حقيقة النبوة في الفكر الفلسفي العرفاني


يحيى محمد

ان اهم ما سنتعرف عليه خلال هذا البحث هو ان فهم النبوة لدى الفلاسفة والعرفاء مستمد من العلم الالهي المعبر عنه بكل شيء، فالفلاسفة والعرفاء يقدرون للنبي علماً هو العلم بجميع الاشياء، وهو بعلمه هذا يكون اشبه بالتعبير عن >السيرة الذاتية<>

يضاف الى ذلك ان الفلاسفة والعرفاء يفهمون من النبوة بعداً اخر يترتب على العلم الشمولي، وهو البعد المتمثل بالولاية والحاكمية. فلدى الفلاسفة ان النبي او الفيلسوف مفوض بحسب ما له من العقل الفلسفي لأن يحكم العالم على صورة ما يحكم المبدأ الحق الموجودات، وذلك بتكميل النفوس البشرية وايصالها الى غاياتها المتمثلة بالمفارقات السماوية، او على شاكلة ما يطلق عليه المدينة الفاضلة كما لدى الفارابي. فرئيس هذه المدينة يشترط فيه ان يكون حكيماً فيلسوفاً نظير المبدأ الاول الذي يرأس مملكة الوجود، والفيلسوف هنا يطرح نفسه كاعلم من في الارض لاصلاح المملكة الاجتماعية مثلما هو الحال مع المبدأ الاول باعتباره اعلم من في الوجود، اذ بعلمه تتحدد العناية بالوجود، حيث العناية عين العلم، والعلم عين الوجود. أما لدى العرفاء فالامر اكثر بعداً وعمقاً، ذلك ان سلطة النبي او الولي العارف عندهم لا تنحصر بتلك السلطة الظاهرة التي يحكم بها النبي الناس، بل تتقدم عليها سلطة اخرى تفوقها وتكون علة لها، اذ تشكل نيابة عظمى عن الحق لصنع العالم وتكوينه. وهذه هي احدى اسقاطات المنظومة الوجودية، فكما سنرى ان العرفاء اسقطوا كلاً من العلم الالهي وكيفية التنزلات الحقية او الخلقية على العلاقة التي تخص النبي والعارف بالوجود. فهذه العلاقة هي ايضاً عبارة عن علم وصنع وايجاد، او انها علاقة الوهة.

ان ما يثير الاهتمام في الموقف الوجودي من النبوة، هو انه رغم الاتفاق المبدئي بين الفلاسفة والعرفاء حول ما تمثله هذه المرتبة من حقيقة علمية او ادراكية، الا ان الملاحظ هو ان كلاً من الفريقين لم يولها حظاً يفوق المرتبتين التين يتمتعان بهما، كلاً على حدة، واعني بذلك مرتبة الفلسفة والعرفان. فالفلاسفة جعلوا النبوة اقل مكانة وقدرة علمية مقارنة مع الفلسفة. وكذا ان العرفاء فعلوا نفس الشيء في المقارنة بينها وبين العرفان. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان النبي له اكثر من درجة ومقام، فهو لدى الفلاسفة نبي وفيلسوف، وهو لدى العرفاء نبي وولي عارف، وهو تخريج يبعد عنهم التهمة التي فيها يعدون انفسهم افضل من الانبياء وارقى درجة منهم. وعليه كان لابد ان نلقي ضوءاً على طبيعة المرتبتين اللتين يمتثلهما النبي بحسب رؤية كلا الفريقين، وهما النبوة والفلسفة، وكذا النبوة والولاية العرفانية، وذلك تبعاً لما سبق ان بحثناه بخصوص كل من العلم الالهي وتجلياته في العقول المفارقة، وقضية التنزيل وما لها من علاقة بالالوهة وصنع العالم.

لنبدأ اولاً بالرؤية الفلسفية، ثم نعقبها بنظيرتها العرفانية..

الرؤية الفلسفية وحقيقة النبوة

لدى الفلاسفة ان عقل الانسان يكوّنه عقل مفارق يطلق عليه العقل الفعال، فليس لهذا العقل الاخير تأثير مباشر على الجسم، انما يتحقق تأثيره لما هو على شاكلته من العقل الانساني. فكما يقرر الفارابي ان العقل الفعال مختص بكمالات الانسان العقلية، ذلك انه يمنح الانسان قوة ومبدءاً يمكّنه من ان يسعى من تلقاء نفسه الى سائر ما يبقى له من الكمالات 1 . لذا فحيث ان الانسان مرتبط بالوهة العقل الفعال فان حركته الكمالية انما تكون من حيث الاتصال وحتى الاتحاد بهذا العقل الكلي. فالادراك انما يكون لما هو شبيه له كما يقول الفلاسفة من امثال ابن سينا، ومن ثم فان علاقة الاتصال تكون بين المتشابهين، او انها تفضي الى حالة الاتحاد التي هي اعظم واشد من حالة الشبه؛ كالذي عليه صدر المتألهين 2 . وعليه فان الاتصال او الاتحاد بالعقل الفعال هو ميزة كل من الفيلسوف والنبي كما سنرى.

وبحسب الرؤية الفلسفية فان حقيقة النبوة عبارة عن نفس جامعة لعوالم علم كمالية ثلاثة، هي قوى الاحساس والتخيل والتعقل، وقد قُدّر ان يكون للنبي عقل مستفاد يتصل بالعقل الفعال 3 ، واقتضى هذا التقدير ان يتساوى النبي والفيلسوف في الاتصال وكسب المعرفة. حيث كلاهما يتصل بالعقل الفعال المتمثل من الناحية الدينية بجبريل، وهو الذي له الافضلية باعتباره يمثل مصدر المعلومات النبوية وغير النبوية. فالتفضيل وفقاً لهذه الرؤية انما يكون بحسب ما عليه الكائن من الرتبة الوجودية وليس باعتبار ما له علاقة بالقيم المعيارية والاخلاقية كالذي يراه النظام المعياري.

وما يميز القوى الثلاث فيما بينها، هو ان القوة الاولى >العقلية<>التخيل<>ان الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءاً من النبوة<>الحسية<>

هذه قوى النبوة الثلاث التي اعتقد الفلاسفة أنها قد تجتمع في فرد واحد كما هو الحال مع النبي، وقد لا تجتمع وتتفرق وهو الغالب في الناس 7 .

فبالنسبة الى القوة الاخيرة >الحسية<>

وبالنسبة الى القوة الثانية >المتخيلة<، التي هي مرتبة وسط بين الادراكين العقلي والحسي، فالملاحظ ان ما يحصل من إلهام للناس بما سيكون في المستقبل كالتنبؤ في المنام، او ما يسمى بالرؤيا، انما هو وظيفة يقترب بها الانسان من مرتبة النبوة. والفارق هنا بين الناس وبين الانبياء هو ذلك الإلهام الذي يحدث للناس في المنام، اما للأنبياء فيحدث لهم في المنام واليقظة بواسطة الاتصال بسطوع العقل الفعال واشراقه على النفس بالمعقولات، اذ يكتسب النبي الصور ويتخيل تلك المعقولات ويصورها في الحس المشترك بأعظم ما يكون. وعليه كان العقل الفعال اشرف من نفس النبي وغيره من النفوس البشرية باعتباره علة وهي معلولة 9 . اما نفوس الناس فانها لا تتصل بالعقل الفعال وانما تتصل بنفوس الاجرام السماوية التي تعلم بكل ما يجري في عالمنا الارضي 0 1 .

أما القوة الاولى الموصوفة بالقدسية فانها تمكن غالبية الناس من معرفة الاستنباطات وترتيب النتائج حدساً بلا تفكير، كمن ينظر الى حدوث الحركة فيدرك مباشرة بان الحادث لابد له من سبب 1 1 .

وهذه القوى الثلاث قد تجتمع بصورة كاملة عند الفيلسوف 2 1 ، وبنظر البعض انها تجتمع عند العارفين الاولياء على وجه التابعين للانبياء 3 1 . لكن في جميع الاحوال ان ذلك لا يجعل وجود فارق هام او نوعي بين الانبياء وبين الفلاسفة تبعاً للرؤية الفلسفية، او بينهم وبين العرفاء تبعاً للرؤية العرفانية. الامر الذي يبرر الاعتقاد باستغناء الفلاسفة والعرفاء عن النبوة خلافاً لغيرهم من الناس. وذلك بدعوى التمكن من الاتصال والاتحاد بالعقل المفارق >جبريل<>

وتبعاً للرؤية الفلسفية، لو قمنا بمقارنة بين الفيلسوف والنبي، سنرى انهما يشتركان بالقوة الاولى العقلية، ويكون احدهما في المرتبة التي يكون فيها الاخر. حيث ان نفسيهما تضاهيان العقل الفعال، وإن كانتا اقل منه شرفاً في العلم والرتبة؛ باعتباره علة وهما معلولان، والعلة اشرف من المعلول. لكن الفارق بينهما، كما يحدده ابن سينا، هو ان النبوة ظاهرة فطرية، في حين ان الفلسفة مكتسبة 4 1 .

أما لو قمنا بمقارنة بين حقيقة الفلسفة وحقيقة النبوة، فسنرى ان الامر مختلف تماماً. اذ تصبح المقارنة بين القوتين العقلية والتخيلية، حيث القوة الاولى تمثل الفلسفة، والاخرى تمثل النبوة. وبالتالي جاز اعتبار تفوق الاولى على نظيرتها في العلم والرتبة رغم ما بينهما من مسانخة، حيث المقرر ان النبوة من سنخ الفلسفة لكونها تعبر عن مضامين هذه الاخيرة المجردة بالمحاكاة والتصورات التشبيهية. وبعبارة اخرى ان الفلسفة تتقوم بقوة العقل القدسية، والنبوة بقوة التخيل، وان بينهما رابطة من المسانخة المعرفية، حيث تتصف الاخيرة بمحاكاتها وحاجتها للاولى. اذ تعمل الاولى على ابراز الحقائق بالصور العقلية الكلية، بينما تقوم الثانية بتخيل هذه الصور لتعبر عنها بالرموز والامثال والتشبيهات. وبالتالي فان النبوة وإن كانت تحصل باكمل المراتب التي تنتهي اليها القوة المتخيلة، اذ بها يقبل الانسان في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة او محاكياتها من المحسوسات، كما يقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، فيراها كخيالات ذهنية.. فرغم ذلك، لكنها مهما بلغت من الكمال فانها لا تبلغ مرتبة العقل والتجرد 5 1 .

مع هذا لابد من الاخذ بعين الاعتبار ان الرؤية الفلسفية ترى ان الانبياء هم فلاسفة ايضاً، او ان كل نبي فيلسوف بالضرورة، وذلك باعتباره يكسب المعقولات المجردة عن العقل الفعال. وبالتالي فان للنبي بعدين لاختلاف المقامات، احدهما كفيلسوف يقبل استفاضة المجردات عن العقل الفعال، والاخر كنبي يحاكي الفيلسوف بمحاكاة قوته الخيالية لقوته العقلية. وكما يصف الفارابي النبي من انه يكتسب النبوة والفلسفة عن طريق ما يفيضه الله تعالى الى عقله المنفعل بتوسط العقل الفعال، حيث يستمد منه المعلومات عبر العقل المستفاد، ثم يتحول ذلك الى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه الى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً تام التعقل، وبما يفيض منه الى قوته المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو الان من الجزئيات. وهذه المرتبة هي اكمل مراتب الانسانية، بل واعلى درجات السعادة. اذ تصبح نفس النبي >كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا<>ان الشرع الاول انما هو للفلاسفة فقط، اذ كان اكثر الفلاسفة انبياء؛ كنوح وادريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك الى الاسكندر<>

لكن نتسائل انه اذا كان كل نبي فيلسوفاً، فهل يجوز العكس، فيصبح من الممكن ان يكون الفيلسوف نبياً؟

لا شك ان اتجاه الفارابي يتقبل ذلك ولا يرى فيه مانعاً. فعلى رأيه انه يجوز للانسان بلوغ مرحلة النبوة من خلال الاتصال بالعقل الفعال، وذلك بالطرق الارادية والفكرية والبدنية 8 1 ، حيث تبلغ القوة المتخيلة عنده نهاية الكمال 9 1 .

لكن بحسب وجهة نظر ابن رشد فان الامر يختلف، اذ يقول صراحة بان كل نبي فيلسوف دون عكس 0 2 . ولا شك ان اتجاه الفارابي هو اقرب واوفق مع الرؤية الفلسفية مقارنة مع اتجاه ابن رشد. وقد يكون الاوفق والاشد اتساقاً هو الاعتراف بضرورة ان يكون الفيلسوف نبياً، وذلك تبعاً لما تفرضه سلسلة الصعود في عدم امكان تحقيق المرتبة الكمالية ما لم يسبقها تخطي غيرها مما هي اقل منها رتبة ووجوداً. فالانسان لا يمكنه على هذا ان تكون له قوة العقل القدسية ما لم يحقق قبل ذلك كمال مرتبة القوة التخيلية، اذ كل ادراك ضرب من الوجود. وبالتالي فانه لا يسعه ان يكون فيلسوفاً ما لم يمرّ بمرحلة النبوة. او يمكن القول اننا هنا امام تعدد في المقامات، فمقام الفلسفة هو ارقى من مقام النبوة، وانه لكي يتحقق المقام الاول فانه لابد من المرور عبر المقام الاخر، والا كان ذلك تجاوزاً للمراتب مما لا يتفق والمنطق الوجودي. بل اكثر من ذلك انه لا غنى عن ان يكون كل فيلسوف نبياً من غير عكس، ذلك ان النبي وإن كان يصل الى نهاية كمال القوة المتخيلة الا انه ليس من المعلوم إن كان بامكانه ان يحضى بكمال القوة العقلية >البرهانية<، وبالتالي جاز ان لا يكون فيلسوفاً وفاقاً مع المنطق الوجودي. لكن ما يبدو هو ان الفلاسفة المسلمين تقصدوا اخفاء هذا اللزوم لاعتبارات التقية، وذلك كي لا يظهر لدى الاخرين انهم يعدون الفلاسفة اعظم من الانبياء باطلاق.

***

مهما يكن فان مهمة الفيلسوف هي اعظم من مهمة النبي، فبينما يتعامل النبي مع الظاهر يتعامل الفيلسوف مع الباطن، وبينما ان الاول يمارس دور الاقناع، فان الثاني يمارس دور البرهان والكشف عن الحقيقة، وانه اذا كان النبي يأتي بالشريعة كتنزيل فان الفيلسوف يمارس دور القيوم الذي يوضح فيه حقائق ما يأتي به الاول. وكلاهما حيث يتصلان بالعقل الفعال >جبريل<، فان ما يستفيدانه هو كسب العلم الالهي الكلي، وانهما معاً مما يوحى اليهما بواسطة العقل الفعال، وبالتالي فان لهما معاً نفس الاهلية في تغيير الشرائع 1 2 . والامر لا يقتصر على ذلك، اذ المقرر لدى الفلاسفة ان الانسان في قربه من العقل الفعال يتحول الى كائن الهي وعقل ومعقول بذاته 2 2 ، مما يعني انه يصبح حاملاً لصفة العلم الالهية، وهي الصفة التي عنها وجدت الموجودات وخلقت الاكوان. فهل معنى هذا ان للفلاسفة والانبياء ذلك العلم الالهي بكل شيء، وكذا ان لهم تلك القوة الخارقة في تكوين الاشياء وخلقها؟

لا شك ان ما يتمخض عن الموقف الفلسفي هو خلع صفة الالوهة في العلم والتكوين على كل من الفلاسفة والانبياء.

اذن ان النبوة والفلسفة هما بمثابة سلطتين تستخلفان ما عليه سلطة الحق الالهية، او سلطة المفارقات السماوية. خصوصاً وان الرؤية الفلسفية تصرح احياناً بان غرض الفيلسوف ليس مجرد الاتصال بالعقل الفعال وانما الاتحاد به، فيكون هو هو، وهو انه عبارة عن كل شيء، وهي السعادة القصوى. فالفلاسفة يذهبون الى ان غاية الحكيم هو ان يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالاله الحق 3 2 .. وقد قيل ان هذا القول هو جوهر ما بلغه فلاسفة الاسلام عن الرأي الرواقي القديم 4 2 . لكنه في جميع الاحوال يمثل عين الرؤية الفلسفية التي يدعو لها فلاسفة النظام الوجودي. فابن باجة مثلاً يرى الفيلسوف تام العقل وينظر الى كل شيء بعين هذا العقل فيرى العقل في كل شيء ويصير هو إياه 5 2 . وقد تجاوز ابن باجة في نظره هذا من سبقه من الفلاسفة، مثلما اشار اليه بنفسه 6 2 . وكذا هو الحال فيما قرره ابن رشد من قبول الاتحاد على شرط ان يكون ذلك قائماً على التعليم الكسبي، تمييزاً له عن الاتحاد المدعى من قبل الصوفية 7 2 . فاتحاد النفس بالعقل الفعال، يجعلها تكون هي هو، وهو هي، فان النفس تبلغ بذلك درجة تكون جميع الموجودات فيها أجزاء ذاتها، وتسري قوتها في كل شيء، كما يصبح وجودها غاية كل شيء من المخلوقات 8 2 .

تلك هي الرؤية الفلسفية التي تجعل من النبي اوالفيلسوف في اتحاده بالعقل الفعال عبارة عن اله ينطوي علمه على كل شيء، وانه يصبح مصدر قيام وتكوين كل شيء، وكذا هو غاية كل شيء. وسنجد ان لهذه الرؤية شاكلتها المعمقة لدى نظيرتها العرفانية.

الرؤية العرفانية وحقيقة النبوة

يمكن ان نجد في الرؤية العرفانية صورتين مختلفتين بعض الشيء عن حقيقة النبوة، احداهما مقتبسة عن الموقف الفلسفي، حيث فيها يؤخذ بتلك القوى الثلاث التي استند اليها الفلاسفة، واضفي عليها صبغة عرفانية. أما الاخرى فانها لا تلتزم بهذه القوى، وانما تؤسس لنفسها مفهوماً مستقلاً عن النبوة، وإن كانت لا تبتعد كثيراً عن الصورة الاولى. واستعراض الصورتين سيكون كالاتي:

الرؤية الاولى

بخصوص الصورة الاولى ذهب صدر المتألهين الى ان الانسان مكون من عوالم ثلاثة تعطي قوى معرفية ثلاث هي تلك التي تحدّث عنها الفلاسفة، اي القوة العقلية والخيالية والحسية. فالانسان يتصرف بكل من هذه القوى في عالم من العوالم الثلاثة: الدنيا والاخرة وعالم الوحدة والربوبية الذي يفوقهما. والانسان بحسب غلبة كل نشأة يدخل في عالم من هذه العوالم، فمن حيث حسّه هو من جملة الدنيا وضمن جنس الحيوانات، ومن حيث نفسه فهو من جملة الملكوت الاسفل، أما من حيث روحه فهو من جملة الملكوت الاعلى، والغالب في الناس هو النشأة الحسية الدنيوية. لكن حيث ان كل ادراك هو ضرب من الوجود، لذا فان كمال كل واحد من هذه القوى يوجب التصرف في عالم من تلك العوالم بحسب المناسبة والسنخية. ويمتاز النبي بان فيه تكتمل هذه القوى وتشتد جميعاً، حيث بالقوة العاقلة يتصل بالقديسين ويجاور المقربين وينخرط في سلكهم، بل ويفوق عليهم عند اتصاله بالحق وفنائه عن الخلق واندكاك جبلّ إنيته، كما اخبر النبي >ص<>لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل<. وبقوة التخيل المصورة فانه يشاهد الاشباح المثالية والاشخاص الغيبية، وكذا يتلقى الاخبار الجزئية منهم ويطلع على الحوادث الماضية والاتية. أما بقوة الاحساس فانه يتسلط بها على الافراد البشرية وتنفعل عنها المواد وتخضع له القوى والطبائع الجرمانية خضوع السافل للعالي، ذلك ان لها قدرة تحريكية تؤثر بها في هيولى العالم لتزيل صورة او تلبس اخرى، فمثلاً انها تحيل الهواء الى الغيم، وتحدث الامطار، وتسبب الطوفان، وتهلك الامم وتشفي المرضى وتروي العطشى وتخضع الحيوانات. وتفسير هذه الامور هو ان الاجسام لما كانت عبارة عن ظلال وعكوس مطاعة لما فوقها من المجردات، فان النفس كلما ازدادت تجرداً وتشبهاً بتلك المبادئ القصوى فانها تزداد قوة وتأثيراً في ما دونها من الاجسام، لهذا تنصاع لها هذه الاخيرة، ومنه نفهم كيف تؤثر نفوسنا على اجسامنا الخاصة، وعند اشتداد القوة النفسية الحساسة فانه يمكنها ان تؤثر على الغير، كالذي يحدث في المعجزات والكرامات وغيرها. هكذا فان جوهر النبوة جامع للنشآت الثلاث، وان النبي يعلم بالقوة العقلية كالملائكة، ويخبر بالقوة النفسية كالافلاك، كما انه يحكم بالقوة الحسية كالملوك.

وحيث ان العوالم الثلاثة المذكورة متطابقة ومتحاكية بحسب منطق السنخية، لذا فان كل ما يدركه الانسان من عالم العقل فان له حكاية منه في عالم الاشباح الباطنية، فالصورة المحاكية للجوهر العقلي هي نفس الملك الذي يراه النبي والولي. اما النبي بما هو نبي فانه يدرك الامر عن طريق الحكاية والصورة، واما الولي فبما هو ولي يدرك الامر عن طريق التجرد الصرف، وهو ذات التجرد العقلي، وبالتالي فان الولاية العرفانية تكون افضل اجزاء النبوة 9 2 . ويظل ان مجموع هذه القوى هي من خصوصيات الانبياء، أما آحادها فهي مما يتحقق لدى غير الانبياء، فالاولى تتحقق لدى الاولياء والحكماء، وضرب من الخاصية الثانية يوجد في اهل الكهانة والرهبنة، أما الثالثة فقد تكون في الملوك ذوي الهمة وشدة البأس 0 3 .

وواقع الامر نجد هنا نفس محاكاة الفلاسفة في تصورهم لحقيقة النبوة، سوى اضفاء الصبغة العرفانية عليها بدل الصبغة الفلسفية، مع بعض التعديل كما تقتضيه الطريقة العرفانية، وبالذات فيما يتعلق بموقفها من القوة العقلية في النبوة، اذ منحتها دوراً يفوق ذلك الذي قدمه لها الفلاسفة. فهؤلاء قدروا لهذه القوة حالة اتصال بالعقل الفعال، او حتى الاتحاد به كأقصى حد ممكن، بينما في الصورة العرفانية تجاوز الامر ذلك الحال ليصل الى حالة الاتحاد والفناء بالذات الالهية. وتظل سائر الاراء هي نفسها، بما في ذلك حالة التساوق في علاقة النبوة بكل من العرفان والفلسفة تبعاً للرؤيتين. فالنبوة تحمل في ذاتها تلك القوة القدسية العقلية، والتي هي لدى الفلاسفة عبارة عن حقيقة الفلسفة، ولدى العرفاء عبارة عن حقيقة العرفان، فيكون النبي بنظر اولئك فيلسوفاً، وبنظر هؤلاء عارفاً. كما يظل الجزء الافضل في النبي كونه فيلسوفاً هناك، وعارفاً هنا.

مع هذا تظل هذه الرؤية لا تمثل الموقف الغالب للعرفاء من حقيقة النبوة، فهي حالة توفيقية اشراقية سعى اليها صدر المتألهين في بعض كتبه، لكنه لم يتوقف عندها كما سنرى.

الرؤية الثانية

ان النبوة عند العرفاء، كما ينص حيدر الاملي نقلاً عن الغزالي، عبارة عن >قبول النفس القدسي حقايق المعلومات والمعقولات عن الله تعالى بواسطة جوهر العقل الاول المسمى جبريل تارة وبروح القدس اخرى، والرسالة تبليغ تلك المعلومات<>

لكن الاملي يذهب بعيداً ولا يكتفي بهذا القدر، اذ يصور فلسفة النبوة بحسب فهمين احدهما اكمل من الاخر، يطلق عليهما الطريقة والحقيقة. فالنبوة بحسب اهل الطريقة، مثلما يذهب اليه القيصري من قبل، عبارة عن مظهر عدل لحقائق الاسماء والصفات. فكما يرى انه لما كان للحق تعالى ظاهر وباطن، والباطن يشمل الوحدة الحقيقية التي للغيب المطلق، والكثرة العلمية حضرة الاعيان الثابتة، وان الظاهر لا يزال مكتنفاً بالكثرة دائماً، لان ظهور الاسماء والصفات من حيث خصوصيتها الموجبة لتعددها لا يمكن الا ان يكون لكل منها صورة مخصوصة، وبالتالي يلزم التكثر، وحيث ان كلاً منها يطلب ظهوره وسلطنته واحكامه، فانه يحصل النزاع والتخاصم في الاعيان الخارجية باحتجاب كل منها عن الاسم الظاهر في غيره، الامر الذي احتاج فيه الى مظهر حكم عدل ليحكم بينها ويحفظ نظام العالم في الدنيا والاخرة ويحكم بين الاسماء بالعدالة ويوصل كلاً منها الى كماله ظاهراً وباطناً، وهو >النبي الحقيقي والقطب الازلي اولاً واخراً وظاهراً وباطناً، وهو الحقيقة المحمدية >ص<<. أما الحكم بين المظاهر دون الاسماء فهو النبي الذي تحصل نبوته بعد الظهور نيابة عن النبي الحقيقي. اذن الانبياء >ع<>

وواضح من هذه الطريقة ان النبوة لها طابع الالوهة، حيث تمارس دوراً تكوينياً منظماً هو اعظم واعمق من الظاهر الذي تمارسه نبوة الانبياء المشخصة في الدعوة والانذار والهداية، بل ان هذه الاخيرة هي حكاية عن الاولى تبعاً لمنطق المناسبة والسنخية. وسنرى ما لهذه الفكرة من تجليات.

أما النبوة عند اهل الحقيقة، وهو الفهم الاخر الاتم والاكمل، فانها عبارة عن الخلافة الالهية المطلقة، لكن مراتبها هي بحسب مراتب الشخص الذي هو مظهر تلك الخلافة. فعندهم ان النبوة هي بمعنى الانباء، والانباء الحقيقي الذاتي الاولي ليس الا للروح الاعظم الذي بعثه الله الى النفس الكلية اولاً ثم الى النفس الجزئية ثانياً، لينبئهم بلسانه العقلي عن الذات الاحدية والصفات الازلية والاسماء الالهية والاحكام الجليلة والمرادات الجسمية. وكل نبي من ادم >ع<>ص<>ص<>

وبعبارة اخرى يمكن القول ان الحقيقة المحمدية بها يقوم كل ما للانبياء والاولياء من وجود وصور، بل ان هذه الحقيقة تتجلى بصور جميع الانبياء بما في ذلك صورة محمد وشخصه الجسماني ومن بعد ذلك صورة الائمة والاولياء، والكل انما يأخذون علمهم من تلك الحقيقة. والعرفاء يعترفون بأن علومهم ومبلغ كمالهم انما يتم من خلال هذه الروح المحمدية، فكما يصور ذلك صدر المتألهين، بأن نفوسهم تصير عقولاً بالفعل، والعقل بالفعل هو الموجود الحقيقي والحياة العقلية الاخروية، والنبي بروحه المقدس سبب لوجوداتهم الحقيقية، ومبدأ لكمالاتهم العرفانية ومنشأ لفيضان الكمالين الاولي الاقدس والثانوي المقدس، فهو الوسط بينهم وبين الحق، ومبدأ فطرتهم في سلسلة الافتقار النزولي، كما انه المرجع في كمالاتهم في سلسلة الارتقاء الصعودي. لكن الملفت للنظر ان صدر المتألهين استعان ببعض الايات ليدل بها عبر التأويل على هذا الحال من الصلة بين العرفاء والروح المحمدية، اذ جاء في قوله تعالى: {النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض} الاحزاب/6 ، معتبراً المراد بالمؤمنين هم العارفون انفسهم، وان النبي محمداً هو الاب الحقيقي لهم، ولذلك كانت ازواجه امهاتهم مراعاة لجانب هذه الحقيقة. والابوة هنا هي بمعنى العلية، حيث ان علة الشيء اولى بنفس ذلك الشيء من نفسه، اذ الشيء بالقياس الى علته بالوجوب حيث كان بالقياس الى نفسه بالامكان، فلو لم يكن روح النبي >ص<>

مهما يكن فالملاحظ ان الصورة تكتمل في رسم معالم النبوة، حيث حقيقتها تصبح ليست تلك التي قيل عنها بأنها تأخذ العلم عن العقل الاول جبريل، اذ في هذه الحالة تصبح اعظم من العقل الاول، حيث كما سنرى ان هذا العقل في منظور الاملي يكون وزيراً للنبوة او الروح الاعظم، مما يمكن اعتبار الروح الاعظم عبارة عن ذلك المسمى بالصادر الاول او الوجود المنبسط الذي به تقوم كل الخلائق والكائنات، ويكون العقل الاول على رأس هذه الكائنات. وبالتالي يصبح للنبوة خصوصية الانبساط والخلافة المطلقة التي بها يتم بناء الاشياء وتكوينها، فهي من ثم عبارة عن نبوة تكوينية قبل ان تكون نبوة قيمية معيارية تمارس دور الهداية والانذار. ولا شك ان للنبوة في هذا المعنى مظاهر تتفاوت تكاملاً بحسب منطق السنخية، وما محمد خاتم الانبياء الا رسول جاء على سنخ نبوة محمد الاولى التي تسبق جميع الانبياء، بل والخلق اجمعين.

تلك هي نبوة العقل الاول التكوينية والتي سيتم اجلاء فهمها بربطها بقضية الولاية، حيث تصبح النبوة والولاية العرفانية تعبران عن حقيقة واحدة لها وجهان ظاهر وباطن. فمن حيث الظاهر هي نبوة، أما من حيث الباطن فهي ولاية. ومثلما رأينا في علاقة الفلسفة بالنبوة بحسب الرؤية الفلسفية، حيث ان الفلسفة تعبر عن باطن النبوة، وان النبوة عبارة عن ظاهرها، فاننا هنا نواجه نفس السياق، حيث الولاية العرفانية هي باطن النبوة، وان النبوة هي ظاهرها. ومثلما كان الفلاسفة يتقدمون على الانبياء بالفضل من حيث العلاقة بين حقيقة الفلسفة والنبوة، فنفس الحال هنا في كون العرفاء يفضلون الانبياء ايضاً من حيث حقيقة الولاية التي يحملونها مقارنة بالنبوة الظاهرة.

لا شك ان العرفاء يقدرون للنبي محمد حقيقة عليا مجردة لها صفة الولاية التكوينية التي تتمثل بما يطلق عليه الانسان الكامل الذي قال فيه بعض العرفاء انه سبب ايجاد العالم وبقائه ازلاً وابداً، دنيا واخرة 5 3 . فمعنى الولاية التكوينية هي تلك السلطنة التي لها دور الخلق والتكوين للعالم بكافة شؤونه ومظاهره، فهي في فعلها تنوب عن الحق وتتوسط بينه وبين الخلق، وهي بحسب التعبير الفلسفي عبارة عن العقل الاول، او الصادر والمتعين الاول، الذي هو من حيث العلم جامع لكل شيء، وانه من حيث الفعل تقوم به السماوات والارض وما بينهما، حيث يسري في كل شيء، ويمد الحياة لكل شيء، لذلك يطلق عليه >الاله الصانع<>الاله المتعال<. من هنا رأى ابن عربي ان الحقيقة المحمدية هي اول التعينات، فهي النور الذي تجلى عن الله قبل كل الاشياء، ومنه تكونت سائر الاشياء. فهي عنده صورة كاملة للانسان الكامل الجامع لجميع حقائق الوجود. وهي >الحق ذاته ظاهراً لنفسه في اول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء. واذا كان ادم هو الانسان الظاهر المتعين بالوجود الخارجي في صور افراده، فمحمد هو الانسان الباطن المتعين في العالم المعقول<>احدية جمع جميع الكمالات الاسمائية المؤثرة والحقايق الفعالة الوجوبية الوجودية لا غير<. >واما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلى له او صورة فيه، فان كان مجلى له فيقع التفاضل بين مجلى ومجلى.. وان كان صورة فيه فالذي يسمى الله هو الذي لتلك الصورة.. ولا يقال هي هو ولا هي غيره<>

وحقيقة الانسان لدى العرفاء هو انها مظهر لجميع الاسماء الالهية، فكل مخلوق وموجود سوى الانسان له حظ من بعض اسمائه دون الكل، أما الانسان فله كل الاسماء، وهو سبب تعلم الانسان الاسماء الحسنى كلها دون الملائكة كما في الاية، ذلك لان حقيقة الانسان مظهر جامع لمظاهر كل الاسماء، بخلاف غيره من الموجودات، حيث ان كل واحد منها يعد مظهراً لبعض الاسماء، فالملائكة مظهر لاسماء السبوح والقدوس والسلام ونحوها، والشياطين مظاهر للمضل والمتكبر والعزيز والجبار وغيرها، والحيوانات مظاهر لاسماء السميع والبصير والحي والقدير وما اليها، وكذا ان النار مظهر للقهار، والهواء مظهر للطيف، والماء مظهر للنافع، والارض للصبور، والادوية السمية للضار، والدنيا مظهر للاول، والاخرة للاخر، وهكذا 8 3 .. وبذلك فان للانسان حظاً في ان يكون مظهراً لجميع الاسماء الجمالية والجلالية 9 3 . او هو >مظهر جميع الاسماء والصفات ومجمع كل الحقائق والايات، فهو الكتاب الجامع<>اوتيت جوامع الكلم<، فهو روح العالم وخليفة الرحمن 1 4 .

والانسان الكامل حيث انه جامع لجميع الاسماء فهو من هذه الناحية يجمع بين الحقيقتين الالهية والعالم. فقد اعتبر العرفاء ان الانسان ناشئ على صورة الرحمن تبعاً للحديث النبوي >خلق الله ادم على صورته، او على صورة الرحمن<. وهو الحديث الذي اثبتت الدراسات الحديثة ان له اثراً يهودياً في سفر التكوين. وقد تعمد العرفاء توظيفه في نظريتهم الخاصة بالانسان الكامل، حيث يعد الانسان نسخة مختصرة من الحضرة الالهية، ولذلك خصه الله بصورته كما في الحديث السابق. فهو صورة الحق تعالى وظهوره وتجليه، لذا فان الانسان الكبير المتمثل بالعالم ما هو الا الصورة الظاهرة لهذا الانسان، او انه مظهر هذا الانسان، وبالتالي يمكن القول ان العالم هو صورة الحق، اي ان له مناسبة ومشابهة من هذه الناحية مع الحق تعالى. فالانسان نسخة من الصورتين الحق والعالم، حيث نشأت صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره، ونشأت صورته الباطنة على صورة الحق تعالى. وان معنى صورته الظاهرة لا تشتمل فقط معنى الجسمية، وانما جميع الخلقة من الجسم والروح والقوى والعقل والمعاني والصفات، وكل ما يصح اطلاق الخليفة الكامل عليه مما هو سوى الله، أما الصورة الباطنة فهي على صورة الحق، حيث ان الانسان الكامل يحوي جميع الاسماء الالهية الفعلية الوجوبية وجميع نسب الربوبية. فهو: حق واجب الوجود وحي وعالم وقدير ومتكلم وسميع وبصير، وهكذا جميع الاسماء، ولكن بالله على الوجه الاكمل. فباطن الانسان على صورة الله وظاهره على صورة العالم وحقايقه 2 4 . فليس في الكائنات من هو اعظم جمع للوجودات غيره >فهو مجلّى الحق، والحق مجلّى حقائق العالم بروحه الذي هو الانسان، واعطى المؤخر لانه اخر نوع ظهر، فأوليته حق واخريته خلق، فهو الاول من حيث الصورة الالهية، والاخر من حيث الصورة الكونية، والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الالهية<>

فالخلافة لدى العرفاء لا تصح الا للانسان الكامل. فكما ذكر الجندي من ان الله قد خلق ادم على صورة الرحمن، فالعلاقة بينهما علاقة خلافة، حيث لابد ان يكون الخليفة على صورة مستخلفه والا فهو ليس بخليفة، وبعدها اوجد الله العالم على صورة ادم، وذلك باعتبار ان العالم عبارة عن صورة تفصيل النشأة الانسانية، وان الانسان هو صورة جمعها الاحدية، فالانسان هو غيب العالم، والعالم شهادته وظاهره، وذلك باعتبار ان الكثرة والتفرقة هي حجاب ظاهر، وان الجمعية الاحدية هي غيب باطن، وبالتالي فان الانسان هو روح العالم وقلبه ولبه وسره الباطن 1 5 . وهو من حيث كونه خليفة الله فانه يكون عبد الله ورب العالم، اذ لم يؤد احد من العالم الربوبية غيره، وما أحكمَ احد غيره مقام العبودية، فعبد الحجارة والجمادات، لكونه نسخة جامعة بين الحق والخلق 2 5 .

فهذه هي المشابهة بين ذات الحق والانسان، وبين هذا الاخير والعالم. حتى ان البعض صرح بكون ذات الحق عبارة عن انسان الهي تقليداً لما جاء به افلوطين 3 5 . كما انها ذاتها تستبطن فكرة الخلافة والولاية. وبالتالي فليس هناك من يمثل هذه الكمالات من المضاهات والشمول وصفات العلم والخلافة والقدرة على الايجاد والخلق والتكوين غير صاحب الكمالات الانسانية والوجودية المعبر عنه بالحقيقة المحمدية.

اذن ان فكرة الحقيقة المحمدية نابعة من فكرة الانسان الكامل الجامع للكل، كذلك فان فكرة الولاية هي ايضاً تنبع من هذه الفكرة عبر ما استخلفه الحق له في ان يكون خليفة له في التكوين والايجاد. فالولاية تستمد مشروعيتها من الخلافة كما يصورها الاملي، وان الخلافة هي تلك النيابة عن الله في التكوين والايجاد، وبالتالي فان للولاية تكويناً هي تلك المسماة بالولاية التكوينية. فالاملي ينقل عن الصوفية رأيهم بان الولاية والسلطنة لا تجوز مباشرة من الذات القديمة من دون واسطة، وذلك >لبعد المناسبة بين عزة القدم وذلة الحدث<، لذا فان القديم لم يكن له بد من ان يولي ما ينوب عنه في التصرف والولاية والحفظ والرعاية، وصفة هذا النائب هو ان له وجهاً في القدم يستمد به من الحق تعالى، ووجهاً في الحدث يمد به الخلق، ومن ثم فقد جعل الله على صورته خليفة يخلف عنه في التصرف، وخلع عليه جميع اسمائه، وسماه انساناً لامكان وقوع الانس بينه وبين الخلق برابطة الجنسية والانسية، كما جعل له بحكم اسميه الظاهر والباطن حقيقة باطنة وصورة ظاهرة ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت. وحقيقته الباطنة هي الروح الاعظم، وهو الامر الذي يستحق به الانسان الخلافة، والعقل الاول وزيره وترجمانه، والنفس الكلية خازنه وقهرمانه، والطبيعة الكلية عامله. وأما صورته الظاهرة فهي صورة العالم من العرش الى الفرش وما بينهما من البسائط والمركبات، وهذا هو الانسان الكبير 4 5 .

مع انه قد يقال ان اعتبار العقل الاول وزير الروح الاعظم الذي هو روح النبوة او حقيقة النبي محمد كما علمنا، انما ينافي ما قد سبق ان صرح به الاملي من ان النبوة عبارة عن قبول النفس القدسي حقايق المعلومات عن الله تعالى بواسطة العقل الاول. الا ان يقال ان الروح الاعظم او روح النبوة هي غير ما ذكر من النبوة، فالاولى لها دلالة الولاية والخلافة بخلاف الثانية، اي تصبح للنبوة حالتان، احداهما ظاهرة تنفعل عن العقل الاول، اما الاخرى فهي باطنة يطلق عليها الولاية. كذلك فان الاملي صرح في محل اخر ان العقل الاول هو ذاته الروح الاعظم وليس وزيره، وهو المعبر عنه بالخليفة الاعظم والقلم الاعلى والانسان الكبير وقطب الاقطاب وادم الحقيقي وما الى ذلك 5 5 .

كما نجد ان صدر المتألهين قد عدّ الحقيقة المحمدية هي ذات العقل الاول. فعنده ان محمداً هو اول واخر سلسلة الوجودات الممكنة، او انه يمثل بداية السلسلة ونهايتها. حيث عند الاقبال والبداية هو عقل اول، فهو اول الجواهر والعقول، وقائد سلسلة العلل والمعلولات، وفاتح باب الرحمة والجود، وواسطة فيض الحق في الوجود. وهو عند الادبار والنهاية عقل اخر هو زبدة العناصر والاصول وخاتم كل نبي ورسول، وثمرة شجرة عالم الاضداد وسائق العباد الى منزل الرشاد ودرجة السداد وهادي الخلق الى رضوان الله الملك الحق والمعبود المطلق. فهو بالتالي اشرف من كل الممكنات والمخلوقات بما في ذلك الملائكة المقربين 6 5 .

والفارق بين الاملي وصدر المتألهين، هو ان الاول عدّ العقل الاول عبارة عن جبريل، وان ما هو اعلى منه رتبة ودرجة هو محمد الذي اليه يستند في وزارته، رغم انه عد النبوة متأثرة بهذا العقل او جبريل. في حين ان محمداً لدى صدر المتألهين عبارة عن نفس العقل الاول، وليس هناك ما يفوق هذا العقل سوى الحق تعالى. لكن لو اعتبرنا ان الصادر الاول هو الوجود المنبسط الذي يكون العقل الاول في اعلى مراتبه، وانه عبارة عن نفس هذا العقل، حيث يكون له اعتباران، احدهما كونه يعبر عن تلك الذات المتقدمة التي ينطوي فيها العالم على نحو الاجمال، والاخر كونه عبارة عن ذلك الوجود المنبسط الذي به يظهر جميع ما في العالم على نحو التفصيل.. فلو اعتبرنا العقل الاول بهذه الصورة التوجيهية التي قربها صدر المتألهين للتوفيق بين المشربين الفلسفي والصوفي 7 5 ، لكان ما يريده هذا الفيلسوف لا يختلف عما يريده الاملي من النبوة والحقيقة المحمدية والانسان الكامل.

وبحسب سلسلة التنزل لدى صدر المتألهين، فالامر يبدأ من الحقيقة المحمدية التي تمثل العقل الاول، ثم بعدها الحقيقة العلوية المسماة في البداية بـ >النفس الكلية الاولية واللوح المحفوظ، وهو العقل الفرقاني، وذلك عند وجودها التجددي<. وان هذه الحقيقة تسمى بالنهاية بعيسى بن مريم وذلك عند وجودها البشري الجسماني. ثم بعد ذلك تستمر السلسلة بالاقرب فالاقرب من العقول والنفوس الكلية بعد العقل الاول والنفس الاولى، الظاهرة في صور الانبياء والمرسلين سابقاً، وصور الاولياء والائمة المعصومين لاحقاً، ثم بعد ذلك الحكماء والعلماء 8 5 .

ويفهم مما سبق ان هناك ثلاثة اركان تستمد رؤاها من البعد الفلسفي، وهي عبارة عن العلاقة بين كل من المبدأ الحق والعقل الاول والعالم، حيث ان العقل الاول يتخذ دور الوسيط في الربط بين المبدأ الحق والعالم، او هو عبارة عن فعل المبدأ في العالم، ولهذا عدّ عبارة عن الانسان الكامل، او الحقيقة المحمدية، وانه يحمل صورة المبدأ، وان العالم يحمل صورته ومظهره، وذلك انطلاقاً من منطق السنخية. لذا صرح ابن عربي بأن الخلائق مرائي للحق تعالى، وان اكمل المرائي واعدلها واقومها هي مرآة محمد، حيث ان تجلي الحق فيها اكمل من كل تجل. فليس في الموجودات من وسع الحق سوى الانسان الكامل او محمد >ص<، وما وسعه الا بقبول الصورة 9 5 . وعليه فهو يوصي القارئ ويقول: >اجهد ان تنظر الى الحق المتجلي في مرآة محمد >ص<>

على ان النبوة المحمدية تصبح غير متميزة عن الالوهة. فنحن هنا امام عين واحدة هي الالوهة والنبوة. بل اذا كان العرفاء السنة يكتفون بمحمد كإله صانع وخالق لكل ما هو موجود، فان العرفاء الشيعة اضافوا الى ذلك الائمة من اهل البيت، وبعضهم يستشهد بحديث منسوب الى احد الائمة يقول فيه: لنا مع الله حالات، هو هو ونحن نحن، وهو نحن ونحن هو. وبالتالي فانه سواء لدى العرفاء السنة او الشيعة؛ يكون محمد هو ذلك الاله الذي عليه تتوقف جميع التنزلات الوجودية والخلقية. الامر الذي يجعل التوحيد والنبوة والولاية او الامامة؛ كلها تندمج في وحدة واحدة هي الله في بعض تنزلاته ومراتبه. ويمكن القول ان هذه الرؤية تتوافق مع الاعتبارات الفلسفية، فالنبي او الولي يعد بحسب هذه الاعتبارات هو ذلك الذي تنزّل تبعاً لقاعدة الصدور >الواحد لا يصدر عنه الا واحد<، وان هذا الواحد الصادر ليس منفصلاً عن الحقيقة الالهية، فليس هو من العالم ولا من الموجودات المجعولة او القابلة للجعل والتأثير، بل شأنه شأن الاله في الخلق والتكوين.

هكذا ان الوساطة المحمدية، وكذا وساطة الائمة من اهل البيت، لا تقتصر على المجال الديني من التبليغ والهداية، بل انها تسبق ذلك من حيث الوساطة التكوينية التي بها يقوم الخلق كله، فلولاهم لاستحال ان يُخلق شيء او يظهر موجود قط. وبنظر البعض ان فيهم تتجسد العلل الارسطية الاربع. فعلى رأي الاحسائي انهم علة فاعلية لكونهم نفس المشيئة الالهية التي تمّ بها خلق العالم وتكوينه، فهم الخالقون الرازقون المميتون 1 6 ، وان علة الايجاد هذه هي المحبة ذاتها، فكل موجود انما هو موجود بحبهم، ومن لم يحبهم فلا يوجد قط 2 6 . وهم ايضاً علة مادية، حيث ان جميع الخلق خلقوا من مادة الشعاع القائم بانوارهم. كذلك فهم علة صورية، اذ كل فرد من الخلائق إن كان طيباً فصورته من انوار هياكلهم او من انوار هياكل هياكلهم وهكذا، وإن كان خبيثاً فصورته من عكس انوار هياكلهم، وبالتالي فان تجلياتهم تكون في جميع الاشياء، وان الحديث النبوي القائل >من عرف نفسه فقد عرف ربه<>نحن الاعراف الذين لا يعرف الله الا بسبيل معرفتنا<. واخيراً فهم علة غائية، حيث خُلق الخلق لاجلهم وان اياب الناس اليهم وحسابهم عليهم 3 6 . فهم اول السلسلة النزولية واخرها غاية، كما ان السلسلة عبارة عن تجلياتهم. وعليه >فكل الخلق منهم وكل الخلق بهم وكل الخلق لهم وكل الخلق اليهم، بل الخلق هم<>

اذن ان الائمة عبارة عن ذلك الاله الصانع الذي تحدثت عنه الهرمسية، او هم عبارة عن ذلك الاله الابن الذي تحدثت عنه النصارى في تثليثها للامر الواحد. ومن حيث المنظور الفلسفي فكلها تعني العقل الاول او الصادر المنبسط العام، فما هي الا تطبيقات الاعتبارات الفلسفية على العينة الدينية. والعرفان في تطبيقاته مدين في ذلك الى تلك الوجهة من النظر. فعندهم ان اول موجود اوجده الله هو العقل، وهو ذاته عبارة عن الحقيقة المحمدية وكذا العلوية. ويوظف العرفاء في هذا الصدد عدداً من النصوص الدالة عليه تصريحاً وتلويحاً كأول صادر صدر عن المبدأ الحق. ومن هذه النصوص الاقوال المروية عن النبي: >اول ما خلق الله نوري - او روحي-<>كنت نبياً وادم بين الماء والطين<، ومثله قول علي: >كنت ولياً وادم بين الماء والطين<>خُلقت انا وعلي من نور واحد قبل ان يخلق الله ادم باربعة عشر الف عاماً<، >خلق الله روحي وروح علي بن ابي طالب قبل ان يخلق الخلق بألفي عام<، >بُعث علي مع كل نبي سراً، ومعي جهراً<>

وعلى هذه الشاكلة هناك بعض النصوص التي يوظفها العرفاء الشيعة لما يقولونه حول قدم ولاية الائمة وباطنيتها وان بها يقوم كل شيء. ومن ذلك ما ينقله العرفاء من رواية عن الامام الصادق - كما في كتاب الاختصاص للمفيد - انه قال لتلميذه المفضل بن عمر: ان الله تبارك وتعالى توحد بملكه فعرّف عباده نفسه ثم فوّض اليهم امره واباح لهم جنته، فمن اراد الله ان يطهّر قلبه من الجن والانس عرّفه ولايتنا، ومن اراد ان يطمس على قلبه امسك عنه معرفتنا.. يا مفضل والله ما استوجب ادم ان يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه الا بولاية علي، وما كلّم الله موسى تكليماً الا بولاية علي، ولا اقام الله عيسى بن مريم اية الا بالخضوع لعلي 8 6 . وكذا ما ينقلونه من رواية عن الامام علي انه قال: >أنا وجه الله، أنا جنب الله، أنا يد الله، أنا القلم الاعلى، أنا اللوح المحفوظ، أنا الكتاب المبين، أنا القرآن الناطق، أنا كهيعص، أنا ألم ذلك الكتاب، أنا طاء الطواسين، أنا حاء الحواميم، أنا الملقب بياسين، أنا صاد الصافات، أنا سين المسبحات، أنا النون والقلم، أنا مايدة الكرم، أنا خليل جبريل، أنا صفوة ميكائيل، أنا الموصوف بـ >لا فتى<، أنا الممدوح في >هل أتى<، أنا النبأ العظيم، أنا الصراط المستقيم، أنا الاول، أنا الاخر، أنا الظاهر، أنا الباطن<>

علاقة الولاية بالنبوة

قلنا ان العرفاء يصورون الولاية بان لها معنى مباطناً للنبوة. فالنبوة هي ظاهر الولاية، والولاية هي باطنها 0 7 . او يمكن القول ان الولاية هي نوع من النبوة؛ تلك التي اطلق عليها ابن عربي >النبوة العامة<، وان النبوة هي درجة من الولاية. كما يصح القول ان للنبوة درجتين، احداهما دنيا، وهي الرسالة التي تختص في العلم بالشريعة. والاخرى هي الولاية التي تفوق الاولى درجة ومكانة. كذلك يصح عكس المسألة والقول بان للولاية درجتين، احداهما النبوة الخاصة او الرسالة، والاخرى النبوة العامة. وكما يقول ابن عربي: >النبوة والرسالة هي خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب<>

ولدى تقسيم العارف حيدر الاملي فان هناك ثلاث مراتب بعضها يستبطن البعض الاخر، وهي الرسالة والنبوة والولاية. حيث ان لها ظاهراً وباطناً وباطن الباطن، اي ان لها قشراً ولباً ودهناً، فالقشر هي الرسالة، واللب هي النبوة، والدهن هي الولاية، وان هذه الاخيرة هي باطن النبوة، وان النبوة هي باطن الرسالة. وبالتالي فان الولي باطن النبي والنبي باطن الرسول. وان كل رسول نبي، وكل نبي ولي، لكن من غير عكس، اي ليس كل نبي رسولاً، ولا ان كل ولي نبي. واعظم هذه المراتب الثلاث هي الولاية ثم النبوة ثم الرسالة، وذلك تبعاً لغور الباطن. وعلى شاكلة هذه المراتب هناك الشريعة التي هي دون الطريقة، وهذه دون الحقيقة. وكذا الوحي فانه دون الالهام، وهذا دون الكشف. وكذا الاسلام فانه دون الايمان، وهذا دون الايقان 2 7 .

اذن لدى العرفاء ان الولاية اعظم من النبوة والرسالة. وكما يقول ابن عربي: ان >الولي فوق النبي او الرسول<>

ومن المبررات التي ادلى بها ابن عربي في ترجيح الولاية على النبوة ما ذكره من ان الولي هو صفة من صفات الله كما جاء في النص القرآني، حيث سمى الحق نفسه >الولي الحميد<، ولم يرد من صفاته النبي او النبوة، ولهذا انقطعت النبوة والرسالة ولم تنقطع الولاية، وذلك باعتبار ان اسم الولي يحفظها، فهي ثابتة لا تزول ازلاً وابداً، اذ لو انقطعت الولاية لم يبقَ لها اسم، مع ان الولي هو اسم باق لله تعالى. وعلى عكس ذلك النبوة حيث انها من الصفات الزمانية والمكانية لذلك فانها تنقطع بانقطاع زمن النبوة والرسالة. وللولاية من الشمول بحيث ان من درجاتها النبوة والرسالة، وإن كانت اليوم لا يصل الى درجة النبوة الخاصة بالتشريع احد لأن بابها مغلق، فللولاية حكم الاول والاخر والظاهر والباطن بنبوة عامة وخاصة وبغير نبوة 5 7 . على ذلك اعتبر العرفاء ان ولاية النبي محمد هي اكمل واتم واعظم من نبوته ورسالته وتشريعه 6 7 .

ومثلما انه لابد للنبي من ولاية، فانه لابد للولي العارف من نبوة، والا فانه غير معوّل عليه، وكما يقول ابن عربي من ان >كل ولاية لا تكون نبوة لا يعول عليها<>ص<. وهو في مقدمته لكتاب >فصوص الحكم<>جبريل<>

ولعل العرفاء مضطرون لنفي النبوة التشريعية من قائمة وظائفهم العرفانية لاعتبارات التقية، وذلك كي لا يُتهموا باستحداث اديان جديدة. والا فمن حيث الاتساق ان نبوة التشريع ليست بعزيزة عليهم طالما ان مقامهم يفوق مقام هذه النبوة نظراً لولايتهم، وانهم مطلعون على الغيب ومتصلون بالقطب الازلي للولاية، وهو الحقيقة المحمدية. فلو اخذنا بهذه الاعتبارات حقّ ان يكون كل ولي عارف نبياً، مثلما يكون كل نبي ولياً عارفاً.

***

على ان بين الولاية العرفانية والنبوة عنصراً مشتركاً هو كشف حقائق الوجود بقوة قدسية تفوق العقل. وقد كان الغزالي يرى ان فوق العقل طوراً للكشف فيه تشاهد ارواح الانبياء والملائكة وسماع اصواتهم وغير ذلك. وقد ذكر ابن عربي في >رسالة الانوار<>

مهما يكن فان الاعتراف بمشاركة الاولياء للانبياء بمزية العلم بالحقائق ومشاهدة عالم الخيال، وكذا التأثير على العالم الجسماني بالهمة مما يطلق عليه المعجزات والكرامات، كل ذلك يجعل من الولي تعبيراً اخر عن النبي، والعكس صحيح ايضاً، وبالتالي جاز ان لا يسد باب النبوة مثلما ان باب الولاية غير مسدود، رغم ان الولاية مكتسبة بالرياضات والمجاهدات، بخلاف النبوة الخاصة بالتشريع، حيث تأتي مباشرة من غير اكتساب.

ويظل انه بنظر العرفاء ان العارف افضل من النبي في نبوته الخاصة بالتشريع، وذلك تبعاً لفضل الولاية على النبوة الخاصة. فالولي على قسمين كما يذكر الاملي: احدهما هو الذي تكون ولايته ازلية ذاتية حقيقية، ويسمى بالولي المطلق، وهو القطب الاعظم. اما الاخر فهو الذي تكون ولايته مستفادة من ذلك الولي المطلق، ويسمى بالولي المقيد، وهو الامام او الخليفة. وكلا القسمين يرجعان الى حقيقة نبينا محمد >ص<>

فمن هذه الناحية يعتقد العرفاء الشيعة بافضلية الاولياء الائمة من اهل بيت النبوة على سائر الانبياء باستثناء نبينا محمد، ومنه يرى بعض العرفاء السنة افضلية ولاية عرفائهم على اولائك الانبياء، ومن ذلك ان ابن عربي نصّب نفسه كولي يفضل سائر الانبياء بفضل مقام تبعيته لولاية النبي >ص<>الا من مشكاة خاتم الاولياء، فان الرسالة والنبوة - اي نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع ابداً. فالمرسلون من كونهم اولياء، لا يرون ما ذكرناه الا من مشكاة خاتم الاولياء، فكيف من دونهم من الاولياء<>

وبعبارة اخرى، تبعاً لهذه الرؤية فانه يمتنع وصول احد من الانبياء وغيرهم الى الحضرة الالهية ما لم يكن ذلك بالولاية. وهي من حيث جامعية الاسم الاعظم تكون لخاتم الانبياء، ومن حيث ظهورها بتمامها في الشهادة تكون لخاتم الاولياء، فصاحبها واسطة بين الحق وجميع الانبياء والاولياء 6 8 .

ولا شك ان هذا المعنى يعطي لخاتم الاولياء ما ليس لخاتم الانبياء من الفضل والرتبة، سواء كان الخاتم بالولاية العامة كما يتمثل بعيسى، او بالولاية الخاصة المقيدة كما يتمثل بابن عربي ذاته 7 8 . وفعلاً فان هذا الشيخ جعل خاتميته للاولياء تفضل خاتمية الرسل، او ان مقام ختمه للاولياء يعلو مقام ختم النبي للرسل، وذلك من حيث رسالته لا ولايته. فهو يتفوق على النبي >ص<>وإن كان خاتم الاولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرايع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا اليه، فانه من وجه يكون انزل، كما انه من وجه يكون اعلى<. وقد ايد كلامه هذا بشواهد حسية تاريخية، مثل فضل عمر في حكمه بمثل ما حكم به الله في قتل اسرى بدر، وكان رأي النبي هو العكس، وكذا ان النبي قال في تأبير النخل: >انتم اعلم بامور دنياكم<>

الاتحاد وتعدد مقامات الانبياء والعرفاء

لدى الرؤية الوجودية ان الحقيقة الواحدة لها تنزلات متفاوتة بالكمال والنقص والعلة والمعلولية. وحقيقة الانسان لا تبعد عن هذه الاعتبارات، حيث تتضمن عدداً من المقامات المتفاوتة اعتماداً على درجة الكمال والرقي. فبحسب نظرية الاتحاد يمكن للعارف ان يترقى من مراتب العقول والنفوس الى اقصى الغايات؛ مسافراً من المحسوسات الى الموهومات ثم منها الى المعقولات حتى يتحد بالعقل الفعال بعد تكرر الاتصالات وتعدد المشاهدات 9 8 ، الامر الذي يفضي الى جواز اتحاده وفنائه في ذات المبدأ الحق، فيكون له بذلك مقامات متعددة تتفاوت بالكمال، وإن كانت تتطابق في الحقيقة وفقاً لمنطق السنخية.

وكذا هو الحال مع الانبياء ومنهم نفس نبينا محمد >ص<، فكما جاء عن صدر المتألهين انه في مقام >قاب قوسين او ادنى<>ص<: >اوتيت جوامع الكلم<. وفي مقام آخر هو لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة من قبل قلم الحق الفعال 0 9 . وهو في جميع المقامات تارة يأخذ الكلام عن الله مباشرة بلا واسطة ملك، وتارة ثانية بواسطة جبريل، وثالثة في مقام غير هذا المقام الالهي الشامخ، واخيراً انه كان يسمع كلام الله في هذا العالم الحسي. فعلى ذلك تكون هناك مقامات اربعة للنبي >ص<>

وبسبب تلك المقامات المتفاوتة والمتفقة الحقيقة، اعتبر صدر المتألهين ان للانبياء نوعاً واقعاً بين الانسان والملك، او هو في الحد المشترك بين عالمي الملك والملكوت، فانهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السماوات والارض، وكالبشر في احوال المطعم والمشرب والمنكح، فمثلهم كمثل المرجان حيث انه كالحجر والنخل في الوقت نفسه. لذلك فسّر قوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} 2 9 . وبهذا استطاع فيلسوفنا ان يجمع بين اعتبار النبي >ص<>ص<>لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل< style=""> 3 9 . وقد افضى به ذلك التلفيق الى ان يأول سياق بعض الايات ويحكم بكفر من اعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، فذكر يقول: >لا شبهة في ان نفس من هو خير الخلائق لا تساوي في الحقيقة النوعية لنفس من هو شر الخلائق.. واعلم ان الله قد حكم بكفر من قال بان نفس النبي >ص<>

كذلك فبحسب نظرية المقامات المتعددة علل امتناع النبي >ص<>ص<>ربي ارني الاشياء كما هي<>

ومن ذلك ايضاً ان صدر المتألهين قام بتأويل اية عدم تمكن موسى من رؤية الحق تبعاً لاختلاف المقامات. فالقرآن الكريم صريح في نفي إمكان الرؤية الالهية حتى بالنسبة الى الانبياء كالنبي موسى رغم مكانته الشامخة، لكن بحسب المفاهيم الوجودية فان كل موجود يرى الحق ويشاهده بحسب وعائه الخاص. اذن ان مسألة شهود الحق ورؤيته قد تثير بعض المشاكل المتعلقة مع النص الديني، وهذا ما دعا فيلسوفنا الى محاولة التوسط والتوفيق بين صراحة النص وبين مضامين تلك المفاهيم القبلية، حيث اجاب بان موسى انما كان يرى الحق تعالى بما هو متجل للاولياء، واراد ان يراه في صورة التجلي التي لا يدركها الا الانبياء، وحيث ان الانبياء متفاوتون في مقام المشاهدة، فبعضهم لم ينل ما يناله البعض الاخر، لذا اراد موسى ان يرى الحق سبحانه على الوجه الذي يطلبه مقامه كنبي، لانه كولي يراه دائماً ولا يمكن طلب المحصول عليه 7 9 . رغم ان هذا الجواب بعيد عن الاقناع، لان الله سبحانه قد اسند رؤيته الى استقرار الجبل، وبحسب المفاهيم الوجودية لم يكن الجبل اعظم ادراكاً من موسى حتى يسند ويعول عليه.

***

على العموم نخلص مما سبق الى ان العارف وكذا النبي والولي بامكانه الاتحاد بحسب المقامات المتعددة، لا فقط مع العقل الفعال بل حتى مع ذات الحق والفناء فيه.

وكما سبق ان ذكرنا بان صدر المتألهين وان كان ينكر الحلول والاتحاد، فانما يريد بذلك وجود امرين مختلفين، اما مع وجود حقيقة واحدة غير متعددة فالاتحاد عنده من الضرورات العرفانية، فهو لا يعني اجتماع امرين معاً، بل هناك رقائق تذهب وتتكامل فتتحد وتفنى في الحقائق التي اعلى منها، دون ان تترك محلها خالياً، بل تنشأ ابدالها من الرقائق الاخرى لتحل مكانها وتتخذ دورها على سبيل الخلق والاعادة. وان العارف والولي يمكنه الترقي بفعل سلسلة الاتحادات فيتحول من مقام الى مقام اخر اعلى حتى يصل الى اخر المقامات، وهو مقام المعاد والفناء. رغم انه في تفسيره لسورة البقرة نفى ان يكون هناك اكثر من مقام لغير الانسان الكامل، فالملك والانسان والشيطان والحيوان وغيرها كلها ليس لها الا مقام واحد فقط، وهو ان كلاً منها يكون تابعاً لاسم الهي واحد هو ربّه الخاص لا يتعداه، اما تعدد المقامات فهي من خاصة ذلك الكامل 8 9 .

وقد ذكر بعض المحققين من العرفاء ان الخلق اتصف اولاً بالوجود ثم العلم فالقدرة فالارادة فالفعل، وحيث ان المعاد هو عود الى الفطرة الاصلية والرجوع الى نقطة البداية، فلابد على ذلك ان تنتفي تلك الصفات على التدريج والترتيب المعاكس. على هذا فان السالك العارف لابد ان ينتفي منه الفعل اول الامر، فيكون تقياً زاهداً في الدنيا. ثم بعد هذا المقام لابد ان ينتفي منه الاختيار والارادة، حيث يستهلك ارادته في ارادة الله. وبعده لابد ان تنتفي عنه القدرة حتى لا يرى لنفسه حولاً ولا قوة وقدرة مغايرة لقوة الحق وقدرته، فيكون في مقام التوكل والتفويض. وبعده لابد ان تنتفي منه صفة العلم لاضمحلال علمه في علم الله، وهو مقام التسليم. ثم بعد ذلك لابد ان ينتفي وجوده فيكون في وجود الله حتى لا يكون له في نفسه عند نفسه وجود، وهو مقام اهل الوحدة والذي هو اجل المقامات وافضلها، حيث انه عبارة عن الفناء في التوحيد 9 9 . وبذلك تكون مقامات الانبياء والعرفاء مقامات منبسطة بانبساط الوجود الواحد مثلما قدمنا.

***

اذن بحسب الرؤية الوجودية ان النبوة يتجسد فيها الاله بكل ما يحمله من علم وفعل. فمن حيث العلم ان العلم الالهي شامل لكل شيء مثلما فصلنا الحديث عنه في الفصل الثاني، وكذا هو حال العلم في النبوة، حيث ان لها هذا المعنى الشمولي، وذلك بما تمتلكه من العقل الفلسفي كما يصوره لنا الفلاسفة في اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، او بما لديها من العقل العرفاني كالذي يصوره لنا العرفاء في جعل النبوة بمنزلة العقل الاول او الروح الاعظم.

أما من حيث الفعل فيمكن القول ان الالوهة في النبوة بادية الظهور. فهي لدى التصور الفلسفي نابعة عن اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، وهو اله البشر الذي يتوسط بالنيابة عن المبدأ الحق 0 0 1 ، ومنه يكتسب النبي القدرة على الخلق والتكوين كما يظهر ذلك في صنع المعاجز والكرامات. وتبلغ الالوهة اوجها عند القول باتحاد النبي مع العقل الفعال، حيث يكون هذا هو ذاك؛ مثلما يصرح به بعض الفلاسفة احياناً. أما لدى التصور العرفاني فالامر اعمق من السابق، ذلك ان الالوهة بحسب التصور الفلسفي لا تتجاوز حدود العقل الفعال الاخير، لكنها في المعنى العرفاني تندك في الوسيط الذي تقوم به الخلائق كلها، وهو المعبر عنه بالاله الصانع والوجود المنبسط والفعل الشامل والحق المخلوق به والمشيئة الالهية واسم الله الاعظم ومسمى الله وغير ذلك.

وبحسب الفهم الوجودي ان الوظيفة الجوهرية للنبوة ليست معيارية كالتي تتعلق باصلاح الناس في سلوكهم واخلاقهم ومعاملاتهم الفردية والاجتماعية، بل هي وظيفة وجودية حتمية تتعلق بكل من العلم والايجاد تبعاً لتسلسل مراتب الوجود، فغرضها امداد التنزلات العلمية وايصالها الى النفوس البشرية حتى يتم لها السعادة بفعل الفيض العلمي الذي تقتبسه من فوق، وهي من هذه الناحية مختصة بتكميل النوع البشري 1 0 1 . ذلك انها تلعب دور الوسيط العلمي في ربط النفوس بالعالم العلوي. وهي من حيث العلم تحكي السيرة الذاتية لطبيعة المبدأ الحق، كما انها من حيث الفعل تحاكي ما يقوم به هذا المبدأ من ايجاد العالم والتأثير فيه. لكن لما كانت السيرة الذاتية للمبدأ الحق هي العلم بذاته، وان هذا العلم سبب الايجاد والصنع كالذي اطلعنا عليه من قبل، لذا فان النبوة هي على هذا النحو من السيرة، اي انها علم وايجاد. وهي من حيث كونها علماً فانها تؤثر وتوجد. فالنبي - اذن - عالم بالموجودات وصانعها بقدر ما له من العلم بها.

وبعبارة اخرى ان اتصال الفلاسفة والعرفاء بالعلة التكوينية للعالم، والتي هي لدى الفلاسفة عبارة عن العقل الفعال الاخير، ولدى العرفاء عبارة عن العقل الاول وما شاكله.. يجعل منهم الهة في العلم والتكوين، اذ يعرفون كل شيء، وبوسعهم خلق كل شيء، وذلك من منطلق ان العلم هو علة الايجاد والتكوين، او من منطلق ان الاتصال بالعلة يكسب المتصل صفاته الشبيهة، الامر الذي به يوظفون ما يروى: >عبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون<. فكيف بالقائلين بنظرية الاتحاد، اذ يصبح العارف والفيلسوف هو ذاته عبارة عن ذلك العقل الذي هو علم بكل شيء، وفعله سار في كل شيء.

الخلاصة

نستخلص مما سبق النقاط التالية:

ــ ان درجة النبوة لدى الرؤيتين الفلسفية والعرفانية لا تفوق درجة ما عليه رتبة الفلاسفة وكذلك العرفاء. وان الانبياء في الوقت ذاته هم فلاسفة بحسب الرؤية الاولى، وعرفاء بحسب الرؤية الثانية. وان المكانة التي يحظونها بفلسفتهم وعرفانيتهم هي اعلى واهم من كونهم يحملون رتبة النبوة.

ــ ان العرفاء من جانب اخر هم انبياء، وان النبوة لم ولن تنقطع قط، وذلك بفضل الولاية العرفانية التي هي الدرجة العليا من النبوة. وضمن الاطار الفلسفي ان الذي يناسب الروح الحكمية هو ضرورة ان يكون الفلاسفة انبياء من دون عكس. بمعنى ان الانبياء ليس بوسعهم ان يكونوا فلاسفة ما لم تكتمل عندهم القوة العقلية التي يتحلى بها الفلاسفة. وبالتالي فان النبوة بحسب هذه الروح غير قابلة للانقطاع.

ــ ان نفس النبي بحسب الرؤية الفلسفية عبارة عن نفس جامعة لقوى ادراكية ثلاث، هي قوى الاحساس والتخيل والتعقل. وانه بقوة التخيل يتصف بالنبوة، وبقوة التعقل يتصف بالفلسفة، وبجمع القوتين يكون اكمل الناس واسعدهم درجة، حيث يجمع ما بين النبوة والفلسفة. وهما قوتان تشاكل الاولى منهما الثانية وتحاكيها، اذ تكتمل القوة الفلسفية >العقلية<>الخيالية<، فيصدر عنها الامثال والرموز على شاكلة ما عليه القوة العقلية.

ــ من الواضح ان الفيلسوف بحسب الرؤية الفلسفية له مزايا ووظائف تفوق تلك التي للنبوة. فكشف الحقائق والتعامل مع الباطن والقيام بدور القيمومة هي كلها من مهام الفيلسوف لا النبي. ذلك ان لهذا الاخير وظائف تتعلق بالتعامل مع الظاهر والامثال والرموز التي تقرب المفاهيم الدينية الى اذهان الناس بالاقناع رغم انها تخلو من الحقيقة.

ــ ان الغاية التي يتحراها الفيلسوف هي ان يتشبه بالاله فيكون عقله عبارة عن العلم بكل شيء. ذلك انه يتصل بالعقل الفعال، او حتى يتحد به فيكون هو ذاته، الامر الذي يكتسب فيه الصفات الالهية، او انه يصبح ذاتاً الهية حاوية على كل شيء، وبذلك تكون له القدرة على الفعل والصنع والايجاد، حيث العلم هو علة الايجاد كالذي اطلعنا عليه من قبل. أما الغاية التي يتحراها العارف فهي ان تتحد نفسه بالمقامات الفوقية حتى يفنى في ذات الحق، وهو ايضاً حريص على ان تكون ذاته حاوية وعالمة بكل شيء، ومنه يتم له الخلق والايجاد.

ــ ان النبوة بحسب الرؤية العرفانية تتخذ صورتين احداهما تكاد ان تكون متطابقة مع الرؤية الفلسفية، حيث تقتبس منها القوى الثلاث ووظائفها، سوى ان الامر يختلف من حيث ابدال العنصر الفلسفي بالعنصر العرفاني في القوة العقلية لقوى النبوة، وايضاً ان هذه القوة العرفانية تجاوزت حدود العقل الفعال الاخير كما تعارف لدى الفلاسفة، ذلك انها تصل في اقصى كمالها الى حد الفناء والاتحاد مع الذات الالهية. أما الصورة الاخرى فهي ايضاً تؤكد على ان النبوة عبارة عن تلك النفس التي تتقبل ما يفيض عليها العقل المفارق، كالذي لاحظناه بحسب الرؤية الفلسفية. لكن بحسب الرؤية العرفانية يكون العقل المفارق عبارة عن العقل الاول او الصادر الاول وليس العقل الفعال الاخير. ولا شك ان هذه الصورة هي المتعارف عليها في اوساط العرفاء مقارنة مع الاولى.

ــ بحسب الرؤية العرفانية يتم اتحاد النفس النبوية بالعقل الاول جبريل، وهما متحدان مع الحقيقة الالهية، وهي صيغة لا تختلف عن تلك الصيغة التي شاعت لدى النصارى من ان هناك حقيقة الهية واحدة لها ثلاث مراتب متحدة، هي الله وابنه عيسى وروح القدس.

ــ ان للنبوة بحسب الرؤية العرفانية ملكتين علويتين، احداهما معرفية حيث فيها كل الحقائق، والاخرى تكوينية بما لها من ولاية في تكوين الخلق وتصريفه، وهذا ما يبرر وصفها بالاله الصانع المستخلف عن الاله المتعال. وهي بحسب هاتين الخصوصيتين يطلق عليها الحقيقة المحمدية التي عنها تنشأ سائر المراتب الوجودية، وتتمظهر بها الاشكال والصور الخلقية، فهي عبارة عن اسم الله الاعظم والانسان الكامل والوسيط الجامع بين حقيقتي الحق والخلق.

ــ ان النبوة والولاية العرفانية يعبران بحسب الرؤية العرفانية عن حقيقة واحدة لها وجهان ظاهر وباطن، فمن حيث الظاهر نشهد النبوة، ومن حيث الباطن تكون الولاية، وهذه الاخيرة اعظم من الاولى. كذلك فبحسب هذه الرؤية ان الولاية العرفانية هي نبوة دائمة لا تقبل الانقطاع، وان النبوة الظاهرة منقطعة. وهذا يعني ان العرفاء في ولايتهم يفوقون الانبياء في نبوتهم الظاهرة. مع ان كل نبي هو عارف، لكنه بالعرفان اكمل منه بالنبوة، وذلك على شاكلة ما تقوله الرؤية الفلسفية من ان كل نبي فيلسوف، لكنه بالفلسفة اكمل منه بالنبوة.

ــ ان حقيقة محمد بحسب النظر العرفاني هي ذات الصادر الاول المعبر عنه بالعقل الاول والوجود المنبسط، والذي به حياة العالم وقيامه. فمحمد من هذه الناحية يمثل الاله الصانع قبال الاله المتعال. فهو الله المتعين قبل سائر التعينات، وهو الانسان الكامل، ومنه تكونت الاشياء جميعاً، كما انه غاية الكل. وعلاقته بسائر الانبياء هي علاقة قيومية. وان ولاية العرفاء تستمد فعلها الوجودي منه، حيث يتمظهر بمظاهر مختلفة، مثل صور الانبياء ثم الائمة وبعدهم العرفاء والحكماء. فالكل يستمد وجوده وعلمه وتأثيره منه.

ــ اذا كان العارف الكامل نبياً، وان حقيقة النبي هي انه اله به يقوم كل شيء، فان النتيجة المنطقية تقول بان العارف الكامل هو ذاته عبارة عن اله.

ــ بحسب الروح الوجودية يمكن القول ان للفلاسفة والعرفاء وكذا الانبياء قدرة على تغيير العالم وتسييره، وذلك بفعل ما يحملونه من العلم الشمولي والقوة الحسية. لكن يظل ان تغيير العالم بحسب الرؤية الفلسفية هو اقل درجة مما تدعيه الرؤية العرفانية.

ــ لا يوجد فصل لدى العرفاء بين التوحيد والنبوة والولاية، فكلها تعبر في جوهر الامر عن الذات الالهية وتنزلاتها، او هذه الذات وفعلها المطلق الساري في كل شيء. فللنبوة والولاية درجة الالوهة، حيث بيدها تصريف الخلق والتكوين، كما بيدها الهداية وتقرير المصير. لذلك فانها لا تخرج عن التوحيد، اذ هي عين صفة المشيئة والارادة، واذا اخذنا باعتبار ان صفات الحق عين ذاته، وانها موجودة بوجوده، فان ذلك يجعلها لا تتجاوز حد التوحيد، ولم يعد لدينا تعدد في الاصول، حيث تتحد الولاية والنبوة والتوحيد في اصل واحد هو حقيقة الاله وما يحمله من المرتبتين التين يعبر عنهما بالاله المتعال والاله الصانع.

الهوامش

1 الفارابي: السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص1 7 ــ3 7 .

2 غلام حسين ابراهيمي ديناني: قواعد فلسفي در فلسفه اسلامي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، الطبعة الثانية، 6 6 3 1 هـ.ش، ج2 ، ص0 3 3 ــ2 3 3 .

3 ابن سينا: المبدأ والمعاد، ص6 1 1 ــ0 2 1 . وصدر المتألهين: الشواهد الربوبية، ص0 4 3 ــ4 4 3 . والغزالي: مقاصد الفلاسفة، ص0 8 3 ــ1 8 3 .

4 صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، ص8 1 1 .

5 رسالة الفعل والانفعال، ضمن رسائل الشيخ الرئيس ابن سينا، انتشارات بيدار، قم، ص3 2 2 .

6 مقاصد الفلاسفة، ص0 8 3 ــ1 8 3 .

7 المبدأ والمعاد لابن سينا، ص6 1 1 . وكذا: مقاصد الفلاسفة، ص3 8 3 .

8 المبدأ والمعاد لابن سينا، ص0 2 1 . ومقاصد الفلاسفة، ص0 8 3 ــ1 8 3 .

9 رسالة في معنى الزيادة وكيفية تأثيرها، ضمن رسائل ابن سينا في اسرار الحكمة المشرقية، ص7 4 .

0 1 المبدأ والمعاد لابن سينا، ص9 1 1 و7 1 1 .

1 1 مقاصد الفلاسفة، ص2 8 3 .

2 1 الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 9 5 9 1 م، ص4 0 1 .

3 1 الشواهد الربوبية، ص4 4 3 .

4 1 رسالة في معنى الزيادة وكيفية تأثيرها ، ص6 4 ــ7 4 .

5 1 اراء اهل المدينة الفاضلة، ص4 9 .

6 1 اراء اهل المدينة الفاضلة، ص4 0 1 .

7 1 زكي نجيب محمود: جابر بن حيان، مكتبة مصر، ص4 3 2 .

8 1 اراء اهل المدينة الفاضلة، ص5 8 .

9 1 اراء اهل المدينة الفاضلة، ص4 9 .

0 2 ابن رشد: تهافت التهافت، ص8 6 8 .

1 2 السياسة المدنية، ص9 7 ــ1 8 .

2 2 السياسة المدنية، ص6 3 .

3 2 عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية للنشر، الطبعة الاولى،0 9 9 1 م، ص2 5 1 .

4 2 النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، ج1 ، ص5 8 .

5 2 رسالة اتصال العقل بالانسان، ضمن رسائل ابن باجة، ص7 6 1 ــ8 6 1 .

6 2 رسالة الوداع، المصدر السابق، ص4 1 1 و3 4 1 .

7 2 ابن رشد: تلخيص كتاب النفس، مقدمة احمد فؤاد الاهواني، ص5 9 .

8 2 مفاتيح الغيب، ص6 8 5 .

9 2 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8 ، ص5 3 3 ــ9 3 3 . وج7 ، ص5 3 1 .

0 3 تفسير صدر المتألهين، مصدر سابق، ج7 ، ص4 3 1 .

1 3 حيدر الاملي: اسرار الشريعة، ص0 9 . وجامع الاسرار، ص0 5 4 ــ1 5 4 .

2 3 القيصري: مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص4 2 1 . واسرار الشريعة، ص2 9 ــ3 9 . وجامع الاسرار، ص1 9 3 ــ2 9 3 .

3 3 اسرار الشريعة، ص3 9 ــ4 9 .

4 3 تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص5 3 1 ــ6 3 1 .

5 3 تفسير صدر المتألهين، ج5 ، ص0 2 1 .

6 3 ابو العلا عفيفي: الفصوص والتعليقات عليه، ج2 ، ص0 2 3 و1 2 3 و3 2 3 .

7 3 الجندي: شرح فصوص الحكم، ص1 4 3 ــ2 4 3 .

8 3 صدر المتألهين: اسرار الايات، ص2 4 . وجامع الاسرار، ص4 3 1 ــ5 3 1 .

9 3 الطالقاني: اصل الاصول، ص8 7 .

0 4 صدر المتألهين: ايقاظ النائمين، ص1 5 .

1 4 صدر المتألهين: اسرار الايات، ص2 4 ــ4 4 .

2 4 شرح الفصوص، ص9 8 1 .

3 4 الفتوحات المكية، ج2 ، ص8 5 4 ــ9 5 4 .

4 4 الفتوحات المكية، ج2 ، ص7 3 2 .

5 4 نقش الفصوص، من رسائل ابن عربي، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 8 4 9 1 م، ج1 ، ص1 و2 . والفصوص والتعليقات عليه، ج1 ، الفص الاول، ص8 4 ــ9 4 و5 5 ، والفص الخامس والعشرين، ص9 9 1 ، وج2 ، ص2 1 و9 2 3 .

6 4 مفاتيح الغيب، ص7 9 4 ــ8 9 4 .

7 4 تفسير صدر المتألهين، ج2 ، ص1 1 ــ2 1 .

8 4 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص2 1 2 .

9 4 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص9 0 2 .

0 5 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص9 0 4 .

1 5 شرح الفصوص، ص3 8 1 .

2 5 نقش الفصوص، من رسائل ابن عربي، ج1 ، ص2 . والفصوص والتعليقات عليه، ج1 ، ص9 4 .

3 5 عبد الرحمن بدوي: افلوطين عند العرب، ص6 4 1 . صدر المتألهين: عرشيه، ص0 4 2 . وشرح اصول الكافي، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسمية.

4 5 اسرار الشريعة، ص4 9 .

5 5 جامع الاسرار، ص0 8 3 .

6 5 تفسير صدر المتألهين، ج5 ، ص0 7 .

7 5 صدر المتألهين: الاسفار الاربعة، ج7 ، ص6 1 1 ــ7 1 1 . وعرشيه، ص3 2 .

8 5 تفسير صدر المتألهين، ج4 ، ص8 2 1 .

9 5 الفتوحات المكية، ج2 ، ص8 5 4 ــ9 5 4 .

0 6 الفتوحات، ج4 ، ص1 3 4 .

1 6 احمد بن زين الدين الاحسائي: شرح الزيارة الجامعة، دار المفيد، الطبعة الاولى، 0 2 4 1 هـ ــ9 9 9 1 م، ج1 ، ص3 3 3 .

2 6 شرح الزيارة الجامعة، ج1 ، ص3 0 2 .

3 6 شرح الزيارة الجامعة، ج1 ، ص0 9 1 .

4 6 شرح الزيارة الجامعة، ج1 ، ص2 5 2 .

5 6 تفسير صدر المتألهين، ج5 ، ص3 2 1 .

6 6 اسرار الشريعة، ص4 9 . وشرح الزيارة الجامعة، ج1 ، ص3 1 1 .

7 6 جامع الاسرار، ص2 8 3 .

8 6 شرح الزيارة الجامعة، ج1 ، ص4 3 3 .

9 6 جامع الاسرار، ص3 8 3 .

0 7 شرح الفصوص، ص8 3 2 . ومطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص4 2 1 .

1 7 شرح الفصوص، ص3 9 4 .

2 7 جامع الاسرار، ص5 8 3 ــ6 8 3 .

3 7 شرح الفصوص، ص2 9 4 .

4 7 كتاب القربة، من رسائل ابن عربي، ج1 ، ص8 ــ9 . وكتاب مقام القربة، ضمن رسائل ابن عربي >1 <، ص2 4 2 . ومطلع خصوص الكلم، ج2 ، ص9 3 1 ــ3 4 1 . وجامع الاسرار، ص6 8 3 و9 8 3 .

5 7 الفتوحات، ج3 ، ص0 0 1 . ومطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص3 4 2 .

6 7 شرح الفصوص، ص2 9 4 . ومطلع خصوص الكلم، ج2 ، ص9 3 1 ــ0 4 1 .

7 7 رسالة لا يعول عليه، من رسائل ابن عربي، ج1 ، ص0 1 .

8 7 الفتوحات، مصدر سابق، ج2 ، ص6 . وشرح الفصوص، ص9 3 2 ــ0 4 2 .

9 7 شرح فصوص الحكم، ص9 0 1 و1 1 1 و2 1 1 . وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1 ، ص7 4 .

0 8 الفتوحات، ج1 ، ص3 0 2 .

1 8 الفتوحات، ج1 ، ص3 0 2 ــ4 0 2 .

2 8 رسالة الانوار، من رسائل ابن عربي، ج1 ، ص5 1 ــ6 1 .

3 8 اسرار الشريعة، ص9 9 ــ0 0 1 .

4 8 الفصوص والتعليقات عليه، ج2 ، ص4 2 ــ5 2 ، وج1 ، الفص الثاني، ص2 6 .

5 8 شرح الفصوص، ص8 3 2 و1 3 2 . ومطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص3 4 2 ــ4 4 2 .

6 8 مطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص3 4 2 .

7 8 الفتوحات، مصدر سابق، ج1 ، ص3 4 2 .

8 8 شرح الفصوص، ص0 4 2 ــ1 4 2 . ومطلع خصوص الكلم، ج1 ، ص4 4 2 ــ5 4 2 .

9 8 مقدمة رسائل فلسفي، ص4 .

0 9 اسرار الايات، ص3 1 .

1 9 اسرار الايات، ص3 5 .

2 9 اسرار الايات، ص4 5 1 ــ5 5 1 .

3 9 اسرار الايات، ص2 7 1 ــ3 7 1 .

4 9 اسرار الايات، ص3 4 1 ــ4 4 1 .

5 9 اسرار الايات، ص5 0 1 ــ6 0 1 .

6 9 المصدر السابق، ص8 1 .

7 9 مفاتيح الغيب، ص1 9 1 .

8 9 تفسير صدر المتألهين، ج3 ، ص1 1 4 ــ1 2 4 .

9 9 اسرار الايات، ص4 2 2 ــ5 2 2 .

0 0 1 السياسة المدنية، ص0 8 .

1 0 1 الدواني: شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص6 4 2 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار