نص النص ونص نص النص
يحيى محمد
بحسب الدراسات الفلسفية نعلم ان طبيعة ادراك الذهن البشري لا يتعامل مع الاشياء الخارجية الا بصورة غير مباشرة، الامر الذي جعل بعض الفلاسفة يقسمون الشيء الى شيء في ذاته كموضوع، وشيء لذاتنا كصورة ذهنية لذلك الموضوع. ولا شك ان هذا الحال لا يختلف عما عليه الامر في فهمنا للنصوص وقراءتنا لها، ومن ذلك النصوص الدينية. بل يمكن القول اننا نجد في النص الواحد ثلاثة نصوص مختلفة، وان الممارسات التفسيرية للنص الديني - كالذي يجري في التفاسير القرآنية - لم تندرج ضمن مستوى واحد من القراءة وانما كانت تتردد بين مستويين من القراءة، وان كل واحدة من هاتين القراءتين تشكل نصاً من النصوص التي يتركب بعضها على البعض الاخر.
فالنص بما هو شيء في ذاته خارج عن حدود المنال الذهني. او لنقل ان الذهن لا يتعامل مع الاشياء في ذاتها ما لم تكن من العلوم الحضورية التي فيها يحضر الشيء بنفسه، بل يتعامل مع القضايا الخارجية وفق العلم الحصولي الذي فيه ترتسم الصورة لذلك الشيء، وارتسامها في الذهن هو العلم الحضوري بالصورة، او العلم الظاهر لذاتنا. ولا شك ان حضوره لذاتنا يمنعه ان يكون عين ذلك الشيء في ذاته، للاختلاف بين الشيئين في ذاته ولذاتنا، حيث ان الاول هو الموضوع الذي عالمه متعين بالخارج فحسب، وان الثاني هو المعنى الذي عالمه يتحدد في المجال التصوري للمعرفة، فان احدهما لا يمكنه ان ينقلب الى الاخر لاختلاف العالمين. والامر لا يختلف من هذه الجهة بين الموضوع الطبيعي الذي ينتمي الى العالم الكوني، وبين الموضوع النصي الذي ينتمي الى العالم اللغوي. فسواء الشيء الطبيعي او النص، فانهما معاً يحتفظان بكيان الشيء في ذاته. فالنص كشيء في ذاته يستحيل ان ينقلب الى ما هو معرفي لذاتنا، لكن ما يحصل هو ان هناك صورة تتجلى في ذاتنا للتعبير عن ذلك الشيء، سواء تطابقت معه ام لم تتطابق.
والنص كما هو في ذاته اشبه بما يقوله العرفاء عن الماهية والعين الثابتة قبل الايجاد، حيث لا تظهر ما لم تتنور بنور الوجود من الخارج، وكذا ان النص لا يظهر بما هو لذاتنا ما لم يتنور بنور المعرفة، وان الماهية اذا أُخذت من حيث هي هي فانها تظل معدومة ما شمت رائحة الوجود، وكذا ان النص اذا أُخذ بما هو هو، او هو في ذاته، فانه يظل مجهولاً وشبه المعدوم لا يشم رائحة الادراك والمعرفة، ومن هذه الخصوصية نطلق عليه (النص المجهول). فمثلما ان الماهية من حيث ذاتها لا تظهر بمظهر الوجود، فكذا ان النص من حيث ذاته لا يظهر بمظهر المعرفة والفهم. فلولا المعرفة والادراك ما كان هناك ما يمكن ان نطلق عليه ظاهر النص والقراءة.
على ان ذات القارئ تتسع لقراءتين، احداهما تتعلق بقراءة النص المجهول فنسميها نص الاشارة، واخرى تتعلق بقراءة هذا النص الاخير فنسميها نص التفسير. او قل ان لدينا قراءتين، احداهما هي قراءة للاخرى. كما ان لدينا ثلاثة نصوص، بعضها ينتج عن البعض الاخر، فهناك النص المجهول، وعليه يقوم نص الاشارة مما نعبر عنه (نص النص)، ومن ثم يقوم على هذا الاخير نص التفسير الذي هو (نص نص النص).
اذن لدينا نص، ونص النص، ونص نص النص. او قل لدينا نص، وقراءة النص، وقراءة القراءة. او لدينا نص، ومعنى النص، ومعنى المعنى.
وواضح اننا باستثناء النص المجهول نتعامل مع قراءتين واجتهادين احدهما قائم على الاخر، مما يجعلهما طبقتين تتفاوتان في البساطة والعمق، حيث القراءة التفسيرية هي تعميق للقراءة الاشارية، وانه لا وجود للقراءة التفسيرية من غير الاشارية، وان كان العكس غير صحيح. لكن في كلا القراءتين نواجه القابلية على التعددية. فالتعددية قد تكون اشارية، كما قد تكون تفسيرية. وفي جميع الاحوال لدينا انماط من التعددية على مستوى القراءتين الاشارية والتفسيرية؛ تعود الى ما لدى الانظمة المعرفية من القبليات المختلفة، وقلما يحصل الاتفاق بينها. لذلك قد تكون القراءة الاشارية وكذا التفسيرية عبارة عن قراءة وجودية او معيارية او واقعية.. الخ، وانه لا يوجد تلازم بين القراءتين التعدديتين، فرغم ان القراءة التفسيرية قائمة على الاشارية الا ان الاتفاق على هذه الاخيرة لا يلزم منه الاتفاق على الاولى. والامثلة على ذلك كثيرة كتلك التي يتفق فيها بعض الفلاسفة والعرفاء مع غيرهم في القراءة على مستوى الاشارة، لكنهم يختلفون معهم في القراءة التفسيرية غاية الاختلاف.
فمثلاً يتفق المفسرون على ظاهر قوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} الاعراف/92، من حيث ان الخلق كما بدأ سيعود، لكنهم يختلفون في تفسيرها، فهي بحسب نظر بعض اقطاب النظام الوجودي دالة على ان الخلق مثلما بدأ من العقل فالنفس ثم الجسد، فان العودة ستكون على العكس من الجسد فالنفس فالعقل، كالذي اختاره صدر المتألهين. ولا شك انه تفسير لا يوافق عليه اولئك الذين لا ينتمون الى نظام الفلسفة والعرفان. كذلك اننا قد نتفق من حيث الاشارة الظاهرية على معنى الاية القرانية التي تقول: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى}، فالاشارة الظاهرة قد تكون متفقاً عليها بين العديد من المذاهب والاتجاهات، الا انه من حيث الكيفية التفسيرية تجد المجال الاعظم في الاختلاف بين المفسرين بحسب ما تؤول اليه قبلياتهم المعرفية. لذلك نجد في تفاسير العرفاء الكثير مما يتفقون به مع غيرهم من حيث الظاهر او الاشارة، الا انهم يختلفون في التفسير اختلافاً عظيماً تبعاً لاختلاف انظمتهم المعرفية. فمثلاً نجد لابن عربي محاولات عديدة للحفاظ على الظهور اللفظي للنص، لكنه من حيث التفسير فانه يذهب الى ما لا يذهب اليه الاخرون من ذوي الاتجاهات الاخرى رغم اتفاقهم على الاخذ بذلك الظاهر. ومن ذلك ما جاء في استظهار قوله تعالى: {ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله} الفتح/01، وقوله: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} النساء/08. حيث الظاهر معلوم وهو ان مبايعة النبي هي مبايعة لله، وان طاعة الاول هي طاعة للاخر، فهذا المعنى هو موضع الاتفاق بين العلماء، لكن من حيث التفسير فان القبلية الوجودية لدى ابن عربي تجعله لا يرى الثنائية الظاهرة بين النبي والله، انما الموجود واحد، وهو الله المتعين بحسب الصورة المحمدية، وبالتالي فان مبايعة النبي وكذا طاعته هي ذاتها مبايعة الله وطاعته، حيث لا وجود لغيره. وعلى هذا كان من الميسور ان يستظهر هذا العارف المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: >من رآني فقد رأى الحق<، ذلك ان ظاهر الحديث بيّن في كشفه عن التلازم بين الرؤيتين، لكن تفسير ذلك عنده نابع من ان رؤية النبي هي ذاتها عين رؤية الله، فمن حيث ان هذا الاخير متعين بالصورة المحمدية - مثلما انه متعين بغيرها من الصور - فهو عين النبي، لذلك فمن رآى النبي فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، وذلك تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو ان النبي عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، ولذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته.
اذن ننتهي الى اننا نتعامل مع نص مجهول قابل لان يتحول في اذهاننا الى نصين اضافيين معلومين، وهما عبارة عن قراءتين مختلفتي المستوى. وبحسب هذه المقابلة بين النص المجهول والقراءتين فانه لا مبرر لدعوى التطابق بين ذلك النص والقراءة، سواء كانت هذه الاخيرة عبارة عن قراءة اشارية او تفسيرية. اللهم الا اذا كان الامر يتعلق بالاطار المجمل من القراءة، فنكون بذلك نقف موقفاً متوسطاً بين اولئك الذين رؤوا ان من الممكن ان تتطابق قراءتنا مع النص كما هو في ذاته، وبين اولئك الذين رؤوا في النص انفتاحاً لا يحده حدود، اي انه قابل للتشكل والانتاج الى ما لا نهاية له من القراءات والفهم والتفسير بعدد القراء والمفسرين. وهذه النظرية التي تعود الى عدد من المفكرين الغربيين - من امثال غادامير ودريدا - قد تفهم بانها لا تضع حدوداً للقراءة والتفسير، وكذا لا تضع ميزاناً للترجيح بين القراءات المتعددة، لكن على هذا التصور تصبح النظرية لا تخدم قائليها إن لم تسيّج ضمن سياج منيع. فهي ذاتها معبر عنها بالنص، ولو طبقنا على هذا النص ما يقولونه لكان من غير الممتنع ان نقرأه قراءة هي على النقيض تماماً مما يريدون ايصاله الينا، وهنا سوف يستحيل ان يكون هناك اي مجال للتواصل المعرفي. فالتواصل لا يتم الا عبر النص، وحيث ان هذا الاخير مفتوح، فانه لا مجال لمعرفة ما يراد منه ولو على سبيل التقريب، وبالتالي يصبح من العبث ان نكتب شيئاً او نقول شيئاً، فكل شيء يمكن حمله على (الخبز والشعير!) بلا حدود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق