المصلحة ودورها في التشريع


يحيى محمد

المصلحة هي احدى الاصول المرجعية للاجتهاد في تحديد الاحكام لدى عدد من المذاهب الفقهية. والمقصود بها بوجه عام هي كل ما يجلب نفعاً ويدفع ضرراً. وبعض التعاريف قيدها بالمحافظة على مقاصد الشرع كي تكون مقبولة. فمثلاً عرفها الغزالي بانها المحافظة على مقصود الشرع، او المقاصد الضرورية الخمسة 1 . وعرفها الطوفي بانها السبب المؤدي الى مقصود الشارع عبادة او عادة 2 . كما عرفها الخوارزمي بانها ((المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق))3.

ومع ان هناك اجماعاً بين العلماء في كون الشارع قد راعى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ الا انهم اختلفوا في التشريع لها من قبل العقل البشري، او على ضوء الاجتهاد الناظر الى مقاصد الشرع او حتى القياس. فقد عُرف عن الامام مالك انه ابرز من قال بها صراحة وكان يطلق عليها ((الاستحسان)) مما يشمل الاستحسان المصطلح عليه ومبدأ المصلحة 4 . ورغم الشهرة في ان المالكية منفردون بالقول بها؛ الا ان الزركشي اعترض على ذلك معتبراً ((ان العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة الا ذلك)) 5 . وكذا قال القرافي بانها ((عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة الا ذلك)) 6 . كما قال ابن دقيق العيد: ((الذي لا شك فيه ان لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه احمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحاً في الاستعمال لها على غيرهما)) 7 . وسميت المصلحة المرسلة او المطلقة باعتبار ان وظيفتها تتحدد بالقضايا التي لم يرد فيها حكم نص، لا بالاعتبار ولا بالالغاء، او انها مما لم يشهد لها شاهد معين من الشريعة بالاعتبار. مع ذلك صرح الفقيه المالكي ابن العربي بقوله: ((لم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة)) 8 . واطلق عليها الغزالي في كتابه (المستصفى) الاستصلاح.

واغلب الظن ان الذي جعل مالكاً يعول على المصلحة هو ما رأى عليه العمل بين الصحابة إبان عهد الخلافة الراشدة، إذ كان سلوكهم لا يخلو من العمل بها عندما يحتاجون الى شيء من النص. ولعل اول عمل مصلحي قام به هؤلاء بعد وفاة النبي (ص) هو جمع المصحف. لذلك كثيراً ما يشار إلى هذه الحادثة على رأس الأمثلة التي يستدل بها على مصداقية ما نحن بصدده. فقد اعتاد العلماء ان يذكروا نماذج عدة على المصلحة المرسلة كالآتي:

1 ـ اتفاق الصحابة على جمع المصحف في عهد ابي بكر، وذلك خشية اندثار القراء او الحفظة بفعل القتل بالحروب فيذهب بذلك قرآن كثير 9 . كما روي ان عثمان قام بنسخ الصحف في المصاحف خشية الاختلاف كما اختلفت اليهود والنصارى 0 1 .

2 ـ ان الصحابة اتفقوا على حد شارب الخمر ثمانين ((وانما مستندهم فيه الرجوع الى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل)) اعتماداً على الامام علي (ع) بقوله: ((اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى)) وذلك في عهد عمر الذي استشار الصحابة 1 1 .

3 ـ ومثل ذلك زواج امرأة المفقود بعد اربع سنين من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة، حيث انها من الحوادث البكر التي حدثت في عصر الخليفة عمر، وكذا تدوين الدواوين، ومن ثم ضرب السكة واتخاذ السجن 2 1 .

4 ـ ان الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، وذلك عند تلف او ضياع ما في أيديهم من أمانة، وقال الامام علي بهذا الشأن: ((لا يصلح الناس الا ذاك)) 3 1 .

5 ـ جواز الضرب للمتهم ليقر بالمسروق 4 1 .

6 ـ جواز قتل الجماعة بالواحد 5 1 .

ويلاحظ ان الكثير من الامثلة المذكورة هي من الاستحسانات بحسب الاصطلاح، مع ما يلاحظ انه كان هناك تداخل بين الاستحسان والاسترسال، كما يشير اليه الشاطبي بتعليقه على بعض الشواهد الخاصة بترك الدليل بالمصلحة، فيقول: ((فان قيل: هذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان، قلنا: نعم، الا انهم صوروا الاستحسان تصور الاستثناء من القواعد، بخلاف المصالح المرسلة)) 6 1 .

كما ان من المعاصرين من ذكر امثلة اخرى على المصلحة المرسلة لا يمكن عدها ضمنها. فالمرحوم عبد الوهاب خلاف عدد امثلة على الاستصلاح معتبراً انها من الحوادث البكر، مثل: اشتراط الاشهاد الشرعي لصحة الوقف او التغيير فيه، واشتراط وثيقة الزواج الرسمية لسماع الدعوى به، واشتراط سن معينة للزوجين لتوثيق عقد الزواج بينهما 7 1 . وهي امثلة تعد تبريراً للواقع القضائي الجديد الذي طرأ في العصر الحديث ضمن قوانينه الجديدة. وبغض النظر عن ذلك يلاحظ ان جميع هذه الامثلة تتضمن عنصراً مشتركاً لا يُبقي الحكم الشرعي على حاله مثلما هو عليه من قبل، سواء ذلك الذي يستمد من النص او الاجماع او القياس، حيث هناك ((شرط)) مضاف على الممارسة الشرعية للاحكام 8 1 . الامر الذي يجعلها تعود الى الاستحسان لا المصلحة؛ باعتبار ان من وظائفه تخصيص العام وتقييد المطلق.

وليس المالكية وحدهم من انفرد بقبول المصلحة والاقتناع بحجيتها، وإنما وافقهم على ذلك الحنابلة، إلا انهم لم يجعلوها دليلاً مستقلاً وانما اعتبروها عائدة الى ضرب من ضروب القياس 9 1 . بينما منع العمل بها كل من مذهب الشافعي والظاهرية. في حين اجازت الامامية الاثنى عشرية الاستناد اليها في حدود قطعية العقل لا غير.

أما بخصوص المذهب الحنفي فنجد بعض الالتباس. اذ أُتهم اصحابه بأنهم لا يأخذون بالمصالح المرسلة كالشافعية، وهي تهمة سبق ان قال بها الامدي 0 2 ، كما كررها بتحفظ الشيخ ابو زهرة، حيث صرح بأن المصلحة المرسلة ليس لها اعتبار عند الأحناف، وإن كان الاستحسان يفتح الباب قليلاً 1 2 . وهو في محل آخر ابدى تسليمه بعمل ابي حنيفة بالمصلحة. اذ ذكر بأنه من حيث تأثره بمعاملات الناس لممارسته التجارة فقد اعتمد على اصلين: أولهما العرف الذي هو اصل يترك به القياس، والثاني الاستحسان حيث به رأى تطبيق القياس يؤدي الى ((معاملة لا تتفق مع المصلحة او مع العرف التجاري، فيترك القياس)) 2 2 . وقد تصدى الدكتور الدواليبي للرد على الاتهام السابق موضحاً بان الاجتهاد الحنفي قد اسس نظرية الاستحسان الذي هو خروج عن النظائر والقواعد القياسية العامة لوجهة اقوى او لضرورة تقتضي مصلحة او تدفع مفسدة، لذا كان الأَوْلى انه يوجب اعتبار المصلحة المرسلة. أي أن الأحناف اذا كانوا يعولون على المصلحة ويرجحونها على القواعد القياسية كما هو حال ما يسمى الاستحسان فكيف لا يعملون بالمرسلة التي لا تعارضها مثل تلك القواعد المعتبرة؟! 3 2 . وهو ما أيده الشيخ الزرقاء الذي عقد بحثاً عن العلاقة القائمة بين القياس والاستحسان والاستصلاح؛ توصل فيه الى ان الفترة بين المذهب الحنفي والمالكي وإن كانت واحدة الا ان تأخر المذهب المالكي عن نظيره الحنفي في التاريخ جعل الصياغة الفنية الفقهية للمصلحة وشرائطها تتبلور عنده، الامر الذي اشتهر بها. في حين انها في المذهب الحنفي ظلت كامنة في صورة الاستحسان الذي يتضمن المخالفة لمقتضى القياس 4 2 . وكذا ما ذهب اليه عبد الوهاب خلاف 5 2 .

مع هذا فرب قائل يقول ان من الممكن ان لا تأخذ الحنفية بالمصالح رغم تعويلها على الاستحسان الذي يعني عندها على الاقل بانه ترجيح دليل اجتهادي على دليل اخر مثله، كترجيح قياس خفي على ظاهر 6 2 ، او كترجيح دليل مستمد من العرف على القياس. فليس في ذلك وجود للمصلحة. لذا أقرّ الزرقاء بان تعريف الاستحسان عند الحنفية هو عبارة عن قياس خفي مرجح على قياس ظاهر، بينما هو عند المالكية ليس كذلك، حيث انه عبارة عن ترك القياس الظاهر لاحد امور ثلاثة، وهي اذا عارضه عرف غالب، او عارضته مصلحة راجحة، او ادى الى حرج ومشقة 7 2 . كما اعترف بان الشافعي ـ وكذا الغزالي ـ هو وإن انكر نظرية الاستحسان، الا انه لم ينكر الاستحسان القياسي عند الحنفية واحكام الضرورات الملجئة، بل اقر ذلك وإن رده الى القياس 8 2 . وهو أمر شبيه بما لجئت اليه الامامية من الاعتراف بصحة العمل بالاجتهاد وإن لم تعول على مبادئ القياس والمصلحة والاستحسان الظنية الحكم. فالذي يراها تعمل بالقياس لاعترافها بالاجتهاد لم يكن مصيباً. لذا فالتعويل على الاستحسان هو كالتعويل على الاجتهاد، لا تتبين مبادؤه بمفهومه العام، باعتباره يقبل الانطباق على اكثر من مبدأ ممكن. وهذا يعني انه ليس هناك من تناقض بين الأخذ بالإستحسان ورفض المصلحة المرسلة. وبالتالي فإن ما أقامه الدواليبي ومن والاه من رد على إتهام الحنفية بعدم اخذها بالمصلحة المرسلة؛ لم يكن موفقاً.

بين المصلحة والاستحسان

على ذلك فإن للاستحسان عدداً مختلفاً من المبادىء والمفاهيم المستخلصة من تعاريف العلماء له. فقد عرّفه النسفي الحنفي بانه ((العدول عن قياس الى قياس اقوى منه، او هو دليل يعارض القياس الجلي)). وعرفه الكرخي الحنفي بأن ((يعدل الانسان عن ان يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها الى خلافه لوجه يقتضي العدول عن الاول)). ومن المالكية عرفه ابو بكر بن العربي وتابعه الشاطبي بنفس القول: ((الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل باقوى الدليلين. فالعموم اذا استمر والقياس اذا اطرد، فان مالكاً وابا حنيفة يريان تخصيص العموم باي دليل كان من ظاهر او معنى)). كما ونُقل ان ابن العربي عرفه بانه ((ايثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته)). ومن الحنابلة عرفه الطوفي بقوله: ((اجود تعريف للاستحسان انه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب احمد)) 9 2 . وهناك من عرف الاستحسان بتعريف لم يُقبل لدى الاصوليين المعروفين، وهو انه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة على اظهاره ولا يقدر على ابرازه. وقد اعتبر الغزالي هذا التعريف هوساً 0 3 .

والملاحظ من التعاريف السابقة أن الإستحسان يعبر عن نوع من الترجيح بدليل في قبال دليل آخر أقل قوة منه، فيرجح مثلاً القياس الخفي على الظاهر، أو المصلحة أو العرف على القياس. الأمر الذي جعل الشوكاني يذهب الى عدم جدوى إفراده كأصل مستقل، ذلك ان مآله عند التحقيق هو إما الى العمل بالقياس او العرف او المصلحة، وبالتالي فان ((ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه اصلاً)) 1 3 .

والحقيقة ان ما انتهى اليه هذا الفقيه الزيدي يصدق فيما لو عوّلنعلى المفاهيم التي حددت الاستحسان بترجيح دليل اجتهادي على اخر نظير له. والحال ان من ضمن ما اريد به هو المقابلة ما بين الدليل الاجتهادي وحكم النص، وبالتحديد العمل على تخصيص عموم النص بتلك الادلة والقواعد الاجتهادية. الامر الذي يبرر جعل الاستحسان مستقلاً ذا فائدة علمية. ذلك ان القياس لم يوضع في قبال النص، بل هو مستمد من روحه ليطبق على ما لا نص فيه، وان المصلحة مستمدة من روح المقاصد لتطبق على حادثة لم يرد ذكرها بنص ولا امكن ربطها به على نحو القياس، وكذا العرف ليس مستمداً بدوره من النص ولا القياس. فهذه الادلة هي ادلة اجتهادية حينما لا يكون هناك نص في الحادثة. وعليه لو كان الاستحسان مجرد ترجيح هذه الادلة بعضها على البعض الاخر للزم عدم جدوى افراده مستقلاً، فهو لا يعبر في هذه الحالة الا عن الترجيح بين تلك الادلة بحسب النظر في قوتها. لكن حيث انه يتجاوز هذا المعنى من الترجيح في بعض خصوصياته ووظائفه، فيجعل العلاقة ليست فقط بين الادلة الاجتهادية بعضها مقارنة بالبعض الاخر، بل بين بعض تلك الادلة وبين النص في عمومه، لذا فنحن هنا إزاء فعل جديد لا يمكن رده الى مجرد القياس او المصلحة او العرف التي وُضعت في الاساس بعيداً عن ان تكون في تماس من التأثير على حكم النص بحسب مفاهيمها المعروفة. وبتعبير اخر، رغم ان الاستحسان قائم فعلاً على تلك المبادئ الاجتهادية لا غيرها، الا ان له وظيفة جديدة لا تتضمن تلك المبادئ، ألا وهي التضييق من المساحة التي يمكن أن يشغلها حكم النص فيما لو ترك وحاله. فعلى الاقل انه لدى المالكية لا يقتصر الاستحسان على ابراز الاستثناء والترجيح من القواعد العامة للادلة الاجتهادية فيما لا نص فيه كالقياس، وانما يضاف اليه ما يدخل ضمن الاستثناء الخاص بعموم النص الشرعي. اي ان الدليل الاجتهادي كالمصلحة مثلاً يعمل على تخصيص النص، فيدخل هذا ضمن عنوان الاستحسان. وهو امر سبق ان اكد عليه الشاطبي ونسب هذه الطريقة الى كل من ابي حنيفة ومالك كما مرّ معنا خلال تعريفه للاستحسان. فمن الأمثلة التي تضرب على هذا النوع من الإستحسان هو ما قام به عمر بن خطاب في إيقافه قطع الأيدي في عام المجاعة باعتباره تخصيصاً لعموم النص في آية السارق 2 3 .

هكذا فانه طبقاً للوظيفة الجديدة يصبح للاستحسان عدة ادوار كالآتي:

1 ـ الاستحسان عبارة عن ترجيح دليل اجتهادي على اخر مثله، كترجيح القياس الخفي على الظاهر.

2 ـ الاستحسان عبارة عن استثناء لقاعدة عامة اجتهادية بدليل اجتهادي اخر، فيعمل على تخصيص هذه القاعدة او الحاكمية عليها، كتخصيص القياس بالمصلحة او العرف، اي حاكمية احد هذين الاخيرين للاول. وهو ما يعرف بالعدول بحكم المسألة عن نظائرها.

3 ـ الاستحسان عبارة عن استثناء لعموم النص بدليل اجتهادي، فيكون الدليل مخصصاً لهذا العموم او حاكماً ومقدماً عليه 3 3 .

واذا انتزعنا من هذه الوظائف والخصائص تعريفاً للاستحسان فانه يكون كالاتي:

الاستحسان عبارة عن جعل الدليل الاجتهادي حاكماً على دليل العموم في النص ومقدماً على غيره من الادلة الاجتهادية الاخرى سواء بالترجيح او بالعدول والتحكيم (التخصيص).

شروط المصلحة

اول شرط اساس اتفق عليه العلماء هو ان مجال الأخذ بالاستصلاح يجب ان يكون خارج حدود دائرة العبادات، خاصة تلك التي لا يدرك مغزاها على وجه التحديد. بل اعتبر البعض كما هو الحال مع الاستاذ المرحوم عبد الوهاب خلاف بان الامر لا يقتصر على المصلحة وانما ايضاً القياس والاستحسان ومختلف ضروب الاجتهاد في القضايا التي لا نص فيها، زاعماً اتفاق كلمة العلماء بان لا اجتهاد في العبادات، ومثل ذلك الحدود والكفارات وفروض الارث وشهور العدة بعد الموت والطلاق وكل ما شرع محدداً مقدراً. وأما ما عدا ذلك من احكام المعاملات والتعزيرات وطرق الاثبات واحكام الاجراءات وسائر انواع الاحكام فقد اختلف العلماء في الاستنباط فيها بالاستصلاح 4 3 .

لكن مع ما يلاحظ من ان العلماء إتفقوا فعلاً على أن تكون المصلحة المرسلة خارج دائرة العبادات باعتبارها تعني اعطاء حكم جديد لحادثة بكر لم يرد ذكرها بالشرع طبقاً لادراك العقل من المصلحة والمفسدة، ولا شك ان ذلك لا يكون في حدود العبادات باعتبارها موقوفة فكيف يمكن ان يضاف اليها شيء اخر بالمصلحة العقلية؟!.. إلا أن الحال مع القياس والاستحسان يختلف، إذ لا يمكن قبول الدعوى التي تقول ان العلماء إتفقوا على أن يكون هذان المبدآن جاريين خارج حدود العبادات على إطلاق. فهذا الزعم الذي صرح به الأستاذ خلاف يعارضه المسلك الذي عليه الصحابة والعلماء فيما لو أُخذ على إطلاقه. فهناك شواهد كثيرة تثبت ان هؤلاء أجروا القياس والاستحسان حتى في دائرة العبادات والتقديرات والحدود وما إليها. فالقياس وإن كان فعلاً يدور على الحوادث التي لا نص فيها؛ الا ان مرجعه فهم النص، وبالتالي فقد ترد في العبادات وغيرها ما يمكن ان يناط به في تحديد الحكم على الحوادث الجديدة، وذلك عندما تكون هذه العبادات مفهومة المعنى لينشأ منها القياس، وعلى حد قول الشاطبي ان كثيراً من العبادات هي كالعوائد ((لها معنى مفهوم هو ضبط وجوه المصالح)) 5 3 . فمن هذه الناحية ان العلماء اجروا القياس في العبادات وما اليها. ومن ذلك القياس الذي قدرت به عقوبة شارب الخمر، حيث جاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي (ص)، ولما جاء عمر (رض) أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي (ع) بثمانين جلدة مستدلاً بدليل قياسي هو انه ((اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى)). وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه حتى ولو كان نتاج القياس، وعلى رأسهم الامام مالك في (الموطأ) 6 3 . ونفس الشيء فيما يخص القياسات الخاصة بموارد النجاسات، ومنها القياس الظاهر لنجاسة سؤر سباع الطير على سباع البهائم والذي رجح الحنفية عليه القياس الخفي كما مر علينا. بل ذهب ابن العربي - وهو من المالكية - صراحة الى صحة القياس في المقدرات خلافاً لأبي حنيفة 7 3 .

وكذا الحال يقال بخصوص الاستحسان، ذلك انه من حيث يعني تخصيص النص فان له دخالة بشأن العبادات والحدود وما اليها، والا فما معنى تغيير عمر للحد عام المجاعة والذي اعترف الاستاذ خلاف بانه من الاستحسان؟! ومثله نفي الضرر والعسر عند التعارض مع حكم النص والذي اعتبره العلماء من الاستحسان الذي يقدم فيه على عموم النص سواء في دائرة العبادات او المعاملات. بل ان خلاف ذاته يذكر دليلين على الاستحسان؛ احدهما وهو الاهم، ما ثبت من استقراء النصوص التشريعية بان الشارع الحكيم عدل في بعض الوقائع عن موجب القياس او عن تعميم الحكم الى حكم اخر جلباً للمصلحة او درءاً للمفسدة، وذكر على ذلك امثلة بعضها مستمد من العبادات والتعبدات وليس المعاملات، مثل تحريم الله تعالى للميتة والدم وغيرهما، واستثنى من ذلك المضطر، كذلك توعد من كفر به واستثنى من ذلك التقية 8 3 .

اذن، ان الاجتهاد لدى الصحابة والعلماء في القضايا التي لا نص فيها ليس جميعه يقع في دائرة المعاملات، اذا ما استثنينا المصلحة المرسلة باعتبارها عقلية شبه محضة لا علاقة لها بالنص رغم ما لها من علاقة بمقاصد الشرع العامة.

***

مهما يكن فان مجال المصلحة المرسلة لدى العلماء ينحصر فعلاً في المعاملات ذاتها. لكن مع ذلك اختلف العلماء في سائر الشروط التي حددوا بها حجيتها. فاذا كان الامامية يوردون شرطاً واحداً هو قطعية العقل بالحكم؛ فان الغزالي من الشافعية يزيد على ذلك فيرى انه لا بد من ثلاثة شروط كالاتي:

1 ـ ان تكون ضرورية داخلة ضمن مقصود الشرع من الضرورات الخمس دون سواها، والتي هي عبارة عن الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

2 ـ ان تكون كلية لا جزئية.

3 ـ ان تكون قطعية أو شبه قطعية لا ظنية 9 3 .

ولتوضيح ما يريده الغزالي من هذه الشروط فانه يضرب مثلاً على ذلك. وهو ان من المعلوم حرمة قتل المؤمن عمداً، لكن اذا صادف في الحرب ان تترس العدو بمؤمن او اكثر بحيث ان قتل العدو يفضي لا محالة الى قتل المؤمن معه، ففي هذه الحالة لا يجوز قتل المؤمن الا ضمن الشروط الثلاثة الانفة الذكر، وهو انه بدون قتله يُستأصل جميع المسلمين من غير حصر، وهذا هو شرط الكلية في المصلحة. لذا لو قُتل عدد محصور من المسلمين كعشرة او مائة وما اليه؛ لما جاز قتل ذلك المسلم رغم الفارق في الكثرة والقلة. ومثله لو زاد عدد راكبي سفينة عن حمولتها بحيث لو لم يُرمَ احدهم لغرقوا جميعاً؛ فانه لا يباح ذلك الرمي لأن المصلحة هنا جزئية لا كلية. وقد يقال ان العمل في هذه الحالة يمكن أن يعالج بالقرعة، لكن الغزالي منع ذلك ونفى ان يكون لها اصل في الشريعة.

كذلك على رأي الغزالي أنه لا بد ان تكون المصلحة ضرورية. فلو تترس اهل قلعة بمسلم أو اكثر فانه لا يباح قتل الاسير المتترس به لأجل فتح القلعة، باعتبارها ليست ضرورية. وكذا لا بد ان تكون المصلحة قطعية او شبه قطعية، ذلك انه اذا لم نقطع بقتل كافة المسلمين لما جاز قتل الترس في الدفع 0 4 .

تلك هي الشروط الثلاثة والامثلة التي اوردها الغزالي حولها. ويلاحظ ان هذا الامام يعترف بأن مقصود الشرع هو تقليل القتل وحسم سبيله عند الامكان، بل ويعتبر ان العلم بهذه المصلحة لم يأت بدليل واحد وأصل ونص معينين، وانما بأدلة خارجة عن الحصر؛ تتمثل بتفاريق الاحكام واقتران الدلالات التي لم يبق معها شك في كون حفظ خطة الاسلام ورقاب المسلمين اهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين 1 4 . لكن رغم ذلك فانه لم يقبل الترجيح بالمصلحة طبقاً لأهمية الكثرة في قبال القلة، بل توقف عند حدود الكلية في قبال الجزئية، او اللا محصور في قبال المحصور، وذكر بأن للعلماء خلافاً في الرأي حول ذلك، لكنه اعتقد بصحة الترجيح انطلاقاً من ترجيح مقصود الشرع الاهم على المقصود الاقل منه اهمية، اي الكلي على الجزئي، وذلك لكثرة الدلالات والقرائن من النصوص الدالة على ضرورة حفظ الاسلام ورقاب المسلمين مما هو مقدم على حفظ شخص معين. اما ترجيح الكثير على القليل، كما في السفينة وفي المخمصة او المجاعة لعدد محصور؛ فلم يجوزه استناداً الى دعوى الاجماع، حيث أشار الى ان الأمة اجمعت على انه لو أُكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله، كما انه لا يحل لمسلمين اكل مسلم في المخمصة 2 4 .

ذلك هو رأي الغزالي في شروط المصلحة. وقد نُقد من قبل القرطبي بان القيود التي وضعها لا ينبغي ان يُختلف في اعتبارها 3 4 . اي ان شروط الغزالي ليست شروطاً بقدر ما هي من المسلمات التي ينبغي ان تُقبل كحد ادنى. لهذا فقد ذهب جماعة من الفقهاء الى الاخذ بالمصالح حتى مع عدم ضرورتها وكليتها وقطعيتها، طالما انها مما لم ينص الشرع على إلغائها وكانت مما يلائم مقاصده وانها معقولة في ذاتها بحيث لو عرضت على العقول تلقتها بالقبول.

فقد ذكر الشاطبي في (الاعتصام) ان شروط المصلحة عبارة عما يأتي:

1 ـ ان تكون ملائمة لمقاصد الشرع دون ان تتنافى مع اصل من اصوله ولا دليل من دلائله.

2 ـ ان تكون عقلائية بحيث تتقبلها العقول عند عرضها عليها. لذا لا مدخل لها في التعبدات.

3 ـ ان تكون راجعة الى حفظ امر ضروري، او رفع حرج لازم في الدين. فرجوعها الى حفظ الضروري من باب ما لم يتم الواجب الا به وجب. أما رجوعها الى رفع الحرج فراجع الى باب التخفيف في قبال التشديد 4 4 .

فيما اعتبر بعض اخر ان المصلحة مشروطة بان تثبت بالبحث وانعام النظر والاستقراء، وانها حقيقية لا وهمية، وان تكون عامة لا شخصية بحيث تجلب لاكثر الناس نفعاً او تدرأ عنهم المضرة، وان لا تعارض نصاً ولا اجماعاً 5 4 .

وقد يقال ان بعض الشروط المذكورة لا يجعل من المصلحة دليلاً مستقلاً . فشرط رفع الحرج في الدين مثلاً لا يحتاج الى استقلالية المصلحة، ذلك ان دليل رفع الحرج هو من القواعد الشرعية المقررة التي بها يتأسس الحكم. ونفس الشيء يقال في شرط حفظ الامر الضروري، حيث يعلم شرعاً ان ذلك واجب.

وربما يجاب على الاشكال بان حكم المصلحة ليس في حد ذاته داخلاً ضمن حفظ الامر الضروري او رفع الحرج وانما هو مقدمة (عقلية) يلزم عنها ذلك، ولو على سبيل الظن لا القطع.

ومع هذا لا نرى ان حكم المصلحة مما يتوقف على هذين الأمرين، كما لا نرى لزوم الشرط القائل بأن تكون المصلحة عامة لا شخصية. اذ يكفي لجريان حكمها اعتبارها عقلائية وملائمة لمقاصد الشرع العامة. فبهذا الاعتبار يمكن الاخذ بالمصلحة الشخصية. كما يمكن الاخذ بالمصالح الكمالية مما لا يعود الى الضرورات المتعارف عليها، ولا الى رفع الحرج، وذلك بما يتسق مع التطورات التي يمر بها الانسان في خلافته الأرضية على ما سيأتينا توضيحه فيما بعد.

بذلك فان شروط المصلحة تكون على النحو التالي:

1 ـ ان تكون مبنية على البحث والاستقصاء ليُعرف انها مصلحة حقيقية. ومن ذلك انها لو عرضت على العقول لقبلتها.

2 ـ ان تكون مصلحة ذات شأن يعتد به قوة او منفعة.

3 ـ ان لا تكون معارضة لمصلحة اخرى اهم منها واقوى، سواء منصوص عليها او غير منصوص.

4 ـ ان تكون مما تتسق مع مقاصد الشرع والفطرة الانسانية، بحيث ان العمل بخلافها يقتضي التضارب مع هذه المقاصد او الفطرة.

فمن هذه النقاط يتبين ان العمل بالمصلحة انما هو عمل بالمقاصد، اي ان هذه الاخيرة هي المحددة لطبيعة المصلحة اللازمة.

ونلفت النظر ان بدون هذه الشروط لا يعني عدم جواز العمل بالمصلحة، انما كل ما يعنيه هو انها ليست موضع الزام وايجاب. ذلك ان بدون تلك الشروط، يمكن ارجاع جواز العمل بها الى العفو الذي سمح الشرع بممارسته وتركه من غير امر ونهي فيما لو لم يكن هناك دليل اجتهادي ناهض. وكذا يمكن العمل بها باعتبار الاولوية، من دون ان يلزم ذلك الايجاب.

شرعية العمل بالمصلحة

يظل السؤال المطروح: ما هو الدليل على شرعية وجوب العمل بالاستصلاح؟ فمن المعلوم ان بعض المذاهب الاسلامية وعلى رأسها الشافعية رفضت الاخذ بالمصلحة لعدم الدليل الشرعي عليها. فالشافعي ينفيها من حيث انها إحداث حكم لا على مثال سبق مثلما هو الحال في القياس 6 4 . وكذا الامدي من الشافعية منع الاخذ بها تعويلاً على كونها مترددة بين ان تكون معتبرة او ملغاة، او انها ليست معروفة شرعاً من حيث اعتبارها والغائها 7 4 . وزاد البعض شبهة كون العقل يغلب عليه الهوى وتخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد 8 4 ، الامر الذي يجعلها غير منضبطة، بخلاف الحال مع القياس - مثلاً - حيث مرده الى فهم النص لا العقل المستقل. وقد سبق ان عرّض البعضُ ابا حنيفة واصحابه للطعن لتمسكهم بمبدأ الاستحسان بحجة انه فاقد للضابط، كما نقل ذلك البزدوي صاحب (كشف الاسرار) 9 4 .

وفعلاً ان هذا المبرر يلقى مصداقية كبيرة في واقع التشريع بسبب التوظيف الذي مارسته السياسة الحاكمة في توجيه الاراء الفقهية لصالحها. فلعدم وجود الضابط مع كثرة الاهواء، خاصة هوى السياسة، فان الكثير اخذوا يستحسنون ويستصلحون لادنى مبرر ومناسبة. وقد سبق للقرافي ان كشف عن سبب عزوف العلماء عن استثمار مبدأ المصالح المرسلة وتوظيفها، حيث اعطى للجانب السياسي مركز الصدارة في ابتعاد الفقهاء الورعين عن ممارسة هذا المبدأ الفقهي، وذلك كما يقول القرافي بسبب خوفهم ((من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع اهوائهم وارضاء استبدادهم في اموال الناس ودمائهم، فرأوا ان يتقوا ذلك بارجاع جميع الاحكام الى النصوص ولو بضرب من الاقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها باجتهاد الامراء والحكام)) 0 5 . وكذلك فقد اضطر ابن تيمية الى ان يبتعد عن العمل بهذا المبدأ لارتكاز اهل الأهواء عليه 1 5 .

مع ذلك فواقع الامر ان نفس هذا الاشكال ينطبق على القياس ايضاً، حيث ظهرت الكثير من القياسات التي لا تنسجم مع المبدأ الذي وضع له، حتى ذكر ابن القيم في كتابه (اعلام الموقعين) حالات كثيرة من القياسات غير المنضبطة بالضابط الشرعي، وانما جاءت متناقضة ومخالفة لنصوص الاسلام ومبادئه، وبلغت الصفحات التي سوّدها هذا الفقيه لبيان هذه القياسات غير المنضبطة ما يقارب الأربعين صفحة 2 5 . وكذا ما ذكر من أمثلة لاجتهادات فقهية كثيرة العدد تقارب الستين شاهداً؛ تعدل عما جاء من نصوص شرعية وتردها 3 5 .

لهذا كان نفاة القياس والاستصلاح والاستحسان يكررون نفس العلة من تلك الشبهة.. فقد كان داود الظاهري من العاملين بالقياس في اول امره، خاصة وهو تلميذ الشافعي، الا انه لم يستمر على ذلك فرفضه وعدل عنه بعد ان رأى توسعه بغير ضوابط وحدود. لذلك قيل له كيف تبطل القياس وقد اخذ به الشافعي؟ فقال: اخذت ادلة الشافعي في ابطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس 4 5 .

على ان الأدلة التي كانت موضع اهتمام المتقدمين من الفقهاء هي تلك التي تناط بأصول ونصوص معينة محصورة، وهي في الغالب لا تتجاوز حدود الظن لكونها محدودة. وقد انساق سائر الفقهاء التابعين يقلدون أئمتهم في القضايا التي نصوا عليها اصولاً وفروعاً، ومنها اصل المصلحة، مما جعل قضاياهم غير قابلة للحسم. لكن بعض المتأخرين تقدم في صياغة الدليل خطوة، ربما بدأت أول الأمر بالغزالي ثم تكاملت عند الشاطبي. فبخصوص المصلحة نرى الغزالي يعود بها لا الى دليل معين وانما الى ادلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الاحوال وتفاريق الامارات، مما جعله يعتبرها حجة قطعية لا تقبل الخلاف 5 5 ، لكنه قيدها بقيود ثلاثة لا وجه لها.

مهما يكن فان مفاد هذا السلوك مستمد من الدليل الاستقرائي وإن لم يسمه، فضلاً عن أن ينظّر اليه. وقد استمر هذا الحال الى أن جاء الشاطبي (المتوفي سنة 0 9 7 هـ) فأولاه جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات)، حيث استطاع ان يؤسس هذا المنهج الجديد ومن ثم يعيد صياغة القضايا الأصولية بعد عرضها على محك الاستقراء، فكان من نتائج هذا الجهد أن خرج باثبات العديد من القضايا الاصولية على نحو القطع، بينما كان المتقدمون لا يولون أهمية إلا الى تتبع النصوص المباشرة المحصورة ذات الأفق غير المتعدد الوجوه، مما يجعل قضاياهم لا تفيد الا الظن. الأمر الذي نبّه عليه الشاطبي في بعض كلماته 6 5 .

هكذا يُعد الشاطبي بحق صاحب منهجة جديدة في التنظير للاستقراء في الشرعيات. فبفضل وعيه الاستقرائي استطاع ان يدلل على العديد من القضايا الاصولية، ومنها المصلحة التي أناطها بمرجعية شرعية راسخة وقاطعة. الامر الذي جعله يقف على أرض صلبة قوية بعيداً عن الظنون والتكهنات التي مُلئت بها كتب الفقه والأصول. فلم يعد الاهتمام منصباً على نصوص أحادية غالباً ما تبعث على الظن، سواء من حيث السند أو المتن والدلالة، وانما اصبح الشاغل في الاهتمام هو البحث القائم على تجميع الظنون تجاه معنى محدد لإفادة القطع منها.

على أن طريقة الشاطبي تتجاوز مبدأ رد المصلحة الى دليل اجتهادي اخر كالذي فعله الحنابلة في إرجاعها الى القياس. ذلك ان عملية الاستقراء تنطوي على تتبع مراعاة الشارع للمصلحة في مختلف المواضع والقضايا، فيتولد من ذلك اصل مستقل مقصود هو الذي يطلق عليه المصلحة، والتي احياناً تكون منافية للقياس فتتقدم عليه. لهذا يرى الشاطبي بان ((الشريعة كلها ترجع الى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت ادلتها عموماً وخصوصاً، دلّ على ذلك الاستقراء)) 7 5 . وهو بهذا يعتبر جميع احكام الشريعة بحسب الاستقراء لا تخلو من مصلحة ضمن مصالح ثلاث هي الضرورات والحاجيات والتحسينات، ولكل منها ما يكملها، على ما سنعرف ذلك فيما بعد.

لكن رغم ذلك علينا ان نعترف بأن ما قام به الشاطبي لم يغير ـ في واقع الأمر ـ حقيقة الخلاف بين الفقهاء، حيث رهنوا انفسهم في التبعية الفقهية دون النظر الى أصل الدليل، خاصة وان الاجتهاد قد اوصدت أبوابه، واخذت تتغلغل فكرة الانسداد وتستغرق أذهان الفقهاء ونفوسهم، مما جعل إعادة النظر في الخلاف الفقهي والاصولي بين المذاهب تكاد ان تكون ظاهرة معدومة او نادرة قبل العصر الحديث، خاصة بعد عصر الشاطبي، عصر ما يسمى الانحطاط.

على ان ما يعنينا هو ما قام به الشاطبي من ضرب امثلة كثيرة من الاحكام الشرعية، في المعاملات والعبادات والتقديرات، تدخل ضمن عناوين النهي لولا ان الشريعة السمحاء راعت فيها جوانب المصلحة والتيسير، فاعتبر ذلك مدركاً شرعياً على صحة العمل بمبدأ الاستحسان. ومن الامثلة التي ذكرها بهذا الخصوص: ((القرض فانه ربا في الاصل لأنه الدرهم بالدرهم الى اجل، لكنه ابيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقى على اصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين. ومثله بيع العَرِيَّة بخرِصِها - اي تقدير ما على النخل من الرطب - تمراً 8 5 ، فأنه بيع الرطب باليابس، لكنه ابيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة الى المعرِي والمُعرَى. ولو امتنع مطلقاً لكان وسيلة لمنع الإعراء، كما ان ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع اصل الرفق من هذا الوجه. ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فان حقيقتها ترجع الى اعتبار المآل في تحصيل المصالح او درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك، لانا لو بقينا مع اصل الدليل العام لأدى الى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل الى اقصاه. ومثله الاطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وان كان الدليل العام يقتضي المنع، واشياء من هذا القبيل كثيرة)) 9 5 .

وهو في محل اخر دلل بواسطة الاستقراء على ان الشارع انما يقصد في احكامه العادية مصالح العباد ((فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فاذا كان فيه مصلحة جاز؛ كالدرهم بالدرهم الى اجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض. وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز اذا كان فيه مصلحة راجحة.. وقال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب}، وقال {ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل}، وفي الحديث: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، وقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال: (القاتل لا يرث)، (ونهى عن بيع الغرر) 0 6 ، وقال: (كل مسكر حرام)، وفي القرآن: {انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر}، الى غير ذلك مما لا يحصى. وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وان الاذن دائر معها اينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة، فدلّ ذلك على ان العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات الى المعاني)) 1 6 .

واهم ما يلاحظ هو انه يمكن توظيف طريقة الشاطبي في الاستقراء الى أوسع مما أرادت تثبيته. ذلك انها اذا كانت دالة على مراعاة الشارع لمصالح الواقع، ويؤيده ما عليه سجية الصحابة من العمل وفق هذا المبدأ بلا اعتراض، مما يكشف عن الموافقة الشرعية؛ فان مآل هذه الطريقة هو الانسياق الى جعل حجية المصلحة ليس فقط بخصوص القضايا غير المنصوص فيها، وانما حتى تلك التي يرد فيها النص، الأمر الذي يبرر تغيير الحكم، ليس في حدود التغيير الجزئي من تخصيص عام النص، وهو ما يسلّم به الشاطبي تحت عنوان الاستحسان، وانما ايضاً على نحو التقييد والتغيير الكلي، وذلك لاعتبارين مستخلصين من هذه الطريقة، وهما مما سبق للطوفي أن عوّل عليهما في تبريره لصحة تخصيص النص بالمصلحة أو حاكمية هذه الأخيرة عليه، كما سيمر علينا:

احدهما ما دلل عليه الشاطبي من صحة مبدأ الاستحسان، اذ تبعاً للاستقراء لاحظ جملة من القضايا التي عدلت فيها الشريعة عن قواعدها ومقتضياتها تنزيلاً عند المصلحة، فادرك ان ذلك دالاً على صحة تخصيص النص بها. لكن اذا علمنا ان هذه الدلالة تكشف عن ان ملاك التغيير ولو في حدوده الجزئية انما هو المصلحة ذاتها؛ لذا فلا فارق بين ان يكون التغيير جزئياً أو كلياً حينما تحصل المنافاة مع الملاك. فلو ثبت أن الحكم لا يتسق مع ما عليه المصلحة؛ لكانت الضرورة قاضية بتغييره، جزئياً كان او كلياً، بحسب حدود دائرة تلك المضادة وعدم الاتساق. وهو أمر يؤكده ما جرى في الشرع من تغييرات كثيرة للاحكام باعتبارات المصلحة وتغيرات الواقع، كما يشير اليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

أما الاعتبار الثاني المستخلص من طريقة الشاطبي فهو انه بطريقة الاستقراء عدّ المصالح مقاصد شرعية تُبتغى وراء أحكام النصوص بمختلف صنوفها وأنواعها، سواء في العبادات او المعاملات أو الحدود والتقديرات. الأمر الذي يقضي بضرورة تقديم المقاصد على الوسائل عند التعارض، مما يدل على صحة حاكمية المصلحة على غيرها من الاحكام ذات الصفة الوسيلية، وبالتالي جاز تغييرها بما يتفق مع تلك المقاصد، باعتبار ان هذه الاخيرة هي المقصودة والاهم؛ شرعاً وعقلاً.

هكذا يتبين ان طريقة الشاطبي في التأسيس تجر ولا شك الى وجوب الاخذ بالمصلحة ليس في القضايا غير المنصوص فيها، وانما حتى في غيرها من القضايا المنصوصة. واذا اردنا ان نضع المزيد من الاعتبارات الدالة على صحة هذا المنهج فيمكن ملاحظة النقاط التالية:

1 ـ من جهة ان الاستقراء دال على ان الشرع كان يتبع منهج تنويع الاحكام وتغييرها استناداً الى المصالح. الأمر الذي عُدّ ذلك دليلاً على حجية الاستحسان. وهو ما يكشف عن كون المصلحة هي الملاك المعوّل عليه في التنويع والتغيير، كما سبق ان عرفنا.

2 ـ ان ما يبرر ترجيح المصالح على الاحكام الشرعية عند التعارض هو ان الاستقراء دال على ان الأُولى هي المقصودة من الاحكام، وان الشارع كان حريصاً على مراعاتها وتوخّيها. بينما الاحكام ليست في الغالب سوى وسائل لتحقيق تلك المصالح. ومن الواضح ان المقاصد تتقدم على الوسائل وتترجح عليها عند المعارضة.

3 ـ إن ما يظهره الاستقراء من التنويع والتغيير للأحكام طبقاً للمصالح التي أولاها الشارع جلّ اهتمامه؛ لا يفسر الا على ضوء حدوث عناصر جديدة في الواقع عملت على تغيير الموضوعات التي تناط بها الاحكام. فقد سبق ان عرفنا ان الحكم الشرعي لا ينشأ ولا يتغير الا بمراعاة جانبين هما عناصر التنزيل وعناصر الواقع، وان مبرر التغيير لا يحصل الا بحدوث تبدل في عناصر الواقع. فلولا هذا التبدل ما كان لتغيير الحكم من معنى؛ استناداً الى وجود الحكمة في المشيئة الالهية بدلالة العقل والشرع. وعليه فإن حدوث المصلحة يكشف عن تجدد في عناصر الواقع الخاصة بالموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. الأمر الذي يستدعي تغييره بما يتسق مع هذه المصلحة كمقصد، وبما يتفق مع الموضوع المستحدث ذي العناصر الجديدة.

4 ـ من جانب آخر ان من الواضح ان العلاقة بين المصلحة والضرر هي علاقة ضدية، بحيث اذا وجد أحدهما انتفى الآخر وبالعكس، كما ذهب الى ذلك العديد من الفقهاء، مع اخذ اعتبار الشكل النسبي من هذه العلاقة، حيث قد تكون المصلحة ضعيفة فيكون الضرر الذي يقابلها ضئيلاً لا يلتفت اليه، وكذا العكس، وهو الامر الغالب في الحياة الانسانية التي تنطوي على مزيج مركب من هذه العلاقة الدائمة. فعلى هذا الاعتبار ان تفويت المصلحة القوية يفضي الى الوقوع في الضرر القوي، وحيث ان هذا الضرر منهي عنه شرعاً، لذا كان الموقف من التعارض الذي قد يحدث بين الضرر وبين حكم النص هو إما العمل بنفي الضرر وترك الحكم، أو العمل بالحكم رغم ما يفضي اليه من الضرر، لكن الشرع على اتفاق لا يرضى بالضرر كما في الحديث المأثور (لا ضرر ولا ضرار)؛ لذا كان الجمع بين الأمرين هو تقديم هذه القاعدة المصلحية على حكم النص، بمعنى انه لا يصح العمل بالحكم مادام يسبب الضرر المعتد به، وعند انتفاء الضرر وجب الالتزام بالحكم كما نبّه عليه الطوفي على ما سيأتينا.

كذلك فان تقدير المصلحة والضرر لا يتخلف عن حدود الوضع الذي عليه الانسان ودرجة تطور الحياة. وبالتالي فانه لا غنى عن أخذ اعتبارات النسبية في الحكم والتقدير، سواء كان في الدرجة التي عليها المصلحة او في نوعها. فمثلاً ان استخدام اجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) وتداولها فيه من المصلحة ما لا ينكر لمختلف مجالات الحياة. وقد يتراءى للبعض ان مثل هذه المصلحة ليست قوية، الى درجة يجوز الاستغناء عنها بما لا يفقد الانسان شيئاً كان يملكه. لكن اذا نظرنا للأمر من زوايا متعددة نجد ان هذه المصلحة بالغة الأهمية، وان فقدها يوقعنا بأضرار كبيرة متباينة يصل بعضها الى الخطورة. فابتداءً ان الاستغناء عن هذه المصلحة وما شاكلها يتضارب اساساً مع الطبيعة التي جُبل عليها الانسان وهي تسخير طاقاته الكامنة بما يحقق له من تطور وكمال. الأمر الذي يفضي الى إلغاء الفارق الحدي في القيمة بين الحياة المعدمة الساكنة كحياة البدو، وما عليه الحياة المتطورة بكل ما تنعم به من نِعم ومسخرات. وهذا يعني إنكاراً لأهمية حركة التاريخ وتطور الانسان.

ومن ناحية اخرى يمكن لتلك الاجهزة ان تساهم في تقديم خدمات تسدد من خلالها الكثير من متطلبات المجتمع الملحة وغير الملحة، الأمر الذي يؤكد الحاجة اليها واعتبارها مصلحة لا غنى عنها.

ولو نظرنا الى المسألة من زاوية مقاييس الحالة والعصر فان الاستغناء عن امثال تلك المصلحة لا بد ان يعرّض المجتمع الى حالة من النقص والتخلف الشديدين بالقياس مع غيره من المجتمعات، بل ويمكن ان يرمي به الى صور خطرة من الأضرار التي قد تنجم عن عدم امكانية الصمود امام المنافسات التي تبديها القوى الدولية في مختلف المجالات؛ كالاقتصاد والسياسة والعلم والاعلام والثقافة، فضلاً عن الجوانب العسكرية، مما قد يعرض البلد للافتراس او السقوط قبال تلك الضغوط.

وواقع الامر ان اقرار المصلحة في مثالنا الآنف الذكر يشبه الى حد كبير الاقرار الخاص بالمصلحة من التعليم الالزامي. فلولا التعليم لظل الانسان يعاني من الضعف في الرشد والجمود في العقل. والانسان وان لم يفقد شيئاً كان يملكه، لكن باعتبار ان كماله الطبيعي لا يتم الا بالعلم فان الاستغناء عن هذا الاخير يفضي به الى ضرر الجهل والنقص والحرمان. وان المجتمع الجاهل لا محالة ان يتعرض الى مشاكل واضرار جمّة كتلك التي ذكرناها في مثالنا السابق.

على أن الضرر المنبني على فوات المصلحة قد يقدر من حيث المآل، وكذا ذات الشيء بخصوص المصلحة. فليس بالضرورة ان يكون التقدير ما يحدث فعلاً وآناً، فاحياناً انه يلزم عما يحدثه الواقع من تغيرات. على هذا فرب ضرر يسير لا يعتد به، الا ان أبعاده تفضي الى ان يكون عظيماً، وكذا الحال مع المصلحة.

والنتيجة الطبيعية من ذلك انه يلزم ممارسة التحديث لمختلف مجالات الحياة بما يتسق ومقاصد الشرع في جعل الانسان المؤمن يمثل اعلى صور الاستخلاف والتسخير في الارض. وبالتالي انه اذا كانت المصلحة على اقسام ثلاثة ضرورية وحاجية وكمالية؛ فان الضرر المضاد لها ينقسم ايضاً الى ما يقابلها. واذا كان من المسلّم به ان الاستصلاح بحسب القسمين الاولين الانفي الذكر هو مما يدخل ضمن دائرة الحجية ولزوم العمل به؛ فانه بحسب القسم الاخير كان مورد تحفظ واحتراز من قبل الفقهاء، رغم اتساقه مع المقاصد وكونه يحقق فوائد قوية تتناسب مع ما خُلق لأجله الانسان من الصيرورة في سلّم التكامل.

بل يمكن ان يقال بأن الفاصل بين المصلحة الحاجية والكمالية هو فاصل نسبي، قد تدخل اعتبارات كثيرة اجتماعية وزمنية لتحويل ما هو كمالي الى ما هو حاجي، خاصة وان العلاقات الانسانية اصبحت متشابكة فيما بينها الى ابعد الحدود، فأي شيء يمكن ان يؤثر في كل شيء طالما اصبح العالم كما يعبر عنه بانه قرية كونية.

فمثلاً ان التعليم الالزامي الى سن محدد كسن الرشد يمكن اعتباره مصلحة كمالية في العصور الخالية، أما في العصر الحديث فيعتبر ضمن الحاجات الملحة لما له من تأثير على مستقبل البلد ومصيره. وكذا بخصوص انشاء النوادي الثقافية والترفيهية وفتح المكاتب والمؤسسات وانشاء الدساتير واللوائح التي تنظم سلوكيات الناس وتنجز معاملاتهم وتحل مشاكلهم؛ كلها او اغلبها من المصالح الكمالية في العصور الخالية، لكنها اصبحت اليوم من المصالح المؤثرة على استقرار البلد. وكذا فان هناك مصالح قد ينظر لها في السابق بانها من اللهو التي لا تدخل حتى حيز المصالح الكمالية، مثل عروض التمثيل والموسيقا والغناء (المحللة)، بينما اليوم اصبحت من الحاجات الهامة التي بها يمكن لا فقط التأثير على عقلية المجتمع وتوجيهه الوجهة المطلوبة؛ بل وتحصينه من الوقوع تحت هيمنة مثيلاتها من الوسائل الاعلامية المضادة، مما يجعل فائدتها مزدوجة. ويكفي ان نتصور حجم الفارق في التأثير بين اعلام مرئي او مسموع وهو يحفل بتلك العروض، وبين اخر ليس فيه شيء منها.

على هذا لم تعد هناك مصالح كمالية لا تقبل ان توظف التوظيف المناسب الذي يحقق سد الحاجات الملحة.

وبشكل عام يمكن تقسيم المصالح العقلائية المحللة الى خمسة انواع، ويقابلها نظائرها من المضار:

أ ـ مصلحة يسيرة غير معتد بها.

ب ـ مصلحة قوية معتد بها، وهي المصلحة الكمالية.

ج ـ مصلحة حاجية، كالمصلحة في الملبس والمسكن.

د ـ مصلحة ضرورية او قوام حياة، كالمصلحة في الحفاظ على النفس من القتل.

هـ ـ مصلحة غائية ومنها المصلحة الحقوقية. كمصلحة الفرد في استرداد حقه من المعتدي، مثل الغصب والسرقة وما الى ذلك.

ويلاحظ انه باستثناء المصلحة الاولى ان جميع المصالح الاخرى هي لازمة التسديد. أما ما عدا هذه المصالح فلا تعد مقبولة، مثل مصلحة المعتدي في اعتدائه، والمجرم في تنصله من العقوبة.

5 ـ طالما عرفنا ان هناك شواهد عديدة اضطر فيها الفقهاء الى تغيير حكم النص، وذلك من خلال لجوئهم الى المقاصد، واعتبار الاحكام المغيَّرة هي احكام وسيلة ثبت عدم صلاحيتها الاطلاقية او غير المشروطة.. فهذا المبرر هو في حد ذاته يشفع للمصلحة في ان تؤدي دورها من الحاكمية عند تعارضها مع الحكم باعتبارها هي المقصودة من التشريع. فالاعتبار المأخوذ على هذا النحو لا يقل قدراً وقيمة عن الاعتبارات التي وجّه بها الفقهاء تجاوزهم لبعض الاحكام احياناً.

6 ـ يضاف الى ذلك فان قبول الفقهاء لأصل الاستحسان المتضمن تخصيص عموم النص بالمصلحة، هو في حد ذاته كفيل بأن يسمح بتغيير الحكم بكليته. فما فعله الفقهاء في صياغتهم الاصولية لذلك المبدأ من الاستحسان لا يتجاوز - بنوع من الاعتبار - عن كونه تضييقاً للحكم الظاهر من النص، والتضييق هو شيء من التغيير الجزئي، وبالتالي فلا فرق بينه وبين التغيير الكلي، حيث كلاهما يعبر عن اجتهاد رغم وجود النص.

نعم يصح ان يقال ان العمل الاستحساني انما هو فهم لحكم النص وليس تغييراً له. لكنا نقول ان هذا الفهم لم يبنَ على النص ذاته، وانما على عناصر اخرى خارجية عقلية او واقعية هي التي حددت مجال حكم النص، ولولاها لظل عموم الحكم على حاله من غير تغيير. أي أن التشريع هنا هو تشريع غير قائم على ذات النص، لذلك اعتبرناه نوعاً من التغيير لظاهر الحكم. فنحن هنا لا نتعامل الا مع الظاهر من النص، ولا نعلم حقيقته على وجه المطابقة واليقين، والظاهر منه لا يفيد التخصيص، بل يفيد العموم كما هو واضح. لهذا يصدق ان يقال - بنوع من الاعتبار - ان التخصيص في العملية الاستحسانية هي حالة من التغيير للحكم الظاهر، بدلالة تأثر هذا الحكم بالعناصر الخارجية، ولولاها لبقي الحكم كما هو. وفي القبال يصح اعتبار ذلك مجرد فهم للحكم نبّهت عليه تلك العناصر.

لكن ذات الشيء يصدق مع حالة ما اطلقنا عليه التغيير الكلي للحكم. فهو ايضاً عبارة عن فهم لحكم النص، وذلك بإناطته بموضوع محدد خاص على خلاف الظاهر الذي يبدي الاطلاق والشمول. والذي نبّه على هذا الفهم هو ايضاً العناصر الخارجية الخاصة بالواقع، كتلك التي لها علاقة بالمصلحة.

فالمصلحة التي يفرزها الواقع - هنا - تكون كاشفة عن حدود الموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. فمن جانب يمكن اعتبار ذلك عبارة عن تغيير للحكم الشرعي تبعاً لتغير الموضوع بعناصره الواقعية. كما يمكن اعتبار ذلك عبارة عن فهم للنص بتحديد مجال فاعليته ازاء ما يناسبه من الموضوع. وهو من هذه الناحية لا يختلف عن تخصيص الحكم بالمصلحة كما هي طريقة الامام مالك. اذ تارة يراد بالتخصيص عبارة عن تغيير الحكم الشرعي بتغير موضوعه جزئياً، واخرى يراد به الفهم من حيث ان النص لم يقصد العموم وإن اظهره بدلالة الكاشف المعبر عنه بالمصلحة. لذلك لا فرق بين التخصيص بالمصلحة وتغيير الحكم بها.

الطوفي والمصلحة

يعد نجم الدين الطوفي الحنبلي (المتوفي سنة 6 1 7 هـ) اول من تجرأ على توسعة حجية المصلحة وبسطها الى الحد الذي أجاز من خلالها تغيير حكم النص في رسالته المسماة (في رعاية المصلحة)، وذلك من خلال توظيف المنطلقات المعتمدة في اثبات المصلحة والاستحسان، وهي المنطلقات الكاشفة عن مراعاة الشرع للمصلحة؛ كتلك التي وظف لها الشاطبي فيما بعد الدليل الاستقرائي على ما سبق أن عرفنا. لكن الملاحظة التي تسترعي الانتباه هو ان نظرية الشاطبي على علاتها وقيمتها لاعتمادها على الدليل المنظر للمنطق الاستقرائي؛ لم تستطع ان تستكشف الجديد مثلما سبق اليه الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. اذ يفترض ان الوعي بالدليل الاستقرائي يساعد الباحث على استكشاف ما يمكن ان تمتد اليه يده، بخلاف ما لو كانت ممارسة هذا الدليل من غير وعي كما هو حال الطريقة التلقائية التي اعتمدها الطوفي في استكشافه الجديد. الأمر الذي يعني ان الطوفي قد توصل الى ما لم يستطع الشاطبي ان يتوصل اليه فيما بعد. فرغم السبق الزماني وعدم الوعي بالدليل الاستقرائي كانت نظرية الطوفي أكمل مضموناً مما عليه نظرية الشاطبي، وأن هذه الأخيرة كانت مقطوعة الصلة بالأولى. بل يمكن ان يقال ان المضمون المعرفي لنظرية الطوفي هي ابلغ صورة وصل اليها تاريخ الفقه الاسلامي الى يومنا هذا. والطوفي كان يعي ذلك حينما صرح بجدة نظريته وانها أبلغ من طريقة الإمام مالك في الإستصلاح، لأخذه بالمصلحة حتى ولو خالفت نصاً او إجماعاً.

ويؤسف من ان البناء الذي اسسه الطوفي في هذا المجال لم يجد من يرعاه وسط الفقهاء، مما جعل ولادته يتيمة. فقد رفض الفقهاء مشروع الطوفي بنحو من الاجماع مع تشديد النكير عليه، حتى لقي في حياته الكثير من المتاعب بالاضطهاد والحبس والتعزير والتسفيه والتشنيع، سواء من قبل السلطة الحاكمة او من الفقهاء انفسهم، بل واتهم على ارائه الجريئة في المصلحة ونقد بعض كبار الصحابة بالتشيع 2 6 .

النتاج التراثي ونظرية الطوفي

على انا نعد نظرية الطوفي نتاجاً طبيعياً للتطور الذي افضى اليه الفقه الاسلامي عبر مراحله التاريخية، وذلك لعدد من المبررات التراثية التي سبقته ووجدها حاضرة أمامه، فضلاً عما لفت اليه النظر في العودة الى تحليل القضية من زاوية ما امدته الشريعة الاسلامية من نصوص. فمن حيث المبررات التراثية التي تتسق ونظريته نلاحظ ما يلي:

1 ـ لعل من المدارك التراثية الهامة التي قد تكون ساهمت في الفات نظر الطوفي هو استحسان المالكية القائم على تخصيص النصوص بالمصلحة كما سبق ان بينا ذلك، وإن لم يوظف الطوفي ذلك في رسالته. حيث ان هذا التخصيص هو عبارة عن ترجيح المصلحة على عموم النص. فهو وإن لم يشمل النص بكامله الا ان المناط واحد كما سبق ان عرفنا.

2 ـ لقد سبق للغزالي ان اجاز ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع فيما لو تعارضا، معتبراً هذا الترجيح او التخصيص لا يتم الا طبقاً لثلاثة شروط؛ هي ضرورية المصلحة وقطعيتها وكليتها. ونظرية الغزالي هذه وان لم تكن من حيث المضمون جديدة في الموضوع؛ فان قبولها لجواز ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع ولو ضمن شروط يجعل نظرية ترجيح المصلحة على حكم النص مفتوحة وليست ممنوعة من حيث الاصل، أو مرفوضة جملةً وتفصيلاً، اذ تصبح الاشكالية محددة بالشروط والقيود فحسب.

3 ـ لا شك ان قواعد فقهية من امثال (الضرورات تبيح المحضورات) و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و(المشقة تبعث على التيسير) وما اليها؛ يمكن ان تعد من الموجهات التي ساهمت في الفات نظر الطوفي بصحة حجية ترجيح المصلحة واعتبارها اقوى من حكم النص والاجماع. فهذه القواعد التي فيها تُقدم المصلحة على حكم النص؛ تسند النظرية الجديدة وتتسق معها، لكن مع ملاحظة ان تلك القواعد لها خصوصية، وذلك من حيث اعتبار شرط وجود الضرر البالغ، بينما في دليل المصلحة هناك نوع من التعميم الذي يشمل حتى الحالات التي لم تصل الى حد الضرورة والحاجة وإن حصل في ذلك نوع من الضرر، خاصة وان الطوفي يرى المصلحة نقيض الضرر بلا واسطة، فحيث تكون المصلحة ينتفي الضرر، وحيث تنتفي المصلحة يتحقق الضرر.

4 ـ كذلك ما توصل اليه الفقهاء من ان الشرع موضوع لتحقيق مصالح الانسان كمقصد اساس تدل عليه مختلف الاحكام الشرعية في جميع ابواب الفقه، سواء كانت المصالح ضرورية او حاجية او تحسينية، وهي التي اخذت من الشاطبي جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات) والتي سخّر لها منهجه المميز في الاستقراء، على ما مر معنا. والطوفي في هذه النقطة يتبع نفس السلوك من التركيز على المعنى الذي توصل اليه الفقهاء من ان مراعاة المصلحة هو المقصد الذي تلجأ اليه الشريعة في جميع احكامها.

5 ـ ان هناك عدداً من المواقف والمقولات التي اطلقها الفقهاء مما يتسق ونظرية الطوفي، منها مقولة صحة تأثير الزمان والمكان على تغيير الاحكام، وتبنيهم احياناً بعض الفتاوى التي تختلف كلياً عن احكام النصوص بدعوى ان هذه الاخيرة كانت تعالج وضعاً خاصاً ضمن ظروف معينة لا يليق تمديدها عبر الزمان والمكان. وكذلك مقولتهم في جواز تشريع ولي الامر ما يناسب واعتبارات المصلحة حتى ولو اختلف في ذلك عن السياسة النبوية لتغير الظروف. والاهم من ذلك هو ان الفقهاء تقبلوا العديد من الاحكام الاجتهادية لبعض الصحابة وتوارثوها رغم انها كانت تغييراً لاحكام بعض النصوص الصريحة باعذار مختلفة.. فكل ذلك مما يتسق ونظرية الطوفي ويجعلها غير بعيدة عن العقل الفقهي ومنطقه الاسلامي 3 6 .

هكذا نخلص الى ان نظرية الطوفي لها ما يبررها بحسب المقولات والنتائج التي احدثها الفقه خلال مراحله التطورية عبر العصور. فمن جانب لا ينكر اغلب العلماء ترجيح المصلحة على النص والاجماع في بعض الحالات كتلك المقيدة بالمصلحة الضرورية. كذلك يتفق العلماء على كون المصلحة هي المقصد الاساس الذي تبتغيه الشريعة من وراء احكامها، سواء على نحو المصلحة الضرورية او الحاجية او الكمالية. كما ان من المذاهب من اجازت ترجيح المصلحة على عموم النص وتقديمها عليه، كالذي ذهبت اليه المالكية. يضاف الى سائر القواعد والاعمال الفقهية التي اجازت تغيير العديد من احكام النص. فباضافة هذه الامور بعضها الى بعض تصبح النتيجة التي جاء بها الطوفي ليست جديدة كل الجدة، وانما نجد بذورها وجذورها عند تلك المنطلقات التراثية التي زخر بها العقل الفقهي. ولولاها لكان من الصعب تصور ان يكون لهذا الفقيه الحنبلي من القدرة والجرأة على ان يصل بمثل ما وصل اليه من نتيجة.

أدلة نظرية الطوفي

أما الادلة الفعلية التي لجأ اليها الطوفي فيمكن تقسيمها الى ما يلي:

1 ـ اكثار الطوفي من الامثلة الشرعية التي تكشف عن مراعاة الشرع للمصلحة واعتبارها من المقاصد في قبال احكام الوسيلة. وهو بهذا يتبع الطريقة الاستقرائية في تتبع النصوص الوافرة التي تثبت مراعاة الشرع للمصلحة، وذلك كي يستخلص النتيجة المنطقية في وجوب تقديم المقاصد على الوسائل، وبالتالي تقديم المصلحة على سائر الاحكام والنصوص وكذا الاجماع عند التعارض. وبعبارة اخرى انه لما كانت المصلحة هي المقصودة وان النص والإجماع وسائر الأدلة والامارات الشرعية هي وسائل لتحقيق هذه المصلحة؛ لذا من الواجب تقديم هذه الاخيرة عليها عند التعارض. فعنده ان الاجماع أقوى من النص، وان المصلحة أقوى من الاجماع، لذا فالأولى ان تكون المصلحة أقوى من النص.

2 ـ تقديم الطوفي لامثلة عديدة حاول من خلالها ان يبين كيف ان الشرع من جانب والصحابة ايضاً رجحوا العديد من المصالح على احكام النص، بل وعلى الاجماع ايضاً، مع اخذ اعتبار عدم تبلور هذا المصدر التشريعي عند الصحابة. كما ان الامثلة التي ذكرها في رسالته ليست جميعها دالة على ترجيح المصلحة، وهي كالاتي:

ان الصحابة رغم انهم اجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء، الا ان ابن مسعود خالف ذلك طبقاً لاعتبارات المصلحة، حيث قال: ((لو رخصنا لهم في هذا، لأوشك ان يبرد على أحدهم الماء، فيتيمم وهو يرى الماء)). ورغم ان ابا موسى احتج عليه بالآية وحديث عمار؛ الا انه لم يلتفت الى ذلك، وهو ترك للنص والاجماع للمصلحة.

كذلك رغم ان النبي (ص) قال لاصحابه حين فرغ من الاحزاب: ((لا يصلين أحدكم العصر الا في بني قريضة))؛ الا ان بعضهم صلاها قبل الوصول الى بني قريضة، وهو خلاف النص لبعض الاعتبارات المرجحة.

كما ان النبي (ص) قال لعائشة: ((لولا قومك حديثو عهد بالاسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد ابراهيم))، مما يدل على ان هدمها وبناءها من جديد هو الواجب، لكن النبي (ص) تركه لمصلحة الناس.

كذلك ان النبي (ص) لما أمر الناس بجعل الحج عمرة فانهم قالوا: كيف وقد سمينا الحج؟ وتوقفوا. وهو عبارة عن معارضة للنص بالعادة.

وكذا انه لما امرهم يوم الحديبية بالتحلل فانهم توقفوا تمسكاً بالعادة، في ان لا حلّ قبل قضاء المناسك، حتى غضب النبي (ص) وقال: ((ما لي آمر بالشيء فلا يفعل؟)).

كما روى ابو يعلى الموصلي في مسنده ان النبي (ص) بعث ابا بكر ينادي: ((من قال لا إله الا الله دخل الجنة)) فوجده عمر فردّه، وقال: ((إذاً يتكلوا)).

كما روى الموصلي ان رجلاً دخل يصلي فأعجب الصحابة سمْته، فقال النبي (ص) لأبي بكر: اذهب فاقتله، فذهب فوجده يصلي، فرجع عنه. ثم أمر عمر فرجع، حيث كلاهما يقول: ((كيف اقتل رجلاً يصلي؟)). ثم أمر علياً بقتله فلم يجده، فقال النبي (ص): ((لو قُتل لم يختلف من امتي اثنان)). وبه يعلم ان الشيخين ابا بكر وعمر تركا النص بالاستحسان في اقباله على العبادة، ومع ذلك لم ينكر عليهما النبي (ص) ترك أمره، ولا عاتبهما ولا ثرّب عليهما.

3 ـ ومن حيث الاستدلال بالنص فان الطوفي بنى نظريته تعويلاً على فهم وتحليل الحديث النبوي (لا ضرر ولا ضرار)، ومن ثم توظيفه ضمن اطار اعتبار المصلحة مقصودة ومرجحة على غيرها. فهو يفهم النفي في الحديث النبوي المشار اليه بأنه ((نفي عام إلا ما خصصه الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع، وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة. لأنا لو فرضنا بعض أدلة الشرع تضمن ضرراً، فإنْ نفيناه بهذا الحديث كان عملاً بالدليلين، وان لم ننفه به كان تعطيلاً لأحدهما، وهو هذا الحديث، ولا شك ان الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها)). على هذا يرى ان تقديم المصلحة عليهما انما ((بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن بطريق البيان)) 4 6 .

ورغم ذلك استدرك الطوفي حالة رأى انه لا يصح فيها المعارضة بين النص والمصلحة، او تقديم هذه الاخيرة على الاول، وذلك فيما لو كان النص قطعي الصدور وقطعي الدلالة من جميع الوجوه مطلقاً بحيث لا يتطرق اليه احتمال بوجه 5 6 . يضاف الى انه اعتبر المصلحة تلزم في المعاملات ونحوها دون العبادات وما شاكلها من تقادير، وذلك باعتبار ((ان العبادات حق للشرع خاص به ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً)) 6 6 .

هذه هي نظرية الطوفي التي تتسق مع قول بعض الاصوليين: ((حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله)) 7 6 . ومثله ما ذهب اليه الدواليبي في كتابه (المدخل الى اصول الفقه) معتبراً قاعدة المصلحة مستقاة من روح الشريعة وبالتالي صحة بناء الحكم فيها وذلك لِما ((في الشريعة من قواعد عامة برهنت ان كل مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء)) 8 6 . بل نجد دعماً لهذه النظرية من قبل بعض المصلحين الرواد في عصرنا الحديث. فالملاحظ ان رشيد رضا قام بنشر رسالة الطوفي في احد اعداد مجلته (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية. فهو يعد التعارض بين المصلحة العامة وبين العمل ببعض النصوص انه يرجع في الحقيقة الى التعارض بين النصوص، لأن مراعاة المصلحة مؤيدة بها. وهذا هو اهم مبررات الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. مشيراً الى انه قلما يوجد في الكتب المتداولة بحث مشبع في هذه المسألة الهامة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها. لكنه مع هذا اشار في محل اخر الى تقييد العمل بأصل المصلحة في قبال النصوص ضمن حدود لم ترد لدى الطوفي. وذلك انه عدّ المصلحة اصلاً في الاحكام السياسية والمدنية يرجع اليه في غير تحليل المحرمات او ابطال الواجبات 9 6 . وكأنه يريد ان يقول ان تحليل المحرمات وابطال الواجبات غير جائزين، لكن تحريم المباحات او ايجابها جائز طبقاً للمصلحة، ولا شك ان مثل هذه الاحكام وتبريراتها هي على خلاف الموروث الفقهي.

الشبهات حول الترجيح بالمصلحة

يوجد عدد من الشبهات والردود على الموقف من المصلحة. فاذا تجاوزنا الاراء التي تمنع من العمل بالمصلحة المرسلة باعتبارها ليست موفقة كما سبق ان دللنا على ذلك، فان هناك بعض الشبهات حول موقف الطوفي من المصلحة وما فهمه من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) كما يلي:

1 ـ هناك اشكال فني من حيث اعتبار الطوفي للحديث النبوي مخصصاً لغيره من الاحكام او النصوص والاجماع، مع ان المخصص بحسب الاصطلاح ((ان يكون اخص مطلقاً من العام ليصح تقديمه عليه.. والنسبة هنا.. هي نسبة العموم من وجه، فوجوب الوضوء مثلاً، بمقتضى اطلاقه شامل لما كان ضررياً وغير ضرري، وادلة لا ضرر شاملة للوضوء الضرري وغير الوضوء. فالوضوء الضرري مجمع للحكمين معاً، ومقتضى القاعدة التعارض بينهما والتساقط، ولا وجه لتقديم احدهما على الاخر، لان نسبة العامين الى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة. والظاهر ان الطوفي بحاسته الفقهية ادرك تقديم هذا الدليل على الادلة الاولية وان لم يدرك السر في ذلك، والسر فيه يرجع الى حكومة هذا النوع من ((الادلة على الادلة الاولية لما فيه من شرح وبيان لها. فكأنه يقول بلسانه ان ما شرع لكم من الاحكام هو مرفوع عنكم اذا كان ضررياً، فهو ناظر اليها ومضيق لها)) 0 7 .

2 ـ ان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) بحسب نظر البعض ومنه النظر الشيعي لا يستفاد منها ترجيح المصالح على حكم النص، بل انها تقتصر فقط في مواضع الضرر والاضرار. لذلك فقد نقد البعض طريقة الطوفي من هذه الزاوية، اي من حيث ان حديث (لا ضرر ولا ضرار) رافع للتكليف لا انه مشرع، فهو لا يتعرض الى اكثر من ارتفاع الاحكام الضررية عن موضوعاتها 1 7 . بمعنى انه لا يغير من الاحكام الا بحدود ما ينشأ عنها من ضرر.

مع هذا يمكن ان يجاب على ما سبق باعتبارين، احدهما فيما يفهم من المصلحة من حيث انها ضد الضرر، فانتفاء احدهما يعني حضور الثاني، فعلى هذا الفهم يسقط الاشكال من اساسه، وهو ذاته الذي عوّل عليه الطوفي من اعتبار الضرر نقيض المصلحة 2 7 . أما الاعتبار الثاني فهو ان قاعدة المصلحة من حيث انها نوع من الكمال المعتبر عقلائياً؛ هي وإن كانت ليست مستمدة من نفس الحديث الآنف الذكر وملابساته الخاصة؛ لكن باعتبار ان القرائن المختلفة التي تقصدها الشريعة بما فيها تطبيق قواعد النسخ والعمل بالاستثناءات او عدم الالتزام بالتطبييق الكلي والحرفي؛ كل ذلك لا يفهم باتساق الا على نحو النظر الى المصلحة كمقصد كلي أساس، خاصة وان تفويتها يستلزم منه النقص والضرر. الامر الذي يبرر حاكمية المصلحة على الاحكام عند التعارض، مثلما كشف عنه الطوفي.

3 ـ بنظر البعض ان التعويل على قاعدة المصالح كمبدأ رئيسي هو في حد ذاته يفضي الى فتح المجال للعقل بأن يضع أحكامه على حساب النص، مما يعني نسخ النصوص ومن ثم نسخ الشريعة ذاتها أو تعطيلها. لذلك قيل في حقها بأنها خطرة حيث تفضي الى نسخ الاحكام الشرعية، ومن ذلك ما صرح به الاستاذ عبد الوهاب خلاف في معرض رده على الطوفي معتبراً أن ((تعريض النصوص لنسخ احكامها بالاراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الالهية وعلى كل القوانين)) 3 7 . مع ان اصطلاح النسخ هنا هو غير ما استقر عليه رأي الفقهاء، فهم لا يعدون التخصيص بالرأي والاجتهاد من النسخ، وانما يشرطون فيه رفع الحكم كلية، والطوفي لا يقول بالرفع. ولا شك ان اتهامه بالنسخ يفضي الى اتهام العديد من الصحابة والمجتهدين الذين قاموا برفع جملة من الاحكام ذات النصوص الصريحة القاطعة، فهم اولى بممارسة النسخ من الطوفي. وايضاً فان اتهامه بذلك يجر الى اتهام من سبقه من القائلين بجواز تخصيص عموم النص باي دليل كان، ومن ذلك دليل العرف والمصلحة كما هو الحال مع ابي حنيفة ومالك، حتى كان هذا الاخير يستحسن ان يخص النص العام بالمصلحة 4 7 ، وهو امر يعود الى الترجيح بالممارسة العقلية على حساب ظاهر النص، ولا يختلف ذلك كثيراً عما عليه الطوفي، فسواء كان التخصيص يلوح عموم النص من قبل العقل او المصلحة، او كان تخصيصاً على مستوى تعطيل حكم النص في الحالات التي يصادف معارضته للمصلحة ضمن شروط محددة؛ ففي جميع الاحوال انه أُجري تغيير على ما يفهم من النص، وليس في ذلك رفع للحكم بكليته. فما هي المشكلة اذن، ولماذا التشنيع على الطوفي؟!

4 ـ هناك نقد على صعيد التطبيق، فالبعض اعتبر انه بموجب نظرية الطوفي تقتضي المصلحة الرخصة في العديد من الاحكام الثابتة الحرمة مثل الربا 5 7 . لكن يرد على هذا النقد امران: الاول هو ان الطوفي صريح في اعتبار نظريته لا تطبق على ما يعلم قطعيته من الشرع، وربما يدخل الربا ضمن الاحكام القطعية الواضحة بلا ادنى احتمال حسب هذه النظرية. والثاني هو ان نفي الربا فيه من المصلحة المقصودة كما ورد في العديد من النصوص، وبالتالي فليس فيه ما يستشكل على النظرية. يضاف الى ذلك ان العقل الفقهي عموماً ونظرية الطوفي خصوصاً لا يقبلان الأخذ بمطلق المصالح، والا لما اوردوا القيود والشروط في ذلك، ومنها الاتساق مع مقاصد التشريع. فالعلاقة بين المقاصد والمصالح فيها من العموم والخصوص من وجه، فرب مصالح تتنافى مع المقاصد ولا تدخل ضمنها كالربا. كذلك رب مقاصد تخلو من المصالح، او بالاحرى هي مما لا تدرك بالعقل كالتعبديات التي تعبدنا بها الشرع.

نظرية الطوفي والفكر الامامي

لقد عُدت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) في الوسط الشيعي ثابتة للأخبار المتواترة معنى ولظاهر الكتاب فضلاً عن الاجماع والعقل 6 7 . لكن فهم هذه القاعدة لم يتضمن اعتبارات المصلحة وعنوانها، بل ظل يدور في حدود الضرر المنصوص عليه في القاعدة وضمن حدود خاصة كالضرر المعتد به؛ لا مطلقه ولا عمومه. لهذا قيل انه لو بُني العمل بعموم هذه القاعدة لحصل منه فقه جديد 7 7 . فقد ذهب الشيخ الأنصاري وجمع من فقهاء الإمامية ((الى ان المنفي - في قاعدة لا ضرر ولا ضرار - هو الحكم الذي يترتب على جعله ضرراً على العباد؛ سواء كان الضرر في نفس الحكم، كما لو حكمنا بلزوم العقد، فيما لو كان البائع مغبوناً، او كان الضرر في متعلق الحكم، كما لو لزم من الوضوء ضرر مالي او بدني على المكلفين.. بمعنى ان كل حكم يلزم منه ضرر على الإنسان لم يشرّعه الإسلام، سواء تعلق بالنفس او الغير. ولازم ذلك ان هذه القاعدة مقدمة على أدلة الأحكام اذا لزم منها في مورد من الموارد ضرر على المكلفين، ونتيجة تقديمها على أدلة الأحكام؛ اختصاص تلك الأدلة في غير موارد الضرر، وقد جاء في كلامهم: ان قاعدة لا ضرر تحكم على ادلة التكاليف، ويعنون بذلك انها تفسر المراد منها وتخصها بغير حالة الضرر. ومن مصاديقها ثبوت الخيار للمغبون، واعطاؤه الحق في فسخ العقد وارجاع ماله، وثبوت حق الشفعة للشريك، وكونه أولى من الأجنبي فيما لو باع الشريك سهامه في العين المشتركة لشخص آخر وعدم وجوب الوضوء او الصوم او الحج وغير ذلك من العبادات اذا لزم من الاتيان بها ضرر على المكلفين، ولا اشكال عندهم في نفي جميع الأحكام التكليفية والوضعية اذا لزم من بقائها ضرر على النفس او المال)) 8 7 .

ويلاحظ من هذا النص ان الفكر الشيعي لا يعترف بحكومة المصلحة على سائر الادلة الشرعية، بل يقتصر على ما فيه الضرر. لكن الخلاف الاساس بين الطوفي والفكر الشيعي يتحدد في علاقة المصلحة بالضرر. ذلك ان الطوفي يرى المقابلة بينهما عبارة عن الضدية والنقيض بلا واسطة، فوجود المصلحة هو في حد ذاته يعد نافياً للضرر، وكذا العكس صحيح. في حين ان الفكر الشيعي يكتفي بجعل العلاقة بين الطرفين علاقة مختلفة فيها من العموم والخصوص، بحيث ان فوات المصلحة لا يعبر دائماً على حضور الضرر، او لكون المصالح الحقيقية هي تلك التي يقررها الشرع، وان ما يدركه العقل من مصالح مخالفة لابد ان تعبر عن نوع من الاوهام العقلية. لذلك اقتصر فقهاء الشيعة على قبول ما نصت عليه القاعدة في دفع الضرر المباشر، وكذا المصالح العقلية إن كانت قطعية ليس فيها مجال للاحتمال المقابل. وعليه فان للفكر الشيعي ثلاثة اعتبارات في عدم قبول نظرية الطوفي:

1 ـ ان الفكر الشيعي لا يرى الضدية بلا واسطة بين المصلحة والضرر كما هو الحال لدى نظرية الطوفي. لهذا فهو وإن مال الى وجوب دفع الضرر؛ الا انه في الوقت ذاته لا يجيز التعويل على مبدأ المصلحة الا ضمن شروط خاصة تتحدد بمنصوصيتها الشرعية او بقطعيتها العقلية وعدم منافاتها لما ورد به الشرع، على ما سيأتي الآن.

2 ـ ان هذا الفكر يرفض المصلحة المرسلة كلياً حينما تكون ظنية لا قطعية. وفي ذلك يقول الشيخ المظفر بان المصالح المرسلة وكذا الاستحسان وسد الذرائع ((إن لم ترجع الى ظواهر الادلة السمعية او الملازمات العقلية لا دليل على حجيتها، بل هي اظهر افراد الظن المنهي عنه. وهي دون القياس من ناحية الاعتبار)) 9 7 .

ونلفت النظر الى ان بعض المعاصرين اعتبر علماء الامامية رغم نفيهم للمصالح المرسلة الا انهم يقولون بها عملياً ويراعونها حق المراعاة بدلالة قولهم بفتح باب الاجتهاد واستمراره، وعملهم بالاجتهاد واستنباط الاحكام لوقائع لا يدل على احكامها نصوص ظاهرة من الكتاب والسنة، وذلك بناء على رعاية المصالح، تحت عنوان العقل وليس المصلحة وعنوانها. وهو يستشهد بقول السيد هاشم معروف الحسني في (توضيح المراد على شرح التجريد): ((رعاية المصلحة هي اتيان الفعل على ما يراه الحق صالحاً بدلالة الشرع او العقل)) 0 8 .

وقد فات هذا البعض الشروط التي ادرجها علماء الامامية في قبول المصلحة. كما فاته ان اعتبارات انفتاح الامامية على الاجتهاد وممارسته مستمدة من الناحية العلمية على الادلة الشرعية والعقلية القطعية.

3 ـ ان المصلحة العقلية لدى هذا الفكر لا تخصص عاماً ولا تقيد مطلقاً ولا تغير حكماً، وكل ما يبدو فيه من منافاة لحكم النص يأول بكونه من أوهام العقل، وان المصلحة الحقيقية هي تلك التي تكون مستبطنة في حكم النص على اطلاق. وفي ذلك يقول السيد عبد الحسين شرف الدين: ((نحن الامامية اجماعاً وقولاً واحداً لا نعتبر المصلحة في تخصيص عام ولا في تقييد مطلق الا اذا كان لها في الشريعة نص خاص يشهد لها بالاعتبار، فاذا لم يكن لها في الشريعة اصل شاهد باعتبارها ايجاباً او سلباً كانت عندنا مما لا اثر له، فوجود المصالح المرسلة وعدمها عندنا على حد سواء)) 1 8 .

هكذا يلاحظ ان الرفض لنظرية الطوفي لدى الوسط الامامي الاثنى عشري هو على اشده. فهذا الاتجاه يمنع الاخذ بالمصلحة من حيث الاصل ما لم تكن قطعية، فكيف اذا ما كانت على حساب النص؟!

بين الطوفي والامام الخميني

لكن مع كل ما سبق فنحن نشهد اليوم على يد الامام الخميني تطوراً كبيراً في تعديل الاتجاه لدى الفكر الشيعي وضوابطه الفقهية، وذلك بسبب الاحتكاك بالواقع وضغوط الحاجات الزمنية بعد تأسيس الدولة الاسلامية الجديدة. فقد أعاد الإمام الخميني ما سبق ان انفرد به الطوفي في التعويل على المصلحة وترجيحها على حكم النص عند التعارض. وجسّد هذا المبدأ ضمن القرارات التي اتخذتها الدولة الاسلامية، حتى اعتبره بعض التابعين من الفقهاء بأنه صاحب طريقة جديدة في الاجتهاد لم يسبق لها غيره من علماء المذهب، خاصة وانه اقر بتأثير الزمان على عملية الاجتهاد وتقرير الاحكام 2 8 . فرغم ان فقهاء الشيعة في السابق لا يقرون مرجعية المصلحة الاجتهادية (الظنية) حتى في حدود ما لا نص فيه؛ فان الحال لدى الامام الخميني كان اعمق من ذلك، حيث اخذ على عاتقه مبدأ العمل باعتبارات المصلحة الخاصة بحفظ النظام مقدماً اياها بالحاكمية على غيرها من الاحكام والادلة الشرعية الاخرى وعلى رأسها احكام النص.

وقبل ان نبين دعوة هذا الامام لا بد من التذكير بان فكرة المصلحة عند الشيعة اخذت تعيد نفسها في العصر الحديث بصيغة اخرى مقيدة بولاية الامر، اي بالتشريع الذي يقيمه ولي الامر في تنظيم الحياة السياسية والادارية والاجتماعية، فهي من هذه الناحية تكون ذات صبغة ولائية تخص النظام السياسي، مثلما سبق الى ذلك الاتجاه السني في اقرار الاحكام الولائية، فاطلق الامام الصدر على هذه العملية سد منطقة الفراغ، وهي تشمل الاحكام التي يصيغها ولي الامر مما لم يرد فيها نص تشريعي عام. أما فيما عدا هذه المصلحة الخاصة بالاحكام الولائية فلا زال الفقه الشيعي لا يعترف بها. مما يعني انه يقيد المصالح الاجتهادية بالحاكمية السياسية.

وشبيه بهذا الحال نجد الامام الخميني يحدد مجال الأخذ بالمصلحة وترجيحها. فهو لا يقر بأي كان من المصالح وانما يقيدها فقط بحدود نظام الحكم، اي انه يأخذ بنظرية الطوفي فقط في المجال الذي يكون فيه الترجيح عائداً الى دائرة الحاكمية السياسية مثلما لاحظنا ذلك في الموقف الشيعي المعاصر من المصلحة المرسلة. فقد دعا الى تكوين مجلس فقهي لتشخيص مصلحة النظام، او استنطاق ((الواقع)) بعيداً عن اجواء النص وسائر اعتبارات الادلة التقليدية الموروثة. ومن ذلك انه اصدر فتوى عام (8 8 9 1 م) اعرب فيها بان الحكومة الاسلامية تمثل ((سلطة السيادة المطلقة التي وكلها الله سبحانه وتعالى الى الرسول (ص).. وان هذا أهم حكم من الاحكام الالهية، وله اسبقية على كل الاحكام الالهية الثانوية)). واضاف قائلاً: ((لو حددت سلطات الدولة الاسلامية داخل اطار الاحكام الالهية الثانوية فان شكل الحكم الالهي والسيادة المطلقة التي انيبت الى الرسول (ص) سيكون ظاهرة جوفاء لا معنى لها)) 3 8 . فهذا هو مبرر التعويل على المصلحة الواقعية التي اكدها بقوله: ((تستطيع الحكومة ان تلغي من جانب واحد عقودها الشرعية مع الناس حينما تخالف تلك العقود مصالح الدولة والاسلام، وتستطيع ان تمنع كل امر عبادي او غير عبادي اذا كان مخالفاً لمصالح الاسلام ما دام كذلك، وتستطيع الحكومة ان تعطل الحج وهو من الفرائض الالهية المهمة مؤقتاً في الحالات التي تعتبره مخالفاً لصلاح الدولة الاسلامية)). ومن الامثلة التي ساقها على ذلك: وضع يد الدولة على املاك خاصة لمشاريع عمومية ورئيسية: مثل بناء الطرق الجديدة وفرض الخدمة العسكرية الاجبارية والتجارة الخارجية وجباية الرسوم الجمركية والضرائب على المصنوعات وعلى الافراد وفرض التسعير المناسب للمنتجات والبضائع والخدمات، ومنع الغلاء والاحتكار وبيع المخدرات وتداولها وتخزين المواد وحمل الاسلحة النارية وتهريب العملة الصعبة والسلع الممنوعة، وجواز تخطيط الشوارع والتصرف بمنازل الاخرين وحريمها، وكذا جواز تحديد النسل ومنع تكاثر السكان عشوائياً ووضع شروط الزامية من قبل الحكومة في التعامل بين الافراد والمؤسسات؛ مثل علاقة العامل برب العمل، ووضع شروط ملزمة اثناء الزواج، وكذا جواز قضاء غير المجتهد العارف بالاحكام، ومنع استخدام الانفال دون قيد وشرط تبعاً لتحليل الانفال للشيعة؛ كمنع قطع اشجار الغابات، وجواز بيع السلاح لاعداء الدين لو كان فيه تقوية للبنية المالية والمصلحة العامة للمسلمين.

بهذا يتبين مدى الاتفاق الذي يجمع بين الطوفي والخميني، مع أن الأول لاقى في حياته الكثير من المتاعب على آرائه وأفكاره، بخلاف الثاني الذي مازالت آراؤه مورد توسعة واعتماد وتنفيذ. وبالتالي فان سرّ العلاقة التي جعلتنا نجمع بين هذين الفقيهين هو ما انفردا به من اجتهاد خاص رجحا فيه المصلحة العقلية على النص عند تعارضه معها. اي انهما أجازا تغيير حكم النص بهذه المصلحة. ومعلوم انه لم يقل بذلك احد قبل الطوفي ولا بعده من الفقهاء سوى روح الله الموسوي الخميني. فتلك هي العلاقة التي تربط بين فقيهين ينتميان الى مذهبين وزمانين مختلفين، احدهما معاصر ومؤسس لدولة اسلامية، والآخر عاش منذ سبعة قرون مضت.

الهوامش

1 ابو حامد الغزالي: المستصفى من علم الاصول، المطبعة الأميرية، مصر، ط1 ، 2 2 3 1 هـ، ج1 ، ص7 8 2 .

2 رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص1 1 1 .

3 الشوكاني: ارشاد الفحول الى تحقيق الحق من الأُصول، دار الفكر، ص2 4 2 .

4 تاريخ المذاهب الاسلامية، ص8 2 4 .

5 ارشاد الفحول، ص8 1 2 .

6 ارشاد الفحول، ص3 4 2 .

7 المنار، ج7 ، ص3 9 1 .

8 احكام القرآن، ج2 ، ص5 5 7 .

9 الاعتصام، ج2 ، ص5 1 1 .

0 1 المصدر، ص6 1 1 .

1 1 علماً ان هناك من فسر الحد المذكور بتفسير اخر لا يمت الى المصلحة. والحديث مروي في المصادر الشيعية فضلاً عن السنية (انظر: الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج8 2 ، ص0 2 2 ). كما نشير الى انه جاء في (الاعتصام، ج2 ، ص8 1 1 ) للشاطبي ان الحادثة كانت في عهد عثمان. وهو خطأ، اذ المعروف لدى مختلف المصادر الاسلامية انها كانت في عهد عمر.

2 1 ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق علي سامي النشار، منشورات وزارة الاعلام، بغداد، 7 7 9 1 م، ج1 ، ص5 9 2 .

3 1 الاعتصام، ج2 ، ص9 1 1 .

4 1 وإن كان هذا الامر محل خلاف بين العلماء (المصدر، ص0 2 1 ). لكن لدى البعض ان هذا الضرب كان يمارس في عهد النبي (ص) كأحد سياساته كما بين ذلك ابن القيم في (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مراجعة وتصحيح احمد عبد الحليم العسكري، دار الفكر، بيروت، ص9 1 ).

5 1 الاعتصام، ج2 ، ص5 1 1 ـ5 2 1 . وبدائع السلك في طبائع الملك، ج1 ، ص5 9 2 .

6 1 الاعتصام، ج2 ، ص1 4 1 .

7 1 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص8 6 ـ9 6 .

8 1 خصوصاً وان هناك من يرفض اشتراط شيء على حكم النص استناداً الى ما روي عن النبي (ص) قوله: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) اعلام الموقعين، ج1 ، ص3 3 3 .

9 1 ابو زهرة: ابن حنبل، دار الفكر العربي، ص3 0 3 .

0 2 الاحكام، ج4 ، ص4 9 3 .

1 2 ابن حنبل، ص3 0 3 .

2 2 تاريخ المذاهب الاسلامية، ص8 7 3 . ومثل ذلك في: ابو زهرة: ابو حنيفة، ص9 4 3 .

3 2 عن: الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص0 3 1 ـ1 3 1 .

4 2 الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص4 2 1 ـ5 2 1 .

5 2 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص0 9 .

6 2 مثلاً يرى الاحناف بان سؤر سباع الطير كالصقر والنسر نجس قياساً على سباع البهائم بجامع كون كل من الجنسين غير مأكول لحمه، لكن من حيث قياسه على الانسان يكون طاهراً بقياس خفي هو كون الانسان يجتمع مع تلك الطيور بكونه لا يؤكل وسؤره طاهر، في الحال الذي تكون فيه سباع الطير مختلفة عن سباع البهائم؛ حيث الأُولى تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر، بينما الثانية تشرب بلسانها المختلط بلعابها المتولد من لحمها. على ان ترجيح هذا القياس الخفي على ذلك الظاهر هو ما يعرف عند الحنفية بالاستحسان. وقد عدّه الاستاذ عبد الوهاب خلاف بانه ليس استحساناً في حقيقته الا تجوزاً ، لكونه عبارة عن معارضة قياس بمثله (انظر: الاعتصام، ج2 ، ص2 2 3 . ومصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص5 7 ).

7 2 الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص4 9 ـ5 9 .

8 2 الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص5 2 1 ـ6 2 1 .

9 2 انظر: الاحكام للامدي، ج4 ، ص1 9 3 ـ2 9 3 . واحكام القرآن، ج2 ، ص4 5 7 ـ5 5 7 . والموافقات، ج4 ، ص7 0 2 ـ8 0 2 . والاعتصام، ج2 ، ص8 3 1 ـ9 3 1 . ومصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص9 6 ـ0 7 .

0 3 المستصفى، ج1 ، ص1 8 2 . كذلك: الاعتصام، ج2 ، ص2 3 3 . والموافقات، ج4 ، ص6 0 2 .

1 3 ارشاد الفحول، ص1 4 2 .

2 3 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص9 6 .

3 3 يبدو من الانسب ان يكون اصطلاح الحكومة هو المطابق لما نحن فيه لا التخصيص، كما اهتدى الى هذا المصطلح بعض المتأخرين. وذلك لان التخصيص هو عبارة عن مقابلة بين خاص مطلق او تام مع عام مطلق او تام، والحال نحن بصدد عامين بعض افراد احدهما يعمل على تخصيص بعض افراد الاخر، اي ان نسبة عموم احدهما للاخر هي العموم من وجه، لكن حيث انهما عبارة عن عامين فان تخصيص احدهما للاخر لا بد ان يكون بنوع من المرجح الخارجي باعتبارهما من حيث العموم متكافئين، وهنا يدخل دور العقل في اعتبار احدهما عبارة عن بيان للاخر كي يستوي الجمع بينهما. فمثلاً ان لعموم النص افراده باعتباره عاماً ، وكذا فان للضرر الذي يرجع الى مبدأ المصلحة افراده الخاصة، وان علاقة التخصيص بين الطرفين هي عبارة عن اتحاد بعض افراد العام الاول بافراد من العام الاخر، فيصبح بهذا ان الفرد المتحد يحمل وصفين، فهو من جهة يرجع الى عام النص، لكنه من جهة اخرى يعود الى عام الضرر، وهو حيث يجمع الوصفين فانه إما ان يقدم وصف عام الضرر على عام النص، فيكون عموم النص فاقداً لبعض افراده لحساب الضرر، او يحصل العكس، ولا شك ان النظر الى العامين من حيث انهما عموميان لا يفيد هذه المغالبة، وانما يعود الامر الى ادراك العقل من حيث جعل احدهما يحكم على الاخر ويتقدم عليه بالكشف الحدسي، وذلك بعدّ الافراد المتحدة هي غير مقصودة من العموم في النص باعتبارها تتنافى مع مقررات المصلحة، او باعتبارها افراداً تجلب الضرر. وكما هو واضح ان هذا التحديد للحكومة يختلف وضعاً عما يطلق عليه بالتخصيص، وقد عرف ان اول من حدد هذا المعنى واكتشفه هو مرتضى الانصاري (انظر: فرائد الاصول، ج2 ، ص5 3 5 ـ6 3 5 )، لكن لفظ الحكومة مستخدم قبله على السنة بعض الاصوليين بما يعني ظاهرها من كونها موضع القبول والرفض، كالذي استخدمه الشاطبي في (الموافقات، ج1 ، ص3 3 ).

4 3 مصادر التشريع فيما لا نص فيه، ص9 8 ـ0 9 .

5 3 الموافقات، ج2 ، ص8 0 3 .

6 3 المسوى شرح الموطأ، ج2 ، ص9 9 2 . ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 2 ، ص6 3 3 . وابو يوسف: الخراج، دار بو سلامة، تونس، 4 8 9 1 م، ص7 6 1 . والماوردي: الاحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 5 0 4 1 هـ ـ5 8 9 1 م، ص8 2 2 . وابن فرج القرطبي: أقضية رسول الله، مطابع قطر الوطنية، ص9 1 . والشوكاني: نيل الاوطار، دار الجيل، بيروت، 3 7 9 1 م، ج7 ، ص0 2 3 ـ1 2 3 .

7 3 احكام القرآن، ج4 ، ص1 6 7 1 .

8 3 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص8 7 .

9 3 المستصفى، ج1 ، ص1 0 3 ـ3 0 3 . كذلك: الاحكام للامدي، ج4 ، ص4 9 3 .

0 4 المستصفى، ج1 ، ص4 9 2 وما بعدها.

1 4 المستصفى، ج1 ، ص5 9 2 و3 1 3 .

2 4 المستصفى، ج1 ، ص3 1 3 ـ4 1 3 .

3 4 ارشاد الفحول، ص2 4 2 .

4 4 الاعتصام، ج2 ، ص9 2 1 ـ3 3 1 .

5 4 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص9 9 ـ0 0 1 .

6 4 معلوم ان الشاطبي يعتبر الشافعي هو كمالك يقول بالمصالح المرسلة، وهو خلاف ما يعلم عنه في كتبه وما يلزم عن نفيه لكل ما لا يستنتج على مثال سابق، لكن قد يريد الشاطبي بذلك رأيه القديم قبل ان يحلّ بمصر ويختلف مع مذهب مالك (لاحظ: الموافقات، ج1 ، ص9 3 ).

7 4 الاحكام، ج4 ، ص5 9 3 .

8 4 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص4 9 ـ6 9 .

9 4 ابو حنيفة، ص8 4 3 .

0 5 المنار، ج7 ، ص7 9 1 ـ8 9 1 .

1 5 قادة الفكر الاسلامي، ص1 4 8 .

2 5 اعلام الموقعين، ج1 ، ص0 7 2 ـ9 0 3 .

3 5 اعلام الموقعين، ج2 ، ص5 0 3 ـ7 2 4 .

4 5 تاريخ المذاهب الاسلامية، ص5 4 5 . وإن كان ابو الفداء يعد داود رغم انه رفض القياس الا انه اضطر اليه فسماه دليلاً (الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص0 8 1 ). كما قال الخطيب البغدادي في ترجمته: ((انه اول من اظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الاحكام قولاً، واضطر اليه فعلاً، وسماه دليلاً)) (تاريخ المذاهب الاسلامية، ص5 4 5 ).

5 5 المستصفى، ج1 ، ص3 1 3 .

6 5 يقول الشاطبي في (الموافقات ج1 ، ص7 3 ـ8 3 ): ((اذا تأملت أدلة كون الاجماع حجة او خبر الواحد او القياس حجة فهو راجع الى هذا المساق، لان ادلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع الى باب واحد، الا انها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. واذا تكاثرت على الناظر الادلة عضد بعضها بعضاً فصارت مجموعها مفيدة للقطع، فكذلك الامر في مآخذ الادلة في هذا الكتاب، وهي مآخذ الاصول. الا ان المتقدمين من الاصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل اغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الاستدلال بالايات على حدتها وبالاحاديث على انفرادها، اذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرّ عليها بالاعتراض نصاً نصاً، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الاصول المراد منها القطع، وهي اذا اخذت على هذا السبيل غير مشكلة. ولو اخذت ادلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة)).

7 5 الموافقات، ج4 ، ص0 3 2 .

8 5 المقصود ببيع العرايا هي ((بيع الرطب في رؤوس النخل بمثل قدره من التمر كيلاً ، وابيح طبقاً للحديث النبوي بانه ((نهى رسول الله عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ورخص في العرايا))، وقيس عليه بيع العنب في الكرم بالزبيب لان الكرم كالنخل في بروز ثمرها وامان التخمين القريب في تقديرهما وحاجة الناس الى هذا النوع من البيع)) (مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص3 2 ).

9 5 الموافقات ج4 ص7 0 2 .

0 6 المعلوم لدى الفقهاء أن عقد الغرر يعتبر حراماً ما لم يرج منه فائدة عامة للناس بدونه تصبح المعاملة بينهم عسيرة. لهذا يحكم بحرمة بيع الاجنة والطير في الهواء والسمك في الماء وما إلى ذلك، لكن يحكم بجواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الابصار، وكراء الدار مشاهرة مع احتمال ان يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً، ودخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وغير ذلك (انظر: الموافقات، ج4 ، ص8 5 1 . ايضاً: المسوى شرح الموطأ، ج2 ، ص9 2 ـ0 3 . وشمس الدين السرخسي: المبسوط، مطبعة السعادة، مصر، 4 2 3 1 هـ، ج2 ، ص6 5 1 ـ8 5 1 ).

1 6 الموافقات، ج2 ، ص5 0 3 ـ6 0 3 .

2 6 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص6 9 . العجيب ما نُقل من ان العالم الشيعي المعروف السيد عبد الحسين شرف الدين اكد الاتهام الموجه الى الطوفي، معتبراً اياه انه كان من غلاة الشيعة كما نقل ذلك الدواليبي (لاحظ: الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، ج1 ، ص9 2 1 ).

3 6 لاحظ بهذا الصدد الفصول الثلاثة الاخيرة من كتابنا (جدلية الخطاب والواقع)، مؤسسة الانتشار العربي، ط1 .

4 6 لاحظ: رسالة الطوفي، مصدر سابق، ص9 0 1 و8 3 1 و1 4 1 و3 2 1 و3 4 1 .

5 6 المصدر السابق، ص 3 2 1 .

6 6 المصدر، ص3 4 1 .

7 6 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص7 2 .

8 6 محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، مؤسسة آل البيت، ط2 ، 9 7 9 1 م، ص2 8 3 .

9 6 المنار، ج5 ، ص9 .

0 7 الاصول العامة للفقه المقارن، ص1 9 3 ـ2 9 3 .

1 7 الاصول العامة للفقه المقارن، ص1 9 3 ـ2 9 3 .

2 7 رسالة في رعاية المصلحة، مصدر سابق، ص0 1 1 .

3 7 مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص3 0 1 . وانظر ايضاً ما كتبه ابو زهرة، كما في: الغزالي الفقيه، بحث منشور في: أبو حامد الغزالي، في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده، مهرجان الغزالي في دمشق، 1 6 9 1 م، ص4 4 5 وما بعدها.

4 7 الموافقات، ج4 ، ص9 0 2 .

5 7 محمد يوسف موسى: في سبيل القرآن والسنة، رسالة الاسلام،الاستانة الرضوية للطبع والنشر، 1 1 4 1 هـ ـ1 9 9 1 م، مجلد5 ، ص1 8 ـ2 8 . ولاحظ بهذا الصدد ايضاً: محمد حسين كاشف الغطاء: تعليق من النجف، رسالة الاسلام، مجلد2 ، ص4 9 1 .

6 7 فرائد الاصول،ج1 ، ص6 9 1 . كذلك:محمد كاظم الخراساني: كفاية الاصول، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين، قم، ط1 ، 2 1 4 1 هـ، ص0 3 4 .

7 7 فرائد الاصول، ج2 ، ص7 3 5 .

8 7 المبادىء العامة للفقه الجعفري، ص2 7 2 ـ4 7 2 . كذلك: فرائد الاصول، ج2 ، ص4 3 5 ـ5 3 5 . ومرتضى الانصاري: رسالة قاعدة نفي الضرر، خلف المكاسب، نشر مؤسسة مطبوعات ديني، قم، ص2 7 3 وما بعدها.

9 7 اصول الفقه، ج2 ، ص8 7 1 .

0 8 مصطفى ابراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة، دار الرسالة، بغداد، 8 7 9 1 م، ص7 1 2 ـ9 1 2 .

1 8 عبد الحسين شرف الدين: الاجتهاد في مقابل النص، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ط0 1 ، 8 0 4 1 هـ ـ8 8 9 1 م، ص0 1 1 .

2 8 محمد إبراهيم الجناتي: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وعصر الإستخدام الشامل، مجلة التوحيد، العدد 6 7 ، 6 1 4 1 هـ ـ 5 9 9 1 م، ص0 2 وما بعدها.

3 8 كليم صديقي: الخطأ والتصحيح في الفكر السياسي الاسلامي، التوحيد، العدد5 6 ، 3 1 4 1 هـ ـ3 9 9 1 م، ص9 4 . وكاظم قاضي زادة: الامام الخميني والفقاهة القائمة على عنصري الزمان والمكان، ترجمة عباس الاسدي، رسالة الثقلين، عدد 9 1 ـ0 2 ، 7 1 4 1 هـ ـ7 9 9 1 م، ص5 5 و3 6 ـ4 6 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار