع الامام دفع السلب الى القاتل، باب مبايعة النساء. ومن كتاب الايمان: باب الحلف بغير الله. ومن كتاب الاشربة: باب النهي عن النبيذ. ومن كتاب اللباس: باب لبس الديباج ونسخه، باب اباحة لبس خاتم الذهب ونسخها، باب في تعليق الستور ذوات التصاوير والنهي عنها. ومن كتاب قتل الحيوان: باب الامر بقتل الكلاب ثم نسخه، باب الامر بقتل الحيات ونسخ حيات البيوت منها. وهناك ابواب اخرى متفرقة مثل: باب النهي عن الرقى ونسخ ذلك، باب سدل الشعر ونسخه بالفرق، باب النهي عن دخول الحمام ثم الاذن فيه بعد ذلك، باب النهي عن القران بين تمرتين ونسخ ذلك، باب النهي عن ان يقال ما شاء الله وشئت.

فهذا الحجم من التغيير يذكرنا بما سبق أن أوردناه من قول الغزالي: ((ما من حكم شرعي الا وهو قابل للنسخ خلافاً للمعتزلة)).

2ــ مغايرات التشريع في عصر الخلافة الراشدة

لم يشهد تغيير الاحكام درجة من الاتساع طبقاً للمصلحة ومراعاة الظروف والاحوال مثلما شهده الحال في عهد الصحابة، حيث كانوا يراعون المصلحة ويشرعون طبقاً لاعتبارها، ولا يهملون اسباب النزول والملابسات المتعلقة بالآيات والاحكام، ومن ثم يقررون الاحكام طبقاً لما يناط بها من احوال ومصالح. وقد بلغت تغيرات الأحكام حداً كبيراً حينما اتسعت الفتوحات الاسلامية، مثلما هو الحال في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.

فمن ذلك ما قام به عمر (رض) من منع اعطاء رواتب من بيت المال الى الأشخاص المؤلفة قلوبهم، مع أن القرآن الكريم نصّ على اعطائهم هذا السهم كما في قوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم)) التوبة/ 0 6، وان سيرة النبي الأكرم كانت ممضية لما هو في القرآن، اذ ثبت انه نفذ ذلك واعطى ابا سفيان والاقرع بن حابس التميمي وعباس بن مرداس وصفوان بن امية وعيينة بن حصن الفزاري، كل واحد منهم مائة من ابل الصدقات تأليفاً لقلوبهم. لكن عمر منع هذا الأمر تعويلاً على تفسير النص بما كان عليه الحال، حيث اعتبر العطاء انما كان لاتقاء شرهم، وذلك لضعف الاسلام آنذاك، وحيث قوي الاسلام فيما بعد فلا موجب للعطاء تبعاً لهذه العلة ( 5 3).

كما أنه أوقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة المسمى ((عام الرمادة)) واكتفاءه بتعزير السارق بدلاً من قطع يده. اذ من شرائط الحد ان لا يكون السارق مضطراً، واعتبر عمر أن ذلك من الشبهات، وفي الشبهات تدرأ الحدود ( 6 3).

وكذا انه منع تقسيم اراضي سواد العراق ومصر وتوزيعها على الفاتحين الذين طالبوه بها محتجين عليه بنصوص من القرآن والسنة، لكنه إعتبر الأراضي من الفيء الذي تتعلق به حقوق المسلمين عامة حاضرهم وآتيهم رعاية لمصلحة الأجيال وحقوقها في بيت المال. لذا أنه أبقى الأراضي في أيدي أهاليها وطرح عليها ضريبة الخراج، باعتبار أن ذلك أصلح لإحيائها وأعم وأدوم لنفعها وريعها. وقد دامت مناقشات عمر مع الصحابة عدة أيام ثم وجد الحجة عليهم في إحدى آيات سورة الحشر، وخاطبهم بقوله: ((تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء، فما لمن بعدكم؟ ولولا ان اترك آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسّمتها كما قسّم رسول الله (ص) خيبر)). وفي كتاب له إلى أبي عبيدة قال فيه: ((.. وشاورت فيه أصحاب رسول الله (ص)، فكل قد قال في ذلك برأيه، وإن رأيي تبع لكتاب الله، قال الله تعالى: ((ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وإبن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم.. والذين جاءوا من بعدهم..)))) ( 7 3).

ومن ذلك ان طلاق الثلاث كان في عهد النبي وابي بكر وسنتين من عهد عمر يقع واحدة، لكن لما فسد الناس واكثروا من حلف الطلاق؛ فقد آل الامر بعمر الى ان يوقعه ثلاثاً للزجر كي لا يتهاونوا في ما شُرع لهم من احكام. وقال بهذا الصدد: ((ان الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة، فلو انا أمضيناه عليهم)). لذلك أمضاه عليهم ليقلوا منه، فإنهم اذا علموا ان احدهم اذا أوقع الثلاث جملة وقعت، وانه لا سبيل له الى المرأة؛ أمسك عن ذلك ( 8 3).

كما ذُكر ان عمر (رض) قام بتغيير الحد المقدر لشرب الخمر. اذ كان في عهد النبي وابي بكر ان شارب الخمر يحد بأربعين جلدة، لكن عمر شدد في العقوبة في الحد فاوصلها الى ثمانين جلدة وذلك بعد مشورته للناس. وينقل الامام مالك في موطئه ان الذي اشار عليه هو الامام علي (ع)، حيث حدد له المقدار بثمانين جلدة مستدلاً بأنه ((اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى)) ( 9 3). وذكر ابن تيمية ان الذي دعاه الى ذلك هو ان الناس في زمنه قد اكثروا من شربها واستخفوا بحدها، لذلك زادها عليهم مع النفي وحلق الرأس، وكل ذلك لم يكن في عهد النبي (ص) ( 0 4).

كذلك قام عمر بتغيير الفتوى الخاصة بزواج المسلم من الكتابية. فقد أباح الله تعالى هذا الزواج بصريح الآية الكريمة ((اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حِلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة/ 5. لكن لما رأى عمر كثرة الكتابيات وقت الفتوحات وهن جميلات فقد خشي من افتتان المسلمين بهنّ وترك المسلمات اليهنّ، وربما انه خشي أيضاً مما يمكن ان يترتب على ذلك من نفوذ أهل الكتاب الى مراكز السلطة في الدولة الاسلامية، وكذا مخافة تأثيرهن على عقيدة المسلمين. ومما يذكر بهذا الشأن انه جاء عن حذيفة بن اليمان انه تزوج يهودية بالمدائن فكتب اليه عمر أن خلِّ سبيلها، فكتب اليه: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب اليه: أعزم عليك ان لا تضع كتابي حتى تخلي سبيلها فاني أخاف ان يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء اهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين ( 1 4).

وكذا فيما ورد عنه في تحريم نكاح المتعة، وقد اعتبره المرحوم كاشف الغطاء من الامامية انه انما فعل ذلك ليس من حيث التشريع في قبال النص، بل باعتبار حاكميته وما تقتضيه من مراعاة الظروف الطارئة المؤقتة ( 2 4). وأيده عليه المفكر مرتضى مطهري معتبراً ذلك مثل تحريم التنباك (التبغ) الذي أصدره المرجع الشيخ محمد حسن الشيرازي ( 3 4).

ومثله اختياره للناس الافراد بالحج ليعتمروا في غير أشهر الحج، اذ لا يزال البيت الحرام مقصوداً، فظن البعض انه نهى عن المتعة وانه أوجب الإفراد ( 4 4).

كذلك فيما أجراه من تغيير حكم النص الخاص في التسعير. اذ جاء في الأثر ان غلاء السعر كان على عهد الرسول (ص) فشكى الناس من ذلك وقالوا: لو سعرت لنا فقال: ((ان الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعر. واني لأرجو ان القى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها اياه في دم ولا مال)) ( 5 4). لكن عمر رأى ان هناك حاجة للتسعير في عهده، اذ روى مالك في (الموطأ) أن عمر سأل حاطب بن ابي بلتعة وهو يبيع الزبيب عن سعر ما يبيع؟ فأجابه حاطب: مدّين - أي نصف صاع - لكل درهم. فقال عمر: ((تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا، تقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم؟! بع صاعاً بدرهم، والا فلا تبع في سوقنا..)) ( 6 4).

كما استحدث الخليفة توزيعاً جديداً للعطاء بين الناس. اذ كان العطاء في عهد النبي وابي بكر بالتساوي، لكن عمر غيّر من هذه السيرة تبعاً لما ظنه انه الصواب بحسب المرحلة الظرفية التي مرّ بها عهده، فلم يساو بالعطاء بين الناس، وقد اشتهر عنه انه قال: ((ان ابا بكر رأى في هذا المال رأياً، ولي فيه رأي آخر.. واني لا أجعل من قاتل رسول الله (ص) كمن قاتل معه!)) ( 7 4). كما قال: ((ليس أحد أحق بهذا المال من أحد، إنما هو الرجل وسابقته، والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته)). وهو بهذا جعلهم أربعة أصناف ( 8 4). الا انه في أواخر حكمه رأى ان ما فعله ليس بالأمر الصواب فأحب ان يعود الى السيرة الاولى من جعلهم يتساوون في العطاء، لكنه لم يتمكن من تحقيق رغبته لمقتله ( 9 4).

وكذا فيما يخص اجتهاده المستحدث باباحته النكاح لزوجة المفقود بعد اربع سنين من فقده دون حاجة لانتظار تحقق موته ( 0 5).

كذلك انه رفع دية الفضة في زمانه لما رخصت، ولم ينكر عليه احد من الصحابة ( 1 5). ومثل ذلك ما رواه ابو داود من ((ان الدية كانت في العهد النبوي 0 0 8 دينار او 0 0 0 8 درهم، فلما كان عهد عمر خطب فقال: إن الابل قد غلت، فقومها على اهل الذهب 0 0 0 1 دينار وعلى اهل الورق 0 0 0 2 1 درهم)) ( 2 5).

وأيضاً انه لم يُقم حكم الجزية بحق البعض من اهل الكتاب مع ان الآية مطلقة في أخذها منهم، كما هو الحال مع مصالحته لنصارى بني تغلب، اذ ضاعف عليهم الصدقة وأعفاهم عن الجزية. كما أعفى بعض الذميين من دفعها مكافأة له على حسن مشورته. كما ونُقل عنه بأنه أول من سنّ إلزام الغيار على اهل الذمة في المركب واللباس والتسمية والتكنية والتكلم باللغة ونحوها، ولم يكن ذلك مستناً في عهد النبي ولا في عهد صاحبه أبي بكر الصديق.

وأيضاً انه قضى بالدية مغلّظة في قتل الوالد لابنه ولم يقم عليه حد القتل طبقاً للاطلاق الوارد في النص ( 3 5).

كما أنه أمر عامله بأخذ الصدقة من الخيل رغم اقراره بان النبي (ص) وابا بكر لم يأخذا ذلك ( 4 5).

وكذا انه منع بيع أمهات الاولاد، في حين كنّ يبعن في حياة النبي (ص) ومدة خلافة ابي بكر ( 5 5).

كذلك الحال مع جملة من ممارساته السياسية مثل حرقه لحانوت الخمار بما فيه. وحرقه لقرية يباع فيها الخمر. وحرقه لقصر سعد بن ابي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية. وكذا حلقه رأس نصر بن حجاج ونفيه من المدينة لتشبيب النساء به، وضربه لصبيغ بن عسل التميمي على رأسه لما سأل عما لا يعنيه من المتشابه. كما انه صادر عماله، فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوها بجاه العمل، واختلط ما يختصون به بذلك، فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين. وألزم الصحابة ان يقلّوا الحديث عن رسول الله (ص) لما اشتغلوا به عن القرآن سياسة منه ( 6 5).. الى غير ذلك من طرقه التي ساس بها الامة، والتي قال بشأنها ابن القيم بأنها ((سياسة جزئية بحسب المصلحة، يختلف حالها باختلاف الازمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للامة الى يوم القيامة)) ( 7 5).

ولعل هذا الخليفة هو أول من تنبّه الى المفاد النسبي للاحكام، كما دلّت على ذلك سيرته؛ إن لم نقل ان النبي الاكرم (ص) هو أول من مارس هذا الدور الحيوي ودلّ عليه. ذلك أننا لو سلمنا بأن ما يصدر عن النبي إنما يؤخذ غالباً باعتبارات النبوة والتشريع الثابت مثلما يدعيه النظام المعياري عادة؛ فسيكون الخليفة الثاني هو أول من نبّه على اساليب المغايرة، وربما بفضله اهتدى النظام المعياري في تأسيسه لما أُطلق عليه بالاحكام السياسية او الولائية، تمييزاً لها عن الاحكام الثابتة.

والملاحظ من التغييرات التي مارسها عمر ان بعضها يصدق ان تعتبر نسخاً أو نسأً لبعض الاحكام. ومن الخطأ ما تصوره بعض المعاصرين كالشيخ أبي زهرة من انه لم يخالف أي نص جزئي وإنما كان يطبق النصوص تطبيقاً حسناً بحسب المصالح ( 8 5). ذلك ان العمل بموجب المصالح وإن اتسق مع المقاصد لكنه في حد ذاته يقتضي مخالفة جزئيات النصوص.

***

أما عن الفتاوى والاحكام التي شهدت التغيير والاستحداث لدى سائر الصحابة؛ فيمكن أن ننقل منها ما يأتي:

ما فعله الصحابة في تغيير مقدار زكاة الفطر، حيث فرض رسول الله (ص) زكاة الفطر، صاعاً من الطعام، من تمر او زبيب او شعير او اقط (اللبن المجفف الذي لم تُنزع منه زبدته). لكن عدداً من الصحابة رأوا بعد وفاة النبي ان نصف صاع من قمح يعدل صاعاً من تمر او شعير، فاخرجوا نصف صاع من القمح زكاة فطرتهم ( 9 5). وروى جماعة عن ابي سعيد الخدري قوله: كنا نخرج زكاة الفطر اذا كان فينا رسول الله (ص) صاعاً من طعام ( 0 6)، او صاعاً من تمر، او صاعاً من شعير، او صاعاً من اقط، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: اني لأرى مدّين (أي نصف صاع) من سمراء الشام (أي القمح) تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك ( 1 6).

كما روي عن ابن مسعود انه كان يؤاخذ المطلق بحسب ما نواه، فمن ذلك ما أخبره رجل من انه طلق امرأته البارحة مائة، فسأله ابن مسعود: أقلتها مرة واحدة؟ قال نعم. قال: أتريد ان تبين منك امرأتك؟ قال نعم. قال: هو كما قلت. وأتاه آخر فقال رجل طلق امرأته عدد النجوم، فسأله أقلتها مرة واحدة؟ قال نعم. قال: أتريد ان تبين منك امرأتك؟ قال نعم. قال هو كما قلت ( 2 6).

وورد انه حدث لابن عباس مثلما حدث لعمر في قضية الطلاق لنفس العذر، حيث ((ان الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك فعوقبوا بلزومه بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك فانهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم)) ( 3 6).

كما ورد عن ابن عباس ان رجلاً جاءه فقال: ((أَلمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا الى النار ! فلما ذهب، قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، فما بال هذا اليوم؟ قال: اني احسبه مغضباً يريد ان يقتل مؤمناً. فبعثوا في اثره فوجدوه كذلك)) ( 4 6). وقيل ان الكثير من الفقهاء ساروا على هذا المسلك لابن عباس حيث يفرقون في التعامل بين من ابتلى بالفعل ووقع فيه وبين من لم يقع فيه، فيشددون على الاخير ويسهلون على الاول ( 5 6).

وجاء عن علقمة انه قال: غزونا أرض الروم ومعنا حذيفة وعلينا رجل من قريش فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة: تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم ( 6 6).

ومثل ذلك ما فعله سعد بن ابي وقاص بأبي محجن حين كان هذا الاخير قد شرب الخمر في يوم القادسية، حيث عفى عنه واخلى سبيله، اذ قال: ((لا والله لا اضرب اليوم رجلاً ابلى للمسلمين ما ابلاهم)) ( 7 6).

وظهرت بعض الاجتهادات الجديدة التي حددت أحكاماً شديدة تبعاً لمراعاة ما تقتضيه الظروف السائدة آنذاك، كاحراق الامام علي للغلاة، ونصحه للخليفة أبي بكر باحراق اللوطية بدل قتلهم ( 8 6).

وعلى نفس الشاكلة فيما فعله عثمان في حرقه للمصاحف وجمعه للقرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة. حيث ذُكر ان الصحابة في عهده خشوا على الامة ان يختلفوا في القرآن، فرأوا ان جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد عن الوقوع في الاختلاف، الامر الذي أجراه عثمان ومنع الناس من القراءة بغيره، بينما كان النبي قد اطلق القراءة للناس على أي حرف من تلك الأحرف، للسعة والتيسير ( 9 6).

ومثل ذلك ما فعله عثمان في ضالة الابل. فقبله كان النبي والصحابة يحثون على تركها مرسلة حتى يجدها صاحبها. وجاء في الحديث ان النبي (ص) قال لمن سأله عنها: مالك وما لها؟ معها غذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يأتي ربها. لكن عثمان وجد الناس في عهده قد تغيروا وامتدت الأيدي اليها، فرأى ان المصلحة في التقاطها، فعين راعياً يجمعها ويعرفها، فان لم يجد صاحبها باعها وحفظ الثمن له حتى يجيء ( 0 7).

وايضاً فقد قام هذا الخليفة بترك القصر في السفر ((اذ سمع ان الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى ان السنة ربما أدت الى اسقاط الفريضة خوف الذريعة)) ( 1 7).

وفي خلافة الامام علي وردت بعض الوصايا التي تقر التسعير دفعاً لما قد يحدث من ظلم واستغلال. ففي عهده للاشتر حذر من التجار واوصاه بتحديد الاسعار رحمة بالرعية، اذ قال (ع) في وصيته: ((واعلم ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فان رسول الله (ص) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، واسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع)) ( 2 7). كذلك انه قام بتصعيد زكاة الفطر عندما رخص السعر ( 3 7). وايضاً انه فرض الزكاة على الخيل ( 4 7).

وفي عهد التابعين جرى هناك العديد من التغيير في الاحكام، مثل ما ورد في اجازتهم لتسعير السلع تسهيلاً للناس ودفع المشقة والضرر عنهم، وذلك بعد ان تغيرت الظروف عما كانت عليه من قبل.

ومن ذلك ايضاً ما روي من ان عمر بن عبد العزيز كان يقضي - وهو أمير في المدينة - بيمين وشاهد واحد طبقاً لما ورد في السنة النبوية ( 5 7)، وكذا ما رواه الشافعي من انه كتب الى عامله بالكوفة وقت خلافته قائلاً: ((اقض بالشاهد مع اليمين فانها السنة)) ( 6 7). لكنه في الشام لم يقبل الا شاهدين، بسبب ما رآه من اختلاف في احوال الناس. وقد كتب زريق بن الحكم الى عمر بن عبد العزيز قائلاً: ((إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب اليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا اهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي الا بشهادة رجلين عدلين، او رجل وامرأتين)) ( 7 7).

الهوامش

( 1) الموافقات، ج 4، ص 7 0 2.

( 2) المقصود بالسلم كما عرفه السرخسي بأنه أخذ عاجل بآجل، وقيل ان السلم والسلف بمعنى واحد. فهو بيع ما هو معدوم او غائب بثمن عاجل ليمكن منه جلب المبيع او استحضاره (المبسوط للسرخسي، ج 2 1، ص 4 2 1). ويبدو ان النهي المشار اليه مستنتج من قبل الفقهاء لعدد من الحوادث والقضايا التي كان فيها النبي (ص) ينهى عن بيع ما هو معدوم او مجهول، ولم يرد النص بعمومه، بل ما جاء انه نهى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده، كذلك نهيه عن بيع الغرر مثل نهيه عن بيع الحبلة والعبد الآبق والملاقيح وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة. لذلك يقول ابن تيمية: ((ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله بل ولا عن أحد من الصحابة ان بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بمعنى عام، وانما فيه النهي عن بيع بعض الاشياء التي هي معدومة)). وهو قد خطّأ غيره ممن نقلوا ان النبي قال: لا تبع ما ليس عندك، وارخص في السلم، معتبراً ان هذا الكلام انما يرجع الى بعض الفقهاء وذلك انهم قالوا: السلم بيع الانسان ما ليس عنده (القياس لابن تيمية، ص 6 2 و 9 1. ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج 9 2، ص 3 2 و 5 2. واعلام الموقعين، ج 1، ص 2 1 3، وج 2، ص 8 2).

( 3) جاء في حديث الامام علي قوله: لا أُقيم لأحد حداً بأرض العدو حتى يخرج منها لئلا تلحقه الحمية فيلحق بالعدو (علل الشرائع، ج 2، باب 4 3 3، ص 4 6 2). وقد نصّ احمد واسحاق بن راهويه والاوزاعي وغيرهم من علماء الاسلام على ان الحدود لا تقام في ارض العدو. وذكر ذلك ابو القاسم الخرقي في مختصره فقال: لا يقام الحد على مسلم في ارض العدو، وقد اتى بشر بن ارطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنّة فقال لولا اني سمعت رسول الله (ص) يقول: (( لا تُقطع الايدي في الغزو)) لقطعت يدك، وهو ما رواه ابو داود، وقال ابو محمد المقدسي: وهو اجماع الصحابة (الخراج، ص 9 7 1. واعلام الموقعين، ج 3، ص 5ــ 6).

( 4) اعلام الموقعين، ج 3، ص 8.

( 5) اعلام الموقعين ج 3 ص 7.

( 6) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 5 5 2. واعلام الموقعين ج 3، ص 8.

( 7) الطرق الحكمية، ص 7 1ــ 8 1 و 1 2 1. كذلك: النجدي: الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، ج 2، ص 0 0 1.

( 8) الاعتبار، ص 0 0 2. واحكام القرآن للهراسي، ج 1ــ 2، ص 4 4.

( 9) من ذلك ما ورد انه أُوتي برجل شرب الخمر فجلده النبي، ثم أُوتي به ثانية فجلده، وكذا ثالثة ورابعة، حيث جلده ووضع القتل عنه رخصة. وجاء في رواية اخرى ان حد القتل يقام عليه في المرة الخامسة لا الرابعة، ومع ذلك فان النبي لم يقتله. الام، ج 6، ص 5 5 1، وج 8، ص 2 4 6ــ 3 4 6. وانظر ايضاً: الاعتبار، ص 1 0 2. ونيل الاوطار، ج 7، ص 5 2 3.

( 0 1) جاء في الحديث ان النبي (ص) قال: ((لا يأكل أحدكم من لحم اضحيته فوق ثلاثة أيام)). لكنه قال في سنة اخرى قادمة: ((كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا)). وفي بعض الأحاديث: ((انما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفت)) يعني القوم الذين قدموا عند الاضحى. (انظر حول ذلك المصادر التالية: المسوى شرح الموطأ، ج 1، ص 9 2 2. والام، ج 8، ص 3 4 6. والرسالة للشافعي، ص 6 3 2 وما بعدها. والاعتبار، ص 5 5 1ــ 8 5 1. وروح المعاني، ج 7 1، ص 6 4 1. والمستصفى، ج 1، ص 8 2 1).

( 1 1) الاعتبار، ص 4 6 1.

( 2 1) ينقل حول هذه الحادثة قول عبد الله بن عمرو بن العاص: ((كنا عند النبي (ص) فجاء شاب فقال يا رسول الله، أُقبّل وأنا صائم؟ قال: لا. فجاء شيخ، فقال: يا رسول الله، أُقبّل وأنا صائم قال: نعم. فنظر بعضنا الى بعض، فقال رسول الله: قد علمت نظر بعضكم الى بعض ان الشيخ يملك نفسه)) (القرضاوي: عوامل السعة، ص 2 8). كما نقل مثل هذا النهي للشاب دون الشيخ عن ابن عباس. الموطأ، ص 8 0 2ــ 9 0 2.

( 3 1) عن: الاشقر: افعال الرسول، ص 4 6 1، لكن ما ذُكر هو أن البخاري ومسلم وغيرهما رووا ان النبي (ص) ردّ المقر بالزنا مراراً أربعاً، كل مرة يعرض عنه. ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي (ص) وقال له: أبك جنون؟ قال: لا. قال (ص): أحصنت؟ قال: نعم. وفي حديث البخاري: لعلك قبّلت أو غمزت أو نظرت. وفي النسائي وأبي داود ان النبي (ص) قال له في الخامسة: أنكتها؟ قال: نعم. قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال (ص): كما يغيب المِرود في المكحلة والرشاء - الحبل - في البئر؟ قال: نعم. ثم قال(ص): هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالاً. قال (ص): فما تريد مني بهذا القول؟ قال: أريد ان تطهّرني؟ قال: فأُمر به فرُجم (احكام القرآن، ج 4، ص 2 9 8 1ــ 3 9 8 1).

( 4 1) فرائد الاصول، ج 1، ص 0 0 4.

( 5 1) فرائد الاصول، ج 1، ص 0 2 1 و 2 4. وانظر كذلك كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، ص 1 6 1.

( 6 1) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 9 2، ص 9 4.

( 7 1) الفروق، ج 2، الفرق الثامن والخمسون..

( 8 1) أحكام القرآن، ج 4، ص 2 1 9 1.

( 9 1) التيراهي: الحبل المتين، ص 6.

( 0 2) علماً ان هناك خلافاً بين الفقهاء حول مكة إن كانت فُتحت عنوة أم صلحاً. فمن ذلك ان أبا عبيدة كان يقول: ((افتتح رسول الله (ص) مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسّمها ولم يجعلها فيئاً)) (نيل المرام، ص 8 7 3).

( 1 2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 2 8 5. والاحكام السلطانية، ص 4 7 1.

( 2 2) الصدر، محمد باقر: اقتصادنا، ص 6 2 7ــ 7 2 7 .

( 3 2) المصدر السابق، ص 4 1 4ــ 5 1 4.

( 4 2) نفس المصدر، ص 7 2 7.

( 5 2) نفس المصدر، ص 7 2 7ــ 8 2 7.

( 6 2) نظام حقوق المرأة في الاسلام، ص 4 9.

( 7 2) الاعتبار، ص 4 2ــ 5 2.

( 8 2) الاعتبار، ص 0 1 و 3 1 و 8 2 2. والمستصفى، ج 1، ص 8 2 1.

( 9 2) المقصود بالانتباذ تعاطي النبيذ (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 8 3 3).

( 0 3) جاء في عدد من الاحاديث منها ما ذكره جابر بن عبد الله بقوله: ((كان آخر الامرين من رسول الله (ص) ترك الوضوء مما مست النار)). الموطأ، ص 9 4. والاعتبار، ص 0 5. والمستصفى، ج 1 ص 9 2 1.

( 1 3) روي في حديث شداد بن أوس ان النبي (ص) قال: ((افطر الحاجم والمحجوم)). لكن جاء في حديث ابن عباس ان النبي احتجم وهو صائم. وقد كشف الامام الشافعي ان حديث شداد كان زمان الفتح سنة ثمان للهجرة، حيث كان مع النبي فرأى رجلاً يحتجم في رمضان، فقال: ((افطر الحاجم والمحجوم))، أما حديث ابن عباس فكان في حجة الوداع سنة عشر لذا فهو ناسخ لما قبله إن كانا ثابتين (الام، ج 8، ص 0 4 6ــ 1 4 6. والاعتبار، ص 9 3 1ــ 1 4 1).

( 2 3) الاعتبار، ص 5 4 1.

( 3 3) الاعتبار، ص 0 1.

( 4 3) وعلى شاكلته ما سبق اليه الشيخ عمر بن احمد بن عثمان المعروف بإبن شاهين (المتوفي سنة 5 8 3)، وذلك في كتابه (الناسخ والمنسوخ من الحديث).

( 5 3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 4 9. والاحكام السلطانية، ص 3 6 1. ذكر انه في زمن ابي بكر جاء عيينة والاقرع يطلبان ارضاً فكتب ابو بكر لهما بها، لكن عمر مزق الكتاب وقال: ان الله اعز الاسلام واغنى عنهم))، فلا حاجة الى تأليف قلوبهم بالصدقات (مصادر التشريع الاسلامي فيما لا نص فيه، ص 4 6 1).

( 6 3) اعلام الموقعين، ج 3، ص 0 1. والزرقاء: الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج 1، ص 1 7 1.

( 7 3) انظر: الخراج لابي يوسف، ص 6 2ــ 0 3. وفتوح البلدان، ص 6 6 2 وما بعدها. والفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج 1، ص 6 7 1. وحميد الله، محمد: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص 3 8 4ــ 4 8 4. وجاء في بعض الاخبار ان الامام علي هو الذي اشار الى عمر في عدم تقسيم السواد (الاموال، ص 3 3). وكان ابو عبيد يرى ان امر التقسيم تم باشارة كل من الامام علي ومعاذ بن جبل (الاستخراج لاحكام الخراج لابن رجب الحنبلي، ص 9).

( 8 3) الطرق الحكمية، ص 9 1. كذلك مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 4 8. علماً ان ما ذُكر عن عمر بصدد الطلاق مروي عن ابن عباس في عدد من الاخبار، وقد تأول البعض الأمر على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول انت طالق انت طالق انت طالق؛ فانه يلزمه واحدة اذا قصد التوكيد، وثلاث اذا قصد تكرير الايقاع، فكان الناس في عهد رسول الله (ص) وابي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار ولم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في ارادة التوكيد، فلما رأى عمر في زمانه اموراً ظهرت واحوالاً تغيرت وفشا ايقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، اذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار اليه بقوله ان الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة)) (نيل الاوطار، ج 7، ص 8 1). وقد برر ابن تيمية ما فعله عمر من أنه لما اكثر الناس في الطلاق بالثلاث جملة؛ فان عمر ((إما ان يكون رآه عقوبة تستعجل وقت الحاجة، وإما ان يكون رآه شرعاً لازماً لاعتقاده ان الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه الا قليلاً)) (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 8 8). وفي رأي ابن القيم ان ذلك بمثابة عقوبة حيث يقول: ((ان الناس اذا تعدوا حدوده، ولم يقفوا عندها ضيّق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج، وقد أشار الى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلق ثلاثاً : انك لو اتقيت الله لجعل لك مخرجاً ، كما قاله ابن مسعود وابن عباس. فهذا نظر أمير المؤمنين.. لا انه (رض) غيّر احكام الله وجعل حلالها حراماً فهذا غاية التوفيق بين النصوص)) (زاد المعاد، ج 5، ص 1 7 2).

( 9 3) المسوى شرح الموطأ، ج 2، ص 9 9 2. والخراج لابي يوسف، ص 7 6 1. والاحكام السلطانية، ص 8 2 2. واقضية رسول الله، ص 9 1. ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 6 3 3. علماً بأن النص المنقول عن الامام علي قد ورد في المصادر الشيعية منقولاً ليس عنه وانما عن الامام الرضا ثامن الائمة الاثني عشر (علل الشرائع، ج 2، باب 5 3 3، ص 4 6 2).

( 0 4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 8 8. لكن ما ورد عن الشافعي هو انه اعتبر ما زاده عمر لم يكن حداً وانما تعزيراً ، حيث قرر بأن اصل حد الخمر هو اربعون جلدة، وما زاده عمر على الاربعين انما كان من باب التعزير (المسوى شرح الموطأ، ج 2، ص 0 0 3). كما نُقل انه في عهد النبي لم يحد الشارب وانما كان يضرب بالنعال ضرباً غير محدود، وان ابا بكر هو الذي شاور اصحاب الرسول وسألهم: كم بلغ ضرب الرسول لشراب الخمر فقدروه بأربعين. لكن روي عن ابي سعيد الخدري ان النبي ضرب في الخمر بنعلين اربعين، فجعل عمر مكان كل نعل سوطاً (ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد، ج 2، ص 4 4 4). وكذا طرح الغزالي اشكالاً حول ما اذا كان الصحابة رجحوا بالمصلحة تعيين الحد بالثمانين فأجاب بأن ((الصحيح انه لم يكن مقدراً، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله كان بالنعال واطراف الثياب فقدّر الصحابة ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، ورأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة الى رأي الأئمة، فكأنه ثبت بالاجماع أنهم أُمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب.. ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله (ص) الا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث..)) (المستصفى، ج 1، ص 5 0 3ــ 6 0 3). كذلك فان الشوكاني هو الآخر عارض كون عمر قام بالزيادة على الحد، واعتبر انه لم يكن هناك مقدار معين في عهد النبي، اذ في بعض الروايات انه ضرب بنحو الاربعين، وهو على نحو التخمين، وبعضها لم يحدد العدد. واستدل على ذلك بأن عمر ذاته طلب المشورة من الصحابة فأشاروا عليه بآرائهم، ولو كان قد ثبت تقديره عن النبي لما جهله جميع أكابر الصحابة (نيل الاوطار، ج 7، ص 0 2 3ــ 1 2 3). ويؤيده ما ورد عن الامام علي في استدلاله بالقياس على تحديد المقدار، ولو كان هناك حد ثابت لما صح الاستدلال.

( 1 4) الحجة على اهل المدينة، ج 3، هامش الكيلاني، ص 0 5 3.

( 2 4) كاشف الغطاء، محمد حسين: اصل الشيعة واصولها، ص 3 2 1ــ 4 2 1.

( 3 4) نظام حقوق المرأة في الاسلام، ص 6 5.

( 4 4) ذُكر انه تنازع في ذلك ابن عباس وابن الزبير، واكثر الناس على ابن عباس في ذلك وهو يحتج عليهم بالاحاديث النبوية الصريحة، فلما اكثروا عليه قال: ((يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء، اقول لكم قال رسول الله وتقولون قال ابو بكر وعمر؟!)). وكذا ما حصل مع عبد الله بن عمر، حيث كان اذا احتجوا عليه بأبيه يقول: ((إن عمر لم يرد ما تقولون))، فاذا اكثروا عليه قال: ((أفرسول الله أحق ان تتبعوا أم عمر؟!)). الطرق الحكمية، ص 0 2ــ 1 2.

( 5 4) المسوى شرح الموطأ، ج 2، ص 7 3. ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 6 7. والطرق الحكمية، ص 5 8 2 ــ 6 8 2. ونيل الاوطار، ج 5، ص 4 3 3.

( 6 4) علماً بأن الشافعي وموافقيه اعتبروا مالكاً انما روى جزءاً من الحادثة، وقد روى الشافعي بأن عمر حاسب نفسه بعد ذلك فأتى حاطباً في داره فقال: ((ان الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع)) (مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 1 9. والحسبة في الاسلام، ص 1 6ــ 2 6. والطرق الحكمية، ص 8 9 2ــ 0 0 3).

( 7 4) الخراج، ص 4 4. وفتوح البلدان، ص 6 3 4 وما بعدها.

( 8 4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 7 8 2.

( 9 4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 8 2، ص 3 8 5.

( 0 5) الام، ج 7، ص 0 5 2. المسوى، ج 2، ص 2 8 1. والقياس لابن تيمية، ص 1 4. لكن الشيباني يروي بأن عمر قد رجع عن حكم الانتظار اربع سنين الى قول الامام علي الذي ينقل عنه انه يرى بأن المرأة تكون للأول ليس لها الحق في الزواج حتى يأتيها الخبر بطلاقه او موته، وهو قول حببه الشيباني واعتبره أقرب شبهاً بالكتاب والسنة (الحجة على اهل المدينة، ج 4، ص 6 5ــ 9 5).

( 1 5) السعدي، عبد الرحمن الناصر: المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص 3 6 1.

( 2 5) القرضاوي: فقه الزكاة، ج 1، هامش ص 5 6 2.

( 3 5) احكام القرآن لابن العربي، ج 1، ص 5 6.

( 4 5) نيل الاوطار، ج 4، ص 7 9 1.

( 5 5) الطرق الحكمية، ص 0 2. واعلام الموقعين، ج 4، ص 4 7 3.

( 6 5) الطرق الحكمية، ص 8 1ــ 9 1. كذلك: اعلام الموقعين، ج 4 ص 4 7 3.

( 7 5) الطرق الحكمية، ص 1 2.

( 8 5) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 8 4 2.

( 9 5) جاء في بعض الاحاديث المروية عن النبي (ص) ان نصف الصاع او المدّين من القمح قد جاء على لسان النبي ذاته (زاد المعاد، ج 2، ص 0 2). لكن الامام مالكاً انكرها كما انكر الاحاديث المروية عن الصحابة في جعلهم المدين للقمح، بل روى عن ابي سعيد الخدري انه نفى ان يكون مدين من قمح يجزي، حيث قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا آخذ بها. لهذا فهو يرى انه لا يجزي من القمح الا ما يجزي من غيره (البيان والتحصيل، ج 3، ص 9 9 4ــ 0 0 5. كما انظر: فتح الباري، ج 3، ص 3 7 3). لكن في القبال نُقل عن ابن المنذر قوله: ((لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي (ص) يُعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت الا الشيء اليسير منه. فلما كثر في زمن الصحابة رأوا ان نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير)). ثم اسند ابن المنذر عن عثمان وعلي وابي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وامه اسماء بنت ابي بكر: انهم رأوا في زكاة الفطر نصف صاع من قمح (فتح الباري، ج 3، ص 4 7 3. ونيل الاوطار، ج 4، ص 3 5 2).

( 0 6) قال البعض قد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الاطلاق. فتح الباري، ج 3، ص 3 7 3.

( 1 6) الام، ج 2، ص 1 7. وفتح الباري، ج 3، ص 2 7 3. وبلوغ المرام من ادلة الاحكام، ص 2 3 1. علماً ان البعض يرى ان اول من جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من غيره من الاشياء هو عمر بن الخطاب كما ذكر ذلك ابو داود، حيث ورد انه لما كان عهد عمر كثرت الحنطة فجعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الاشياء. وقد زعم الطحاوي ان الذي عدل عن ذلك عمر ثم عثمان وغيرهما، فروى ان عمر قال ليسار بن نمير: ((اني احلف لا اعطي يوماً ثم يبدو لي فأفعل، فاذا رأيتني فعلت ذلك فاطعم عني عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة او صاعاً من تمر او صاعاً من شعير)) (فتح الباري، ج 3، ص 2 7 3. وزاد المعاد، ج 2، ص 9 1). لذلك لما رخص السعر في خلافة الامام علي (ع) فانه جعل الزكاة لكل من تلك المحاصيل صاعاً. لكن في الصحيحين هو ان معاوية هو الذي قوّم ذلك حيث جاء في حديث ايوب ان ((صدقة الفطر صاع من شعير او صاع من تمر، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر بصاع من شعير)) وقد اعتبره ابن حجر هو المعتمد وردّ الاخبار التي تعتبر عمر هو البادئ (فتح الباري، ج 3، ص 2 7 3). لذا جاء عن الكثير قولهم بنصف الصاع من القمح، مثلما ورد عن عدد من الصحابة والتابعين (ابن حزم: المحلى ، ج 6، ص 2 2 4 وما بعدها).

( 2 6) نيل الاوطار، ج 7، ص 5 1.

( 3 6) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 7 8.

( 4 6) لكن على خلاف تلك الرواية روي انه سُئل ابن عباس عمن قتل مؤمناً متعمداً ثم تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال: ويحه وأنّى له الهدى؟ سمعت نبيكم (ص) يقول: ((يجيء القاتل، والمقتول يوم القيامة متعلق برأس صاحبه، يقول: ربِّ سلْ هذا لِمَ قتلني))، والله لقد أنزلها الله عزّ وجل على نبيكم، ثم ما نسخها بعد ما أنزلها (سنن ابن ماجة، ج 2، ص 4 7 8).

( 5 6) القرضاوي: وجوب تطبيق الشريعة الاسلامية، ص 8 3 1.

( 6 6) الخراج لابي يوسف، ص 9 7 1.

( 7 6) قيل انه اتى سعد بن ابي وقاص بأبي محجن الثقفي يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به الى القيد. لكن ابا محجن قال لإمرأة سعد - سلمى بنت حفصة -: اطلقيني ولك - والله عليّ - إن سلّمني الله ارجع حتى اضع رجلي في القيد، فان قُتلت استرحتم مني، قال فخلته حتى التقي الناس واستعمل فرساً لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحاً ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو الا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا مَلك، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر ابي محجن، وابو محجن في القيد، فلما هُزم العدو رجع ابو محجن حتى وضع رجليه في القيد فاخبرت سلمى سعداً بما كان من امره، فقال سعد: لا والله لا اضرب اليوم رجلاً ابلى للمسلمين ما ابلاهم، فخلى سبيله، فقال ابو محجن: قد كنت اشربها اذ يقام عليّ الحد واطهر منها، فأما اذ بهرجتني فوالله لا اشربها ابداً. وقوله: ((اذ بهرجتني)) اي اهدرتني باسقاط الحد عني (الخراج لأبي يوسف، ص 4 3. واعلام الموقعين، ج 3، ص 6ــ 7. ومروج الذهب، ج 2، ص 3 2 3ــ 4 2 3).

( 8 6) الطرق الحكمية، ص 8 1 و 2 2. واعلام الموقعين، ج 4، ص 8 7 3.

( 9 6) الطرق الحكمية، ص 1 2. كذلك: اعلام الموقعين، ج 4 ص 4 7 3.

( 0 7) القرضاوي: الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية والحاجات المعاصرة، حوار مع القرضاوي، ضمن: فقه الدعوة، ج 2، ص 3 5 1ــ 4 5 1.

( 1 7) جاء ان السيدة عائشة وعثمان كلاهما لم يقصرا في السفر بتأويل منهما، اذ قيل ان عائشة ظنت ان القصر مشروط بالخوف والسفر، فاذا زال الخوف زال سبب القصر (تفسير المنار، ج 5، ص 6 6 3ــ 7 6 3). كما ان جماعة من العلماء قالوا: ان المسافر مخير بين القصر والتمام، واختلف في ذلك الصحابة (ابن العربي: العواصم من القواصم، ص 8 7ــ 0 8).

( 2 7) شرح نهج البلاغة/ كتاب ( 3 5)، ص 8 3 4.

( 3 7) زاد المعاد، ج 2، ص 9 1ــ 1 2. كما انظر: فتح الباري، ج 3، ص 4 7 3. ونيل الاوطار، ج 4، ص 3 5 2.

( 4 7) الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 9، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة في الخيل الاناث السائمة، حديث 1، ص 7 7.

( 5 7) اذ هناك عدد من الروايات تفيد ان النبي كان يقضي باليمين مع الشاهد، ومن ذلك حديث ابن عباس الذي اخرجه مسلم وهو ((ان رسول الله قضى باليمين مع الشاهد)) (الام، ج 8، ص 9 9 4ــ 0 0 5. وبداية المجتهد، ج 2، ص 8 6 4). لكن تظل القضية موضع خلاف بين الفقهاء، حيث مال الغالبية الى جواز مثل هذا القضاء استناداً الى ما روي من الاحاديث النبوية، وخالفهم جماعة تمسكوا بعموم بعض الآيات وبعض ما ورد عن السنة النبوية، كالحنفية.

( 6 7) الطرق الحكمية، ص 8 5 1.

( 7 7) دراسات في الاختلافات الفقهية، ص 9 2 1.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار