فهم النص لدى الفلاسفة والعرفاء


يحيى محمد

مقاربات تمهيدية

اولاً:

اذا سلمنا ان النص الديني والمعرفة القبلية الوجودية قطبان يلتقيان احياناً ويفترقان احياناً اخرى، فما هو موقف الفلاسفة والعرفاء من حالات الافتراق والتعارض؟ فهل يا ترى انهم يؤيدون (القبلية الوجودية) على حساب الوحي والنص الديني، ام انهم يتخلون عنها دفاعاً عن عينة هذا النص؟ وبعبارة اخرى، اي ركن يتخذه الفلاسفة والعرفاء ملاذاً لتقويم الركن الآخر: القبلية الوجودية ام النص؟ فهل انهم يعملون على تحريف الرؤية الوجودية ليوافقوا بها النص، ام يفعلون العكس، وذلك بتحريف هذا الاخير ليتفق مع ما عليه تلك الرؤية؟

من الواضح اننا لا نجد موقفاً موحداً للفلاسفة والعرفاء ازاء ما طرحناه من تساؤل. فهناك بلا شك مواقف متعددة لها علاقة بالظروف المختلفة التي تكتنف كل واحد منهم. لكن مع هذا يمكننا ان نجد موقفين متباينين، احدهما يتسم بقدر معقول من المصداقية من حيث وجود الاتساق عادة بين موقفه النظري وموقفه التطبيقي من التعامل مع العينة الدينية او النص. أما الاخر فهو ما يفتقر الى هذه المصداقية، حيث المفارقة بين الموقفين النظري والتطبيقي. وابرز من يمثل الخط الاول الفلاسفة التقليديون من امثال الفارابيين واتباعهما. ذلك ان هذا الخط وكما سنعرف ظل محافظاً - في الغالب - على موقفه من دلالة العينة الدينية التي اعتبرها ظنية اقناعية لا تفيد اليقين، وبالتالي فهي بحسب هذا الموقف ليس لها مرجعية معرفية وتحقيقية مقارنة مع ما تقدمه الرؤية الوجودية الموسومة بالبرهان، انما شأنها ان تكون خاضعة للممارسات التأويلية والاستبطانية بحسب التوجيه الذي تقدمه تلك الرؤية. فهذا هو سلوك الخط الاول.

أما الخط الثاني فهو ما يمثله العرفاء المتأخرون ومن تأثر بهم من الاشراقيين، حيث يتصف بالمفارقة وعدم الاتساق، وذلك باعتباره يجمع التناقض بين موقفه النظري من مرجعية النص الديني ودلالته من جهة، وبين الممارسة العملية التي يجريها في التعامل مع هذا النص من جهة اخرى. ذلك انه لا يكف عن التصريح بضرورة الاخذ بمرجعية ظاهر النص من غير تأويل، وانه مقدّم على ما يعارضه من الاطروحات الاخرى بما فيها تلك التي تقدمها الرؤية الوجودية، لكنه من حيث الممارسات التطبيقية نراه متخماً باليات العمل بالتأويل والاستبطان والخلط والتلفيق لصالح هذه القبلية في الغالب.

وعلى ذلك انه بقدر ما نجد من السهل الحكم على الخط الاول باعتباره متسقاً في ذاته من حيث تقديمه للرؤية الوجودية على العينة الدينية، فانه بقدر ما نجد صعوبة الحكم على الخط الثاني، وذلك باعتباره لا يتخذ مساراً موحداً، انما له جملة مسارات مختلفة، استظهارية وتوفيقية وخلطية وتلفيقية وتأويلية واستبطانية؛ يتحكم فيها منطق القبلية الوجودية في الغالب.

ثانياً:

ذلك من جهة، ومن جهة اخرى يمكن القول ان الطابع العام الذي يسود وسط رجال النظام الوجودي هو التعامل مع النص الديني تعاملاً قائماً على ما نطلق عليه الاستبطان او المباطنة، سواء لدى المتقدمين منهم ام المتأخرين، مع وجود فارق الكم والسعة، حيث ان المتأخرين يفوقون اسلافهم اضعافاً مضاعفة في ممارسة هذه الظاهرة، وذلك اذا ما استثنينا الاسماعيلية التي هي ايضاً لها سمتها الموسوعية في العمل الاستبطاني.

على ان الاستبطان - وكما ابرزنا ذلك في دراسة مستقلة - يختلف عن التأويل، كما يختلف عن الاستظهار الذي خاصيته العمل بالاخذ بظاهر النص. فهذه الاليات الثلاث تختلف فيما بينها اختلافاً مميزاً، وعلى رأينا ان ما يحدد هذا الاختلاف هو مواقفها من عنصرين جوهريين في النص، الاول منهما هو الظاهر اللفظي، والاخر هو ما اطلقنا عليه (المجال). فبفضل هذه الفكرة استطعنا ان نميز بين الاليات الانفة الذكر، حيث لا يوجد هناك تمييز واضح بين التأويل والاستبطان لدى العلماء والباحثين.

وكتعريف اولي للاستبطان يمكن القول بانه يفترض وجود معنى باطن خلف ظاهر النص هو الذي يشكل جوهر ما يعنيه هذا النص، سواء تم الاعتراف بحقيقة الظاهر ام لا. لكن تبقى اهمية الظاهر انه يعمل كرمز يدلّ ويشير الى ذلك المعنى الخفي. وهنا تأتي اهمية الدلالة الوجودية لتغطي هذا المعنى الخفي، وذلك عبر الاليات القبلية، سواء تلك التي يتم انتاجها عبر المنطق العقلي الفلسفي، او من خلال التوليد الخاص بالكشف والسلوك الذوقي. فمن حيث ان النظام الوجودي يمتلك منظومة قبلية لها اصول معرفية ضاربة في القدم، وان لديه منهجاً محدداً للتوليد المعرفي، لذلك فان الممارسة الاستبطانية قد شكلت لديه مطمحاً نحو (التطبيق)، اي الالية التي يتم فيها اسقاط الرؤية الوجودية وتطبيقها على النص الديني. وبالتالي فان العمل وفق هذه الالية جعل من الممارسة الاستبطانية وغيرها من الممارسات الكفيلة بفهم النص؛ هي من الضرورات الملحة التي لا يمكن قطع الصلة عنها باي شكل من الاشكال.

لا شك ان الاستبطان بدأ مع الفلاسفة والاسماعيلية ومن على شاكلتها، ويمكن التفرقة بين هذين الاتجاهين بحسب اختلاف السلطات المعرفية التي خضع لها كل منهما. ذلك ان السلطة المعرفية التي ادان لها الفلاسفة هي في الغالب تلك التي تعود الى النظام الوجودي. في حين ان الاسماعيلية كانت تحت هيمنة سلطتين، احداهما وجودية واخرى مذهبية دينية، كثيراً ما يفترقان، الامر الذي جعلها تتوسع في الممارسة الاستبطانية بالبحث عن الباطن في النصوص لادنى مناسبة تذكر، سواء لدعم رؤاها الوجودية، او لتأييد عقيدتها المذهبية. في حين اقتصر الفلاسفة عادة على معالجة النصوص التي لها علاقة بالعالمين الغيبي والالهي، كمسألة وجود الله وتوحيده وصفاته وكذا الوحي والمعجزات والاخرة ودلالاتها. أما خارج حدود نصوص هذه القضايا فانهم لم يكونوا معنيين بها في الغالب. وبالتالي فلم يكن لهم ذلك الهجين الذي عليه الاسماعيلية نتيجة اختلاف تلك السلطات، كما لم يكن لديهم ما لديها من تلك الموسوعة الاستبطانية التي تكرر ظهورها بقوة لدى المتأخرين من العرفاء، وهي تحمل معها هذه المرة مبرراتها التنظيرية التي تؤهلها للمزيد من السعة التفسيرية او الاستبطانية بلا حدود.

ويمكن اعتبار مرحلة الغزالي مرحلة وسط، ذلك انه وإن لم يمعن بممارسة المباطنة مثلما مارسها المتأخرون عنه، ولم تكن لديه الموسوعة الاستبطانية التي لا يحدها حد ولا تشبعها النصوص، لكنه وضع ما يبرر لهذا النهج من المباطنة الرمزية والتي ظهر اثرها الموسوعي عند العرفاء بعده بفنون واشكال عديدة. صحيح ان الغزالي اخذ بالنهج الذي سار عليه المتقدمون من العرفاء، وهو ان للنصوص اشارات وتنبيهات لامور اخرى تضاف الى ما للظاهر من معنى، لكن ذلك دفع به الى تنظير هذه الفعالية والتنبيه على بسط الرؤية الوجودية وتطبيقها على النص انطلاقاً من مبدأ ما اطلق عليه (الاعتبار)، وهو المبدأ الذي كلله بنظريته التوفيقية بين النص الديني والرؤية الوجودية، وهي ما اطلقنا عليها (نظرية المشاكلة). مع ان العمل الفعلي وفق ذلك المبدأ لم يتقيد بقيود هذه النظرية، وانما تعداها الى تفننات مختلفة لا يعرف لها نهج ولا ضابط، وذلك كالذي يتبين لدى العرفاء الذين ورثوا هذا المبدأ العرفاني.

والمقصود بمبدأ الاعتبار هو اقامة الباطن مع قبول الظاهر ووجود المناسبة الدلالية التي تربط بين الظاهر والباطن. فالوسيط الذي يتمسك به العرفاء في تطبيق مبدأ الاعتبار هو المناسبة الدلالية التي عليها يتعين الباطن من خلال الظاهر. لكن واقع الحال ان العرفاء اخذوا يتمسكون بادنى مناسبة لتعيين ذلك الباطن. فهدفهم من الممارسة الاستبطانية ليس البحث في المناسبة الدلالية إن كانت تفي بالغرض ام لا، وانما (التطبيق) باسقاط الرؤية الوجودية على النص الديني، وذلك عبر التذرع بتلك المناسبة، او بمبدأ الاعتبار.

أما بعد الغزالي فيمكن القول انه منذ ابن عربي واتباعه قد وصلت حالات الاستبطان والتأويل درجتها القصوى، وذلك بتأثير بارز بكل من الغزالي والباطنية الاسماعيلية، بحيث اصبحت النصوص الدينية وكأنها لا تخلو من تعبير يراد به مضامين الرؤية الوجودية التي تبنوها، كإن تدل على وحدة الوجود او تعدد مراتبه، او على الاعيان الثابتة والماهيات او غير ذلك من الرؤى والافكار، ثم تحول الامر الى صدر المتألهين الذي تأثر بكل اولئك مع ما امتاز به من نسيجه الرامي الى العقلنة وجمع ما كان مشتتاً لدى من سبقوه. وبالتالي جاز لنا ان نعتبر مرحلة ابن عربي واتباعه بأنها مرحلة الموسوعات الاستبطانية التي ظهر فيها ما يمكن ان نطلق عليه (الديانة الوجودية)، حيث تستهدف الجمع والتوفيق - وحتى التلفيق - بين العينتين الدينية والوجودية ضمن موسوعتها الدينية الخاصة. ومن الامثلة على هذه الموسوعات الاستبطانية للديانة الوجودية كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي، وهو في اربعة مجلدات كبار، كذلك تفسير حيدر الاملي المسمى (المحيط الاعظم والطود الاشم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم)، وهو في سبع مجلدات كبار، وقد جاء بازاء تفسير نجم الدين دايه الرازي المتوفي (سنة 4 5 6هـ) في كتابه (بحر الحقائق ومنبع الدقائق)، وهو في ستة مجلدات كبار 1، وايضاً تفسير صدر المتألهين الشيرازي للقرآن الكريم وشرحه لاصول الكافي... الخ.

هكذا فان الديانة الوجودية عبر موسوعاتها الاستبطانية جاءت قبال تلك التي نطلق عليها (الديانة المعيارية). او قل ان تراثنا يحمل دينين متقابلين لنظامين معرفيين؛ وجودي ومعياري.

أما بعد صدر المتألهين فقد ظهرت موسوعات اخذت على عاتقها الاهتمام في الرواية والحديث، وكان هدفها الجمع بين عناصر ثلاثة كتلك التي مارستها الباطنية الاسماعيلية، وهي القبلية الوجودية والاعتبارات الدينية والتقاليد المذهبية، حيث كان اللجوء الى الحديث يشكل ممارسة انتقائية من غير اهتمام بالسند، واحياناً يتعمد الاخذ بهذه الانتقائية بحجة اتباع منهج الكشف في معرفة الحديث الصحيح من غيره. وعلى رأس هذه الموسوعات: الصافي في تفسير القرآن للفيض محسن الكاشاني، وهو صهر وتلميذ صدر المتألهين، وكذلك شرح الزيارة الجامعة الكبيرة للشيخ احمد الاحسائي.

ثالثاً:

من الناحية المبدئية يمكن القول ان للفلاسفة والعرفاء عدداً من المواقف ازاء العلاقة بين النص الديني والقبلية الوجودية، وذلك كالاتي:

الموقف الاول: وهو الذي فصل بين النص الديني والقبلية الوجودية، اذ جعل لكل منهما مداره الخاص والذي يختلف عن المدار الاخر دون ان يتناقض معه، فكلاهما على هذا الرأي صحيح وسديد. ويعد هذا الموقف شاذاً وسط التيار العام للفلاسفة والعرفاء، وابرز من يمثله ابو سليمان المنطقي الذي يقول: ((ان الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق لكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث اليه، واحدهما مخصوص بالوحي، والاخر مخصوص ببحثه، والاول مكْفيّ، والثاني كادح، وهذا يقول: أُمرتُ وعُلّمتُ، وقيل لي وما اقول شيئاً من تلقاء نفسي. وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت. وهذا يقول: نور العقل اهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه. وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك، وهذا يقول: قال افلاطون وسقراط. ويُسمع من هذا ظاهر تنزيل وسائغ تأويل وتحقيق سنة واتفاق امة، ويسمع من الاخر الهيولى والصورة والطبيعة والاسطقس والذاتي والعرضي والايسي والليسي وما شاكل هذا مما لا يُسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي)). ويقول ايضاً: ((من اراد ان يتفلسف فيجب عليه ان يُعْرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التديّن فيجب عليه ان يُعرِّد - ينكب ويحيد - بعنايته عن الفلسفة))، حيث لكل مجاله الصحيح 2.

الموقف الثاني: وهو الذي جعل العلاقة بين النص الديني والقبلية الوجودية قائمة على التبعية الصرفة، كالفلاسفة التقليديين من امثال الفارابيين واتباعهما الذين اعتبروا النص الديني تابعاً من حيث مرجعيته المعرفية للقبلية الوجودية، وذلك باعتباره لا يحظى بدرجة القطع واليقين. وبعضهم كان يظهر عليه شيء من التذبذب، كإن يأخذ شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، كما هو الحال مع ابن رشد.

الموقف الثالث: وهو الذي اهتم بشاغل التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية. ونقصد بذلك الانشغال المعرفي في العمل على اظهار التوافق بين العينتين من غير ان يكون لاحداهما الترجيح على الاخرى او التبعية الصرفة لها، فلا القبلية الوجودية تتبع في منظومتها النص الديني، ولا ان هذا الاخير يكون تابعاً ومترجماً للاولى فحسب، انما لكل منهما مرجعيته المعرفية وحقيقته المستقلة التي عليها يتم مبنى المصالحة والتوفيق من دون التضحية باحدهما لحساب الاخر. فكلاهما يمثل الحق والصواب، وان اياً منهما اشبه بالمرآة التي يرى فيها الاخر. فبهذا المعنى نعتبر ان اول الذين ظهر لديهم هذا الشاغل بوضوح هو الغزالي، كالذي سنطلع عليه في توفيقه بين العينتين تبعاً للتحول المعرفي الذي خالف به ما افاده الفلاسفة التقليديون. لكن هذا الشاغل وإن تعمق بعده عند صدر المتألهين، الا انه اخذ ابعاداً اخرى من التحول، فبدل ان يحتفظ بكونه شاغلاً توفيقياً كالذي اراده له واضعه الاول واعتنقه هذا الاخير باصرار، فانه تحول الى شاغل للخلط والتلفيق، سواء عند هذا الاخير او عند شيخه ابن عربي واتباعه من العرفاء.

الموقف الرابع: وهو الذي انشغل بحالات الخلط والمزج والتلفيق مضافاً الى حالات اخرى من التوفيق والتبعية والتذبذب. وابرز من يمثل هذا الموقف الاسماعيلية والعرفاء المتأخرون من امثال ابن عربي واتباعه. فكما قلنا ان شاغل التوفيق الذي استهدفه الغزالي لم يحتفظ بمنزلته عند من جاء بعده من العرفاء، فلم يعد التوفيق يعني شيئاً عند هؤلاء بقدر ما يعنيهم (التطبيق)، او جوانب الرصف الهجين كالفسيفساء، اذ اخذ يظهر باشكال مختلفة من الموسوعات التفسيرية، والتي تحمل في احشائها مختلف حالات التذبذب والتلفيق، وكذا حالات المزج والخلط لادنى مناسبة كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.

***

وما يعنينا في هذه الخطوط هي تلك التي جعلت حالات الوصل والاتصال بين الرؤية الوجودية والنص الديني وكانت قراءتها منضبطة، اي تلك التي تتمثل بكل من خط التبعية وخط التوفيق، فكلاهما يتمتعان بالقراءة المنضبطة للنص الديني، حيث احدهما يجعل من هذا النص تابعاً لما عليه القبلية الوجودية كالذي عليه الفلاسفة المتقدمون، والاخر يجعل منه موازياً ومكافئاً لها كالذي سلكه العرفاء والاشراقيون بحثاً عن الموائمة والتوفيق بينهما. واذا كان اولهما معروفاً لدى الباحثين المعاصرين، فان الاخر مازال مجهولاً لم يعرف بعد. ومن هنا تأتي اهمية الكشف عن هذا الخط.

بين التمثيل والمشاكلة والمعاينة

قلنا انه يمكن تمييز وجود خطين متباينين في تصوير العلاقة بين العينتين الدينية والوجودية، الاول منهما قديم يمتد الى ما قبل ابن سينا والفارابي، ويكاد ينتهي مع نهاية فيلسوف الشرق والغرب ابن رشد، وهو الفيلسوف الذي قيل انه قبل ان يودع العالم ويلفظ انفاسه الاخيرة كان يتمتم: ((تموت روحي بموت الفلسفة)) 3. فهل يا ترى ان الفلسفة ماتت مع رحيله؟

بالفعل ان الاتجاه المعاصر مال الى اعتبار ابن رشد هو آخر حلقة من حلقات الفكر الفلسفي الاسلامي وانضجه. فالاعتقاد السائد هو ان الرشدية قد توقفت واصبحت عقيمة في ارض المشرق، في الحال الذي كان لها صدى واسع الصيت في الغرب. فهل هذا الاعتقاد يمثل حقيقة الواقع لتاريخ الفلسفة والرؤية الوجودية في الاسلام؟ هل فعلاً ماتت الفلسفة في المشرق بموت رائدها الاصيل؟ وبعبارة اخص، هل انتهى دور تأسيس العلاقة بين القبلية الوجودية والنص الديني عند ابن رشد، ام ظهر هناك تأسيس جديد يختلف عن سابقه؟

يمكن القول ان الفلسفة لم تمت، وان العلاقة المؤسسة بين القبلية الوجودية والنص الديني لم تنته ولم تكتمل بعد، ذلك ان ما قدمه الفلاسفة الاولون قد مهّد الى حلول علاقة روحية جديدة اعادت للاولى الحياة، وخلعت عليها ثوباً جديداً لم تجربه من قبل. ومع ان هذه العلاقة الجديدة بدأت منذ الغزالي، لكن روحها عادت عند ابن عربي والسهروردي، ثم انتهت في صياغتها الكاملة عند مدرسة صدر المتألهين، تلك المدرسة التي تستمد طاقتها من باع ابن سينا في عقله وتفكيره، وقدرة ابن رشد في توسطه وتأرجحه، وطابع الغزالي في تفسيره وتوفيقه، وروح ابن عربي في كشفه وذوقه، ونور السهروردي في تجليه واشراقه.. كل ذلك قد خلط وطحن في بودقة واحدة لتفرز آثارها المثيرة على صعيد الطريقة والنتائج.

كان من طبيعة العلاقة الجديدة التي تكاملت نهائياً على يد صدر المتألهين انها تنزع الى تصحيح العلاقة الاولى في تحديد نوع الصلة بين القبلية الوجودية والنص الديني. ذلك ان العلاقة الاولى كشفت عن وجود ثغرة بين القطبين دون ان توفق بينهما الا من حيث جعل النص الديني تابعاً ومتأثراً بما عليه القبلية الوجودية. في حين كانت مهمة العلاقة الجديدة هي اعادت الصياغة الموضوعة للصلة بين القطبين، وذلك بالجمع والتوفيق بين هذين المرجعين، بحيث ان احدهما يكون مكافئاً للاخر ومعبراً عنه من غير حاجة للتأويل.

اذن نحن امام طريقة وسطى جامعة، غرضها التوفيق بين القطبين، بحيث لا تتخلى عن القبلية الوجودية، ولا تعمل على تحريف ظاهر النص الديني او تأويله، بل استهدفت الدفاع عن هذين الكيانين كدفاع الانسان عن عينيه دفعة واحدة، وذلك على خلاف الطريقة التقليدية التي دافعت عن الرؤية الوجودية وعملت على تأويل النص الديني. مما يعني انها ليست بصدد تقديم اطروحة للتوحيد بين القطبين او التوفيق بينهما، مثلما تطمح اليه الاطروحة الجامعة المشار اليها. وكأن الفارق بين الاطروحتين في ترتيب العلاقة السابقة هو كالفارق بين من يملك عينين سويتين، ومن يملك عيناً حولاء لا ترى الاشياء الا منحرفة معوجّة.

ومن حيث الدقة ان ما ظهر على اعقاب الخط الاول، وهو خط التبعية، محاولتان تتمثلان بنظريتين حاولتا ان تعيدا الصياغة للعلاقة بين القبلية الوجودية والعينة الدينية، وذلك كنهج توفيقي لا ينكر على النص ظاهره ولا اصالته المعرفية. والنظريتان، احداهما مؤسسة تبعاً للمبنى الفلسفي، والاخرى مؤسسة تبعاً للمبنى العرفاني، لكن كلاهما يقيمان رؤيتهما بحسب ما عليه ظاهر النص الديني. فهما اذن عبارة عن محاولتين توفيقيتين بينهما عدد من المشتركات مثلما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.

المنهج التبعي

سنعتمد في دراستنا للموقف التقليدي من العلاقة الكائنة بين القبلية الوجودية والنص الديني؛ على ما سنطرحه لاهم اراء الفلاسفة ذات الصلة بالموضوع. وسنختار لهذا الامر اراء كل من الاسماعيلية والفارابي وابن سينا وابن طفيل، واخيراً ابن رشد الذي نحا منحى متقدماً بتخطيه النزعة التقليدية احياناً، وان كان في احيان اخرى لم يتجاوز مقالتها، لكن هذا الموقف المتذبذب لم يجعل مكانه وسطاً بين تلك النزعة والنزعة الجديدة التي نهجها الغزالي وصدر المتألهين، ولم يفكر في هذه الاخيرة، انما كان موقفه متأرجحاً في المقابلة بين الرؤية الوجودية والعينة الدينية، فتارة يرجح الاولى على الاخيرة، وتارة يعمل العكس، وكأنه يقدم رجلاً ويؤخر اخرى، او انه يضع احداهما في اتجاه تلك الرؤية، واخرى في معاكستها.

***

من المعلوم ان للاسماعيلية عامة، ولاخوان الصفا الذين ينتمون اليها خاصة، ميلاً عظيماً للتفلسف والاتكاء على الباطن، فلهم في ذلك نسيج خاص في التحليل والتفسير لمختلف نواحي الوجود والشريعة، وهم من ابرز المذاهب واقدمها في التأكيد على اهمية الباطن في فهم الحقائق، حيث امتداد هذا الميل يعود بنا الى شخصية جابر بن حيان الكوفي (المتوفي سنة 0 2 2هـ)، والذي يعد من اقدم الشخصيات الاسماعيلية التي وضعت خيوط المنهج الباطني لاستنباط حقائق الاشياء، مستعيناً في ذلك بالحروف والاسماء والاعداد 4؛ لما لها - عنده - من علاقة تكوينية مع الاشياء والموجودات الخارجية. وهي ذات الطريقة التي اتكأ عليها العرفاء وعلى رأسهم ابن عربي.

لقد تمسك اخوان الصفا بالفلسفة لتقويم النص الديني وتأويله، كما يجري الحال في تقويم الجوهر للعرض والباطن للظاهر والروح للجسم والصورة للمادة، وقد عبروا عن ذلك بابلغ تعبير فقالوا: ((ان الشريعة قد دُنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية)) 5. وقد زعموا - كما نقل عنهم ابو حيان التوحيدي - انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال 6، وعليه قاموا خلال القرن الثالث او الرابع الهجري بتصنيف خمسين رسالة بشتى مجالات الفلسفة والعلم والمعرفة الدينية واطلقوا عليها (رسائل اخوان الصفا) 7. ووفقاً لهذا المنطق اعتبروا المعطيات الدينية خطابية اقناعية تفيد التمثيل والتشبيه دون الحقيقة، مما دعاهم الى تبرير الممارسات التأويلية، وذلك من خلال اهمال الظاهر وتفعيل الباطن المتمثل عندهم بالقبلية الوجودية. وهي الفكرة التي سنرى كيف تكتمل صورتها عند المعلم الثاني ليتلقفها سائر الفلاسفة التقليديين من بعده. فتبعاً لنظرية التمثيل والتشبيه عمل اخوان الصفا والكثير من رجال الاسماعيلية على تبرير عدد من الاراء الفلسفية، ومن ذلك اعتقاد الاخوان بعدم مصاحبة الجسد للنفس بعد الموت. اي انهم منكرون للبعث الجسماني كغالبية الفلاسفة 8، فعلى رأيهم ان غرض الانبياء من وصف الجنان وصفاً جسمانياً قد جاء على سبيل التشبيه لتقريب تصويرها للناس وترغيبهم بها، اذ عامة الناس لا يرغبون الا بما هو جسم محسوس 9. وهذا ما دعاهم الى القول بالنعيم والعذاب النفسي دون غيره 0 1. بل اكثر من هذا - وكما عرفنا من قبل - انهم اعتبروا جهنم التي تلقاها النفس الجاهلة الاثمة انما تلقاها في هذه الدنيا وفي نفس الجسد الذي تعيش فيه دون ان تعود الى عالم الاخرة، وذلك ما لم يتم تطهيرها لتتم عودتها ومفارقتها الكلية للعالم ومن ثم رجوعها الى الحق تعالى قبلة الاديان وغايتها جميعاً. وكل ذلك يعد من التأويل للنصوص الدينية.

***

تمتاز نظرية الفارابي بانها تعطي الصورة النهائية لخيوط الفكرة التقليدية في علاقة الفلسفة بالنص. فرغم ان هذه الفكرة قد وجدت واضحة لدى الاسماعيلية واخوان الصفا، لكنها لم تكن كاملة الخيوط والمرامي مثلما هو الحال عند الفارابي، كما ان كل من جاء بعده لم يضف الى ما قدمه هذا المعلم شيئاً جديداً. هكذا استمر الحال حتى حلت العلاقة الجديدة محل الاولى منذ الغزالي كخطوة اولى ثم اكتمالها عند صدر الحكماء الشيرازي.

يفرق الفارابي بين وحي النص وعقل الفلسفة من جهة التمييز بين التمثيل الذي يفيد الاقناع، والبرهان الذي يفيداليقين. فبنظره ان النص ليس مصدراً للبراهين، انما وظيفته اتباع ما عليه الفلسفة ذات البراهين اليقينة، وذلك بمحاكاتها بالمثالات، فيكون التصديق بالنص تصديقاً اقناعياً لا يبلغ مرتبة اليقين، وذلك على عكس الفلسفة التي تدل على اليقين والحقيقة كما هي، من غير تمثيل ولا محاكاة ولا تقليد. فمع ان النص عنده يعالج نفس الموضوعات التي تعالجها الفلسفة، لكن الفارق بينهما هو محاكاة الاول للثانية التي تتقدم عليه زماناً، فكل ما يعقل ذاته وتعرف حقيقته باليقين والبرهان يأتي النص ليعبّر عن هذا المدلول بتخييل مثاله كي يحاكي ذلك الشيء، وبالتالي فان للنص وظيفة تابعة واقناعية، فهو لا يستبطن ادراك نفس الشيء وحقيقته بل ادراك مثاله 1 1.

هذا هو الفارق بين ما هو فلسفة وما هو نص. وهذا هو منطق الظاهر والباطن، اذ ليس لظاهر النص غير دلالة التمثيل والتخييل والاقناع، أما باطنه فيقتضي التفتيش عن دلالته عبر منطق الفلسفة وبرهانها، اي عبر القبلية الوجودية واصلها المولد.

وهذه هي الفلسفة التي تسبق النص زماناً، فتقتضي تقدم الفلاسفة على الانبياء. وهي نفسها التي تحتل صدارة التقويم للدلالة النصية، كتقويم الباطن للظاهر. الامر الذي يبرر تفوق الفلسفة على النبوة في الكشف عن الحقيقة، وذلك لاتصالها بالعقل الفعال، أما النبوة فليس لها من وظيفة سوى محاكاة الاولى ببلوغ مرتبة تمثيل اليقين بالخيال المفيد للاقناع. حيث ان الفارابي اكد على جعل الفلسفة تتقوم بقوة العقل القدسية، والنبوة بقوة التخيل التي تتصف بمحاكاتها للاولى. وبالتالي فمثلما يكتسب الفيلسوف معقولاته ويعبر عنها تعبيره المجرد الثابت، فان النبي يقوم بتخيل ذلك ويعبر عنه بالامثال والرموز. من هنا كان التأويل عملاً منطقياً لا مناص منه، اذ كيف يمكن تحديد الدلالة النصية اذا ما كان الظاهر ليس بامكانه الكشف عنها؟! وذلك على خلاف البرهان الفلسفي الذي بامكانه تحديد المعنى القابع خلف هذا الظاهر.

ان من دلالات التمييز بين البرهان الفلسفي والاقناع الشرعي، او بين الفيلسوف والنبي، اعتراف الفارابي بان الشرائع ليس لها ما لارسطو وقبله افلاطون ومن سلك سبيلهما في القول بابداع العالم واثبات الصانع، فعدّهم بذلك منقذين للناس من الحيرة واللبس حين كشفوا عن امر الابداع بحجج واضحة مقنعة تدل على ايجاد الاشياء عن لا شيء، فالعالم مبدع من غير شيء، كما ان مآله الى غير شيء ايضاً. في حين اعتبر علماء الشريعة ممن يقولون بقدم العالم لا حدوثه، بدلالة ما تحدثوا بان الاصل كان ماءً فتحرك واجتمع زبد وانعقدت منه الارض وارتفع عنه الدخان وتكونت السماء، فضلاً عما ذكره اليهود والمجوس وسائر الامم الاخرى في شأن الاستحالات والتغايرات التي هي اضداد الابداع 2 1.

وواقع الامر ان الابداع الذي يتحدث عنه الفارابي ليس بالصورة التي قد نظنها. فهو من القائلين بنظرية الفيض، والمعتمدين على اثولوجيا افلوطين للتوفيق بين ارسطو وافلاطون في مسألة الخلق وبعض المسائل الاخرى. فالحدوث الذي ذكره انما هو الحدوث الذاتي فيما يتعلق بالافلاك وما شاكلها، اما من حيث الزمان فلا تعد عنده حادثة، وكذا الحال مع الامور الكونية من حيث النوع لا الافراد. وعلى هذه الشاكلة كان اخوان الصفا او الاسماعيليون، حيث يقولون بخلق العالم وابداعه وانه كائن بعد إن لم يكن، فهو حادث لا قديم 3 1. مع انهم يعترفون بالسنخية بين العلة والمعلول، ومن ذلك السنخية بين المبدأ الاول ومعلولاته، اذ اعتبروا كغيرهم من الفلاسفة ان العقل هو فعل الله تعالى بذاته وجعلوه مثاله لانه معلول العلة الاولى 4 1.

كما ان من دلالات التفرقة بين البرهان الفلسفي والاقناع الشرعي، انكار الفارابي للمعاد الجسماني وقوله بمفارقة النفس للبدن، دون عودة اليه ولا الى بدن اخر، مثلما لا يكون لبدن واحد نفسان 5 1. وهو الرأي الذي ساد لدى جمهور الفلاسفة واتباع المشائين.

لكن مع كل ما سبق نجد للفارابي بعض الخروقات لمبدأ التبعية الذي التزم به، وهو المبدأ الذي يجعل من النص الديني تابعاً للبرهان الفلسفي باعتباره لا يفيد التحقيق واليقين. فهو احياناً يسلّم للاقاويل الشرعية رغم انها لا تتسق مع القبلية الوجودية، ومن ذلك انه خالف التقليد الفلسفي في الموقف من العلم الالهي للجزئيات، معولاً في ذلك على الاية الكريمة: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض} سبأ/ 3، حيث اعتبر عناية الله تعالى لا تفوّت شيئاً من اجزاء العالم، فهي شاملة لجميع الجزئيات، وكل شيء في العالم موضوع بأوفق المواضع واتقنها.. منتهياً الى الاقرار بان الاقاويل الشرعية في هذا الخصوص صحيحة وعلى غاية السداد 6 1. وبالتالي اصبح النسق الفارابي مقلوباً رأساً على عقب، اذ اضحى النص اداة البرهان والوصول الى اليقين بعد ان كان أداة الخيال والتمثيل، وعلى العكس تحولت الفلسفة الى الظنون والخيالات بعد ان كان بيدها مفتاح البرهان واليقين، فشتان بين اليوم والبارحة!

***

ولو انتقلنا الى ابن سينا فسنرى انه الاخر آل كشيخه الفارابي الى اعتبار القبلية الوجودية طريقاً فريداً للمعرفة البرهانية، فليس للعينة الدينية وظيفة الا الخطابة التي تفيد اقناع العوام من الناس. فقد ذكر في رسالته المسماة (الاضحوية في امر المعاد) ان في الشرع قانوناً واحداً يرام به خطاب الجمهور واقناعه بصورة التمثيل والتشبيه الخيالي، ولا تدرك حقيقة الامر الا بالفلسفة وبراهينها العقلية، فهي الحجة دون الشرع. لكن مع هذا أكد بان ما يقوم به الشرع من وظيفة اقناعية يعد مما لا غنى عنه لتقريب المعنى الى مدارك الناس الضعيفة. فبهذا المنطق اخذ يبرر مقالة نفي المعاد الجسماني، معتبراً ان ما ذكره القرآن الكريم حول ذلك ما هو الا تشبيهات وتمثيلات لا يستفاد منها حجة ولا حقيقة ولا تفصيلاً. بل يرى ان على النبي ان يقرر وجه المعاد بالشكل الذي يتصوره الناس وتسكن اليه نفوسهم، فيضرب للسعادة والشقاوة امثالاً وتشبيهات يفهمونها ويتصورونها 7 1. فلا بد اذن من حمل النصوص والايات على المجاز خلاف الظاهر، ومن ثم تأويلها بالكشف عن الباطن وفق معيار القبلية الوجودية.

وقد اشتهر ابن سينا بثلاثة اعتقادات أُتهم فيها بالخروج عن الاسلام رغم ان الفارابي قد سبقه اليها، وهي: انكاره للمعاد الجسماني ونفيه للعلم الالهي الجزئي وقوله بقدم العالم. فعلى هذه المسائل الثلاث اشتهرت قضية تكفير الفلاسفة من قبل الغزالي 8 1. كما انها كانت من بين المؤاخذات التي اوردها صدر الحكماء على من سبقه من جمهور الفلاسفة المشائين، كالذي مرّ علينا بحثها متفرقاً.

***

ولو تحولنا الى فيلسوف اخر كابن طفيل فسنجد انه كسائر الفلاسفة يعول على الاخذ بنظرية المثال والتشبيه، وهو كغيره يعتبر الفيلسوف يعلم ما يعلمه النبي، لكن النبي يتكلم بالامثال ليقرب المطلوب الى الافهام العامة، بينما ينقل الفيلسوف الحقيقة كما هي صراحة من دون تغليف ولا تلبيس 9 1. هذا هو ما آلت اليه قصته الاشراقية (حي بن يقظان) والتي اتبع فيها المسلك الذي سار عليه الفلاسفة قبله وعلى رأسهم الشيخ الرئيس. فالقصة تؤكد على أن الحقيقة تظهر مباشرة وبالذوق لأصحاب الكشف والمشاهدة من العرفاء، كذلك تؤكد على أن أصحاب الفلسفة والعقل الكسبي يصلون هم أيضاً الى المعطى المعرفي او المفهومي عينه الذي يصل إليه أهل الكشف، في حين إنها تنظر الى رجال الدين بانهم الجمهور العام الذين تستهويهم الحجج الخطابية والإقناعية. فهم ليسوا من أصحاب البرهان ولا من أهل العرفان، بل نفوسهم غير مستعدة لأن تتقبل سوى تلك الحجج، وهي ما تقدمه لهم العينة الدينية من الظواهر التي يحتجّون بها، وهذا ما أدركه بطل القصة (حي ابن يقظان) بفطنته، فعلم به وجه الحكمة في كون العينة الدينية ليست مصدراً للبرهان والحقيقة، بل هي مصدر التمثيل والرمز. وهو جوهر ما يؤكد عليه ابن سينا كما في رسالة ( أضحوية في أمر المعاد)، ومن قبله الفارابي، بل وقبلهما الكثير من الاسماعيلية. فهم جميعاً يعتقدون بان العينة الدينية هي مصدر التمثيل والرمز لا البرهان والحقيقة، وأن وظيفتها هي لاجل مخاطبة الجمهور واقناعهم، طالما ان نفـوسهم لا تتعقل الحـقيقة والـبرهان.

هكذا فان اهمية هذه القصة هو انها تعكس التصورات التي يريدها الاشراقيون، حيث يرون وحدة الحقيقة لدى كل من الفلاسفة والعرفاء، حيث الفلاسفة بعقولهم ومفاهيمهم النظرية، والعرفاء بمشاهداتهم وكشوفهم الذوقية. اي الحقيقة التي يصل اليها الفلاسفة عبر الاستدلالات والبراهين المعرفية التي تعتمد على التعليم الكسبي من الصنعة والمقدمات المنطقية، وكذا الحقيقة التي يتذوقها اهل الكشف والمشاهدة بفعل زهدهم عن الدنيا وممارسة الرياضات الروحية والتأملات الوجدانية الخاصة.

كما تؤكد القصة ايضاً على طبيعة العلاقة التي ينبغي ان تكون بين الحقيقة التي يصلها كل من اصحاب الفلسفة والمشاهدة من جهة، وبين المعطيات الدينية من جهة اخرى، وذلك تبعاً لنظرية المثال والتمثيل، والاخذ بالباطن وحمل الظاهر على التشبيه والتمثيل. وبالتالي التفريق بين ظاهر العينة الدينية وباطنها، فالاول يدركه الجمهور، والثاني يدركه الخواص من اصحاب التأمل الفلسفي وارباب المشاهدات الروحية. وان هناك حكمة في عدم اظهار الحقائق لعموم الناس عبر التنزيل الديني، وهو امر يفهمه اصحاب الكشف والمشاهدة اعتماداً على القابليات الضعيفة لافهام اغلب الناس بمن فيهم رجال الدين والفقهاء، وانه لا يسعهم غير ما وسعهم، وكل ميسر لما خلق له مثلما جاء في الحديث النبوي. وبالتالي كان يجب على اصحاب التأمل واهل المشاهدة ستر الحقائق عن هؤلاء الناس ومعاملتهم بالرفق واظهار انهم يرون من الاعتقادات مثل ما يراه هؤلاء، ومن ثم الضن بالحقائق والاسرار على كل من هو من غير اهلها. فمهما يكن فان اغلب الناس ينتفعون من التنزيل الديني في سلوكهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، وهذه الوظيفة تكفيهم وتسد حاجاتهم الفعلية، رغم انهم بعيدون عن ادراك الحقائق الدينية، اذ انها لا تنكشف الا لذينك الصنفين من الرجال: الفلاسفة والعرفاء. فهؤلاء هم وحدهم من يفهم سر ما يجري عليهم وعلى غيرهم من العباد، أما رجال الدين فليس لهم من الامر سوى القشر والظاهر 0 2.

وبحسب هذه المفاهيم كان من الطبيعي ان يوافق ابن طفيل الفلاسفة على القول بنفي المعاد الجسماني 1 2، وهو رغم تردده في قضية قدم العالم او حدوثه من حيث وجود ما يعترض كل منهما من الشبهات، الا انه كان ينتهي احياناً الى نتيجة قد تكون لديه كشفية ذوقية لا تتعلق بالشبهات العارضة، وهي ان العالم قديم كله بسماواته وارضه وكواكبه بما فيها وما تحتها وما فوقها وما بينها، فكلها قديمة زماناً وان كانت حادثة ذاتاً 2 2. وقد اشار احياناً الى ان العالم الالهي وإن كان مستغنياً عن العالم الحسي التابع له كالظل للشخص، الا انه رغم ذلك يستحيل ان يطرأ على وجود هذا العالم الحسي عدم بجملته، وذلك استناداً الى هذه التبعية 3 2. مما يعني انه لابد ان يكون قديماً كالعالم الالهي، قدماً بقدم.

***

لا اشك في ان ابن رشد يمثل في حد ذاته نسيجاً ملوناً وطرازاً خاصاً قد يصعب ان نجد له شبيهاً بين الفلاسفة. وهو وإن اظهر نوعاً من التردد ازاء ما تبناه الفلاسفة السابقون حول طبيعة المبدأ الذي يحكم العلاقة بين العينة الدينية والقبلية الوجودية، الا انه رغم هذا كان منساقاً الى ذلك الاتجاه التقليدي الذي يمثله خط الفارابيين، حيث التسليم بقاعدة ((ما في الدين مثالات لما في الفلسفة)).

فعلى رأي ابن رشد ان من الحقائق ما هو خفي يستوجب علمه بالبرهان، وهو امر لا يطيقه عامة الناس، لذلك فقد ضرب الله لهم أمثال تلك الحقائق واشباهها، ومن ثم دعاهم الى التصديق بها، وعليه كان لابد ان يكون في النص ما هو ظاهر وباطن، وفي الناس ما هو عامة وخاصة، فالظاهر عبارة عن تلك الأمثال المقربة للمعاني الباطنة الى أذهان العامة من الناس. أما الباطن فهو هذه المعاني التي لا تنجلي الا لأهل البرهان من خاصة الناس 4 2. وهذا ما دعاه الى ممارسة التأويل الذي صنّفه الى أربعة اشكال جميعها يقوم على نظرية (التمثيل)، معتبراً أن بعضها مما لا يجوز التصريح بتأويله لغير الراسخين في العلم، وهم الفلاسفة 5 2.

مع ذلك فابن رشد لا يرى هناك تضاداً بين البرهان الفلسفي والنص الديني، إذ كلاهما عنده حق، ولا بد أن يشهد أحدهما للآخر 6 2، وكما يقول: ((إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأُخت الرضيعة.. وهما الـمصطحبتان بالجوهر والغريزة)) 7 2. وعنده ان الشرائع مأخوذة من (الوحي والعقل)، فكل ((شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلّم أنه يمكن أن تكون ههنا شريعة بالعقل فقط فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الـشرائع التي استنـبطت بالـعقل والـوحي)) 8 2. وعليه اعتبر انه لابد ان يكون كل نبي فيلسوفاً من دون عكس 9 2. وهو ما يبرر القـيمومة الفـلسفية على النص الديني. وفعلاً ان الفلاسفة عنده هم القيّمون الحقيقيون على هذا النص، لذلك يصفهم بأنهم اولئك ((الذين قيل فيهم إنهم ورثة الأنبياء)) 0 3. وهذا ما يستوجب الاقرار بعملية تأويل الـنص عند معارضته للـبرهان الفلسفي 1 3. وهي العملية التي رأى فيها ان تكون من اختصاص الفلاسفة دون غيرهم من أهل الكلام والحشوية والباطنية 2 3، وذلك باعتبارهم اصحاب القياس البرهاني من بين أشكاله الثلاثة، أحدها يفيد أهل الكلام، وهو الجدل، والآخر هو الخطابة التي اعتبرها من شأن الجمهور الغالب 3 3.

ومع ان ابن رشد اقر في (تهافت التهافت) بوجود امور في الشريعة يستحيل على البرهان العقلي ان ينالها، فلا طريق لادراكها سوى الوحي والنبوة؛ كالادعية والصلوات والقرابين وغير ذلك مما لا يعرف الا بالنص، الا انه في كتاب (فصل المقال) اعطى القدرة التامة للعقل في معرقة كافة مكنونات الشرع من الحقائق والتعاليم، والتي منها الرموز والأمثال المقربة لأفهام الجمهور، حيث يدركها عقل الفيلسوف خالصة بالحقائق الخفية الباطنة والموقوفة على أهل البرهان خاصة 4 3. الامر الذي ادى به في بعض المواقف الى تجاوز ما قد تبناه من الرأي الارسطي، مثلما هو الحال مع قضية المعاد النفساني وحشر الأجساد كالذي مر معنا. فقد تبنى القول بالمعاد النفساني كالذي عليه الفارابيان، واعتبر أن الشرائع قد اختلفت في كيفية ذكر أحوال هذا المعاد بين التصريح والتلويح والتمثيل بالأُمور المشاهدة الحسية، وكل ذلك بنظره يرجع الى تفاوت الوحي. لكنه فسّر علة التمثيل بالأُمور الحسية ((إما لأن أصحاب هذه الشرائع أدركوا من هذه الأحوال بالوحي ما لم يدركها أولئك الذين مثّلوا بالوحي الروحاني، وإما لأنهم رأوا أن التمثيل بالمحسوسات هو أشد تفهيماً للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركاً.. وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام، في تمثيل هذه الحال)). هكذا فهو يقرر بأن التمثيل الحسي في شريعتنا جاء لكونه اتم افهاماً لعوام الناس واكثر تحريكاً لنفوسهم اتجاه ما يرد في العالم الاخر او الغيب، وذلك على خلاف التمثيل الروحي الذي هو اقل تحريكاً لنفوس الجمهور الى ذلك العالم. فعلى هذا الرأي ان التمثيل بالأمور الحسية هو أفضل للجمهور من الكشف الصريح عن الحقيقة، لذا فان القرآن لحرصه على مصلحة البشر قد مثّل على السعادة والشقاوة بالامور الحسية لتقريبها من أفهام الجمهور 5 3. وبالتالي فقد حكم ابن رشد بضرورة تأويل ظاهر الاوصاف الواردة في النص الديني طبقاً لبراهين العقل الفلسفي 6 3.

على ان لابن رشد جوانب اخرى يقترب فيها من ظواهر النصوص الدينية، كالذي يظهر في كتابه (الكشف عن مناهج الادلة). وكدلالة على ذلك حكمه بضرورة تمسك كل من الفيلسوف والمتكلم والرجل العادي بجملة من حقائق الدين الاساسية كالاتي:

1ـ وجود الله تعالى كصانع ومدبر للعالم، حيث اعتبر ان اوفى البراهين عليه هما دليلا الاختراع والعناية اللذان نبه عليهما القرآن الكريم في كثير من اياته التي تتعلق بدقة الخلق وغايته.

2ـ الوحدانية التي دلت عليها الايات الثلاث: {لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا} الانبياء/ 2 2، {وما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله اذاً لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} الاسراء/ 2 4، {قل لو كان معه الهة كما يقولون اذاً لابتغى الى ذي العرش سبيلاً} الاسراء/ 2 4.. وقد اعتبر ابن رشد هذه الايات اساس جميع الادلة الفلسفية على التوحيد.

3ـ صفات الكمال السبع المسندة الى الله تعالى بالنص القرآني (العلم والحياة والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام)، والتي حاول ابن رشد اثباتها بطريقة الاستنتاجات المنطقية اعتماداً على صفة العلم، وكون العلم يُعرف من خلال الدقة الموجودة في المصنوع. والعلم يقتضي الحياة، حيث لا علم بلا حياة، وان الارادة والقدرة تثبتان من خلال وجود الفاعل العالم، وان السمع والبصر مؤولان عنده الى صفة العلم بمدركات هاتين الصفتين، وان الكلام يثبت من قيام صفة العلم وصفة القدرة على الاختراع، حيث الكلام ليس اكثر من ان يفعل المتكلم فعلاً ليدل به المخاطَبَ على العلم الذي في نفسه. لكن البت في كيفيتها غير ممكن، وهذا ما جعله متحفظاً غير منحاز، لا الى المتكلمين ولا الى الفلاسفة 7 3. بل انه نقد كلاً من الاشاعرة والمعتزلة حول تحديد الصفات ان كانت زائدة او متحدة مع الذات، واتخذ موقفاً محتاطاً يتفق مع دلالات النص الديني، فلم يقرر شيئاً بكيفية الاتصاف، واعتبرها من الامور الخارجة عن احاطة الادراك البشري، لذلك نصح الجمهور بالتمسك في الاعتقاد بوجودها كما وردت عن الوحي من دون تفصيل 8 3.

ومن دلالات الاحتياط الشرعي لابن رشد، حياده عن ابداء اي نظر ازاء صفة الله الجسمية، فلم يصرح حولها بنفي ولا باثبات، لكنه ذكر بأنه نور تبعاً لما جاء في آية النور، وما جاء في بعض الاحاديث كما في صحيح مسلم (ان لله حجاباً من نور، لو كُشف لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره)، واعتبر التمثيل بالنور شديد المناسبة للخالق، وذلك لان فيه تجتمع خصلتان مناسبتان، احداهما انه محسوس تعجز الابصار والافهام عن ادراكه، والاخرى انه ليس بجسم 9 3.

بل رغم انه يميل الى نفي الرؤية والجسمية بحسب موقفه السابق، الا انه طبقاً لظواهر بعض الايات صرح بثبوت نسبة الجهة اليه، مع ما رآه من العسر في تفهيم هذا المعنى الذي يفكك بين الجسمية والجهة، خصوصاً انه ليس في الشاهد مثال عليه، وهو بذلك قد استند الى جملة من النصوص القرآنية كالذي جاء في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} الحاقة/ 7 1، وقوله: {يدبر الامر من السماء الى الارض، ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون} السجدة/ 5، وقوله ايضاً: {أأمنتم من في السماوات ان يخسف بكم الارض فاذا هي تمور} الملك/ 6 1 0 4. وبذلك قد خالف جميع الفلاسفة، كما خالف تأويلات المعتزلة، وحمل الكثير من ايات الصفات على ظواهرها، ومن ذلك انه اعتبر اثبات الجهة واجباً بالشرع والعقل معاً، وان ابطال ذلك هو ابطال للشرائع كافة 1 4.

والملاحظ في جميع المسائل الانفة الذكر ان ابن رشد لم يلتزم طريقه كفيلسوف يضع القبلية الوجودية في محل الصدارة لتقويم النص الديني وتأويله كما كان يعلن في السابق. ولا شك ان استلهامه الاصالة الشرعية لظواهر النص الديني وعدم الوقوف عند حدود ما يفرضه العقل القبلي من اعتبارات، هو مما لا نجده عند الغير من الفلاسفة الذين سبقوه. وربما لهذا الانفتاح يميل البعض الى اعتباره ممثلاً للاسلام الحقيقي، مع انه بنظر بعض اخر متهم بالالحاد، كالذي ذهب اليه دي بور، وذلك لاعتقاده بثلاث نظريات فلسفية، هي:

1ـ قوله بقدم العالم المادي والعقول المحركة له.

2ـ قوله بحتمية الارتباط بين العلة والمعلول في علاقات الكون من غير ان يترك مجالاً للعناية الالهية والمعجزات ونحوها.

3ـ قوله بفناء جميع الجزئيات، مما يجعل الخلود الفردي غير ممكن 2 4.

فشتان بين هذا الاتهام وذاك التقدير، وما ابلغه من تناقض ان دل على شيء فانما يدل على حالة التأرجح التي هي سمة هذا الفيلسوف الالمعي.

وقد يكون ابن رشد يشابه ما عليه صدر المتألهين الشيرازي، لا فقط من حيث موقف الاخرين ازاء ما يمثله انتماؤه الديني، حيث يجعله الكثير في مصاف القديسين وانه يعطي الرؤية الاسلامية الحقة، وبالتالي فهو يمثل الاسلام الحقيقي، او على العكس حيث يذهب البعض الى انه غنوصي باطني غير ملتزم بالعقيدة الدينية وعلى رأسها مسألة التوحيد 3 4.. بل ايضاً من جهة ما يشتركان به من توافقات وتشابهات عديدة دون ان تمحي الطراز الخاص لكل منهما. فكلاهما له محاولات مخلصة للجمع بين العينتين الوجودية والدينية، وكلاهما قائلان بوحدة الوجود، كذلك اتحاد العاقل بالمعقول واتحاد النفوس ورجوعها الى الاتحاد بالعقل الفعال، مع بعض الاختلاف. كذلك فانه لا يوجد غيرهما - من الفلاسفة - من يقر بوجود الكثرة الاجمالية في وحدة الذات وتفسير العلم الالهي على اساسها. اضافة الى ما ذكرناه سابقاً بخصوص نظرية الفيض والصدور، وكيف انهما اتفقا على كون العالم جملة واحدة قد صدر عن الواحد الحق، وبالتالي فان الصادر عندهما هو الواحد الكثير، وان هذا الصادر له قوة روحية تربط بين جميع اجزاء الموجودات الممكنة والتي عنها كان وجودها، حيث انها تسري في الكل سرياناً واحداً، وانها على وحدتها تتنوع بحسب ما عليه طبائع الموجودات، فتكون في القديم قديماً وفي الحادث حادثاً وفي العقل عقلاً وفي الجسم جسماً، وأنه مفارق مع كل مفارق، وملابس للمادة مع كل مادة، فهو مفارق وملابس؛ كل بحسب رتبته الخاصة في سلسلة الوجود، ولولا حضوره فيها بنحو ما من الانحاء ما كان لها من أثر ولا وجود. فهذه القوة السارية التي اكد عليها ابن رشد 4 4؛ هي ذاتها التي تحدث عنها صدر المتألهين كوجود منبسط يطلق عليه العقل الاول والنفس الرحماني والحق المخلوق به، فهو أصل وجود العالم وحياته ونوره الساري في جميع ما في السماوات والأرضين؛ كل حسب رتبته 5 4. كذلك فان الوجود هو واحد لدى كلا الفيلسوفين، لكنه متعدد الرتب، حيث للشيء الواحد أطوار ومراتب من الوجود بعضها أشرف من البعض الآخر، كما هو معلوم من أمر النفس من حيث تكاثر أطوارها مع أنها شيء واحد. ومن ذلك ما يظهر في اللون من مراتب وجودية في المادة والحس والخيال والعقل واخيراً في ذات الحق وهو اشرفها جميعاً 6 4. فمثل هذه المراتب للون التي تحدث عنها ابن رشد هي ذاتها تشابه ما تحدث عنه صدر المتألهين في مراتب النور، والتي عليها يمكن تبرير نظرية المشاكلة الجديدة في العلاقة مع العينة الدينية وذلك تبعاً للمدلول القبلي من التبرير، مثلما سيمر علينا ذكره فيما بعد. كذلك فان ابن رشد يصل من خلال هذه الرتب، المتفاوتة في الكمال للموجود الواحد، الى ذات ما يصل اليه رؤساء الصوفية - ومن بعدهم صدر المتألهين - من ان المبدأ الاول هو عبارة عن الموجودات كلها، وهو معنى قولهم (لا هو الا هو)، معتبراً ان هذا الاعتقاد هو من علم الراسخين في العلم الذي ينبغي أن يضن به على كل من هو ليس من أهله 7 4.

ذلك هو الاثر العظيم الذي خلفه ابن رشد ومن سبقه من الفلاسفة لاحفادهم المتأخرين من امثال صدر المتألهين، فهل يبقى بعد ذلك من يقول بذهاب الفلسفة مع رحيل ابن رشد؟!

ومع هذه التشابهات، فان ما حاوله ابن رشد في تنازلاته الفلسفية للدفاع عن الوحي احياناً، وكذلك تنازلاته الدينية للدفاع عن الفلسفة احياناً اخرى، جعلت منه نسيجاً ملوناً يختلف نوعاً عن الطراز الخاص لصدر الحكماء الذي حاول الجمع بين القطبين بكل ما يملك من وسيلة، ظناً منه انه بذلك يوفق بين العينتين، الامر الذي ادى به الى التلفيق والترقيع من دون اكتراث بالخصومة والتضاد بينهما. وهو وإن كان قد ذم في بعض المواقف كلاً من التفلسف والتصوف، لكنه لا يقصد بذلك الا الطرق التي لا تنهج طريقه في التوفيق بين العينتين الحكمة والشريعة، ولا تنسج نسيجه في تطريز الجمع بينهما. وهو بخلاف ابن رشد اذ اراد ان يقدم الكتاب والسنة على التفلسف، كانت شريعته عبارة عن فلسفة، وفلسفته عبارة عن شريعة. لكن من حيث تحليل الموقف يمكن القول انه حاول ان يجعل من العينة الدينية متفقة مع القبلية الوجودية لا العكس. وقد اقتضاه هذا الامر ان يحوّر في بعض مضامين هذه القبلية التي ورثها عن المتقدمين ليجعلها اكثر طوعاً ومرونة في جمعها مع العينة الدينية كالذي سيمر معنا. مع هذا يظل ان الثابت لديه هو الروح الوجودية واصلها المولد. في حين كان ابن رشد لا يعمل على تحوير القبلية الوجودية عندما يأخذ بالعينة الدينية المعارضة، بل هو إما ان يعمل على تأويل هذه العينة لصالح تلك القبلية، او انه يأخذ بهما كأمرين متوازيين بلا نقطة مشتركة تجمع بينهما. لكنه في الغالب ينحو باتجاه القبلية الوجودية واصلها المولد. وبالتالي فان هذه الطريقة لا تسعى الى ايجاد نزعة وسطية توفيقية بين العينتين، وذلك على خلاف الحال الذي سعت اليه طريقة صدر المتألهين، رغم ما تورطت به من صور التلفيق التي لاحت حتى تلك التي اراد لها ان تكون توفيقية وسطية.

المنهج التوفيقي

لم يكن الخطر الذي تنذر به نظرية المثال والتمثيل امراً هيناً، اذ كانت ترمي في نتائجها الى مصادرة العينة الدينية واستئصالها لتحل محلها القبلية الوجودية. فالقضايا الغيبية التي تبشر بها العينة الدينية تحولت بتلك النظرية الى امور مجازية تفيد التشبيه. ونعلم ما لهذا الامر من اثر يفضي الى عدم امكان الاحتجاج بالنص، وان عيناته تظل باطنية كامنة لا يمكن الفصح عنها الا بلسان العقل الوجودي.

ولم تكن مسألة البعث الجسماني على صورتها التقليدية التي استمرت قروناً عديدة من الجدل؛ مشكلة فارغة، بل ولا انها مجرد مشكلة ميتافيزيقية فحسب، فمن حيث الجوهر والاساس كانت مصدراً لاثارة الحوار المتعلق بطبيعة النص إن كان يمكنه ان يعلن الحقائق ظاهرة من غير حجب وتغليف، ام انه يستبطن افكاراً دفينة وحقائق خفية. هكذا توحي لنا رسالة ابن سينا (اضحوية في امر المعاد)، وهي الرسالة التي قرن فيها تلك المشكلة مع الموقف المتعلق بطبيعة النص الديني باسره، وهو الموقف الرافض لأن يكون هذا النص حجة معرفية في كشف الحقائق، وعلى رأسها الحقائق الغيبية. وهكذا كانت قصة (حي بن يقظان) في دلالتها وروحها.

اذن لم تبت المشكلة ميتافيزيقية انطولوجية بقدر ما كانت تضمره من منهج للتعامل المعرفي، فبأي طريق يمكن ان نتعامل مع العينة الدينية، هل نتعامل معها بحسب حرفية النص، ام بتحريفه واستئصال ظاهره للوصول الى الباطن عبر الحفر المعرفي من خلال اداة العقل الفلسفي الوجودي؟

ومن المهم ان نفهم ان هذه المشكلة لم تصادف التفكير الاسلامي وحده، بل لاحت غيره من الاديان الاخرى. ففي العصور الوسطى من الفكر الديني نرى هناك مواقف متعددة؛ بعض يناصر العقل على حساب النص، وبعض آخر يفعل العكس، كما ان هناك اتجاهات اخرى تتفاوت بين هذين القطبين. فقد كان اوغسطين (المتوفي سنة 0 3 4م) من انصار مقولة (آمن كي تتعقل)، وهو يطبقها حتى بالنسبة الى وجود الله تعالى، رغم انه يعد الدليل العقلي على وجوده له قيمة ذاتية، لهذا كان يصرح بان الفلاسفة قد عرفوا الله من دون توسط الايمان 8 4. وهناك اتجاه اخر ليهوذا البكار يشابه ما عليه الاتجاه السلفي في اعتبار العقل خادماً للكتاب وخاضعاً له بالكلية، رافضاً بذلك التفاسير المجازية وآخذاً بما يظهره النص من معاني حرفية بناء على سلطة الكتاب وحده من غير تأويل ولا تسلط خارجي 9 4. في حين نجد عند اريجنا (المتوفي سنة 7 7 8م) ان كلاً من العقل الفلسفي واللاهوت الديني صادر عن الحكمة الالهية، فلا تمايز ولا تعارض بينهما، وكما يقول: الفلسفة الحقة هي الدين الحق، والدين الحق هي الفلسفة الحقة. لهذا فانه يمد سلطان العقل الفلسفي الى موضوع الايمان باكمله، ويعتبر معاني الكتاب المقدس متعددة تعدد الوان ذيل الطاووس، مما يعني ان لنا ان نختار المعنى الملائم، بل ولنا ان نأول النص اسوة بالآباء 0 5. وله في ذلك كلمة شهيرة يقول فيها: ((لا يدخل احد السماء ما لم يكن ذلك عن طريق الفلسفة)) 1 5. كما ان ابيلار (المتوفي سنة 2 4 1 1م) كان يعلّم طلبته الثقة بالعقل وقدرته على حل تناقضات الايمان والمعتقد، وعنده ان الحقيقة واحدة وان وحدتها بديهية، وكما يقول: ان ((الحقيقة التي تبحث عن نفسها لا اعداء لها)) 2 5، على ذلك رأى ضرورة التعاون بين الفلسفة والدين، فعنده ان العقل الفلسفي ينفع في رفع اللاهوت الديني الى مقام العلم، وانه وإن كان لا يستطيع البرهنة على الاسرار، الا ان باستطاعته ان يقربها الى الفهم بضروب من التشبيه والتمثيل 3 5. وتأكيداً لمبدأ التوسط والتعاون الذي يقترحه ابيلار فانه يعترف ((انه لا يريد ان يكون فيلسوفاً إن عنى ذلك انه يصطدم بالقديس بولس، ولا ان يكون ارسطياً إن عنى ذلك قطيعته مع المسيح)) 4 5. أما الحال مع دي ليل (المتوفي سنة 3 0 2 1م) فقد اعتبر الحجة النقلية ليست قاطعة ملزمة، فلا محيص من الاستعانة بالحجة العقلية 5 5. وايضاً فان القديس البرت الاكبر (المتوفي سنة 0 8 2 1م) كان يعتبر القضايا اللاهوتية لا تتفق في مبادئها مع القبليات العقلية الفلسفية. فاللاهوت عنده قائم على الوحي فحسب، والعقل الفلسفي مستقل عنه، وبالتالي فانه لا يمكن ان يكون هذا الاخير حقلاً لانبات المسائل اللاهوتية فيه، او انه مسرح للفاعلية اللاهوتية، وإن كان على رأيه ان العكس ممكن، بل هو محتم، حيث لا غنى عن العقل الفلسفي في معالجة اللاهوت الديني، وذلك كي يمكن تفهمه قدر الامكان 6 5. لكن ابرز موقف ظهر على هذا الصعيد هو موقف الفيلسوف موسى بن ميمون (المتوفي سنة 4 0 2 1م) والذي امتاز بانه لا يحتفظ بحرفية النص في الكتاب المقدس، بل يسمح بتأويله بحسب ما يفرضه العقل الفلسفي من اعتبارات، اذ اعتقد ان لكل نص معان عديدة متعارضة، يكون اصوبها ذلك الذي يتفق مع منطق العقل، وذلك فيما لو لم يكن هناك تعارض بين العقل ونفس النص، اما حينما يحصل بينهما تعارض فمآل الامر الى تأويل الاخير. وفي جميع الاحوال ان حقائق الوحي عنده تكون قاصرة على الفلاسفة فقط دون ان يجد مجالاً ممكناً لتفسير الكتاب بالكتاب. وقد وجد هذا الاتجاه رفضاً من قبل بعض الفلاسفة المحدثين، حيث انبرى له اسبينوزا (المتوفي سنة 7 7 6 1م) بالنقد. فعلى رأيه ان تلك النظرية تقتضي وجود اشياء كثيرة لا يمكن معرفتها بالنور الفطري، لهذا فانه لا يرى اللاهوت الديني خادماً وتابعاً للعقل الفلسفي، وكذا لا يرى العكس صحيحاً ايضاً، فلكل ساحته وميدانه، وساحة العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الايمان الصادق والطاعة 7 5. وهو اتجاه يذكرنا بذلك الذي لجأ اليه ابو سليمان المنطقي كما مر معنا سابقاً.

أما من حيث الموقف من العلاقة بين العينتين الوجودية والدينية داخل الفكر الاسلامي؛ فالملاحظ ان نظرية التمثيل التي تحدثنا عنها لم تتمكن من الدوام والبقاء في عقول الفلاسفة المسلمين. فقد تحولت هذه النظرية الى صيغة اخرى اشد نسقاً واتساقاً، واكثر تقولباً واقتراباً من كلا القطبين: النص كما هو ظاهر، والقبلية الوجودية كما هي باطن، فكانت حلاً وسطاً بين الطرفين ((المتخاصمين))، كالذي نجده لدى ما قدمه الغزالي ومن بعده صدر المتألهين، وذلك حسب ما اطلقنا عليه (المبنى الفلسفي). كما ظهرت صورة توفيقية اخرى تجمع بين العينتين، حيث انها تأخذ بظاهر النص وتعمل على تفسيره تبعاً للقبلية الوجودية، وذلك وفق ما اطلقنا عليه (المبنى العرفاني) كالذي عليه ابن عربي واتباعه من العرفاء.

اذن علينا ان نتحدث اولاً عن المبنى الفلسفي للتوفيق في العلاقة بين العينتين الوجودية والدينية، وبعد ذلك نتبعه بالحديث عن المبنى العرفاني لهذا التوفيق.

1ـ المبنى الفلسفي

لنعد الى مسألة البعث الجسماني وكيف كان الفلاسفة التقليديون مضطرين الى انكاره بحجة ان عالم الارواح والرجوع الى الله لا تتزاحم بوجود بدن عنصري مآله التغير والفناء. فلا شك ان هذه الحجة تستند الى ما تفرضه القبلية الوجودية من اعتبارات تتعلق بطبيعة مراتب الوجود تبعاً لمنطق السنخية، وذلك من حيث اقرار رجوع كل شيء الى اصله، وان البداية كالنهاية، حيث مثلما تتنزل النفوس والارواح مجردة عن المادة والجسمية فانها تعود كذلك من غير اضافة عرضية زائدة. وبالتالي كان لابد من الباس العينة الدينية لباس المجاز في تصوير المعاد الجسماني، وانه لا يعدو ان يكون معاداً خيالياً يدور مداره ضمن لفائف النفس البشرية كالذي يحدث في عالم الرؤيا والمنام.

فعلى انقاض هذه الفكرة التي حوّلت العينة الدينية الى حقيقة مجازية لا قيمة لها من الناحية المعرفية؛ جاءت اطروحة السهروردي الفلسفية في المثل المنفصلة الخارجية كي تعيد لتلك العينة مكانتها في ابراز الحقائق والكشف المعرفي. فأهم ما تتصف به هذه المثل هو انها ليست حالّة في قوام مادي، كما انها ليست خيالات نفسية مثلما تصورها نظرية الفارابيين واتباعهما، انما لها ميدانها المنفصل عن النفس، فهي مثل خارجية وليست متصلة ضمن قوام العالم الداخلي للنفس. اي ان لها عالماً وسيطاً له شَبه بالعالمين العقلي من جهة والجسماني من جهة اخرى، فهو روحاني مجرد كالعقل، ومحسوس مقداري كالجسم، وانه سمي بعالم المثال او المثل لاشتماله على صور ما في العالم الجسماني، كما سمي بالخيال المنفصل باعتباره منفصلاً عن النفس التي عالمها هو عالم الخيال المتصل، وقيل ان هذه التسمية جاءت لانفصال هذا العالم عن المادة كالذي ذهب اليه القيصري 8 5. مهما يكن فانه بهذا المعنى تكون نظرية السهروردي قد اعادت بعض الشيء ما للعينة الدينية من اعتبارات الحقيقة المعرفية التي لا تقوم على التمثيل والتشبيه، وهي الحلقة المفقودة في نظرية التمثيل السابقة. ذلك انه لم تعد الاوصاف الواردة حول المعاد الجسماني في تلك العينة رموزاً تشبيهية لامور غير حقيقية، بل انها ظواهر ترمز للكشف عن حقائق علوية مصدقة بحسب ما عليه القبلية الوجودية. الامر الذي يجعل الوصف الديني ليس بحاجة لحمله على المجاز وتأويله.

مع هذا فان هذه الاطروحة لم تكتمل حلقاتها الا على يد صدر المتألهين، ذلك ان عيبها حسب نظر هذا الفيلسوف انها لم تقر بكون تلك المثل الجسمانية المعلقة هي عين هذه الاجسام او الافراد التي في الدنيا، وانما هي امثال لها، فكان تسديد هذه الثغرة على يد هذا الحكيم، فكما سبق ان علمنا انه يعتقد بان ابدان الاخرة عبارة عن مُثل معلقة ومنفصلة عن عالم النفس الداخلي، في الوقت الذي تمثل عين تلك الابدان في الدنيا، حيث اخذت بتطورها وحركتها الجوهرية الوجودية الى كمالها النهائي في الوجود الجسماني المثالي. فالشيء الثابت فيها يتمثل بالصورة، والشيء المتغير فيها يتمثل بالمادة، لذا فان المثل الاخروية هي عين الابدان الدنيوية من حيث الصورة لا المادة.

وعلى هذه الشاكلة هناك مشكلة اخرى كانت مداراً للحوار والجدل بين العقليين - ومنهم الفلاسفة - وخصومهم من البيانيين، وهي ما تعرف بمشكلة الصفات الالهية، كالسمع والبصر والغضب والضحك والفرح والاستواء والاستهزاء والمكر والتعجب والمجيء والهرولة واليد والقدم والعين والوجه، وما الى ذلك من اوصاف مذكورة في القرآن والحديث. ومعلوم ان الجدل حول هذه المشكلة استمر قروناً طال بها ذلك الذي حدث مع مشكلة البعث الجسماني. فاذا كان موقف الفلاسفة التقليديين من هذه الاوصاف او الصفات هو التأويل بحملها على المجاز، واحياناً الانكار عندما يكون النص رواية وحديثاً، فان ما قدمته الاطروحة الجديدة شيئاً يختلف عن ذلك كلياً. اذ انها لم تجد نفسها مضطرة الى مثل هذه الممارسات من انكار تلك الاوصاف او تأويلها، فعلى العكس رأت ان النصوص حول تلك الاوصاف تدعم ما تريد تثبيته بحسب منطق السنخية او القبلية الوجودية، وهو همزة الوصل الذي عانق فيه العرفاء والفلاسفة الجدد اصحاب الحديث والبيان. ذلك ان عوالم الوجود بحسب القبلية الوجودية متطابقة، بعضها من سنخ البعض الاخر، وبالتالي فما من صفة نراها في عالمنا السفلي هذا الا وهي موجودة في العالم العلوي - وكذا الالهي - بأبهى واجمل صورة. وبعبارة اخرى ان لتلك الاوصاف مراتب وجودية بعضها له ذلك الشأن الرفيع كما هو في عالم الاله، والذي على سنخه ظهر ما نراه من صفات الخلق في عالمنا الارضي، رغم البون الشاسع بين العالمين، مما يجعل العالم الالهي لا مثيل له ولا نظير. وبالتالي فمثلما ان هذا العالم يحمل تلك الاوصاف التي هي من نفس حقيقة الاوصاف الخلقية، الا انه يظل ليس كمثله شيء، مثلما جاء في بعض الايات من وصف الذات الالهية.

هكذا فان باستطاعة الاطروحة الجديدة ان تحل مشكلة التعارض في النصوص المتعلقة بالعالم العلوي. فشتان بين قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} الشورى/ 1 1، وكذا {لا تدركه الابصار} الانعام/ 3 0 1، وبين قول الحق: {هو الاول والاخر والظاهر والباطن} الرحمن/ 3، {الرحمن على العرش استوى} طه/ 5، {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} الفجر/ 2 2، {وهو الله في السماوات وفي الارض} الانعام/ 3... الخ 9 5.

فما ابلغ هذا التعارض بين هذين الصنفين من الايات، الامر الذي حدا باصحاب السلف من المحدثين ان لا يفرطوا في شيء من تلك الايات، اذ شعروا ان المنطق يفرض عليهم ان لا يفوتوا بعض الايات لحساب البعض الاخر، وليس ذلك ممكناً الا بالعمل على الاخذ بجميع ظواهر تلك الايات المتعارضة. هكذا اوحى لهم منطق التعامل مع الايات، حتى توصلوا الى فكرة كون الحق لا يخلو من ذهاب ومجيء وعلو وارتفاع ويد واستواء وفرح وتعجب ومكر واستهزاء.. الخ، ولكن من غير مثيل ولا شبيه لصراحة قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}.

وكذا هو الحال مع اتجاه الاطروحة الجديدة للرؤية الوجودية، فوجود عوالم متناسقة ومتشاكلة في الوجود يسّرَ العمل على التفسير الحرفي للايات من دون حاجة للمجاز والتأويل، فلماذا لا يكون لله تعالى ذهاب ومجيء واستواء وعلو ويد وقدم وعين ووجه... الخ، كما ويتصف في الحال ذاته بانه {ليس كمثل شيء}، حيث فيه نفي للمثل لا المثال، وشتان بين الامرين.

واعتماداً على هذا المنطق تمسك هذا الاتجاه بالايات التي ظاهرها التشبيه ونهى عن تأويلها، كقوله تعالى: {هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة او يأتي ربك او يأتي بعض آيات ربك} الانعام/ 8 5 1، {فاينما تولوا فثم وجه الله، وان الله واسع عليم} البقرة/ 5 1 1، {وكان الله بكل شيء محيطاً} النساء/ 6 2 1، {واحاط بما لديهم} الجن/ 8 2، {وهو الله في السماوات والارض} الانعام/ 3، {هو الاول والاخر والظاهر والباطن} الحديد/ 3، {كل شيء هالك الا وجهه} القصص/ 8 8، {ونحن اقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون} الواقعة/ 5 8، {ولله ما في السماوات وما في الارض} آل عمران/ 9 0 1، {ولله ملك السماوات والارض} المائدة/ 7 1، {الا له الخلق والامر} الاعراف/ 4 5، {ولله المشرق والمغرب} البقرة/ 5 1 1 0 6. فقد حُملت هذه الايات على ظاهرها بلا تأويل.

اذن يمكن القول ان الاطروحة الجديدة للمبنى الفلسفي كانت تستهدف جعل الاوصاف الدينية حقة لا تحتاج الى تحريف النص وحمله على المجاز والتشبيه. فالفهم عندها قائم بحسب هذه الاوصاف الظاهرة التي يدل عليها اللفظ الحرفي مثلما هو متبع لدى اهل البيان واصحاب الظاهر. او يمكن القول ان هذه النتيجة هي على غرار تلك التي توصل اليها المحدّثون واهل السلف ومن والاهم رغم بعض جوانب الاختلاف، كما هو الحال مع الامام احمد بن حنبل وابي الحسن الاشعري وابن تيمية وابن القيم الجوزية وغيرهم. فهؤلاء جميعاً مقرّون بأن للحق تلك الاوصاف وإن كانت غير معلومة الكيف تبعاً لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} 1 6.

وعلى العموم يمكن القول ان الاتجاه الجديد يكاد يصل الى نفس منطق المحدثين، كالذي صرح به صدر المتألهين من حيث انطباق القبلية الوجودية على ظواهر القرآن والحديث، فقد ذكر بلسان العرفاء انهم قالوا ((نحن اذا قابلنا وطبقنا عقايدنا على ميزان القرآن والحديث، وجدناها منطبقة على ظواهر مدلولاتها، من دون تأمل، فعلمنا انها الحق بلا شبهة وريب، ولما كانت تأويلات المتكلمين والظاهريين من العلماء في القرآن والحديث مخالفة لمكاشفاتنا المتكررة الحقة الحاصلة لنا من الرياضات الشرعية والمجاهدات الدينية طرحناها وحملنا الايات والاحاديث على مدلولها الظاهري ومفهومها الاول، كما هو المعتبر عند ائمة الحديث وعلماء الاصول والفقه، لا على وجه يستلزم التشبيه والنقص والتجسيم في الحق تعالى وصفاته الالهية.. واكثر المحققين بل جميعهم قائلون بان ظواهر معاني القرآن والحديث حق وصدق، وإن كانت لها مفهومات وتأويلات أُخر غير ما هو الظاهر منها، كما وقع في كلامه (ص): (ان للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً)، ولو لم تكن الايات والاخبار محمولة على ظواهرها ومفهوماتها الاولى من دون تجسيم وتشبيه فلا فائدة في نزولها وورودها على عموم الخلق وكافة الناس، بل كان نزولها على ذلك التقدير في باب فهوم متشابهات)) 2 6.

اذن بحسب منطق السنخية او القبلية الوجودية يستلزم ان تكون عوالم الوجود متطابقة ومتشاكلة، وبالتالي كان من السهل فهم تفسير ما يتعلق بعالم الغيب الموصوف في النصوص الدينية تبعاً لهذا التشاكل والتسانخ، حيث ما من شيء محسوس في الطبيعة يذكره النص الديني - كالقرآن الكريم - الا ويكون اشعاراً لما موجود في الاخرة والعالم الالهي تبعاً لمشاكلات الوجود ومشابهاته. وهو الاسلوب الذي استخدمه الغزالي في (القسطاس المستقيم) وأقرّه صدر المتألهين بالاعتراف والتأييد 3 6، فوفّق في تطبيقه بحيث يرضي ما عليه اصحاب الفلسفة والذوق، وما عليه اصحاب السلف والحديث، مما يفضي الى ان تكون النتيجة بين مذهب الفلاسفة العرفاء وبين مذهب السلف المحدثين متقاربة الى حد كبير، رغم ما بينهما من عداء وتضاد يجعل الصلح بينهما غير ممكن.

هكذا نحن امام نظرية استطاعت ان تقضي على نظرية المثال والتمثيل. وهي نظرية نادى لها الغزالي في عدد من كتبه، وتتصف بأنها تتطابق تماماً مع القبلية الوجودية، اذ تفيد بأن هناك عوالم متشابهة بعضها يفوق البعض الاخر من حيث الكمال، وكل ما يذكره الشرع من اشياء كالنور والميزان والعين واليد والتردد والاستهزاء وغير ذلك، فان لها حقائق متطابقة ومختلفة في الكمال. لهذا فنحن نطلق على هذه الاطروحة (نظرية المشاكلة)، وذلك لأنها تستند في اليات فهمها للنص الديني تبعاً للتصورات القبلية الخاصة في المشاكلات الوجودية كما يقرها الاصل المولد او السنخية.

فمثلاً ان اطلاق النور على الحق تعالى، كما في اية النور، هو اطلاق حقيقي كما يصرح بذلك صدر المتألهين، لا بمعنى ان الحق هو هذا النور الحسي، ذلك ان النور المحسوس انما يطلق عليه هذا اللفظ لكونه ظاهراً بذاته ومظهراً لغيره، أما خصوص كونه محسوساً وانه مظهراً للمبصرات فليس له دخالة في معنى لفظ (النور) باطلاق، وذلك لكونه احد مصاديق هذا اللفظ. لذلك سبق للشهرزوري في رسالته للنفس ان اعتبر نور الشمس مثالاً حقيقياً للنور الربوبي الالهي 4 6. وبالتالي فان من مصاديق (النور) هو الحق، باعتبار انه ظاهر بذاته ومظهر لغيره من الموجودات جميعاً، وهو الامر الذي يبرر ما اطلقه الاشراقيون عليه بنور الانوار، وان المجردات العقلية التالية عنه هي انوار محضة متحدة في الحقيقة ومختلفة في الشدة والضعف والكمال والنقص، حيث تتسلسل هذه الانوار وتنتهي في شدتها الى اعلى درجة، تلك التي يطلق عليها نور الانوار، وبالتالي فهي تمثل لمعان هذا النور، كما وتنتهي من حيث الضعف والنقصان الى هذا النور المحسوس المفتقر للاجسام 5 6. اذن ان النور متفاوت في الكمال والنقص، ومتدرج في الشدة والضعف، واطلاقه على الذوات النورية على سبيل التشكيك 6 6. فهو من هذه الناحية لا يختلف عن الوجود، حيث انه هو الاخر يطلق على ذات الحق، وانه ظاهر وموجود بذاته ومظهر وموجد لغيره، كما انه متفاوت في الشدة والضعف، ويتصف بصفة التشكيك على ما يراه ذلك الحكيم. ولا شك ان استخدام النور والوجود لدى الاشراقيين يكاد يكون استخداماً واحداً من غير اختلاف، وكأن احدهما مشتق من الاخر، او ان احدهما يرادف الاخر، رغم ان الوجود له معنى كوني، وان النور له معنى الذات والماهية، او انه من جنس الطبائع للاشياء.

ومثل آخر يرد في هذا الصدد لفظة الماء، حيث جاء في قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} هود/ 7، فالماء - هنا - يعد ماء صورياً حقيقياً، ويعنى به ماء الحياة الساري في جميع الموجودات، سريان الماء او الروح في الاجسام، مثلما يمكن استظهاره في قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} الانبياء/ 0 3، فالماء هو كناية عن الحياة السارية في كل شيء من الممكنات الموجودة 7 6. وعند البعض ان هذا الماء هو ماء الوجود وسر الحق المعبود، وذلك باعتبار انه لا يمكن ان يكون الماء المحسوس الذي نشربه هو سبب كل شيء حي مع انه احد العناصر الاربعة المتكونة في عالم ما تحت القمر، فكيف يمكن ان يكون مصدر تكوّن حياة الموجودات وفيها من العوالي العقلية والنفسية والفلكية الحية؟ فلو اخذنا بهذا الفرض لكان ذلك يتناقض مع حقائق الوجود ومراتبه، وبالتالي لا بد ان يقصد منه معنى الوجود باعتباره اشمل عنصر يسعه ان يكون علة لتكوين حياة الموجودات بأسرها 8 6. ولدى العارف الاملي فان المقصود من هذا الماء هو الهوية الالهية والحقيقة الانسانية والعلوم الحقيقية التي بها حياة كل شيء وقيامه 9 6.

كذلك فانه بصدد الحديث الذي يتضمن تسليط تسعة وتسعين تنيناً على الكافر في عذاب القبر 0 7، رأى الغزالي ان هذا التنين مغروز في روح الكافر في حياته وان لم يشعر بعد بآلامه ولدغه؛ لخدر كان فيه بسبب غلبة الشهوات، فيظهر فعله عند الممات، وان هذا التنين عبارة عن مركب لصفات الكافر، وعدد رؤوسه بعدد ما يتشعب عن حب الدنيا من الكِبر والرياء والحسد والغل والحقد والمكر والخداع وغيرها.. حيث ان لها اصولاً معدودة ثم تتشعب منها فروع معدودة، فتنقسم الفروع الى اقسام لتكون بذلك العدد، فتلك الصفات باعيانها هي المهلكات، وهي باعيانها تنقلب عقارب وحيات بحسب المناسبة، وبالتالي فان كل ما يتعلق بالاخرة هو من عالم الملكوت. فمثل هذه الاخبار عند الغزالي لها ظواهر صحيحة واسرار خفية ولكنها عند ارباب البصائر واضحة، ومن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي ان ينكر ظواهرها 1 7. او كما يقول: ((لا تتوقف في الايمان به صريحاً من غير تأويل، ولا تحمله على الاستعارة او المجاز، بل كن احد رجلين إما المؤمن ايماناً بالغيب من غير تصريف وتأويل لظواهر نصوص التنزيل، او العارف الكاشف ذو العينين الصحيحين والقلب السليم في تحقيق الحقائق والمعاني، مع مراعاة جانب الظواهر وصور المباني، كما شاهده اصحاب المكاشفة ببصيرة اصح من البصر الظاهر)) 2 7.

وكما يرى صدر المتألهين، ان القرآن مشحون بذكر الامثلة للامور التي حقايقها موجودة في علم الله، وامثالها موجودة في هذا العالم تبعاً لهذه النظرية من المشاكلة، فمن السهل ان نفهم بحسبها نصوصاً مثل قوله تعالى: {يد الله فوق ايديهم} الفتح/ 0 1 3 7، وقوله {اولئك كتب في قلوبهم الايمان} المجادلة/ 2 2، ومثل قول النبي (ص): (قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن). وكما يعلق هذا الفيلسوف على الحديث المذكور بقوله: ((اوَ لا ترى ان روح الاصبع هي القدرة والقوة على التقلب، وحيث يكون قلب المؤمن بين لمة الملك ولمة الشيطان، كما ورد في الحديث: (هذا يغويه وذلك يهديه)، والله سبحانه يقلّب قلوب عباده كما تقلّب انت الاشياء باصبعيك، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين الى الله اصبعيك في روح الاصبعية، وخالف في الصورة، فاستخرج من هذا ما نقل عنه (ص) انه قال: (ان الله خلق ادم على صورته)، فمهما عرفت الاصبع امكنك الترقي الى اللوح والقلم واليد واليمين والوجه والصورة من غير نقص، ووجدت جميعها حقايق غير جسمانية، متمثلة بامثلة جسمانية، فتعلم ان روح القلم وحقيقته شيء يسطر به، فكل جوهر يسطر بواسطته نقوش العلوم الحقة في الواح القلوب، فأحرى به ان يكون هو القلم الحقيقي، اذ وجد فيه روح القلمية، ولم يعوزه شيء الا قالبه وصورته، وخصوصية المادة امر زايد في حقيقة الشيء، ولذلك لا توجد في حده الحقيقي، اذ لكل شيء حد وحقيقة، وهي روحه وملاك امره، فاذا اهتديت الى الارواح صرت روحانياً، وفتحت لك الجنان وعالم الملكوت وكنت من اهل بيت القرآن.. وفي القرآن اشارات كثيرة من هذا النمط..)) 4 7.

وينتهي هذا العارف الحكيم الى القول بأن ((الحق عند اهل الله هو حمل الايات والاحاديث على مفهوماتها الاصلية من غير صرف وتأويل، كما ذهب اليه محققوا الاسلام وائمة الحديث)) 5 7. او انه اقرّ بأن ((الاصل في منهج الراسخين في العلم هو ابقاء ظواهر الالفاظ على معانيها الاصلية من غير تصرف فيها، لكن مع تحقيق تلك المعاني وتلخيصها عن الامور الزائدة وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب غلبة احكام بعض خصوصياتها على النفس واعتيادها بحصر كل معنى على هيئة مخصوصة له، يتمثل ذلك المعنى بها للنفس في هذه النشأة، فلفظ الميزان مثلاً موضوع لما يوزن به الشيء مطلقاً. فهو امر مطلق يشمل المحسوس منه والمتخيل والمعقول، فذلك المعنى الشامل روح معناه وملاكه من ان يشترط فيه تخصيصه بهيئة مخصوصة، فكل ما يقاس به الشيء بأي خصوصية كانت، حسية او عقلية، يتحقق فيه الميزان ويصدق عليه معنى لفظه، فالمسطرة والشاقول والكونيا والاسطرلاب والذراع، وعلم النحو وعلم العروض وعلم المنطق وجوهر العقل، كلها مقاييس وموازين توزن بها الاشياء، الا ان لكل شيء ميزاناً يناسبه ويجانسه، فالمسطرة ميزان، والخطوط المستقيمة، والشاقول.. والمنطق ميزان الفكر يعرف به صحيحه عن فاسده، والعقل ميزان الكل إن كان كاملاً، فالكامل العارف مشاهدته من الامر الذي له كفتان وعمود ولسان، وهكذا حاله في كل ما يسمع ويراه، فانه ينتقل فحواه ويسافر من ظاهره وصورته الى روح معناه، من دنياه الى اخراه)) 6 7. وبالتالي فعندما نسمع قوله تعالى:{وزنوا بالقسطاس المستقيم} الشعراء/ 2 8 1؛ ندرك ان لهذا الوزن مراتب معرفية، تبدأ من الوزن المعرفي للحق تعالى ثم ملائكته فرسله وهكذا. وتبعاً للغزالي ومن بعده صدر المتألهين فان هذا الوزن المطلق عليه في النص القرآني الانف الذكر هو عبارة عن برهان معرفة الله وصفاته وافعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته، وهو يفيدنا بأن نتعلم به كيفية الوزن من الانبياء (ع) كما تعلموا هم من الملائكة، فالله هو المعلم الاول، والمعلم الثاني جبريل، وثالث المعلمين هو الرسول (ص) 7 7. وما يستفاد منه في هذه الاطروحة الجديدة هو ان الوزن المعرفي يأتي من الحق ثم يتنزل في المراتب الوجودية واحدة بعد الاخرى. لذلك فان هذه الموازين مذكورة على لسان الحق في قرآنه المجيد، وقد استخلصها الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم) واحصاها بخمسة موازين تمثل خمسة اشكال للقياس 8 7، ثم اتبعه في ذلك صدر المتألهين في عدد من كتبه 9 7.

واذا كان الميزان اخذ هذه السعة من المعنى حسب ما تمدنا به نظرية المشاكلة، فان التقدير الذي يقدره الميزان للوجودات الممكنة كي يتخذ كل منها القدر الوجودي المعلوم، هو ذلك الذي يسمى في الفكر الديني بمسألة القضاء والقدر. وبعبارة اخرى ان ما يُعرف لدى القبلية الوجودية بسلسلة النزول بحسب منطق السنخية والمشاكلات، هو ذاته الذي يطلق عليه القضاء والقدر مثلما جاء في قوله تعالى: {وما ننزله الا بقدر معلوم}، حيث ان الاية بصدد العنوان المشار اليه كما يفيدنا بذلك صدر المتألهين، فالقضاء بحسب هذا التنزيل هو عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي؛ مجتمعة بعد وجودها المجمل في العناية الالهية ومحلها القلم. اما القدر فهو عبارة عن وجودها في كتاب المحو والاثبات وفي المواد الخارجية الجارية بسواد مواد الهيولى الظلماني. وقد اعتبر صدر المتألهين ان ما جاء في التنزيل {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو} الانعام/ 9 5؛ هو اشارة الى وجود جميع الموجودات على النحو البسيط في العناية الالهية، وان ما جاء في قوله: {وان من شي الا عندنا خزائنه} الحجر/ 1 2، اشارة الى وجودها في الخزائن العقلية على سبيل الانحفاظ دائماً، وقوله {وما ننزله الا بقدر معلوم} الحجر/ 1 2، هو اشارة الى المرتبتين الاخيرتين القدريتين ((فالمتنزل هو القدر الخارجي، لكونه اخر التنزلات، والمقتدر المعلوم هو القدر العلمي، وهو سبب للقدر الخارجي، كما دلت عليه باء السببية. فالجواهر العقلية وما معها موجودة في القضاء والقدر مرة واحدة باعتبارين، والجواهر الجسمانية وما معها موجودة فيها مرتين)) 0 8. مما يعني ان ما ورد من مفاهيم علوية الهية كالنور والقلم واللوح والكرسي والعرش وغيرها، كلها تتنزل بقدر معلوم تبعاً للميزان الذي عليه ترتسم صورة ما نطلق عليه القضاء والقدر.

وبحسب صدر المتألهين فان معظم آيات القرآن هي أمثال تذكر للناس لتشير الى ما تتضمنه نظرية المشاكلة من اعتبارات ما للوصف الظاهر في النص من مراتب متعددة ومتكاملة في الوجود، كالذي مر علينا نماذج من ذلك مثل الميزان والقلم والاصبع وغيرها 1 8. وبالتأكيد ان هذا العارف يعتبر ايات الامثال تنبه وتشير الى هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} الحشر/ 1 2، وقوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} الزمر/ 7 2.

مع ما يلاحظ ان ايات ضرب الامثال قد وظفت للدلالة على كلا النظريتين: التمثيل والمشاكلة. اذ وظفتها الاولى لتدل بها على ضرورة الاخذ بالباطن وترك الظاهر كلية، وذلك باعتبار هذا الاخير لا يمثل عندها سوى الرمز الذي يوحي الى الحقيقة المرموز اليها، او المثال الذي يخفي حقيقة ما بباطنه. فالظاهر اذن عبارة عن همزة وصل تربط المثال بممثوله والرمز بمرموزه. أما نظرية المشاكلة فقد وظفت هذه الايات من حيث التعويل على ظاهر النص واقراره، لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ما لدى هذا الظاهر من لفظ له معان متعددة ومتشاكلة يصح من خلالها اقرار الحقائق العليا من غير تأويل. فيكون الظاهر هو اللفظ المشترك العام الذي يحمل نظائر المعنى وامثالها على ما فيها من تفاوت في القوة والكمال. أما الحقيقة المرادة من هذا الظاهر فهي تلك الامثال الباطنة التي تنتزع من ذلك الظاهر العام. فسواء استخدمت الامثال بحسب ما يبدو عليها من معنى حسي، او معنى اخر صوري مجرد عن الحس الطبيعي، فان كل ذلك يعد من النظائر والامثال التي تتفاوت فيما بينها بحسب المشاكلة، لذلك فان اخذ المعنى الظاهر بحسب ما عليه الحقيقة الباطنة من المعاني الصورية المجردة لا يعد من التأويل بشيء. وعلى حد قول صدر المتألهين فان حقيقة التمثيل الذي جاءت به نصوص القرآن ليس الغرض منه مجرد التأثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الامر وملاكه وروحه، ففي قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} البقرة/ 7 1، ان الالفاظ المذكورة في الاية كالنار والاستيقاد والاضاءة والنور والظلمات وغيرها كلها محمولة على الحقيقة ومشهودة بنظر البصيرة، فهي حقيقة احوالهم الباطنة، أما تلك التي هم عليها من الاحوال والافعال الظاهرة فهي مثال لتلك الاحوال الباطنة، وذلك تبعاً للمشاكلة والمسانخة، حيث ان ما في الدنيا هي امثلة لما في الاخرة، وحيث ان المماثلة لما كانت من الجانبين، فانه يجوز استعمالها في كل من الطرفين، فالمثَل في اصل الكلام هو بمعنى المثْل، وهو النظير 2 8.

والجدير بالذكر هو ان نظرية المشاكلة يمكنها ان ترضي الفيلسوف مثلما يمكنها ان ترضي العارف، وان لها قرباً من النزعة الافلوطينية، وتستمد مبرراتها الوجودية من منطق السنخية. ذلك انه بحسب هذا المولد المعرفي يتحتم ان تكون العوالم الوجودية متشابهة ومتشاكلة؛ وذلك بحمل الاشرف منها جميع المعاني الموجودة في الاخس على وجه الطف واكمل. فكل ما في العالم السفلي انما يتبع العالم العلوي على صورة المثال والظل بحسب ما يسانخه او يشاكله ويواطئه.

وبعبارة اخرى انه ما من شيء نراه ونتحسس به في عالمنا الكوني الا وله وجود اخر اليق في العالم العلوي، ومن ثم في الذات الالهية، حيث لا تخلو هذه الذات - كما يذكر صدر المتألهين - من ارض ولا سماء ولا بر ولا بحر ولا عرش ولا فرش، اذ ما من شيء في العالم الا وله في الله اصله، وما من شيء يظهر الا وله في الحضرة الالهية صورة تشاكله؛ بدونها لا يظهر اي شيء اطلاقاً، فحقيقة المعلول تنبعث من ذات العلة، فيكون كل ما في الكون عبارة عن ظل لما في العالم العقلي، وكل صورة معقولة هي على مثال ما في الحضرة الالهية 3 8. كذلك كل شيء يخلقه الله تعالى انما له نظير في الاخرة، وله نظير ايضاً في عالم الاسماء والصفات 4 8. وقد عرفنا ما لهذه الفكرة من اثر على اعتبار الوجود جسماني الهيئة، بما في ذلك الذات الالهية حيث لا تخرج عن كونها جسماً ليست كالاجسام، حيث تفوقها درجة وكمالاً. وبالتالي فكل ما يذكره النص من الامور الشهودية والغيبية، كالشمس والقمر والليل والنهار، والعرش والكرسي واللوح، والجنة وما فيها من حور وقصور وانهار واشجار، وكذا النار وما فيها من مهل وحميم وزقوم وتصلية جحيم، فانها جميعاً غير قابلة للتأويل، بل تؤخذ على حقائقها ومعانيها، ذلك لان الله ما خلق شيئاً في عالم الصورة الا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى او الاخرة الا وله حقيقة في عالم الحق، وما خلق شيئاً في العالمين الا وله مثال وانموذج في عالم الانسان 5 8.

***

وسواء اخذنا بنظرية التمثيل او بنظرية المشاكلة، فلا فرق في انهما منبعثان معاً عن نفس الشائبة التقليدية من منطق التوليد الوجودي. فبالرغم من الاختلاف البيّن بينهما، وافتراق احداهما عن الاخرى في المسلك والاتجاه، الا ان من الممكن ادراك الجامع المشترك الذي يجمعهما، ذلك انهما يشتركان معاً في نفس المرجعية التي تستندان اليها في الفهم والتفسير والتوليد، وهي مرجعية منطق التوليد الوجودي المتمثل بالسنخية.

وكمقارنة بين النظريتين، نلاحظ ان نظرية التمثيل تعد العينة الدينية ظلاً للرؤية الفلسفية وحكاية لها، وذلك من حيث ان الاولى تعبر عن هذه الاخيرة بالمثالات والرموز المجازية. اما نظرية المشاكلة فهي وان كانت تقر مثل هذه السنخية الا انها تأخذ الامور على حقيقتها من دون مجاز، اذ تعد العينة الدينية والوجود الخارجي العيني كلاهما من سنخ الوجود العقلي تبعاً للقبلية الوجودية، وبذلك تصبح الحقيقة الدينية مفضية الى نفس الدلالة التي تكنها الحكمة العقلية بلا تعارض ولا تضاد. وبالتالي فان هناك ثلاثة كتب بعضها من سنخ البعض الاخر، فهناك كتاب تدويني وآخر تكويني وثالث عقلي. واستناداً لهذه الكتب المعتبرة يمكن ان نميز بين الاتجاهين الانفي الذكر. فنظرية التمثيل لا تختلف عن نظرية المشاكلة في جعل الكتاب التكويني على سنخ الكتاب العقلي، لكنها بالنسبة الى الكتاب التدويني فرغم انها تعده محاكياً للكتاب العقلي في الشبه والظلية، الا انها لا تقر له بحمل الحقائق، وانما تعده مصدر التشبيهات والرموز المجازية الدالة على حقائق غيرها. في حين ان نظرية المشاكلة تجعل من تلك الكتب حقائق بعضها مستنسخ من البعض الاخر. وعليه فبحسب هذه النظرية يزول الحاجز الذي وضعه الاتجاه الاول امام مفرزات الموضوعة الدينية، اذ اصبح كل من العينتين الدينية والوجودية ذا دلالة على واقع الامر كما هو. وعليه فان كل ما تقوله العينة الدينية يعد عين الحقيقة من غير منافات مع الحقائق الاخرى التي تشاكلها وتتطابق معها تبعاً لمنطق السنخية.

فمثلاً ان الفلاسفة كانوا مضطرين لتأويل الصفات الالهية التشبيهية كصفتي السمع والبصر، مثلما جاء في قوله تعالى: {إن الله سميع بصير} الحج/ 1 6، حيث عدوا ذلك مما يعود الى العلم الصوري تبعاً لنظرية التمثيل. فابن سينا مثلاً فسّر سمعه وبصره بانه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات، وكونه خبيراً هو انه عالم ببواطن الاشياء، وكونه شهيداً هو انه عالم بظواهر الاشياء، وكونه محصياً هو انه عالم بالمعدودات، وكونه لطيفاً هو انه عالم بدقائق الاشياء، وفي جميع الاحوال يظل علمه واحداً لا يتعدد وإن اختلفت اسماؤه 6 8. وقد رأى ابن رشد ان علة تأويل الفلاسفة للسمع والبصر الى العلم؛ هو كي لا يلزم عن وصفه بهما ان يكون ذا نفس، واعتبر ان الله وصف نفسه بهما تنبيهاً على انه تعالى لا يفوته نوع من انواع العلوم والمعارف 7 8. في حين انه بحسب نظرية المشاكلة فان تلك الصفات تؤخذ على معانيها الحقيقية، ومن ذلك ان صدر المتألهين خالف من سبقه من الفلاسفة المشائين ومن على شاكلتهم، كالفارابيين والطوسي وابن رشد وغيرهم، اذ اعتبر ان لله سمعاً وبصراً هما غير العلم، حيث انهما عبارة عن شهود المسموعات والمبصرات، فهذا الشهود هو السمع والبصر. ولا شك ان هذا الرأي يتوسط بين اولئك الذين اولوا صفتي السمع والبصر الى العلم كالذي عليه المشاؤون، وبين اولئك الذين عكسوا القضية فأولوا العلم الى البصر كما هو الحال مع السهروردي، ذلك ان صدر المتألهين يثبت الامرين معاً 8 8، الامر الذي يتفق مع نظرية المشاكلة.

وعليه انه اذا كان من مقتضيات نظرية التمثيل رفض ظاهر النص والاخذ بالباطن من خلال التأويل؛ فان الامر مع نظرية المشاكلة يختلف، حيث لا يوجد فصل بين الظاهر والباطن، فالمثال عندها عين الممثول ظاهراً وباطناً. في حين انه بحسب النظرية الاولى فان المثال غير الممثول ظاهراً وباطناً على حد سواء.

كذلك انه اذا كانت نظرية التمثيل تعد العينة الدينية اقناعية خطابية جاءت لتراعي مدارك الجمهور واذهان الناس الضعيفة، فان الامر مع نظرية المشاكلة يختلف، حيث لا يوجد مجاز ولا خداع ولا تضليل كالذي تفضي اليه النظرية الاولى، خاصة انها بحسب رؤية صدر المتألهين تبعث على تضليل الاتقياء والصالحين وترميهم في عذاب الجحيم كالذي سبق ان مرّ معنا. الامر الذي يلزم عندها ان يكون ظاهر النص وباطنه يعبران عن حقيقة واحدة، لكن هذه الحقيقة كما يمكن ان تكون حسية طبيعية فانها تكون الهية او عقلية او مثالية غير طبيعية. واذا كان اصحاب نظرية التمثيل لا يفهمون من المعنى الظاهر غير تلك الدلالة الحسية الطبيعية، فان غيرهم من اصحاب نظرية المشاكلة يعدون هذا المعنى ينطبق ايضاً على ما هو اعمق من تلك الدلالة، اي ان هناك دلالة عقلية ومثالية والهية هي اعمق من الدلالة الحسية، وان كانت جميع الدلالات تعبر عن ظاهر النص بمعناه العام غير القابل للتحديد من حيث الاصل، اي ان الظاهر لا يكشف الا عن تلك التي تعبر عن روح المعنى المشترك، وهو المعنى المجمل الذي لا يتحدد بأي من تلك الدلالات. وبالتالي كان لزاماً على نظرية التمثيل ان تقوم بتأويل الظاهر باعتبارها تتوقف عند دلالته الحسية دون ان تذهب بعيداً في اصل الدلالة التي يبديها الظاهر والتي هي غير مقيدة بحس وعقل وخيال او مثال، وانما كل منها يمكن ان يعبر عن هذا الظاهر. أما تعيين حقيقة امر هذا الظاهر فذلك يعتمد على الباطن. فالباطن يعين الظاهر دون ان يلغيه، وان الفارق بينهما، بحسب نظرية المشاكلة، هو ان الظاهر رغم كونه يمثل المعنى الحقيقي للممثول، الا انه لا يعبر عنه تعبيره التام غير المنقوص، او انه لا يكشف عن هويته الوجودية، بل يظل محتفظاً بروح ماهيته العامة او الاصلية، ويبقى ان تعيين طبيعة هذا الظاهر والكشف عن هويته الوجودية انما يتم بحسب ما عليه الباطن، وبالتالي كان الظاهر قنطرة للعبور الى الباطن، وكان الباطن هو الذي يعطي الحقيقة بتمامها وتفصيلها، او انه هو الذي يحدد مكانة الحقيقة من حيث الوجود، مثلما ان الظاهر يحددها بحسب الماهية. او يمكن القول ان الظاهر يحدد الحقيقة كما هي بصرف النظر عن طبيعة وجودها الخارجي، فهو بالتالي كاشف عن الحقيقة بما هي معرفية، وان الباطن يتولى الكشف عن الحقيقة بما تعبر عن وجودها الخارجي. فالحقيقة في الظاهر هي حقيقة معرفية، وهي في الباطن حقيقة وجودية انطولوجية، وان كلا الحقيقتين متطابقتان تطابق الماهية والوجود، وان الاختلاف بينهما هو اختلاف التعيين كاختلاف التصور والتصديق بحسب التقسيم المنطقي، اذ حقيقة الظاهر لا تعين ما عليه الوجود الخارجي للحقيقة، وان الباطن هو الذي يعمل على تعيين هذه الحقيقة، وان العلاقة بين الظاهر والباطن تظل خاضعة تحت فعل ما يُعرف لدى العرفاء بمبدأ الاعتبار، او العبور من الظاهر الى الباطن لوجود المناسبة المشتركة بينهما، وذلك كالذي تفرضه القبلية الوجودية بحسب منطق السنخية.

ايضاً انه اذا كانت نظرية التمثيل مضطرة الى نفي صفات اليقين والبرهان والحقيقة عن العينة الدينية، طالما تعدها اقناعية غرضها مخاطبة العوام، فان نظرية المشاكلة ليست مضطرة الى هذا النفي، بل على العكس انها تجد التطابق بين مفرزات العينتين الوجودية والدينية من دون اختلاف، وهو الامر الذي اكد عليه صدر المتألهين بقوله: ((حاشا الشريعة الحقة الالهية البيضاء ان تكون احكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، وتباً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة)) 9 8. فهما بنظر فيلسوفنا عبارة عن حقيقتين متحابتين ومتراضيتين من دون تخاصم، حيث يعبران عن حقيقة واحدة. وهذه هي وجهة النظر التي جاءت على شاكلة ما سبق اليه ابن رشد في قوله بأخوة الشريعة للحكمة وصحبتهما وفق الحب بالطبع والغريزة. حيث ان كلاً منهما كان ينزع نحو التقرب من الحقيقتين الوجودية والدينية، وإن افضى هذا الامر الى التلفيق في الكثير من الاحيان.

2ـ المبنى العرفاني

يمكن اعتبار ابن عربي ابرز من يمثل نظرية المعاينة وسط العرفاء. والتعرف على طريقته يعود بنا الى التذكير في طبيعة الاختلاف الذي ساد بين الفلاسفة والعرفاء حول فهم التنزل الحاصل في الوجود. حيث عرفنا ان الطريقة الفلسفية تعتمد في تصوير علاقة المبدأ الحق بغيره عبر الوسائط من الرتب الوجودية، وذلك مثل تنزلات نور الشمس وضعفه شيئاً فشيئاً عندما يصطدم بعدد من الحواجز كالقمر والمرآة والجدار وغير ذلك، فرغم ان حقيقة النور واحدة الا ان لها مراتب مختلفة من الشدة والضعف، وكذا هو الحال في علاقة المبدأ الاول بغيره من الموجودات، حيث الحقيقة المشتركة بين الجميع واحدة الا انها تختلف من مرتبة لاخرى. الامر الذي اتبعته نظرية المشاكلة في التأكيد على مثل هذا الاشتراك في الحقيقة الواحدة، فرأت ان ما ينطق به النص من الفاظ له حقيقة واحدة ذات دلالات متعددة ومتفاوتة، وذلك على غرار ما في الوجود من المراتب المتعددة رغم وحدة الحقيقة فيما بينها. فوحدة الدلالة لظاهر النص مستمدة من وحدة الحقيقة الوجودية، وتعدد مراتب الدلالة وكيفياتها مستمد من تعدد مراتب الوجود وكيفياته، وبالتالي فان ظاهر النص والفاظه قد جاءت على شاكلة ما عليه الوجود الخارجي، مما يتسق ومنطق السنخية.

أما الطريقة العرفانية فأمر يختلف، ذلك انها تعد العلاقة بين المبدأ الحق وتنزلاته الوجودية ليست علاقة غيرية كالذي عليه الطريقة الفلسفية، رغم تقارب النظريتين، وذلك انها لا تعد في الوجود غير الحق موجوداً، وان علاقته بما يطلق عليه بالغير هي نسب اعتبارية، وتقيدات تعينية تفرضها قوابل الاعيان الثابتة او الماهيات التي هي من حيث ذاتها ليست موجودة ولا شمت رائحة الوجود. فالحقيقة هنا واحدة، أما التعدد فهو يأتي بحسب التعينات واختلاف القوابل او الماهيات، مثلما يتضح في علاقة النور الملقى على زجاجات مختلفة الالوان، حيث لولا النور ما ظهر منها شيء، وان اختلاف الوانها هو بحسب ما هي عليه من طبائع مختلفة، لكنها تظل معدومة لا تظهر الا بالنور. وكذا تظهر الاشياء بالحق وهو يختفي فيها، مع ان حقيقة الموجود هو ذاته لا غير، فكان الظاهر عبارة عن الخلق، والباطن هو الحق. او مثلما يتضح في علاقة الفحم المجاور للنار، حيث يكتسب صفاتها عند المجاورة، وكذا هو الحال في تنور الخلق بنور الحق وحمل صفاته، وبالتالي فما من شيء يظهر الا وهو يحمل صفات الحق، فيكون بهذا الاعتبار حقاً متعيناً ومقيداً بقيده الخاص، فالحق هو الظاهر في الاعيان، وهو ذاته الذي اخفاها. او مثلما يتضح الحال في ظهور الصورة الواحدة في المرايا المتعددة المختلفة، حيث الصورة واحدة مع انها تظهر بمظاهر مختلفة تبعاً لاختلاف المرايا، وكذا ان الوجود واحد لكنه يتعين بتعينات مختلفة تبعاً للقابليات.

وسواء ان الطريقة العرفانية تتبع النسق الذي يبرزه مثال النور والزجاجات الملونة، او مثال الفحم المجاور للنار، او مثال الصورة في المرايا المختلفة، فالامر لا يختلف من حيث ان للحق مظاهر وتعينات كلها تدل على ما له من حقيقة وجودية لها علاقة بتلك الاعيان التي لسان حالها طلب الظهور بحسب ما عليه قابلياتها واستعداداتها من غير زيادة ولا نقصان. وقد انعكس هذا التصور على فهم النص وطبيعة التعامل مع الظاهر تبعاً لما اطلقنا عليه المعاينة. ذلك ان الفاظ النص تصبح حاكية لكل ما تصفه من الوجود وتعيناته ومراتبه وشؤونه الذاتية واسمائه وصفاته، سواء كانت حسية او غير حسية، وسواء كانت تشبيهية او تنزيهية، حيث الوجود يسع الكل، فهو المطلق الذي يتعين بالتعينات بلا حصر ولا حدود، وهو المشهود في كل مشهود، كما انه الغيب بحسب الذات المقدسة واسمائها ولوازمها من الاعيان الثابتة. فهذا هو الوجود، وذلك هو النص الذي يصور ما عليه الوجود في كافة مراتبه وتعيناته تصويراً عينياً ومطابقاً من غير تحريف.

هكذا فانه اذا كان الفلاسفة يعولون في التنزل على المراتب الوجودية باعتبارها تشاكلات فيما بينها دون ان تمثل عين الحق، وعليها تأسست نظرية المشاكلة في التفسير والفهم، فان العرفاء اعتبروا ان هذه التنزلات انما تمثل الحق تبعاً لوحدة الوجود الشخصية التي تظهر بالوان واشكال مختلفة بحسب ما عليه الاعيان الثابتة من جهة، وبحسب ما عليه الحق الظاهر فيها، وذلك باعتباره يمثل عين الظهور الذي تظهر به. فالمعاينة هي العين الظاهر في الوجود للحق، كما انها عين الاشياء من حيث ماهياتها واعيانها الثابتة، فليس في الوجود غير هذه العين الواحدة التي تطوي في جنبها تلك الاعيان.

ومع اننا لا نجد تنظيراً لهذه النظرية وسط العرفاء، وذلك بخلاف ما لاحظناه في نظرية المشاكلة التي نظّر اليها الغزالي ومن بعده صدر المتألهين، لكنا مع ذلك نصادف الكثير من الشواهد التطبيقية الدالة عليها، خصوصاً لدى ابن عربي. مع اخذ اعتبار انه سواء بخصوص الغزالي وصدر المتألهين، او ابن عربي وسائر العرفاء، فان كلاً من الجماعتين لم يلتزم بحدود الانضباط الذي عليه هاتان النظريتان، حيث ظهرت لديهما افاق اخرى من التفاسير المتعددة التي يغلب عليها انعدام الضابط، كما سيأتينا بحثها فيما بعد. كذلك يلاحظ ان صدر المتألهين كان يلجأ احياناً الى الطريقة التي عليها ابن عربي في نظرية المعاينة، فهو كلجوء الفلاسفة احياناً وانزلاقهم نحو النظرية العرفانية في وحدة الوجود.

اذن ان نظرية المعاينة ترى ان للنص مرجعيته المعرفية المؤكدة، وان كل ما يظهر على الالفاظ في تصوير الوجود هو حق مطابق لا اختلاف فيه. فالنص عندما يضفي على الصفات الالهية صفات حسية فانما يعني هذا الجانب الحسي لا غير، وكذا عندما يبدي نفيه لهذا الامر انما يعني هذا النفي، بل وعندما يبدي الجمع بين المتضادين فانه يعني التضاد، وهو بالتالي يحكي ما هو الوجود ويصوره على ما هو عليه من غير زيادة ولا نقصان. وهذه هي المطابقة بين الالفاظ والوجود، كما هذه هي المحاكاة العينية بينهما. فالنص بحسب هذه النظرية يتحدث عن المعنى الخاص الذي يصور فيه ما عليه الوجود إن كان حسياً او غير حسي. وبعبارة اخرى ان نظرية المعاينة ترى ان اللفظ بدلالته الحرفية الخاصة يعبر تعبيراً عينياً ومطابقاً للوجود الموضوعي.

وهناك الكثير من الشواهد التي توضح هذه الطريقة من الفهم بحسب الجمع بين الظاهر وما عليه القبلية الوجودية، خصوصاً فيما يتعلق بالاشارات التي لها علاقة بوحدة الوجود والاعيان الثابتة، ومن ذلك ما قام به ابن عربي في (الفتوحات المكية) من تفسير قوله تعالى: {يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله} فاطر/ 5 1، اذ اعتبر ان الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها. فهم اذن يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء 0 9. او يمكن القول طالما ان الناس يفتقرون الى صور الاسباب ومنها الاسباب الطبيعية، وكذا طالما ان النص القرآني صريح بأن الناس يفتقرون الى الله، فعليه تكون النتيجة ان الناس في كل ما يفتقرون اليه هو مسمى الله.

كذلك اعتبر ابن عربي في (فصوص الحكم) ان معنى قوله تعالى: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} الانفال/ 7 1؛ له دلالة على ان الله رمى بصورة محمدية. فهذه الصورة هي عين الله في احدى تجلياته 1 9. وهذا الاستظهار يثبت الرمية لله وللنبي كما هو ظاهر في النص، لكن حيث ان صاحب الرمية بالحس هو النبي لا غير، لذا فأمامنا ثلاثة فروض، وهي ان الرمية إما تكون معلقة بكليهما على سبيل التفكيك والاستقلالية؛ كإن يكون الرامي من حيث الحس هو النبي ومن حيث الغيب غيره او الله، او انها تكون عائدة الى واحد منهما مع ابطال الاخر، اي إما ان الحس صادق فتعود الرمية الى النبي فحسب، او انه كاذب فتعود الى الله فقط. أما الفرض الاخير فهو ان الرمية تتعلق بهما على سبيل التوحيد من غير تفكيك واستقلالية، وهو الفرض الذي تقره القبلية العرفانية، فتكون النتيجة من حيث الباطن هو ان الله رمى بصورة محمد كأحد التجليات الالهية، وذلك استناداً الى وحدة الوجود.

على انه لا يختلف الامر مع نصوص قرآنية اخرى تربط بين علاقة الشيء بالنبي وعلاقته بالله، ومن ذلك قوله تعالى: {ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله} الفتح/ 0 1، وقوله: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} النساء/ 0 8، حيث المآل واحد وهو ان الله متعين بحسب الصورة المحمدية. بل كان من الميسور ان يُستظهر المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: ((من رآني فقد رأى الحق))، فبحسب هذا النمط من الاستظهار تكون رؤية النبي هي عين رؤية الله، ومن حيث ان هذا الاخير متعين بالصورة المحمدية مثلما انه متعين بغيرها من الصور، فهو عين النبي، لذلك فمن رآه فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، وذلك تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو كون النبي (ص) عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، ولذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته. ونفس الشيء يمكن قوله بخصوص ما ذكرنا من النصوص القرآنية 2 9.

ويصل ابن عربي في (الفتوحات المكية) الى نفس هذه النتيجة، وذلك من خلال ما يستعرضه من قضية البدل. ففي الصنعة العربية هناك ما يطلق عليه بدل الاشتمال مثل ان تقول: اعجبني الجارية حسنها، واعجبني زيد علمه، حيث ان الحسن بدل من الجارية، والعلم بدل من زيد. كما ان هناك بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، مثل ان تقول: رأيت اخاك زيداً، فزيد اخوك واخوك زيد. ومنه يفهم بدل الشيء من الشيء، وقد يكون هذا البدل بصورة التبعيض، كما في تلك الاية المشار اليها، اي بدل البعض من الكل، مثلما يقال: أكلتُ الرغيف ثلثيه. والمعنى واضح من حيث ان الحق لا يتجلى في تلك الصورة المحمدية في رميها فحسب، بل له الاطلاق. وعلى هذه الشاكلة يفهم معنى قوله تعالى: {تجري بأعيننا} القمر/ 4 1، حيث ان مدير السفينة يحفظها، والمقدم يحفظها، وكذا كل من له تدبير في السفينة يحفظها، فهي بالتالي تجري باعين الحق وما ثم الا هؤلاء الذين يقومون بحفظ السفينة، فالحق مجموع الخلق في الحفظ. ومثل ذلك ما جاء في الحديث النبوي: ((.. كنت سمعه وبصره..)) 3 9، حيث ان الكل من عند الله {قل كل من عند الله} النساء/ 8 7 4 9. ومثله ما جاء في الحديث القدسي: جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني)) 5 9. وهذا الاستظهار يمكن التعبير عنه بصورة من صور الاستدلال المنطقي المعتمد على الحس، وهو ان ظاهر النص القرآني مأخوذ به، حيث تجري السفينة بأعين الله، لكن تفسير ذلك يعتمد على القبلية الوجودية من خلال الاستعانة بالحس، حيث ان هذا الاخير يطلعنا على ان السفينة تجري وفق قبطانها ومن على شاكلتهم من الاسباب التي تهيء لها السير، وحيث ان الحس لا يمدنا بأكثر من ذلك، لهذا فمن حيث الباطن ان هؤلاء هم المقصودون بأعين الله، حيث انهم يشكلون بعضاً من تجليات الحق في الوجود.

ومن ذلك استظهار قوله تعالى: {كل شيء هالك الا وجهه} القصص/ 8 8، حيث لا وجود لغيره ازلاً وابداً، مثلما قيل: ((الباقي باقٍ في الازل والفاني فانٍ لم يزل)) 6 9. وقريب من ذلك قوله تعالى: {كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام} الرحمن/ 6 2، حيث وجه الشيء هو حقيقته وذاته.

***

اذن ان نظرية المعاينة باستطاعتها ان تعول على ظاهر النص الذي يتحدث عن اعيان الوجود باشكاله وعلاقاته المختلفة دون حاجة للتأويل، وان تفسيرها لهذا الظاهر يقوم على الباطن المتمثل بالقبلية الوجودية. فهي تتقبل الظاهر قبولاً تاماً، وتعترف ان ما تريده من تفسير يتطابق مع دلالة الظاهر من غير مخالفة. لكن التفسير لدى المعاينة هو غير التفسير لدى المشاكلة، فهذه الاخيرة تعتبر الظاهر الحرفي هو روح المعنى العام المشترك، حيث به تفسّر النص بعيداً عن الفهم الحسي حينما يتعلق الامر بالعالم الغيبي والالهي، في حين ان الامر مع المعاينة لا يحتاج الى مثل هذا التحويل، وذلك لانه يمكن التعويل على الفهم الحسي حتى عندما يتضمن النص ذكر صفات الحق وعلاقاته بخلقه. فالفهم لدى المشاكلة يقوم على الظاهر العام غير المتعين، بينما الفهم لدى المعاينة قائم على الظاهر المنزل تنزيلاً بحسب ما عليه التعينات ومنها التعين الحسي. او يمكن القول ان الفهم لدى كل منهما لابد ان يختلف عن الاخر بحكم ما تحدده القبلية لكل منهما، فاذا كان الظاهر عندهما يدور حول المعنى الحقيقي للنص، سواء كان عاماً كما لدى المشاكلة او مشخصاً كما لدى المعاينة، فان الباطن المتمثل بهذه القبلية مختلف، فالباطن لدى نظرية المشاكلة يعبر عن قبلية علاقة المشاكلات بين المراتب الوجودية، بينما هو لدى المعاينة يعبر عن قبلية وحدة الوجود الشخصية والعلاقة بين الحق والاعيان الثابتة في الغالب. وانه اذا كانت نظرية المشاكلة منتزعة عن مشاكلات الوجود من جهة، وعن مشاكلات اللفظ الحرفي الظاهر من جهة اخرى، وبالتالي حقّ علينا ان نطلق عليها هذه التسمية، فانه قبال ذلك نجد نظرية المعاينة تستند غالباً على العينية الوجودية التي تفرزها نظرية وحدة الوجود الشخصية، سواء كانت هذه العينية تتمثل بعينية الحق في كل شيء، او كانت عبارة عن عينية الاعيان الثابتة، كما وتستند الى حرفية اللفظ الذي له علاقة عينية مطابقة لما عليه الوجود، ومنه الوجود الحسي، الامر الذي دعانا الى ان نطلق عليها تلك التسمية.

ولايضاح الاختلاف في فهم طريقة التفسير بين النظريتين نعود الى فكرة الصفات الالهية المذكورة في عدد من النصوص القرآنية والنبوية، والتي هي موضع اتفاقهما من حيث انها دالة على الجمع بين هيئتي التنزيه والتشبيه، ويمكن تلخيصها بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى/ 1 1.. ذلك انه اذا كان التنزيه بين النظريتين متفقاً عليه، كالذي يبدو من المقطع الاول للاية، الا ان المقصود من التشبيه لديهما يختلف، فبحسب نظرية المشاكلة فان المقصود من التشبيه هو ان لله صفاته التشبيهية المذكورة لكنها مجردة بحسب تشاكلات الوجود ومراتبه، فيد الله وعينه هي ليست كهذه الايدي والاعين الطبيعية، لكنها في الوقت ذاته غير منفية عنه، وانما لها من المرتبة الوجودية ما يجعلها ذات مكانة مقدسة علوية عنها تنزلت مراتب الايدي والاعين ومنها تلك التي نشهدها في الحس. وكذا يمكن القول ذاته في سائر الصفات الاخرى ومنها السمع والبصر والمجيء والهرولة والضحك والتعجب وغير ذلك من الصفات المنصوص عليها في القرآن والحديث. وهذا ما ذهب اليه صدر المتألهين، حيث جمع بين التنزيه والتشبيه ليوافق من سبقه من الاشراقيين وبعض العرفاء كالغزالي 7 9.

أما المقصود من التشبيه لدى ابن عربي واتباعه فذلك يجعلنا نستعيد بعض ما سبق ذكره حول محور نظرية ابن عربي في وحدة الوجود الشخصية من خلال مرآتي الحق والخلق. حيث هناك ثلاثة محاور لهذه العلاقة هي الحق والاعيان الثابتة والخلق، وبين هذه المحاور الثلاثة مسانخات بعضها يتضمن البعض الاخر، او ان بعضها يكون مرآة للبعض الاخر، حيث الاعيان الثابتة ما هي الا صور الحق، وهي من هذه الناحية عبارة عن ذات الحق من غير اختلاف، كما ان الخلق عبارة عن الاعيان عند ظهورها وتجليها، فالخلق مُشاكل لما عليه الاعيان، كما ان الخلق لا يظهر الا من حيث تجلي الحق، فالخلق اذن يعبر عن صور تفاصيل الحق المتمثلة بالاعيان، لذلك فبالتجلي يكون الخلق حقاً، وكذا فان الحق خلق، وذلك مثلما هو الحال في العلاقة بين الحق والاعيان، حيث الحق هو الاعيان والاعيان هي الحق. وبحسب هذه التقابلات فان الحق عند التجلي قد اختفى في الخلق واظهره، وذلك كالمرآة التي تظهر الصورة وتختفي بسببها، مع ان كل ما يظهر من صور الخلق فانما هو الحق في تعيناته وشؤونه كالذي تشير اليه الاية {كل يوم هو في شأن} الرحمن/ 9 2. او كما يقول ابن عربي انه اذا كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، حيث انه اذا كان متجلياً في مرايا الاعيان لا يكون الظاهر الا هو، والاعيان باقية في الغيب على حالها من العدم الخارجي، وبذلك يكون الخلق جميع اسماء الحق كالسمع والبصر وجميع نسبه وادراكاته. أما إن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، كالصورة الظاهرة التي تستر المرآة، وبذلك فان الحق يكون سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه 8 9. وله في ذلك بيت من الشعر يقول فيه:

فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقاً بذاك الوجه فادّكروا

مما يعني ان الحق خلق حيث يظهر في المظاهر الخلقية ويختفي بها، مع ان المشهود غيباً وشهادة هو الحق الصرف لا غير، فالحق المنزه بهذا الاعتبار هو الخلق المشبّه، أما كونه ليس خلقاً فهو انه منزه عن الصفات الخلقية ومختف بحجاب عزته باق في غيبته لا يُشهد ولا يُرى، حيث كل ما يُشهد ويُرى انما هو خلق 9 9. أما اعتبار الحق مشبهاً بالخلق فهو لأن اطلاق الصفات يصح عليهما معاًً، فكما يصح ان يقال عن الخلق او العبد انه يسمع ويرى، فكذا يصح ان يقال عن الحق نفس القول، وهذا هو معنى التشبيه الذي جاء حول اية {وهو السميع البصير}.

فكل صفات المحدثات والخلق حق للحق، مثلما ان كل صفات الحق حق ثابت للخلق، اذ الخلق يظهر بصفات الحق من اولها الى اخرها، خاصة الانسان الكامل او الحقيقة المحمدية مثلما يشير الى ذلك قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني ادم} الاسراء/ 0 7، وقوله: {وعلم ادم الاسماء كلها} البقرة/ 1 3، وكذا ما جاء في الحديث: ((خلق الله ادم على صورته)) 0 0 1.

اذن ان من ابرز مظاهر التشبيه التي اكدها ابن عربي هو التشبيه الذي يعبر عن الرتبة الخلقية التي فيها يظهر الحق بمختلف اشكال الصور، فيظهر بصور الايدي والاعين والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، حيث ظهور الحق بصفات المحدثات والنقص والذم، واليه الاشارة في قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} الرحمن/ 9 2، حيث للاية دلالة على ظهور الحق بمظاهر المحدثات والنقص، وهي تعني ان من المحال ان تبقى الاشياء في العالم على حالة واحدة زمانين، بل تتغير عليها الاحوال والاعراض في كل لحظة، فهذه هي شؤون الحق لا غير 1 0 1. او ان الحق يظهر بصفات الفقر والحاجة كالذي يشير اليه قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} البقرة/ 5 4 2، او ما جاء في الحديث القدسي: ((جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني)).

مهما يكن فان استظهار النصوص التي تتعلق بالصفات الالهية لدى كل من نظرية المشاكلة والمعاينة؛ انما يدل على تعددية التفسير لظاهر النص الواحد. مع ان كلا النظريتين استهدفتا هدفاً واحداً مشتركاً هو التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية، حيث الدينية بحسب الظاهر، والوجودية بحسب التفسير والباطن.

وعلى العموم ان اسلوب الجمع والتوفيق الذي لجأ اليه اصحاب نظريتي المشاكلة والمعاينة انما تمّ تبعاً لمبرر مبدأ الاعتبار، لكنه ادى في الكثير من الاحيان الى ان يكون اداة لممارسة التلفيق والاستغراق في المباطنة. كما تحول في احيان اخرى الى صيغة من صيغ استخدام التأويل وتحريف الايات رغم الجهد الذي قدمه اولئك الاصحاب في ذم التأويل والانكار الشديد على المتأولين، ولزوم التمسك بالنص وترجيحه على الكشف عند التعارض كالذي بيناه في محل اخر.

الهوامش

 1 تصدير عام لكتاب الاملي: جامع الاسرار، ص 7.

 2 ابو حيان التوحيدي: الامتاع والمؤانسة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، تصحيح أحمد أمين وأحمد الزين، ج 2، ص 8 1ـ 9 1.

 3 نجيب مخول: الغزالي وابن رشد، مصدر سابق، ص 9 5.

 4 فلاسفة الشيعة، مصدر سابق، ص 4 8 1ـ 1 3 2. كذلك: جابر بن حيان، مصدر سابق، ص 9 1 1ـ 9 3 1.

 5 الامتاع والمؤانسة، مصدر سابق، ص 5.

 6 الامتاع والمؤانسة، ص 5.

 7 يُذكر انه عندما عرضت رسائل اخوان الصفا على الشيخ ابي سليمان المنطقي السجستاني وطلب رأيه فيها؛ قال: ((انهم تعبوا وما اغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنّوا وما اطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع، ظنوا انهم يمكنهم ان يدسوا الفلسفة في الشريعة، وان يضموا الشريعة للفلسفة. وهذا مرام دونه حدد..)) (الامتاع والمؤانسة، ص 6).

 8 رسائل اخوان الصفا، طبعة دار صادر ـ دار بيروت، 7 5 9 1م، ج 3، ص 1 0 3ـ 7 0 3، وج 1، ص 0 6 2.

 9 رسائل اخوان الصفا، طبعة منشورات عويدات، ج 3، ص 3 6ـ 4 6.

 0 1 رسائل اخوان الصفا، المصدر السابق، ج 3، ص 9 7ـ 0 8.

 1 1 الفارابي: رسالة تحصيل السعادة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، 5 4 3 1هـ، ص 0 4.

 2 1 الفارابي: الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 0 6 9 1م، ص 2. 1ـ 3. 1.

 3 1شهاب الدين ابو فراس: رسالة مطالع الشموس في معرفة النفوس، ضمن اربع رسائل اسماعيلية، مقدمة وتحقيق عارف تامر، دار الكشاف، بيروت، الطبعة الاولى، 3 5 9 1م، ص 8 3. ورسائل الاخوان، ج 3، ص 2 5 4ـ 6 5 4.

 4 1 رسائل اخوان الصفا، طبعة دار صادر، ج 4، ص 6 0 2ـ 7 0 2.

 5 1 رسالة الدعاوي القلبية، من رسائل الفارابي، ص 0 1.

 6 1 الجمع بين رأيي الحكيمين، ص 3. 1.

 7 1 يقول ابن سينا: ((فظاهر من هذا كله ان الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمونه، مقرباً ما لا يفهمونه الى افهامهم، بالتشبيه والتمثيل. ولو كان غير ذلك لما اغنت الشرائع البتة. وكيف يكون ظاهر الشرع حجة في هذا الباب، ولو فرضنا الامور الاخروية روحانية بعيدة عن ادراك بداية الاذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة اليها والتحذير عنها، منبهاً بالدلالة عليها، بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة الى الافهام، فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء اخر، ولو لم يكن الشيء الاخر، على الحالة المفروضة، لكان الشيء الاول على حالته)) (أضحوية في أمر المعاد، ص 0 5 وما بعدها. والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين، ص 3 2 4ـ 4 2 4).

 8 1 تهافت الفلاسفة، ص 7 0 3ـ 8 0 3. والمنقذ من الضلال، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي ( 7)، ص 2 4.

 9 1 ابن طفيل: رسالة حي ابن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص 6 7ـ 7 7.

 0 2 حي بن يقظان، ص 6 7ـ 7 7.

 1 2 حي بن يقظان، ص 8 4ـ 9 4 و 4 7.

 2 2 لاحظ الرسالة السابقة، ص 4 4ـ 5 4.

 3 2 حي بن يقظان، ص 0 7.

 4 2 فصل المقال، المطبعة الكاثوليكية، ص 3 4 وما بعدها.

 5 2 الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص 9 4 2ـ 2 5 2.

 6 2 فصل المقال، ص 5 3.

 7 2 فصل المقال، ص 8 5. وعلى شاكلة هذا القول، قول (ابو زيد البلخي): ان الفلسفة مقاودة ـ مساوقة ـ للشريعة، والشريعة مشاكلة للفلسفة، وان احداهما ام والاخرى ظئر (الامتاع والمؤانسة، ج 2، ص 5 1).

 8 2 تهافت التهافت، ص 4 8 5.

 9 2 المصدر السابق، ص 3 8 5.

 0 3 المصدر السابق، ص 4 8 5.

 1 3 فصل المقال، ص 5 3.

 2 3 المصدر السابق، ص 5 4 و 2 5ـ 3 5. والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص 3 3 1ـ 4 3 1.

 3 3 المصدر السابق، ص 2 5ـ 3 5.

 4 3 المصدر السابق، ص 5 4ـ 6 4.

 5 3 الكشف عن مناهج الأدلة، ص 3 4 2ـ 5 4 2. ولاحظ: تهافت التهافت، ص 5 8 2.

 6 3 فصل المقال، ص 8 4.

 7 3الكشف عن مناهج الادلة في عقائد الملة، ص 1 5 1 وما بعدها.

 8 3 الكشف عن مناهج الادلة، ص 7 6 1.

 9 3 المصدر السابق، ص 4 7 1ـ 5 7 1.

 0 4 المصدر السابق، ص 4 7 1ـ 5 7 1.

 1 4 المصدر السابق، ص 8 7 1.

 2 4 دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام، ص 4 9 3.

 3 4 فمن ذلك ما جاء من فتوى لطائفة من الامامية تحكم بكفره، وان البعض وصف شرحه لاصول الكافي بقوله: ((شروح الكافي كثيرة جليلة قدراً، واول من شرحه بالكفر صدراً هذا)) (محمد باقر الخوانساري: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، الدار الاسلامية، بيروت، الطبعة الاولى، 1 1 4 1هـ ـ 1 9 9 1م، ج 4، ص 8 1 1).

 4 4 تهافت التهافت، ص 9 2 2ـ 1 3 2 و 0 2 4.

 5 4 شرح رسالة المشاعر، ص 7 7 1ـ 0 8 1.

 6 4 تهافت التهافت، ص 8 2 2.

 7 4 تهافت التهافت، ص 3 6 4.

 8 4 تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، مصدر سابق، ص 6 2.

 9 4 حسن حنفي: في الفكر الغربي المعاصر (قضايا معاصرة/ 2)، دار التنوير، بيروت، الطبعة الاولى، 2 8 9 1م، ص 9 7.

 0 5 تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص 3 7.

 1 5 جونو و بوجوان: تاريخ الفلسفة والعلم في اوروبا الوسيطية، ترجمة علي زيعور وعلي مقلد، مؤسسة عز الدين، بيروت، 4 1 4 1هـ ـ 3 9 9 1م، ص 0 6.

 2 5 توبي أ. هَفّ: فجر العلم الحديث، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، عدد( 0 6 2)، الطبعة الثانية، 1 2 4 1هـ ـ 0 0 0 2م، ص 4 6 1.

 3 5 تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص 3 0 1ـ 4 0 1.

 4 5 فجر العلم الحديث، ص 4 6 1.

 5 5 تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص 9 0 1.

 6 5 فجر العلم الحديث، ص 4 6 1.

 7 5 في الفكر الغربي المعاصر، ص 2 7 و 0 8.

 8 5 مطلع خصوص الكلم، ج 1، ص 7 7.

 9 5 مع هذا فان من الصعب تطبيق طريقة الغزالي في المشاكلة على ما ورد لبعض الصفات الالهية كمعاني اليد الالهية، حيث لا تخضع الى ذلك المقياس، اذ جاءت بمعنى القدرة وبمعنى النعمة وبمعنى الملك والسلطة وبمعنى الحضور، كما في قوله تعالى: {بيدك الخير} آل عمران/ 6 2، {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون} يس/ 3 8، {تبارك الذي بيده الملك} الملك/ 1، {يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} الحجرات/ 1.

 0 6 ايقاظ النائمين، ص 8 1. ومفاتيح الغيب، ص 3 8.

 1 6 لاحظ: ابو الحسن الاشعري: الابانة عن اصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 5 0 4 1هـ ـ 5 8 9 1م، ص 5 1ـ 6 1 و 9 6ـ 4 8. وابن تيمية: الرسالة التدمرية، المكتب الاسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ص 9 2. ومحمد بن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الامام 3 1، مصر، ص 6 1ـ 9 1.

 2 6 ايقاظ النائمين، ص 6 1ـ 7 1. والاسفار، ج 2، ص 2 4 3ـ 3 4 3.

 3 6 مفاتيح الغيب، ص 7 9ـ 8 9. وتفسير صدر المتألهين، ج 1، ص 2 7 1.

 4 6 اسرار الشريعة، ص 8 0 2.

 5 6 شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص 0 5 1.

 6 6 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 5، ص 6 3 3.

 7 6 جامع الاسرار، ص 9 5.

 8 6 كاظم الرشتي: شرح اية الكرسي، ص 5.

 9 6 جامع الاسرار، ص 3 2 5.

اذ روي عن النبي (ص) قوله: ((عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، هل تدرون ما التنين، تسعة وتسعون حية ولكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه الى يوم يبعثون)) (الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، ج 4، ص 0 0 5).

 1 7 ضاحياء علوم الدين، ج 4، ص 0 0 5. كذلك: تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 6، ص 3 4 1.

 2 7 مفاتيح الغيب، ص 9 8.

 3 7 الملاحظ ان صدر المتألهين تارة يوظف هذه الاية مع جملة من ايات الصفات ضمن منهجه في المشاكلة، واخرى يعمل على استبعادها عن التطبيق، حيث اعتبر انه يمكن حملها على المجاز لا الحقيقة؛ بمعية اية اخرى هي:{ .. يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله} الزمر/ 6 5، وذلك بخلاف غيرهما من الايات التي تتعلق بالصفات الالهية المعروفة، وقد جاء كلا الحالين من التوظيف والاستبعاد في كتابه (مفاتيح الغيب، قارن: ص 3 8 و 5 9).

 4 7 مفاتيح الغيب، ص 5 9ـ 6 9.

 5 7 مفاتيح الغيب، ص 3 9.

 6 7 مفاتيح الغيب، ص 2 9. ولاحظ ايضاً: عرشيه، ص 1 7 2ـ 2 7 2. والاسفار، ج 9، ص 9 9 2. وتفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 5، ص 9 3 1ـ 0 4 1.

 7 7 الغزالي: القسطاس المستقيم، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي ( 3)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 4 1 4 1هـ ـ 4 9 9 1م، ص 6. واسرار الايات، ص 8 0 2.

 8 7 الغزالي: القسطاس المستقيم، مصدر سابق، ص 8ـ 9. كذلك: المضنون به على غير اهله، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي ( 4)، ص 9 0 1ـ 0 1 1.

 9 7 اسرار الايات، ص 8 0 2ـ 0 1 2. والاسفار، ج 9، ص 0 0 3ـ 1 0 3.

 0 8 اسرار الايات، ص 9 4.

 1 8 مفاتيح الغيب، ص 6 9.

 2 8 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 3، ص 9 1.

 3 8 الاسفار، ج 6، ص 2 7 2. والشواهد الربوبية، ص 1 4ـ 2 4. ومفاتيح الغيب، ص 7 8ـ 8 8.

 4 8 مفاتيح الغيب، ص 7 8. وتفسير صدر المتألهين، ج 4، ص 6 6 1.

 5 8 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 8، ص 5 4.

 6 8 ابن سينا: رسالة العرشية، ضمن رسائل ابن سينا، مصدر سابق، ص 1 5 2.

 7 8 تهافت التهافت، ص 4 5 4.

 8 8 الاسفار، ج 6، ص 2 2 4ـ 3 2 4.

 9 8 الاسفار، ج 8، ص 3 0 3.

 0 9 الفتوحات، مصدر سابق، ج 2، ص 9 5 4.

 1 9 شرح الفصوص، ص 2 0 6. والفصوص والتعليقات عليه، ج 1، الفص الثاني والعشرين، ج 1، ص 5 8 1. كما لاحظ: كشف الغايات، مصدر سابق، ص 4 5 3.

 2 9 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج 4، ص 7 2 4ـ 8 2 4.

 3 9 اصل الحديث القدسي هو: ((لا يزال العبد يتقرب الي بالنوافل حتى احبه، فاذا احببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم، ويده الذي بها يبطش، ورجله الذي بها يمشي)) (تفسير ابن عربي، ج 1، ص 0 2). وجاء في صيغة مقاربة وهي: ((ان العبد اذا تقرب الى الله بالنوافل أحبّه، فاذا احبّه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به..)) (الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج 2، ص 6 8 1). وعلى شاكلته يُحتج بالحديث القدسي: ((جعت فلم تطعمني، مرضت فلم تعدني، ظمئت فلم تسقني)).

 4 9 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج 4، ص 7 4 2.

 5 9 الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج 1، ص 3 0 5.

 6 9 نقد النقود، مصدر سابق، ص 8 6 6.

فقد ذكر يقول: ((فالعامة في مقام التشبيه ابداً. والعقلاء في مقام التنزيه خاصة. فجمع الله لاهله وخاصته بين الطرفين، وشرفهم بالجمع بين المرتبتين، فمن لم يعرف هذا؛ فما قدر الله حق قدره. فمن لم يقبل بان الله {ليس كمثله شيء} فهو ثنوي، وان لم يقبل بان الله خلق ادم بيديه: {فما قدروا الله حق قدره} الانعام/ 1 9، واين التجرد من التجسم، واين الانقسام من عدم الانقسام، واين التوحيد من التعدد، وهذا لا يعلمه الا الراسخون)) (ايقاظ النائمين، ص 9 1).

 8 9 مطلع خصوص الكلم، ج 1، ص 1 6 3ـ 2 6 3.

 9 9 مطلع خصوص الكلم، ج 1، ص 6 4 3ـ 7 4 3.

 0 0 1 مطلع خصوص الكلم، ج 1، ص 9 5 3ـ 0 6 3.

 1 0 1 لاحظ الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج 2، ص 7 3 4. وج 1، ص 4 3 8.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار