منهج الفهم المجمل والمقاصد


يحيى محمد

ان من مقتضيات العمل بالمقاصد اتباع مسلك الفهم المجمل وطرح ما يقابله من الفهم المفصل. ولأجل التعرف على ماهية هذين المسلكين يجدر ان نتعرف اولاً عن المقصود بالمجمل والمفصل. فما هو المجمل وما هو المفصل؟

مفهوم المجمل ومشكلة التعريف

لعل اول ما يواجهنا من مشكل بصدد التعريف انه ليس هناك تعريف يمكن اتخاذه لتحديد القضايا الخارجية تحديداً تاماً يتطابق فيه الأمران تطابقاً كلياً. وبعبارة اخرى يمكن القول انه يستحيل القيام بتعريف تام جامع مانع، فهو وإن تطابق مع جملة من المصاديق الا انه يمكن ان يكون حاملاً لمصاديق اجنبية من جهة، بل ويعجز من جهة اخرى عن التطابق مع مصاديق اخرى يفترض دخولها فيه. فضلاً عن ان التعريف مهما كان فانه يظل حاملاً لبصمات الاجمال. فطالما ان القضايا الخارجية منزوعة من الواقع، وان الواقع يشتمل على تغايرات غير محصورة، او لا يمكن حصرها، فان التعريف الذي يقابلها لا يمكن حصره هو الاخر. اي انه لكي يتحدد التعريف لغوياً ويكون مطابقاً للقضية الخارجية؛ لا بد من ان تتطابق الدلالات اللغوية مع التغايرات الواقعية، لكن حيث ان هذه التغايرات غير محصورة ولا تقبل التناهي لذلك فان التعريف الذي يقابلها لا يمكن ان يطابقها ما لم يحمل دلالات لغوية غير متناهية هي الاخرى، الامر الذي يستحيل فعله. وبالتالي فان التعريف مهما كان فانه يظل ناقصاً، او هو ليس بجامع مانع، وانه كذلك يحمل بصمات الاجمال ويلبس لباس المتشابهات.

وهذا الذي قلناه ينطبق على الفكر ايضاً. فهو محدود ونسبي في علاقته بالموضوع الخارجي، حاله في ذلك حال اللغة ذاتها، حيث لا يمكنه الاحاطة الكلية بالواقع، ولا يسعه التعبير عنه كما هو، وبالتالي فانه يقع في ذات المشكل من النقص والاجمال، واذا كان يمكن تخفيف هذا المشكل بزيادة المعرفة وتصحيحها اكثر فاكثر؛ فان مما لا شك فيه انه لا يمكن القضاء على هذا المشكل كلياً، طالما ظلت ابعاد الفكر محدودة لا يمكنها مسايرة ما عليه الواقع.

على ان الاجمال الذي يتمشكل به التعريف يصدق في حالتين: احداهما ان عناصر التعريف ومضامينه هي بدورها لو اردنا تعريفها لكان من المحال ان نصل الى نهاية محددة، او انه لا توجد نقطة مركزية مفصلة تفصيلاً مطلقاً يمكن الاستناد اليها. ومن ثم فليس امامنا سوى الاعتماد على المجمل، وهو امر يصدق مع كل تعريف. كذلك فان التعريف وإن تطابقت مضامينه مع بعض المصاديق الا انه يواجه التباساً مع مصاديق اخرى؛ تلك التي تشكل الحدود الوسطى او التي تقف بين حدين من انواع المصاديق.

إذاً هناك ثلاث مشاكل تنتاب التعريف، نجملها كالاتي:

1 ـ مشكلة النقص وعدم وجود تعريف جامع مانع للقضايا الخارجية.

2 ـ مشكلة عدم وجود حد مفصل يبتدئ منه التعريف، وتتركب عليه سائر التعريفات للقضايا، سواء كانت قضايا خارجية او تجريدية مطلقة.

3 ـ مشكلة الحدود الوسطى التي تجعل من التعريف بالقضايا الخارجية ملتبساً ومتشابهاً ازائها.

ويمكن ايضاح هذه المشاكل الثلاث من خلال المثال التالي:

عادة ما يعرّف الانسان بانه حيوان عاقل. وواضح ان التعريف يشتمل على الناس الناضجين عقلياً، لكن السؤال المطروح بهذا الصدد: ماذا بشأن المجانين والاطفال الصغار من الناس؟ فالتعريف لا يشملهم، وهو بالتالي ليس بجامع ما لم نعتبر هاتين الفئتين لا تدخلان ضمن مفهوم الانسان. وهو امر مشكل باعتبار ان النفس البشرية نفس واحدة، فكيف ينقسم بعضها ضمن ماهية والبعض الاخر ضمن ماهية اخرى؟!

ومثل ذلك لو افترضنا وجود كائن ليس كهيئة الكائن البشري الا انه يفكر ويعقل بطريقته الخاصة فهل نعده مندرجاً ضمن مفهوم الانسان ام انه نوع اخر مختلف؟ لذا لو قلنا اننا نلتزم بصيغة التعريف كما هي ونصادق عليها كل ما نجده يدخل ضمن هذه الصيغة ونخرج منها ما لا يدخل فيها؛ لأصبحنا - في هذه الحالة - نفترض ماهيات كلية مستقلة قد تعمل على تفريق ما لا ينبغي تفريقه وجمع ما لا ينبغي جمعه. اي انها ربما تدخل مصاديق ذي ماهيات مختلفة تحت ظل التعريف وتخرج مصاديق تعود الى ماهية واحدة، وبذلك نكون لسنا بصدد تحديد القضايا الخارجية والكشف عن حقائقها، وانما بصدد صياغات ذهنية ولغوية مفترضة. فهذا هو ما يبرر اعتبار كل تعريف ناقصاً لعدم كونه جامعاً مانعاً.

من جهة ثانية كيف يمكن تحديد الحدود الفاصلة التي تميز بين ما هو انسان وما هو غير انسان، فمثلاً ما هو الحد الفاصل في درجة الادراك ليكون الكائن انساناً او غير انسان؟ هل الجنين من الانسان؟ وهل الطفل الرضيع منه؟ والى اي حد يبلغ فيه الطفل النضج العقلي حتى ندخله في حضيرة الانسان، هل في ادراك الجزئيات ام الكليات؟ ثم متى يمكنه فعل ذلك؟ وماذا نقول لو وجدنا كائناً اعلى مرتبة في الادراك من مرتبة القرود، لكنه اقل مرتبة من ادنى الناس تعقلاً، فهل نعده يدخل ضمن مفهوم الانسان ام لا؟

قد يقال ان تحديد مفهوم الانسان يمكن تشخيصه عبر ما يحمله من عدد الصبغيات (الكروموسومات) الوراثية الثابتة. ذلك انه في هذه الحالة يتمايز عن كل الكائنات الحية الاخرى مثلما يتمايز عن المادة الجامدة. لكن تبعاً لهذا المقياس تكون بيضة الانسان المخصبة هي ذاتها مما يشملها المفهوم، وذلك لحيازتها نفس العدد، وهو امر غير معقول. وكذا نحن نعلم ان كل خلية من خلايا جسم الانسان تحمل نفس هذا العدد الثابت؛ فهل يعقل ان يكون كل منها مندرجاً تحت سقف المفهوم السابق؟! نعم قد يقال ان في الامر شرطاً وهو ان يكون الكائن مستقلاً وحاملاً لهذا العدد. وهنا نرى ان هناك مشكلة في الاستقلالية ودرجاتها مما يجعلنا نقع في نفس المشكلة من الحدود الوسطى. فهل الطفل الرضيع يعد كائناً مستقلاً لمجرد خروجه من بطن امه او انه ليس بمستقل باعتبار ان حياته متوقفة على الحاضنة التي تشبع حاجاته الاساسية من الغذاء وغيره؟ وهل البيضة المخصبة التي تزرع في انابيب صناعية خارج الرحم تعد مستقلة بهذا الاعتبار ام انها ليست مستقلة لعدم الاكتمال الجسمي؟ وهل الميت نعده انساناً، حتى وهو لا زال يحمل ذلك العدد من الكروموسومات قبل موت الخلايا الجسمية، او هو غير انسان لفقده عنصر الحياة والروح؟ هكذا فمن هذه الناحية ان تحديد المفهوم هو تحديد مجمل غير مفصل.

كما من جهة ثالثة، يلاحظ ان عناصر التعريف تحتاج بدورها الى تعريف. فالحيوانية والعقل كل منهما ينطوي على قضايا متفرعة تحتاج الى تعريف حتى نقع في الانتهاء الى سلسلة غير منتهية من التعريفات. فمثلاً ان تعريف الحيوان لو اعتبرناه عبارة عن جسم ذي حياة ويتصف بجملة خصائص كالحركة والنمو والتكاثر وغيرها، لوجدنا ان كل من هذه العناصر تحتاج بدورها الى تفريعات من التعاريف غير المنتهية. فمثلاً بخصوص الجسم هل يقصد به انه عبارة عن كل مادة لها ابعاد ثلاثة من الطول والعرض والارتفاع؟ لكن ماذا بشأن المواد الذرية والاشعاعات وغيرها؟ ثم ماذا نعني بالمادة، وكذا الابعاد الثلاثة.. وهكذا يمكن ان ننجر الى سلسلة غير منتهية من التحديدات.

ففي هذه الحالة نجد هناك مشكلة منطقية تجعل من التعريف غير ممكن، اذ كيف يمكن تأسيس تعريف مفيد اذا ما كان كل تعريف ينطوي على ما لا نهاية له من التعاريف الضمنية؟

لكن مع ذلك نرى ان هذا الاشكال يصدق فيما لو اردنا تعريفاً دقيقاً ومنضبطاً غاية الدقة والانضباط. أما اذا كنا نكتفي بتعريف ينطوي على قبول مصاديق مسلّم بها او مشار اليها بالحس او المعنى فان ذلك سيتجاوز تلك المشكلة رأساً. فمثلاً اذا اردنا ان نحدد مفهوماً معيناً مثل مفهوم (الكلب)، فان ما يجعلنا نتجاوز تلك المشكلة هو فيما لو اخذنا بنظر الاعتبار ان ما نقصده من مفهوم هو ان يكون متضمناً على الاقل تلك المصاديق من الكلاب المألوفة التي تتصف بصفات حسية معلومة كهيكلها العام وكونها من آكلات اللحوم وذات اصوات نابحة ولها عدد محدد من الازواج الكروموسومية وما الى ذلك. فهذا هو الحد الادنى من مقصودنا بالكلب، وهو حد يضمن لنا ان نتحدث عن ماهية او مفهوم معين نتفق عليه بلا اختلاف ومن غير حاجة الى دقة مفهومية او لغوية، حيث العبرة بتلك الاشارة الحسية او المعنوية التي يستلهمها الذهن البشري والتي تشكل حجر الزاوية من التفاهم وصنع المفاهيم، وإن كنا نواجه فيما عدا هذا الحد من الاشارة المصداقية مشاكل مختلفة كالتي سبق ذكرها. وبالتالي يتحتم اعتبار المفاهيم مجملة لا تخضع الى حدود التفصيل المتناهي.

إذاً مرد التعريف اصبح يعود الى الاشارة المصداقية المحدودة من الحس او المعنى التي يتفق عليها الناس، ولولا هذا المشترك ما كان بالامكان انشاء اي تعريف على الاطلاق، بل ولا أمكن ايصال المفاهيم من فرد الى اخر، ولا الترجمة ولا التفاهم بين البشر على شيء. رغم ان الامر يعني من جانب آخر ان المفاهيم والترجمة والتفاهم بين البشر لا تكون متطابقة المعنى على السواء عند الجميع، فخلف ما يتفق عليه الافراد من المعنى المشترك للمفهوم تتخبى موارد التباين والاختلاف والالتباس، الامر الذي يضفي عليه صفة الاجمال.

هكذا نعلم ان من المحال ان نقف عند قضية محددة تحديداً بسيطاً ومفصلة تفصيلاً تاماً حتى النهاية، وان كل قضية هي قضية مجملة، وبالتالي فان صدقها هو صدق مجمل يعبر عن الانطباق على نماذج معينة لكنه يواجه مشاكل مع نماذج اخرى كالحدود الوسطى والدقة في التطابق مع المصاديق. فما نراه واضحاً في اول الامر يبدأ يلتبس عند التفصيل باجراء حالات الانطباق والتوافق. وهو ما يجعل تحديد القضايا ومنها القضايا الخارجية قائماً على التحديد الاجمالي.

والملاحظ ان هذه المشكلة هي موضع اهتمام اولئك المنشغلين بالعلوم الطبيعية، حيث الشعور بأن اللغة التي يتداولونها هي لغة مفعمة باللبس والغموض، وان اللغة العادية او العرفية لا يمكنها ان تفي بحاجة ما يراد من المفهوم العلمي، فمثلاً ان عبارة (الماء يتجمد عندما يكون بارداً بشكل كاف) هي عبارة تنطوي - على الاقل - على لفظتين سائبتين، هما: الماء والكفاية. حيث قد تشير لفظة الماء في الجملة الى المطر النازل من السماء، والى ذلك السائل المستخرج من عيون الارض والابار، والى ذلك الجاري في الانهار والبحار والتي لا تتجمد رغم برودة الماء فيها. كما قد تستخدم اللفظة بشكل اقل في ما يطلق عليه الماء المضاف كعصير الشاي والفاكهة وغيرهما. أما لفظة الكفاية الواردة في الجملة فهي ايضاً ليست دقيقة، حيث هناك فرق في البرودة الكافية لتجمد الماء بالنسبة الى المناخ العام إن كان صيفاً او شتاءاً، وكذا عندما يكون الوقت وقت ظهيرة او وقت فجر، حيث تختلف درجة الحرارة عندهما عادة. وبالتالي فحيث ان مقدار الحرارة يتغير لذا فاللفظة تكون غير دقيقة 1 . وهو امر سبق ان عللناه الى الفارق الحاصل في التقابل بين ما هو متناه، كاللغة، وما هو غير متناه، كالواقع.

على ان نفس ذلك الحال يصدق مع التحديدات الانشائية والقيمية المرتبطة بالواقع الخارجي، فهي ايضاً كالقضايا التقريرية التي تقوم بتحديد هذا الواقع؛ لا يمكن التعامل معها الا على نحو النقص والتحديد الاجمالي كالسابق.

هنا نعود الى صلب السؤال المركزي الذي بدأناه اول البحث: اذ علمنا ان تعريف القضايا، ومنها الخارجية والقيمية، لا ينفك عن التحديد المجمل كما تدل عليه المشكلتان الاخيرتان من مشاكل التعريف الثلاث الانفة الذكر، لكن ما الذي نعنيه بالمجمل؟ او ما هو تعريف المجمل بالذات؟

لا بد من التذكير - هنا - اننا بصدد تعريف اجمالي، وذلك لاستحالة فعل غيره كما قدمنا. كما اننا بصدد قضية مجردة ليست خارجية رغم العلاقة التي تشدها اليها. فكما قلنا ان كل قضية لا تخلو من عناصر مجملة في علاقتها بالمصاديق، وان هناك اختلافاً بين القضايا فيما تحمله من النسب المجملة، حيث ان بعضها أشد اجمالاً من البعض الاخر. وبالتالي فلدينا قضايا قليلة الاجمال مقارنة مع قضايا اخرى اكثر تعقيداً واجمالاً، طالما ان القضايا بعضها يتركب من البعض الاخر. وانه ما من قضية نعدها مفصلة الا وهي مفصلة بالنسبة الى قضية اكثر اجمالاً منها، مع انها تظل مجملة بالنسبة الى غيرها.

وهذا يعني ان تحديد المجمل هو تحديد نسبي في علاقته بما يقابله من المفصل. فالمجمل هو ما يتصف بالعموم والاشتراك دون الخصوص والانفراد، وعلى عكسه المفصل. او يمكن القول ان المجمل من الناحية الاجرائية فيه شيء من التفصيل والبيان وهو ما يبديه من العموم والاشتراك دون ما يقابله من الخصوص. او انه عبارة عن ذلك الذي يعد مبيناً من حيث اجماله، لكنه متشابه من حيث تفصيله. أما المفصل فيفترض ان يكون مبيناً في تفصيله من غير تشابه. لكن حيث لا يوجد مفصل تام التفصيل، اذ كل تحديد لا يخلو من اجمال، لذلك فان تحديد المجمل والمفصل هو تحديد اجرائي ونسبي على الدوام.

ومع ان علماء المسلمين عرّفوا المجمل بأنه >ما لم تتضح دلالته< وفي قباله المبيّن الذي تتضح دلالته 2، فالملاحظ وعادة ما يشير نفس العلماء الى ذلك هو ان المجمل ليس عبارة عما لم تتضح دلالته كلياً وعلى اطلاق، والا لكان ضمن المبهم، انما له دلالة واضحة مفادها العموم والاشتراك دون الخصوص والانفراد. اي ان القضية المجملة هي مبينة ومفصلة من جانب دون اخر، او انها عبارة عن علم وجهل، وبالتالي فانها تمتاز بصفة الاحتمال التي تجتمع فيها المعرفة والجهل. ومن القدماء من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد 3 .

وحديثاً أقام المفكر محمد باقر الصدر تفسيره للاحتمال طبقاً للعلم المجمل، وعدّ العلم الاحتمالي من العلم المجمل. ففي هذا العلم هناك اكثر من طرف محتمل. والمجمل بحسب هذا التحديد عبارة عن علم كلي غير محدد له اطراف محتملة، وان كل طرف من اطرافه يحتمل ان يمثل معلوم هذا العلم الكلي. وقد عدّ المفكر الصدر نوعين لهذا المجمل أحدهما يقوم على اساس التشابه او الاشتباه كعلمنا بفقدان كتاب ما لا على التعيين، او علمنا بأن أحد طلاب الصف غائب من دون ان نعلم بوجه التحديد من هو الغائب بالذات، فهل هو زيد او عمر او خالد..؟ والاخر يقوم على اساس التمانع او التنافي العقلي؛ كعلمنا بأن تلك الكتابة ليست سوداء ولا زرقاء في الوقت نفسه، لعلمنا باستحالة اجتماع المتنافيات حسب شروط التنافي، وكعلمنا بأن وقوع الزهرة المنتظمة على الارض لا يظهر لنا - في الجهة العليا - الآسين رقم (1) ورقم (2) معاً، فالملاحظ في العلم الاجمالي الاخير ان اطرافه متنافية، فظهور الآس رقم (1) يتنافى مع ظهور الآس رقم (2) او مع أي آس آخر في قطعة الزهر، فاذا صدق احدها او بعضها انتفى الاخر، وان التنافي يشير الى ان بعضها يمثل حقيقة العلم الكلي لا على التحديد. أما العلم الاجمالي الاول فلا شك ان اطرافه ليست متنافية، بمعنى ان من الممكن ان يجتمع اثنان منها على الاقل. فمثلاً لو كان لدي عشرة اصدقاء اعلم اجمالاً ان بعضهم وربما كلهم سيزوروني؛ فان الاطراف العشرة المحتملة ليست اطرافاً متنافية، بل يمكن ان تجتمع كلها بخلاف ما عليه النوع الاخر من العلم المجمل. ولو ان بعض الناس اخبرنا بولادة مولود لا نعرف عدده ولا جنسه سوى انه ليس خنثى ولا يزيد على اثنين؛ فهذا يعني ان من المحتمل ان يجتمع طرفا العلم الاجمالي ويكون المولود عبارة عن اثنين لا واحد. لكن رغم ذلك فان من الممكن تحويل هذا العلم الى علم اجمالي متنافي الاطراف، وذلك بتشكيل اطراف محتملة او ممكنة كالاتي:

1 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكر واحد.

2 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن بنت واحدة.

3 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكر وبنت.

4 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكرين.

5 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن بنتين.

هذه خمسة اطراف متنافية للعلم الاجمالي للمولود الذي نجهل عدده وجنسه، حيث يستحيل ان يجتمع طرفان فأكثر من تلك الاطراف معاً.

وبهذا يصبح كلا القسمين السابقين من العلم الاجمالي يتضمن التنافي في الأطراف. ومنه يستخلص المفكر الصدر بان عدد الاطراف المتنافية يطابقه مجموعة الاحتمالات الممكنة، وذلك لأن كل طرف يحتمل له أن يمثل معلوم العلم الاجمالي. وكذلك فان قيمة مجموعة احتمالات الاطراف لا بد أن تساوي العلم أو اليقين، لا أكبر منه ولا أصغر. فكل احتمال هو جزء من العلم، ومجموعها لا بد أن يساوي قيمة العلم الثابتة؛ باعتبارها تمثل جميع الاحتمالات الممكنة. ولهذا فان التغير الذي يحصل في زيادة الاطراف المتنافية أو نقصانها لا يغير من تلك القيمة، بل يغير من قيم نفس الاحتمالات لدى الاطراف، حيث زيادتها في العدد يخفض من قيم الاحتمالات التي تمثلها، والعكس بالعكس. لكن يظل مجموع الاحتمالات ثابتاً يعبّر عن رقم اليقين >واحد<، لا اكبر منه ولا اصغر 4 .

هذا هو الفهم المنطقي للعلاقة بين المجمل واطرافه المحتملة كما قدمها المفكر الصدر. لكن ما يعنينا ليس هو الفهم المنطقي ولا انه يتضارب معه. فحيث ان دراستنا لها مساس بالقضايا اللغوية، وحيث علمنا ان هذه القضايا مركبة فانها لهذا قد تحمل مزيجاً من البيان والاجمال، او العلم والتشابه، الامر الذي يفرض فهماً خاصاً للنص ينطلق من حقيقة ما تفرضه اللغة من طبيعة اجمالية ملتبسة بالتشابه على ما سبق ان اوضحنا. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ما يحصل من تفاوت بين الناظرين في مستوى الاجمال والتفصيل، فقد يرى باحث مسألة ما بأنها مجملة متشابهة، في حين يرى اخر انها ليست بذلك الحد من التشابه والاجمال. لكن سواء هذا او ذاك فان حقيقة النص اللغوي لا يسعها ان تنفك عن صورة المجمل قلّ او كثر. مع اخذ اعتبار ان التشابه تارة يكون ذاتياً عندما ينبع من ذات النص وليس بأمر عارض خارجي، واخرى يكون تشابهاً عارضاً، لا من حيث النص وانما من حيث تغايرات الواقع، حيث يصدق على وقائع ويكون متشابهاً مع وقائع وحالات اخرى.

مهما يكن فالذي يتقرر هو انه لا يمكن فهم نص الخطاب فهماً متسقاً الا اذا اعتبرناه يعبر عن مضامين - قلّت او كثرت - مجملة متشابهة، سواء نبع التشابه بفعل النص ذاته، او بفعل عارضية الواقع وتغايراته، مما يدعو الى تفعيل الدلالات الثلاث: المقصدية والواقعية والعقلية، وذلك في حلّ ما يلتبس فيها من اجمال وتشابه، دون نكران ما يظهر فيها في الوقت نفسه من بيان وتفصيل.

أقسام المجمل

ان ما يهمنا في بحث المجمل هو معرفة العلاقات الدائرة بين المجمل والمفصل والمبين والمتشابه. وبالتالي فانه يمكن تقسيم المجمل اللغوي الى قسمين اساسيين؛ هما ما نطلق عليه: المجمل المتشابه والمجمل المبين، ولكل منهما تفريعاته الخاصة كالاتي:

1 ـ المجمل المتشابه

ويتميز هذا المجمل بأنه متشابه سواء في مفصلاته او في اجماله، وذلك من حيث الاصل، بمعنى انه لا يحمل معنى مشتركاً واحداً في اجماله، وانما يتردد بأكثر من معنى. صحيح انه من الناحية المنطقية لا يخلو هذا المجمل من بيان، لكن نحن بصدد القضية الخارجية، وفيها ليس هناك بيان محدد، وانما هناك تردد بين اكثر من طرف من اطراف القضية، كوجود الشيء وعدمه، او ان البيان منحصر مصداقه في التردد بين عدد من الاطراف لا يجمعها معنى وجودي مشترك واحد، فهو عبارة عما يطلق عليه: إما وإما.. وبالتالي فان كل طرف من الاطراف المتشابهة يحتمل له ان يكون الممثل الحقيقي للمجمل.

وهذا النوع هو الذي توقف عنده العلماء باعتباره يمثل حقيقة المجمل، ولولاه ما صح الاجمال. فكما عرفنا ان علماء الاصول والقرآن عرّفوا المجمل بأنه النص الذي لا تتضح دلالته، وعلى خلافه المبين. وقد ذكروا العديد من الصور المختلفة للمجمل اللغوي في النص واشاروا اليها بضروب من الامثلة القرآنية، منها الاشتراك اللفظي والحذف واختلاف مرجع الضمير واحتمال العطف والاستئناف وغرابة اللفظ وعدم كثرة الاستعمال والتقديم والتأخير وقلب المنقول والتكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر 5 .

ومع ان من الصحيح ان يشترط في المجمل حمله للتشابه، كما يرى العلماء، لكن في تقسيمنا ما يفيد الغرض؛ لكون القضايا اللغوية هي قضايا مركبة يختلط فيها البيان والتشابه من دون فصل، لذلك اضفنا القسم الذي اطلقنا عليه المجمل المبين.

وللمجمل المتشابه صورتان كالاتي:

أـ مجمل تضادي:

والمقصود به ان تكون مفصلات هذا المجمل المتشابهة ينافي بعضها البعض الاخر، فاذا صدق بعضها فان البعض الاخر يكون كاذباً، فهي بالتالي محتملات بعضها ينافي البعض الاخر، مثل حالة التردد فيما لو كان الحكم الشرعي لمسألة ما هو الحرمة او الحلية، فلو كان الحكم الحقيقي فيها هو الحرمة لانتفت الحلية، ولما جاز ان تجتمع معها - في الوقت ذاته - على نفس الموضوع، وكذا العكس صحيح، مثلما تحصل حالة التردد في رمي قطعة الزهرة المنتظمة، فان ظهور اي وجه منها يتنافى مع ظهور الوجوه الاخرى كما سبق ان اشرنا.

ب ـ مجمل جمعي:

والمقصود به ان تكون مفصلاته المتشابهة لا يتنافى بعضها مع البعض الاخر، فاذا صدق بعضها فلا مانع من ان يصدق البعض الاخر معها. اذ قد تكون القضية مركبة من جمع من المتشابهات غير المتنافية، حيث ان صدق بعضها لا يتعارض مع صدق البعض الاخر. فمثلاً قد تكون القضية مركبة من متشابه السند ومتشابه الدلالة. ومن الواضح انه لا تعارض بين هذين الامرين، ولا مانع من ان يصدقان او يكذبان سوية او يصدق احدهما مع كذب الاخر.

وينقسم المجمل المتشابه - من جانب اخر - الى متشابه ذاتي يعود الى النص سنداً او دلالة، والى متشابه عارض يتعلق بالقضايا المستجدة التي يفرزها الواقع والتي ليس فيها نص يحكم عليها بالسلب او الايجاب. وسيتضح لنا تفصيل ذلك فيما بعد.

2 ـ المجمل المبين

وهو على قسمين: مجمل ذاتي حيث التشابه فيه ذاتي مصدره النص، ومجمل عارض لكون التشابه فيه نابعاً بفعل عوامل خارجية عارضة. وصفة المجمل الذاتي هو انه يحمل بياناً إما من حيث اجماله او من حيث بعض مفصلاته، كما لا بد ان يحمل عدداً من المفصلات المتشابهة. وهو من حيث مصدر البيان يمكن تقسيمه الى قسمين نطلق عليهما المبين الاستقرائي (الاستدلالي) والمبين الاصلي. والخصوصية التي يمتاز بها المبين الاستقرائي هو ان المجمل فيه يستمد بيانه مما يحمله من مفصلات، رغم ان هذه المفصلات ليست بينة اذا ما أُخذت بشكل انفرادي، لذلك كان البيان من النوع المعنوي المشترك او العام. في حين ان البيان في المجمل الاصلي هو بيان نابع ومتأصل من نفس النص.

إذاً لدينا في المجمل المبين ثلاثة انماط؛ هي العارض والمعنوي الاستقرائي والاصلي، والاخيران ينطويات ضمن المجمل الذاتي. وتفصيل الحديث عنها سيكون كالاتي:

أ ـ المجمل العارض

وميزة هذا النوع هو ان الاجمالية فيه متولدة عن العوامل العارضة. وهو بيّن في بعض اطرافه وليس باجماله، والتشابه في اجماله ليس ذاتياً من حيث الاصل، وانما هو ناتج عن عوامل خارجية. وبعبارة اخرى ان هذا المجمل له عدد من المفصلات المبينة، لكن لحدوث بعض العوارض الخارجية فانه تتشكل مفصلات اخرى متشابهة. اي ان هذه المفصلات تعبر عن وجود مجملات فيها اطراف متشابهة. فمثلاً ان الاحكام الشرعية التي يُطلق عليها (الاحكام التفصيلية) والتي تتصف بوضوح الحكم وبيانيته، سواء دلّ الحكم على الحرمة او الوجوب او الاباحة، تصبح احكاماً مجملة من النوع العارض، وذلك اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار كونها تحمل اكثر من طرف محدد، وهو انها في بعض اطرافها مبينة في علاقتها بالحالة او الواقع الذي علقت به، لكنها مجملة متشابهة فيما يتعلق بغير تلك الحالة او الواقع، اي ان الاجمال ينشأ فيما اذا كانت احكاماً مخصوصة بتلك الحالة او الواقع، او انها شاملة لما عدا ذلك. وبالتالي فان لهذا المجمل فرضين محتملين هما الشمول والخصوص. والخصوص كما علمنا يعد من المفصلات المبينة، اذ هو مما ينطبق عليه الحكم، أما الشمول فهو مورد الشك والاحتمال، وهو بنوع من الاعتبار يكون من المفصلات المتشابهة، لكنه يبقى معبراً عن كونه مجملاً متشابهاً. وبالتالي فان خاصية هذا المجمل هو ان التشابه فيه هو تشابه عارض وليس تشابهاً ذاتياً مستنداً الى نفس النص مثلما سيأتينا مع المجمل الذاتي بنوعيه.

مع هذا فللمجمل العارض صنفان بحسب منشأ البيان فيه، فتارة ان البيان منشؤه النص كما اسلفنا، وتارة اخرى منشؤه الوجدان العقلي، وذلك اذا ما كانت القضية الخارجية بيّنة من حيث الوجدان العقلي لارتباطها بأحكام العقل العملي، الا انها مجملة ومتشابهة فيما عداها من الحالات الاخرى العارضة. لكن يظل ان محور بحثنا - هنا - هو البيان اللغوي النصي وليس العقل.

ب ـ المجمل الاستقرائي

وله خصوصيتان تميزانه عن غيره من المجملات، احداهما هو ان البيان فيه هو بيان مستدل عليه بالطريقة الاستقرائية، او على الاقل ان البيان مستلهم لكثرة ما تدل عليه القرائن الاحتمالية. فالبيان بهذا الاعتبار ليس بياناً ذاتياً يبعث عليه المنطوق اللغوي. كذلك انه يمتلك ميزة اخرى متممة، وهي ان البيان الاجمالي له يتحقق رغم وجود التشابه في جميع مفصلاته، اي ان لهذه المفصلات المتشابهة يرجع الفضل في توليد البيان المعنوي المجمل. وان هناك تعاضداً بين الاطراف المفصلة المتشابهة لتوليد المعلوم الكلي من المجمل بدون تضاد او معارضة. بمعنى ان هناك عدداً من الاطراف تجتمع كحد أقل في توليد ذلك المعلوم، أما الحد الاعلى الممكن فهو جميع الاطراف بلا تنازع ولا معارضة. ويظل ان كل طرف من هذه الاطراف يحتمل له ان يمثل ذلك المعلوم بلا تعارض فيما بينها.

هكذا يُنتزع البيان المجمل من الاطراف المتشابهة، وعملية الانتزاع هي عملية استدلالية تخص هذا النوع بخلاف غيره من الانواع الاجمالية الاخرى. فمثلاً ان المقاصد الضرورية للشريعة هي مقاصد منتزعة من امثلة كثيرة، لكن ليس كل واحد منها يمكن ان يدل على ذلك الامر المعلوم. ومثل هذا الامر لو فرضنا كل ظاهر من ظواهر النص القرآني بشأن عصمة الانبياء هو ظاهر ليس له البيان الكافي في نفي العصمة الشمولية، مع هذا فان كثرة القرائن التي تدل عليها عشرات الايات تفضي الى تكوين البيان الكلي من نفي تلك الشمولية. مما يعني انه على الرغم من كون القرائن اذا ما أُخذت منعزلة ومجزأة فانها تكون محتملة الا انها باجتماعها نحو محور محدد مشترك تولد بياناً طبيعته هو ذلك المجمل العام غير المخصص بفرد ما من افراده. مع اخذ اعتبار التفاوت الحاصل في القوة البيانية للافراد المحتملة، اذ انها تتباين من حيث درجة دلالتها البيانية اتجاه المحور العام المجمل. كما انه لو فرضنا ان لبعض الافراد قوة بيانية كافية للدلالة على المطلوب؛ ففي هذه الحالة يصبح سوى ذلك من الافراد يفيد تأكيد المحور وليس تأسيسه. وفي جميع الاحوال لا غنى عن تعاضد الافراد وتساند القرائن المختلفة من اجل بناء الدلالة البيانية للمحور المشترك العام.

ج ـ المجمل الاصلي

وميزته انه بيّن في اجماله من حيث الاصل او النص، كذلك فان التشابه في مفصلاته هو ايضاً منبعه النص. وتارة تكون مفصلاته جميعها متشابهاً، واخرى بعضها يمتاز بالتشابه والبعض الاخر بالبيان.

لذا فهذا المجمل على قسمين: بسيط ومركب، والاول ليس فيه الا متشابهات نهائية، بينما يحتضن الثاني مفصلات هي بدورها مجملة تنتهي في الاخير الى تفريعات متشابهة نهائية.

المجمل الاصلي البسيط:

وهو عبارة عن مجمل بيّن من حيث الاصل او النص لكن اطرافه المفصلة جميعها متشابه. وفارق هذا النوع عن المجمل الاستقرائي، هو ان المجمل الاخير يستلهم البيان في اجماله من اطرافه المتشابهة، في حين ان في المجمل البسيط يكون بيان المجمل بياناً ذاتياً من النص، بحيث لا علاقة له بالاطراف المتشابهة. بل يلاحظ ان الاطراف المتشابهة - هنا - تنتزع من المجمل المعلوم، فلولا المجمل ما علمنا بالاطراف نفسها، او ان الاطراف هنا تتشكل طبقاً للمجمل المعلوم، وليس العكس كما هو الحال مع المجمل الاستقرائي. والمثال على ذلك كل ما يصلنا من احكام مجملة البيان مع التردد في تفاصيلها. فقد نتردد في حكم مجمل يفيد الطلب المعلوم إن كان هذا الطلب على سبيل الاستحباب او الوجوب، وكذا عند النهي؛ إن كان النهي نهي كراهة او تحريم. وايضاً عند التردد في الامر إن كان مولوياً او ارشادياً؟

المجمل الاصلي المركب:

ونقصد به ذلك المجمل النصي الذي له عدد من المفصلات التي بدورها تكون مجملات الى ما هو تحتها من المفصلات الاخرى النصية، وهكذا حتى تنتهي الى مفصلات متشابهة نهائية. مما يعني ان المجمل المركب هو عبارة عن قضايا مركب بعضها على البعض الاخر، وهي وإن كانت من حيث الاصل العام بينة، الا ان التفريعات التالية لها تعبر عن قضايا اخرى ضمنية قد تكون بينة او متشابهة في اجمالاتها، لكنها في النهاية لا بد ان تنتهي الى تفريعات متشابهة اخيرة. فمثلاً ان قضايا العبادات العامة كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها؛ كل منها يعبر عن المجمل المبين المركب، وذلك لما تحمله من مفصلات بدورها تكون مجملات لما تحتها من تفريعات. فالصلاة مثلاً يمكن البحث فيها من حيث هيئتها، حيث فيها الركعات والسجدات وغيرها، والركعة هي ايضاً تتفرع الى هيئة من الاعمال كقراءة الفاتحة والسورة وما الى ذلك، وهنا يمكن ان يلاحظ ان الركعة تعد من المفصلات المجملة المتشابهة، فمضامين الركعة تبعث على الخلاف، كما هو الحال بالنسبة الى قراءة البسملة والجهر والاخفات وما الى ذلك، فهي بهذا تعد من المجملات المتشابهة، وبالتالي فالصلاة كقضية عامة فيها من المفصلات المبينة، كما فيها من المفصلات المتشابهة.

***

والذي يلاحظ بخصوص المقارنة بين المجملين البسيط والمركب هو ان كليهما يحملان مفصلات متشابهة، لكن هذه المفصلات لدى المجمل البسيط هي مفصلات مباشرة نهائية لا تتفرع بدورها الى ما هو تحتها. في حين انه في المجمل المركب فان فيه تراكباً من المفصلات بعضها مباشر والبعض الاخر غير مباشر، وان التشابه في المفصلات كما انه لا بد ان يكون في المحصلة النهائية، فانه كذلك يمكن ان يتوسط في هذه القضايا المركبة، مثلما يمكن ان يتوسط فيها البيان.

وبعبارة اخرى ان المجمل المركب يحمل مجملات ضمنية لها مفصلات متفرعة، بعضها نهائية والبعض الاخر توسطية، والنهائية فيها لا بد ان تكون متشابهة، أما التوسطية فانها قد تكون بيانية كما قد تكون متشابهة، وذلك بخلاف المجمل البسيط الذي لا يتفرع الا الى مفصلات مباشرة متشابهة، او انه لا يحمل مجملات ضمنية. وهذا يعني انه في المجمل المركب قد تنشأ مفصلات مجملة متشابهة تتفرع عليها مفصلات ثانية متشابهة هي الاخرى. فلا مانع من ان تتأسس التفريعات المتشابهة على مجملات متشابهة؛ طالما انه في البدء يكون المجمل مجملاً بيّناً يتمايز فيه عن المجمل المتشابه الذي يخلو من البيان كلياً.

مع هذا لا بد من لحاظ ان التفريعات المجملة البينة في المجمل المركب تكون - من الناحية المنطقية - اضعف بياناً من اصولها، فقراءة سورة الفاتحة في الصلاة مثلاً هي مجملة بينة، لكنها اضعف بياناً من المجمل الخاص بعموم الصلاة ذاتها. كذلك فان التفريعات المتشابهة هي ايضاً تكون اشد تشابهاً من اصولها المجملة المتشابهة، ذلك ان الفرع يتوقف على صدق الاصل، في حين ان الاصل لا يتوقف على صدق الفرع.

ملاحظات استنتاجية

يتبين مما سبق عدة امور كالاتي:

1 ـ يلاحظ انه يمكن ان يتداخل المبين العارض مع المبين الاصلي. وهو ما ينطبق على ما ذكرناه من التكاليف العامة. فقد علمنا ان المفصلات المباشرة للتكاليف الخاصة بالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها لها تفريعات اخرى حتى تنتهي الى متشابهات كتلك المتعلقة بكيفية الركعة في الصلاة. لكن من ناحية ثانية يجوز للاحكام التكليفية المبينة - بما في ذلك ما ذكرناه من عبادات - ان تكون خاضعة لحكم المجمل العارض، وذلك حيث تنشأ من مبينات هذا المجمل متشابهات عارضة كالذي سيتضح لنا فيما بعد.

كما قد يكون هناك تداخل بين المجمل الاستقرائي من جهة، والمجملين الاصلي والعارض من جهة اخرى. ذلك انه لا يمتنع وجود نصوص عديدة بينة في ظاهرها من حيث دلالاتها الجزئية المختلفة، لكنها تحمل وراء هذه البيانات بياناً اخر كلياً لا تدل عليه النصوص منفردة، او مستقلة بعضها عن البعض الاخر. فمثلاً انه توجد نصوص كثيرة بينة عن احكام المعاملات المالية، وهي من حيث استقلالية بعضها عن البعض الاخر لا تفيد الا المعنى الخاص الذي يظهر منها، لكنها من حيث اخذها مجتمعة بعين الاعتبار، فان لها بعض الدلالات العامة المشتركة الجديدة التي لا يدل عليها نص بعينه، ومن ذلك المقصد الشرعي العام المتمثل بالحفاظ على المال.

من جانب اخر يمكن القول ان المجمل الذاتي بصنفيه الاستقرائي والاصلي لا بد ان يتضمن المجمل العارض في اي مستوى من مستويات التفريع، وليس العكس ضرورياً. اي ليس بالضرورة ان ينضم المجمل العارض ضمن المجمل الذاتي. اذ ان المجمل العارض الناشئ بيانه عن الوجدان العقلي هو مجمل مستقل عن المجمل الذاتي. فمثلاً ان احكام المصلحة العقلية والحسن والقبح العقليين قد تكون بيّنة في موارد موضوعية معينة يشهد عليها الوجدان، الا انها خارج هذه الموارد يمكن ان تصاب بالتشابه والاجمال. هكذا يلاحظ ان في كل مجمل ذاتي يوجد مجمل عارض، أما هذا الاخير فيمكن ان يكون مستقلاً، كما يمكن ان يكون ضمن المجمل المذكور بصنفيه.

2 ـ كما يلاحظ ان اقسام المجمل المبين تختلف في موضع بيانها؛ فتارة يكون البيان في المفصل دون المجمل كما في المجمل العارض، اذ المفصل مبين من حيث الاصل. وتارة يكون في المجمل ذاته دون المفصل كما في المجمل الاستقرائي والمجمل الاصلي البسيط وبعض حالات المجمل المركب. وثالثة في كليهما كما في الحالات الاخرى للمجمل المركب. أما من حيث التشابه فتارة يكون في كل من المجمل والمفصل كما في المجمل المتشابه. واخرى في المجمل فقط كما في العارض، اذ المجمل هنا طارئ على المفصل المبين. وثالثة في المفصل فقط كما في المجمل الاستقرائي والمجمل البسيط وبعض حالات المجمل المركب.

3 ـ ان التشابه في المجمل تارة يحمل تشابهاً مصدره النص كما في المجمل الذاتي بصنفيه وبعض حالات المجمل المتشابه، واخرى بفعل عوامل عارضة نابعة من تغايرات الحالات والاحوال وظروف الواقع، كما في المجمل العارض، وثالثة بما له من علاقة بصحة صدور النص، او ما يطلق عليه اثبات السند، كما هو الحال في بعض حالات المجمل المتشابه والمجمل الاستقرائي.

4 ـ ويتبين مما سبق انه سواء المجمل المبين او المجمل المتشابه كلاهما قائمان على المفصل المتشابه، لكن في المجمل المتشابه ليس هناك سوى التشابه، سواء على صعيد المجمل او المفصل، في حين انه في المجمل المبين لا بد ان يكون هناك بيان سواء على صعيد المجمل او على صعيد المفصل او من خلالهما معاً.

كذلك ان المجمل المبين الذاتي (الاصلي والاستقرائي) يحمل كلا التشابهين الذاتي والعارض، ومثله المجمل المتشابه حيث انه ينقسم بدوره الى متشابه ذاتي وعارض. أما المجمل العارض فهو يحمل التشابه العارض فقط.

5 ـ في احيان معينة قد تبدو بعض الامثلة قابلة للصياغة ضمن اكثر من نمط معين من انماط المجمل.

فمثلاً ورد في بعض الروايات ان احدهم سأل النبي (ص) عن وجوب الحج عند الاستطاعة بحسب آية الحج؛ هل المقصود فيها اتيان الحج مرة واحدة في العمر ام في كل مرة تتحقق الاستطاعة؟

ففي هذه الحالة يمكن صياغة المثال ضمن نمط المجمل الاصلي، وذلك عندما نعتبر الحج - كأمر كلي - مجملاً له طرفان متشابهان بحسب ما في ذهن السائل، وهما اتيان الحج مرة او كل مرة تتوفر فيها الاستطاعة. حيث ان ظاهر النص - بحسب فهم السائل - ينطوي على تشابه ذاتي رغم بيانيته المجملة. الامر الذي يبرر جعله ضمن المجمل الاصلي.

لكن من ناحية اخرى يمكن ضم المثال تحت طائلة المجمل العارض، وذلك اذا ما اخذنا باعتبار ان هذا المجمل يمتلك صفة الاحتفاظ بحالات الشمول دائماً. ذلك حيث لا بد ان تتوفر فيه خصوصيتان، احداهما ان تكون هناك حالة مفصلة ومبينة في الوقت ذاته، أما الاخرى فلا بد ان يكون بازاء تلك الحالة حالات مجملة متشابهة، وهي حالات الشمول، الامر الذي ينطبق على المثال المذكور، حيث ان الاتيان بالحج معلوم ولو لمرة واحدة، وان التشابه ينطبق على ما يخص غير هذه المرة فهل هي واجبة على دوام الاستطاعة ام لا؟

مع هذا فالصحيح ان من المناسب طي المثال ضمن المجمل الاصلي لا العارض، وذلك تبعاً لمعيار كون التشابه الوارد في المثال هو تشابه ذاتي وليس عارضاً عليه من الخارج، وان اتصافه بصفة الشمول مثلما هو حال المجمل العارض ليس كافياً لتبرير انضمامه اليه. ومن ثم اننا في المجمل العارض نكون قد اعتمدنا على فاعلية عوامل اخرى هي التي تحقق مضمون هذا المجمل.

6 ـ لا بد من لحاظ ان سلامة المجمل الاصلي - وكذا العارض إن كان منشأ بيانه النص - ومبرر وجوده؛ يتوقفان على المجمل الاستقرائي من جهة السند دون عكس. فلو افترضنا ان المجمل الاصلي لا يبرره المجمل السندي الاستقرائي؛ فان ذلك سيخل من قيمة المجمل الاول باعتباره يفتقر الى الدليل الخاص بمصدر صدوره، طالما لم تدل على صدقه دلالة اجنبية، مثلما يحصل احياناً لبعض النصوص من الدعم العلمي الحديث.

على هذا فان النص قائم على نوع من السند؛ احادياً ام تواترياً، وان التعويل على الاخذ بالتواتر انما يبرره المجمل الاستقرائي، كما ان الاحادي عندما يحتف بقرائن متنوعة اخرى كافية تدعم معناه فانه هو الاخر يجد تبريره عند المجمل الاستقرائي.

7 ـ طبقاً لما سبق يمكن ان نتصور النص في علاقته بالادراك بأنه ذو مرتبتين متعاكستين. فعلى ضوء تقسيم الادراك الى فاعل ومنفعل؛ يمكن فعل الشيء ذاته مع النص. وطبقاً لهذا التقسيم تكون العلاقة بين الادراك والنص عكسية. اي كلما كان النص فاعلاً كان الادراك منفعلاً، والعكس بالعكس. وكل فاعل مؤثر، وكل منفعل متأثر. والمقصود بكون النص فاعلاً هو ان تتخذ الصورة الذهنية شكلاً منعكساً لمظهر النص او مقارباً له. وهو ما يطلق عليه الاصوليون ظاهر النص. أما ما نقصده من كون الادراك او المدرِك هو الفاعل فهو ان الصورة الذهنية للنص تصبح مشكّلة بحسب ما يريد لها الادراك ان تتخذ من معنى. وهنا ان الادراك تارة يكون فاعلاً على نحو المغالبة والتأثير في علاقته مع النص، حيث يعمل على تحجيم فعل النص المعرفي بنحو ما من الدرجات، وذلك عندما يجعل المدرِك الصورة الذهنية المبتدعة على خلاف الظاهر من النص، او خلاف صورة النص المنعكسة في الذهن، مثلما يلاحظ ذلك في حالات التأويل. أما تارة اخرى فهو ان الادراك يكون فاعلاً لا بنحو المغالبة وتحجيم الفعل المعرفي للنص او ابطاله كالسابق، وانما بنحو تقييد ذلك الفعل وتضييق سعته.

إذاً يمكن القول طبقاً لهذا التقسيم ان المجمل الاصلي انما يعبر عن الدور الفاعل للنص، في حين يتخذ الادراك دور المنفعل. أما المجمل العارض فعلى خلافه يعبر عن الدور الفاعل للادراك على نحو تقييد الفعل المعرفي للنص. وبالتالي فان النص هو فاعل ومنفعل باعتبارين مختلفين كما اسلفنا. مما يعني اننا لسنا بصدد تأويل النص مثلما هي طريقة الاتجاه العقلي للفكر الاسلامي، فالواقع لا يضطرنا الى التأويل، وهو يحافظ على روح النص ومضمونه في افادته للظاهر، وإن كان يعمل على توجيه مساره ضمن الحدود البينة، وذلك بتبيان ما يحمله من السعة والامتداد.

8 ـ ان سبب الاجمال في المجمل المبين بشطريه (الذاتي والعارض الذي منشأ بيانه النص) ينبع من الضرورة اللغوية في تحديدها للاشياء الخارجية. فمهما كان حجم الوضوح لدى النص اللغوي فانه يظل عاجزاً عن ان يحدد لنا بالتمام ماهية الاشياء فهماً وحكماً. ولعلنا في مطلع البحث عرفنا كيف ان تعريف الاشياء وتحديدها لغوياً ليس بوسعهما تفادي كلاً من ظاهرتي النقص والاجمال في الكشف عن التطابق مع الموضوع الخارجي. حيث عرفنا ان التعريف - أياً كان - لا ينطبق على موارد معينة فيكون ناقصاً، كما انه يواجه الالتباس في حالات اخرى فيكون مجملاً؛ سواء في عرض التعريف او طوله. فكل ذلك يبيّن ان تحديداتنا اللغوية هي تحديدات ناقصة ومجملة لا يمكنها التطابق مع كثرة التغايرات غير المتناهية والتي يستحيل حصرها بأي حال من الاحوال. والنص الديني لا يتجاوز هذه الحقيقة اللغوية. فلا يمكن للنص - مهما كان - ان ينجو من هاتين المشكلتين: نقص التحديد والاجمال كما عرفنا. فما لم تكن لغتنا الفعلية سائرة بما لا نهاية له من التحديدات فانه لا يسعنا ان نفعل شيئاً حيال هاتين المشكلتين، الامر الذي يستحيل فعله كما هو واضح.

9 ـ اذا كانت مشكلة النص مشكلة ذات بعدين: فمن جهة ان لها علاقة بنقص التحديد، حيث لا يمكن تحديد الموضوعات الخارجية بمفهوم دقيق جامع مانع، ومن ثم لا يمكن الحكم عليها بهذه الدقة، كما من جهة اخرى ان هذه المشكلة لها علاقة بالالتباس والاجمال، حيث لا يخلو التحديد والحكم من موارد ملتبسة تحمل في طياتها الاجمال.. فاذا كانت هذه هي مشكلة النص؛ فانه لا مناص من الاعتماد على عناصر اخرى تعمل لاجل التدقيق وتلافي النقص المذكور قدر الامكان، وكذلك تعمل على فك الاجمال قدر الامكان ايضاً. وهنا نجد المساهمة المشتركة في الفعل بين عناصر الواقع والوجدان والمقاصد. وبالتالي لا بد من اثارة تساؤلات محددة واشكاليات حقيقية لها علاقة بما ذكرنا. وبدون ابراز هذه العناصر فلا محالة من ان يحصل التعارض والتضاد بين ما يفهم من الحكم بحسب الطريقة اللغوية من جهة، وبين المقاصد والواقع من جهة اخرى، وذلك تبعاً للقيود التي تمتاز بها اللغة، ومنها لغة النص، باعتبارها لا تكافئ تغايرات الواقع غير المتناهية .

لنفترض - مثلاً - ان الشارع الحكيم أورد نصاً مفاده: (اكرم العالِم). فالنظر الى هذا النص يجعلنا ندرك انه يتضمن كل علامات البيان والنقص والتباس الاجمال معاً. ففي البداية سنتجاوز مَن المقصود بالعالم وحدوده، وكذا الاكرام، ولنفترض انهما بيّنان تماماً، مع هذا يستشكل ان يكون المقصود من النص هو مطلق العالم. وبالتالي لا بد من العمل على تقسيمه. لكن تارة ان التقسيم يكون بعيداً عن الحدس المقاصدي واخرى يندرج ضمن هذا الحدس. فالملاحظ ان التقسيم الاول هو تقسيم فارغ لا يعني شيئاً بحسب الادراك الوجداني، من حيث ان الشارع الحكيم ليس بصدده، وبالتالي لا جدوى من تفكيك النص الى نوع من الاجمال إن كان المعني من ذلك مطلق العالم، ام علماء محددين ببشرة لونية معينة او اوطان او قوميات محددة. فكل ذلك يعد من التساؤلات غير المجدية لعدم ارتباطها بمقاصد التشريع. او ان وجداننا الحدسي لا يسمح لنا ان نأخذ هكذا تقسيمات بمحمل الجد، وبالتالي فالبحث فيها لا يجدي نفعاً. وهو على شاكلة ما وقع به اليهود من تورط عندما سألوا عن شكل البقرة التي أُمروا بذبحها مما ينافي القصد في الامر، لذلك فقد ضيّق الله عليهم كلما زادوا من أسئلتهم العابثة 6 . انما السؤال الحقيقي ينبع من تفكيك النص بما له من علاقة بمقاصد التشريع، وذلك عندما نسأل أسئلة مجدية يمكن من خلالها ان نحدد الاطراف المبينة ونميزها عن تلك المتشابهة. فمثلاً يمكن تقسيم العالم الى عالم خير وعالم شرير، وكذا الى عالم مسلم وغير مسلم، وبالتالي تصبح لدينا اطراف متعددة هي بحسب تفكيك النص كالاتي:

1 ـ اكرام العالم المسلم الخير.

2 ـ اكرام العالم المسلم الشرير.

3 ـ اكرام العالم غير المسلم الخير.

4 ـ اكرام العالم غير المسلم الشرير.

هذه اربعة اطراف تتفاوت فيها نسب البيان والالتباس، مع انها تعود الى نص مجمل واحد هو (اكرم العالم).

ولأجل التبسيط سأترك النسب الخاصة بالخير والشر وكذا مقدار العلمية والاكرام وحدود كل من هذه المفاهيم التي من الواضح انها تتمشكل بمشكل المجمل المبين، فضلاً عن نقص التحديد. فكل مفهوم يحمل اجمالاً فيما يُقصد منه، حيث تكون بعض الاطراف مما يصدق عليها المفهوم بوضوح، وبعض اخر يتشابه الامر فيها، كما ان هناك اطرافاً لا يُقرر الحال معها بدقة على نحو الجامع المانع. إذاً لنكتفي بتلك الاطراف الاربعة على ما فيها من شبكة المجملات الضمنية وذلك لغرض الايضاح والتبسيط.

فالملاحظ ان الطرف الاول هو من المفصل المبيّن بلا ادنى شك، وبالتالي فان ما يعنيه النص بحسب النظر الابتدائي انه على الاقل يلزم اكرام العالم المسلم الخير. أما سائر الاطراف فتتفاوت في الحسبان. فمثلاً يستبعد تماماً الطرف الاخير من مقصد النص، وهو الطرف الذي يقع في القطب الاخر المقابل لقطب الطرف الاول. وهو يكشف عن حقيقة كون النص لا يمكنه ان يتجنب النقص في التحديد، اي انه في هيئته اللغوية ليس بجامع مانع. في حين ان الطرفين المتوسطين لا يصلان الى نفس الدرجة من المستوى الذي عليه الطرفان المتضادان، اي ان هذين الاخيرين يمتازان بأولوية الحكم المتقابل، وان الطرفين المتوسطين يشوبهما - كلاً او بعضاً - درجة ما من التشابه مقارنة ببيانية الطرفين المتضادين.

فهنا يتبين لنا دور المقاصد في تفكيك النص ومن ثم معالجته بحسب ما ينطوي عليه من بيان وتشابه. واذا كان البعض من الاصوليين اعتبر ما للدليل اللبي - اي غير اللفظي - من اهلية في فك مثل هذا الاطلاق او الاجمال، فانا نعتبر ذلك يعود الى تصورنا عن مقاصد المتكلم ومنه المشرّع الديني من دور في إعمال ذلك الحل والتفكيك 7 .

هكذا يلاحظ في مثالنا السابق ان النص (اكرم العالم) ينطبق على بعض المصاديق مثل العالم المسلم الخير، لكنه نص غير مانع، حيث في مفهوم (العالم) وجدنا ذلك المتصف بالعالم غير المسلم الشرير، وذلك لبيانية الامر تبعاً لما تدلنا عليه المقاصد، كما ان في النص شيئاً من الالتباس والتشابه، اذ كيف نتعامل مع العالم الخيّر غير المسلم، فمن الواضح انه متشابه بدرجة ما، ولا يمكن القضاء على هذا التشابه الا بالرجوع الى المقاصد العامة وروح الديانة إن كانت تسمح وترجح فضيلة الخير على رذيلة الكفر ام لا؟

إذاً ان النص يتصف بوصفين ملازمين، هما النقص في التحديد والتباس التشابه، وان معالجة هاتين المشكلتين تتم عبر تفكيك النص تبعاً للمقاصد وعلاقتها بكل من العقل والواقع.

لكن قد يُشكل بأنه اذا كانت الاسئلة المجدية هي تلك التي لها علاقة بمقاصد التشريع فما بال السؤال الذي طرحه بعض الصحابة - كما ورد في الخبر - ووجد فيه النبي (ص) كراهية مع ان له مساساً واضحاً بتلك المقاصد؟ اذ روى الترمذي والدارقطني عن الامام علي (ع) انه قال: لما نزلت آية الحج ((ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً)) آل عمران/7 9 ؛ قال جمع من الصحابة: يارسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم. فانزل الله تعالى: ((يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء إن تبد لكم تسؤكم)) المائدة/1 0 1 8 . كما روى الحديث اخرون كمسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وبعضهم حسّنه والبعض الاخر صححه 9 .

والجواب ان من المقاصد الشرعية التسهيل والعفو فيما لم يُصرح به، مثلما ورد ذلك في عدد من الايات الكريمة والكثير من الاحاديث النبوية، وبالتالي فان السؤال في الزيادة يعد من التشديد، الى درجة ان الرواية الانفة الذكر عبّرت بقول النبي (ص) في آخر حديثه >لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم<، وفي رواية اخرى لابن جرير الطبري جاء فيها قول النبي (ص): >ولو وجبت لكفرتم، الا انه انما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج<>ان الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا..<، وما رواه احمد والبخاري عن النبي قوله: >أحب الدين الى الله الحنيفة السمحة<، وما روي عن النبي (ص) كما في الصحيحين: >يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا<>

اصناف المجمل والعلاقة مع النص

سنتطرق في بحثنا للفهم المجمل الى كلا المجملين المبين والمتشابه بكل تفريعاتهما، كما سنتطرق الى المنحى العام من الفهم المفصل المألوف ومقارنته بالفهم المجمل، وذلك كالاتي:

المجمل المتشابه:

يمكن تقسيم المجمل المتشابه من حيث علاقته بالنص الى قسمين كالاتي:

أـ المتشابه النصي: وهو على صنفين؛ احدهما المتشابه الدلالي، والاخر المتشابه السندي:

المتشابه الدلالي:

وهو يتحقق عندما يكون النص - او النصوص - ذا دلالة متشابهة غير قابلة للتحديد البياني المجمل، وذلك عند التدقيق في لغة النص والسياق. والمتشابه بهذا المعنى لا تأثير له ما لم تساعد على فهمه عناصر الواقع والوجدان والمقاصد. ومن ذلك ما ورد ذكره في القرآن الكريم حول بعض الصفات الالهية، كالاستواء على العرش وامكان رؤية الله وغيرها.

المتشابه السندي:

وهو يتحقق عندما يكون سند النص متشابهاً لا يتحقق منه الاطمئنان او العلم بالصدور. فاغلب النصوص هي اخبار آحاد تتضمن سلسلة طويلة من السند، الامر الذي يقوي حالة التشابه والاحتمال، ذلك ان السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الاحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فان التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الاخر يضعّف من هذه القيمة، الامر الذي يعمل على زيادة الاحتمالات والتشابه، اذ التوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر.

وهناك بعض التمايزات بين التردد في السند والتردد في الدلالة. فالتردد في السند مع القطع في معنى الدلالة يفرض وجود احتمال ان تكون هناك زيادة اجنبية على الخطاب الديني. اذ لو كان السند كاذباً لكان من المرجح ان تكون الدلالة فيه دلالة اجنبية على الخطاب وإن لم نعلم بذلك. ولو فرضنا أننا أهملنا السند؛ فذلك يعني احتمال ان يحصل بعض الحذف والانتقاص في مضامين الخطاب. في حين ان التردد في الدلالة مع القطع في السند يفرض ان يكون هناك احتمال لفعل مزدوج في آن واحد، وهو اضافة دلالة اجنبية على الخطاب مع اخراج دلالة اخرى ذاتية منه، أي انه يقلب ما هو ديني الى غيره، وما هو غيره الى ديني، وذلك على فرض الاخذ بأي من الدلالات المحتملة. أما عند ترك هذه الدلالات فانه يحتم انتقاص بعض من معنى الخطاب ما لم يكن المعنى مكرراً في سائر ارجائه.

إذاً الفارق بين الترددين في حالة الاخذ بكل من السند والدلالة، هو ان التردد الاول ليس فيه سوى احتمال الزيادة على الخطاب عند الاخذ بالسند، كما ليس فيه سوى احتمال حذف بعض مضامين الخطاب عند ترك السند. أما التردد الاخير فان فيه احتمال اشتراك الزيادة والنقيصة معاً، وذلك على فرض الاخذ بالدلالة، اي ان فيه ظاهرة التبديل والتغيير. كما ان فيه الانتقاص المؤكد من مضمون الخطاب على فرض ترك الدلالة كلياً، وذلك ما لم يكن هناك تكرر في المعنى لدى مضامين الخطاب الاخرى .

ب ـ المتشابه العارض:

وهو يتحقق عندما نجد هناك حادثة جديدة لا يمكن ردها الى النص مباشرة، حيث الحكم فيها بحسب النظر الابتدائي هو حكم متشابه. وعلاج مثل هذا التشابه لا يستند الى القياس وغيره من مبادئ الاجتهاد المألوفة، وانما يستند الى تلك العناصر الفاعلة الثلاثة: الواقع والوجدان والمقاصد، كما هو الحال بالنسبة الى الموقف من التدخين والاستنساخ وتلويث البيئة والمعاملة مع البنوك والتأمين وغيرها من القضايا المستحدثة.

المجمل المبين:

أـ المجمل العارض والمقاصد

ذكرنا ان للمجمل العارض صنفين احدهما ذلك الذي منشأ بيانه النص، والاخر ذلك الذي يتأصل بيانه في الوجدان العقلي، لكنا سنقتصر الحديث عن الاول دون الثاني.

تتحدد الوظيفة الملقاة على عاتق هذا المجمل بتحويل المبين التفصيلي الى نوع من المجمل، ينطوي على اطراف بعضها مفصلة مبينة والبعض الاخر متشابهة، اضافة الى الوظيفة التي تُتخذ للكشف عن نقص التحديد اللغوي للنص، اي النقص المتمثل بافتقار صورة الجامع المانع.

ان الطرف المفصل هو ذلك المشخص تشخيصاً مسبقاً من قبل النص، أما المجمل المتشابه فهو ما يتجاوز حالة التشخيص والتعيين الى مناطق اخرى مشكوكة بحسب النظر الابتدائي. واذا اضفنا الى ما في النص اللغوي من الضرورة النقصية، وهو كونه ليس جامعاً ولا مانعاً، فان الاطراف المتصورة للمجمل العارض تكون اربعة كالاتي:

1 ـ الطرف المبين والمشخص من قبل النص اللغوي، والذي يتطابق مع حالة التنزيل. وهو ما نطلق عليه المنطوق البياني الموجب، او قل انه عبارة عن المنطوق.

2 ـ الطرف المبين الذي لا ينضم الى المبين اللغوي او المنطوق وإن كان حكمه حكم هذا المبين بحسب النظر الابتدائي او الوجداني، ولنطلق عليه المفهوم البياني الموجب او الموافق. وهو اوسع اعتباراً مما كان يطلق عليه الاصوليون مفهوم الموافقة. مع هذا سنظل نحافظ على هذا المصدر ونطلق عليه ذات المصطلح.

3 ـ الطرف المبين الذي لا ينضم الى المنطوق البياني، كما ان حكمه على خلاف ذلك المبين بحسب النظر الابتدائي، ولنطلق عليه المفهوم البياني السالب او المخالف. وهو اوسع اعتباراً مما كان يطلق عليه الاصوليون مفهوم المخالفة. لكنا سنحافظ على هذا المصدر ونطلق عليه ذات المصطلح.

4 ـ يضاف الى ذلك هناك الطرف المتشابه الذي لا يعلم بحسب النظر الابتدائي - على الاقل - إن كان يعود الى الطرف الثاني او الثالث. فهو الطرف الذي يحتاج الى ممارسة اجتهادية لتعيين وضعه في ايٍّ من الطرفين الاخيرين إن أمكن ذلك. مع العلم انه لا بد ان تظل هناك حدود وسطى لا يمكن للعملية الاجتهادية ان تفرزها وتضعها ضمن احد الطرفين المتقابلين.

فلو تصورنا خطاً فيه قطبان على اليمين والشمال، كما فيه نقاط على طول الخط، فان القضايا البينة هي تلك التي تكون في القطبين وما يقترب منهما، أما لو بعدنا شيئاً فشيئاً عن القطبين اتجاه الوسط فان التشابه والاجمال يزداد اكثر فاكثر. مما يعني ان الالتباس في الحكم الشرعي من حيث الحلية او الحرمة، وكذا الحلية او الوجوب، انما يقع في تلك الدائرة الوسطية بين القطبين. ونفس هذا الحال يصدق مع القضايا العلمية. فمثلاً هناك ثلاثة تصورات للون الاحمر؛ احدها كونه شكلاً من اشكال اللون يقع بين نهايتين او حدين في الطيف الضوئي، وثانيها عبارة عن شكل لوني مسبب عن الاطوال الموجية التي تقع بين طرفين مخصوصين، أما ثالثها فهو التصور الفيزيائي من حيث كونه عبارة عن امواج لها اطوال موجية تقع بين هذين الطرفين المخصوصين، لكن مشكلة هذه التعاريف هو انها تشترك في كونها غير واضحة من حيث حدود الطرفين 2 1 . وبالتالي اذا اعتبرنا هذا الفهم المجمل ينطبق على مركز ما نعدّه لوناً احمر، سواء بشكله او بطوله الموجي، فان المشكلة تأتي عندما نبتعد عن دائرة المركز، سواء باليمين او الشمال، وبطول الموجة او قصرها. ومن ثم هناك يقين مفصل عند حد معين، لكنه يصبح متشابهاً ومجملاً كلما ابتعدنا عن هذا الحد.

وهذا الحال يمكن ان يصور لنا طبيعة الاحكام وعلاقتها بالواقع تبعاً للمبين والمتشابه. فكل حكم يلزم ان يحمل شيئاً من البيان، وهو مع ذلك يتحول الى التشابه عند الابتعاد عن دائرة البيان. لهذا نجد في حديث المتشابهات ما يحل هذا الامر اتساقاً مع المقاصد. فالحديث كما في الصحيحين وغيرهما يقول: >الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه<>

هكذا يتضح ان اللغة مجملة لا يسعها ان تكون مبينة بحيث تغطي كافة تفاصيل الواقع. فبقدر ما لها من بيان بقدر ما لها من لبس وتشابه، ولا يمكن القضاء على هذا التلابس والاشتباه، وانما يمكن تخفيفه حسب الأنشطة التي تقوم بها عناصر الوجدان والواقع والمقاصد.

وللتشابه ضمن المجمل العارض انماط مختلفة بعضها يتعلق بمقدار ما عليه موضوع الحكم المباشر، وبعضها له علاقة بتغايرات الحالات والظروف، وايضاً فهناك نمط يرتبط بتغاير النظام الاجتماعي او الحضاري. وكل ذلك يمكن علاجه طبقاً لأنشطة العناصر الثلاثة الانفة الذكر. وعليه فالحديث عن الانماط السابقة وتوضيح العلاقة الناشئة بينها وبين المقاصد سيكون كالاتي:

1 ـ نمط تغاير المقادير

وهو النموذج الذي يكون فيه الحكم مبيناً بحسب بعض المقادير، لكنه متشابه في مقادير اخرى، وذلك بغض النظر عن اختلاف الظروف والاحوال. فمثلاً ما ورد في الحكم من النهي عن تناول الخمرة، فمع ان النص القرآني يبدي الاطلاق في المقدار؛ لكن لحاظ مقصد الحكم يجعل الموضوع منقسماً الى مقدارين احدهما مبين والاخر متشابه. فالغرض من تجنب الخمرة هو الضرر الناتج عن تناولها، وهو امر يجعلنا نعلم بأن هناك مجملاً له اطراف اربعة، احدها الطرف اللغوي المبين (المنطوق)، وطرفين مبينين ومتخالفين في الحكم، وطرف رابع متشابه. فالطرف المبين اللغوي هو عبارة عن تناول الخمرة الكثيرة، لعلمنا ان ذلك يحقق المقصد المذكور. أما طرف المفهوم البياني الموجب (مفهوم الموافقة) فهو كتناول المخدرات رغم عدم ذكرها لكن مقصد الحكم يشملها بلا ادنى ريب. في حين ان طرف المفهوم البياني السالب (مفهوم المخالفة) فهو كتناول الخمرة عند الاضطرار اليها كما في حالة المرض، حيث ان الحكم الموجب لا ينطبق عليها. أما الطرف الاخير الذي يهمنا فهو التشابه، وذلك عندما تكون الخمرة قليلة كقطرة او قطرتين، لعدم علمنا من حيث النظر الابتدائي بأن ذلك يمكن ان يشكل ضرراً على الانسان، وبالتالي اذا ثبت ان للخمرة شيئاً من الضرر المعتد به فان حكمها يكون كحكم الخمرة الكثيرة، والعكس بالعكس، وان مرد معرفة الضرر انما يعود الى دراسة الواقع، اي واقع الخمرة القليلة.

ويلاحظ ان النص القرآني يشير الى ان الضرر المتعلق بالخمر انما هو ذلك المتسبب عن حالة الاسكار، كالذي جاء في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون)) المائدة/0 9 ـ1 9 . ويؤيده بحسب الظاهر ما جاء في بعض الاحاديث كما في صحيح مسلم ووسائل الشيعة من ان >كل مسكر خمر، وكل خمر حرام<>

ولنفترض ان الخمرة القليلة اذا كانت عبارة عن قطرة واحدة فهي ليست مضرة اطلاقاً، وبالتالي فانها تخرج عن الحكم الخاص بالخمرة الكثيرة حسب ما طرحناه من تصور، لكن ما هو الحكم في حالة قطرتين، ومن ثم ثلاث قطرات... الخ؟ فالملاحظ من ذلك اننا كلما زدنا في العدد سنصل الى دائرة هي دائرة المتشابهات، اذ سيتشابه الامر إن كان ذلك هو من الخمرة المضرة ام لا.

يظل ان ما ذكرناه لا يتضارب مع الفتوى القائلة بحرمة تناول الخمرة كثيرة او قليلة تبعاً لحديث ابي داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن النبي قوله: >ما اسكر كثيره فقليله حرام<>

2 ـ نمط تغاير الحالات والظروف

وهو النموذج الذي يكون فيه الحكم مبيناً بحسب لحاظ بعض الحالات والظروف، لكنه متشابه في حالات وظروف اخرى. كذلك فان له بياناً مفهومياً على صعيد كل من الموافقة والمخالفة بحسب ما يعرف لذلك من المقاصد. فكتطبيق على هذه الحالة ما نجده في حكم قطع يد السارق، فمنه يمكن انتزاع اربعة عناوين كالاتي:

الاول هو المنطوق البياني، حيث ان الحكم فيه هو حكم مبين؛ على الاقل فيما لو كان هناك استقرار اجتماعي وكفاية اقتصادية وعدم وجود ضغوط خارجية مانعة.

أما الثاني فهو مفهوم الموافقة، ذلك ان المعنى المنتزع من حكم السرقة هو الشدة والغلظة، فاذا كان هذا الحال ينطبق على سرقة المال عندما يكون المال مالاً شخصياً؛ فكيف الحال عندما يكون هناك اختلاس للمال العام يتهدد به الكيان الاقتصادي للمجتمع.

والثالث هو مفهوم المخالفة، وقد جسدته السيرة النبوية والخلافة الراشدة. فمع ان النص القرآني أظهر العقوبة للسارق من غير شروط مقيدة، لكنا نجد من حيث النصوص الاخرى والممارسة العملية ان بيان النص لم يمنع من وجود استثناءات وقيود عديدة، خصوصاً تلك التي ظهرت عند تغاير بعض الظروف، ومن ذلك تلك التي تعامل فيها النبي عند الحروب مع المشركين، وكذا ما تعامل به الخليفة عمر بن الخطاب عند المجاعة. فمثل هذه الممارسات تدل على مفهوم المخالفة طبقاً للمقصد الشرعي.

أما الرابع فهو التشابه، اذ قد نتساءل: اذا كان منطوق الحكم ينطبق على الاقل في ظل الظروف المستقرة، لكن ماذا بشأن الظروف الاخرى التي تضطرب فيها الحياة الاجتماعية الداخلية؟ ومثلها الحياة الاقتصادية غير المستقرة؟ كما هو حال المجتمع الذي يمتاز بكثرة البطالة وقلة العمل وازدياد الفقر. فهذه الاطراف لا تخلو من تشابه والتباس، وبالتالي فهي تحتاج الى تحليل في علاقتها بالمقاصد.

ومثل ذلك ايضاً مسألة شهادة المرأة، اذ على الاقل ان من البيّن هو ان شهادتها في التداين تعادل نصف شهادة الرجل في ظروف كانت فيه النساء لا يمتلكن من الخبرة الاجتماعية والتعليمية، وحيث ان مقصد الحكم هو التوصل الى الشهادة الصحيحة قدر الامكان، فانه بحسب هذا المقصد فان الحكم المتعين ليس حكماً تعبدياً وانما غرضه الكشف عن الواقع، وبالتالي فهناك تشابه فيما عدا مثل هذا الظرف، وان فك التشابه وتحويله الى مبين يعتمد على فحص الواقع. مع اخذ اعتبار ان شهادة المرأة كما هو مذكور في القرآن لا يشمل في منطوقه جميع انواع الشهادة. مع هذا يمكن القول: لو دلّنا الواقع على مجتمع يتساوى فيه وثوق الشهادة بين الرجال والنساء؛ لكان مفهوم الحكم هو المخالفة تبعاً للمقاصد. كذلك لو أننا كنا حيال مجتمع نسوي أشد قصوراً من مجتمع عصر الرسالة؛ لكان المتعين اتخاذ دلالة الموافقة لمفهوم الحكم. اي ان شهادة المرأة في هذا المجتمع اقل اعتباراً من شهادتها المنطوق بها نصاً.

وينطبق الامر الذي ذكرناه فيما يخص العبادات، فالصلاة مثلاً تعد مبينة تماماً في الاحوال الاعتيادية التي تتوفر فيها شروطها الوقتية بحسب منطوق النصوص، لكن في ظروف اخرى مختلفة مثل الحياة في المناطق القطبية وما قاربها من العالم تجد بعض الاحوال التي يسود فيها النهار احياناً عدة شهور متواصلة، وكذا الليل مثل هذه المدة، وحينها تكون الشروط الوقتية لعدد من الصلوات الخمس غير متاحة، فهل يعني ذلك انه لا يُسأل الانسان عن اتيان مثل هذه الصلوات، او انه لا بد من تقدير اوقات مناسبة قياساً مع ما هو الحال في الصلوات الجارية في بقاع الارض الاخرى؟ وكذا الحال نفسه يجري فيما يتعلق بالصيام، فاذا كان اغلب اهل الارض يصومون في فترة محددة نسبياً؛ فماذا نقول بالنسبة لآخرين يعيشون ليلاً متواصلاً عدداً من الشهور بلا انقطاع؛ هل يصومون متقطعاً خلال أشهر الليل، ام لا بد من تأجيله حتى يأتيهم النهار، او انهم يُعفون من الاتيان بهذا الفرض لعدم حضور شرطه وهو النهار؟ وقريب من ذلك فيما لو كان وقت الصيام أثناء نهار ممتد لمثل ذلك العدد من الشهور، فهل تقدر لهم ساعات متناوبة للصيام ام لا؟

وتبعاً للمقاصد الشرعية ان من البيّن عدم الاخلال بهذه العبادات مهما كان الاجتهاد في طريقة تنفيذها. فهي من هذه الناحية تُنفذ طبقاً لمفهوم الموافقة. لكن في ظروف اخرى قد يجد الانسان نفسه بين تأدية هذه العبادات وبين تعطيلها لاجل غرض آخر مزاحم لا يقل اهمية عنها، كإن يكون الغرض انقاذ نفس من الهلاك، فمثلاً قد يواجه الفرد موقفين متزاحمين من قبيل اقامة الصلاة قبل فواتها وانقاذ نفس من الغرق او الحرق او غير ذلك، ولا شك انه بدلالة الوجدان يلزم انقاذ النفس، اي ان الحكم هنا يتخذ شكل المخالفة.

كذلك نجد في حالات وظروف معينة صوراً من التشابه، وذلك فيما لو كانت مساعدة من يحتاج الى العون في رفع الضرر عنه متوقفة على تعطيل أداء الصلاة في وقتها، او تعطيل الصيام في وقته، فمثلاً ماذا نفعل لو كان للصيام تأثير على خفض الانتاج الاقتصادي في بلد فقير يحتاج الى رفع مستوى الانتاج؟ لا شك انه لا يمكن البت في حكم يتعلق بهذا الامر ما لم يُدرس الواقع بدقة لتقدير حجم الضرر والمعاناة التي تسفر عن أداء الفريضة الشرعية، وذلك بالاعتماد على هدي المقاصد ورفع الضرر المعتد به قدر الامكان.

هكذا يلاحظ ان هناك وقائع متغايرة لا يمكن معاملتها بنفس الطريقة المصرح بها في المنطوق البياني.

ومن حيث المبدأ يمكن القول انه حينما تثار القضايا بشكل جديد، او حينما يفرز الواقع بتحولاته حوادث جديدة، فان ذلك يبعث على قلب الفهم البياني الى فهم مجمل. فالمبين يصبح مجملاً حيال ما يستجد من قضايا وحوادث. فمثلاً ان مفهوم الضعفية الوارد ذكرها في آية المصابرة هو مفهوم مبين بحسب التصور التقليدي، الا ان ما أحدثته التحولات الحضارية جعلت منه مجملاً يحتاج الى تفصيل. مما يعني انه عندما يتجدد الواقع يصبح المبين عبارة عن كلي مجمل، وهذا ما يجعلنا نحتاج الى فاعل خارجي يعمل على تفصيل هذا المجمل، وليس من طريقة يمكنها استيفاء هذه الخطوة سوى المقاصد وعلاقتها بتحولات الواقع.

3 ـ نمط تغاير النظام الاجتماعي

على ما عرفنا فان لاختلاف الظروف والاحوال دوراً في إحداث التشابه والاجمال، فضلاً عن الدور الذي تلعبه في إحداث القضايا الجديدة التي تتشكل عليها أحكام الموافقة والمخالفة. ولا شك ان اختلاف النظام الاجتماعي والحضاري يعبر عن تعقيد اعظم في تباين الظروف والاحوال، وهو بالتالي يخلق المزيد من تلك الصور المتباينة للاحكام.

فمثلاً نجد ان ارث المرأة هو نموذج مناسب للكشف عن هذه الحالة. فقد كان النظام الاجتماعي وقت ولادة الاسلام يتعامل مع المرأة باعتبارها عضواً ليست مصدراً للانتاج، وان أعباء الحياة الاقتصادية غير مسؤولة عنها، وانما ذلك كله انما يقع على عاتق الرجل. فالرجل هو الذي يعيل المرأة وهو الذي يقدم لها المهر عند عقد الزواج، بل ويتكفل بمعيشتها وتسديد حاجاتها، لذلك فمن الحق ان يكون له من الارث ما يربو على ارثها؛ انصافاً لما يتحمله من كثرة اعباء التبني والمعيشة. لكن لو فرضنا اننا في نظام اجتماعي آخر مختلف عن السابق، وذلك فيما لو ان المجتمع سمح للمرأة بالانتاج والعمل الى جنب الرجل مثلما هو حاصل في الغرب، وان عليها ان تتحمل اعباء المعيشة بالتساوي مع قرينها، فهل يكون ارثها في هذه الحالة نصف ارث الرجل، ام لهذا الامر حكم آخر؟ من الواضح انه اذا كان حكم النص مبيناً بياناً تاماً مع اخذ اعتبار ما كان عليه النظام الاجتماعي فان الامر فيما فرضناه من نظام آخر ليس له مثل ذلك البيان.

بطبيعة الحال لسنا بصدد اي النظامين افضل واقرب للاستقامة، وذلك انه في النظام الاخير لا بد ان نتوقع كثرة البطالة لشدة المنافسة على العمل بين صفوف الرجال وصفوف النساء، وقد يكون التفضيل للنساء على الرجال في العمل اذا ما قبلنَ بالاجور القليلة، الامر الذي يرفع من نسبة البطالة وسط الرجال، فيحفز ذلك على زيادة عدد من الجرائم مثل السرقة وتعاطي المخدرات وغيرها، خلافاً لما هو متوقع داخل النظام الاول. لكن بغض النظر عن مثل هذه الحقائق والفوارق، فان الاجمال والالتباس يطرح أطرافاً محتملة لمعالجة الامر، وفي حالات معينة يصدق عليها كل من مفهومي الموافقة والمخالفة. فماذا لو كان الضرر ملحقاً بالرجل؛ هل نتعامل مع الارث على شاكلة ما ينص عليه المنطوق طبقاً للموافقة؟ او لا بد من التعامل بحسب ما تفرضه الوقائع الجديدة للنظام الاخر دفعاً للضرر الذي يلحق بالمرأة، وذلك طبقاً لمفهوم المخالفة؟

فمثلاً عندما يتبين لنا ان اعتماد النساء على انفسهن يجعل منهن صاحبات اموال وتنعم يكون على حساب ما يتحمله الرجال من بطالة وفقر، ففي هذه الحالة يمكن التخفيف في الضرر الملحق بالرجل وذلك عبر عدم التسوية بينها وبينه في الارث طبقاً لمفهوم الموافقة.

وعلى العكس فيما لو كان الضرر ملحقاً بالمرأة دون الرجال، ففي هذه الحالة لا بد من اجراء حكم المخالفة تخفيفاً للاضرار التي تلاقيها.

وهناك حالة اخرى قد تحصل في النظام الجديد وهي ان يكون الحال متردداً بين الحاق الضرر بالمرأة والحاقه بالرجل، فلو اننا أجرينا التسوية في العطاء لكان الحاق الضرر بالرجل، ولو فعلنا بالضعفية لكان الحاق الضرر بالمرأة، وذلك عندما يكون النظام الجديد ضاراً بكلا الطرفين، لذا ففي هذه الحالة لا بد من مراعاة فحص الواقع بدقة لانتهاج النهج الذي يبعث على تخفيف الضررين طبقاً للمقاصد، وذلك كحل مناسب لهذا التشابه.

ب ـ المجمل الاستقرائي والمقاصد

يمكن الاستفادة من هذا المجمل على نحوين، وذلك من حيث الصدور السندي ومن حيث الدلالة، وبالتالي فهناك مجمل سندي كالتواتر بقسميه اللفظي والمعنوي، ومجمل دلالي كالدلالات المفضية الى المعنى العام المشترك.

على انه في الدلالة النصية عندما تكون ظنية متشابهة فانها تصبح عرضة للترك طالما انها لا تكشف في واقع الامر عن بيانية النص. لكن عندما تكون هذه الظنون منشأً لتكوين بيان كلي يستلهم من خلال الاستقراء النصي فان فائدتها تصبح ليس في حد ذاتها، اذ انها تظل ظنية لا تتحول الى بيان ويقين، وانما فائدتها بما تفضي اليه من بيان كلي مجمل. الامر الذي يحقق الفهم المجمل البياني عبر الترابط بين النصوص فيما تقدمه من معنى عام مستلهم منها جمعاً واشتراكاً وليس بانفرادها وانعزالها.

وافضل من وظف هذا المجمل هو الشاطبي، وذلك في تطبيقه لمبدأ الاستقراء على الشريعة، وإن كان عيبه انه لم يطبق ذلك بخصوص القضايا الاعتقادية مثل موقفه من قضية عصمة الانبياء وقبوله لتأويل الآيات التي ترد حولها ومعاملتها معاملة تجزيئية بعيداً عن المنطق الكلي الذي يفرضه مبدأ الاستقراء وقرائنه الاحتمالية 8 1 . لكن بحدود علم الشريعة انه عدّ العلم بها مستفاداً من مبدأ الاستقراء العام الذي يعمل على نظم اشتات افرادها، حتى تصير في العقل كتلة تتصف بثلاث صفات اساسية تشاطر في ذلك ما يجري في كليات العقل القطعية، وهي انها كليات مطردة ثابتة، وانها غير زائلة ولا متبدلة، وكذلك انها حاكمة غير محكوم عليها، بمعنى انها مفيدة للعمل وما يترتب عنه من امور تليق به بلا امر حاكم عليها. وجميع هذه الخواص مما ينطبق على الكليات العقلية 9 1 .

فكما علمنا ان الشاطبي كان يعي فضل المنهج الاستقرائي في الكشف عن حقائق الاصول والقضايا التشريعية العامة التي لا تثبتها جزئيات النصوص وفردياتها، بل عدّ ذلك من المتعذر، انما القطع يكون من حيث انضمام الادلة بعضها الى البعض الاخر، فيصير مجموعها الذي يساق من مواضع مختلفة، وبهذا لا تعود الى باب واحد لكنها تفضي الى معنى واحد منتظم. وبدون ذلك لا يمكن تحقيق القطع بأي حكم شرعي 0 2 . مما يعني ان العلاقة بين المجمل والمفصل هي ذاتها عبارة عن علاقة المبين بالمتشابه، ذلك ان الادلة الظنية تظل متشابهة حتى تتحول بفعل الاجتماع الى معنى عام مشترك يفيد البيان، وهو الحال الذي ينتجه منهج الاستقراء، والذي وظفه الشاطبي خير توظيف ليكشف لنا عن الفارق الكبير بين امرين: ما يسفر عن الفردي المعزول من ظن وتشابه، وما يسفر عن الكلي المنتظم من قطع وبيان. او بعبارة اخرى: الفارق بين المفصل المتشابه والمجمل البيّن.

أما بخصوص المجمل السندي كما في التواتر فقد سبق للشاطبي أن عمل على تبريره من خلال مبدأ الاستقراء، اذ يقول في (الموافقات): >انما الادلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة ادلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى افادت فيه القطع، فان للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق. ولأجله افاد التواتر القطع، وهذا نوع منه<>

كذلك فان ابرز من اهتم بهذا المحور حديثاً هو المفكر محمد باقر الصدر، اعتماداً على نظريته في الاحتمالات وعلاقتها بالعلم الاجمالي.

ونشير - اخيراً - الى ان للمجمل الاستقرائي الدور الحاسم في الكشف عن مقاصد التشريع مثلما اوضح ذلك عدد من علماء المقاصد وعلى رأسهم الشاطبي، وبالتالي فانه اذا ما كان للمقاصد من اهمية عظمى على تفصيل كل من المجملين العارض والاصلي؛ فان الامر مع المجمل الاستقرائي يكون أمراً معكوساً، وذلك ان لهذا المجمل يعود الفضل في الكشف التأسيسي للمقاصد، او ان المقاصد تدين له بالكشف والوظيفة، في حين انها تعمل على اجلاء البيان في المفصلات التي تعود الى المجملين العارض والاصلي.

ج ـ المجمل الاصلي والمقاصد

ما لاحظناه في المجمل العارض هو ان النص الذي يُعتمد عليه هو نص مبين على الاقل في بعض اطرافه. لكن بخصوص المجمل الاصلي فان الميزة التي يختص بها هو ان بيان النص ينتهي الى متشابه النص والذي عبرنا عنه بالتشابه الذاتي. الامر الذي يجعل التعامل مع المجمل البياني ليس كالتعامل مع المتشابه. فاذا كان لا بد من التعويل على مجمل الواضحات العامة من النص؛ فان الامر مع ما يتبقى من تفاصيل متشابهة هو امر مختلف لغياب الوضوح والبيان. مثلما نجده لدى مختلف قضايا النص، سواء تلك التي تعود الى العقائد والاصول، او تلك التي ترجع الى الفقه والفروع، او تلك التي لها علاقة بالكشف عن ميادين الواقع الكوني والانساني.

فمثلاً على صعيد العقائد تعد مسألة التوحيد ابرز محاور المجمل المبين الذاتي، حيث ان الدخول في تفاصيلها يفضي الى التشابه، كالذي أدت اليه محاولات العلماء فأوقعوا أنفسهم في خلافات كثيرة وكبيرة.

أما على صعيد الفقه فالملاحظ ان القضايا الفقهية يمكن ان تندرج تحت هذا المجمل، وذلك عندما تكون اصولها صحيحة، لكنها مبتلاة في الفروع، خاصة عندما يكون التعويل على هذه الفروع مصدره خبر الاحاد بكل ما يتضمنه من مشاكل واحتمالات. فمثلاً ان الجزية على الكتابي هي امر مبين ومصرح به في القرآن الكريم، لكن مقدار الجزية ليس ببيّن وعليه الكثير من الاختلاف. وان قطع يد السارق مبين ومصرح به هو الاخر في القرآن، لكن موضع القطع في السرقة الاولى وموضعه عند تكرار السرقة وكذا مقدار النصاب الذي به يتوجب القطع هي من الامور غير البيّنة، وعليها الكثير من الاختلاف 2 2 . وان من شروط الحكم الاسلامي انعقاد الامامة، فهي مجمل مبين، لكن كيف يتم الانعقاد فانه متشابه، وهو لدى المذاهب الفقهية مورد اختلاف، فكما يذكر الماوردي ان منهم من قال انها تنعقد بواحد، ومنهم بثلاثة، ومنهم بخمسة، ومنهم بجمهور اهل العقد والحل 3 2 . كذلك فان الوضوء واجب شرعي مبين، الا ان فيه تشابهات فرعية كثيرة؛ منها النية، فهل تشترط فيه ام لا؟ كما ان غسل الوجه في الوضوء هو من الفرائض المبينة لقوله تعالى: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق)) المائدة/6، لكن حدود الوجه المراد غسله هو من المتشابه، وان غسل اليدين والذراعين هو من فرائض الوضوء المبينة، لكن ادخال المرافق فيها هو من المتشابه، وكذا ان مسح الرأس هو من فرائض الوضوء المبينة، لكن مقدار ما يمسح به الرأس فهو من المتشابه.. الخ 4 2 . كذلك يلاحظ ان الاصل المبين في الوضوء هو وجوب الطهارة بالمياه، أما ما يتفرع عن هذا الاصل ففيه الكثير من التشابهات، كما يدل عليه الاختلاف الواسع بين الفقهاء، كالذي يلاحظ حول ما ورد من اختلافهم حول الماء اذا خالطته نجاسة ولم يتغير احد اوصافه. وكذا الحال فيما يخص الوضوء بالماء المضاف الطاهر، وغير ذلك من قضايا الطهارة. فعلى هذه الشاكلة يمكن ذكر مختلف القضايا الفقهية، حيث يكثر فيها التشابه، ويزداد فيها اختلاف النظر لدى الفقهاء.

وفي جميع الاحوال لا مفر من النظر في مقاصد الشريعة لحل كل ما نجده من تشابه، كما لا بد من مراعاة اليسر والتخفيف في قضايا العبادة طبقاً لما يريده الشرع، وان التردد في امرين فاكثر يستدعي اتيان احدها بحسب الخيار لا التعيين، ما لم يكن هناك دواعٍ تفرض ترجيح واحد منها على البقية، لا بدعوى اصابة الشرع، بل بدعوى لزوم اتباع ما هو راجح لدى من يظهر له ذلك فحسب.

هذا فيما يتعلق بالقضايا الفقهية، أما في القضايا الاخرى التي لها علاقة بحقائق الواقع وما يلف حوله من سنن تكوينية ونفسية واخلاقية واجتماعية؛ فالملاحظ ان ما يذكره النص القرآني حولها ينطوي على هذا النوع من المجمل المبين، وبالتالي ليس هناك حل لفك هذا الاجمال الا بالنظر في الواقع والبحث في شؤونه السننية والتكوينية والانسانية. فمن الايات المجملة البيان تلك التي تتحدث عن سنن الحياة النفسية والاجتماعية كما جاء في قوله تعالى: ((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) الرعد/1 1، وقوله: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين)) البقرة/1 5 2 . كذلك بالنسبة للايات التي تتحدث عن خلق الكون والسماوات والارض وما اليها، حيث انها من المجملات التي تحتاج الى تفصيل بحسب الواقع العلمي. مع ما يلاحظ ان بعض العلماء اشار الى امكانية تفعيل الواقع في تحويل مجمل النص الى تفصيل، مثلما هو حال الشيخ محمد عبده الذي لم يجد سبيلاً للفهم المفصل في بعض النصوص غير الرجوع الى البحث والنظر في الواقع. فقد علّق على آية اختلاف الناس ((كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) بقوله: >أنا لا اعقل كيف يمكن لأحد ان يفسر الاية وهو لا يعرف احوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. لقد اجمل القرآن الكلام عن الامم، وعن السنن الالهية، وعن آياته في السماوات والارض، وفي الافاق والانفس، وهو اجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الارض لنفهم اجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة<>

والذي يلاحظ في المجمل الاصلي انه عادة ما يصطدم بكثرة المتشابهات، وان العلماء لم يفرقوا من حيث الموقف العملي بين هذه التفريعات واصولها المبينة، اي انهم تعاملوا مع المبينات وتفريعاتها المتشابهة بنفس المستوى، وكذا بين الاصول المتشابهة وتفريعاتها، وهو موضع الخلل الذي يتطلب منا تجاوزه للفارق المعرفي بين الامرين.

بين الفهمين: المفصل والمجمل

يلاحظ انه سواء في المجمل الذاتي ام المجمل العارض او المجمل المتشابه؛ هناك سلوك منهجي لدى العلماء في البحث عن التفصيل والايغال في النص أكثر فأكثر، مما يبعث على المزيد من الاجمالات والتشابهات؛ سواء كان التفصيل والايغال داخل النصوص المبينة او المتشابهة، او حتى ضمن ما يتفرع عنهما من قياسات واجتهادات لا تأخذ الواقع والمقاصد بعين الاعتبار. ففي جميع الاحوال هناك تعميق لحالة التشابه، سواء كان التشابه مصدره النص، او كان مصدره التفريعات من الممارسات الاجتهادية البعيدة عن منطق الواقع والوجدان والمقاصد.

وبعبارة اخرى نحن نقف أمام منهج سائد افضى الى خطأ تاريخي جسيم. ذلك ان الوظيفة الرئيسة لهذا المنهج - والذي نطلق عليه منهج الفهم المفصل - هو البحث والتنقيب عن المزيد من المفصلات عبر التدقيقات الفقهية اللغوية، حيث الامعان اكثر فاكثر في النص لانتزاع منه ما يبعث على كثرة الخلاف والمعارضات، وما يترتب على ذلك من اجتهادات وقياسات عارضة.

ولايضاح هذا الخلل علينا ان نبرز عدداً من الامثلة والنماذج الفقهية التي اشبعها الفقهاء اجتهاداً وتفصيلاً، ومن ثم مزيداً من التشابه. فمن ذلك التكثير والاهتمام المبالغ به حول قضايا جزئية مثل الطهارة والنجاسة والاغسال والوضوء وغيرها مما اختلف حولها الكثير من الفقهاء بحسب معالجاتهم المعهودة من التفصيل دون الحفاظ على يقين المجملات المبينة.

فمثلاً ان مسح الرأس في الوضوء هو من المبين الذي اتفق عليه الفقهاء، لكن بسبب منهجهم المفصل قاموا بتوسيع الدائرة الى سلسلة من التفريعات الخلافية المتشابهة. ذلك انهم اختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب البعض الى ان الواجب مسحه كله، وبعض اخر الى مسح جزء منه، واختلفوا عن مقدار هذا الجزء، فبعضهم حدده بالثلث، واخر بالثلثين وثالث بالربع. كما ان منهم من يرى استحباب البدء بمقدم الرأس فيمر يديه الى قفاه ثم يردهما الى حيث بدأ. واخر يختار ان يبدأ من مؤخر الرأس وليس من مقدمه. كما واختلفوا في مسح الاذنين هل هو سنة او فريضة، او لا هذا ولا ذاك، وهل يجدد لهما الماء ام لا؟ ومثل ذلك اختلفوا في المسح على العمامة، حيث اجازه بعضهم ومنعه اخرون 7 2 .

وعلى هذه الشاكلة ما ظهر من تكثير المسائل حول السواك، فقد روي كما في الصحيحين ان النبي قال: (لولا ان اشق على امتي لأمرتهم بالسواك). فعلى قول الكواكبي ان هذا الحديث مع صراحته الضمنية الدالة بأن السواك لا يتجاوز حد الندب، الا ان اكثرية الفقهاء جعلوه سنة، وخصصه بعضهم بعود الاراك، وعمم بعضهم الاصبع وغيره بشرط عدم الادماء. وفصّل بعضهم انه اذا قصر عن شبر، وقيل فتر، كان مخالفاً للسنة، وتفنن اخرون بان من السنة ان تكون فتحته مقدار نصف الابهام ولا يزيد عن غلظ اصبع. وأوضح بعضهم كيفية استعماله فقال: يسند بباطن رأس الخنصر، ويمسك باصابع الوسطى، ويدعم بالابهام قائماً. وفصّل بعض آخر ان يبدأ بادخاله مبلولاً في الشدق الايمن، ثم يراوحه ثلاثاً، ثم يتفل، وقيل يتمضمض، ثم يراوحه ويتمضمض ثانية، وهكذا يفعل مرة ثالثة. وبحث بعض آخر في ان هذه المضمضة هل تكفي عن سنّة المضمضة في الوضوء ام لا؟ ومن قال لا تكفي احتجّ بنقصان الغرغرة. واختلف الفقهاء في اوقات استعماله في اليوم مرة او عند كل وضوء او عند تلاوة القرآن ايضاً، حتى صار بعضهم يتبرك بعود الاراك يخللون به الفم يابساً، وبعضهم يعدّ له كثيراً من الخواص؛ منها انه اذا وضع قائماً يركبه الشيطان، وخالف البعض فقال: بل اذا أُلقي يورث لمستعمله الجذام. وكثير من العامة يتوهم فيحسب السواك بالاراك من شعائر دين الاسلام. الى غير هذا من مباحث التشديد والتشويش المؤديين الى ترك الدين، على عكس مراد الشرع الذي قصده تنظيف الفم كيفما كان 8 2 .

من ناحية اخرى تضلّع أصحاب منهج الفهم المفصل بالتفنن والتدقيق في الالفاظ الحرفية، الامر الذي زاد من طائلة المتشابه لكثرة الاحتمالات التي تسفر عن هذه العملية المخلة بالمقاصد. فمثلاً ذكر ابن القيم الجوزية ما يقارب عشرين مذهباً مختلفاً حول قضية في غاية الجزئية لها علاقة بالطلاق، وهي فيما لو قال الزوج لزوجته: أنتِ عليّ حرام 9 2 . وصوّر قاسم أمين وهو بصدد بحث هذه المسألة (الطلاق) بأن الذي يطلع على كتب الفقهاء >يندهش عندما يرى اشتغالهم بتأويل الالفاظ والتفنن في فهم معانيها في ذاتها، بقطع النظر عن الاشخاص، وعندهم متى ذكر اللفظ تم الاثر الشرعي. ولهذا قصروا ابحاثهم جميعها على الكلمات والحروف وامتلأت الكتب بالاشتغال بفهم: طلقتك، وانت طالق، وانت مطلقة، وعليّ الطلاق، وطلقت رجلك او رأسك او عرقك، وما اشبه ذلك، وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب.. على اننا نظن ان علم الشرائع يقبل ابحاثاً اخرى غير تأويل الالفاظ.. ولو ترك فقهاؤنا الاشتغال بالالفاظ وبحثوا في مآخذ الاحكام التي يقررونها وعرفوا تاريخها واسبابها وقارنوا المذاهب بعضها ببعض وانتقدوها، وبالجملة لو اشتغلوا بعلم الفقه الحقيقي لتبين لهم ان الطلاق لا يكون طلاقاً الا اذا كان مصحوباً بنية الانفصال<>

وواضح ان هذا المنهج يفرض مزيداً من المشاكل بغير حل. فالتدقيقات اللغوية وتشقيقات النصوص والتنطع والتفريع كلها موارد تزيد من دائرة الشبهات والاحتمالات. وكل ما تصنعه هذه الطريقة من تخصيص وتقييد، وما على هذه الشاكلة من عمليات تعود الى التوفيق في الصيغ اللغوية المتعارضة، انما يبعدها عن جوهر العلاج الصحيح، وهو الرجوع الى الفاعلية التي ينشط فيها كل من الوجدان والواقع والمقاصد. وقد ينطبق عليهم مقولة بعض الفلاسفة: ان ما تربحونه من ناحية الدقة انما تخسرونه من ناحية الموضوعية 1 3 .

ومن آفات هذا المنهج هو انه يسفر عن اتباع طروحات يشهد الوجدان بأنها مخالفة لروح الديانة وغاياتها النبيلة، مثل اطروحة المذهبية وترجيح الفرقة على الوحدة، وهما من اعظم الامراض المزمنة التي أصابت المسلمين والتي يتعذر الشفاء منها؛ ما لم يتم التخلي عن المنهج المذكور وابداله بمنهج الفهم المجمل. فعلاقة المنهج الاول بتحقق الطائفية والفرق المذهبية المتنازعة هي علاقة تأثير مضطرد، حيث كلما زاد ايغال المنهج في التفصيل؛ كلما زاد تحقق الطائفية وتوليد الفرق والمذاهب المتشاحنة. وعلى خلاف ذلك ما ينشأ عن الالتزام بمسلك الفهم المجمل الذي يعمل على احياء روح الديانة والحفاظ على بيانها. اما المفصلات الظنية فهي لا تعبر عن هذه الروح ولا تكشف عنها. وقد قال تعالى: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)) آل عمران/5 0 1، وعلى شاكلة هذه الاية قوله تعالى: ((ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)) الروم/2 3، وقوله: ((ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)) الانعام/9 5 1 . حتى ان عدداً من القدماء اعترف بما آل اليه امر العلماء من التفرق حسب اختلاف آرائهم وتأويلاتهم بأن يحاول كل منهم نصرة مذهبه تقليداً والرد على المخالفين، وبذلك ينطبق عليهم المعنى المستوحى من مثل هذه الايات الكريمة، ومن ذلك ما قاله الفخر الرازي: >واقول انك اذا انصفت علمت ان اكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة<. كما سبق للغزالي ان أشار الى مثل هذا المعنى من سوء حال العلماء في الاختلاف والتفرق 2 3 .

وكدلالة على ما سبق التأثير الذي سببه منهج الفهم المفصل في الخلاف المتفاقم حول القضايا العقائدية وعلى رأسها مسألة التوحيد، فرغم ان النصوص فيها كثيرة الا أنها بادية الاجمال، وهذا ما جعل العلماء لا يكتفون بمثل ذلك الاجمال، بل سعوا في البحث عن التفاصيل والتقاط ما أمكن لدعم نظرياتهم حول الكيفية التي عليها تلك المسألة. وبالتالي فاننا نجد التوحيد لدى المعتزلة هو غير التوحيد عند الاشاعرة، وعند هؤلاء هو غيره عند الفلاسفة وكذا الصوفية، بل حتى عند السلفية نجده مورداً للاختلاف والتباين، رغم ان جميع هذه الفرق تتفق على المعنى العام من التوحيد وهو عدم وجود شريك لله تعالى، وانه لم ينشأ من كائن اخر غيره ولا له ولد يخلفه. فتلك هي الصفات السلبية التي يتفق عليها الجميع، أما الصفات الايجابية فهي مجملة بالمرة؛ كعلمه وقدرته وذاته وحياته. ولا شك ان كل تفصيل لهذه الصفات يفضي الى الخلاف وتعدد الرؤى، وغالباً ما يدعو الى التنازع والتضليل والتكفير.

مع هذا فالملاحظ في قضية التوحيد انها قضية غيبية لا يمكن معالجة تفاصيلها من خلال الواقع، الامر الذي يختلف عن القضايا التي ترتبط بالواقع المباشر كتلك المتعلقة بالقضايا الفقهية.

الفهم المجمل والسلوك السلفي

اول ما يلاحظ بهذا الصدد هو ان القرآن الكريم بشهادة السلف اكتفى بما نزّله من مجملات، وانه بخصوص الأحكام نهى عن التنطع والالحاح في السؤال. فعدد آيات الاحكام في الكتاب قليلة جداً قياساً مع غيرها من الايات، والبعض يرى انها لا تتجاوز المائة او المائة والخمسين 3 3، او الثلاث مائة آية. الامر الذي يتنافى مع الممارسة التي يلجأ اليها الفقهاء في البحث اللغوي من اجل تكثير صور التكليف والاحكام. ومما يذكر بهذا الصدد ان بعض الاعراب كان يجيء النبي (ص) من البادية فيسلم، فيعلّمه النبي ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد فقط، فيعاهده الاعرابي على العمل به، فيقول النبي (ص): >أفلح الاعرابي إن صدق<>ما يكره من كثرة السؤال<، وقد جاء فيه ما روي عن النبي (ص): >إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرّم من أجل مسألته<>ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن اشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها<>ما لم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه<. وكان يُسأل عن الشيء لم يحرم فيقول عفو، وقيل له ما تقول في اموال اهل الذمة فقال العفو، بمعنى لا تؤخذ منهم زكاة 7 3 . وجاء في الصحيحين حديث: >ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما امرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فانما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على انبيائهم<>

وعلى هذه الشاكلة قال بعض السلف وهو يخاطب معاصريه: انكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها، وتنقّرون عن أشياء ما كنّا ننقّر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي. كما جاء عن عمر بن اسحاق انه قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله (ص) أكثر ممن سبقني منهم فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم 0 4 .

هكذا كان السلف الأوائل يخشون كثرة السؤال وهم يدركون ما يترتب عليها من زجّ النص في حبائل الاجتهاد. حتى جاء عن الكثير من العلماء قولهم: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية هو تكلف وتنطع فيما لم ينزل 1 4 .

وبذلك يتضح ان الخطاب الديني يحبذ الاكتفاء بالمجمل ويكره الخوض في التفاصيل؛ سواء بكثرة السؤال او بتشقيق النصوص. وعوضاً عن ذلك لا غنى من العمل بمقاصد الشرع ومراعاة الواقع. فالاجتهاد ليس في النص بقدر ما هو في الواقع ذاته. وقد كان الصحابة يدركون مطالب الخطاب على اجمالها لعلمهم باسباب النزول، وكانوا يعملون على ضوء هذه الاسباب محتفظين بفهمهم المجمل وانهم لم يواجهوا - في الغالب - حوادث ملتبسة تبتعد عن دائرة ضوء البيان التي دارت عليها معاملاتهم، وذلك طبقاً لما بيناه من وجود الفارق بين قطبي الخط ووسطه.

لكن الفقهاء الذين اتوا بعدهم لم يسلكوا ذات السلوك فتمسكوا بمنهج الفهم المفصل، بل وأوقعوا أنفسهم بمناقضة ظاهرة، وهو انهم اعتبروا الصحابة أفهم الناس بالشريعة، رغم انهم لم يتبعوا السلوك الذي نهجوه في الغاء التفاصيل وعدم السؤال عما لم يرد فيه نص، او انهم عاكسوهم في طريقة التفكير والفهم الديني، حيث اتبعوا النهج المفصل قبال السلوك المجمل الذي كان عليه الصحابة، وهو سلوك جامع لامري الوضوح والاجمال بخلاف ما طرقه الفقهاء من مفصلات لم تخطر في بال الأوائل ولا كان من المتوقع ان ينسبوها الى شرع الله. نعم كان للصحابة آراء في التعامل مع القضايا الجديدة التي واجهتهم، وكانوا يقبلون عليها لا من موقع النص عندما يجدون النص مرهوناً بمقاصده الخاصة، وانما يعولون في ذلك على المقاصد في علاقته بالواقع. فهو اجتهاد من النوع العقلائي المدعم بالمقاصد، وليس اجتهاداً بالمعنى المتعارف عليه عند الفقهاء من النظر في النصوص والتدقيقات الخاصة بها من التفريع والتفصيل، ومن ثم بناء الظنون على الظنون، والقياس على القياس. وكدلالة على هذا الامر تلك المسالك التي نهجها الخليفة عمر بن الخطاب في الكثير من القضايا المستحدثة وعلى رأسها موقفه من سهم المؤلفة قلوبهم الوارد ذكره في القرآن الكريم.

هذا هو المعنى الحقيقي للفقه. لذلك اعتبر رشيد رضا ان المراد بلفظ (الفقه) كما ورد في نصوص الشريعة ومنها النصوص النبوية؛ هو انه معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، وليس هو علم أحكام الفروع المعروف. فالمعنى الاخير مستحدث مثلما بيّن ذلك الغزالي والحكيم الترمذي والشاطبي وغيرهم. وعلى ذلك كان رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل هذا الفقه المقاصدي في الغالب 2 4 .

ويلاحظ ان هناك تفاوتاً بين الاتجاهات المعرفية في ارتباطها بمسلك الفهم المفصل وكيفيته. فهناك الاتجاه الذي يرى كل شيء محدداً بالنص جملة وتفصيلاً، وانه يمنع العناصر الاخرى التي لها دورها الفاعل في تحديد الفهم. فابن حزم مثلاً يرى ان الخالق قد احكم شريعته بالبيان والكمال بمنطق الظاهر نفسه، بدلالة قوله تعالى: ((اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي))، وقوله ايضاً: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))، وبحسب رأيه انه بنص القرآن انه لا شيء من الدين وجميع احكامه الا وقد نصّ عليه بالتفصيل، فلا حاجة بأحد الى القياس وغيره من موارد الاجتهاد، خصوصاً وقد امر الله تعالى بالرد اليه والى رسوله عند الاختلاف والتنازع. وبالتالي فان دين الله - عند ابن حزم - كامل لا ينقص منه ولا يبدل ولا يحتاج الى ما يزيد عليه تفصيلاً، وهو يتحدد بكتاب الله وما بيّنه النبي الاكرم، وبلّغه الينا اولي الامر منّا، وعدا ذلك ليس من الدين بشيء 3 4 . ومثله ما صرح به الفيض الكاشاني من الاخباريين في الساحة الشيعية، حيث اعتبر ان الكتاب والعترة كافيان في تعليم الامة معالم دينها ولا حاجة لأحد في ان يجتهد برأيه في الاحكام، او يعمل بالقياس والاستحسان، وان يضع اصولاً فقهية وطرق استنباطات ظنية 4 4 .

أما بالنسبة لاولئك الذين استندوا الى القياس والاجتهاد؛ فالملاحظ من عملهم هذا انما جاء ليتجاوزوا به اشكالية الفهم المجمل، معتبرين ان التفصيل في تغطية مختلف القضايا لا يتم بمجرد النص وحده، لهذا اضافوا له عدداً من مبادئ الاجتهاد ادراكاً منهم بان النصوص مهما كانت فانها تظل محدودة لا تغطي مباشرة كل قضايا الواقع، وبعضهم اعترف بالحد المحدود للنص في قبال الوقائع غير المتناهية. مع ما يلاحظ من ان بعض الفقهاء جانب الصواب فأخذ يجعل من احكام العبادات والحلال والحرام محلاً للقياس. وبذلك زاد الفقهاء من المسائل حتى >جعلوها تكاليفاً لا تحتمل< style=""> في تبني مسلك الفهم المفصل، ذلك انهم جعلوا من عبارات شيوخهم وائمتهم نصوصاً يستنبطون منها الاحكام مثلما يستنبطون ذلك من نصوص الشرع، فأخذوا يقيمون القياس على القياس، والاجتهاد على الاجتهاد، حتى صارت الاحكام المنسوبة للشرع تتضاعف مع الزمن باطراد 6 4 .

مع هذا ادرك اغلب العلماء في الساحتين السنية والشيعية انسداد العلم، اي العجز عن الوصول الى القطع في التفاصيل الدينية. وبعضهم اعترف حتى بانسداد الطريق لهذا العلم، وذلك لغياب القرائن الدالة على الاطمئنان بمؤدى الاخبار المنقولة؛ من أمثال الوحيد البهبهاني والمحقق القمي وصاحب الرياض وغيرهم 7 4 . وهو امر يتسق مع منطق الفهم المجمل. لكنهم رغم ذلك ظلوا محافظين على مسلكهم التقليدي من الفهم المفصل، وكان يمكن لهذا الاعتراف ان يفضي الى تغيير حاسم وجذري بالنسبة الى طريقة التفكير واسلوب الفهم، بعيداً عن المناهج التقليدية المتعارف عليها، وذلك بادخال عناصر جديدة لها دورها الفاعل في تحديد النتائج المعرفية المرتقبة.

وما نريد قوله أخيراً هو ان الشريعة أُنزلت انزالاً مجملاً، وان الصحابة فهموها طبقاً لهذا الاجمال، لذلك نراهم تعاملوا معها من موقع القطع والمقاصد. فالطريقة المثلى هي ما كان عليه المسلمون زمن النبي الاكرم (ص) والخلفاء الراشدين، حيث انه اذا عرضت عليهم حادثة ولم يجدوا لها شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله؛ جمعوا لها وجهاء القوم فاستشاروهم 8 4 . وهناك حوادث عديدة تدل على هذا العمل، ومن ذلك ما صوّره مالك بقوله: ادركت اهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فاذا نزلت نازلة جمع الامير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه انفذه، وانتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله 9 4 .

هكذا فعمل الصحابة قائم على بيان النص إن أمكن، والا لجأوا الى الاجتهاد المنبني على الواقع والمقاصد وذلك بجمع وجهاء الرأي البارزين. أما اليوم فلا شك اننا نواجه اجمالاً يتضاعف مضاعفات عديدة قياساً عما كان عليه الامر في عصر الرسالة والنص، وذلك لغياب وضياع الكثير من القرائن الدالة على واقع الحال آنذاك.

مقارنة بين المسلكين المجمل والمفصل

يمكن مقارنة الفهمين المجمل والمفصل بحسب النقاط التالية:

1 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد. حيث الفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، وليس هو الحال مع الفهم المفصل الذي يعمق حالة الانفصال والتعارض معها. وهذه النقطة هي من اهم الاشكالات التي تطرح ضد الفهم الاخير، حيث انه لا يدع مجالاً للأخذ بالمقاصد؛ طالما ان الأخذ باحدهما يفضي الى التعارض مع الاخر. الامر الذي يفسر لنا كيف ان موقف المنظرين للمقاصد هو موقف يمتاز بالتبرير لا التشريع. فهم لا يتجاوزون اضفاء الدلالة المقصدية على المفصلات. ومع ان هذا الاضفاء يعد خطوة صحيحة؛ لكن الوقوف عندها يوقع في التناقض. فالمفصلات إما ان تكون دالة على المقاصد، وبالتالي تكون الحاكمية لهذه المقاصد باعتبارها الغاية المطلوبة، مما يبرر التشريع بحسبها، او انها لا دلالة لها في ذلك، وهو ما يبرر ثبات العمل بالمفصلات.

فالذين نظّروا للمقاصد اعترفوا ما للمفصلات البيانية من مقاصد لكنهم حصروا العمل بالاولى واخفوا دلالة ما تعنيه الاخرى من غلبة وحاكمية على المفصلات ومنها المفصلات المعارضة. فالعمل الثابت بالمفصل لا يتسق ومقالة المقاصد مادامت تغايرات الواقع لا تنتهي بحد معين. في حين ليس الامر كذلك عند التعويل على الفهم المجمل؛ طالما انه يمتلك اكثر من طرف، الامر الذي يقبل التوجيه بحسب ما تفرضه نظرية المقاصد دون تعارض. وبالتالي كان بمقدور الفهم المجمل ان يجنبنا الكثير من موارد الخلاف والمعارضة، وذلك من حيث الاجتهاد في الواقع وعلاقته بالمقاصد، الى الدرجة التي تصبح التخصيصات والتقييدات والناسخ والمنسوخ كلها ساحة مفتوحة بانفتاح الواقع حضوراً واستشرافاً.

هكذا ان العمل بالفهم المجمل يقضي على حالة التعارض التي تحصل بين النص من جهة، وبين الواقع والمقاصد والعقل من جهة اخرى. فحين يصادفنا هكذا تعارض نعلم او نتوقع ان هناك التباساً وتشابهاً قد جرى بخصوص فهمنا للنص، مما يقتضي حلّه عبر الواقع او الوجدان. فمثلاً لو ان حكم النص اسفر عن بعض الاضرار المحسوبة من غير توقع ما يقابلها من استشراف للمصالح العقلائية؛ فان ذلك لا يجعلنا نعتبر اللبس في ذات الواقع او الضرر الملحق بقدر ما هو لبس في فهم النص، مما يستدعي معاملته بصيغة اخرى مفصلة تبعاً لما تمدنا به الخبرة الموضوعية للواقع وهدي المقاصد. فلو لم نفعل ذلك لكنا قد اوقعنا النص في تناقض مع مقاصد التشريع وكذلك الواقع وما ينطوي عليه من مصالح عامة. وبالتالي فانه لا يمكن قطع الصلة بين النص من جهة، وبين سائر العناصر الاخرى الفاعلة من جهة ثانية. او ان قطع الصلة بينهما ليس له مبرر، فالحقيقة لا يمكنها ان تضاد حقيقة اخرى في الموضوع الواحد، وان ما يتصور بانه نوع من التضاد والمنافاة بين النص من جهة، والعقل والواقع من جهة اخرى، انما في حقيقة الامر هو عبارة عن تضاد ظاهري يوحي بوجود التشابه في النص مهما كان واضحاً وصريحاً، وذلك كما عرفنا ان العالم اللغوي هو عالم لا يمكن ان يتجرد عن التشابه والاجمال مهما حاولنا تفصيله اكثر فاكثر.

2 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب طريقة معالجة قضايا الواقع. فالمسلك المجمل يولي الواقع موقعاً رئيساً في المعالجة والتأثير والتفصيل، فهو عنده محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، وذلك بخلاف ما يعمل به الفهم المفصل الذي يحد من تأثير الواقع ولا يوليه الكثير من الاعتبار.

كما انهما يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص عندهما. فالنص لدى المسلك المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل له صفة تكوين الفكر. اي ان الاول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً اكثر منه مكوناً، وعلى خلافه الاخر الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً اكثر منه موجهاً. ولا شك ان الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يولي النص صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه يكون بحاجة الى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها سمة التوجيه، وهو لا يجدها غنية الا في الواقع. مع لحاظ الامر النسبي بين التوجيه والتكوين، ذلك ان التوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، وكذا فان التكوين هو الاخر لا يخلو بدوره من توجيه وان قلّ ذلك 0 5 .

كذلك انهما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. ذلك ان الخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل يزداد في الغالب كثرة كلما ازداد الرجوع الى التدقيقات اللغوية واحتمالاتها، وليس الامر كذلك مع الفهم المجمل، اذ الرجوع الى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا انه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن.

3 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب اضفاء القدسية على نتائجهما الاجتهادية. فالنتاج عند الفهم المجمل يجعل القدسية تلوح المجملات المستلهمة من النصوص ولا يولي للمفصلات الظنية مثل هذا الاعتبار. وهو خلاف ما يعمل به الفهم المفصل الذي يجعل القدسية مبسوطة وسارية المفعول على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين.

كذلك انه بقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليه من قدسية؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصل، حيث انه بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه قدسيته حتى في المفصلات الظنية؛ بقدر ما ينغلق عن الواقع واعتباراته. فالاجتهاد لدى الفهم المفصل هو اجتهاد في النص. بينما الاجتهاد في الفهم المجمل هو اجتهاد في الواقع المفتوح. وان النتائج التي تسفر عن الاجتهاد في الفهم المفصل هي ليست مجرد نتائج معرفية فحسب، بل تلتبس مع ما يضفى عليها من ثوب مقدس، رغم انها لا تتعدى دائرة الظن والاحتمال في الغالب. الامر الذي يسهل توظيفها كما ويصعب معارضتها من الناحية الايديولوجية، ولعل واقعنا اليوم زاخر بهذا المعنى المعبِّر. في حين ان ما يترتب على الاجتهاد في الفهم المجمل يخلو من مثل ذلك الثوب؛ لكونه يعتمد على الواقع لا النص، وبالتالي فهو اكثر تواضعاً من الاجتهاد القائم على الفهم المفصل.

هكذا فانه بفعل الفهم المجمل يمكن القضاء على الكهنوت الذي يُختلق عادة عبر منهج الفهم المفصل، والذي ينسب كل ما هو اجتهادي الى احكام الشريعة الالهية، ومن ثم الباسه باللباس المقدس. وبطبيعة الحال قد تتفاوت قدسية هذا المقدس وكذا طبيعة الكهنوت القائم عليه. في حين بحسب الفهم المجمل يتقارب الناس في فهمهم للدين، شبيه بما كان عليه الامر زمن الرسالة. فرغم اختلاف المدارك العقلية للصحابة الا ان ذلك لم يشكل عائقاً في ارتباطهم المباشر بالدين؛ دون وساطة اخرى كتلك التي تنشأ في الكهنوت، وذلك لسهولة الدين وسماحته. وقد كان الاجتهاد نافذاً بخصوص الواقع دون النص. ومعلوم ان التفكير في الواقع لا يبعث على خلق القدسية وما يترتب عليها من ظهور الطبقة الكهنوتية التي تتوسط بين الناس والدين.

ولا شك ان ما ذكرناه حول الفهم المجمل يقرب بين الاتجاهات التي تتنافس في طروحاتها حول طبيعة النظام السياسي، فاذا كان اصحاب التيارات الاسلامية لا يملكون برنامجاً مثالياً يمكن دفعه الى ساحة الفعل والتنفيذ، وانهم يختلفون في برامجهم السياسية، فان ذلك يدعو الى التسامح من جانب، كما انه يدعو الى المزيد من محاولة تفهم الواقع اكثر فاكثر، وذلك لغرض فك اشكاليات مجملات النص، وجعل الاجتهاد اجتهاداً دائراً في ميادين الواقع المختلفة، مع اخذ اعتبار التظلل بالموجهات الكلية للنص وعلى رأسها المقاصد.

4 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالامة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي بخلاف المسلك المفصل، حيث انه مسلك تفريقي تنازعي لارتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون التي تنشأ من المفصلات. الامر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للارتباط بهذا المدعى من المقدس 1 5 .

كما انهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد في حدود التزامات الافراد في قضايا الاحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل الى التخفيف والتقليل، وعلى خلافه المسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع. وقد اعتبر بعض المفكرين ان توسيع الفقهاء لدائرة الاحكام انتج تضييق الدين على المسلمين تضييقاً اوقع الامة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع ان يعدّ نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الاخذين بالعزائم >فبذلك اصبح الجمهور الاكبر من المسلمين يعتقدون في انفسهم التهاون اضطراراً، فيهون عليهم التهاون اختياراً؛ كالغريق لا يحذر البلل. لانه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الاطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته؟ وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد افسدت العجمة لسانه لتصح صلاته؟ وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب امامه في الصلاة؟ او يعرف شدّات الفاتحة الثلاث عشرة وينتبه لاظهارها كلها ليكون ادى فريضته؟<>

وعلى هذه الشاكلة أدان بعض اخر الفقهاء وأخذ يتهمهم بتضييع الدين لما شددوا الخناق على المكلف في كثرة توسيعهم لقضايا الاحكام ومطالبتهم الالتزام بها 3 5 .

***

هكذا ان القول بالفهم المجمل يجعلنا نعيد صياغة الاجتهاد إن كان - في الاساس - يُعد اجتهاداً في النص او الواقع؟

فاذا ما اتفقنا على كون المجمل مبيناً؛ فان المشكلة تظل دائرة بحدود المفصل الذي هو محل التشابه والاحتمال، وبالتالي فان علاج هذا المفصل إما ان يتم عبر النظر في النص ذاته كما هو مسلك الفقهاء، او عبر النظر في الواقع وهدي المقاصد.

ولإبراز مظاهر الاختلاف بين المسلكين حول طبيعة المفصل؛ علينا بالملاحظات التالية:

1 ـ ان المفصل الواقعي أوسع قدرة في التعامل مع قضايا الواقع وحقائقه المتغيرة، مع احتفاظه بمكانة النص ومجملاته المبينة. وذلك بخلاف الحال مع المفصل النصي الذي اثبتت الايام انه لا يمتلك سعة في القدرة على التعامل مع قضايا الواقع باتساق، وذلك لكثرة اصطدامه مع حقائق الواقع، وتراجعه بعد كل خطوة يصطدم بها.

2 ـ ان ما يطرح تحت البحث حسب المفصل الواقعي هو التزاوج بين المجمل النصي والمفصل الواقعي، حيث يفترض ان يكون التفصيل جارياً في الواقع وذلك لفتح المجملات المغلقة في النص. في حين ان ما تقوم به اطروحة المفصل النصي هو البحث في نفس السياق من النص اجمالاً وتفصيلاً.

3 ـ ان المفصل النصي هو مفصل متشابه ترد فيه الاحتمالات التي لا ترقى الى القطع او الاطمئنان. في حين ليس بممتنع على المفصل الواقعي بلوغ تلك المرتبة طبقاً للحاظ الوجداني.

4 ـ غالباً ما يكون المفصل الواقعي اقوى ترجيحاً من المفصل النصي إن لم يفضِ الى القطع. وبالخبرة والتجربة ومرور الزمن يكون اكثر قابلية للاقتراب من الحقيقة، بخلاف ما عليه المفصل النصي، وذلك لاعتبارين مهمين كالاتي:

اولاً: ان العملية المعرفية في حالة ظنون المفصل الواقعي تمر بطرق قريبة وقصيرة في الكشف عن الحقيقة، حيث يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون النصية البيانية عبر سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الاستدلالية بما تتضمن من مدارات احتمالية متشعبة، الامر الذي يجعلها اضعف قوة وجاذبية مقارنة مع ما تتصف به الظنون الخبروية. فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فان على الفقيه ان يراعي جملة امور لتفضي قضيته الى المطلوب. فحيث ان مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ لذا فان عليه ان يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الاخذ بعين الاعتبار ان السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الاحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فان التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الاخر يعمل على اضعاف هذه القيمة. وكل ذلك يواجهه الفقيه، اذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على اخرين تناولوا تراجم الرجال بالاجمال المخل، خاصة وانه لم تكن بين الطرفين معاصرة واحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر. واذا اضفنا الى ذلك ان المنقول من الرواية قد لا يخلو من الزيادة والنقصان خلال مروره في السلسلة، وان اغلب المنقول هو منقول بالمعنى وليس باللفظ، وهو عادة ما يكون مقطوع الصلة عن ملابسات الخبر، الامر الذي يبعث على احتمال كون المراد له خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والاطلاق. فضلاً عن ان للفظ احياناً وجوهاً من الاحتمالات، مع وجود ما يعارضه من نصوص اخرى هي بدورها تخضع الى نفس ما مرّ علينا من تعقيدات احتمالية. فكل ذلك لا يدع مجالاً لاحراز الثقة بالظن البياني عادة 4 5 . فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد اخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ او تخصيص وتقييد او غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. اذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والاحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع انه كلما ازداد عدد اطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة اكثر فاكثر. ولا شك ان هذه الحصيلة لا نجدها - عادة - تحدث بخصوص الظنون الخبروية العقلائية، وذلك باعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الاحتمالية التي بعضها يتوقف على البعض الاخر، وانما كثيراً ما يتم التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لأن تعطي المزيد من الوضوح؛ طالما ان هذه الدلالات والبينات هي مما يمكن النظر فيها تفصيلاً بشكل مباشر او شبه مباشر.

ثانياً: ان ظنون المفصل الواقعي هي ظنون تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة اقوى كثيراً مما عليه ظنون المفصل النصي. حيث من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة ما من التغيرات والتغايرات. اذ ان كل تنويع جديد يعبر عن بينة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فان لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو امر يختلف كلياً عما هو الحال بالنسبة الى النظر في النص، وذلك لكونه يتصف بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فان الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وان الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الاضافة الجديدة باستثناء ما يمكن ان يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت اليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فان الغالب في الامر يعود الى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في دلالات الاشارة الى العلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص الا بعد ان شاعت الاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. مما يعني ان مراجعة الواقع بحسب التوليد الخبروي له دور في تصحيح الافكار والرؤى؛ سواء الافكار المستمدة من الواقع ذاته، او حتى تلك المستنبطة من النص عبر الاليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي ان يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص.

وبعبارة اخرى ان هناك معلمين استكشافيين للواقع، في حين لا يوجد الا معلم استكشافي واحد للنص تتم المراجعة والبحث فيه. كما ان هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الاول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كالاتي:

ان النص لما كان ثابتاً ومحدوداً؛ فان كل ما يرجى منه هو استكشاف الدلالات التي يتضمنها دون انتظار المزيد من النص، حيث لا يوجد غيره. كما ان دلالاته لما كانت علاقتها بالكشف عن الواقع هي دلالات تتصف غالباً بالاشارات المجملة؛ لذا فان اي مراجعة فيه لا ينتظر ان تكون كاشفة عن جديد في هذا الواقع عادة. وبالتالي فان هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما ان المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي عادة حدود النص ذاته. في حين ان للواقع معلمين استكشافيين، احدهما ما يتعلق بالدلالات المعطاة مما هو حاضر امامنا من حوادث ناجزة، والاخر من حيث ما يضاف الى ذلك من دلالات منتظرة لها علاقة بالحوادث المستقبلية الجديدة، او التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد. واذا ما تم التقابل بين حروف النص وبين حوادث الواقع؛ فالملاحظ ان الاولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما ان مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار اضافة حرفية جديدة. في حين ان حوادث الواقع ليست محصورة امامنا بكاملها، فبعضها اصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الاخر ننتظر قدومه، وبالتالي فان الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وان المراجعة في حوادث الواقع تارة تتم باعادة النظر فيما سبق دراسته من غير اضافة معتمدة، واخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا لحوادث الواقع وقضاياه غير منقطعة ومؤثرة على اكثر من مجال، ذلك انها تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما ان لها تأثيراً على تغيير افكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.

هكذا يتضح ان لظنون المفصل الواقعي وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي اعظم واوسع من تلك التي تعود الى ظنون المفصل النصي.

5 ـ بحسب المفصل الواقعي لا يُنسب ما يتم التوصل اليه من نتائج الى الشرع وحكم الله تعالى، لا ظاهراً ولا واقعاً، الا عندما يكون الامر قطعياً يحكم به الوجدان العقلي دون ادنى ريب. وهو يؤمن بالسلوك الذي كان عليه العديد من السلف الاوائل الذين لا يحرمون ولا يحللون الا بنص صريح، بل يقولون نكره ونستحسن، فعلى ذلك كانت سيرة مالك بن انس الذي يعقب على مثل قوله هذا بقبس من القرآن: ((إنْ نظنُّ الا ظناً، وما نحن بمستيقنين)) الجاثية/2 3 5 5 . وربما كان ذلك اتباعاً لما جاء في قوله تعالى: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون)) يونس/9 5، وقوله: ((ولا تقولوا لما تَصفُ ألسِنتُكم الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذبَ..)) النحل/6 1 1 . وعليه جاء عن مالك انه قال: >لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام<>انك في حال فتواك مخبر عن ربك وناطق بلسان شرعه، فما اسعدك ان أخذت بالجزم، وما أخيبك ان بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى: ((وان تقولوا على الله ما لا تعلمون)) وانظر الى قوله تعالى: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون)) وتفطن كيف قسّم الله مستند الحكم الى القسمين، فما لم يتحقق الإذن فانت مفتر<.

واذا كانت مثل هذه المساند التراثية تؤكد لنا بان فهم النص لا يسعه بحال ان يغطي مجالات الواقع المفتوح، ففي القبال لا غنى عن ممارسة الاجتهاد في الواقع مع هدي المقاصد. ويؤيد هذا ما ورد في صحيح مسلم في رواية عن النبي (ص) انه اذا أمّر أميراً على جيش او سرية أوصاه ومن معه، ومما جاء في وصيته: >واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فانك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا<>واذا حاصرتم حصناً فأرادوكم أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلوا فانكم لا تدرون أتصيبون فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا بعد فيهم بما شئتم<>

بل ان اجتهاد النبي (ص) في القضايا الدنيوية شاهد اخر على كون المطلوب هو النظر في الواقع دون انساب الى الله تعالى والشرع.

الشبهات المطروحة حول المجمل

هناك بعض الشبهات يمكن ان ترد ضد منطق الفهم المجمل وجعل التفصيل قائماً على اعتبارات العقل والواقع والمقاصد، وذلك كالاتي:

1 ـ من هذه الشبهات يمكن ان يقال ان منطق الفهم المجمل يتنافى مع بذل الوسع في الجهد في الاجتهاد، وهو الاجتهاد المرهون في بحث النص وشروطه الداخلية والخارجية.

والجواب هو ان هذه الشبهة لا ترد على ما نحن فيه، اذ لا ينكر ان الضرورة تقتضي بذل الجهد الكافي في الاجتهاد من حيث هو عمل معرفي يراد منه التحقيق، لكن ليس بالضرورة ان ينصب هذا الجهد بخصوص النص ما لم يورث لنا القطع او الاطمئنان، بل يتحول جهد الاجتهاد في بحث قضايا الواقع وعلاقته بالمقاصد ووجدان العقل.

2 ـ ومن ذلك ايضاً ما ذكره الشاطبي من وجود النص الصريح بأن معظم احكام الشرع هي مبينة غير متشابهة، حيث يقول تعالى في آية المحكمات: ((هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ امُّ الكتاب وأُخرُ متشابهات)) آل عمران/7، حيث - كما يذكر الشاطبي - ان ام الشيء هو معظمه وعامته، وان قوله تعالى ((هنّ ام الكتاب)) يدل على انها معظمه. والغريب ان الشاطبي يذكر - اضافة الى ذلك المعنى - معاني اخرى يجعلها كأنها مرادفة للمعنى الاول مع وجود الفارق بينها، اذ يذكر ان العرب تقول: >ام الدماغ< بمعنى الجلدة الحاوية للدماغ الجامعة لاجزائه ونواحيه. كما ان معنى الام هو الاصل، وكل ذلك مما يراه الشاطبي راجعاً الى المعنى الاول 0 6، مع ان معنى الاصل ليس كمعنى المعظم ولا ان احدهما لازم او متضمن للاخر، وكذا يقال الشيء نفسه بخصوص معنى الجامع للاجزاء او الحاوي لها، فهو ايضاً ليس بمعنى معظم الاجزاء، فجلدة الدماغ الحاوية لاجزائه ليست هي اغلب هذه الاجزاء ولا كلها، وهي إن اعتبرناها من اجزاء الدماغ فلا شك انها لا تمثل سوى الشيء القليل منه.

3 ـ وهناك شبهة اخرى كثيراً ما يلجأ اليها العلماء والفقهاء في بيان صدق طريقتهم من الفهم المفصل للنص، وذلك بأخذ اعتبار ما تدل عليه آيات إكمال الدين وبيان الشريعة وان كل شيء يمكن ايجاده في الكتاب او السنة. الامر الذي يناهض ما ذهبنا اليه من الفهم المجمل، فكيف يمكن التوفيق بين الامرين؟ كذلك ماذا نعمل بالتفاصيل الواردة في العبادات؟ وبعبارة اخرى؛ لو كان المتشابه في الدين كثيراً لكان الالتباس والاشكال كبيراً، وهو يتنافى مع كون القرآن بياناً وهدى مثلما جاء في عدد من الايات، فمثلاً جاء في قوله تعالى: ((وانزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل اليهم)) النحل/4 4، حيث يمكن ان يشكل بانه لولا ما فيه من البيان لما تمت وظيفته من افهام الناس، ولكان ملتبساً محيراً وليس بياناً وهدى.

وقد يجاب على ذلك من جانب المعارضة وهو ان دلالات ما ذكر من النصوص او الايات هي في حد ذاتها لم يتفق على فهمها المفسرون خلفاً عن سلف، وان الاختلاف بينهم هو اختلاف كبير مثلما ابرزنا ذلك في كتاب (جدلية الخطاب والواقع) 1 6، وبالتالي قد يقال انها لهذا السبب ليست واضحة وصريحة، فالمتفق عليه واضح والمختلف فيه ليس بواضح، وذلك اذا ما اخذنا باعتبار ان مثار الاختلاف هو التشابه الذاتي دون الرجوع الى افتراضات اخرى خارجية كالاعتبارات الايديولوجية وما اليها.

نعم، قد يجاب على ذلك مثلما فعل الشاطبي من ان مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات، الا ما هو نادر، وعنده ان الامر يعود الى نظر المجتهد وما له من مخارج ومناطات، خاصة وان المجتهد لا تجب اصابته لما في نفس الامر، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه، لذا فالانظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة. ويدل على ذلك ان كل عالم يجد في نفسه الوضوح في علمه للشريعة بلا تشابه ولا التباس سوى القليل والنادر. فما من مجتهد الا وهو مقر بوضوح ادلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها، ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه الادلة والنصوص لتشابه الامر على اكثر الناس 2 6 .

ومن حيث المبدأ قد يكون الخلاف بين العلماء مصدره التشابه في النص كالذي ذكرناه، كما قد يكون مصدره عوامل خارجية اخرى. وليس هناك معيار صارم يمكن تحكيمه في ترجيح ايّ من الفرضين على الاخر. لكن لا بد من الاخذ بعين الاعتبار دور الوجدان العقلي في التحكيم، وذلك بافتراض ما له من سلطة عليا مجردة تتعالى على حجج المختلفين واعتباراتهم الذاتية فيما يحسبونه من الواضحات. اذ قد يكون الامر واضحاً لدى شخص متأثر بالاعتبارات النفسية، مع انه ليس بواضح منطقياً. فكما يلاحظ - مثلاً - ان المقلدين هم اكثر الناس احساساً باليقين والوضوح، مع ان ذلك غير متحقق لدى من يقلدونهم. وقد يحصل العكس، وهو ان يكون الامر غير واضح لدى شخص، مع انه جلي وواضح منطقياً، كالذي يلاحظ بخصوص ادراك بعض القضايا المنطقية والرياضية.

على ان كثرة الخلاف في الرؤى حول قضية جزئية تعد علامة قوية على كونها متشابهة وليست بيّنة، سواء كانت بنظر المختلفين واضحة او غير واضحة، كالذي يلاحظ في دوائر الخلاف الكبيرة بين العلماء.

مع هذا نقول من حيث الحل: ان الوضوح والبيان لا يتنافى مع اعتبارات المجمل، كما هو حال المجمل المبين على ما عرفنا سابقاً، حيث يتجلى في الكثير من النصوص، وبالتالي فليس ثمة تضاد بين المبين والمجمل، سواء كان المجمل من الصنف العارض او الذاتي، رغم ان المتشابه حاضر هو الاخر مهما كان المبين بيناً. وهو موضع خلافنا مع مسلك الفهم المفصل. حيث نستبعد ان تصح معالجته بالتدقيق والاجتهاد في النصوص، وانما يعامل طبقاً للرجوع الى الحجج الثلاث المشار اليها سلفاً. فمثلاً على ذلك جاء في قوله تعالى:((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)) آل عمران/8 3 1 ـ9 3 1 . فتعبير النص بأنه بيان للناس وهو بصدد الحديث عن تلك السنن انما هو تعبير بالمجمل عن هذه السنن، وان الاية تحث على النظر الى الواقع للكشف عن تفصيلها.

وعلى شاكلة ما سبق قد يقال كيف نوفق بين المسلك الذي نسلكه بخصوص الفهم المجمل وبين قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، ذلك خير واحسن تأويلاً)) النساء/9 5 . فهل الرد المذكور هو شيء اخر غير النص، كتاباً او سنة؟!

لكن يبدو ان الاية بصدد ما يحصل من تنازع حول المصاديق الواقعية تبعاً لسياقها، ولا علاقة لها بفهم النص، والا افضى الامر الى الدور، اذ يصبح المعنى انه متى حصل التنازع والاختلاف في فهم النص فلا بد من الرجوع في ذلك الى النص او الكتاب والسنة، وهو ما يوقعنا في الدور. أما في عصر الرسالة الزاخر بالوضوح فان رد ما هو متنازع فيه الى الرسول يعد أمراً بيناً ومطلوباً. لكن بعد غياب قرائن الوضوح مما تلى ذلك العصر الذهبي اصبح الرد في حد ذاته موضع تنازع لاختلاف الفهم في النص، وذلك تبعاً للنهج المفصل. مما يعني ان حالات الرد التي ينتفي فيها الوضوح؛ تصبح - على حد تعبير المنطقيين - سالبة بانتفاء الموضوع. إذاً لا مفر من اعتبار الرد في الاية هو من المجمل المبيّن، وذلك لما يتضمنه من عناصر بينة واخرى متشابهة، فالعناصر البينة هي تلك التي تحقق مفاد الرد الى الله والرسول، أما المتشابهة فوضعها يختلف ولا تعالج على نفس النسق الذي تعالج فيه القضايا الاولى. مع الاخذ بعين الاعتبار ان اهم العناصر البينة التي ينبغي الرد اليها هي تلك التي تتصف بالموجهات الكلية العامة كاعتبارات دفع الضرر والحرج والمقاصد وغيرها مما تنفع في حل التنازع المشار اليه في الاية الكريمة.

وكذا قد يقال الشيء نفسه فيما يخص قوله تعالى: ((واذا جاءهم امر من الامن او الخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) النساء/3 8 .

والملاحظ انه لا علاقة للاية بمفهوم الاستنباط المطبق على النص، انما لها علاقة بالامور الحربية والسياسية كما هو واضح من سياقها، مثلما اشار الى ذلك رشيد رضا ناقداً العلماء الذين فسروا الاستنباط باصطلاحهم المستحدث 3 6 .

4 ـ كما قد يقال بأن العمل بالفهم المجمل لا يبقي من الدين شيئاً. فالدين من غير تفصيل هو بحكم العدم. فما معنى مثلاً اننا مكلفون اجمالاً لكن دون ان نعلم ماهيات هذا التكليف ولا حدوده؟ وما معنى اننا مطالبون مثلاً بالجهاد او الصوم او الصلاة وغير ذلك؛ مع اننا لا نعرف على وجه التفصيل كيف يتم ذلك ولا حدوده؟ وقد سبق لبعض العلماء ان منع التكليف بالمجمل وحكم بعدم الاحتياط بالنسبة لنا كغائبين 4 6، كما ذهب جماعة من العلماء انه لا يمكن التعويل - في هذه الحالة - على البراءة الاصلية لأنها ترفع جميع الاحكام الدينية تقريباً.

هذه هي اعظم شبهة يمكن ان تقدم بصدد الفهم المجمل. وواقع الامر ان هناك شبهة معاكسة ترد على مبنى الفهم المفصل. ذلك ان لهذا الفهم خاصية وهو انه يبعث على كثرة الخلاف، حيث المسألة الواحدة تتعدد فيها الاراء المختلفة لتصل احياناً الى ما يقارب العشرة. فلو وجدنا مسألة طُرح فيها مثل هذا العدد المتضارب من الاراء، وكل منها يدعي انه يصيب مراد الشارع او يظن انه كذلك؛ لكان يعني ان تسعة اعشار هذه الاراء هي ليست من الشريعة بشيء، ولتبين لنا من الناحية المنطقية اننا نراهن على اصابة الشرع باحتمال قدره واحد من عشرة فقط.

وبالتالي فنحن امام شبهتين متقابلتين، كلاهما يفتحان الباب امام تعطيل الشريعة، احداهما تعمل على تعطيلها بطريقة الاصطناع، اي انها تصطنع شريعة وتتوهم صدقها، رغم ان احتمال كذبها وارد وكبير، لكثرة الخلاف وذهاب القرائن الدالة على الصحة. أما الاخرى فانها تعمل على تعطيلها من خلال إبعاد هذه الاحتمالات والابقاء على المعنى المشترك العام الذي يتصف بالمبين الصحيح، او على المعنى المخصوص طبقاً للمجمل العارض على ما عرفنا ذلك من قبل.

مهما يكن فقد افاد بعض القدماء ما هو شبيه بهذه الشبهة، حيث اعتقد ان عدم التعويل على خبر الاحاد يفضي الى نفي الشريعة 5 6، وذلك باعتبارها مستمدة في الغالب عبر هذا الخبر الناقص الذي لا يبعث - عادة - على الاطمئنان لكثرة التباسه بالتشابه والمحتملات مما يشكل ابرز مشاكل الفكر الاسلامي التي لم تجد لها حلاً بعد. وفعلاً ان العمل بالمجمل لا يتسق مع العمل بهذا الخبر ما لم يقترن بقرائن اخرى اضافية وكافية للوثوق به. فما لم يتحقق الوثوق والاطمئنان بهذا الخبر فانه لا عبرة للعمل به ولا حجية لوجوب الالتزام بمؤداه. ولا اظن ان هذا مما ينبغي الخلاف عليه. لذلك أقر بعض العلماء كالشيخ الانصاري من أن الدلالات الخاصة بحجية خبر الواحد لا تدل الا على و جوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤداه، بحيث يكون احتمال مخالفته لواقع الحكم الالهي بعيداً لا يعتني به العقلاء ولا يسبب لهم الحيرة والتردد. واكثر من هذا انه نفى ان يكون الاجماع والضرورة من الدين ثابتين في وجوب الرجوع الى الاخبار التي لا تفيد القطع 6 6 . فكيف اذا ما كانت لا ترقى عند التحقيق الى الوثوق والاطمئنان؟! بل على العكس نرى انه مع عدم الوثوق يُعد التعويل على الاخبار باعثاً على اختلاق دين جديد مصطنع. وبالتالي لا يجوز ان يكون الدين رهين الظنون والترددات التي تطفح بها الروايات والاخبار.

مع انه قد يقال ان من الخطأ اعتبار منهج الفهم المجمل يفضي الى تعطيل الشريعة. ذلك ان هذا المنهج يعترف بالاحكام المبينة وهو يرى ديمومة بقاء الشريعة بكلياتها ومقاصدها، بخلاف منهج الفهم المفصل الذي اعتمد على المتشابهات المحتملة التي لا دليل عليها.

نعم طبقاً لما سبق تكون دائرة المبين في الدين دائرة ضيقة جداً. لكن في قبالها تصبح دائرة الاجتهاد بحسب منطق الواقع والوجدان مع هدي المقاصد دائرة واسعة بلا حدود. فمثلاً يكفينا في التوحيد من الناحية الدينية الاعتراف بوحدانية الخالق وصفاته المقطوع بها، أما التفاصيل التي تخص طبيعة الذات والصفات والعلاقة بينهما فهي من القضايا المفصلة التي لا تعلم بالدين على وجه القطع، اي انها من الامور المتشابهة التي لا ينبغي اضفاء القدسية الدينية عليها. واذا كان من المحال ان يتوصل العقل الى التفاصيل الخاصة بطبيعة الذات والصفات؛ فالاولى الاحتفاظ بالمجمل دون ولوج ذلك العالم الغيبي. ويؤيد ذلك ان النصوص القرآنية تحث على التفكر في الخلق والنظر الى الايات الكونية وذلك لاجل الايمان بالاله الواحد، وهي بذلك تكتفي بالمطالبة المجملة من التفكير والتأمل دون استخدام مقاييس الادلة والصنعة، رغم ان هذه القضية هي اعظم قضية دينية وابلغها تأثيراً.

أما فيما يتعلق بالمجملات الدينية التي لها علاقة بالواقع المباشر؛ فواضح انه يمكن تفصيلها عبر عناصر الواقع والوجدان وهدي المقاصد، دون انسابها الى حكم الله تعالى كما اسلفنا.

الفهم المجمل والتعبدات

تظل هناك شبهة تواجه الفهم المجمل فيما يخص موقفه من التعبدات المفصلية، فهل يتم الرجوع فيها الى الواقع والوجدان وهدي المقاصد ام لها سبيل اخر مختلف؟

واقع الامر ان المجمل بخصوص العبادات يمكن ان يكون على ثلاثة انواع كالاتي:

أحدها المجمل المتشابه، وذلك إن كنا لا نعلم من حيث الاصل نوع العبادة المكلفين بها، فإن كان هناك تردد بين اكثر من نوع فان الوجدان لا يمنع من اتيان اي منها، أما لو كنا في شك بنوع محدد فان ذلك لا يلزم الاتيان به طالما لا يوجد بيان في الامر.

أما النوع الثاني فهو فيما اذا كان هناك مجمل عارض كالصنف الذي تتحقق فيه حالات مستجدة تغير من موضوع الحكم وشروط الاتيان به تبعاً لتبدلات الظروف، فلا بد في مثل هذه الحالة لحاظ المقاصد والاتيان بما يمكن اتيانه من العبادة ولو على نحو المكافئ والنظير. فمثلاً كلنا يعلم عدد الصلوات اليومية وشروطها، وكذا بخصوص صيام شهر رمضان وشروطه، لكن كيف يمكن تطبيق ذلك في بلاد تبلغ فيها ساعات النهار او الليل عدداً طويلاً يفوق ساعات اليوم مثلاً؟ فهنا نرى ان مقاصد التشريع لا تسمح بالغاء احكام الصيام والصلاة في مثل هذه الحالات طالما ان من الممكن ان يجتهد العقل في تقدير الاوقات والساعات التي تقام فيها مثل تلك العبادات.

اما النوع الثالث فهو عندما يكون لدينا مجمل من النوع الذاتي الاصلي، مثلما هو الحال مع الصلوات، حيث كل صلاة مؤلفة من ركعات، لكن هناك اختلافاً في كيفية اتمام الركعة مع وجود الاختلاف في البسملة والسورة والاجهار والاخفات والتكتيف وما يسجد عليه، وكذا بخصوص الوضوء وغيره. ومع انه لا بد من العمل بحسب طريقة النظر والترجيح او الاجتهاد داخل سقف النصوص قدر الامكان، وذلك لعدم علاقة هذا الامر بالواقع، لكن لا بد في الوقت ذاته من التسامح بشأنها إن لم تصل الى مورد الاطمئنان، وكذا لا بد من التسامح مع الاراء الاخرى المخالفة، طالما ان العمل هو عمل اجتهادي، فضلاً عن كونه يتسق مع مقصد الشرع من توطيد حالة الاخاء بين المسلمين مهما ظهر لديهم من اختلاف الرأي 7 6 . وعلى ما يقوله رشيد رضا انه عند اختلاف الأفهام لا يقتضي الشقاق، بل ينبغي النظر والترجيح بينها، وما كان ظني الدلالة فهو موكول الى اجتهاد الافراد في التعبدات والمحرمات، والى اولي الامر في الاحكام القضائية 8 6 .

***

يبقى - أخيراً - ان هناك اربع قضايا في الفهم المجمل يواجهها الباحثون المختلفون وذوي النزعات المذهبية كالاتي:

1 ـ قضايا مجملة مبينة لا خلاف حولها.

2 ـ قضايا مجملة مبينة لدى البعض وغير مبينة لدى البعض الاخر.

3 ـ قضايا مجملة متشابهة لدى الجميع.

4 ـ قضايا مفصلة مختلف حولها.

والذي يلاحظ في هذه الدوائر الاربع من القضايا؛ ان الدائرة الاولى هي محل الاتفاق التي ينبغي قبولها ما لم تتصادم مع وجدان العقل والواقع والمقاصد. وان الدائرة الثانية هي محل الاختلاف بالقدر الذي يثبت كونها ترقى الى المبين فعلاً ام لا. وبعبارة اخرى ان منشأ الخلاف ينبغي ان يتحول مما هو خلاف حول التقرير فيما اذا كانت صحيحة او لا؛ الى خلاف دائر حول ما اذا كانت ترقى الى المبين ام ان فيها من الشكوك ما يجعلها ليست بينة. ولعل افضل مثال على ذلك مسألة الخلاف الخاص بالنص على الامامة، ذلك ان من المجدي ان تُبحث من زاوية غير تلك الزاوية التي ألف المسلمون بحثها، وذلك انطلاقاً من التدقيق في مدى بيانيتها وتشابهها. فما هي القرائن الدالة على بيانيتها؟ كذلك ما هي القرائن الدالة على تشابهها؟ وأي القرائن أقوى واوضح؟

أما بخصوص الدائرتين الاخيرتين فان معالجتهما تتم من خلال عملية الاجتهاد عبر الواقع ووجدان العقل قدر الاستطاعة والامكان.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار