مؤسسة الانتشار العربي

بيروت 2002

جدلية الخطاب والواقع


إحياء.. تجديد.. اصلاح..

ثلاثة عناوين كثيراً ما ترفع بين الحين والاخر من قبل العلماء والمثقفين الاسلاميين وهم بصدد البحث في خصوص الفكر الاسلامي. والعناوين تتقاطع في نقاط معينة من مدلولاتها. فالاحياء يبحث عن المساحة المعرفية المغمورة في تراثنا الفكري ليعيد اظهارها من جديد. فما يبحث عنه انما هو موجود، وكل ما يتطلبه الامر هو استخلاصه من وسط الركام الذي يغطيه، من غير أن يسمح لنفسه أن يضيف اليه شيئاً جديداً معتداً به.

أما التجديد فيبحث عما هو جديد ليلبّس به الفكر الاسلامي دون ان يكتفي باخراج ما تم غمره من معرفة مطلوبة وسط الركام كما يفعل الاحياء، وانما يضيف الى ذلك محاولات التوفيق التي يفسر فيها القضايا المستحدثة من غير أن يغير في صيغة الجهاز المعرفي المعتمد عليه من قبل، وبذلك فانه يسعى نحو الاظهار بمظهر اللياقة المناسبة للعصر وما يترتب على ذلك من ابراز الحلل الجديدة. هذا اذا ما استثنينا تلك النزعات التي ترفع شعار التجديد وقصدها العلمنة والتغريب.

في حين ان الاصلاح هو أمر مختلف. ذلك انه يفترض وجود خطأ أساس في الفكر الاسلامي (التقليدي) لا بد من تسليط الضوء عليه لكشفه ومعالجته. فهو لا يفترض هذا الجهاز من الفكر خلواً عن الخطأ مثلما هو الحال مع الاحياء والتجديد، بل انه يبرز ذلك المعنى ويسعى نحو اصلاحه من خلال ذات الأداة الاسلامية. الامر الذي لا يخرجه عن دائرة ما يبحث فيه، وإن عدّ بديلاً عن غيره، طالما ان آليات الفكر الاسلامي هي آليات اجتهادية غرضها بالدرجة الرئيسية فهم النص او الانشغال بفهمه.

ولا نخفي اننا من الذين يدعون الى الاصلاح، وليس مجرد الاحياء والتجديد. ذلك ان المعادلة التي تجعلنا ننحو باتجاه الاصلاح يمكن تلخيصها عبر العملية المنطقية التالية:

إما أن الفكر الاسلامي التقليدي صحيح منهجياً او لا..

لكن إن كان صحيحاً فلا أقلّ أن تكون اجهزته التوليدية تتفق في ممارساتها المعرفية مع الواقع وتتسق معه.

وحيث انها ليست على اتفاق واتساق مع الواقع، لذا لا بد ان يكون فيها خطأ جذري من الناحية المنهجية وما يترتب عليه من نتائج ومضامين.

هذه هي المعادلة التي التمسناها خلال البحوث التي نقدمها بصدد الفكر الاسلامي. ونحن في البحث - الذي بين أيدينا - سنكشف عن هذه الثغرة من الخطأ المنهجي، دون أن نتعلل بالعلل الوهمية، او نبقى حالمين بنشوة ما حققه فكرنا من مكاسب معرفية كما أسداها اسلافنا من العلماء الصالحين رحمهم الله تعالى وأرضاهم. ذلك انه لا يجدينا أن نظل مرددين لهذه المكاسب أو نتخذها نموذجاً للعصمة والتقديس فيمنعنا ذلك من تجشم عناء البحث في الكشف عما تنطوي عليه من اخطاء وثغرات منهجية. فغني عن البيان انه لابد من الفصل بين تقديس الشخصية وتقديس الفكرة النابعة عنها، فلا يلزم من أحدهما الآخر. بل كل ما يمكن قوله هو أننا نقدر الاخلاص الديني والجهود العلمية المضنية التي بذلها أجدادنا من العلماء والفقهاء وما أفادونا به من ثراء معرفي ما كان باستطاعتنا ان نفعل شيئاً ذا أهمية بدونه. فنحن نعترف بأننا نقف كالأقزام أمامهم، لكنا مع هذا نمتلك من السلاح المعرفي ما لم يمتلكوه، يكفينا في ذلك ما تحقق لنا من تطور >الواقع< واستكشاف أساليب جديدة للبحث، وهي أساليب تجعلنا نعيد النظر فيما كان مطروحاً من قبل. الامر الذي يجعل خلافنا محدداً بالأساس مع الطريقة المتبعة للتفكير. فنحن وإن لم نرفض كل ما طرحه القدماء، بل لا يسعنا ذلك أبداً، كما أنّا نثمّن الكثير من عطائهم المعرفي واستكشافهم الحقائق التي لا زال أثرها عامراً حتى يومنا هذا، لكنّا مع هذا نشكل على الطريقة التي مارسوها من الفهم والتفكير، والتي تبيّن لنا اليوم انها ليست مصدراً موثوقاً به في بناء المعرفة وكشف الحقيقة، فضلاً عن أن تكون أداة صالحة يعتمد عليها في علاج مشاكل الواقع. فهذا هو أساس ما نشكل عليه. وبالتالي ليكن القارئ الكريم على حذر من الخلط؛ حينما نعتمد احياناً على ما أنتجوه من فكر نراه صائباً، وما نخالفهم عليه من طريقة أودت بهم في المقابل الى الكثير من النتاج الخاطئ والميت.

وعليه فالذي يتطلب منا فعله هو إجراء خطوة اخرى تصحح مسار الخطوة التي أقبل عليها سلفنا الصالح من قبل، وذلك بتسليط الضوء على الطابع المنهجي الذي امتازت به طريقتهم وتحديد نقاط الضعف فيها ومن ثم العمل على بناء الطريقة المناسبة التي تتفق مع مقتضيات كل من الخطاب والواقع. فباتفاقها مع مقتضى الخطاب يجعلها متمسكة بطابعها الاسلامي، كما ان باتساقها مع الواقع يجنبها نكران حقائق الخلق والتكوين. والعملية ليست جمعاً بين ما يعرف اليوم بالتراث والحداثة، او الاصالة والمعاصرة. فالخطاب ليس من التراث، وانما هو من ابرز مكوناته. كما ان الواقع لا يمكن حصره وتضييقه بمجرد الحداثة والمعاصرة، بل ان هذه الالفاظ لا تخلو من ان تستبطن الحوافز الايديولوجية التي تقف حائلاً دون عملية التقويم العلمي للمعرفة، وهي العملية التي يفترض فيها تجنب الانزلاق والرضوخ سلفاً لحالات المصالح الزمنية، كتلك التي تؤكد على منطق المنفعة العصرية. ذلك ان الامر لا يحسم الا بالنظر الى الواقع في جميع أبعاده وتشكيلاته، بما في ذلك الواقع الاستشرافي الخاص بما لم يتم تحققه بعد.

ونشير الى انّا سنبرز دور الواقع في فهمنا للقضايا الاسلامية على نحوين مختلفين؛ احدهما عبارة عن تأكيد هذا الدور كحقيقة موضوعية يبعث على تغايرات فهم النص طبقاً لتحولاته وتجدداته المتوالية، وهو أمر لا يستند الى منهج محدد، باعتباره يعبر عن حقيقة خارجة عن الارادة التصورية لذهن الباحث. أما النحو الآخر فهو يعبر عن هذه الارادة بتوظيف منطلقات الواقع ومضامينه باتجاه فهم النص ذاته، وذلك طبقاً لمقاييس النظر في الواقع. لهذا فهو يستند الى منهج محدد يقوم على الرصد والوعي والمتابعة. بل يمكن القول ان غرضنا من البحث هو اعادة ترتيب العلاقة بين النص والواقع وسوقها في الطريق السليم، وذلك بقلب التصور التقليدي الذي يجعل من >النص< أصلاً يُلجأ اليه في فهم الواقع وحل معضلاته، الى تصور آخر مضاد يكون فيه الواقع مرجعاً يُحتكم اليه في فهم النص وحل اشكالياته. ولعل هذين التصورين المتغايرين يعبر كل منهما بطريقته الخاصة ضمناً عن شكل الأزمة وطريقة علاجها. فالأزمة بحسب التصور الأول هي أزمة واقع ليس للنص فيها دور او دخالة، على عكس التصور الآخر الذي يذهب الى انها محددة - من حيث الأساس - بفهم النص ومن ثم أفضت الى أزمة الواقع.


محتويات الكتاب

مقدمة

القسم الأول: تحديدات منهجية

الفصل الأول: النص.. الواقع.. العقل

النص

الواقع

العقل

الخطاب والحجج الثلاث

النص والحاجة الى الدلالة الواقعية

الفصل الثاني: بين التفكير الماهوي والوقائعي

القسم الثاني: الواقع وفهم الخطاب (1)

الفصل الثالث: البعد الحضاري وفهم النص

الفصل الرابع: التعارضات الاطلاقية والفهم النسبوي للنص

النموذج الأول

النموذج الثاني

ملاحظات نقدية

النموذج الثالث

المحور الموضوعي

المحور الحكمي

القسم الثالث: الواقع وفهم الخطاب (2)

الفصل الخامس: النسخ في الخطاب

ما هو النسخ ؟

النسخ ودوران العلة

الفصل السادس: التشريع ومغايراته

1ــ مغايرات التشريع في العصر النبوي

النبي ومبدأ ولاية الأمر

النبي وممارسة النسخ

2ــ مغايرات التشريع في عصر الخلافة الراشدة

الفصل السابع: التغيير الفقهي وأنماطه

1ــ وحدة الدليل الاجتهادي

2ــ تعارض الدليل الاجتهادي

3ــ التعارض مع النص

أــ الواقع وتخصيص الحكم

ب ــ الواقع وتغيير الحكم

الفصل الثامن: اشكالية تغيير الأحكام

مشاكل الطريقة التقليدية

موضوع الحكم وتحليل عناصره

مخاطر القول بمبدأ جواز تغيير الاحكام

الرد على الشبهة الاولى

الرد على الشبهتين الثانية والثالثة

الرد على الشبهة الرابعة

الرد على الشبهة الخامسة


ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار