الواقع وضبط الفتوى
يحيى محمد
لعل أهم ما يحتاج اليه الاصولي والفقيه اليوم هو اعادة النظر في العلاقة التي تربط الفتوى بالواقع. فما زال هناك عدد كبير من الفتاوى لم يُراعَ فيها حق الواقع وشروطه، بل استلّها الفقهاء من مجرد النص او مما ادى اليه اجتهاد السلف. كما ما زالت هناك قضايا اخرى تحتاج الى فحص من حيث علاقتها بالواقع كمرجع يناط به الكشف عما هو حقيقة وغير حقيقة، وما هو ممكن وغير ممكن، وما هو متسق وغير متسق، وما هو مقيد او غير مقيد... الى اخره من الصور التي تتكشف بفعل دراسة الواقع والتعمق بفهمه، سواء كان حاضراً او ماضياً او استشرافاً او عاماً ومطلقاً. فالعلاقة بين الواقع والفتوى تتخذ صوراً عديدة تستحق النظر والتحقيق. وبذلك يمكن العمل على حل المشاكل الفقهية والقضاء على حالات المعارضة والصدام. واغلب هذه الصور يتخذ فيها الواقع دور الضابط للفتوى وفهم النص، كما يتبين من الفقرات التالية:
1ـ من ذلك إن للواقع سعة في تكذيب الفتاوى التي يظهر منها عدم الملائمة مع حقائقه الخاصة. فمثلاً انه يكذّب فتوى كراهة التعامل مع بعض الأقوام لانهم من الجن، والتي عمل بها العلماء لبعض الروايات، وعلى رأسهم الشيخ الصدوق كما عرفنا من قبل. وكذا انه يكذب الفتوى القائلة بان في الخصية اليسرى ثلثي الدية، وفي اليمنى الثلث، لان الولد يُخلق من اليسرى لا من اليمنى . حيث عمل البعض بهذه الفتوى طبقاً لرواية عن الامام الصادق (ع)، كالشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهما، لكن البعض الاخر اهملها، وقال الشهيد الثاني: قد انكر ذلك بعض الاطباء.
وعلى هذه الشاكلة الفتاوى التي كانت تقول بوجوب دفن الخمس في باطن الارض او رميه في البحر او ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد الى اخر حتى ظهور الامام المهدي. حيث ظهر الاضطراب في الرأي لعدم وجود نص معين يتعلق بطبيعة العمل في عصر الغيبة. فقد نقل الشيخ الطوسي خلال القرن الخامس ان الفقهاء افترقوا الى اربعة اقوال: أولها يرى انه مباح على الشيعة. والثاني يرى وجوب ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد الى اخر حتى ظهور الامام المنتظر ليسلم اليه. والثالث افتى بوجوب دفنه في باطن الارض لأن الارض سوف تخرج كنوزها عند قيام القائم فيكون ذلك تحت تصرفه. اما الرابع فيرى انه يجب تقسيمه الى ستة اسهم بحسب اية الخمس، فيكون ثلاثة منها حقاً خاصاً للامام، وهي سهم الله والرسول وذي القربى، اما الثلاثة الاخرى فهي خاصة بمستحقي ذرية آل محمد ومحتاجيهم، من الايتام والمساكين وابناء السبيل. وقد اعتبر الطوسي ان الاراء الثلاثة الاخيرة كلها عملت بالاحتياط في فتاواها، اما الراي الاول فاعتبره ضد الاحتياط ورأى ان الاولى اجتنابه. وقبل الطوسي طرح الشيخ المفيد تلك الاراء ورجح حفظ الخمس والوصية عليه حتى ظهور الامام المهدي، لكنه اعتبر الرأي الذي يشطر الخمس الى قسمين أحدهما للامام والآخر الى ذريته؛ لا يبعد صوابه. وقد نقل عنه في (الغرية) انه اجاز ان تصرف حصة الامام في الاصناف الموجودين.
ويبدو ان اول من حدد صرف حصة الامام بمن له حق النيابة هو المحقق الحلي، حيث قال بعد ان استعرض الاقوال في المسألة: >يجب ان يتولى صرف حصة الامام في الاصناف الموجودين من اليه الحكم بحق النيابة، كما يتولى اداء ما يجب على الغائب<. والمقصود بالنائب هنا هو ذلك الشيعي المولى في الحكم من قبل السلطان الغاصب لمنصب الخلافة والتي يفترض ان تكون للامام المعصوم. ويتصف من له حق النيابة في الحكم من الشيعة بعدد من الشروط كالتي يحددها تلميذ الشريف المرتضى ابو صلاح الحلبي (المتوفى سنة 447هـ)، وهي العلم بالحق في الحكم المردود اليه، والتمكن من امضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة بالوضع، وظهور العدالة والورع والتدين بالحكم، والقوة على القيام به ووضعه مواضعه. واعتبر الحلبي ان من تكاملت فيه هذه الشروط فقد أذن له في تقلد الحكم وإن كان مقلده ظالماً متغلباً، حيث انه نائب عن ولي الامر في الحكم ومأهول له لثبوت الاذن منه. مما يعني ان القدماء لم يعولوا على الفقيه كنائب عن الامام. وحتى ابو صلاح الحلبي وان ابدا في عبارة انه يلزم ايصال الموارد المستحقة - ومنها الخمس - للفقيه المأمون عند تعذر ايصالها الى الامام او من ينصبه الامام، الا انه أجاز دفعها ايضاً بطريق مباشر دون وساطة الفقيه، كما انه بعد صفحة من كتابه صرح بوجوب عزل حصة الامام من الخمس انتظاراً للتمكن من ايصاله اليه، فان استمر التعذر اوصى حين الوفاة الى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم في اداء الواجب مقامه.
ويبدو ان الرأي الغالب لدى القدماء هو التوصية بسهم الامام من واحد الى اخر عند الوفاة، وذلك لأن القدماء لم يتصورا ان صاحب الزمان ستطول غيبته مثلما ادرك المتأخرون، لذلك تحول الاتجاه الغالب منذ المحقق الحلي الى الرأي القائل بصرف حصته الى الاصناف الموجودين بواسطة من له حق النيابة عنه، والمقصود به كما عرفنا ذلك المتولى من قبل سلطان زمانه، وليس الفقيه. انما ظهر القول باجازة توكيل الفقيه في صرف حصة الامام خلال القرن العاشر على يد المحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ)، حيث قال في (جامع المقاصد): >يجوز توكيل الفقيه في زمان الغيبة في صرف حصة الامام الى مستحقيها<. ورغم معاصرة الشهيد الثاني (المتوفى سنة 965هـ) للكركي، الا انه ظل محافظاً على الرأي الذي تبناه المتأخرون منذ المحقق الحلي، حيث صرح بان صرف حصة الامام هو بيد من اليه الحكم بحق النيابة. وكذا قال من جاء بعده بذلك كمحمد العاملي (المتوفى سنة 1009هـ).
ويفهم مما سبق ان الاراء القديمة كانت تتراوح في القول بين الدفن والوصية والاباحة والصرف للاصناف الموجودين، لكن الغالب فيها هو الوصية، وظلت هذه الاراء تتناقل حتى اضمحلت شيئاً فشيئاً باعتبارها لا تتسق مع ما عليه الواقع، واصبح السائد فيها لدى المتأخرين هو الصرف للاصناف الموجودين عبر من له حق النيابة، ثم تطور الحال فظهرت فكرة توكيل الفقيه في الصرف كالذي صرح به الكركي، وان ظل السائد هو الصرف من خلال المتولي للحكم، حتى شيوع فكرة النيابة العامة للفقيه.
2ـ كما يمكن للواقع ان يكون معارضاً لبعض الفتاوى ليحيل بينها وبين التنفيذ او التطبيق. ومن ذلك معارضته للفتاوى الصادرة بخصوص الموقف من الارض المفتوحة عنوة. فهذه الفتاوى على اختلافها اصبحت غير مقبولة لمعارضتها لمنطق الواقع الخاص. فرغم اختلاف اراء المذاهب الاسلامية اتجاه الموقف بخصوص هذه الارض، الا انها جميعاً لم تعطِ ثمرة مفيدة. فسواء اخذنا بالرأي الذي يقول أنها تُقسّم بعد التخميس على الجيش الفاتح كالغنائم المنقولة كما ذهب اليه الاجتهاد الشافعي.. أو بالرأي الذي يرى انها تكون وقفاً حبيساً على جميع المسلمين فتوضع ثمرتها في بيت المال وتصرف على مصالحهم وحاجاتهم العامة، كما ذهب اليه الاجتهاد المالكي.. او بالمذهب الذي يقول ان أمرها يعود الى نظر الامام وتقديره بحسب ما يرى من الحاجة والمصلحة، فإن شاء عزل منها الخمس او اكثر لبيت المال وقسّم الباقي على الفاتحين كما فعل النبي (ص) بارض خيبر، وان شاء ترك الارضين لأهلها وطرح عليها ضريبة الخراج كما فعل عمر بن الخطاب بالسواد، وهو الذي آل اليه ابو عبيد والاجتهاد الحنفي واكثر الكوفيين. أو بالرأي الذي يعتبر ارض العنوة مما يجوز اجارتها بالاجماع، والساكن منها تحل فيه لاصحابها، ويمنع من بيع مزارعها كما هو قول ابن تيمية. او بالرأي الذي يراها للمسلمين قاطبة لا يملك احد رقبتها ولا يصح بيعها ولا رهنها ولا توقيفها ولا توريثها، ولو ماتت لم يصح احياؤها لأن المالك لها معروف وهو المسلمون قاطبة، وما كان منها مواتاً في وقت الفتح فهو للامام، واليه ذهب الاماميون مستدلين برواية عن الامام الصادق (ع) يقول فيها: >ومن يبيع ارض الخراج وهي ملك لجميع المسلمين؟<. فسواء أخذنا بهذا الرأي او بغيره من الآراء التي عرضناها للمذاهب الاسلامية؛ نجد أنها ساقطة - جميعاً - وفقاً لموازين تطور الواقع واعتباراته الحديثة. فالاحكام في واد، والواقع في واد آخر لا يلتقيان. لذلك عدّ الشيخ محمد جواد مغنية الفتوى القائلة بعدم جواز بيع الارض المفتوحة عنوة بأنها فتوى نظرية تبريرية بعيدة عن الواقع، معلقاً على ذلك بقوله: >لا اعرف احداً عمل بها، فان الناس، كل الناس، حتى الفقهاء يعاملون صاحب اليد على الارض الخراجية معاملة المالك من البيع والشراء والوقف والتوريث وما الى ذلك.. ويوجهون او يؤولون اعمالهم بتأويلات لا تركن اليها النفس، منها ان لصاحب اليد نحواً من الحق والاختصاص، فينتقل هذا الحق منه الى غيره دون رقبة الارض وعينها، ومنها ان الاصل في الارض ان تكون الموات، حتى يثبت العكس<.
ويدخل ضمن هذه الشاكلة من معارضة الواقع للفتوى؛ ما واجهته الدولة الاسلامية في ايران بخصوص عدد من الموروثات الفقهية كتحليل الانفال على الشيعة، واخراج سهم السادة من حصص انتاج النفط وسائر المعادن الاخرى الثمينة.
فحول تحليل الانفال على الشيعة جاء في بعض الروايات عن الامام الصادق قوله: >ما كان لنا فهو لشيعتنا< . وقوله ايضاً: >هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي، وما يولد منهم الى يوم القيامة فهو لهم حلال<. لكن وجدت ايران نفسها - في ظل الدولة الاسلامية - عاجزة عن العمل بمثل هذه الاحاديث والفتاوى التي تأسست عليها، واخذت تفعل ما تراه مناسباً بحسب المصلحة، دون مراعاة الحلية ولا قيد (الشيعة) في النص. وبذلك أُلغي حكم النص مراعاة للواقع لما قد تسفر عنه الاضرار عند التطبيق. وقد نصت المادة الخامسة والاربعون من دستورها على ان الانفال والثروات مثل الاراضي الموات والاراضي المهجورة والمعادن والبحار والبحيرات والانهار وكافة المياه العامة والجبال والوديان والغابات ومزارع القصب والاحراش الطبيعية والمراتع التي ليست حريماً لأحد.. كل هذه تكون باختيار الحكومة الاسلامية لتتصرف بها وفقاً للمصالح العامة.
أما بخصوص سهم السادة، فالمتعارف عليه هو ان الخمس يتعلق بموارد عدة؛ منها المعادن سواء كانت منطبعة كالذهب والفضة والرصاص، او غير منطبعة كالياقوت والزبرجَدْ والكحل، او مائعة كالقير والنفط والكبريت. وبحسب ما مسلّم به من رأي لدى الفقهاء هو ان لسهم السادة حصة النصف من الخمس. وقد واجهت ايران هذه المشكلة في ظل الدولة الاسلامية، حيث لا يعقل ان يعطى عشر موارد النفط وسائر المعادن الاخرى الضخمة الى السادة ويحرم الاخرون من فئات الشعب. وكان المعول عليه هو ان لولي الامر حق التصرف بالسهمين المذكورين للخمس - وهما سهم السادة وسهم الامام - بحسب ما يراه من مصلحة وما تقتضيه الدولة من حاجات، اعتماداً على نظرية الامام الخميني في ولاية الفقيه. علماً ان بعض الفقهاء القدماء ذهب الى عدم افراد السادة بسهم خاص، كالذي انفرد به ابن الجنيد وشذ دون الطائفة. وحديثاً صرح كل من الامام الخميني والشيخ المنتظري بهذا الموقف الذي فيه مصلحة تجنب ان يكون هناك تمايز طبقي، وان الدولة تعجز عن صرف مثل هذه الحصة من الثروات الضخمة. وقد قال المنتظري متبعاً ما يراه الامام الخميني ومعترضاً على من سبقه من الفقهاء: >هذه نماذج من كلمات الاعاظم في المقام يظهر منها انهم لم يلتفتوا الى الخمس بما انه ضريبة اسلامية واسعة ان اخذت من المعادن بسعتها ومن الارباح بكثرتها ومن غيرهما تبلغ في كل سنة آلاف ميليارات، وقد شُرّعت لادارة شؤون امامة المسلمين وحكومتهم كيفما اتسع نطاقها، غاية الامر ان ادارة شؤون السادة الفقراء ايضاً بما انهم من بيت النبوة تكون من شؤونها ايضاً. بل تراهم يرون الخمس مجعولاً لشخص الامام المعصوم والسادة الفقراء فقط بالمناصفة. ومن التفت الى كثرة مقدار الخمس وسعته ونسبته الى مقدار الزكاة المشروع عندهم في خصوص الاشياء التسعة المعروفة بحدودها وشروطها، ونسبة عدد السادة الفقراء الى جميع المصارف الثمانية للزكاة التي منها جميع الفقراء غير السادة وجميع سبل الخير والمشاريع العامة بل وفقراء السادة ايضاً بالنسبة الى زكاة انفسهم؛ يظهر له بالوجدان بطلان ما ذكروه. والعمدة ان أصحابنا لبعدهم عن ميدان السياسة والحكم لم يخطر ببالهم ارتباط هذه المسائل ولا سيما الانفال والأموال العامة بباب الحكومة وسعة نطاقها واحتياجها إلى نظام مالي واسع، وانصرف لفظ الإمام الوارد في أخبار الباب في أذهانهم إلى خصوص الآئمة الإثني عشر المعصومين عندنا وحملوا الملكية للإمام على الملكية الشخصية فتدبر جيداً<.
3ـ كذلك يمكن للواقع العمل على تقييد الاطلاق المفترض في الفتوى، كتلك التي تبيح للناس ان يكونوا مسلطين على اموالهم، وهي الفتوى التي عمل بها اغلب فقهاء الامامية. وبحسب دستور الجمهورية الاسلامية في ايران هناك مادة تجعل قيوداً على العمل بذلك الحديث، ليراعى ما قد يخلفه التصرف بالملكية من اضرار اجتماعية وبيئية. وقد نصت المادة الخمسون من الدستور على منع النشاطات الاقتصادية وغيرها التي تؤدي الى تلوث البيئة او تخريبها بشكل لا يمكن تعويضه.
وكذا الحال مع تقييد الواقع للفتوى التي تشجع على زيادة التناسل او التكاثر طبقاً لبعض الأحاديث. اذ ظل الفقهاء يعملون باطلاق هذه الفتوى لدى مختلف المذاهب الاسلامية طيلة قرون، وما زال الكثير منهم يتبع خطاها دون مراعاة للواقع، لكن جملة من التحولات اضطرت عدداً منهم - في كلا الساحتين السنية والشيعية - الى أن يضعوا قيوداً لهذه الفتوى طبقاً لاعتبارات الواقع وحساباته.
4ـ كما ان للواقع سعة في العمل على تجريد الفتوى من شروطها، وذلك بالكشف عن عدم جدواها، او كونها غير قابلة للتطبيق الشامل. وذلك مثل الفتاوى التي تشترط القرشية والعصمة ووحدة النظام في الحكم السياسي. وكذا الفتوى التي تشترط وجوب الاعلمية في القضاء والتي تتعارض مع كثرة القضايا الحادثة مثلما أشار الى ذلك السيد الخوئي.
5ـ كذلك ان للواقع سعة في الكشف عن المشاكل الاجتماعية التي تنجم عن بعض الفتاوى والاحكام، مثل الاحكام الدائرة في الاحوال الشخصية كما واجهها المقننون المحدثون، كتلك التي لها علاقة بالوصية والارث وأساليب الزواج والطلاق، مثل فتوى الطلاق الثلاث في الجلسة الواحدة التي ذهب اليها جمهور فقهاء أهل السنة. وكذا السماح في الزواج المتعدد من غير قيود وشروط. ولعل الشيخ محمد عبده هو اول من اعترض على هذا الزواج صراحة؛ مشيراً الى ما يترتب عليه من مشاكل ومآسي. ومثل ذلك تطبيق الحدود بلا قيود، خصوصاً فيما يتعلق بحكم الرجم وما يخلفه من آثار نفسية واجتماعية وخيمة.
6ـ كما ان للواقع الكشف عن نسبية بعض الفتاوى وظرفيتها الزمانية. مثلما لاحظنا ذلك في فتاوى عديدة كالضعفية في القتال، والفتوى الخاصة بالعورات الثلاث، ووجوب اعداد رباط الخيل، وتقسيم الغنائم على المجاهدين، واحكام الرق والجزية، والمراهنة في السبق للصور الثلاث المعروفة، وحريم الارض وصاع مصر وغيرها. ويدخل ضمن هذا الباب ما جاء حول العاقلة، وهي جمع عاقل، والمقصود به دافع الدية للقتل الخطأ، حيث سميت الدية عقلاً لأنها تعقل الدماء من ان تسفك، اي تمنع من سفك الدماء، لأن من معاني العقل هو الامساك عن صدور القبائح . والمقصود بالعاقلة اصطلاحاً بأنها الدية التي تتحملها عشيرة أو قبيلة القاتل بالقتل الخطأ أو شبه العمد، حيث ذهب جمهور الفقهاء الى انهم عبارة عن قرابة القاتل فقط . لكن في قبال هذا الرأي ذهب فقهاء الحنفية الى انهم اهل الديوان، إن كان القاتل من اهل الديوان، وهم الجيش والعسكر الذين كتبت اساميهم في الديوان. او هم من المقاتلة من الرجال الاحرار، اي اهل الرايات والالوية؛ مستدلين على ذلك بما فعله عمر بن الخطاب. أما لو لم يكن القاتل من اولئك فان عاقلته تكون قبيلته واقاربه وكل ما يتناصر بهم . ويعد هذا الرأي قابلاً لملائمة الاحوال تبعاً لتغير الظروف نسبياً. حيث على رأي الحنفية ان نظام العاقلة قد تطور من الاسرة الى العشيرة فالقبيلة ثم الى الديوان، ثم الى الحرفة ثم الى بيت المال. مع ذلك فهناك من انكر حكم العاقلة معتبراً ان دية القتل الخطأ واجبة في مال القاتل وحده، حيث حكي عن ابي بكر الاصم وابن علية واكثر الخوارج ان دية الخطأ في مال القاتل ولا تلزم العاقلة، وذلك اخذاً بعموم بعض الايات والاحاديث لقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر اخرى)). لكن الفقهاء اعتبروا الاحاديث المتضمنة لحكم العاقلة مخصصة لعموم مثل هذه الاية لما في ذلك من المصلحة العامة في المساعدة والتعاون. والملاحظ ان نظام العاقلة يقبل التغيير من حالة الى اخرى مع حفظ المقصد الذي يتضمنه في التعاون والتضامن، فهو وان انتفى من حيث اصله القائم على القبيلة، لكن مضمونه يتقبل الاحياء والدوام، طبقاً للمقاصد ووفاقاً مع ما عليه طبيعة الواقع القائم.
7ـ وايضاً فان للواقع الكشف عن تأييده لعدد من الفتاوى. مثل تأييده للفتاوى والاحكام التي تتحقق من خلالها المصالح والحقوق. وهناك العديد من القواعد الفقهية التي تجد مجالها الرحب في الاتساق مع متطلبات الواقع وتسديد حاجاته، مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
8ـ وكذا فان للواقع ان يلعب دور الحاكم في البت والحكم على الاشياء التي تقام عليها بعض الفتاوى. فهو من هذه الجهة مقدم على الاعتبارات الشرعية في الحكم على الاشياء، كتقديمه في الاستهلال على البيانات الشرعية من الشهادة والرؤية وما اليها، وذلك إن كان قول الفلكيين دقيقاً مثلما ذهب اليه المرحوم محمد جواد مغنية.
ومثله ما جاء في بعض الروايات المرسلة ان امرأة ادعت العنن على زوجها، وقد انكر ذلك، وفي الرواية يوصى أن يقام الرجل في الماء البارد، فان تقلص احليله حُكم بقوله، وان استرخى حُكم بقولها. وذكر الشهيد الثاني في (المسالك) ان هذا الحكم كان لابن بابويه وابن حمزة، لكن المتأخرين انكروا ما يحصل من علامات التقلص والاسترخاء، وذلك لعدم الوثوق بالانضباط وعدم الوقوف على مستند صالح. وهو وإن كان قول الاطباء وان كلامهم يثمر الظن الغالب بالصحة الا انه ليس طريقاً شرعياً. لذلك كان المحقق الحلي يرى ان مثل هذا الحكم ليس بشيء، ومثله العلامة الحلي.
مع هذا فسواء صحت الرواية ام لم تصح فمن الممكن اليوم التحقيق في القضية بفضل الامكانات العلمية الحديثة، فيُحكم على ضوء نتائجها، ويقدم ذلك على البيان الشرعي الوارد في الرواية، ولا يلتفت ما يقال بان ذلك ليس طريقاً شرعياً، ذلك لأن هذا القول يجعل من الشرع منافياً لحقيقة الواقع، وكل ما ينافي هذا الاخير فهو باطل.
9ـ كما يمكن للواقع أن يكون حاكماً يقدم على فتاوى العلماء وآرائهم الفقهية. فمثلاً في المسألة التي تقول انه لو اختلف الزوجان في الدخول، فقالت الزوجة بالادخال، وانكر الزوج ذلك، لتثبت ان لها حق الامتناع عنه حتى تقبض معجل مهرها، وهو لكي يسقط عنه نصف المهر بالطلاق، وهي لتثبت المهر كاملاً ونفقة العدة. فمع اختلاف الرأي بين الفقهاء في أي منهما يعول عليه؛ فان للواقع اليوم ان يحسم القضية ليثبت صحة دعوى الدخول او الانكار، وذلك عن طريق الفحص الطبي. وبذا يكون الواقع مقدماً على الرأي الفقهي. كما يقدم على الاراء الفقهية التي تحدد مدد الحمل عند الشك، فبعضها يرى ان اقصاه سنتين، واخر اربع سنين، وثالث سبع سنين، وهو أمر تترتب عليه العديد من الاحكام، لكن من حيث الفحص الطبي يمكن ان يتم الكشف عن الحمل او المولود إن كان يعود الى الزوج بعد الفراق او لا يعود اليه.
10ـ كما ان للواقع ان يقوم بدور الفاحص للكشف عن حقيقة الفتوى من جهة صدقها او امكانية ما تحمله من صور الموافقة والاتساق، كإن يثبت الفحص بأن الفتوى نسبية تتلائم مع بعض الظروف، او هي باطلة لا أصل لها، او انها ليست سليمة ما لم تتضمن بعض الشروط من المخصصات او المقيدات... الخ. ومن ذلك تعريض التقسيم الذي احدثه جماعة من الفقهاء حول التمايز في سن اليأس بين القرشيات والعاميات للفحص. فما زال الفقه الامامي يتبنى هذا التقسيم ويفرق جوهرياً في جانب من جوانب التركيب الطبيعي للخلقة بين المرأة القرشية والعامية، حيث يجعل من مدة اليأس لدى الأُولى تطول على مدة اليأس لدى الأُخرى بمقدار لا يزيد عن عشر سنين. كما الحق المفيد بالقرشيات النبطية، وتبعه في ذلك جماعة من الفقهاء، لكن على حد قول الشهيد الثاني انه لا يوجد خبر مسند لهذا الالحاق. ومع أن هذا الإعتقاد يعد غريباً باعتباره يضع فارقاً فريداً لنوع الجنس البشري تبعاً للنسب الديني؛ الا ان تاريخ الفقه إلى يومنا هذا يشهد غياباً تاماً لأي تحرٍّ قام به العلماء لفحص الواقع والتأكد من القضية. إذ من السهل إجراء عملية إختبار ومسح إجتماعي لعينة مختلطة من العاميات والقرشيات ليتبين إن كان هناك فارق ملحوظ فيثبّت في كتب الفقه، أم لم يكن فيزال منها بتسقيط الروايات التي يرتكز عليها ذلك الإعتقاد.
11ـ وكذا فان من خلال الواقع يمكن ترجيح بعض الفتاوى على البعض الآخر، استناداً الى قدر الموافقة معه. ويحضرنا بهذا الصدد الخلاف الدائر حول ثبوت الولاية على تزويج البكر الصغيرة. اذ اختلف الشافعي مع ابي حنيفة في ذلك. فكان ابو حنيفة يقدر ان المصلحة من ثبوت الولاية هو لدفع الضرر عن القاصر عقلها، ومنشأ هذا القصور هو بسبب الصغر في السن. لهذا يقاس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة لاتحاد المناط من مظنة القصور للصغر في السن. لكن في القبال ذهب الشافعي الى تقدير المصلحة في ثبوت ولاية التزويج على البكر الصغيرة هو لدفع الضرر عن الجاهلة بأمور الزوجية، وينشأ هذا الجهل بسبب البكارة او عدم السابقة في الزواج. لهذا يقاس على البكر الصغيرة البكر الكبيرة ايضاً. ويلاحط ان الملاك الذي يتحرك من خلاله كل من ابي حنيفة والشافعي هو ملاك دفع الضرر الناشئ عن قصور الجهل فيما يتعلق بامور الزوجية. ومن حيث الواقع نرى ان تحقيق هذا الغرض يتم عبر الخبرة والممارسة الحياتية، سواء كانت هذه الخبرة مباشرة كما في فعلية الزواج، او كانت غير مباشرة بسبب بلوغ مرحلة الرشد والوعي. وبالتالي فمن حيث الواقع ان ما يقوله كل من ابي حنيفة والشافعي لا يخلو من صحة طبقاً لتحقيق الملاك. ومن حيث المبدأ تكون الحاجة الى الولاية منحصرة في حالة البكر الصغيرة فحسب. اما الكبيرة فلا تحتاج الى ذلك خلافاً للشافعي، وربما الثيب الصغيرة لا تحتاج هي الاخرى لتلك الولاية خلافاً لابي حنيفة.
وعلى هذه الشاكلة وردت في مسألة نجاسة المتنجس او طهارته ثلاثة مواقف للفقهاء الشيعة: الاول افتى بتنجيسه، واليه يشار بقول الامام المعصوم: >يغسل كل ما اصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة<. والثاني افتى بالطهارة وعدم التنجيس، وفيه قال السيد الخوئي في (التنقيح): >ذهب الحلي ونظراؤه الى عدم تنجيس المتنجسات، بل ظاهر كلامه ان عدم التنجيس كان من الامور المسلمة في ذلك.. اما العلماء المتقدمون فلم يتعرضوا لهذه المسألة اطلاقاً.. ومعه كيف يدعى الاجماع على تنجيس المتنجسات؟<. ثم قال الخوئي: ان الاغا رضا الاصفهاني قال: >والحكم بالتنجيس احداث الخلف ولم نجد قائله من السلف<. اما الموقف الثالث فسكت عن هذه المسألة. وقد مال الى ذلك الشيخ مغنية.
وبحسب الواقع ان أرجح هذه الآراء هو الموقف الثاني. اذ لو صح الموقف الاول لتصورنا مدى العسر الشديد الذي كان يعانيه الناس في عصر النص وما تلاه من عصور حتى عصر الاصلاحات الحديثة. فغالباً ما كانت اسر العوائل كبيرة تبتلى بيوتها بكثرة النجاسة، وتشتد حاجتها للتطهير لكثرة النسل وقلة الموانع آنذاك، مع الاخذ بالاعتبار بساطة البيوت وتواضعها، وقلة الماء وبعد مصادره. الامر الذي يجعل من التطهير عملية شاقة وحرجة للغاية لا تتسق ومقصود الشرع.
كذلك انه من الناحية التاريخية يصعب تصور ان المسلمين كانوا يعانون العسر من الحكم السابق ومع هذا لم يصلنا شيء يُذكر عن هذه المعاناة. فكثرة المعاناة تدعو الى كثرة الحكاية والسؤال، مع انه لم يرد الينا شيء من ذلك، مما يدل على عدم وجود هذه المعاناة والحكم الذي يسببها.
وعلى هذه الشاكلة أثار السيد محمد حسين فضل الله بحثاً حول نجاسة المشرك كما في قوله تعالى: ((إنما المشركون نجس))، حيث رجح باعتبارات الواقع التاريخي ان هذه النجاسة ليست مادية، اذ يستبعد ان تكون كذلك دون ان يرافقها حالة وجدانية لدى المسلمين تنعكس على طبيعة تعاملاتهم وتساؤلاتهم في الوقت الذي كانوا في خلطة قوية مع المشركين، وذلك بفعل السبي والأسر والملكية. وبالتالي كيف لم يصلنا ذكر شيء من تلك الحالة وما يعقبها من التساؤلات باعتبارها مورد ابتلاء لكافة المسلمين؟ اذ ما ورد عن ذلك انما جاء متأخراً على لسان الأئمة ولسان المجتهدين المتأخرين.
أخيراً فان للواقع أهمية في مجال إدراك الاحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً الى هدي المقاصد الشرعية كما مرّ معنا.
الواقع ومبدأ الموافقة
ان ما أشرنا اليه من نماذج لاثر الواقع على ضبط الفتوى يدعو الى ضرورة تأسيس خطوات اجرائية تحقق المصالحة بين الحكم والواقع، وتجعل العلاقة بينهما لا تتخذ سبيل الطريقة المتبعة في اسقاط الاطباق الجاهزة. فهناك مرحلتان اجرائيتان يتحقق خلالهما معرفة العلاقة الجدلية بين الطرفين، احداهما قبلية والاخرى بعدية، وذلك كالاتي:
1 ـ المرحلة القبلية
تتحدد هذه المرحلة بخطوتين اساسيتين يسبقان ممارسة تنفيذ الحكم وتطبيقه، إحداهما تتعلق بدراسة الحكم واختباره من حيث ذاته قبل تنزيله الى الواقع، وذلك بلحاظ ما يحمله من قوة تشريعية في التطبيق الفعلي، وكذا ما يتوقع له من قابلية استشرافية على البقاء والموافقة مع الواقع. أما الخطوة الاخرى فتتعلق بدراسة الواقع والتعرف عليه عن كثب.
وتكتسب هذه العملية من دراسة الواقع أهمية خاصة لاعتبارين؛ احدهما ان بها يمكن الاهتداء الى تحديد موضوع الحكم بدقة، وهي مشكلة باتت مقررة لدى الفقهاء اليوم، فبدونها يصعب تحديد الحكم المناسب ومعرفته، حتى ان بعض القدماء كان يشكو من عجزه عن التجاوب في تأسيس الاحكام للحالات المصداقية موضع الابتلاء، وذلك على خلاف التأسيس النظري الكلي المنعزل عن لحاظ الواقع، حيث يكفيه ان يمارس عملية الاستنباط او الاجتهاد من المصادر النظرية المعتبرة. أما الاعتبار الآخر فهو من أجل معرفة درجة التوقع التي يحملها الواقع لامكانية التعايش والموافقة مع الحكم الذي يراد تنزيله اليه. الامر الذي يفيد في تجنب ما قد تفضي اليه عملية التنفيذ من فشل وما قد ينجم عن ذلك من أضرار وإحباط.
ويمكن ان نلاحظ ان القيام بالصيغة الاجرائية من المسح القبلي يتصف بالامور التالية:
1 ـ يلاحظ ان الخطوتين الاجرائيتين للمرحلة القبلية تكمل إحداهما الاخرى وتتممها. ذلك ان الواقع بحاجة الى حكم، وان الحكم لا فائدة منه بغير واقع، وان احدهما لا يصلح ان يزاوج الآخر ما لم يتم التحقق من إمكاناته الذاتية ليتم القِران بينهما بمودة وسلام.
2 ـ في دراسة الواقع يؤخذ بنظر الاعتبار دراسة الموضوع قيد البحث. كما يؤخذ بعين الاعتبار دراسة الروح العامة للعصر التي يتأثر في أجوائها ذلك الموضوع. مضافاً الى الدراسات الاستشرافية لتوقع ما سوف يفضي اليه حال الواقع، وذلك لما له من أهمية في تقدير ما يناسب من صياغة الاحكام، وما يمكن ان يؤول اليه الحال عند التنفيذ والتطبيق، وذلك كأستراتيجية يهدف من ورائها الضمان المستقبلي كما يلوح في الأُفق قدر الامكان. الامر الذي تتأكد فيه الحاجة الى العلوم الانسانية.
3 ـ قد تتسع دراسة الواقع وقد تضيق طبقاً لطبيعة الحالة المقيدة تحت البحث. فلا شك ان الحالات الفردية الخاصة لا تتطلب نفس القدر الذي تتطلبه الحالات العامة من الدراسة. وقد يقتضي الامر ان يكون البحث مستوعباً للمظاهر التاريخية التي تتشكل فيها الظاهرة قيد الدراسة وما يستتبعها من تطورات وتحولات. فمثلاً لو أننا اردنا اختبار مبدأ من المبادئ السياسية للتعرف على مدى صلاحيته ووفاقه مع الواقع، كمبدأ الشورى او ولاية الفقيه او التعددية الديمقراطية او غيرها من المبادئ، فان ما يلزم ليس فقط لحاظ الواقع الخاص الذي يراد تطبيق المبدأ عليه، وانما ايضاً لحاظ التجارب السياسية التي مرت بها البشرية عبر التاريخ. فلا شك ان ذلك يساعدنا على تقليص الممارسات الخاطئة او تجنبها عند التطبيق تحت ظل التجربة الجديدة.
قد يرى البعض لا ضير في جعل الاختبار الخاص بمبدأ معين - يراد الكشف عن سلامته وصلاحيته في التطبيق - منحصراً بحدود ذاته دون حاجة للحاظ الواقع ودراسته. ولعل أقرب تمثيل لهذه الدعوى هو مبدأ الشورى. ذلك ان النظر في مقومات هذا المبدأ يفي بحالة الكشف عن سلامته وصلاحيته، سواء من حيث الاعتبار التشريعي، او من حيث ذاته وبغض النظر عن هذا الاعتبار. فمن حيث الاعتبار التشريعي ان القرآن الكريم نصّ عليه صراحة، وان السنة النبوية ومن بعدها الخلافة الراشدة كلاهما قاما بتطبيقه على اكثر من صعيد. أما من حيث ذات مبدأ الشورى، فهو ان فحصها يجعلنا ندرك انها مبدأ صحيح وصالح في الحياة، سواء الخاصة منها او العامة. فاستشارة الجماعة يزيد في المعرفة والاحاطة والتنبه. وبالتالي فطالما كان المبدأ مستحسناً ومقبولاً ولو لم نختبره الاختبار المباشر في الواقع؛ فان ذلك يكفي لاقرار صلاحيته في التطبيق دون حاجة لدراسة الواقع ومعرفة تفاصيله.
على ان هذه الرؤية صحيحة من حيث النظر في المبدأ ذاته، لكن الحال لا يتعلق به وحده، بل يضاف اليه لحاظ طبيعة ما عليه الواقع موضع التطبيق. فرغم شرعية المبدأ وعقلانيته، الا ان ذلك لا يضمن نجاح تطبيقه على الواقع عند الاسقاط. فعلى الاقل ان الارضية التي تناسب نجاح هذا المبدأ هي ارضية ينبغي ان تتصف بقدر كاف من الحرية والجرأة والوعي. فالمجتمع الذي يفتقر الى مثل هذه المقومات قد لا يستفيد من تطبيق هذا المبدأ، بل ربما يصبح من المناسب اخضاعه الى سلطة تتصف بقدر ما من الفردية والاستبداد، وليس العيب في الشورى وانما في الواقع ذاته.
ومن الناحية المبدئية ان الالتزام والتمسك الاطلاقي بالمبادئ المعلنة، على نحو الشورى وولاية الفقيه والسلفية والديمقراطية والليبرالية والماركسية وغير ذلك من المبادئ؛ هو التزام متعال لا يأخذ الواقع بنظر الاعتبار. فنحن إما أنصار هذه او تلك دون أن نسأل أنفسنا عن مدى موافقة ذلك للواقع الذي نريد تطبيق المبدأ عليه؟
وبخصوص النظام الديني نحن نعلم ان الاسلام لم ينجح لولا مراعاته للواقع وتوفيته لشروط التفاعل والجدل معه، كالذي يتبين من موارد النسأ والنسخ والتدرج في الاحكام. وعليه كيف يُعقل ان يؤخذ بمبدأ شمولي او نظام مطلق ويطبق على جميع المجتمعات دون أخذ اعتبار الخصوصيات الذاتية لها؟ ويمكن أن نتصور حجم الفارق فيما لو وضعنا نظاماً اسلامياً على النمط السلفي وطبقناه على المجتمع الغربي، وفي قباله وضعنا نظاماً غربياً صرفاً وطبقناه على المجتمع الاسلامي الملتزم، فكيف تكون النتيجة والحال هكذا؟!
لذا فأول ما ينبغي فعله هو اصلاح الواقع وتزويده بجرعة من الاحكام تتناسب وحجم الاصلاح. فيمكن تصوير الواقع بالكائن الحي الذي يمر بحالات مختلفة من الطفولة والبلوغ والصحة والمرض والنشاط والخمول والنمو والذبول وغير ذلك من الحالات والمراحل. ولا شك انه ليس من النافع تزويد هذه الصور المختلفة بصنف واحد من جرعات الدواء والغذاء، والا فقد الكائن حياته. فمثلاً لو كان الكائن صحيحاً معافى فسوف لا يحتاج الى دواء، والا انقلب الدواء الى داء. ولو كان الكائن مريضاً فلا غنى من ان يُقدم اليه نوع من الدواء يناسب ما عليه المرض. وبالتالي فان اول ما يحتاج اليه الكائن هو الفحص لتشخيص حالته وتقديم ما يناسبه من علاج.
4 ـ من الناحية المنطقية ان المسح القبلي السالف الذكر لا يتحقق طبقاً للاجواء والشروط التي تفرضها العقلية التقليدية من الفهم الاجتهادي، وهي العقلية التي تتخذ النهج الماهوي وقوالب اللزوم والاطلاق محوراً جوهرياً لمنظومتها الفكرية. فالحال الذي ذكرناه لا يتسق الا مع التسليم سلفاً بالنهج الوقائعي والطابع الارشادي بعيداً عن الصيغ الماهوية من التعبد والاطلاق.
2 ـ المرحلة البعدية
تأتي هذه المرحلة كخطوة مكملة لخطوة المسح القبلي الذي فيه يتم التعريف بكل من الحكم والواقع قبل عملية المزاوجة. اما المرحلة البعدية فتستهدف الكشف عن حقيقة الامر بعد عملية التنزيل والتطبيق، وذلك بلحاظ ما يتم من العلاقة الجدلية بين الحكم والواقع. فهي على هذا خطوة محك وفحص واختبار يراد منها التدقيق في مدى الموافقة على المعايشة بين الطرفين المتزاوجين، وبالتالي فانها نافعة في تصحيح مسار العلاقة الزوجية الى الحد الذي يتحقق فيها أكبر قدر ممكن من الموافقة. ففائدتها تتجلى في اعادة الفحص والنظر عند ضعف التوافق وانعدامه، وذلك لبحث مصادر الخلل والاسباب التي تقف وراءه، فهل الأمر يعود الى الواقع، او الى الحكم، ام لسوء التطبيق؟
هكذا يلاحظ أننا ننهج استراتيجية جديدة تبتعد عن اشكالية >الحجية< التي تعول عليها الطريقة التقليدية كمحك للقبول والاعتبار. ذلك ان اشكاليتنا الجديدة تقبل النمط الاجرائي بما يتضمن الفحص الذي يحقق مبدأ القبول وعدمه تبعاً للموافقة. فاذا كان القبول وعدمه لدى الطريقة التقليدية يتوقف عند صيغة البحث الاستنباطي الذي يكشف عن الطبيعة الشرعية والسلامة الفقهية للقضية المطروحة، وهي التي يطلق عليها الحجية؛ فان الوضع بحسب مبدأ الموافقة لا يقف عند ذلك الحد. فصحيح انه لا بد من احراز عدم الممانعة الشرعية بالشكل المرن الذي لا يتضارب مع الواقع ومرونته؛ الا ان ذلك لا يفي بالحاجة، طالما ان القضية ما زالت متعالية على الواقع وان من المحتمل ان تتصادم معه عند الاسقاط والمزاوجة، لذا كان لا بد من انتهاج استراتيجية اخرى تبتعد عن الصورة الاصولية التقليدية التي ترمي شباكها لهدف تحقيق الحجية، حيث من وجهة نظرها انه لو تحققت الحجية لكان ذلك اجتيازاً لقنطرة الفحص والاختبار، وبالتالي جاز لها دخول حلبة الواقع من غير فحص ولا رقابة او محاسبة. في حين ان جوهر القضية يعود الى اشكالية الموافقة مع الواقع وسلامة المزاوجة بين الطرفين، وليس الى البحث الخاص بالحجية والظنون المعتبرة التي تمرست عليها الطريقة التقليدية، بدلالة انه ليس كل ما هو حجة او مقطوع في شرعيته - من حيث الاصل - يقبل الموافقة دائماً، والا فكيف نفسر حالات الصدام التي تعرضت لها الكثير من الاحكام عند اسقاطها على الواقع؟! وهو الامر الذي جعل الفقهاء المحدثين في حيرة من أمرهم، فتارة تراهم يعتذرون بدعوى الضرورة والاضطرار، واخرى بدعوى لزوم التدرج في الاحكام والعمل طبقاً للأولويات، وثالثة بالفات النظر الى ضرورة التحقيق في موضوعات الاحكام، وغير ذلك من الدعوات التي ليست هي علاجاً حقيقياً للمصالحة بين الحكم والواقع، خاصة اذا ما أخذنا باعتبار ما يمر به هذا الواقع من حالات واطوار مختلفة كتلك التي صورناها لدى الكائن الحي. الامر الذي يؤكد دعوتنا فيما طرحناه من مبدأ الموافقة وما يتضمنه من مرحلتين اجرائيتين من الفحص والاختبار.
ونشير اخيراً الى اننا استخدمنا مفهوم الموافقة عوضاً عن مفاهيم اخرى كالمطابقة والتأييد والقابلية على التحقق والنجاح وما اليها. ويعود ذلك الى ان مفهوم الموافقة هو مفهوم نسبي، يتسق والحالة التي نعالجها في ظل الاوضاع الاجتماعية وملابساتها. فالموافقة قد تقوى وقد تضعف، وقد تزداد او تنقص، وهي قد تتحقق في جوانب دون أخرى من القضية الواحدة، وقد تكون هذه اهم من تلك او العكس. لذلك فان اجراء هذا المبدأ في مثل هذه الصور يختلف تماماً عما يصاغ مع القضايا العلمية الطبيعية التي تتخذ طريقها نحو مبدأ القابلية على التحقق والتأييد وما اليه.
هكذا لسنا بحاجة الى التذكير بأن ما يلزم على الفقهاء هو القيام بصياغة قانونية لمبدأ الموافقة ضمن المطارح الاصولية، وذلك فيما لو اصبحوا على استعداد لتقبل هذه الرؤية الجديدة من الفهم الوقائعي، بدل ما اعتادوا عليه من الفهم الماهوي المجرد!
***
ننتهي من كل ما سبق ان للدلالة الواقعية اهميتها في الكشف عن مقاصد الاحكام وتغييرها. الامر الذي يفضي الى اتخاذ الواقع كمعيار لاختبار الاحكام في الموافقة والمخالفة، وبالتالي كان لا بد من توظيف الدراسات الانسانية الحديثة في كشفها عن حقائق الواقع وسننه وحاجاته. فهذا هو ما يبرر عقلانية التشريع والاجتهاد معاً، وبغير ذلك ينقلب الامر الى ضده.
كما ننتهي الى ان عرضنا السابق يكشف لنا عن ثغرتين اساسيتين لحقتا بطريقة الاجتهاد التقليدية: الاولى هي انها استناداً الى النهج الماهوي أبعدت الواقع من أن يكون له اثر في تشكيل الحكم، اذا ما استثنينا بعض الموارد الهامشية، الامر الذي جعلها تتلقى - باستمرار - العديد من الصدمات اطراداً مع تحولات الواقع. فعلى الاقل قد تبين لنا عجز النظام المعياري من مواجهة بعض القضايا التي لها ارتباط بتحديد الواقع. حيث ان هذا الارتباط يجعلها في حالة من التعارض والتغاير باستمرار، ومن ثم التنافي مع ما عليه مقاصد الشرع، طالما لم تؤخذ الدلالة الواقعية بعين الاعتبار، وذلك لما تشكله هذه الدلالة من وساطة في التوفيق بين الاحكام ومقاصدها الكلية. وهو امر يعبّر عن الحاجة لتشكيل مؤسسات للعلوم الانسانية تعمل على تحديد الموضوعات التي تناط بها الاحكام، وهي بلا شك تعمل على ابراز موضوعات جديدة لا قبل لها في السابق وإن بدت وكأنها ذات الموضوعات التي تعلّق بها الخطاب الشرعي.
أما الثغرة الاخرى فهي ان هذه الطريقة بقدر ما وضعت عنايتها ازاء الجزئيات من التشريع بقدر ما ابعدت حالها عن النظر الى كليات التشريع المعارضة. ذلك ان تزاحم جزئيات الاحكام قد غبشت الرؤية عن الكليات العامة منها.
ويمكن اعتبار هذه الحالة جارية لدى الغالب ممن يحصرون تفكيرهم وسط تزاحم الجزئيات؛ التي تشكل مختلف موارد الحياة الانسانية، بما فيها دائرة العلوم الطبيعية. وواقع الامر ان التعارض بين الكلي والجزئي يفترض على الاقل بطلان أحدهما، لكن حيث انه من غير المعقول التخلي عن الكلي لضرورته، فان البطلان المفترض انما يكون بالنظر الى الجزئي، وهو بطلان لا يعني بالضرورة بطلاناً مطلقاً، وانما قد يكون بطلانه من حيث طبيعة علاقته النسبية بالواقع. بمعنى انه إما أن يكون باطلاً على نحو الاطلاق، او يكون باطلاً بالنسبة لوضع ما من الواقع دون آخر. فنحن هنا اشبه ما نكون ازاء ما يلاحظ احياناً من وجود تعارضات بين النظريات العلمية ككليات مسلّم بها وبين ما يعترضها من شذوذ في المصاديق. ذلك انه في هذه الحالة إما ان تكون النظرية خاطئة، او ان المصداق يخضع لظروف خاصة يحتاج فيه الى تفسير يجعله يتسق مع النظرية. هذا إن كان للمصداق حقيقة لا تنكر. ففي مثل هذه الحالة ليس من السهل التخلي عن النظرية إن كانت مدعمة بشواهد كثيرة مقنعة من غير منافس، انما يجري الامر اتجاه ما يمكن تفسيره للوضع الخاص بالشذوذ كي يطابق النظرية، طالما ان الخطأ لا بد وأن يكون في أحدهما، والمعول عليه ولا شك هو تفسير الشذوذ تبعاً لافتراض ما يناسب مطابقته للنظرية إن أمكن ذلك، او رد النظرية بنظرية اخرى منافسة إن استطاعت تفسير الشذوذ، ومن ذلك ان العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الاولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كذلك انهم لم يطروحها ارضاً رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، وانه قد انقضت عدة عقود على قبول هذا الشذوذ حتى اعتبرت شاهداً مكذباً للنظرية، خصوصاً وقد ظهرت هناك نظرية اينشتاين كمنافسة استطاعت ان تفسر كل ما فسرته نظرية نيوتن، بل وفاقتها في تفسير ما لم تستطع تفسيره من الشذوذ. وقد اصبح من المعروف ان النظرية يمكن ان تبقى مقبولة حتى لو كان هناك دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في النواحي الاخرى. وكما يقول همبل بأن هناك شواهد عديدة في العلم تبين ان التصادم بين النظرية التي تتمتع بقوة عالية للتأييد مع قضية تجريبية انما يحل من خلال الغاء اعتبار هذه القضية بدلاً من التضحية بالنظرية. فقط يمكن طرح النظرية عندما تكون نظرية مفردة تتضارب مع الشواهد الخارجية وليس لها قابلية عالية على التفسير في النواحي الاخرى. وبالتالي فانه بخصوص النظريات ذات التأييد العالي، وهي التي تتمتع بقدرة تفسيرية عالية في عدد من المجالات، يكون التعامل معها ليس من حيث الصدام بينها وبين الحقائق الخارجية، بل بينها وبين سائر النظريات الاخرى المنافسة لها. مما يعني ان النظرية المفردة البسيطة تحكمها الحقائق الخارجية وهي قابلة للتفنيد والاستبدال تبعاً لها، اما النظرية ذات التأييد العالي فانها هي التي تحكم الحقائق الخارجية من خلال تفسيرها، وانه عند التعارض بينها وبين بعض من هذه الحقائق فان الرفض يكون لهذا البعض وذلك عن طريق اعتباره وكأنه شيء غريب.
وشبيه بهذا الحال يصدق عندما نجد معارضة بين الكلي وبين الجزئي من الاحكام، حيث لا يعقل اطراح الكلي لأجل التمسك بالجزئي إن لم يكن هناك منافس آخر للكلي المعلوم، انما المعقول هو تفسير الجزئي بما يجعله متفقاً مع الكلي، وبهذا يُحافظ على كليهما، وذلك من خلال وساطة الدلالة الواقعية، كما هو واضح مما اجريناه من نماذج وأمثلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق