اشكالية تغيير الأحكام
يحيى محمد
كثير ما يذكر من ان للأزمان تأثيراً على تغيير الاحكام. فهي قاعدة مسلّم بها لدى اغلب المذاهب الفقهية. لكن القائلين بهذه القاعدة لم يضعوا صيغاً ثابتة ومنتظمة يفهم منها حدود ما يمكن للزمان ان يؤثر فيه على تغيير الاحكام. فاذا كنا نجد ان الاحكام الاضطرارية التي تعنون ضمن العناوين الثانوية هي مما يدخل ضمن هذه القاعدة، وكذا الاحكام التي يتحدد نوعها ضمن طبيعة العرف المؤثر، فإنّا بخصوص ما يعد من الوسائل في الاحكام نرى صورتين في الفقه التقليدي: احداهما ترى ان الاحكام المنصوصة لا تقبل التغيير سواء كانت مقصدية او وسيلية، فأي تغيير لها من غير ضرورة واضطرار مؤقتين هو بمثابة الاجتهاد في قبال النص. ولا شك ان هذه الصورة تعد متسقة في ذاتها وإن كانت متخلفة من حيث عدم انسجامها مع تطورات الواقع. أما الاخرى فهي وإن كانت افضل حالاً من الاولى لما لديها من بعض المراعاة لتطور الواقع؛ الا انها تقف متذبذبة كدلالة على عدم اتساقها في ذاتها، حيث انها تتحيز لبعض الاحكام فتجيز تغييرها دون ان تفعل نفس الشيء مع مثيلاتها من الاحكام الاخرى وبغير سبب معقول ( 1).
نعم إن ما اجادته هذه الصورة هو ما نبهت عليه من ضرورة عدم الجمود على فتاوى القدماء واجتهاداتهم، مراعية بذلك اختلاف الظروف وتطورات الواقع، لكن دون ان توسع ذلك الى نواحي احكام النصوص الشرعية.
لنلقي في بادئ الأمر نظرة اولية على مجموعة من النصوص لعدد من الفقهاء المجددين وهم يؤكدون على لزوم العمل بتغيير الفتوى تبعاً للاحوال والظروف والزمان والمكان:
يقول شهاب الدين القرافي (المتوفي سنة 4 8 6هـ) في (الفروق): ((تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الايام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل اذا جاءك رجل من غير أهل اقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)) ( 2).
ويقول ابن عابدين في رسالته (نشر العرف): ((اعلم ان المسائل الفقهية إما ان تكون ثابتة بصريح النص وهي الفصل الأول، وإما ان تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولذا قالوا في شروط الاجتهاد انه لا بد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الاحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، او لحدوث ضرورة، او لفساد اهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه؛ أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد. ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه)) ( 3). وكذا يقول: إن ((المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة ان هذا العرف خاص او عام وانه مخالف للنص او لا)) ( 4). ويقول ايضاً: ((فهذا كله وامثاله دلائل واضحة على ان المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعات الزمان وأهله وألا يضيع حقوقاً كثيرة ويكون ضرره اعظم من نفعه)). ونقل عن البعض قوله: ((الفتوى على عادة الناس)) ( 5).
وقال السيوطي: ((تعتبر العادة اذا اطردت، فإن اضطربت فلا)) ( 6).
كما جاء في (الفواكه العديدة) للتميمي النجدي انه ((من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من تطبب للناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل والمفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان)) ( 7).
وقال ابو ليث: ((إن كثيراً من المسائل أجاب بها أصحابنا على عادة أهل بلدهم ومعاملاتهم، فينبغي لكل مفتي أن ينظر الى عادة أهل بلده في زمانه، فيما لا يخالف الشريعة.. وقد يرجع أحدهم عما كان يفتي به سابقاً لتغير الزمان فيفتي بغير ما كان يفتي به آنفاً)) ( 8).
وصرح الزيلعي نقلاً عن فقهاء بلخ من ان ((الاحكام قد تختلف باختلاف الأزمان)) ( 9).
وقال ابو مطيع البلخي: ((من لم يكن عارفاً بأهل زمانه جاهل)) ( 0 1).
وجاء في كتاب (الهوامل والشوامل) ان ابا حيان التوحيدي سأل مسكويه عن علة اختلاف الفقهاء في الافتاء في المسألة الواحدة، فيفتي احدهم مثلاً بتحليلها، واخر بتحريمها. فأجاب مسكويه بأن العبرة في ذلك هو اختلاف الزمان والمكان ( 1 1).
ومن المحدثين قال محمد عبده: ((كان ينبغي ان يكون للفقهاء جمعيات يتذاكرون فيها ويتفقون على الراجح الذي ينبغي ان يكون عليه العمل، واذا كان بعض المسائل رجح لأسباب خاصة بمكان او زمان ينبغي لهم التنبيه على ذلك، وأن هذا الحكم ليس عاماً وانما سببه كذا، لا انهم يجعلون كل ما قيل عن فقيه واجب الاتباع في كل زمان ومكان)) ( 2 1).
بل ان ((الواقع)) الذي نبّه الفقهاء على مقولة الزمان والمكان في تأثيرهما على تغير الاحكام هو ذاته الذي فرض نفسه على الشافعي ليغير الكثير من آرائه وفتاويه حين انتقل الى مصر فاطلق عليها بالمذهب الجديد في قبال مذهبه القديم. وهو ذاته الذي جعل الاخذ بالمصالح المرسلة والاستحسان مشروعاً. ويكفي ان نعلم انه بحكم الخبرة والممارسة العملية لابي حنيفة بالسوق والتجارة اتخذت فتاويه طابعاً خاصاً، حيث كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والاستحسان، خاصة حينما يتعلق الامر بموارد البيع والشراء ( 3 1). وكذا كان الامام مالك يعمل بالاستحسان والمصلحة المرسلة تأثراً بما كان عليه الخلفاء من طريقة في التعامل مع الامور المستجدة ( 4 1)، الامر الذي يعني تأثره بواقع الدولة واحكامها التي فرضها الواقع بقوة ( 5 1). وهو يتسق مع اقراره بان الاستحسان عبارة عن تسعة اعشار العلم ( 6 1)، حيث من مصادر الاستحسان الترجيح بالعرف والمصلحة، وكلاهما ينضمان تحت لواء الواقع، اي ان صياغة الاحكام تكون تبعاً لمراعاة الواقع، وذلك بجعل الاحكام ذات صبغة واقعية غير مجردة، استناداً الى مقاصد الشرع. لذلك صرح اصبغ اعتماداً على الامام مالك من ان المغرق في القياس يكاد يفارق السنة، وان الاستحسان عماد العلم ( 7 1).
لكن بالرغم من قيمة واهمية ما نقلناه من اقوال العلماء المنبهة الى ضرورة اخذ اعتبار الواقع في الافتاء دون الجمود على ما عليه اجتهاد السلف؛ الا ان ذلك لا يحل المشكل من اساسه، بل يبعث على صور التذبذب والازدواجية كما هو حاصل فعلاً لدى هذه الطريقة، ذلك انها لم تتبن موقفاً واضحاً ازاء تعاملها مع الاحكام الوسيلية للخطاب الالهي، فالكثير من الاحكام الشرعية كانت تعالج اوضاعاً مخصوصة يصعب سحبها الى واقع آخر، بله الى مختلف الظروف والامكنة والازمنة، رغم ان دلالاتها اللفظية الظاهرة تفيد الاطلاق وعدم التقيد بظرف ما او بسياق تاريخي محدد.
فنحن إزاء هذا المشكل نجد العلماء المجددين وإن اقروا مبدئياً تقسيم الاحكام الى ثابتة ومتغيرة كالذي نصّ عليه ابن القيم ( 8 1)؛ الا ان ما قصدوا اليه بالاحكام المتغيرة هي تلك التي تعود الى تطبيقات الحكم الشرعي الكلي والتي يصح تغييرها تبعاً لتغير بعض قيودها من العادات والاحوال والاعراف وما شاكلها، او ان من الاحكام ما كانت في الاصل تعالج موضوعات طارئة واضحة الخصوصية لا يصح سحبها على النحو العام. وكذا نجد على هذه الشاكلة قول جماعة ان بعض الاحكام تختلف فيما بينها تبعاً لاختلاف التدابير السياسية المتبعة؛ كل بحسب ظرفه وزمانه وما تقتضيه المصلحة، وهي التي اطلق عليها البعض بالاحكام الولائية والتي يمارسها المعصوم بصفته حاكماً ورئيساً للمسلمين لا بصفته نبياً ــ او ما على شاكلته كالامام المعصوم ــ مبلغاً للاحكام، كممارساته لشؤون الادارة والقضاء والسياسة.
ومع ان هذا التمييز للاحكام أخذ يروج في العصر الحديث تبعاً لضغط الحاجات الزمنية - إن لم نقل انه مستحدث لدى بعض المذاهب الاسلامية -، الا ان الاقرار به صراحة تمّ منذ زمن بعيد. ذلك اننا نجد عدداً من اقوال العلماء تشير الى التمييز الفاصل بين صنف الاحكام العامة الثابتة التي يأتي بها النبي للتبليغ حسب ما أُوحي اليه من تشريع ثابت، وبين صنف الاحكام المؤقتة التي يمارسها النبي باعتباره قاضياً تارة، وإماماً ورئيساً للمسلمين تارة اخرى؛ كالذي أشار اليه القرافي في تفريقه ((بين قاعدة تصرفه (ص) بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالامامة)) ( 9 1)، وكالذي تعرض له ابن القيم صراحة في كتابيه (اعلام الموقعين والطرق الحكمية). بل ونقل عما جاء في (الفنون) من انه ((جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية انه الحزم، ولا يخلو من القول به امام. فقال شافعي: لا سياسة الا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس اقرب الى الصلاح وابعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. فان اردت بقولك: (الا ما وافق الشرع) اي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن اردت لا سياسة الا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن الا تحريق عثمان للمصاحف، فانه كان رأياً اعتمدوه على مصلحة الامة، وتحريق علي الزنادقة في الاخاديد.. ونفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج)) ( 0 2). وإن كنا نرى ان جواب ابن عقيل بقوله بان السياسة يشترط فيها ألا تخالف ما نطق به الشرع، فيه ملابسة، ذلك ان العديد من الاحكام التي نصت عليها الشريعة وجدت تغييراً لدى الصحابة والفقهاء بتبرير ينساق من تغير الظروف والاحوال والمصالح، مع مراعاة مقاصد الشرع، ويكفي شاهداً على ذلك ما اجراه عمر بخصوص حكم سهم المؤلفة قلوبهم المنصوص عليه في القرآن، وكذلك قضية طلاق الثلاث ومسألة التسعير وغيرها مما ورد فيها النصوص الصريحة. لهذا كان الاولى ان يقال بان شرط السياسة هو ان لا تخالف روح الشريعة ومقاصدها، وليس الجانب الحرفي منها.
أما بخصوص الاحكام العادية فقد أقرّ العلماء تبعية الاحكام للعادات في الثبات والتغير. وقد سبق ان نقلنا نصاً للقرافي يؤكد فيه ضرورة الأخذ بهذا القانون، وهو في معرض كشفه عن لزوم تغيير فتاوى المجتهدين حين تجدد أعراف الناس وعاداتهم. مع ذلك نجد الشاطبي يتناول موضوع علاقة العادات بالاحكام الشرعية مباشرة بغير وساطة اجتهاد المجتهدين. فهو يرى لزوم النظر الى العوائد وإن إقامة التكليف لا يستقيم الا باعتبارها، ومع اختلاف العوائد تختلف الاحكام، فالشرع ذاته ((جاء بامور معتادة، جارية على امور معتادة)). وحيث ان منها ما هو ثابت واخرى متغيرة، لذا فان الاحكام المربوطة بهذه الاحوال تتبع ما هي عليه من ثبات او تغير، فتكون ثابتة بثباتها ومتغيرة بتغيرها ( 1 2). لذلك عبّر الشاطبي بقوله: (( تنزيل العلم على مجاري العادات تصحيح لذلك العلم، وبرهان عليه اذا جرى على استقامة، فاذا لم يجرِ فغير صحيح)) ( 2 2).
ومن الناحية المبدئية يضع الشاطبي بين العوائد الوجودية والشرعية رباطاً متسقاً، فحيث تنقسم العوائد الوجودية الى عامة مطلقة لا تختلف بحسب الاعصار والامصار والاحوال كالأكل والشرب والفرح والحزن والنوم واليقظة وما الى ذلك، والى عوائد تختلف من حيث تلك الظروف والحالات وتندرج ضمن هيئات تلك العوائد العامة او الكلية كهيآت اللباس والمسكن وما اليها.. فان في قبالها توجد عوائد شرعية تتخذ ذات التقسيم من الثبات والتغير، او الكلية والجزئية. فالعوائد الشرعية تابعة للعوائد الوجودية، وحيث ان العوائد الكلية هي الاصل والاساس الذي ترجع اليه العوائد الجزئية في العالم الوجودي الكوني فان الامر ذاته متحقق في عالم التشريع الذي جاء على وفاق ذلك، لهذا يظل الحكم الكلي الشرعي ثابتاً ابداً. فالعوائد الكلية أبدية قد وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيّن ذلك الاستقراء، وقد جاءت الشريعة على وفاقها، حيث ان أحكامها ثابتة لا تتغير. وعلى خلاف ذلك ما جاء في الضرب الآخر من العادات الجزئية التي بها يتعلق الظن لا العلم، الأمر الذي لا يصح أن يحكم بها على من مضى لاحتمال التبدل والتخلف، بخلاف ما هو الحال مع العادة الاولى (الكلية) ( 3 2).
على هذا فان الشاطبي وإن كان يرى بطلان رفع العوائد الشرعية باعتبار ان النسخ بعد النبي باطل ( 4 2)، الا ان ما قصده انما هو الرفع المطلق، او تغيير الحكم بكليته، وهو ما يعبر عنه بالنسخ لدى المتأخرين، أما إبدال تطبيقات الحكم الكلي لارتفاع قيودها او عاداتها فالامر يختلف. لهذا نجد ان امثلة الشاطبي في علاقة العادة بالاحكام هي من الموارد البينة التي تتعلق بالتطبيقات وليس بالحكم الشرعي الكلي. فليس المراد من تغيير الاحكام الشرعية هو تغيير الحكم الكلي بما هو حكم عام، وانما تطبيقاته المتأثرة بتغاير الاعراف والعادات، كما في موارد الالفاظ والمعاملات السلوكية، كالالفاظ المستخدمة بالشتم والنذور والأيمان والطلاق والوصية، وكذا في المعاملات السلوكية، اذ يظل ان الحكم عند الشاطبي يتنزل بحسب عادة الناس، اي انه كيفما تكون العادة فالحكم يكون بحسبها وليس بحسب غيرها ( 5 2)، ومن ذلك - كما سبق ذكره - كشف الرأس حيث يختلف الحكم فيه بحسب اختلاف عادات الناس فيه وتصوراتهم حوله، اذ النظر اليه في البلاد المشرقية هو غير النظر في البلاد المغربية ( 6 2). ومثله انه بحسب العادة والعرف يتقرر الحكم في قبض الصداق لصالح أحد الزوجين المتنازعين بعد الدخول، فلو أن هناك مجتمعين يعملان بعادتين متضادتين لكان الحكم مختلفاً، فهو لصالح الزوج بحسب احدى العادتين، ولصالح الزوجة بحسب العادة الاخرى، مع ان الحكم من الناحية المبدئية او الاصل يظل واحداً لا اختلاف فيه رغم تغاير تطبيقاته ( 7 2). هكذا تظل الاحكام الكلية لدى الشاطبي ثابتة لا تتغير، اذ على رأيه ان ((اختلاف الاحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في اصل الخطاب، لان الشرع موضوع على انه دائم ابدي.. لم يحتج في الشرع الى مزيد. وانما معنى الاختلاف ان العوائد اذا اختلفت رجعت كل عادة الى اصل شرعي يحكم به عليها)) ( 8 2).
وعليه فكل ما سبق لا يعد تغييراً للحكم الشرعي بكليته، وانما تغيرت مصاديقه وتطبيقاته، اي ان التغير في الاحكام هنا هو تغير بموارد التطبيق، وأن للحكم الكلي الواحد قابلية على التطبيق لصور كثيرة عديدة بحسب مواصفات سببية خاصة. وهذا ما أراد تأكيده السيوطي بقوله: ((ان المفتي حكمه حكم الطبيب ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان، فالمفتي طبيب الاديان وذلك طبيب الابدان، وقد قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس احكام بحسب ما احدثوا من الفجور. قال السبكي ليس مراده ان الاحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصور الحادثة، فانه قد يحصل بمجموع امور حكم لا يحصل لكل واحد منها فاذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا ان ننظر فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكماً خاصاً.. ثم قال السبكي في فتاويه ما معناه: يوجد في فتاوى المتقدمين من اصحابنا اشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة لأنها وردت على وقائع، فلعلهم رأوا ان تلك الوقائع يستحق ان يفتى بها بذلك ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره)) ( 9 2). علماً بانه سبق للقرافي ان علق على مقولة عمر بن عبد العزيز ((تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور))، فقال بأنه ((لم يرد رضي الله عنه نسخ حكم بل المجتهد فيه ينتقل له الاجتهاد لاختلاف الاسباب)) ( 0 3). وكذا يمكن ان يقال نفس الشيء فيما نصّ عليه مالك بقوله: ((تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا)).
لهذا يرى ابن القيم انه ما لم تراع الشروط والقيود الخاصة بالحكم فان اسقاطه على الواقع سيسبب الضرر والمشقة مما هو خلاف مقصد الشرع الذي هدفه تحقيق مصالح الناس، حيث في هذه الحالة تكون الاحكام قد طبقت على غير مصاديقها الحقيقية، او تلك التي لا يلتفت الى اسبابها الخاصة. فهو يقول في فصل ((في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد)) من كتابه (اعلام الموقعين): ((هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل اليه، ما يعلم ان الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فان الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل)) ( 1 3).
فابن القيم في هذا النص يلوّح الى ضرورة مراعاة القيود والشروط المتعلقة بالحكم الشرعي كي لا ينشأ منه ضرر حينما يُطبق على نحو تعسفي، وكمثال على ذلك ما سبق اليه عمر بن الخطاب في وقفه لحد السرقة عام المجاعة.
على ان مثل تلك النصوص التي نقلناها تثبت ضرورة اخذ اعتبار الاحوال الخاصة المرتبطة بالحكم، اي الشروط والقيود التي على المجتهد ان يحددها اعتماداً على صريح النص الشرعي او بنوع من الاجتهاد. مما يعني ان ذات الحكم يجد مجاله من التطبيق بحسب شروطه الخاصة، وهو ليس بصدد البحث عن اشكالية تغيير الحكم الشرعي بكليته مما يطلق عليه بالنسخ او النسأ. وذلك من منطلق زوال كافة ظروف الحكم واحواله المؤثرة وإن لم تذكر بالنص.
ويلاحظ ان تغيير الاحكام المستندة الى تطبيقات الحكم الشرعي الكلي يجعل اغلب الفتاوى والاحكام قابلة للتبديل، وهو امر يبرر ما قاله عمر بن عبد العزيز ومالك من انه تنشأ فتاوى للناس بقدر ما أحدثوا. والى ما سبق يحتمل ان يكون مراد احمد الناصري في تعليقه على ما قاله الشافعي بما معناه: قرأت التاريخ لأستعين به على الفقه. فعلق عليه الناصري بقوله: ((ان جلّ الاحكام الشرعية مبني على العرف، وما كان مبنياً على العرف لا بد ان يطرد باطراده وينعكس بانعكاسه)) ( 2 3). على هذا فان الاختلاف الحاصل بين الفقهاء طبقاً لما سبق قد ينشأ بما كان يعرف لديهم بانه اختلاف عرف وزمان لا اختلاف نظر وبرهان ( 3 3).
مشاكل الطريقة التقليدية
يبدو من الواضح كما عرفنا ان علماءنا المجددين لا يقفون عند حد المسطور من فتاوى غيرهم من السلف، كما انهم يقرون تغير الاحكام الشرعية ضمن ضوابط، إما لضرورة مؤقتة، او طبقاً لكون الاحكام عادية او لأنها ولائية تختلف باختلاف الاوضاع. لكن رغم ذلك فلا يخلو الامر من جملة اشكالات اساسية كالاتي:
1ــ الملاحظ انه لا يوجد تمييز حاسم يفصل الاحكام العادية المتغيرة والولائية عن غيرها من الاحكام. لذلك فانه بخصوص الاحكام الولائية سبق لابن القيم ان اشار الى ان ما أجراه النبي وخلفاؤه من سياسة جزئية بحسب المصلحة قد أوهمت الكثير بأنها شرائع عامة لازمة للامة الى يوم القيامة ( 4 3). بل يزداد الامر فضاعة عند اولئك الذين لا يعولون الا على ما نطق به الشرع، فيرفضون كل ما يستند الى مرجعيات اخرى لمعرفة الحق والصواب، وذلك للتوهم السائد بأن كل ما ليس مستمداً من الشرع فهو مخالف له، وبالتالي فهم غير مستعدين لتفسير احكام النصوص تبعاً للنحو الولائي او العرفي او غير ذلك. مما جعل ابن القيم يندد بهم، معولاً على ضرورة فهم الواقع والشريعة وتنزيل أحدهما على الآخر بلا انفصال ولا قطيعة، حيث يقول تحت عنوان (وجوب تحري الحق والمصلحة): ((وهذا موضع مزلة اقدام، ومضلة افهام. وهو مقام ضنك. ومعترك صعب. فرطت فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق وجرّؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة الى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً: انها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع. لعمر الله انها لم تناف ما جاء به الرسول، وان نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم. والذي اوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر. فلما رأى ولاة الامور ذلك، وان الناس لا يستقيم لهم أمر الا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة احدثوا من اوضاع سياستهم شراً طويلاً وفساداً عريضاً، فتفاقم الامر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك)) ( 5 3).
ومن الواضح ان تغييب الواقع ومنعه من المشاركة في الفهم مع الخطاب هو السبب وراء الكثير من المخلفات الفقهية التي ينطبق عليها ما ندد به ابن القيم، إن لم نقل ان هذه السقطة ظلت عالقة بالنتاج الفقهي دون ان تنفع معه مقولات التعويل على الاحكام الولائية والعادية، باعتبار ان الخضوع لها لم يتم في الغالب الا على نحو الضرورة والاضطرار، او على الاقل انه لم يتبين المنحى المنهجي الذي فيه يتحدد ما هو قابل للتغيير عن غيره، وذلك بسبب الخلل الوارد في عدم اخضاع الواقع في الفهم والدرس ومن ثم تنزيل الشريعة عليه، ويزداد الامر اهمية بالنسبة للقضايا العامة مثل الشؤون السياسية. وقد سبق لابن خلدون ان لوّح الى ذلك في نقده للطريقة الفقهية، اذ جاء في فصل من مقدمته بعنوان: ((في ان العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها)) ذكر فيه بأن العلماء معتادون على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل امور كلية عامة ومطلقة ثم يطبقونها على الوقائع الخارجية، او يقيسون الامور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الامر الذي يجعلهم يقعون في كثرة من الغلط حين ينظرون في السياسة باعتبارها تحتاج الى مراعاة الواقع، والنظر في كل حالة جزئية فيه بما يلائمها من الاحكام، على العكس مما يفعله الفقهاء ومن على شاكلتهم من أهل الذكاء والكيس من أهل العمران ( 6 3).
على ان بعض الفقهاء كان يدرك اهمية الواقع في الافتاء فيقول: ((لا بد للحاكم من فقه في احكام الحوادث الكلية وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع)) ( 7 3). وعلى شاكلته قال بعض الفقهاء المعاصرين: ((والمجتهد الحق هو الذي ينظر الى النصوص والأدلة بعين، وينظر الى الواقع والعصر بعين اخرى حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها)) ( 8 3).
2ــ مثلما لا توجد تفرقة منهجية محددة بين كل من الاحكام الولائية والعادية العرفية، وبين غيرها من الاحكام؛ فانه لا توجد كذلك تفرقة في المعاملة المبدئية بين الاحكام الموضوعة وضعة وسيلية وبين غيرها المعدة مقصدية. فكلا النوعين من الاحكام منظور اليهما نظرة الثبات، وعدتا احكاماً مطلقة مغلقة طبقاً للنهج الماهوي، باستثناء القليل منها والتي تعامل معها الفقهاء معاملة ((انتقائية)). ذلك ان من الفقهاء من يعترف احياناً بعرفية بعض الاحكام او ظرفيتها غير الثابتة رغم اطلاقية النص، وقد مرّ علينا عدد من ذلك مثل ما روي من نهي النبي (ص) عن تدوين الحديث: ((من كتب عني غير القرآن فليمحه))، حيث استمر العمل بهذا النهي او كراهته حتى مطلع القرن الثاني، ثم عاد العلماء الى التدوين بأمر من عمر بن عبد العزيز او من جاء بعده من الخلفاء العباسيين. وكذا مثل موارد الزكاة لدى البعض، وشرط القرشية لدى جماعة، وكيفية المبادلة في الاصناف الستة التي عليها حديث الربا، كما عند الشيخ ابي يوسف الذي خالفه جمهور المجتهدين، بل واتهمه البعض بمخالفته للنص الصريح دون ان يوافقوا على تنزيل النص منزلة العادة والعرف.
ويلاحظ ايضاً ان الفقهاء اقروا بمشروعية ما فعله الخليفة الثاني من تغيير بعض الاحكام بسبب تجدد الظروف، كما هو الحال في حكم سهم المؤلفة قلوبهم المصرح به في القرآن. والواقع لولا ان هذا الخليفة فعل ما فعل لكان من الصعب ان يجرؤ فقيه على التحرش بمثل هذه الاحكام، وذلك تحسباً من السقوط في حبال الاجتهاد في قبال النص، خاصة حينما يكون الحكم صريحاً غير مقيد ومنزلاً من قبل الله تعالى في القرآن الكريم. لهذا لا زال الاجتهاد العمري في سهم المؤلفة قلوبهم لم يفسر تفسيراً موحداً لدى الفقهاء، فاذا غضضنا الطرف عمن يتهم الخليفة العادل بأنه اجتهد في قبال النص الصريح، كما هو رأي جماعة من الفقهاء ( 9 3)، نرى الفقهاء الآخرين بين موقفين، حيث ذهب البعض الى ان ما فعله انما هو من النسخ المجمع عليه لدى الصحابة، فقيل ان ما حكم به لم ينكر من قبل الصحابة كافة، الامر الذي يدل على اجماعهم في نسخ الحكم القرآني ( 0 4)، وبالتالي حكم الكثير من الفقهاء بعدم عودة هذا السهم، كما هو الحال مع الامام مالك وفقهاء الكوفة ( 1 4). أما البعض الآخر فلم يتقبل رفع الحكم القرآني كلية، ويبرر هذا الرأي كون عمر اجتهد في الموضوع فاستتبع ذلك حكمه الجديد، حيث ان الحكم يتبع سببه، وعند معرفة السبب يتحدد الحكم، وهذا ما حصل مع الخليفة الراشد، حيث حدد السبب بالذات فبنى عليه حكمه ( 2 4). لهذا قيل انه يجوز ان يعود حكم ذلك السهم عند الحاجة اليه وعندما يرى الامام ذلك، وهو قول ابن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز والشافعي ( 3 4). لكن سواء هذا الرأي او ذاك فقد ظل حكم عمر هو السائد في الواقع تماشياً مع السلوك الاستصحابي الذي عليه الفقهاء في ثبات الاحكام وديمومتها.
ونفس الشيء يقال فيما خلّفه هذا الخليفة من حكم بخصوص قضية طلاق الثلاث، حيث ذهب جمهور الفقهاء على ابقاء هذا الحكم، رغم ما في الامر من تناقض، ذلك ان الفقهاء بين امرين لا ثالث لهما، فاما ان يعولوا على لزوم ابقاء الاحكام الشرعية كما هي من غير تغيير وتجديد، وهو أمر يفضي بهم الى ترك ما فعله عمر (رض) وعدم الالتفات اليه، مثلما صنع ذلك الاتجاه الشيعي، او يعولوا على تجويز تغيير الاحكام بحسب الظروف والمصالح، وفي هذه الحالة ليس من حقهم ان يستصحبوا الحكم الذي رآه عمر. أي في كلا الامرين لا يصح الجمود عند الاجتهاد العمري، فهو إما ان يُرفض طبقاً للفرض الاول، او يُقر ولكن يسمح بتجاوزه عند تغير الظروف. مع ان ما فعله الفقهاء هو غير هذين الامرين فسقطوا في شباك التناقض، وذلك تأثراً بفعل المنهج الماهوي والجمود على حرفية الاحكام، حيث انقلب الحال مما هو عبارة عن توقف عند حدود النص الشرعي الى تجاوز ذلك بالجمود على فتاوى السلف طبقاً لمقولة ((ليس لنا ان نزيد شيئاً على ما قاله السلف الصالح)) ( 4 4)، فاصبح الاجتهاد بمنزلة النص المنزل، والنص بمنزلة الاجتهاد، فهل هناك تناقض اكبر من هذا؟!
ومن الجدير ذكره هو ان بعض المعاصرين التفت الى مفاد ما صنعه عمر (رض) من اجتهاد رغم وجود النص الصريح، فبنى على ذلك رأيه في صحة الاجتهاد حتى مع وجود النص القطعي الدلالة والثبوت مع قيد ان يكون متعلقاً بالمتغيرات الدنيوية، حيث يكون الحكم متوقفاً في مثل هذه الصورة على ما يحققه من مقصد ومصلحة وليس على صراحة النص وحرفيته ( 5 4).
3ــ يلاحظ ان ما أقره الفقهاء في شرعية تغيير الاحكام تبعاً للصور التي سلف الحديث عنها لم يكن مورد اتفاق جميع الفقهاء ومذاهبهم، وهم حتى في دائرة المتفقين لا يتفقون على موارد تطبيق المنهج المتبع، فما يراه بعضهم من ان الحكم يجوز تغييره قد لا يراه غيره ممن يوافقونه من حيث المبدأ. يضاف الى انه حتى في دائرة الفقيه الفرد قد يطبق مبدأ التغيير في بعض الاحكام التي يُظهرها النص مظهراً مطلقاً من غير قيود خاصة تقيدها، لكن دون ان يعمم ذلك على غيرها من الاحكام التي تخضع كسابقتها ضمن طاولة الاحكام الوسيلية والتي يمكن فهمها طبقاً للسياق الظرفي او التاريخي. على هذا لا يوجد منهج محدد يميز بين الاحكام التي يصح تغييرها عن الاحكام الاخرى الثابتة، بل الاصل لدى الفقهاء هو بقاء الحكم واطلاقيته ما لم يدل دليل يفرض نفسه على تغيير الحكم. وقد سبق ان صرح المحقق القمي في (قوانين الاصول) معتبراً ان اغلب الاحكام هي مستمرة بالظن القوي، ومؤكداً بان العقل والنقل يمكنهما ان يرفعا هذا الاستمرار ( 6 4). لهذا ففي الغالب - ولمزيد من الحيطة - ان العلماء لا يرفعون يدهم عن الحكم المنصوص فيه الا عند الضرورة، او عند كشف الواقع على مرحلية الحكم بما لا يدع شكاً في ذلك، او تقليداً للسلف كما يشهد عليه موقف الفقهاء من الاحكام التي غيّرها عمر بن الخطاب. وتظل القاعدة العامة لدى هؤلاء هو عدم تنزيل التشريع ((الوسيلي)) منزلة الظرف او الواقع السائد. وكمثال على ذلك موقفهم ازاء الحديث النبوي حول موارد الرهان في السبق، او تفسيرهم لآية ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)) وما ينطوي ذلك على بعض الاحكام الخاصة بلزوم اعداد رباط الخيل والقوة بحسب ما ورد معناها في الأحاديث الصريحة، وكذا في تعاملهم مع الحكم الوارد في آية المصابرة، وغير ذلك مما له ارتباط بالاحكام الوسيلية التي تبيّن حالياً انها ظرفية لا مطلقة.
***
هكذا يتبين لنا تناقض الطريقة الفقهية التي فتحت نفسها على مقولة جواز تغيير الاحكام طبقاً للعرف والعادة، او تبعاً لتأثير الزمان والمكان. فهي من ناحية تعترف بضرورة تغيير الفتاوى التي عليها الفقهاء القدماء حين يتغير الواقع او الزمان والمكان، كذلك انها تتقبل احياناً العمل بتغيير الاحكام الشرعية بفعل تغيرات الواقع او الظروف تبعاً لربط الحكم بعادته او بمقصده ومصلحته، لكنها مع ذلك لا تضع ضوابط خاصة يفرز من خلالها ما يقبل التغيير عن غيره، بل لما كان الاصل لديها هو بقاء الحكم ثابتاً ما لم يثبت خلافه طبقاً للنهج الماهوي، وحيث ان اثبات الخلاف هو امر اجتهادي قد يستفاد مما هو خارج عن النصوص الشرعية، لذا فغالباً ما يتعرض القائل بالخلاف الى التشنيع باتهامه انه يجتهد في قبال النصوص الصريحة، كما جرى الحال مع ابي يوسف الذي حاول ان يربط بعض ما ورد في النص الخاص بالربا بالعرف السائد في عهد الرسالة. ورغم ان قائمة تغيير الاحكام الشرعية للنصوص عديدة، وجميعها لها موجهاتها الاجتهادية، ورغم ان الأخذ بمقولة جواز تخصيص حكم النص وتقييده بالاجتهاد مسلّم بها لدى الكثير من المذاهب الفقهية، كما رغم ان الصحابة كثيراً ما كانوا يجتهدون في النصوص الصريحة وينسبونها الى ظروفها الخاصة مثلما هو حال الممارسات العمرية؛ فان الفقهاء مع كل هذا ظلوا ينادون بعدم جواز تغيير حكم النص القاطع الصريح، بل ويشنعون على كل من يسعى لفهم جديد من شأنه ان يجعل في احكام النصوص مرونة بقابليتها على التغير، وشاهد الطوفي الحنبلي (المتوفي سنة 6 1 7هـ) ليس ببعيد عنا، حيث لقي من العنت والتشهير والاتهام الشيء الكثير لدى الفقهاء، حتى شوّهت الطريقة التي دعا اليها ولم تفهم على ما هي عليه.
هكذا نعود فنقول: نحن نقف في مفترق طرق، فاما ان نتبع الطريقة الحرفية ونرفض اي امكانية لتغيير الاحكام الوسيلية كتلك التي تحدد موارد الزكاة او السبق والرهان بدعوى انها منصوصة من قبل الشرع ولا اجتهاد في قباله ( 7 4)، او اننا نمدد المساحة لقبول مبدأ جواز التغيير ليشمل مختلف الاحكام الوسيلية عندما يقتضي الامر ذلك. ومن الخطأ ان نجزئ في الأمر فنحكّم مبدأ التغيير على بعض الاحكام دون غيرها مع انتفاء العلة في الترجيح.
فالسؤال المطروح هو متى لا يجوز تبديل الاحكام ؟ فالفقهاء يتفقون على أن النص إن كان صريحاً وقاطعاً في سنده ودلالته فان حكمه يكون ثابتاً، وكما يقول الاستاذ بدر المتولي عبد الباسط: ((فالاحكام التي اعتمدت على دليل قطعي في ثبوته كالقرآن والاحاديث المتواترة، والاجماع الذي توفرت شروطه، ونقل الينا نقلاً متواتراً، وقطعي في دلالته على معناه، بمعنى ان النص لا يحتمل الا هذا المعنى الواحد، الاحكام التي اعتمدت على هذا الدليل احكام ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل مهما تعاقبت الازمان وتغيرت الاحوال، كقوله تعالى ((وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احساناً))، وكقوله جلّ شأنه ((وأحلّ الله البيع وحرم الربا))، فهذه الآية قاطعة في حل البيع وحرمة الربا، ولكن ما هي البيوع التي أحلها الله وما هو الربا الذي حرمه الله فهذا مجمل تكفلت السنة بيانه بما اعطي الرسول (ص) من حق البيان، ومثل ذلك ما اجمع عليه علماء الاسلام من احكام كحرمة زواج المسلمة بغير المسلم وان كان كتابياً وكتوريث الجد والجدة عند عدم الاب والام الى كثير من الاحكام التي أُجمع عليها ونقل الينا هذا الاجماع نقلاً متواتراً ( 8 4).
وهذا النص الذي نقلناه لا يخلو من ايهام. فاذا غضضنا الطرف عما في بعض الامثلة التي ذكرها؛ من حيث انها ليست قاطعة في دلالتها التفصيلية على خلاف ما صوره النص، كما في الربا والبيوع الذين هما من حيث التفصيل مورد اختلاف بين العلماء، فموارد الربا مختلف حولها، كما ان بعض البيوع قد تحرم رغم عدم وجود نص خاص عليها، بل لما يعلم او يظن انها تجلب ضرراً معتداً به، وعليه ففي كلا الحالين ان النص الشرعي لا يفيد الدلالة القاطعة على المعنى الواحد لا غير، بل هو لذات السبب ليس بمنئى عن تخصيص العلماء له بادلتهم الاجتهادية، كما في الاستحسان وغيره.. لكن بغض النظر عن ذلك فان النص السابق يتوقف مبدئياً عند الموارد التي يفترض فيها قطع في دلالة النص الشرعي بما لا يخرج عن المعنى الواحد، بينما يسكت في الحالات التي يحتمل ان يكون للواقع دور في تحديد دلالة النص. ذلك اننا نجد نصوصاً صريحة في معناها، لكنها ساكتة فيما اذا كان للواقع او الظرف دور في تحديد هذا المعنى، وهي ما تشكل اغلب الاحكام، خاصة تلك التي تعد من احكام الوسيلة. فما هو العمل ازاءها، هل تُعامل مثل الاحكام القليلة التي لا تقبل التغيير إكتفاءاً بالنص طبقاً للنهج الماهوي، او يلاحظ ما هو عليه الواقع ايضاً تبعاً للنهج الوقائعي، وبالتالي تكون عرضة للتغير والتبديل؟ وبحسب الفرض الأخير نرى ان صفة القطع ووضوح الدلالة في الاحكام يكون على النحو النسبي، ذلك ان معناها واضح في النص وعلاقته بالواقع الذي نزلت فيه، الا ان الأمر يختلف من حيث علاقتها بغير ذلك الواقع، وبالتالي لا بد من مراعاة الواقع الآخر مع أخذ اعتبار مقاصد الشرع، الأمر الذي يجعلها قابلة لأن تكون عرضة للتغير والتبديل بنوع من القطع او الاطمئنان ( 9 4).
لنرَ مثلاً ما جاء في آية المصابرة ((الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفاً، فانْ يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإنْ يكن منكم الف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين)) والتي نسخت ما قبلها في قوله تعالى : ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإنْ يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)). فالملاحظ ان الآية فيها دلالة صريحة على الحكم. وواضح ان الحكم المعني هنا هو من احكام الوسائل لا المقاصد والغايات. لكن الغالب في الطريقة التقليدية هو انها أجرت الحكم بشكل ثابت لا يقبل التغيير والتبديل، من دون مراعاة لدخالة الواقع والظروف، فانكشف اليوم خطأ هذا التقليد بفضل التطورات الحديثة، وتبين ان حكم الاية لم يكن مناسباً بغير الظرف الذي نزلت فيه. وبعبارة اخرى انه لو صدقت مقولة عدم جواز تبدل الاحكام عند وجود النص الصريح مع بقاء الموضوع بمعناه التقليدي؛ لكان من الواجب - على الاقل - ان يظل حكم تلك الاية ساري المفعول حتى يومنا هذا، مع ان استمرار مثل ذلك الحكم يعد عبثاً لا يُعقل ولا يقبل التطبيق في أغلب الاحيان، حيث لم تعد للكثرة والقلة في الحرب ذلك التأثير بقدر ما يعود الى قوة الآلة الحربية. فلو افترضنا حرباً قام العدو خلالها بمهاجمة جبهة من جبهات المؤمنين بالسلاح الجوي المتطور، ولنفترض ان المؤمنين حينها كثيرون لكن لم يكن لديهم من الآلات المتطورة ما بوسعهم الوقوف بوجه ذلك السلاح وصدّه؛ فهل يُعقل ان يطلب منهم البروز والبقاء على حالة المواجهة في المعركة من غير فرار بحجة كثرة العدد؟! ولو فرضنا العكس من حيث ان السلاح الأقوى كان بيد عدد قليل من المؤمنين، فهل يعقل تسويغ لهم العذر في عدم تنفيذهم مهام القتال بحجة ان العدو يفوقهم من حيث العدد أضعافاً كثيرة، وذلك اعتماداً على حرفية حكم نص الآية الآنفة الذكر؟!
مع هذا لا بد ان نعترف بأنه ليس جميع الفقهاء من فسّر الاية تبعاً لاعتبار الضعفية في العدد رغم ان النص صريح في تعيين ذلك، ورغم ما قيل من وجود الاجماع عليه كالذي ذكره ابن رشد من ان ((معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم هو الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى : ((الآن خفف الله عنكم..)))). ذلك ان هناك من شذّ عن هذا التقليد المتبع، حيث ذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك بأن الضعف انما يعتبر في القوة لا في العدد، وانه يجوز ان يفر الواحد عن واحد اذا كان أعتق جواداً منه وأجود سلاحاً وأشد قوة ( 0 5). كما ذكر صاحب (مواهب الجليل) بأن هذه الآية حملها الجمهور على ظاهرها من غير اعتبار بالقوة والضعف والشجاعة والجبن، وحكى ابن حبيب عن مالك وعبد الوهاب ان المراد بذلك القوة والتكاثر دون تعيين العدد ( 1 5). كذلك قال المقداد السيوري من علماء الامامية الاثني عشرية: ((ان مدلول الآية وجوب ثبات الجمع لمثليه وانه لا يجب لو كان العدو اكثر من الضعف، فعلى هذا هل يجوز انهزام مائة بطل عن مائتي ضعيف، وواحد من اثنين أم لا؟ الاولى لا يجوز لأن العدد معتبر مع تقارب الاوصاف، فعلى هذا يجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظن العجز، وفيه نظر)). ثم قال: ((لو انفرد اثنان بواحد هل يجب الثبات؟ احتمالان من كونهما لم يزيدا على الضعف، ومن جواز اختصاص الحكم في الاية بالجماعة، اذ الهيئة الاجتماعية لها اثر في المقاومة، وهو الاقرب)) ( 2 5).
ويلاحظ انه على الرغم من اهمية مثل هذه الآراء التي فهمت الاية لا بمجرد النص، الا انها لا زالت مشدودة الى اصالة الضعفية الواردة في حكم الاية الكريمة، مع ان التعويل على ضعفية القوة او تقارب الاوصاف ليس حلاً لأغلب تعقيدات الحروب الجارية اليوم. صحيح ان ذلك ينطبق في حالة الحروب البدائية او تلك التي تعتمد على الجهود الذاتية للجماعة المقاتلة، الا ان الحال مع الحروب ذات الاسلحة المتطورة الفتاكة لا يمكن قياسها استناداً الى مبدأ الضعفية، ناهيك عما يمكن ان تلعبه سائر المؤثرات الاخرى من دور هام في تحديد مدى لزوم الثبات والمصابرة، فالتحصينات الجغرافية مثلاً تقوي من لزوم الثبات، وكذا ان طبيعة مشروعية القتال لها دخالة مؤكدة في التأثير على قوة ذلك اللزوم، فالغرض حينما يكون لأجل تحرير بلد محتل يفرض ثباتاً أقوى بكثير من حرب تدور لأغراض ثانوية.. وهكذا مع سائر الادوار الاخرى التي يمكن ان تؤثر في تحديد ما يلزم من ثبات ومصابرة. والحال ذاته يصدق حتى لو اكتفينا بتقدير القوة القتالية من حيث فعالية الآلات الحربية فحسب. فالقوة حينما تتعاظم يصبح فارقها عن نصفها كبيراً ليس من السهل السيطرة عليه. وبحسب منطق الاحتمالات ان احتمال الغلبة يكون لصالح القوة المتفوقة ضعفاً اكثر فاكثر كلما كانت هذه القوى كبيرة وضخمة، طالما انه في هذه الحالة يكون الحسم معتمداً بدرجة كبيرة جداً على طبيعة الالة الحربية وليس على المقدرة الذاتية للجماعة وشجاعتها مثلما كان يجري في الحروب القديمة، اي ان الغلبة للقوة المتفوقة ضعفاً تزداد احتمالاً مع كل ازدياد مضطرد لحجم القوى الفاعلة في الحرب. هذا يضاف الى ان من القوى ما لا يدخل ضمن موازنات تماثل المواصفاة، حيث قلما تكون الحرب اليوم قائمة بين صور متماثلة في السلاح، فالمدفع غير الطائرة، وهما غير السلاح الاشعاعي او الكيميائي، بل حتى في الصنف الواحد من الاسلحة يوجد تفاوت بليغ في نوعية السلاح، فالسلاح الجوي كثيراً ما يتفاوت تفاوتاً كبيراً في قدرته القتالية، وكذا بخصوص سائر الاليات الحربية، فكيف يمكن مع مثل هذا الحال ان يُعمل بمبدأ الضعفية، وما فائدته في حرب دائرة بين فئتين احداهما لديها القوة التي يمكنها ان تلوح العدو بطول المدى على خلاف الثانية؟
وعليه ليس هناك من مناص سوى الاسترشاد بحكم الاية طالما انها من احكام الوسيلة، فمثلها كمثل حكم اية رباط الخيل من حيث ان الامر باعدادها هو من الوسائل التي لا يمكن فهمها على النحو المطلق المغلق. ويظل الحكم الذي يمكن استخلاصه من مجمل الايتين الناسخة والمنسوخة معتمداً على المقصد الشرعي المستوحى فيهما، وهو وجوب الثبات وعدم الفرار ما امكن لذلك سبيلاً ، حيث يمكن تحديده نسبياً في ساحات الحرب بحسب تقدير اهل الخبرة.
موضوع الحكم وتحليل عناصره
مما سبق يتضح أن تغير الحكم ليس بالضرورة يُبنى على تغير ((الموضوع)) بمعناه التقليدي. فقد يكون هذا الاخير على ما هو عليه، ومع ذلك يجوز أن يتغير الحكم تبعاً لتغير الظروف والاحوال، وذلك يتوقف على ادراكنا لمقاصد الشرع. مما يعني أن الغاء حكم النص ليس على نحو الالغاء المطلق، بل على نحو ((التعليق)) حتى يحين تكرر الظروف أو الخصائص المؤثرة على الحكم من جديد، ولو على الصعيد النظري، ما دامت هناك ظروف يستبعد أن تعاد نفسها مرة أخرى. وليس هذا باجتهاد في قبال النص الذي لا نشك في النهي عنه، بل هو فهم لروح الخطاب والنص عبر الدلالات والقرائن المحيطة به من هنا وهناك، طالما أن التفكير منبعث من النظر الى مقاصد الشرع ذاتها لا الحرفية في الاحكام. وعليه لا بد ان يُنظر الى النص بما له من علاقة بالواقع الذي يخصه، فلو تغير الواقع الخاص لتغير الحكم الذي يخصه بالتبع، وقد سبق ان عرضنا اقوال بعض العلماء في العلاقة بين الحكم والعادة، وأن الاول يجري مجرى العادة في الثبات والتغير، فحيث ان العادة هي العلة في الحكم فان الحكم يتبعها وجوداً وعدماً، وبالتالي فحينما تطرأ عادة حادثة جديدة فان مصير الحكم لا بد ان يتغير، وهذا على حد قول ابن عابدين لا يعد مخالفة للنص، بل هو اتباع له ( 3 5). نعم ان هناك أحكاماً لا تقبل التغيير وهي بمثابة أم الاحكام ومصدر التشريع، كمقاصد الشرع الاساسية مثل الحكم بالعدل ونفي الضرر وغير ذلك، كما ان هناك أحكاماً فرعية لها القابلية على الثبات - نسبياً - باعتبارها تنسجم مع مختلف الظروف والاحوال كأحكام العبادات وبعض أحكام المعاملات.
ومن حيث الدقة نرى الخلاف بين هذا الطرح وبين ما تبنته طريقة الاجتهاد التقليدية؛ يمكن حصره في فهم طبيعة الموضوع الذي يستند اليه الحكم. فموضوع الحكم عبارة عن مجموعة العناصر التي يستند اليها الحكم، بحيث لولاها لما صح العمل بهذا الاخير، لذلك يكون نفوذ الحكم وفعليته أشبه بالمعلول في توقف حصوله على تلك العناصر، فمثلاً في وجوب الصلاة يكون وجود الانسان البالغ العاقل مع حلول وقت الصلاة موضوعاً لذلك الوجوب. وكذا في وجوب الحج، حيث يكون المكلف المستطيع مع حصول الوقت موضوعاً للوجوب.. وهكذا فإن تحقق الموضوع في كافة عناصره المؤثرة يجعل من تحقيق فعلية الحكم لازمة، سواء في قضايا العبادات او المعاملات، ولا يتغير هذا الامر الا لاستثناءات تخرجه عن حاله بحكم الضرورة، فتكون فعلية الحكم مستمدة في هذه الحالة مما يطلق عليه بالاحكام الثانوية بدلاً عن الاحكام الاولية او الاصلية.
وبحسب فهم طريقة الاجتهاد التقليدية ان الضابط في تحديد عناصر موضوع الحكم يتمثل من حيث الاصل والاساس بالنقل والسماع فقط، أي ينحصر بما قررته الشريعة ونطقت به من نصوص دون حساب ما للظرف والحال من تأثير على تحديد تلك العناصر. وعليه فبحسب هذا الفهم يتوجب ان يكون للموضوع قابلية على الثبات مهما طال الزمن وتغيرت الظروف، اذ ليس من الصعب ايجاد العناصر التي يتضمنها.
وعلى الصعيد الواقعي ان الارتباط القائم بين الحكم والموضوع بحسب هذا الفهم لا بد ان يكون ارتباطاً ذاتياً غير قابل للانفكاك، مثلما لا ينفك الحكم عن موضوعه في عالم الجعل المجرد. الامر الذي يجعل من الحكم حكماً تعبدياً لذات الموضوع المنصوص عليه حرفاً، وهذا ما يرفعه فعلاً الى مستوى الاطلاق والاغلاق، فلا مجال للتطور الحضاري من ان يخلخل مثل هذه العلاقة طالما كان الموضوع المنصوص عليه حاضراً.
على ذلك نعتبر ان مشكلة الطريقة التقليدية تتحدد بطبيعة فهمها للموضوع وليس للحكم، رغم ما لذلك من اثر على الاخير باعتبار ان وجوده يتوقف على الاول ولا بد. أما بحسب فهمنا فالامر يختلف تماماً، اذ الموضوع الذي نعده بمثابة العلة في فعلية الحكم ليس منتزعاً بكامله عن النقل والسماع، اي لا يصح ان نعتبره مستمداً فقط عما هو منصوص في الشريعة. فمن الواضح ان اغلب احكام الشريعة كانت مقررة تبعاً لملابسات الاحوال والظروف السائدة. وهذا يعني ان عناصر موضوع الحكم هي وليدة تأثير عاملين: الخطاب والواقع. فهما لا ينفصلان بدلالة مظاهر التدرج والنسخ والتبديل في الاحكام. فهذه الآليات تعني بالنظر الدقيق ان الخطاب لم يتقبل ثبات الحكم رغم وجود كافة عناصر الموضوع المنطوقة او المقررة نصاً، مما يعني ان صفة التغير جاءت نتيجة تغير حاصل في عناصر الموضوع التابعة للواقع او الحال السائد. فالحكم على هذا يصبح اسير أمرين متلازمين هما التنزيل المنطوق المعبر عنه بالنص، والواقع المعاش. وبعبارة اخرى انه لا يمكن عزل التنزيل عن الواقع والاحوال السائدة. فحينما يتغير التنزيل كما في عملية النسخ، نعلم ان هناك تغيراً ما قد حصل في عناصر الموضوع، لكن لا شيء يدعو الى تغير عناصر الموضوع المنطوقة، وبالتالي فان المسؤول الاساس في آلية تغيير الحكم انما هو بالتحديد عناصر الموضوع التابعة للواقع لا المنطوقة. وهذا يعني ان عناصر التنزيل ليست هي المصدر الفاعل في تحديد الحكم، وانما مصدر ذلك يعود الى الواقع.
وهو إن دل على شيء فانما يدل على ان التنزيل او التشريع لم يأت مطلقاً وثابتاً بحيث لا يحده زمان ولا مكان. نعم ان الاحكام الشمولية وتلك التي لا تتأثر بمجريات الواقع وتغيراته كما في العبادات، ولو بالنحو النسبي، كل ذلك يمكن اعتباره ثابتاً وقادراً على ان يتجاوز الواقع، فضلاً عن ان باستطاعته تغيير الواقع واصلاح قيمه، وهو امر من شأنه ان يغير الاحكام بما يتفق مع التغيير الحاصل في عناصر الواقع. وعليه فان ساحة الاحكام المتغيرة هي ساحة كبيرة جداً، وان المرونة في الواقع تنعكس على مرونة التشريع وتغيير الاحكام. فالتغيير في الاحكام يتبع تغيراً في الواقع، وذلك على نحو اتباع مصلحة عقلائية او تسديد حاجة او للضرورة او لسياسة ما او لبعد نظر من شأنه يبعث على مصلحة عامة مستقبلية او لغير ذلك من الموجهات التي تتسق مع مقاصد الشرع وعدالته.
هكذا يظهر - بحسب هذه الطريقة - ان للواقع دخالة كبيرة وحاسمة في تحديد الحكم الشرعي. ومن الناحية المنهجية يؤخذ الواقع كأصل يتبع في الكشف وتحديد الاحكام ما لم يدل دليل على نفي تأثيره، وذلك على خلاف منهج الطريقة التقليدية. فمن حيث التحليل رغم ان الطريقة الاخيرة - في ارقى مستوياتها - لا ترفض دخالة الواقع على نحو الاطلاق، لكنها مع هذا لا تتقبل الاحتكام اليه من حيث الاصل. أي ان الحكم يظل بحسبها تابعاً كلياً لعناصر التنزيل ما لم يدل دليل ينقدح في النفس خلاف ذلك، وهي في الغالب تنحو نحو الواقع وتعترف بدوره عند الاضطرار اليه.
من هنا يتحدد التقابل بين الطريقتين التقليدية الماهوية والجديدة الوقائعية، بكون الاولى يطغى عليها الحرفية بخلاف الثانية التي تتقوم بالروحية والمعنى. كما ان للاولى نظرة تعبدية تتفاوت ضيقاً، في حين ان لدى الاخرى نظرة اجتهادية عقلائية. والاطلاق الموجود في الاولى يتحول الى نسبية لدى الاخرى. وكذا ينقلب الانغلاق الذي نجده عند الاولى الى انفتاح ومرونة عند الثانية.
***
ان أهم ما في منهج الطريقة التقليدية هو انها تكرس ظاهرة القياس والاستصحاب، فتحكم على كل الزمان طوال التاريخ وعلى كل مكان في الارض من موقع لحظة ما عاشته الرسالة السماوية المحمدية ومن نقطة شبه الجزيرة العربية. واذا كان العديد من القدماء والمعاصرين قد انتقدوا - بحق - هذه الطريقة حيث تسعى نحو استصحاب النهج السلفي لتطبيقه على شتى الازمنة والامكنة دون التفات الى تغير عناصر موضوع الواقع، فان لسان الحال ينطبق ولا شك على نهجها وهي تستصحب حرفية التشريع القائم في عصر الرسالة ومن ثم بسطها كما هي على الحاضر رغم اختلاف عناصر موضوع الواقع داخل مفاصل التاريخ ولحظاته.
فمشكلة التفكير لدى طريقة الاجتهاد التقليدية هي انها جعلت نفسها تقف عند آخر ما ينزّل من الاحكام التشريعية الالهية. فهي من جانب تطبق آخر مرحلة من مراحل الرسالة السماوية، وهي مرحلة ما بعد الفتح، حيث تلغي جميع الاحكام التي تتنافى مع ما جاء في هذه المرحلة، سواء تلك التي تعود الى المرحلة المكية او المدنية. كما انها - من جانب آخر - تعوّل على آخر الاحكام عند التعارض حتى لو كانت تنتسب جميعاً الى مرحلة ما بعد الفتح، مما يعني انها تختزل الشريعة السماوية بما صادف ان تحقق من احكام خلال مدة ما بعد الفتح، تاركة وراءها الكثير من الاحكام ضمن ما يسمى بالمنسوخات. وهذا الاختزال للاحكام باختزال الواقع كان له أثره المناهض لمقاصد الشرع العامة، حيث التعالي على اخذ اعتبار الظروف والاحوال، فكان تحديد الاحكام يجري بشكل مؤبد ودائم، ما لم يتم الاضطرار الى التغيير بفضل تراكمات الواقع وتجدداته النوعية. هكذا فان هذه الطريقة من الاجتهاد لم تكتف بفرض ظرف محدود هو عبارة عن شبه الجزيرة العربية خلال فترة زمنية معدودة لتجعله مقياساً لكافة الظروف والازمان، بل انها كذلك جزأت هذا الظرف وزمانه وحصرته بسنوات قلائل حتى تم اعداده ليكون مركزاً يستقى منه جميع الاحكام عبر مختلف الازمنة والامكنة.
ويلاحظ ان هذا النمط من التفكير ليس بمتسق، ذلك انه لو صح عدّ الاحكام الاخيرة ثابتة ودائمة؛ لكان لا معنى لتغيير الاحكام الالهية المنزلة من قبل الشرع ذاته، ولكان الأولى ان تكون جاهزة منذ البداية بلا تبدل ولا نسخ ولا تغيير. فلو قيل ان عملية التغيير من قبل الشرع كانت ضرورية لا بد منها بحكم اختلاف الظروف وملابسات الواقع، لقلنا ان هذا المنطق هو ذاته الذي يبرر خطأ ثبات الاحكام، بل ان ما حدث من تغيرات طوال قرون عديدة لا يقاس على تلك التغيرات الطفيفة خلال عصر الرسالة، فأي تناقض هذا الذي يبرر شرعية تغيير الاحكام المنزلة بمنطق تغيرات الواقع المحدود ويدير ظهره عما يحصل من تغيرات هائلة في الواقع طيلة اربعة عشر قرناً؟!
فالمعطى المنطقي المستخلص من هذه الطريقة هو انها كي تكون متسقة في نظامها المعرفي لا بد من ان تعتبر ظروف ما بعد الرسالة إما ان تكون مشابهة لما استقرت الاحكام عليه في اخر التنزيل، او في احسن الاحوال تعدها مشابهة للدورة التي دارت عليها الشريعة، مما يقتضي التدرج في الاحكام بمثلما كان عليه منهج الخطاب، وكلا الامرين بيّن البطلان، حيث ان ما ظهر ويظهر من ظروف لا يمكن اعتباره يفي بما استقر من احكام. فمقولة استقرار الاحكام لا تتفق مع ما حصل ويحصل من تغيرات الواقع وتطوراته، الامر الذي يتنافى مع ثبات الاحكام كما علمنا. بل ان هذه المقولة ذاتها لا تتسق حتى مع نفس منطلقات الادعاء ذاته. واذا قيل لا بد من التدرج بمثل ما كانت عليه الشريعة من تدرج؛ قلنا هذا يحصل فيما لو كانت ظروف التدرج في الرسالة مشابهة لما هو عليه بعدها، وهو امر قلّما يحصل.
لكن يظل من الصواب العمل بما يتفق مع المرحلة الاولى (المكية) من التشريع إن لم يخالف مقاصد الشرع والواقع، وكذا مع المرحلة الثانية (المدنية)، او الثالثة (ما بعد الفتح). وقد سبق ان فعل مثل ذلك عمر بن عبد العزيز، حيث لما لم يشأ ان يعمل على تطبيق الاحكام النهائية للشريعة الاسلامية وازالة كل مخلفات الظلم والفساد دفعة واحدة فقد انكر عليه ابنه عبد الملك وقال له يوماً: ما لك يا ابتِ لا تنفذ الامور؟ فوالله ما أُبالي لو ان القدور غلت بي وبك في الحق. فأجابه عمر: لا تعجل يا بني، فان الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، واني اخاف ان احمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة)) ( 4 5). وجاء في تعبير بعض المصلحين من ان ((الزمن جزء من العلاج))، فعلق عليه محمد الغزالي بقوله: ((بمعنى اني لا بد ان اقول: الحدود تقام، وما اقبل مماراة في حد، لكن عند التطبيق لا بأس ان اشرع فوراً بحد الافتراء.. او حد قطع يد السارق، لان ذلك سهل، ويمكن ارجاء بعض الحدود الى ان تواتيني فرصة التنفيذ.. فعلمياً انا مكلّف ببيان الاسلام كله، وعملياً لا بد ان اتدرج في التطبيق العملي، وهذا ما تفرضه احوالنا التي لا بد منها، فالدواء الذي لا بد ان يتجرعه المريض ليصحو أعطيه له جرعة جرعة)). ( 5 5).
ومثل هذا المعنى نجده لدى حسن الترابي، حيث هو الاخر أقر بفاعلية الواقع وتأثيره على التصريف بالاحكام وفقاً لمبدأ التدرج وحساب الاولويات، وذلك عند ضغط الحاجات الزمنية الناتجة عن ممارسة الدولة بعد مرحلة الدعوة. فهو يقول: ((فلما بلغنا من بعد الدعوة مرحلة الدولة، اصبح لزاماً ان يتنزل الدين، في شعاب احكامه الفرعية، على الواقع، وبدت لنا من الصورة الواقعية مشكلات ما كانت لتلوح للناظر من قبل، وبدا ان الاحكام تتوارد على الواقع، وتتناسخ وتتعارض مقتضياتها احياناً، ونشأت حاجة ماسة الى تصريف الاحكام وترتيب اولوياتها، لان في تطبيق بعضها ما قد يؤدي الى تفويت مصالح اسلامية اخرى مقدرة، او يحدث فتنة تضر بمستقبل الاسلام. وكان لا بد من فقه ادق من الفقه النظري يرتب اولويات الاحكام، ويناظر بين قيمها المختلفة، ويؤخر ويقدم بين هذا الواقع، هذه مشكلة طرأت لفقه الاسلام... فقد بدا جلياً انه لا يتيسر للجهد البشري ــ مهما بلغ من الجهاد والاجتهاد ــ ان يحقق كل احكام الاسلام دفعة واحدة، ذلك ان هذا الدين التوحيدي يشمل الحياة كلها، ولا يمكن ان يستوعبه جهد البشر ولا اجتهادهم الا بمعاناة متطاولة، يتعاون عليها الناس، ويمتد لها الزمان والمكان؛ ولذلك كان لزاماً ان نبدأ من اول الطريق، ومن القضايا الجوهرية حتى نتوفر، بما لدينا من جهد، على تحقيقها..)) ( 6 5).
مع ذلك يلاحظ ان التدرج في الاحكام ليس هو الصورة المقصودة في الشرع دائماً، ولا يمكن الاغترار بمحاولة اعادة جميع الاحكام التي أُنزلت على شبه الجزيرة العربية في لحظتها الذهبية. فالمهم هو ان يكون التشريع البشري مما يتفق مع مقاصد الشرع ولا يتضارب مع حقوق الواقع، طالما اعتبرنا ان ما جاءت به الشريعة في احكامها الحضارية الجزئية انما يراد منها الارشاد وليس الفرض المطلق المغلق كما سبق ان عرفنا.
فاختيار الخطاب لامة ما وتطبيق الشريعة عليها مثلما لا يمكن ان يحصل بمعزل عن اخذ اعتبارات الظروف والاحوال والعادات؛ فانه كذلك لا يتحقق ما لم يفرز عنه جدل خاص بين المنزل والمنزل عليه. وطبيعة هذا الجدل تولد ولا شك احكاماً جديدة متأثرة بكل من المنزل والمنزل عليه، وهو معنى كون الاحكام مصنوعة من قبل كل من النص واحوال الموضوع وظروفه. وهذا يعني ان من الصعب كلياً ان تصاغ قوالب جاهزة يؤخذ بها كمبادئ يعمل بها حرفياً، طالما ان لكل ظرف احواله الخاصة، فما ينفع هنا قد لا ينفع هناك. واذا كان من الصعب او المستحيل الاتيان بقواعد شاملة وكاملة تطبق على كافة الظروف والمجتمعات والاحوال؛ لذا لا بد من تحديد الاحكام وقواعد السلوك إما بحدود الظرف والمجتمع ولو ضمن لحظة زمنية معينة دون غيرها، او تحديد الاحكام عبر عملية الجدل بين القواعد العامة التي لها القابلية على الشمول لكنها تفتقر الى القابلية على التطبيق الموحد لاختلاف الظروف والاحوال، وبين الاحكام الجزئية التي لها القابلية على التطبيق الجزئي ضمن ظروفها الخاصة. ولا شك انه لا مفر من الاخذ بهذا الفرض الاخير لكل شريعة تعد نفسها شاملة ومستوعبة لكافة الظروف والاحوال، حيث من المحال ان يطبق التشريع بحرفيته المنزلة وقواعده الخاصة على كل الظروف والبيئات، لا نقصاً في التشريع وانما عجز في الواقع الخارجي من ان يستوعب ذلك، فكان لا بد من ايجاد محورين للاحكام، احدهما كلي وعام يفتقر الى التطبيق على صيغة موحدة بسبب اختلاف الظروف وتغيرها، وهو محور يشمل المقاصد الاساسية من التشريع وفيه تنطوي كافة قواعد السلوك العامة التي تتسق مع الفطرة الالهية المغروزة في ذات الانسان. أما الاخر فهو جزئي له قابلية التطبيق والتقلب بحسب الظروف والعادات والاحوال. واذا ما كنّا نعد التشريع عاماً وشاملاً لا يحده مكان او زمان فإن من البداهة ان يتموضع التشريع الجزئي ضمن كليات القواعد العامة الثابتة، وان يتقلب طبقاً لما يناسب تلك الكليات دون ان ينحرف عنها، اذ الانحراف يعد ضيقاً في التشريع وهو ظلم في حقيقته من حيث عدم مراعاته حقوق الاختلاف والتباين في الاحوال والظروف، ومناقضته لتلك الكليات. فالامر لا يخلو من اثنين؛ فإما ان يكون التقلب في المبادئ الكلية التي يفترض ثباتها، وفي هذه الحالة نكون قد جعلنا التشريع مما يصطدم مع الرسالة السماوية ذاتها والفطرة الالهية التي فطر الناس عليها. او ان يكون التقلب من خاصية التطبيق تبعاً للحكم الذي تفرضه المبادئ العامة، وهو الصحيح. أما ان يكون التشريع الجزئي ومبادؤه الكلية ثابتين دائمين فهذا ما لا يصح، باعتباره يفضي الى تصادم التشريع بالمبادئ بسبب تغيرات الواقع.
ومن جهة اخرى ان القواعد العامة ذات صفة الشمول رغم انها لا تقبل التطبيق والتحديد الاجرائي وسط الظروف المتغيرة للواقع المتجدد، الا ان سلطتها تنبع مما يشرع من تطبيقات جزئية لها طبيعة قابلة للتغير والتبديل تبعاً لتغير الواقع وتجدده، وعلى الرغم من أن التحديدات الاجرائية تتخذ طابعاً تدافعياً او تناقضياً، حيث بعضها يناقض او يدافع البعض الاخر طبقاً لتدافع الواقع واختلاف شؤونه، الا انها مع ذلك يمكنها ان تنضم جميعاً ضمن دائرة حدود تلك المبادئ من غير تناقض ولا مدافعة. فهنا نلحظ تلاحم المبادئ مع التطبيقات المتباينة من حيث حاجة كل منهما الى الاخر. فمثلاً ان آيتي المصابرة الناسخة والمنسوخة دالتان في صياغتهما المجردة الثابتة على ان الجماعة المؤمنة لا ينبغي لها ان تنهزم من المعركة إن كان لديها القوة الكافية للقتال. لكن هذه الصورة المجردة غير قابلة للتطبيق الاجرائي، حيث تحتاج الى تقدير الكم الذي فيه تقدر تلك القوة، فبغير هذا التقدير يصبح كل فرد يرى قوته بمنظاره الشخصي وبحسب اعتباراته الخاصة بما تحمل من اهواء او مجال من الاجتهاد، فتختلف بذلك شؤون الافراد وتضطرب، إن لم نقل انه يتم التلاعب في حدود ما يراه كل واحد منهم بحسب ما يوافق هواه، الامر الذي يجعل الحاجة ماسة الى التحديد الاجرائي بما يلائم الظرف المعاش، وحيث ان الظرف يختلف من وضع لآخر، لذا كان لا بد من تغيير الحكم تبعاً لذلك. وهو أمر إن دل على شيء فانما يدل على ان احكام الدستور في النظام الاسلامي للدولة او الحركة وما شاكلها ينبغي لها ان تكون مرنة ومؤقتة دون ان تتخذ صفة الثبات، الا في اطار التشريعات الكلية ومقاصدها او تلك التي لها صفة الديمومة من غير تأثر بتجدد الواقع، ولو نسبياً.
فعلى ضوء مقاصد الشرع يمكن الكشف عن الاحكام المطلقة الثابتة على النحو الكلي. فلكي تكون ثابتة مطلقة لا بد من احراز كونها تتفق على الدوام مع هذه المقاصد، وإن كان من الناحية العملية لا يمكن ترجمة هذه الاحكام الثابتة الا بأشكال متقلبة من الاحكام الجزئية بحسب ما يفرضه الواقع من تجدد وتطورات. فمثلاً فيما يتعلق باحكام القرض بالعملات النقدية ليس من الصحيح تشكيل قالب ثابت ودائم للفتوى التي ترى ان توفية القرض تكون بالمثل او التساوي في النقود المقترضة، وذلك لان هذه الفتوى يمكن ان تتعرض الى هزة تجعلها تتنافى مع قصد الشرع في لزوم العدل والانصاف في التوفية، كما يحصل الكثير من ذلك في ايامنا هذه. وانما تحديد الحكم الثابت الذي يتفق على الدوام مع قصد الشرع من العدل والانصاف يناط بالقيمة المقدرة للقوة الشرائية للنقود المقترضة وقت الاقراض وليس بمقدار النقود ذاتها، فهي من غير قوة شرائية لا يكون لها قيمة البتة. وهذا يعني ان الحكم الكلي الثابت هنا، هو لزوم توفية القرض طبقاً لتحديد او تقدير تلك القوة حال الاقراض، لكن هذا الحكم العام لا يمكن ترجمته على ارض الواقع الا على نحو احكام متقلبة بحسب تغيرات الواقع وما يفرضه من تغير في تلك القوة الشرائية للنقود.
من هنا يمكن القول ان اغلب أحكام قضايا المعاملات لها قابلية على التغير بتغير عناصر الموضوع المستمدة من الواقع حتى مع ثبات عناصر الموضوع الاخرى المنطوق بها من قبل الشريعة. وتوضيحاً لذلك فقد سبق ان ذكرنا بأن آية المصابرة الثانية رغم أنها ناسخة او ناسئة لما قبلها الا ان حكمها ليس له القابلية على تجاوز الواقع الذي نزلت فيه. لذلك ليس بوسع طريقة الاجتهاد التقليدية ان تفسر هذا العجز، لأنها تعد الحكم الناسخ في الشريعة هو الحكم الاخير الذي لا يجوز ان يطوله حكم آخر. مع انه بحسب التنظير الجديد ليس بالضرورة ان يكون هناك حكم نهائي طالما ان عناصر الموضوع يمكن ان تتغير بتغير الظروف والاحوال.
وبهذا الفهم ندرك انه ليس هناك نسخ الا بالمعنى المجاز. ذلك ان تغير الموضوع الى موضوع آخر يوجب تغير الحكم معه من غير نسخ. وربما هذا ما أراد ان يقوله المفسر المعتزلي ابو مسلم الاصفهاني، حيث اعتبر كل ما رآه الجمهور على انه نسخ انما هو برأيه من باب انتهاء الحكم لانتهاء زمنه، وهو ليس بنسخ من حيث الحقيقة. كل ما في الامر ان ما تعده الطريقة التقليدية موضوعاً واحداً هو في واقع الامر يمكن ان يكون متعدداً مما يوجب تكثر الاحكام وتغيرها، وذلك تبعاً للفهم الجديد الذي طرحناه. وعليه يصبح الكثير مما يطلق عليه بالاحكام الثانوية هو ليس منها. ذلك ان ما عُد موضوعاً واحداً يدور عليه حكمه الخاص كحكم اولي يقبل الحكم الاستثنائي او الثانوي بحسب الطريقة التقليدية؛ يصبح قابلاً لان يكون موضوعات متكثرة ومتكافئة الحضور لكل منها حكمه الخاص بلا حكم استثنائي او ثانوي.
والحقيقة ان الاحتكاك بالواقع ولّد ما يقرب لهذا الفهم، خاصة لدى الفكر الشيعي المعاصر بعد تجربة الحكم الاسلامي. فقد طرحت في الساحة الشيعية طريقة جديدة للاجتهاد افرزتها ظروف الواقع وحاجاته الزمنية لم يعهد لها من قبل في التاريخ الشيعي، وإن كنا نجد صيغتها تتلاقى في العديد من الخطوط مع ما كان لدى الاتجاه السني منذ زمن بعيد، كما هو الحال في مبدأ دور الزمان والمكان في التأثير على الاحكام الذي كانت له عناوين رئيسية لدى الفقهاء السنة من امثال ما كتبه ابن القيم، وكذلك العمل ببعض المصالح العامة التي يستكشفها العقل وإن كانت غير قطعية. وكذا تقديم مصلحة نظام الدولة على سائر الاحكام الشرعية الاخرى شبيهاً بما نظّر اليه الطوفي. فقد تم ذلك لأول مرة في تاريخ الفقه الشيعي على يد الامام الخميني من منطلق ان الاحكام تتغير طبقاً لاعتبارات تغير الموضوع رغم ان ظاهره لا يبدي هذا التغير. وقد استخلص البعض من طريقة الامام الخميني انه يلاحظ بنظر الاعتبار خصائص الموضوع الداخلية والخارجية، مما يجعل كل موضوع له حكمه الخاص من غير حاجة لاعتبار وجود احكام ثانوية ( 7 5). وقد جرى على ذلك تأسيس من قبل عدد من الفقهاء والاساتذة الايرانيين بغية التنظير الى الفهم الجديد للموضوع وما يستتبعه من تغيير للحكم.
مخاطر القول بمبدأ جواز تغيير الاحكام
هناك عدد من الشبهات يمكن ان ترد على مبدأ جواز تغيير الاحكام لا بد من طرحها ومناقشتها، وهي كالاتي:
1ــ ان القول بمبدأ تغيير الاحكام يفضي الى نسخ الشريعة شيئاً فشيئاً، الامر الذي ينافي اعتبارها خالدة.
2ــ ان القول بهذا المبدأ دال على نسبية الشريعة لا اطلاقها وشمولها.
3ــ ان القول به لا يتسق مع ما جاء في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً)) المائدة/ 3، وقوله: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) الانعام/ 8 3، وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء))... الخ. كما ان القول به ينافي ما ورد في الحديث الشهير: ((حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة)) ( 8 5)، وما على شاكلته من احاديث.
4ــ ان القول به يعني ان التشريع ناقص يحتاج الى من يكمله، وان الله لا يسعه ما يسع للبشر فعله.
5ــ ان القول به يبعث على الفوضى والتضارب في تحديد الاحكام، كما يبعث على الاهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه.
هذه أهم الشبهات التي يمكن ان ترد إزاء تقرير مبدأ جواز تغيير الاحكام. ويمكن الجواب عليها نقضاً وحلاً، او بناءً ومبنى.
فمن حيث النقض والبناء انها لو صدقت لكانت صادقة ايضاً بحق كل من يعترف بتغيير الاحكام مهما كانت قليلة ومحدودة، الامر الذي يجعل اغلب الفقهاء والمذاهب موضع الشبهة والاتهام، حيث يعود بنا نفس الحرج الذي سبق ان اعلناه بحق الفقهاء، وهو انهم اما ان يعولوا على الطريقة الحرفية بجميع ابعادها مثلما هو الحال لدى المذهب الظاهري والاخباري، او يلزمهم الاعتراف بتمديد قاعدة جواز التغيير لمختلف الاحكام الوسيلية بلا انتقاء لا مبرر له. فالشكل الانتقائي الذي اضطر اليه الفقهاء لا يختلف عن المسار الذي اخترناه في المآل والمثول امام تلك الشبهات، فهو الاخر معني بالمساءلة والاستجواب بلا فرق. ذلك ان الموافقة الجزئية على صحة تغييير الاحكام مهما كانت قليلة ومحدودة سوف تجر عبر الزمن واختلاف الظروف الى المزيد من التبديل تبعاً لضغط الحاجات الزمنية، وهو امر يثير في حد ذاته مثل تلك الشبهات، فيقال فيه انه يفضي في النتيجة الى نسخ احكام الشريعة، كما انه لا يتسق مع الآيات التي ذكرناها ويتنافى مع اطلاقية الحديث النبوي الآنف الذكر، وهو بالتالي دال على نسبية الشريعة بلا اطلاق ولا شمول، كما ان اللازم عنه القول بنقص التشريع وان الله لا يسعه ما وسع للانسان ان يفعله، كذلك يقال فيه انه يبعث على الفوضى والتضارب في تحديد الاحكام، كما يبعث على الاهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه.
هكذا يستوي الحال بين المنهجين أمام الشبهات المطروحة، فهي إما ان تصدق عليهما معاً او انها وهمية في حقهما بلا فرق ولا تمييز، فمجرد الاعتراف بجواز تغيير احكام قليلة محدودة هو في حد ذاته يثير المساءلة أمام الشبهات الآنفة الذكر. ويكفي ان نعلم بانه سبق لبعض القدماء ان طرح مثل تلك الشبهات امام الفقهاء الذين يعولون على بعض مبادئ الاجتهاد المسلم بها كالقياس والمصالح والاستحسان، فقد ساقها الشافعي ضد غيره من الفقهاء الذين يعملون بالمصلحة والاستحسان، كما وظفها داود الاصبهاني ضد الشافعي في استخدامه للقياس بنفس الادلة التي طرحها هذا الاخير ضد خصومه في الرأي. كذلك وسع ابن حزم الاندلسي من دائرة الشبهة في نقضه للقياس والمصلحة والاستحسان. فجميع هؤلاء استدلوا بدليل كون الشريعة بينة وكافية في احكامها لسد كل شأن من شؤون الحياة، فما من حادثة الا ولها حكمها بالنص، او بدليل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الاهواء والميول الذاتية.
لكن ما يبدو هو ان الفقهاء يجدون أنفسهم واقعين في الحرج النفسي إن اعترفوا بمبدأ تغيير الاحكام، وذلك خشية ذهابها وزوالها، الأمر الذي أوقعهم في السلوك المتذبذب او غير المتسق كلما اضطروا لذلك بحسب ما تفرضه عليهم الحاجة الزمنية ( 9 5).
أما من حيث الحل والمبنى فيمكن ان يجاب على الشبهات السابقة كالآتي:
الرد على الشبهة الاولى
وهو ان يقال ان العمل بمبدأ جواز تغيير الاحكام لا يفضي بالضرورة الى نسخ الشريعة، بل على العكس ان العمل به يحقق سلامة الحفاظ عليها من النسخ والتبديل، فيما لو روعيت مقاصد الشرع واهدافه. فدوام الشريعة ليس بثبات بقاء جزئيات الاحكام اذا ما كانت على حساب فوات المقاصد، أما بقاء المقاصد وتحقيقها هو في حد ذاته يضمن خلود الشريعة وصحة التشريع. ذلك ان من الطبيعي ان تخضع جزئيات الاحكام للتغيير والتبديل اذا ما كانت قلقة ازاء التحولات الحضارية او حتى الظرفية الخاصة، بخلاف الحال مع المقاصد التي لها قابلية الثبات والخلود، فأي تعريض لها بالتغيير يعني القضاء على الشريعة ومحوها. مما يعني ان ثبات المقاصد هو وحده صمام الأمان لحفظها وبقائها.
الرد على الشبهتين الثانية والثالثة
وبالمعنى السابق فان التشريع يصبح بقدر ما هو نسبي بقدر ما هو مطلق شامل لا يقبل القطع والانتهاء، فهو نسبي من حيث الوسيلة، لكنه مطلق من حيث المقاصد والغايات، ناهيك عن اعتبار ما ثبت كونه من العبادات الخالصة والتعبديات.
كذلك ان المعنى السابق لا ينافي ما ورد في الحديث النبوي الانف الذكر، وانما يخصص فهمه في جميع ما يقبل الثبات من الموارد التي تخرج عن حدود الوسائل من المعاملات الحضارية.
أما بخصوص ما ذكرنا من الآيات القرآنية فالملاحظ انها مجملة بدلالة كثرة الاختلاف في تفسيرها، واغلب ما ورد من التفسير ليس له علاقة بما نحن فيه، خصوصاً آية اكمال الدين، اذ في الآية شقان، أحدهما يتعلق بإكمال الدين، والآخر باتمام النعمة. ولكل منهما نجد اختلافاً في التفسير لدى المفسرين. ففيما يتعلق بالشق الأول ورد حوله عدد من التفاسير كالآتي:
1ــ المقصود به اهلاك العدو والنصر والاظهار على الأديان، ومن ذلك ما ذكره الزمخشري بأن الآية تعني: ((كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد اذا كفوا من ينازعهم الملك)) ( 0 6). والبعض اعتبر ذكر اليوم في الاية هو نظير معناه في قوله تعالى: ((اليوم يئس الذين كفروا من دينكم)) ( 1 6).
2ــ انها بمعنى التوفيق للحج، اذ روي انها نزلت في يوم الحج الأكبر ( 2 6). كما رجّح القرطبي نزول هذه الآية في يوم الجمعة، وهو يوم عرفة في حجة الوداع سنة عشر ( 3 6). وقال القرطبي بهذا الصدد: ((وانما كمل معظم الدين وأمر الحج اذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك ولا طاف بالبيت عريان ووقف الناس كلهم بعرفة)) ( 4 6). وبذلك لم يبق من أركان الدين ناقصاً الا الحج، واذ ورد عن النبي قوله: ((بني الاسلام على خمس))، وكان المسلمون تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا قد حجوا، فلما حجوا مع النبي أنزل الله عشية عرفة هذه الاية ( 5 6). وكذا ما رجحه الطبري من معنى الاية، وهو انه تعالى أفرد المسلمين بالحج الى بيت الحرام وأجلى عنه المشركين ( 6 6).
3ــ انه بمعنى إكمال الفرائض والحدود والأوامر والنواهي والحلال والحرام، كذلك الادلة التي نصبت لجميع ما فيه حاجة من أمر الدين، فلا زيادة على ذلك بعد اليوم. لهذا قال جماعة انه لم ينزل على النبي بعد هذه الاية شيء من الفرائض والتحليل والتحريم، وأن النبي لم يعش بعد نزولها الا احدى وثمانين ليلة ( 7 6). لكن البعض نفى ذلك معتبراً ان هناك آيات من الاحكام نزلت بعد تلك الآية، كقوله تعالى : ((يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)) ( 8 6).
4ــ انه بمعنى التنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع وقوانين القياس واصول الاجتهاد ( 9 6).
5ــ انه بمعنى معرفة الله. أي: اليوم عرفتكم بنفسي وبأسمائي وصفاتي وأفعالي فاعرفوني ( 0 7).
6ــ بمعنى القبول والرضا بالمسلمين. أي: اليوم قبلتكم وكتبت رضائي عنكم لرضائي لدينكم ( 1 7).
7ــ بمعنى إكمال الدعاء. اي: اليوم أكملت لكم دعاءكم، او استجبته لكم ( 2 7).
أما المقصود من اتمام النعمة الوارد في الآية فله الآخر عدد من التفاسير المختلفة كالآتي:
1ــ يقصد به خصوص فتح مكة ( 3 7).
2ــ انه بمعنى اكمال أمر الدين والشرائع والاحكام واظهار دين الاسلام بدخول مكة آمنين ( 4 7).
3ــ انه بمعنى الاظهار على العدو. ( 5 7).
4ــ انه عبارة عن نعمة النصر والاخوة وما نالوه من المغانم، ومن جملتها اكمال الدين، واتمام النعمة هو خلوصها عن كل ما يخالطها من الحرج والتعب والخوف الذي كان المسلمون يلقونه قبل الفتح. ( 6 7).
ويلاحظ انه في جميع ما ذكرنا من تفاسير لا علاقة له بما نحن فيه. وكذا يمكن القول في ما جاء من تفاسير تخص قوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))، اذ قال الطبري ان المقصود به هو: ما ضيعنا اثبات شيء منه. ونقل قول ابن عباس بأن معناه: ما تركنا شيئاً الا قد كتبناه في أُم الكتاب. وقال ابن زيد ان معناه: لم نغفل شيئاً، فما من شيء الا وهو في الكتاب ( 7 7). كما جاء في تفسير ابن كثير بأن المقصود هو ان الله يعلم الجميع فلا ينسى أحداً من رزقه وتدبيره، سواء كان برياً او بحرياً ( 8 7). وجاء في تفسير الامام القاضي بان المعنى هو ان الله تعالى نصّ على بعض الاحكام وأجمل القرآن في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله تعالى: ((ولو ردوه الى الرسول والى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))، فبين النبي (ص) ما أجمل الله في كتابه ( 9 7). ومثل هذا ما ذكره الماوردي ونسبه الى قول الجمهور، لكنه ذكر قولاً آخر وهو بمعنى ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، او وجود نقص فيه ( 0 8).
وقريب من ذلك نراه في تفسير قوله تعالى: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)). فقد فسّره الامام القاضي بنفس تفسيره للاية السابقة كما عرفنا. وفسّره الاوزاعي بأنه تبيان لكل شيء بالسنة ( 1 8). كما فسرها الطبري بأنه بيان لكل ما بالناس اليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب. وجاء عن مجاهد بأن معناه مما أحل وحرم. وجاء عنه ايضاً بأنه ما أمر به وما نهى عنه. وكذا هو الحال عما جاء عن ابن جريج. وجاء عن ابن مسعود بأن معناه هو ان الله تعالى أنزل في هذا القرآن كل علم، وكل شيء بُيّن لنا فيه ( 2 8). كما ذكر المرحوم الطباطبائي بان القصد من الاية هو تبيان كل ما يرجع الى أمر الهداية مما يحتاج اليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والاخلاق الفاضلة والشرائع الالهية والقصص والمواعظ، فهو تبيان لذلك كله ( 3 8).
هكذا من الواضح ان معنى الآيات التي ذكرناها وبغض النظر عما ورد حولها من اختلاف في المعنى والفهم؛ قد تتسق في بداية النظر مع النزعة البيانية الحرفية، اذ لها دلالة على بيان مختلف الامور في القرآن الكريم، ومنه الاحكام الشرعية، وقد يؤيد هذه النظرة الأولية ما جاء في قوله تعالى: ((فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول وأُولي الأمر منكم)) مما يفترض تحقق البيان والوضوح. ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون))، وهو ما أوهم الخوارج فضلّوا بتفسيرهم. وكذا ما جاء في الحديث: ((اني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي - وفي رواية: وسنتي -))، مما يفترض هو الآخر ان فيهما الوضوح والكفاية وبالتالي لا بد من رد الأحكام اليهما على اطلاق. مع انه لا يُنكر انه لم يعد هناك شيء بيّن بحدود التفاصيل البيانية، فالكتاب مجمل وهو على اجماله مختلف حوله، والسنة أشد بكثير من ذلك؛ خاصة وهي غير قطعية في الغالب، وهو ما يشكل الحجة الدامغة على اصحاب النزعة البيانية الصرفة. الأمر الذي فيه لا بد من توجيه ما مرّ من نصوص الى معانٍ اخرى غير تلك التي تكرسها النزعة البيانية المشار اليها. وقد التفت الفقهاء الى ذلك؛ لا من حيث كثرة الملابسات الداعية الى الاجتهاد والعمل بالظنون، بل وكذلك الاقرار بتناهي النصوص، وانها لا تغطي جميع الحوادث الا من حيث الاجتهاد والقياس في رد الفروع الى الكليات، مثلما اكد على ذلك الشهرستاني والشاطبي ( 4 8)، حتى عدّ البعض ان ما هو متوفر من النصوص لا يبلغ عشر معشار احكام الحوادث ( 5 8).
على هذا فلا منجى من ان نعتبر ما جاء من نصوص واحكام انما يكفي من حيث المبادئ الاساسية مع شيء من التطبيقات التي يعلم من خلالها الاتجاه الذي تريده الشريعة بفعل التفاعل مع مجريات الواقع، بلا حاجة لذكر كافة التفاصيل، طالما ان التفاصيل لا يمكنها في جميع الاحوال ان تغطي مساحة الواقع بكافة ابعاده، سواء المكانية منه او الزمانية. وبعبارة اخرى ان البيان الذي اكد على وجوده المولى تعالى في كتابه الحكيم هو بيان تام لا غبش فيه من حيث الاجمال. اي ان البيان هنا لا يتنافى ابداً مع المجمل، أما التفاصيل فيمكن ان تكون منتجة عبر فاعلية بعض العناصر التي من شأنها العمل على تفكيك المجمل من غير خدش بالبيان، على ما سيتضح لنا ذلك عند معالجتنا لقضية المقاصد في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الرد على الشبهة الرابعة
أما فيما يتعلق بشبهة نقص التشريع وحاجته للاكمال من قبل البشر على حساب ما وضعه صاحب الأمر جلّ وعلا، فالملاحظ ان شبيه هذه الشبهة يمكن ان يرد في عالم التكوين، من حيث ان إعمار الارض دال على نقصها وان الانسان استطاع ان يفعل من البناء والإعمار ما لم يفعله الباري تعالى ، بما في ذلك الانجازات الخاصة بتسديد حاجات البشر. فمن البيّن ان الانسان تمكن من تحقيق انجازات عظيمة الشأن والفائدة عبر تطوره التاريخي، ولا زال يمارس هذا الدور الخلاق من غير انقطاع. فاكتشافاته واختراعاته وانجازاته المعرفية، وكذا تمكنه من حلول الكثير من المشاكل التي ظلت عالقة به طوال آلاف السنين؛ كل ذلك لم يأت بأمر خارج عما في ذاته من مكنون. أي انه لم يتحقق بمعجزة الهية او بفعل موصى به. وعليه هل يصح ان يدّعى ويقال بأن عالم التكوين خُلق ناقصاً في الاصل حتى جاء الانسان لاكمال ما لم يفعله الخالق، او لم يستطع فعله؟ او يدعى في المقابل ويقال ان هذا العالم كامل، فليس في الامكان افضل مما كان، كما يقول فلاسفتنا القدماء، او كما كان يقول معتزلة بغداد وبعض الامامية الاثني عشرية بكمال الخلق وانه افضل صورة معطاة من قبل الباري، فلم ينحصر وجوب الاصلح عندهم في قضايا التكليف والمسائل الدينية، وانما تعداها قبل ذلك الى القول بوجوب الاصلح في امور التكوين والخلق من العالم الدنيوي، كخلق العالم والاغداق بالنعم وما الى ذلك، وكان مبررهم هو انه لو لم يفعل الله الاصلح لكان بخيلاً طالما يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف ( 6 8).
لا ضرورة تقتضي التردد بين هاتين الاجابتين، فكلاهما عليه من الاشكال ما يسقطه. فالقول الاخير يفنده ما استطاع الانسان ان يحققه من انجاز في تحسين بعض زوايا الواقع وإن ضئلت بالقياس الى ابداع الخالق، بل لا نسبة بينهما الا كنسبة المتناهي الى غير المتناهي. أما القول الاول فانما يصح فيما لو كانت حركة الانسان لم تجرِ طبقاً للمشيئة الالهية وارادتها، اذ لو اعتبرنا ان إعمار الارض تمّ على يد الانسان بتفويض الهي، بما غُرز فيه من فطرة الطموح والقدرة؛ لما جاز القول بانه استطاع ان يحقق ما لم يحققه الله تعالى. فالشبهة لا ترد الا حينما يكون فعل الانسان بمعزل عن المشيئة الالهية. فالله سبحانه هو الذي اختار هذه السنة الكونية التي من شأنها تدفع الانسان الى تحقيق ما يصبو اليه من اهداف وطموحات، رغم ان ذلك لا يتم الا عبر سلسلة طويلة من تجارب الفشل والنجاح مع تقديم كم هائل من التضحيات داخل مسلسل الصراع الذي تفرضه الصيرورة التاريخية. وعليه صدقت نبوءة الملائكة حين اعترضت على خلق البشر: ((قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)). كما صدق المولى عز وجل حين اشار الى ما خفي عنهم بقوله: ((اني اعلم ما لا تعلمون)) البقرة/ 0 3، وذلك من منطلق الامانة التي حمّلها الانسان كما في قوله تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً)) الاحزاب/ 2 7. وهو امر يبعث على التفاؤل في استشراف مستقبل ذي مغزى يتحقق فيه ما أراده الله تعالى من قولته تلك، وذلك بانتصار الانسان على نفسه ليكون مصداق الاية الكريمة ((ان الارض يرثها عبادي الصالحون)) الانبياء/ 5 0 1.
على ان نفس ما ذكرنا يمكن ان يقال كجواب على شبهة النقص في التشريع، ذلك اننا لو اعتبرنا التشريع جاء بثوابت تخص مقاصد الشرع ومكارم الاخلاق، وانه اعطى صوراً مناسبة للاحكام الزمنية كعلاج لبعض صنوف الواقع؛ لما عدّ ذلك من النقص طالما اريد بالانسان ان يسترشد من عطاء الوحي ويتعلم عبر التاريخ بما يفرضه عليه الزمن من جدل ثلاثي الابعاد، وهو الجدل الخاص بكل من: الوحي والعقل والواقع. فبحسب سنة التكوين الالهية ليس هناك طريقة للتعلم أهم من ممارسة جدل الانسان في عقله مع الواقع ومع المستوحى من عطاء الوحي، وكذا جدل الواقع مع ذلك المستوحى. فهذا الثالوث من الجدل هو مدرسة الانسان التي بها ومنها يتخرج. ولا شك ان الوعي بهذه الحقيقة التكوينية للتاريخ يساعد على الاسراع بحركة الجدل ومن ثم التخرج. مما يعني ان تغيرات الاحكام هي حقيقة تاريخية محتمة، اذ لا تخرج عن المسار التكويني للسنن الالهية، الامر الذي لا يصدق عليها صفة النقص. انما النقص لو ظل التشريع جامداً لا يستجيب لتطورات الواقع، او انه يصدق فيما لو لم تكن هناك مقاصد سامية ولا ثوابت يُرتكن اليها في التشريع، أما مع وفرة هذه الاركان فالتشريع ليس بناقص، بل له قابلية الشمول لمختلف الاحوال من الظروف والزمان والمكان.
الرد على الشبهة الخامسة
تظل لدينا الشبهة الاخيرة التي مفادها ان القول بمبدأ جواز تغيير الاحكام يبعث على الفوضى والتضارب في تحديد الاحكام، كما يبعث على الاهواء والمصالح الذاتية، وكذا تبرير الواقع حتى لو كان فاسداً، ووضع ما في الدين ما ليس منه. فالملاحظ ان هذه الشبهة تختلف عن غيرها في كونها ذات طبيعة تقنية او عملية، فهي ليست معرفية مثل سابقاتها. لهذا فعلاجها يعتمد على طبيعة ما يُقدّم بصددها من مقترحات عملية. وأرى ان افضل وقاية من الوقوع في براثن مفاد هذه الشبهة هو العمل المؤسسي المنبني على الاجتهاد الجماعي ضمن ضوابط العلم والتقوى .
كما لا بد من التفرقة في الاحكام بين ما هو قطعي وغير قطعي، شبيه بما كان عليه الأمر لدى السلف القدماء، اذ كان العديد منهم لا يحرم ولا يحلل الا بنص صريح، وانما يقول أكره واستحسن، وعلى ذلك كانت سيرة مالك بن أنس الذي يعقب على مثل قوله هذا بقبس من القرآن: ((إنْ نظنُّ الا ظناً، وما نحن بمستيقنين)) ( 7 8). وقد جاء عنه انه قال: ((لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركتُ أحداً اقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام)) ( 8 8). كما قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول أحلّ الله كذا وحرم كذا؛ خشية أن يقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا ( 9 8). اذ جاء في قوله تعالى: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون)) يونس/ 9 5، وقوله: ((ولا تقولوا لما تَصفُ ألسِنتُكم الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذبَ..)) النحل/ 6 1 1. وبهذا ينبغي ان يكون القطعي هو الذي يتخذ عناوين الحلية والحرمة. أما غير القطعي فلا ينبغي ان يأخذ سوى عنوان الرأي من المنع والكراهية، او التجويز والاستحسان. لذلك جاء في صحيح مسلم في رواية عن النبي (ص) انه اذا أمّر أميراً على جيش او سرية أوصاه ومن معه، ومن ذلك جاء في وصيته: ((واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فانك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا)) ( 0 9). وعلى شاكلة هذا الحديث ما روي عن عمر بن الخطاب، اذ روى ابو يوسف عن أبي وائل، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: وفيه قوله: ((واذا حاصرتم حصناً فأرادوكم أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلوا فانكم لا تدرون أتصيبون فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا بعد فيهم بما شئتم)) ( 1 9).
الهوامش
( 1) أشار الشاطبي الى هاتين الصورتين من التفكير بما يجعل احداهما تقع في طرف لا يلتقي مع الآخر، فقال: ان ((صاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع الى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت ادلتها عموماً وخصوصاً، دل على ذلك الاستقراء. فكل فرد جاء مخالفاً فليس بمعتبر شرعاً، اذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام. فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام، لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني، فلا يتعارضان. والظاهري يقول: الشريعة انما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملاً، ومصالحهم تجري على حسب ما اجراها الشارع، لا على حسب انظارهم. فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الاصابة، من حيث ان الشارع انما تعبدنا بذلك. وإتباع المعاني رأي، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر، لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي. فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها وطرحوا خصوصيات الالفاظ. والظاهرية جردوا مقتضيات الالفاظ فنظروا في الشريعة بها، وطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين الى النظر فيما نظرت فيه الاخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة)) الموافقات، ج 4، ص 0 3 2.
( 2) الفروق، ج 1، ص 6 7 1ــ 7 7 1.
( 3) نشر العرف، ص 5 2 1.
( 4) نشر العرف ص 9 2 1.
( 5) نشر العرف، ص 1 2 1 و 9 1 1.
( 6) الأشباه والنظائر، ص 1 0 1.
( 7) نظرية العرف، ص 2 9ــ 3 9.
( 8) عبد اللطيف المدرس: مشايخ بلخ من الحنفية، ج 2، ص 4 3 8.
( 9) نظرية العرف، ص 1 8.
( 0 1) مشايخ بلخ، ج 2، ص 4 3 8.
( 1 1) امين، احمد: الاجتهاد في نظر الاسلام/مجلة رسالة الاسلام، مجلد 3، ص 9 4 1.
( 2 1) رشيد رضا، محمد: تاريخ الامام محمد عبده، ج 1، ص 5 4 9. كذلك: البهي، محمد: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 6 3 1.
( 3 1) ابو زهرة، محمد: تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 5 5 3.
( 4 1) تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 8 2 4.
( 5 1) يقول المفكر مرتضى مطهري حول علاقة الفتوى بالواقع الخاص للفقيه: ((لو أن احداً اجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف ان المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث ان فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة)) (مطهري: الاجتهاد في الاسلام، ص 1 3).
( 6 1) الشاطبي: الموافقات، ج 2، ص 7 0 3. والاعتصام، ج 2، ص 0 2 3.
( 7 1) الموافقات، ج 4، ص 0 1 2. والاعتصام، ج 2، ص 8 3 1.
( 8 1) يقول ابن القيم: ((الاحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الازمنة ولا الامكنة ولا اجتهاد الائمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك.. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقاديرالتقديرات وصفاتها..)) اغاثة اللهفان لابن القيم، عن: المقاصد العامة للعالم، ص 4 4ــ 5 4.
( 9 1) الفروق، ج 1، الفرق السادس والثلاثون، ص 5 0 2.
( 0 2) الطرق الحكمية، ص 5 1. واعلام الموقعين، ج 4، ص 2 7 3. وانظر بصدد التمييز بين صنفي الاحكام الانفة الذكر حديثاً كلاً من : المدني، محمد محمد: اسباب الاختلاف بين المذاهب الاسلامية/رسالة الاسلام، مجلد 9، ص 4 7. الطباطبائي، محمد حسين: مقالات تأسيسية في الفكر الاسلامي، تعريب خالد توفيق، ص 8 6 1ــ 0 7 1. الصدر: اقتصادنا، ص 0 0 4ــ 1 0 4 و 5 2 4 وما بعدها. مطهري: نظام حقوق المرأة في الاسلام، ص 0 0 1 وما بعدها.
( 1 2) الموافقات ج 2، ص 4 8 2ــ 5 8 2.
( 2 2) ابن الازرق: بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 6 7.
( 3 2) الموافقات، ج 2، ص 7 9 2ــ 8 9 2.
( 4 2) الموافقات، ج 2، ص 4 8 2.
( 5 2) الموافقات، ج 2، ص 4 8 2.
( 6 2) الموافقات، ج 2، ص 4 8 2.
( 7 2) الموافقات، ج 2، ص 6 8 2.
( 8 2) الموافقات، ج 2، ص 6 8 2.
( 9 2) الحاوي للفتاوى للسيوطي، ج 1، ص 0 3 3.
( 0 3) الفروق، ج 4، ص 9 7 1.
( 1 3) اعلام الموقعين ج 3، ص 3.
( 2 3) الاستقصاء، ج 1، ص 3 و 4، عن: العروي: مفهوم التاريخ، ج 1، ص 3 1 2.
( 3 3) نشر العرف، ص 6 2 1.
( 4 3) الطرق الحكمية، ص 1 2.
( 5 3) الطرق الحكمية، ص 6 1. كذلك اعلام الموقعين، ج 4، ص 2 7 2ــ 3 7 3.
( 6 3) مقدمة ابن خلدون، ص 6 3 3ــ 7 3 3.
( 7 3) نشر العرف، ص 9 2 1.
( 8 3) الاجتهاد والتجديد للقرضاوي ضمن فقه الدعوة، ج 2، ص 0 6 1.
( 9 3) لاحظ على سبيل المثال ما كتبه الشيخ محمد علي ناصر في نقده للحكم العمري في: مصادر الاحكام الاجتهادية، رسالة الاسلام، ج 4، ص 8 6 1 وما بعدها، وص 1 8 2 وما بعدها. لكن لاحظ في قباله ما صرح به الشيخ مهدي شمس الدين وهو يقرر صحة الحكم العمري في سهم المؤلفة قلوبهم وان لم يسمه باسمه (حوار مع الشيخ شمس الدين، قضايا اسلامية، عدد 5، ص 8 5). علماً بأن الشيخين كلاهما اماميان من جبل عامل.
( 0 4) فقه الزكاة للقرضاوي، ج 2، ص 0 0 6.
( 1 4) البيان والتحصيل، ج 2، ص 9 5 3. واحكام القرآن لابن العربي، ج 2، ص 6 6 9.
( 2 4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3 3، ص 4 9. واحكام القرآن، ج 2، ص 6 6 9. كذلك كلمة المحرر في: رسالة الاسلام، ج 4، ص 5 7 1.
( 3 4) البيان والتحصيل، ج 2، ص 9 5 3
( 4 4) يعود هذا القول الى اللغوي المعروف ابن فارس (المتوفي سنة 5 9 3هـ). الحمزاوي، محمد رشاد: المعجم العربي، ص 5 1 6.
( 5 4) عمارة، محمد: هل يجوز الاجتهاد... مع وجود النص؟! مجلة منبر الحوار، عدد 3 1، ص 0 0 1.
( 6 4) يقول المحقق القمي: ((ان التتبع والاستقراء يحكمان بأن غالب الاحكام الشرعية في غير ما ثبت له حد ليس بآنية ولا محدودة الى حد معين وان الشارع اكتفى فيما ورد عنه مطلقاً في استمراره، فان من تتبع اكثر الموارد واستقرأها يحصل الظن القوي بان مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار ويظهر من الخارج انه اراد الاستمرار الى ان يثبت الرافع من دليل عقلي او نقلي)) فرائد الاصول، ج 2، ص 4 7 6.
( 7 4) سبق للامام الخميني ان اعترض على بعض الفقهاء لطريقته الحرفية مستشهداً في اعتراضه على بعض الامثلة كتلك التي ذكرناها في المتن.
( 8 4) نظرية العرف، ص 8 7.
( 9 4) نشير الى ان من الخطأ التفرقة بين احكام القرآن الكريم واحكام السنة النبوية بحسب المطلق والنسبي كما ذهب الى ذلك الشيخ المعاصر محمد مهدي شمس الدين؛ معتبراً ان الكثير من السنة النبوية وربما اغلبها نسبي لتعلقها بالظرف الخاص، بخلاف ما جاء في القرآن الكريم الذي تتصف احكامه بالاطلاق (لاحظ: حوار مع الشيخ شمس الدين في: الاجتهاد والحياة، حوار واعداد محمد الحسيني، ص 6 1- 7 1).
( 0 5) بداية المجتهد، ج 1، ص 7 8 3.
( 1 5) مواهب الجليل، ج 3، ص 3 5 3.
( 2 5) السيوري، مقداد: كنز العرفان في فقه القرآن، ج 1، ص 9 5 3 و 0 6 3. كذلك: جواهر الكلام، ج 1 2، ص 3 6.
( 3 5) نشر العرف، ص 8 1 1.
( 4 5) الموافقات ج 2، ص 3 9ــ 4 9.
( 5 5) فقه الدعوة ومشكلة الدعاة في حوار مع الشيخ محمد الغزالي، ضمن فقه الدعوة، ج 1، ص 8 2 1.
( 6 5) فقه المرحلة والانتقال من المبادئ الى البرامج في حوار مع د. حسن عبد الله الترابي، ضمن فقه الدعوة، ج 2، ص 0 2ــ 1 2.
( 7 5) الجناتي: الاجتهاد في الشريعة الاسلامية، مجلة التوحيد، عدد 6 7، ص 0 2 ومابعدها.
( 8 5) الكليني: الاصول من الكافي، ج 1، ص 8 5.
( 9 5) شبيه بهذا ما حصل مع بعض القضايا كما أشار اليها المفكر الصدر بما مرّ على الفكر الفقهي من تطورات داخل المدرسة الامامية. ذلك ان جملة من الفقهاء المحدِثين والمعاصرين استخدموا دليل السيرة العقلائية وبعض القواعد الاصولية لاعتبارات نفسية غرضها الحفاظ على بعض المسلمات التي خلّفها المتشرعة من الأسلاف، رغم انهم لم يملكوا عليها الدليل الشرعي (انظر: الحيدري، كمال: مرتكزات أساسية في الفكر الاصولي، قضايا اسلامية، العدد 3. كذلك الفصل الرابع من كتابنا: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، طبعة مؤسسة الانتشار العربي).
( 0 6) الكشاف، ج 1، ص 3 9 5.
( 1 6) ابن عاشور، محمد طاهر: التحرير والتنوير، ج 6، ص 5 0 1.
( 2 6) روي انه قد قرأها رسول الله فبكى عمر فقال له الرسول: ما يبكيك؟ فقال: أبكاني إنا كنا في زيادة من ديننا فأما اذ كمل فانه لم يكمل شيء الا نقص. فقال النبي (ص): صدقت (الجامع للقرطبي، ج 6، ص 1 6. وروح المعاني، ج 6، ص 0 6. وجامع البيان، ج 6، ص 9 7ــ 0 8).
( 3 6) الجامع للقرطبي، ج 6، 1 6.
( 4 6) الجامع، ج 6، ص 2 6.
( 5 6) الجامع، ج 6، ص 3 6.
( 6 6) جامع البيان، ج 6، ص 0 8.
( 7 6) جامع البيان، ج 6، ص 9 7.
( 8 6) جامع البيان، ج 6، ص 0 8.
( 9 6) الكشاف، ج 1، ص 3 9 5. وتفسير ابي سعود، ج 2، ص 8.
( 0 7) احكام القرآن لابن العربي، ج 2، ص 1 5 5.
( 1 7) نفس المصدر، ص 2 5 5.
( 2 7) نفس المصدر، ص 2 5 5.
( 3 7) تفسير ابي سعود، ج 2، ص 8.
( 4 7) الجامع للقرطبي، ج 6، ص 2 6. والكشاف، ج 1، ص 3 9 5.
( 5 7) جامع البيان، ج 6، ص 1 8.
( 6 7) التحرير والتنوير، ج 6، ص 5 0 1ــ 7 0 1.
( 7 7) جامع البيان، ج 7، ص 8 8 1.
( 8 7) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 1 3 1.
( 9 7) البيان والتحصيل، ج 7 1، ص 3 1.
( 0 8) تفسير الماوردي، ج 1، ص 3 2 5.
( 1 8) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 2 8 5.
( 2 8) جامع البيان، ج 4 1، ص 1 6 1ــ 2 6 1. كذلك: تفسير ابن كثير، ج 2، ص 2 8 5.
( 3 8) الميزان، ج 4 1، ص 4 2 3ــ 5 2 3.
( 4 8) الملل والنحل، ص 6 8. والاعتصام، ج 3، ص 7 9 1ــ 9 9 1.
( 5 8) اعلام الموقعين، ج 1، ص 3 3 3. يعود هذا الرأي الى الامام الجويني الذي قال في (البرهان): ان معظم الشريعة صدرت عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة (ارشاد الفحول، ص 3 1 3).
( 6 8) انوار الملكوت، ص 6 5 1ــ 7 5 1. ونظرية التكليف، ص 3 0 4. قال بعضهم: ((كيف يحسن من العاقل ان يمنع الانسان العطشان من بحر يملكه لا يقل شربه منه، او يمنعه من السكون والاستظلال بظل داره، او ان يلقط ما تناثر من حبّه، او الانتفاع بما يلقيه مما يأكله رغبة عنه، ولا ريب ان ملك الله تعالى كالبحر وما يتناوله الانسان مما يفيضه عليه أقل من نسبة الجنة الى الحب المتناثر)) انوار الملكوت، ص 8 5 1.
( 7 8) الجاثية/ 2 3. اعلام الموقعين، ج 2، ص 4 4. وتاريخ المذاهب الاسلامية، ص 7 0 4.
( 8 8) القول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص 9 6.
( 9 8) اعلام الموقعين، ج 1، ص 9 3. القول السديد، ص 9 6. كذلك: موسوعة الفقه الاسلامي، ج 7 1، ص 2 4 2ــ 3 4 2.
( 0 9) أحكام أهل الذمة، ج 1، ص 4ــ 5. واعلام الموقعين، ج 1، ص 9 3. والقول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص 8 6.
( 1 9) الخراج لابي يوسف، ص 4 9 1 و 5 0 2.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق