القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي: وهم ام حقيقة ام....؟

يحيى محمد

غرض هذه الدراسة تزييف الزعم القائل بأن هناك قطيعة معرفية بين الفلسفة في المغرب العربي والمشرق، كالذي يراه المفكر محمد عابد الجابري. حيث وضع فوارق حاسمة حددها بكون الفلسفة في المشرق العربي ((محكومة باشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة، أي اشكالية علم الكلام، أما في المغرب والأندلس فلم يكن هناك علم كلام ولا فرق ولا تعدد))، وهذا ما جعل فلاسفة المشرق يأخذون الميتافيزيقا ((لأنهم كانوا يحتاجون اليها في التوفيق بين الدين والفلسفة في علم الكلام. أما في المغرب والأندلس فقد أخذوا الرياضيات والطبيعيات والفلك والطب والمنطق، وأصبح أرسطو هو الأصل وأصبح الفكر الفلسفي أرسطياً محضاً خالياً من الافلاطونية المحدثة والتأثيرات المشرقية من فارسية وغنوصية وهرمسية وغيرها))(1).

فهذا التحديد الإجمالي للفارق العام بين الفكرين في المشرق والمغرب؛ هو الحد الفاصل لما أُطلق عليه القطيعة المعرفية. فهي تبدأ بدايتها العميقة مع إبن باجة كأول فيلسوف محترف في المغرب والأندلس، إذ كانت فلسفته ((علمية الابيستيمي، علمانية الاتجاه بفعل تحررها)) من إشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة التي أتخمت المشرق، إذ إن فلسفته ظلت دائماً ((لاهوتية الابيستيمي والاتجاه))(2).

إبن باجة والقطيعة المزعومة

إن التفاصيل التي وضعها الجابري لإثبات القطيعة المعرفية بين فلاسفة المغرب والأندلس من جهة، وفلاسفة المشرق من جهة أُخرى؛ تبدأ من نقاط القطيعة التي رسمها لإبن باجة في علاقته السلبية بفلسفة أهل المشرق وإشكاليتهم الدينية التي أغرقوا عقولهم بها، وهي باختصار كالآتي:

1 ـ التحرر التام من شاغل التوفيق بين الفلسفة والدين.

2 ـ رفض الطرق غير العقلية لبلوغ الحقيقة وتحقيق السعادة، كالمشاهدات الصوفية.

3 ـ اعتبار النبوّة موهبة إلهية نادرة دون تفسيرها فلسفياً كما حصل في المشرق عند الفارابي وأتباعه.

4 ـ السعادة القصوى هي السعادة العقلية وذلك بالإتصال بالعقل الفعّال عن طريق العقل المستفاد، بحيث يصبح هذا هو عين ذاك.

5 ـ إن فكرة الفيض غائبة عن مجال تفكير إبن باجة تماماً. ففي عدم معالجته لمسألة العقول الفلكية وإبعادها عن إهتمامه؛ يجعل من طريق الإتصال بالعقل الفعّال صاعداً لا نازلاً ، وذلك بارتقاء الإنسان في مدارج الكمال العقلي وليس بفيض إلهي.

6 ـ للفلاسفة وحدة عقلية خالدة يتم فيها اللقاء العقلي والإلهي، وهي تتجاوز حدود الزمان والمكان(3).

ومع أن إبن باجة لم ينشغل بالفعل بإشكالية الفلسفة والدين، سوى إشارات خاطفة يؤكد فيها ما للغيب أو الوحي من دور في إكمال المعرفة الفلسفية(4)، لكن حتى مع افتراض عزوفه كلياً عن الإنشغال بهذه الإشكالية؛ فإن ذلك لا يعني القطيعة من الناحية الإبستمولوجية. فإبن باجة هو كأي فيلسوف يفكر بروح لا تختلف عن الروح التي يفكر فيها غيره ومن ضمنهم فلاسفة المشرق العربي والإسلامي، ما دام هناك جامع يجمعهم. لذلك كان كثير الإعتماد في طرحه على كل من أرسطو وافلاطون والفارابي. الأمر الذي جعل أثر ذلك واضحاً في صياغته لعلاقات الوجود، حيث إنها مستمدة من هذا المزيج الثلاثي المركب، مع ما أضاف إليه من طابع صوفي.

وإذا كان إبن باجة في رسائله القليلة التي وصلتنا لا يتحدث عن نظرية الفيض؛ فهذا لا يعني أنه لا يلتزم بها بشكل ما من الأشكال. فعلى الأقل إننا لو اعتبرناه أرسطياً خالصاً في هذا المضمار، مثله في ذلك مثل إبن رشد؛ لكان يكفي أنه يعترف بها ضمنياً، خاصة وإن النظرية الأرسطية تقرّ بقاعدة ((الإمكان الأشرف)) التي تتضمنها كلياً، بل وإن نظريته في العقل الفعّال لها دلالة خاصة على طبيعة هذا الفيض الذي يخرجها عن الصيغة الأرسطية، بل وعن الطريقة الفارابية السينية الشائعة؛ ليدخلها في الدائرة الصوفية الخاصة. فإبن باجة ينظر إلى العقل الفعّال بأنه عقل مفارق بريء من المادة، وهو موجود في حد ذاته، وعلى ما يقول: ((إننا لا نراه بذاته، بل نراه مع غيره، كما نرى الشمس مثلاً ونحن في الماء، ثم نراها ونحن في الهواء، والهواء قد يغلظ ويكدر ويكون أصفى، فإن هذا العقل لا نقدر أن نراه بذاته بل نرى أثره في غيره، فلذلك نراه في بعض المعقولات رؤيةً هي أقرب من ذاته، وفي بعضها رؤية هي أبعد، ويراه الراؤون برؤية متفاضلة على بصائرهم كما تُرى الشمس على تفاضل الأبصار. فأما رؤيته بذاته، وهي ممكنة، فكرؤية الشمس بدون متوسط إن أمكن ذلك، أو بمتوسط لا يؤثر في رؤيتها إن وجد ذلك))(5).

بل أكثر من هذا إن إبن باجة يزيد الفلاسفة ((من الشعر بيتاً))، فهو لا يقول بمجرد اتصال العقل المستفاد بالفعّال، بل يجعل الأول يصير نفس هذا الأخير من دون اختلاف، فحينها يكون ((النظر من هذه الجهة هو الحياة الآخرة وهو السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة، وعند ذلك يشاهد ذلك الـمشهد الـعظيم))(6). وكدلالة على مثل هذا الإتحاد الـصوفي عرض مثال المغارة الافلاطوني، الأمر الذي جعله يتجاوز فعلاً كل الذين سبقوه من فلاسفة المشرق. وهو يدرك هذا جيداً، حيث يشير إلى أنه قد انفرد بتوصله إلى تلك النتيجة التي وصفها بأنها ((أجلّ الأُمور التي وقفتُ عليها وهي صفة الغاية التي ينتهي الطبع بالسلوك إليها)). فبرغم أن هناك من تقدمه في بحث هذه المسألة وإطالة النظر فيها، ومنهم الفارابي الذي ((مكانه من هذا العلم مكانة)) لكنه لم يجد في كتبه التي وصلت الأندلس مثل هذا النحو من النظر الذي وقف عليه، ولا عند غيره من الفلاسفة سوى ما جاء في بعض مقولات أرسطو في الأخلاق، ومع ذلك فإن ما جاء به هذا المعلّم هو ((مجمل جداً لا يمكن الإكتفاء به))(7).

هكذا ندرك أن ما رامه إبن باجة ليس سوى التصوف العقلي. فهو الجديد الذي تفرّد به، والذي فيه أقام ((الحبل السري)) المتصل مع العرفان. الأمر الذي يعني أن الجديد عنده هو رفع البساط عن ((العقل)) بالعقل. إذ ليس لديه مؤاخذة يؤاخذ الصوفية عليها سوى عدم التزامها النظر العقلي الذي يراه شرطاً للمعرفة الإتحادية أو ((الصوفية))، أي أنه شرط للمعرفة التي تتجاوز حفظ المراتب لعلاقة السببية ونظام الوجود، والتي تحقق حالة ما يطلق عليه ((اللامعقول العقلي)) أو الفلسفي في الوحدة العقلية.

لذلك فإنه يعدّ الوحدة هي ((أكمل في التوحد من جميع أنواع التوحد المشهورة التي تُطلب في بادئ الرأي))(8)، ملوّحاً بهذا إلى الـمؤاخذة التي يؤاخذ عليها الـصوفية، إذ بدون الـشرط العقلي تصبح المعرفة الصوفية عنده عبارة عن خيالات توهم بأنها حقائق ((إتحادية)) الأمر الذي سيستقطب نقد إبن طفيل له، دفاعاً عن المسلك الصوفي وطريقته الذوقية في الاتحاد والسعادة.

ومن الجدير بالذكر إن اعتبار إبن باجة لشرط النظر العقلي في تحقيق حالة الاتحاد بالعقل الفعّال لا يعني أن الفيض عنده صاعد من حيث الأساس، بل جميع الفلاسفة بدون استثناء يرون أن الفيض نازل، على الرغم من أن عملية النزول قد تتحقق في عالمنا ضمن شروط لا غنى عنها. فحسب النظرية الأرسطية كما يطرحها إبن رشد: إن الفاعل للعقل البشري هو عقل مفارق يُخرجه من القوة إلى الفعل، وإن سائر الصور الهيولانية تتكون من خلال فيض النفس السماوية المنحصرة في حرارة الكواكب. أي إنه سواء في الصور العقلية أو الهيولانية فإن الفيض يكون على الدوام نازلاً، إذ العالي هو الذي يؤثر في السافل وليس العكس.

على ذلك نفهم أن إبن باجة ليس ذا قطيعة إبستمولوجية مع فلاسفة أهل المشرق، بل ولا إنه أرسطي خالص. ولو أننا طبقنا عليه بعض أحكام الجابري الذي حكم بها على فلاسفة المشرق؛ لكان فيلسوفنا في دائرة خارجة عن دائرة البرهان الأرسطي، وهي دائرة العرفان كثمرة لهذا البرهان. ذلك أن قوله بنظرية الإتحاد مع العقل الفعّال تجعله أسوأ حالاً من حال الفارابي الذي صوّره ـ صاحبنا ـ بأنه يرى العرفان ثمرة ونتيجة للبرهان، لكونه ((جعل المعرفة البرهانية تنتهي في أسمى درجاتها إلى الاتصال بالعقل الفعال))(9). بل قد لا يكون أقل حالاً من المعلم الثاني الذي اتهمه بأنه ((توّج نظريته في المعرفة بفكرة (السعادة) العرفانية الهرمسية الأصل))(0 1). مع أن إبن باجـة يقـول بهذه الـفكرة على نحـو أشد إمعاناً في الـعرفان والتصوف. بل ما من فليسوف إلا ويقول بفكرة السعادة من خلال الكمال العقلي، بمن فيهم أرسطو.

على أن تنظير إبن باجة للوحدة بين الفلاسفة من خلال اللقاء العقلي الإلهي، وذلك بتحليله للعقل، يجعله يكرر ما سبق أن سعى إليه الفارابي بطريقة مختلفة. وبالتالي فإن إبن باجة لا ينظر إلى فلاسفة المشرق نظرة خارجة عن هذه الوحدة واللقاء الخالد غير الخاضع للزمان والمكان، فهو لا يرى بين الفلاسفة قاطبة من فرق إلا في المظهر، مشبّهاً ذلك بمثال يقول فيه: ((لو أنه أقبل إلينا ربيعة بن مكرم وقد لبس درعاً وحمل بيضة حديد واعتقل قناة وسيفاً، فرأيناه في هذا الزي، ثم غاب عن أبصارنا وأقبل وقد لبس جوشناً وفي رأسه الجلة المصنوعة من الريش، وقد عمل مزراقاً ودبوساً فسبق إلى الظن أنه غير ربيعة بن مكرم)) مع أنه هو بالذات(1 1).

وهو حتى في هذا اللقاء الخالد يكاد يكرر ما سبق إليه الفارابي، مع أخذ اعتبار الفارق بينهما، وهو أن فليسوف المشرق جعل لقاء الفلاسفة يقوم على الاتصال ((الفلسفي))، بينما عمل الآخر على جعله قائماً على الاتحاد ((الصوفي)). فالفارابي قد سبق إلى الاعتقاد بأنه حين تمضي طائفة من طوائف المدينة الفاضلة، بأن تبطل أبدانهم وتخلص نفوسهم بالمفارقة؛ فإن هناك من يأتي ليقوم مقامهم في المدينة، ثم إن هؤلاء حينما يلحقون بأولئك بنفوسهم بعد الموت؛ فإنهم يصبحون في جوار منهم، فتتصل نفوسهم المتشابهة بعضها ببعض، باعتبارهم ينتمون إلى طائفة واحدة، وكلما زاد عدد هذه النفوس المفارقة زاد اتصالها ببعضها، فتزيد بذلك لذّاتها وسعادتها، وهكذا باضطراد، إذ كل نفس تعقل نفسها، وتعقل ما يشابه ذاتها بحسب تكثرها، مما يجعل لذّات كل واحدة منها بغير نهاية، ((فهذه هي السعادة القصوى الحقيقية التي هي غرض العقل الفعال))(2 1).

إبن طفيل والقطيعة المزعومة

ولو انتقلنا إلى إبن طفيل فسنجد من الغرابة حقاً أن يجعله الجابري فيلسوفاً أرسطياً ومغربياً على نمط إبن باجة وإبن رشد، مشيراً إلى أن هناك لبساً وهو ((أن إبن طفيل يقول في مقدمة حي بن يقظان إنه سيعرض الحكمة المشرقية كما رواها الشيخ الرئيس إبن سينا، فرسالة حي بن يقظان مكتوبة بقلم إبن طفيل، لكن مضمونها، بتصريح إبن طفيل، هو مضمون الفلسفة المشرقية السينوية. والذين يحكمون على إبن طفيل من خلال حي بن يقظان مخطئون. إن رأيه هو رأي النظرة المغربية الرشدية))(3 1).

من العجب حقاً أن يكون تقدير الجابري بهذا الشكل، إذ فيه مكابرة وتجاهل لكل ما قاله إبن طفيل في مقدمته لقصة حي بن يقظان. فالمقدمة شاهدة بجميع أجزائها وتفاصيلها على أن فيلسوفنا هذا يتبنى الفلسفة المشرقية ويراها الحق الذي يجب إتباعه، بل وينتقد كل من لم يغص في غمار الروح الصوفية من أصحاب العقل والفلسفة... وإلا فما الداعي لأن يكلّف نفسه في بحثها والكشف عن أسرارها؟

وكشاهد على ما ذكرنا هو أن إبن طفيل يبدأ مقدمته بعد الحمد والصلاة بالإعلان عن أحقية الفلسفة المشرقية فيقول: ((سألتَ أيها الأخ الكريم.. أن أبثّ إليك ما أمكنني بثّه من أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الإمام الرئيس أبو علي بن سينا. فاعلم أن من أراد الحق الـذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبها والجد في اقتنائها))(4 1). ثم أنه يجعل من سؤال السائل محركاً له إلى أن يكون من أصحاب الشهود كالصوفية تماماً، لذلك فهو يواصل حديثه السابق قائلاً: ((ولقد حرك مني سؤالك خاطراً شريفاً أفضى بي ـ والحمد لله ـ إلى مشاهدة حال لم أشهدها من قبل وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة، بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان لأنه من طور غير طورهما، وعالم غير عالمهما. غير أن تلك الحال؛ لمّا لها من البهجة والـسرور واللذة والحبور لا يستـطيع من وصل إليـها وانـتهى إلى حـد مـن حدودها أن يكتم أمرها أو يُخفي سرها.. وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل))(5 1).

وفي موضع آخر من المقدمة يصف حاله بمن ذاق شيئاً يسيراً من المشاهدة الصوفية التي جعلته أهلاً لبث كلام يؤثر من خلال تلك القصة، فهو يقول: ((ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة. وحينئذ رأينا أنفسنا أهلاً لوضع كلام يُؤثَر عنّا))(6 1).

بل إن فيلسوفنا ((المستشرق)) هذا ينقد منتحلي الفلسفة في قبال أهل الذوق والولاية، ومن هؤلاء إبن باجة حيث يعرضه إلى نقد شديد. فمع أنه يُثني عليه مدحاً في حذاقته وصحة نظره وصدق رؤيته؛ لكن مع ذلك فقد عدّه ممن ((شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائـن عـلمه وبث خفـايا حكـمتـه))(7 1)، بل هو يـؤاخذه على انتـقـاصه للـصوفية لكـونه اعـتـبـر إلتذاذهم ومشاهدتهم قائمة على القوة الخيالية، في الوقت الذي وعد أن يكون حال السعداء ضمن شروط أوجبها تتعلق بجانب النظر. فعلى هذا اعترض عليه فيلسوفنا بحزم وشدة، قائلاً في حقه: ((وينبغي أن يقال له ـ ها هنا ـ لا تستحل طعم شيء لم تذق، ولا تتخط رقاب الصدّيقين))(8 1).

ومما له دلالة ومعنى على صوفية إبن طفيل وسينيّته؛ هو أنه على الرغم مما كانت بينه وبين إبن رشد صداقة معروفة؛ فإنه قد أغفل ذكره بالمرة وهو بصدد ذكر رجال الحكمة، فقد نصّ على إبن باجة واعتبره فريد عصره برغم بعض مؤاخذاته عليه، لكنه حين تطرق إلى فلاسفة عصره فإنه لم ينص على صديقه إبن رشد، بل قال: ((وأما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا، فهم في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال، أو ممن لم تصل إلينا حقيقة أمره))(9 1).

كما من العجب أيضاً أن يتصور الجابري أن إبن طفيل لم ينطلق في تفكيره ولا في إشكاليته من منطلق إبن سينا الذي دمج الدين والفلسفة ببعضهما البعض، مستدلاً على ذلك بفشل بطل القصة حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره الديني بأن معتقداتهم هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة، الأمر الذي يعني عنده هو أن إبن طفيل كان يرمي في ذلك إلى فصل الدين عن الفلسفة(0 2).

لكن لو أمعنا فيما كان يريده إبن طفيل من خاتمة قصته في العلاقة التي تربط بين حي وأبسال وسلامان وجمهوره؛ لوجدنا أنه يصل إلى النتيجة نفسها التي كان يرمي إليها إبن سينا ومن قبله الفارابي، خاصة في علاقة أبسال بسلامان، أي علاقة الفلسفة بالدين. فالقصة تؤكد على أن الحقيقة تظهر مباشرة وبالذوق لأصحاب الكشف والمشاهدة من العرفاء، كما هو الحال لدى بطل القصة حي بن يقظان، كما تؤكد على أن أصحاب الفلسفة والعقل الكسبي يصلون هم أيضاً إلى المعطى المعرفي أو المفهومي عينه الذي يصل إليه أهل الكشف، كما هو الحال عند أبسال، بدلالة أنه عندما يلتقي أبسال بحي يرى كل منهما أن ما عنده من حقيقة معرفية هو عين ما عند الآخر، في حين إن القصة تنظر إلى أن أهل الدين هم الجمهور من العامة الذين تستهويهم الحجج الخطابية والإقناعية. فهم ليسوا من أصحاب البرهان ولا من أهل العرفان، بل نفوسهم غير مستعدة لأن تتقبل سوى تلك الحجج، وهي ما تقدمه لهم الشريعة من الظواهر التي يحتجّون بها، وهذا ما أدركه حي بفطنته، فعلم به وجه الحكمة في كون الشريعة ليست مصدراً للبرهان والحقيقة، بل هي مصدر التمثيل والرمز. وهو جوهر ما يؤكد عليه إبن سينا كما في رسالة ( أضحوية في أمر المعاد)، ومن قبله الفارابي، بل وقبلهما الاسماعيلية. فهم جميعاً ينظرون إلى الشريعة بأنها مصدر التمثيل والرمز لا البرهان والحقيقة، وأن وظيفتها جاءت لمخاطبة الجمهور والعامة على النحو الإقناعي، من حيث إن نفـوسهم لا تتـحمل الحـقيقة والـبرهان(1 2). وبالتالي فليس هناك من فرق بين إبن سينا وإبن طفيل، وأن هذا الأخير هو ليس كما صوّره الجابري من أنه كان بطلاً في كشفه عن ((فشل المدرسة الفلسفية في تحقيق مشروعها في إنشاء فلسفة يندمج فيها الدين، ثم يقرر واقعاً يفرض نفسه، وهو أن لكل من الدين والفلسفة طريقه الخاص وإن كانا يلتقيان عند الهدف))(2 2).

فما وصل إليه إبن طفيل إنما هو تأكيد لما قد سبق إليه الفارابيان. فالإندماج بين الفلسفة والدين، من حيث إن الفلسفة هي القائدة والمؤولة وصاحبة البرهان؛ متحقق في شخص أبسال الفيلسوف، أما الجمهور فهم يظلون بعيدين عن فهم الحقيقة والباطن، وليس لهم من الدين إلا القشر والظاهر.

وأخيراً فإن ما كان يريده الجابري فعلاً من الموقع الذي يحتله إبن طفيل، ليس معرفة (( الحقيقة)) كما هي، لأننا نعتقد بأن قرارة نفسه تشهد بمثل ما نراه، إذ ليست مقدمة ((حي بن يقظان)) بتلك المقدمة الغامضة التي يعسر فهمها على مفكر كبير ولامع من أمثال الجابري، وعليه فإن ما كان يريده إنما هو محض ((الآيديولوجيا)) التي آثرها على ((الحقيقة)) المعرفية. الأمر الذي ظهر في ((فلتات لسانه)) عندما كان يحاور الأستاذ فهمي جدعان. فهذا الأخير استشكل عليه لضمه إبن طفيل ضمن لائحة الفلاسفة المغربيين، وذلك من حيث النقد الذي وجهه إبن طفيل لإبن باجة والذي فيه اعتبر هذا الأخير مقصّراً في بلوغ غاية الفيلسوف من الإتصال. وهو في جوابه عن هذا الإشكال ارتكب خطأً معرفياً حاول تسديده بذريعة آيديولوجية كانت على حساب ((الحقيقة)) ذاتها. ذلك أنه قام بتأويل ما قصده إبن طفيل قالباً حقيقة الوضع الذي هو عليه، حيث إنه رام أن يُفهم ما عناه ذلك الفيلسوف بنقيض ما أراده بالضبط، فاعتبر أن إبن طفيل كان ((يعني أن إبن باجة مقصّر في أن يكون مشرقياً في فلسفته، أي أنه لم يتبن نظرية الإتصال الفيضية)). في حين إن واقع نقد إبن طفيل لإبن باجة كان على العكس تماماً، فهو كما سبق أن عرفنا إنه يؤاخذه على كونه لم يصل إلى تحقيق حالة الإتصال الفيضية لإنكبابه على مشاغل الدنيا، لا أنه يؤاخذه على مشرقيته وتبنيه لنظرية الاتصال الفيضية، كما هو واضح من مقدمته من دون أدنى شك. ومع ذلك فإن الجابري قد انساق إلى الكلام فيما لا يريد التكلم عنه، من حيث إنه إضطر لأن يضرب أحد الفيلسوفين المغربيين بالآخر، فضحّى بأحدهما وأوقعه فيما كان ينفيه عنه في السابق، لنفض الشكوك عن الآخر. ويبدو أنه أحس بالمأزق، إذ كان طرحه غير متسق ولا مقنع، فلجأ إلى الإقرار بغرضه الآيديولوجي الذي يفرض فيه أن يكون فلاسفة المغرب ومنهم إبن طفيل في خندق واحد مضاد للخندق الذي يجمع فلاسفة المشرق بأجمعهم، وذلك من أجل تحقيق ما يصبو إليه من تقدم، فهذا التقدم لا يكون عنده إلا بمقاطعة الثقافة التي عليها أهل المشرق، والإكتفاء بما لدى أهل المغرب والأندلس. هكذا فهو بعد قلبه للحقيقة والمعنى الذي مرّ علينا يعلن قوله مباشرة: ((والمهم هو إما أن تكون الثقافة العربية الأندلسية قد تحركت في الساحة المشرقية نفسها، أو أنها قد تجاوزتها. والحقيقة أننا إذا أردنا أن نجد تاريخاً حقيقياً للفلسفة العربية الإسلامية، فيه شيء من التقدم، وشيء من الانتقال إلى ما هو أبعد، فهذا التاريخ لا يمكن أن نجده إلا إذا بنيناه على أساس أن النظرة الأندلسية المغربية قد تجاوزت منهجياً النظرة المشرقية))(3 2).

إبن رشد والقطيعة المزعومة

أما وقد وصلنا إلى شيخ الفلسفة المغربية الأرسطي إبن رشد؛ فالقطيعة مع أهل المشرق تصل عند الجابري إلى أقصى حد لها. فهو يراه أنه يمثل خالص الفلسفة الأرسطية البرهانية(4 2). وقد مَحْوَرَ في كتابه (نحن والتراث) هذه الـقطيعة مع إبن سينا بالـذات. فشيخ قرطبة والشيخ الرئيس يعدّان ـ عند الجابري ـ رمزين متنافرين ومتضادين غاية التنافر والتضاد، إذ ينتمي الأول منهما إلى الحقل الأرسطي الخالص، بينما ينتمي الآخر إلى الدائرة الحرانية. أما القطيعة التي صورها بينهما فهي تمس كلاً من الإشكالية والمنهج والمفاهيم، معتبراً أن الأول فكّر داخل إشكالية هي غير إشكالية الآخر، وبجهاز معرفي يختلف عما لدى نظيره، مؤكداً على أن الأول قد حقق تقدماً على صاحبه ((في ميدانهما المشترك وداخل الثقافة نفسها التي ينتميان إليها معاً))(5 2).

الإشكالية الرشدية والقطيعة المزعومة

تعني القطيعة على مستوى ((الإشكالية)) لإبن رشد أنه قد فصل بين البيان والبرهان، أو الدين والفلسفة، فصلاً كلياً، بخلاف ما هو الحال عند إبن سينا وجماعته من فلاسفة المشرق العربي والإسلامي(6 2). ذلك إنه إذا كان فلاسفة الـمشرق قد قاموا بعملية الـخلط والتداخل بين الدين والفلسفة؛ فإن ما حصل عند إبن رشد ـ بنظر الجابري ـ هو أنه دعا إلى فهم الدين داخل الدين، وبواسطة معطياته، وكذلك فهم الفلسفة داخلها طبقاً لمقدماتها وأُصولها، أي أن فلسفته لم تقم على القاعدة المشرقية ((ما في الدين مثالات لما في الفلسفة))(7 2)، وإنما كان يدعو إلى ((ظاهرية حزمية)) مغربية في تفسير الشريعة بلا باطن، مستخدماً في ذلك المجاز في التعبير شريطة أن لا يخلّ بعادة لسان العرب في التجوّز في تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك(8 2).

وهذا في الحقيقة لا يعكس موقف إبن رشد كما هو. فبيانات هذا الفيلسوف واضحة وضوحاً لا يقبل الشك، فهي على نقيض هذه الدعاوى، على الرغم من أنه في بعض القضايا يُظهر نوعاً من ((التردد)) كما سنرى. لكنه على العموم منساق انسياقاً كلياً أو شبه كلي نحو الطريقة ((المشرقية)) في التعامل مع القضايا الدينية، بما في ذلك التسليم بقاعدة ((ما في الدين مثالات لما في الفلسفة)). فهو إبتداءً يقرُّ بكون ((الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع)) معترفاً بأنها قد تدرك ما تبحث عنه، وقد لا تدركه، الأمر الذي يُعوَّل فيه على الـشرع(9 2). وهو ما يفسر علة انشغاله في بحث الكثير من القضايا الكلامية، كما في المسائل الجسمية والجهة والرؤية وبعث الرسل والقضاء والقدر والعدل والمعاد والتأويل وغيرها.

وهو وإن كان أحياناً يعتبر أن لكل من الشريعة والفلسفة أُصولها الخاصة المستقلة، بل ولا يرى هناك تضاداً بين البرهان الفلسفي والنص الشرعي، إذ كلاهما عنده حق، فلا بد أن يشهد أحدهما للآخر(0 3)، إلى الحد الذي يقول فيه: ((إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأُخت الرضيعة.. وهما الـمصطحبتان بالجوهر والغريزة))(1 3).. لكنه مع ذلـك لا يقر الـفصل بينهما، فالشرائع عنده مأخوذة ((من الوحي والعقل))، فكل ((شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلّم أنه يمكن أن تكون ههنا شريعة بالعقل فقط فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الـشرائع التي استنـبطت بالـعقل والـوحي))(2 3). ومن منطلق هذا الـتداخل أقرَّ صراحة بأن ((كل نبي حكـيم ولـيس كل حكـيم نبي))(3 3)، الأمر الـذي خوّله أن يعتبر هنـاك قـيمومة فـلسفية على الشريعة. فالنبوة قد أصبحت مزدوجة التمثيل لكل من الوحي والفلسفة، مثلما أن الشريعة منظور إليها بهذا المنظار عينه، وعليه فلا مندوحة من أن يكون الفلاسفة هم القيّمون الحقيقيون على الشريعة، ذلك أنهم على حد تعبيره: ((الذين قيل فيهم إنهم ورثة الأنبياء))(4 3). على ذلـك أقر تأويل الـنص الـشرعي فيما لو عارض الـبرهان الفلسفي(5 3). بل وأوجب أن تكون عملية التأويل من اختصاص الفلاسفة دون غيرهم من أهل الكلام والحشوية والباطنية(6 3)، معتبراً أن المعنيين في آية ((الراسخون في العلم)) هم الفلاسفة وحدهم. فهم بنظره أصحاب القياس البرهاني من بين أشكاله الثلاثة، أحدها يفيد أهل الكلام، وهو الجدل، والآخر هو الخطابة التي اعتبرها من شأن الجمهور الغالب(7 3).

ولو أنا أحضرنا اعتقادات إبن رشد السابقة، وهو أنه يجعل للنبوة بعدها الفلسفي المضاف إلى الوحي، وأنه يلازم بين الشريعة والعقل من دون فصل، وأنه بالتالي حكم على الفلاسفة بأنهم الورثة الشرعيون للنبوة والقيّمون على الشريعة لما يحملونه من البعد الآخر للنبوة وهو العقل أو البرهان الفلسفي.. فلو أنا أحضرنا هذه الملازمات الرشدية لأدركنا لماذا كان إبن رشد يوجِّب معرفة المقاييس البرهانية شرعاً، أي معرفة العقل البرهاني الفلسفي، وذلك بقراءة الكتب الإغريقية القديمة، مؤكداً على ذلك حتى من الشرع نفسه، ذاكراً جملة من الآيات التي تحث على النظر، معتبراً إياها أنها تقتضي وجوب معرفة تلك المقاييس المدونة في تلك الـكتب القديمة(8 3). والآيات التي ذكرها هي: ((فاعتبروا يا أولي الأبصار))(9 3)، ((أو لم ينظروا فـي ملكـوت الـسماوات والأرض وما خلـق الله من شيء))(0 4)، ((وكذلـك نُري ابراهيم ملكوت الـسماوات والأرض))(1 4)، ((أفلا ينظرون إلى الإبل كـيف خُـلـقت وإلى الـسماء كـيف رُفعت..))(2 4)، (( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..))(3 4).

وعليه فإن إبن رشد لم يتعامل مع الشريعة معاملة الفصل والاستقلال، بل تعامل معها من الموقع نفسه الذي تعامل به فلاسفة المشرق، حتى أقر طريقتهم في اعتبار ما في الشريعة على أنه مثالات لما في الفلسفة، مكرراً ظاهرة التقسيم المشرقي للناس إلى عامة وخاصة، والشريعة إلى ظاهر وباطن، دون أن يكون ظاهرياً حزمياً كما يحلو لصاحبنا أن يضفي عليه هذه العلاقة لكي يؤكد فيها امتداده ((المغربي)) الصرف. صحيح أن لإبن رشد بعض الأقوال التي منح فيها مفهومه عن التأويل بما لا يخرج عن حدود اللغة العربية، بل أظهر في الوقت نفسه اعتداداً بوجود ما يشهد على التأويل في ظواهر ألفاظ الشرع الأُخرى. ذلك إنه يقول: ((ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدّى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، إن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي.. بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدّى إليه البرهان، إذا أُعتُبر الشرع وتُصفّحتْ سائر أجزائه وُجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد. ولهذا المعنى أجمع المسلمون على إنه ليس يجب أن تُحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل))(4 4). ومع هذا فإن طريقة إبن رشد العامة كانت على خلاف هذا التوجه تماماً. فهو يعتبر أن هناك أشياءً خفية يستوجب علمها البرهان، لكن حيث إن أغلب الناس لا سبيل لهم إلى البرهان؛ لذا فإن الله قد ضرب لهم ((أمثالها وأشباهها)) ودعاهم إلى التصديق بها. لذلك كان الشرع ـ عنده ـ منقسماً إلى ما هو ظاهر وباطن، ليلائم ما عليه الناس المنقسمون إلى عامة وخاصة، فالظاهر عبارة عن تلك الأمثال المقربة للمعاني الباطنة إلى أذهان العامة من الناس. أما الباطن فهو هذه المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان من خاصة الناس(5 4).

وكإمعان في النزعة الباطنية أوجب في بعض أصناف التأويل، التي أسسها على نظرية التمثيل المشرقي، أن لا تباح إلا إلى الخاصة. فهو قد قسّم التأويل إلى أربعة أصناف كلها تقوم على فكرة ((التمثيل))، معتبراً أن بعضها مما لا يجوز التصريح بتأويله لغير الراسخين في العلم، وهم الفلاسفة(6 4).

كما صرح في محل آخر قائلاً: ((فالذي يجب أن يقال فيها ـ الشرائع ـ إن مبادئها هي أُمور إلهية تفوق العقول الإنسانية. فلابد أن يُعترف بها مع جهل أسبابها.. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلاً بإطلاق، فإن تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها ففرضه ألا يصرح بذلك التأويل وأن يقول فيه كما قال سبحانه: ((والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا))(7 4). هذه هي حدود الشرائع وحدود العلماء))(8 4).

وهو من منطق هذا الإقحام والتداخل عدّ للعقل قدرة تامة على معرفة كل ما جاءت به الشريعة من حقائق وتعاليم، والتي منها الرموز والأمثال المقربة لأفهام الجمهور، حيث يدركها عقل الفيلسوف خالصة بالحقائق الخفية الباطنة والموقوفة على أهل البرهان خاصة(9 4). وهذا ما حدا به إلى أن يتبنى بعض النظريات الفلسفية الرائجة في المشرق، وأن يخرج عن عهدته الأرسطية، كما هو الحال فيما يتعلق بالمعاد النفساني وحشر الأجساد . ذلك أنه وإن كان في بعض مواقفه يدافع عن النزعة الأرسطية المتشددة، والتي فيها ينكر المعاد النفساني في صورته الجزئية، فضلاً عن إنكاره للحشر الجسماني، إذ مآله الفساد والتحلل، لكنه يضطر في موقف آخر الى أن يتخذ سبيلاً ((مشرقياً)) وسطاً بين النزعة الأرسطية وظاهر الشريعة، وذلك عن طريق تبنيه القول بالمعاد النفساني. فهو برغم ما يذكر بأنه لا يوجد للفلاسفة قول يثبت حشر الأجساد أو ينفيه، بل إنهم تركوا الأمر الى الشرائع التي يعظمونها، ورأوا أنه لا ينبغي التعرض لمبادئها العامة بقول مثبت أو مبطل(0 5)، فبرغم ذلك إنه يؤيد فكرة إنكار الحشر الجسماني، مكتفياً بالمعاد الروحاني كما هو الحال عند الفارابيين، إذ يعتبر أن الشرائع قد إختلفت في كيفية ذكر أحوال هذا المعاد بين التصريح والتلويح والتمثيل بالأُمور المشاهدة الحسية، وكل ذلك بنظره يرجع إلى تفاوت الوحي. لكنه يفسر علة التمثيل بالأُمور الحسية ((إما لأن أصحاب هذه الشرائع أدركوا من هذه الأحوال بالوحي ما لم يدركها أولئك الذين مثّلوا بالوحي الروحاني، وإما لأنهم رأوا أن التمثيل بالمحسوسات هو أشد تفهيماً للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركاً.. وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام، في تمثيل هذه الحال..)). كما قال أيضاً: ((.. ويشبه أن يكون التمثيل الذي في شريعتنا هذه أتم إفهاماً لأكثر الناس وأكثر تحريكاً لنفوسهم إلى ما هنالك. والأكثر هم المقصود الأول بالشرائع. وأما التمثيل الروحاني فيشبه أن يكون أقل تحريكاً لنفوس الجمهور إلى ما هنالك)). وعليه فهو بهذا يرى أن التمثيل بالأمور الحسية هو أفضل للجمهور من الكشف الصريح عن حقيقة المعاد الروحاني، لذلك صرح بأن القرآن لحرصه على مصلحة البشر قد مثّل على السعادة والشقاوة ذلك التمثيل الحسي لتقريبها من أفهام الجمهور(1 5). الأمر الذي حدا به إلى أن يحكم بضرورة تأويل الآيات التي يبدو منها المظهر الحسي لعالم الآخرة والمعاد، وذلك طبقاً للبرهان الفلسفي الذي يستند إليه(2 5).

هكذا إذا ما كان إبن رشد يرى في النبوة فلسفة، وفي الشريعة عقلاً؛ تفضي إلى أن يكون الفلاسفة قيمين ومؤولين للشريعة طبقاً للبرهان الفلسفي.. وإذا ما كان يعمل على تقسيم النص الديني إلى ظاهر وباطن، وتقسيم الناس إلى عامة وخاصة، ويقول بنظرية المثال والممثول مثل فلاسفة المشرق، ويتفق معهم بأن قصد الشارع هو حمل الجمهور على الظاهر من العقائد، أما الباطن فهو من نصيب الفلاسفة الذين يدركونه دون غيرهم باعتبارهم أصحاب البرهان والتأويل.. فأي تأكيد أكثر من هذا على تورطه بالانشغال في إشكالية العلاقة بين الدين والفلسفة، بل وتماثله مع من سبقه من فلاسفة المشرق كإخوان الصفا والفارابي وإبن سينا والتابعين لهم. بل إن تسميته لأحد كتبه بعنوان ((فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)) لدال على ما في هذا التورط من معنى. يضاف إلى أن الجابري نفسه قد انساق من حيث لا يشعر إلى الاعتراف بمثل ذلك الانشغال. فهو يعتبر إبن رشد قد قدّم مشروعاً بالـتمسك بظـاهر الـنص وتـعامل معـه تعـاملاً برهانيا(3 5). وهذا يعني أنه قد قدم مشروعاً لتأسيس الدين على الفلسفة، وهو نفس المآل الذي شيّده فلاسفة المشرق.

المنهج الرشدي والقطيعة المزعومة

كان ذلك ما يتعلق بتصحيح النظر في الزعم القائل بوجود قطيعة ابستمولوجية في اشكالية الدين والفلسفة بين إبن رشد وبين فلاسفة المشرق العربي والاسلامي. أما فيما يتعلق بالقطيعة المنهجية بينهما، فهو أن الجابري عدّ طريقة الاستدلال لدى فلاسفة المشرق بأنها غير برهانية لكونها تقول بقياس الـشاهد على الغائب، خلافاً لما التزم به إبن رشد من منهج ((برهاني)). وهو يؤكد هذا التمييز حتى من خلال أقوال فيلسوف قرطبة نفسه(4 5)؛ الـذي كثيراً ما كان يتهم إبن سينا بأنه يستدل وفقاً لذلك القياس مثلما يفعل المتكلمون، فهو بنظره ذو مواقف وسيطة بين المشائين وهؤلاء المتكلمين، كما هو الحال في مواقفه الخاصة بالعلم الإلهي ومقولة (الممكن بذاته الواجب بغيره)، وكذلك نظرية الصدور الفيضية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)... الخ.

والذي يستنتجه الجابري من هذا، هو أن للفلاسفة ومتكلمي المشرق منطقاً ثلاثي القيمة. فهو يتهم إبن سينا بإضافاته للقيم الثلاثية للموضوعات التي كان يعالجها، كإضافته لمقولتي الـممكن والواجب، مقولة وسطية هي ( الـممكن بذاته الواجب بغيره)(5 5)، كذلـك إضافته قيمة ثالثة الى موضوع القدم والحدوث للعالم، وهي عبارة عن (الحادث بالذات القديم بالزمان)، وكذا الحال بالنسبة للعلم الإلهي، حيث أضاف الى العلم بالكليات مقولة (العلم بالجزئيات على نحو كـلي)(6 5). والمهم في الأمر إنه يعمم هذا الـمنطق ويمايزه، فيعتبر الفارق بين اليونان والفكر العربي في المشرق سواء لدى الفلاسفة أو المتكلمين، هو أن اليونان، متمثلاً بأرسطو، يمتلك منطقاً ثنائي القيمة بخلاف الفكر في المشرق ذي المنطق الثلاثي القيمة، مشيراً الى أن هناك دائماً قيمة ثالثة وسطاً بين قيمتين حدّيتين. وقد عرض على ذلك جملة أمثلة للمتكلمين في هذا المضمار(7 5).

والواقع إننا لا نجد مساغاً لعملية التعميم في اطلاق المنطق الثلاثي القيم حتى في حدود الدائرة الكلامية، رغم خلافنا مع الجابري حيث نرى أن مثل هذا المنطق يحل الكثير من المشكلات، وينظر الى ما لا ينظر إليه المنطق الثنائي في تشكيله للعلاقتين الحدّيتين، وقد استخدمه أرسطو والتقليد الأرسطي في علاج العديد من القضايا كما سنشير. فبرغم إننا من المحببين لهذا المنطق الثلاثي، لكنّا لا نجد مساغاً للتعميم حتى في حدود الأمثلة الكلامية التي نطق بها الجابري، فكل اعتقاد ثلاثي لا يمثل بالنتيجة سوى اعتقاد لبعض فرق المسلمين، أو اتجاه من الاتجاهات الكثيرة المتشعبة. فنظرية الكسب التي تقف بين الجبر والاختيار تعد قيمة ثالثة بالنسبة للأشاعرة دون غيرهم من الفرق والاتجاهات الكلامية إذا ما استثنينا نظرية الإمامية التي أغفل ذكرها الجابري والتي تقول كما نصّ الإمام الصادق: ((لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)). وكذا المنزلة بين المنزلتين هي قيمة ثالثة تخص المعتزلة وحدهم، وأيضاً نظرية الأحوال التي تخص بعض المعتزلة والأشاعرة... إلخ. ومثل هذا الحال من ((التردد)) يصدق على إنتاج الفكر اليوناني، وذلك لاختلاف المذاهب فيه. بل إن أرسطو أو تقليده قد مارس المنطق الثلاثي للعديد من القضايا، ومن ذلك توسطه بين نظرية الكمون ونظرية الإبداع في تكوين الأشياء في عالمنا الأرضي، وعدم قبوله لتأثير العقل على الجسم أو المادة إلا من خلال الوسيط الثالث المعبّر عنه بالنفس، وكذلك فكرة الوساطة العقلية والفلكية التي تربط الإله بالأشياء التي يقوم بتكوينها وإحداثها، وأيضاً فكرة الواجب بغيره التي هي بين فكرتي الممكن والواجب بذاته، والتي سبق أن أكدنا على أنها ليست ميزة المشرقيين، مضافاً إلى تفسير العلم الإلهي من حيث إنه ليس جزئياً ولا كلياً، وكذلك محاولة التوسط بين الجبر والتفويض في تفسير القضاء والقدر على ما سنشهده لدى فيلسوف قرطبة إبن رشد... إلخ.

وما نريد أن نقوله بهذا الصدد هو أن الجابري كما رأينا وسنرى لا تهمّه الفكرة بقدر ما تهمّه الآيديولوجيا التي عَلَت رأسه بالكامل. ذلك إنه يمارس عمليتي التعظيم والتصغير الشموليين، فهو يعظّم كل إنتاج ونهج يمارسه الفكر الأرسطي والمغربي، وفي المقابل إنه يذم ويحتقر كل إنتاج ونهج يتعلق بالفكر المشرقي والعرفاني. ولم يعِ أن هناك الكثير من الاتفاقات بين الفريقين، إن لم نقل إنه كان يقوم بعملية ضخمة من لعبة ((المخاتلة)). الأمر الذي ورّطه بأن يقع في التناقض والتهافت. إذ كيف يمكن أن تكون الفكرة نفسها عند المشارقة مذمومة منتقصة، وعند المغاربة ممدوحة معظّمة؟! وقل الشيء نفسه فيما يتعلق بالمنهج. فنحن وإن كنا مضطرين إلى أن نرجئ معالجة طريقة كل من الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال إلى بحث منفصل، لكنّا نقول هنا بأن الطريقة الفلسفية عموماً لم تتجرد عن منطق الاستدلال بالشاهد على الغائب الذي مارسه الكلاميون، بل ويمارسه الفكر البشري بما فيه الفكر العلمي، هذا إذا لم نقل إن الطريقة الفلسفية هي أكثر إمعاناً من غيرها في ممارسة مثل هذا الاستدلال(8 5). الأمر الذي يعني أن اتهام الجابري ومن قبله إبن رشد لإبن سينا فيما يتعلق بممارسته هذا النوع من الاستدلال؛ هو اتهام لا يلوح فيلسوف المشرق فحسب، بل ويلوح نفس فيلسوف قرطبة وسائر الفلاسفة بمن فيهم أرسطو. فحتى طبقاً لاعتبارات الجابري يكون الفلاسفة غير معزولين عن ممارسة ذلك النوع من الاستدلال بحسب ما تفرضه عليهم البيئة التي يعيشون في كنفها. فمثلاً إنه يرى أن اليونان قد عكسوا حياتهم الاجتماعية على الفكر الفلسفي، كما وأيّد الفكرة التي تقول بأن أرسطو صاغ المنطق الأرسطي طبقاً لاعتبارات الجسم الصلب(9 5).

ومع أننا لا نجد مساغاً لهذه الفكرة التي تكشف عن التناقض في نظرية الجابري، لكنا نعتبر أن التفكير الفلسفي لا يخلو بدوره من اعتبارات قياس الـشاهد على الغائب، وكمثال على ذلك ما جاء عن أرسطو بصدد كشفه عن طبيعة العلم الإلهي، حيث انه ينطلق في استدلالاته لتحديد هذا العلم من اعتبارات انسانية فيضفيها على الحقيقة الإلهية، وهو عين الممارسة المسماة بطريقة الاستدلال بالشاهد على الغائب(0 6).

مع ذلك فإن القضايا التي اتهم بها إبن رشد الشيخ الرئيس كان في بعضها مخطئاً بحقه ومتجاوزاً عليه، وكأنه لم يدرك طبيعة ((البرهان)) الفلسفي الذي تأسست عليه القضايا التي أُدين بها، كما سنرى.

أما من جهة أُخرى فهو أن طريقة ((البرهان)) الفلسفية ليست برهانية إلا بشرطها المجرد، وهو كونها قائمة على مسلمات ذهنية هي التي تضفي عليها الطابع البرهاني، ولولا هذه المسلمات ما كانت ((برهانية))، لذلك فهي مشروطة، إذ إنها لا تبحث عن الموجود بما هو موجود، بل تبحث عنه بما هو موجود ومشروط شرطاً ذهنياً خالصاً. ويتعلق هذا الشرط في الأساس بالتطابق بين ما ينتجه الذهن وبين واقع الوجود، إذ إن أحدهما مستنسخ من الآخر، فهما بالتالي مدينان في إثبات التطابق لهما بشكل ما إلى (( السنخية)) ذاتها. وهذا يختلف عما لدى الطريقة الحديثة من التفكير القائم على مبدأ الاستقراء في الكشف عن مضامين الواقع(1 6).

وقد سبق لإبن تيمية أن كشف عن الثغرة التي تحملها طريقة البرهان القياسية، وذلك بالتمييز بين الإمكانين الافتراضي والواقعي، من حيث أن الطريقة المسماة بالبرهانية هي دائماً تتبع منهج الإمكان الافتراضي ومن ثم تتصوره على أنه واقعي. واتّبعه في ذلك إبن خلدون، قبل أن ينكشف الأمر لدى الغربيين بعدة قرون. فشيخ الاسلام يعرّض الفلاسفة وعلى رأسهم اليونانيين الى النقد فيقول: ((إن هؤلاء الفلاسفة كثيراً ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس، فيجعلون ذلك بعينه اموراً موجودة في الخارج. فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم، وأصحاب افلاطون الذين أثبتوا المثل الافلاطونية من هنا كان غلطهم، وأصحاب أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم. وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج، فـفي أيهما أثبـتوها ظـهر غلـطهم))(2 6). ويوضح ذلك ما أُقـيم من أدلة على إثبات تجزء الجزء، حيث أن الأدلة المعروضة تفيد أمراً واحداً ، وهو أن أيّ جزء فرضناه في الجسم لابد أن يتصف بأكثر من جهة، فعلى هذا الاعتبار يصح تقسيمه بفصل الجهات عن بعضها. مع أن من الثابت أن هذا التقسيم لم يكن إلا في حدود خيال الذهن وتصوراته. أما أمر الواقع فهو شيء آخر قد لا يطابق ما يحصل في الذهن. أي أن الجزء المنقسم ذهناً لاعتبار الجهتية قد لا يصدق عليه الواقع وذلك فيما لو فرضنا أن طبيعته الحقيقية لا تقبل التجزئة بذاتها(3 6).

واستناداً الى مثل ذلك الكشف استطاع إبن تيمية أن يوجه نقداً متيناً للبرهان المنطقي الأرسطي، قائلاً: ((إذا كان (البرهان) لا يفيد الا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا موجود معين؛ لم يعلم بـ (البرهان) شيء من المعـينات، فلا يعـلم به مـوجود أصلاً، بل إنما يعلم به أُمور مقدرة في الأذهان))(4 6). كذلك يقول: إن ((القياس الشمولي لا يدل إلا على قدر كلي مشترك، ولا يدل على شيء معين، إذ كان لابد فيه من قضية كلية، وإن ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأُمور الموجودة ولا يفيد معرفة شيء؛ لا الخالق ولا نبي ولا نحوه، بل إذا قيل كل محدث فلابد له من محدث دلّ على محدث مطلق لا يدل على عينه))(5 6).

المفاهيم الرشدية والقطيعة المزعومة

بعد أن قمنا بعملية تصحيح النظر فيما طُرح حول القطيعة المعرفية لكل من الإشكالية والمنهج بين إبن رشد وإبن سينا وفلاسفة المشرق؛ بقي علينا أن نصحح النظر فيما قيل حول القطيعة على صعيد المفاهيم والإنتاج المعرفي كالآتي:

1ـ مفهوم ((الحدوث والقدم)) والقطيعة المزعومة

ذكر الجابري بهذا الخصوص أن إبن رشد يرى ((أن مفهوم الحدوث والقدم عند إبن سينا والمتكلمين مفهوم خاطىء لأنه مأخوذ من الشاهد فقط. ذلك أنهم يفهمون من الحدوث (الحدوث من شيء وفي زمان وبعد عدم)))(6 6).

وواقع الحال إن هذا الاعتراض لا يلوح إبن سينا وفلاسفة المشرق، بل يلوح المتكلمين فحسب. ولستُ أدري لماذا حشر الجابري إبن سينا في هذا الموقف، مع أنه سبق أن طرح اعتقاده بخصوص قدم العالم واعتبره اعتقاداً حرانياً، وهو قوله بقدم العالم من حيث إنه قديم زماناً حادث ذاتاً، وأنه يصدر صدوراً ضرورياً مماثلاً لصدور الأشعة عن الشمس(7 6). وهذا هو الموقف الصحيح، وهو الموقف الذي يتفق عليه الفلاسفة، والذي فيه يكون واجب الوجود بذاته واجباً للوجود ((في جميع صفاته وأحواله الأولية له، لأن ذلك يقتضي قدم الفعل من جانب الفاعل، فإن الفاعل إذا كانت فاعليته واجبة له، وجب أن يكون فاعلاً دائماً)). فهذا هو رأي الفلاسفة كما قرّبه نصير الدين الطوسي، والذي هو اعتقاد إبن سينا الرافض لرأي الكلاميين، كما في كتابه (الإشارات والتنبيهات)(8 6).

على إني لم أرَ إبن رشد تعرض لإبن سينا واتهمه بذلك الاتهام كما أوهم الجابري. نعم جاء عن إبن رشد اتهام آخر يلوح الفلاسفة من متأخري الإسلام، وهو لا يقل قيمة عن التهمة الآنفة الذكر. فهو بعد أن انتقد القول بتقدم الموجود غير المتحرك للموجود المتحرك بأنه تقدم زماني، قال بأن ((الذي سلك هذا المسلك من الفلاسفة هم المتأخرة من أهل الإسلام لقلة تحصيلهم لمذهب القدماء))، مؤكداً على أن التقدم بينهما إنما هو تقدم الوجود لا الزمان(9 6).

وأقرُّ بأني لستُ أدري من يقصد إبن رشد بهذه التهمة، وعلى أي مصدر اعتمد؟ فكل ما أعلمه هو أن الفارابيين وأتباعهما لا يعتقدون بالتقدم الزماني الذي نسبه إبن رشد للفلاسفة المسلمين. فعلاقة العلية هي التي تحدد طبيعة التقدم بين المفارقات فيما بينها، وكذلك بينها وبين العالم الذي يتلوها، وهي علاقة تتضمن رتبة الذات والوجود لا الزمان، الأمر الذي يجعل هؤلاء الفلاسفة يتحركون ضمن الدائرة التي يتحرك بها إبن رشد والفلاسفة القدماء. بدلالة أن إبن رشد وهو يحدد موضع الاختلاف بين طريقة إبن سينا وبين الفلاسفة القدماء؛ أقرّ ضمنياً بما يتعارض والتهمة التي نسبها للفلاسفة المسلمين. فهو يعتبر أن إبن سينا ينظر إلى علاقة العالم ـ ومنه العالم المتحرك ـ بالعالم الإلهي الأزلي؛ بأنها علاقة ((مضاف))، من جهة ارتباط المعلول بالعلة كارتباط الظل بالشخص. لكن الفلاسفة القدماء يرون أن هذه العلاقة، تصدق على صور الأجرام السماوية. أما العالم المتحرك فهو يحتاج إلى الفاعل بحدود الحركة فقط، وذلك لأن ((فعل الفاعل إنما يتعلق بالمفعول من حيث هو متحرك، والحركة من الوجود الذي بالقوة إلى الوجود الذي بالفعل هي التي تسمى حدوثاً)). فالموجودات من السماوات وما دونها يكون ((وجودها في الحركة.. فهي في حدوث دائم لم يزل ولا يزال)). لذلك ينظر إبن رشد إلى أن ((ما كان حدوثه أزلياً أولى بإسم الحادث مما حدوثه في وقت ما. ولولا كون العالم بهذه الصفة، أعني أن جوهره في الحركة لم يحتج العالم بعد وجوده إلى الباري سبحانه كما لا يحتاج البيت إلى وجود البنّاء بعد تمامه.. إلا لو كان العالم من باب المضاف كما رام إبن سينا أن يبيّنه في القول المتقدم، وقد قلنا إن ما رام من ذلك هو صادق على صور الأجرام السماوية)).

ومع كل ذلك فإبن رشد يسعى للجمع بين وجهتي النظر الآنفتي الذكر بما يجعله يقترب من مفهوم إبن سينا أكثر من المفهوم الأرسطي السابق. فهو يعترف بأن ((العالم مفتقر إلى حضور الفاعل له في حال وجوده من جهة ما هو فاعل بالوجهين جميعاً، أعني لكون جوهر العالم كائناً في الحركة، وكون صورته التي بها قوامه ووجوده من طبيعة المضاف، لا من طبيعة الكيف))(0 7).

هكذا يتضح أن إبن رشد بريء مما نسب إليه الجابري فيما يخص اتهام إبن سينا مباشرة بمفهومي القدم والحدوث الكلاميين. كما وأن إبن سينا والفارابي وأتباعهما هم أيضاً بريئون من التهمة التي نسبها إبن رشد للفلاسفة المسلمين.

2 ـ مفهوم ((النهاية واللانهاية)) والقطيعة المزعومة

ما ذكره الجابري بهذا الخصوص يتعلق بالمفهوم العام للمتكلمين عن العالم، إذ يتصورون أن له نهاية في أجزائه، وأن من المستحيل أن يخضع إلى فكرة ((اللانهاية))، وبالتالي فالحوادث مهما كانت لا يمكنها أن تتسلسل إلى ما لا نهاية. وليس الأمر كذلك عند إبن رشد(1 7).

لكن من الواضح أن هذا الطرح لا يمس إطلاقاً اعتقاد فلاسفة المشرق ومنهم إبن سينا، فهم جميعاً يتفقون على المعنى الذي يبديه إبن رشد، طالما أنهم لا يفصلون بين العلة والمعلول الفصل المعروف لدى المتكلمين. فالحوادث عندهم ليس لها بداية ولا نهاية.

نعم قد جاء في نص لإبن رشد يفسر فيه علة قول الفلاسفة المتأخرين بتأثير العقل الفعال على عالم الصور الهيولانية في العالم الطبيعي. فهو يقول عن الفارابيين وغيرهما من الفلاسفة المتأخرين: ((إنما مال القوم إلى مذهب افلاطون لأنه رأي قريب الشبه مما يعتقده المتكلمون من أهل ملتنا في هذا المعنى من أن الفاعل للأشياء كلها واحد وأنها ليس تؤثر بعضها في بعض، وذلك أنهم رأوا أنه يلزمهم عن تخليق بعضها لبعض المرور في الأسباب الفاعلة إلى غير نهاية، فأثبتوا فاعلاً غير جسم))(2 7).

بل واقع الأمر إن فلاسفة المشرق صريحون بهذا الاعتقاد من الترتب اللانهائي للأسباب والمسببات، وهم في غاية البعد عن طريقة أهل الكلام واعتقاداتهم. فهذا إبن سينا يصرح في كتابه (المباحثات) بأنه قد ((ثبت أن ترتيب الأسباب والمسببات بلا نهاية))، وأن المبدأ الأول يعقل الأشياء على هذا الـشكل من الـترتيب(3 7). وهذا يعني أن الاعتقـاد بعـلية الـعقل الـفعال لا يتعارض مع القول بالترتيب اللانهائي لسلسلة الأسباب والمسببات، وذلك إذا ما أُخذ الأمر بالشكل العرضي من الإعداد الشرطي كما ذهب إليه إبن رشد نفسه، حيث اعتبر ((أن الفلاسفة يجوزون وجود حادث عن حادث إلى غير نهاية بالعرض إذا كان ذلك متكرراً في مادة منحصرة متناهية مثل أن يكون فساد الفاسد منهما شرطاً في وجود الثاني فقط))(4 7).

3 ـ مفهوم ((الممكن والواجب)) والقطيعة المزعومة

من المفاهيم التي شُرّحت تحت مبضع ((القطيعة)) ذلك المتعلق بتقسيم إبن سينا للوجود إلى كل من الواجب بذاته، والممكن بذاته، والممكن بذاته الواجب بغيره. فالجابري يرى أن هذا الفيلسوف أدخل قيمة ثالثة بين الممكن والواجب ((اللذين تـحدث عنهما أرسطو والفارابي))(5 7). وقد سبـق لإبن رشد أن اتـهم إبن سيـنا بأنه ((أول من اسـتنـبط هـذه الـعـبارة))(6 7)، مع أن الـفـارابي قد سبق في إدخال هذه الـقيمة قبل إبن سينا(7 7). وباعتقاد الجابري أن هذه الـقـيمة الثالثة (الممكن بذاته الواجب بغيره) جاءت لتبني إبن سينا للأُطروحة الحرانية، حيث تصور أن هذا الفيلسوف قد قسّم الوجود على شاكلة عقيدة صابئة حران الذين قسّموا الوجود إلى كل من واجب الوجود، والأجرام السماوية كآلهة، وعالم ما تحت القمر، ظاناً أن الشيخ الرئيس اعتبر الواجب بذاته على أنه واجب الوجود، والممكن بذاته على أنه أشياء عالم ما تحت القمر، في حين إن الممكن بذاته الواجب بغيره فهو عبارة عن العالم ككل أو هو يمثل إلوهية الأجرام السماوية ونفسانيتها وقدمها، فهي قديمة وواسطة بين الله والحوادث المتجددة تحت القمر كما يقول الحرانيون))(8 7).

وأول ما نلفت النظر اليه هو أن هذه الاعتقادات هي نفس آراء أرسطو سوى ما يتعلق بكيفية النفس الجرمية وتأثيرها. ذلك أن أرسطو هو أيضاً يقسّم الوجود إلى الواجب الأول، وإلى عالم العقول والأجرام السماوية، ثم عالم ما تحت القمر. بل ويرى الأجرام السماوية قديمة وواسطة بين الواجب الأول وبين عالم ما تحت القمر، وبالتالي فليس هناك من خلاف بين النظرية الأرسطية وبين الرؤية الحرانية سوى ما يتعلق برتبة الإدراك النفسية التي أضفاها الحرانيون على الأجرام السماوية، وجعلوا لها اعتباراً في التأثير على عالم ما تحت القمر، الأمر الذي لا يستحق فصلهم عن الإطار الفلسفي (البرهاني) ونعتهم بسمة أصحاب ((العقل المستقيل)) أو ((اللامعقول)) أو غير ذلك من الألفاظ التي تنبىء عن أن دارسهم يتعامل معهم تعاملاً آيديولوجياً صرفاً دون أن يتيح لنفسه مجالاً لتفهم مواقفهم طبقاً للقوانين الحكمية والبرهان الفلسفي عموماً، حتى كأنه يجعل من نفسه عاجزاً عن إدراك ما يقدّمونه من رؤية لها مبرراتها العقلية التي تقوم عليها.

أما بخصوص القطيعة المزعومة فيما يتعلق بالتقسيم الثلاثي لإبن سينا والذي فيه صُوِّر أنه جعل مقولة (الممكن بذاته الواجب بغيره) لتدل على إلوهية الأجرام السماوية ووساطتها، بخلاف ما هو الحال في مقولة الممكن التي لها دلالة على الحدوث في عالم ما تحت القمر.. فواقع الأمر أن إبن سينا لا يجعل لقيمة الممكن دلالة على الحدوث في عالم المتغيرات من عالمنا فحسب، بل هو يعدّ لها دلالة تشمل حتى عالم العقول المجردة والأجرام السماوية، وبالأحرى هو أنه يعطيها دلالة على كل ما له علة في الوجود، سواء كان عقلاً أم نفساً أو جرماً، وكما يقول: ((إن الواجب الوجود بذاته لا علة له، وإن الممكن الوجود بذاته له علة))(9 7). وهو الأمر الذي أفـضى بإبن رشد الى أن يرى الخـلاف مـعه ليـس خلافـاً جوهـرياً، بـل هـو خـلاف قـائم في الأساس عـلى الـعبارة والـلفظ من جهـة اشتراك الإسم(0 8). ففيلسوف قـرطبة صريح في تعبيره بأن إبن سينا أراد من مفهوم ((الممكن)) هو كل ((ما له علة))، وعليه رأى أن هناك اشتراكاً لفظياً في الإسم بين ما يطلقه إبن سينا من ذلك المفهوم وما يطلقه الفلاسفة القدماء، أما من حيث المعنى فالأمر يختلف، فلدى هؤلاء الفلاسفة أن ذلك المفهوم لا يصدق إلا في المعلول الـمـركب، وبالـتالي فكل ممكن الـوجود هو محدث، كما صرح به أرسطـو(1 8)، حـيث أن ((كـل حـادث فـهـو ممكـن الـحدوث قـبـل أن يـحدث))(2 8)، بمـعـنى أن الإمكـان لا يـكـون إلا بـشـرط وجود الوقت أو الزمن، إذ الإمكان من جهة القابل لا الفاعل، فزمان إمكان الوجود غير زمان عدمه، فـلا يمكن أن يكونا معاً في وقت واحد على السواء(3 8). وهذا يعني أن الـمعلول الـبسيط غير الحادث كالعقول وجواهر الأجرام السماوية لا تعتبر ممكنة الوجود بهذا الفهم (الحدوثي الزمني)، فهي بالتالي تعد إما واجبة الوجود بذاتها كما هو الحال في مبدأ الوجود الأول، أو أنها واجبة الوجود بغيرها، كما هو الحال مع العقول الأُخرى وأجرامها، لكنها في جميع الأحوال ليس فيها إمكان، ((ذلك إن الإمكان هي صفة في الشيء غير الشيء الذي فيه الإمكان، فيقتضي ظاهر هذا اللفظ ـ وهو لفظ الممكن بذاته الواجب بغيره ـ أن يكون ما دون الأول مركباً من شيئين اثنين أحدهما المتصف بالإمكان والثاني المتصف بوجوب الوجود))(4 8)، وهو مستحيل بنظر فيلسوف قرطبة، إذ ((ليس في الطبائع الضرورية إمكان أصلاً سواء كانت ضرورية بذاتها أو بغيـرها))(5 8)، و ((أن الواجب كيفما فرض ليس فيه إمكان أصلاً، ولا يوجد شيء ذو طبيعة واحدة، ويقال في تلك الطبيعة إنها ممكنة من جهة واجبة من جهة.. لأن الممكن نقيض الواجب..))(6 8).

من هنا كانت عبارة إبن سينا بنظر فيلسوفنا رديّة، حيث إن إبن سينا أراد من معنى الـممكن ((لـيس معنى خارج الـنفس أو الـذهن)) وهو ما يجعـل عبارتـه رديّة(7 8)، إذ برأيـه ((أن الموجود الذي له علة في وجوده ليس له مفهوم من ذاته إلا العدم. أعني أن كل ما هو موجود من غيره فليس له من ذاته إلا العدم، إلا أن تكون طبيعته طبيعة الممكن الحقيقي، ولذلك كانت قسمة الموجود إلى واجب الوجود وممكن الوجود قسمة غير معروفة إذا لم يرد بالممكن الممكن الـحقـيقي))(8 8). وهو اعتبر أن إبن سينا لـجأ وإنقـاد إلى هذا الـتقسيم غير المعروف عند قدماء الفلاسفة، وذلك لكونه ((اعتقد في السماء أنها في جوهرها واجبة من غيرها ممكنة من ذاتها))، وهـذا ما لا يصح بنـظـر فـيـلسوف قـرطبة(9 8)، إنمـا الـذي يـصح عـنده طـبقاً لـرأي الـفـلاسفـة القدماء هو أن الأجرام السماوية يمكن أن ينطبق عليها مفهوم (الممكن بذاته الواجب بغيره) من جهتين أو طبيعتين اثنتين، فهي واجبة الوجود بغيرها من حيث الجوهر، لكنها ممكنة الـوجود من حيث حدوث حركـتها في الأيـن، لا من حـيث الـجـوهـر(0 9). فهذا ما يـصح طـبـقـاً للقوانين الحكمية الأرسطية، بل الأمر يصدق حتى على الحركة ذاتها من حيث إنه ((يمكن فيها أن تكون واجبة من غيرها ممكنة من ذاتها، والسبب في ذلك أن الوجود لها من غيرها، وهو المحرك، فإن وجدت سرمدية فواجب أن يكون من قبل محرك لا يتحرك.. فالبقاء للحركة من قبل غيرها، وأما للجوهر فمن قبل ذاته، ولذلك لم يمكن أن يوجد جوهر ممكن من ذاته ضروري من غيره وأمكن ذلك في الحركة، فكل قوة محركة هي في جسم، فهي ضرورة متحركة بالعرض، وكل متحرك بالعرض محرك بالذات فهو ممكن السكون من ذاته متحرك من غيره.. فهذا هو معنى قول أرسطو أن كل قوة في جسم فهي متناهية، أي فعلها ممكن أن يتناهى، فما كان من الأجسام فيه قوة في الجوهر فواجب أن يتغير جوهره وليس يمكن أن يستفيد البقاء والدوام من غيره إلا لو انقلب جوهره، وما كان من الأجسام يوجد له القوة في الأين فقط فهذه القوة يمكن أن يقال فيها إنها ممكنة من ذاتها واجبة من غيرها))(1 9).

أما إبن سينا فحيث إن مفهوم ((ممكن الوجود)) عنده شامل لكل معلول أو ما له علة؛ فإن المقولة الثالثة هي أيضاً تعم كل ما له علة، سواء كان عقلاً أو جرماً أو حركة، وبذلك فهو لا يختلف في الاعتقاد مع الفلاسفة الأرسطيين، حتى فيما يتعلق بالعقول المفارقة، ذلك أنه أيضاً يعدها بسيطة ليس فيها إمكان البتة، كيف لا وهو يراها عبارة عن صفات مبدأ الوجود الأول. إذ يعتبر أن كل معلول أمكن وجوده عن ذات الأول بلا واسطة أو انتظار شيء آخر؛ هو عبارة عن صفات ذاته التي لما كانت غير مباينة لذاته كانت معقولات بالفعل))(2 9)، وهي لهذا موجودة بوجوده أزلاً وأبداً، إذ من المحال أن يتخلّف المعلول عن علته التامة(3 9)، وبالـتالي فإن كون المعلول ممكن الوجود في نفسه، واجب الوجود بغيره؛ لا يناقض كونه دائم الوجود بهذا الـغـيـر(4 9)، وهذا يـعـني أن إبن سينـا حيـن يـرى تلـك الـعقول ممكنـة بذاتـهـا؛ لا يقصد بذلـك ما يقصده أهل الكلام، فهو كالأرسطيين لا يرى في مثل هذا الوجود مجالاً للإمكان، بل يقصد أن المعلول إذا ما نُظر إليه لحاله وبغض النظر عن علته فهو ممكن الوجود من حيث حاجته للعلة، وهو معنى اعتباري ذهني، أما إذا نُظر إلى حقيقة أمره من حيث كونه موجوداً؛ فهو واجب الوجود بغيره، فما دامت علته موجودة وثابتة فهو أيضاً يستمد منها الوجود والثبات أزلاً وأبداً من غير إمكان بالمرة، الأمر الذي يعني أن الإمكان متقدم عنده على الوجوب ذهناً واعتباراً، وإن كانت حقيقة الوجود ليس فيها إمكان. وربما كان مفهوم (( الإمكان)) في المعلول ضرورياً لدى فلاسفة المشرق كي يمكن تمييز ظاهرة علاقة العلية عن شكل علاقة ((اللزوم الذاتي الطبعي))، كما هو الحال في لزوم الزوايا الثلاث عن المثلث، إذ في هذا الشكل من العلاقة لا يمكن تصور اللازم بأنه ممكن في ذاته، باعتباره لازماً لزوماً (( طبعياً)) عن ملزومه. أما في علاقة العلية، فالأمر يختلف من جهة التصور الاعتباري، وإن كانت حقيقة الأمر هي أن كلا العلاقتين لازمتان لزوماً حتمياً من غير إمكان.

مهما يكن فإن المعنى السابق لا يختلف كثيراً عما أراد به إبن رشد الذي لم يجد للمعلول الواجب بغيره ـ في عالم ما فوق القمر ـ مفهوماً في ذاته غير مفهوم العدم. ذلك إن مفهوم الممكن في ذاته كما يقول به إبن سينا هو أيضاً يعبّر في حقيقته عن مفهوم العدم، إذ الممكن يعد مفتقراً للوجود بالفعل، أي إنه عدم فعلاً وإن كان يقبل الوجود بخلاف العدم المحض أو المطلق. من هنا فإن الواجب بغيره في عالم ما فوق القمر سواء كان في ذاته عدماً كما يقول إبن رشد، أو ممكناً كما يقول إبن سينا؛ فالأمر واحد، إذ المسألة اعتبارية ذهنية ليس لها صلة بواقع الوجود والتحقق، ذلك إن ما موجود من هذه الموجودات ليس هو إلا عين الوجوب بالغير من غير عدم ولا إمكان البتة.

على أن ما يهمنا ـ هنا ـ هو أن إبن سينا لم يتأثر في هذه النقطة بعلم الكلام كما حلا لإبن رشد أن يتهمه. فالإمكان الذي يتحدث عنه إبن سينا عن عالم العقول المفارقة؛ ليس نفس الإمكان الذي يتحدث به المتكلمون، واذا كان إبن سينا استخدم منهج (( الاعتبارات العدمية)) ومنها اعتبار ((ممكن الوجود)) بالنسبة للعقول مع أنها واجبة من حيث حقيقتها الوجوبية؛ فإن هذا المنهج يظل منهجاً فلسفياً شاء الفلاسفة المسلمون استخدامه لتبرير بعض القضايا لتكون متفقة مع ((القوانين الحكمية)) . أو لأنه منهج اضطر اليه الفلاسفة كي يبرروا فيه رؤاهم الفلسفية حينما وجدوا أنفسهم في مأزق من حل بعض المشكلات الفلسفية. لذلك شاع عنهم القول (( لولا الاعتبارات لبطلت الحكمة)). فمع أنها عدمية بنظر الفلاسفة أنفسهم إلا أنها منتجة ومفسرة لقضايا الفلسفة كما سيتبين لنا الأمر لاحقاً.

4 ـ نظرية الفيض والقطيعة المزعومة

ومن النظريات التي أُسقط عليها منطق القطيعة المعرفية؛ تلك المسماة بنظرية الفيض أو مشكل صدور الكثرة عن الواحد. فإبن رشد يرى أن أقاويل هذه النظرية ((كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين)). وهو يعزو قول الفارابيين وأتباعهما إلى أخذهم عن المتكلمين منطق قياس الشاهد على الغائب، حيث يلاحظ في الشاهد أن الفاعل الواحد لا يكون عنه إلا مفعول واحد، ولما كان الأول عند الجميع واحداً بسيطاً؛ لذا عسر عليهم فهم كيفية حصول الكثرة عنه، وبذلك اضطرهم الأمر إلى تصوّر كون الكثرة قد جاءت بطريقة التسلسل نتيجة التعقل المختلف الشدة والاتجاه لما دون الأول.

وكتصحيح لوجهة النظر تلك، لجأ إبن رشد إلى منهجه الأرسطي المفضل، معتبراً أن الفاعل الأول الذي في الغائب فاعل مطلق، والذي في الشاهد فاعل مقيد، والفاعل المطلق ليس يصدر عنه الا فعل مطلق، والفعل المطلق ليس يختص بمفعول دون مفعول))(5 9).

لكن على الرغم من الاتهام الذي وجهه إبن رشد للفلاسفة المسلمين في تأثرهم بالكلاميين ومنهجهم المفضل (قياس الشاهد على الغائب)، فإنه يقر بأن تاريخ القول بتلك النظرية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) قديم يرجع حتى إلى ما قبل أرسطو، إذ يعترف بأنها ((قضية اتفق عليها القدماء حين كانوا يفحصون عن المبدأ الأول للعالم بالفحص الجدلي وهم يظنونه الفحص البرهاني، فاستقر رأي الجميع منهم على أن المبدأ واحد للجميع، وأن الواحد يجب ألا يصدر عنه إلا واحد. فلما استقر عندهم هذان الأصلان طلبوا من أين جاءت الكثرة))، فهناك ثلاثة أجوبة: ((فبعضهم زعم أن الكثرة إنما جاءت من قبل الهيولى، وهو انكساغورس وآله))، وبعض آخر قال بأنها جاءت من قبل كثرة الآلات، أما البعض الأخير فقد قال إنها جاءت ((من قبل المتوسطات، وأول من وضع هذا افلاطون. وهو أقنعها رأياً))(6 9).

محاور نقد إبن رشد لنظرية الفيض

يمكن تقسيم نقد إبن رشد لنظرية الصدور أو الفيض طبقاً لثلاثة محاور أساسية. فالمحـور الأول يتعلق بمشكـل المنـهج، حيث إن الفارابيين متهمان باستخدام منـهج قياس (الشاهد على الغائب) الكلامي. والمحور الثاني يتعلق بمشكل المصطلحات والمفاهيم التي وظّفها الفارابيان لهذه النظرية، والتي يُعتقد أنها لا تتفق مع ((القوانين الحكمية)). أما المحور الثالث فيتعلق بنقد الرؤية الفيضية ذاتها، من حيث الاشكالات والثغرات المفصلية العالقة بها من هنا وهناك، وسنبدأ بالبحث في هذه المحاور على التوالي كالآتي:

أ ـ مشكل المنهج الكلامي في نظرية الفيض

سبـق أن عرضـنا وجهـة نظر إبن رشـد في اتهامه لمنطق نظرية الفيض (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) بأنه قائم على محور قياس الشاهد على الغائب، على الرغم من أنه أرّخ للنظرية راجعاً بها إلى ما قبل أرسطو. ومع هذا، فالذي يدقق في طبيعة الاستدلال المقدّم لصـالح هـذه النـظرية يجـد أنـها بعـيدة كل البعد عن المنهج الكلامي ومنطقه في قياس الشاهد على الغائب، بل ومتفقة تماماً مع روح ((القوانين الحكمية)). فهي على الأقل تقوم على منطق السنخية، فكما أشار البعض إلى أن النظرية توجب أن يكون الصادر عن مبدأ الوجود الأول أمراً واحداًً من سنخه(7 9).

أما بشأن الاستدلال المعوّل عليه في هذا الصدد؛ فقد ذُكر أن بهمنيار طلب من أُستاذه إبن سينا أن يدلي له ببرهان على نظرية الفيض، أو بالأحرى على تلك القاعدة من الصدور، فكتب مجيباًً بأنه لو كان الواحد الحقيقي مصدراً لأمرين (أ) و (ب) مثلاً؛ لكان يعتبر مصدراً لـ (أ) وما ليس (أ)، وذلك لأن (ب) ليس هو عين (أ) ، فيلزم اجتماع النقيضين. لكن الفخر الرازي عجب من هذا الكلام واعتبره خلاف المعقول والوجدان، وسخر من إبن سينا وقال: ((لا أدري كيف اشتبه على الذين يدّعون الكياسة، والعجب ممن يفني عمره في تعليم المنطق وتعلمه ليكون له آلة عاصمة لذهنه عن الغلط ثم لما جاء إلى المطلوب الأشرف أعرض عن استعمال تلك الآلة حتى وقع في الغلط الذي يضحك منه الصبيان)). ذلك أن نقيض صدور (أ) هو لا صدور (أ) وليس النقيض هو صدور لا ( أ) الذي هو (ب). فكما أن الجسم إذا قَبِلَ الحركة والسواد يكون ذا حركة وما ليس بحركة، فلا يلزم منه التناقض، فكذلك الحال بالنسبة إلى الأمر السابق، خصوصاً أن إبن سينا في (الشفاء) كان يؤكد هذا المعنى بقوله: ((ليس قولنا إن في الخمر رائحة وليس فيه رائحة هو عين قولنا فيه رائحة وما ليس برائحة))، إذ في الثاني يمكن أن يجتمعا بخلاف الأول، باعتباره يتضمن التناقض. ومع ذلك فإن صدر الحكماء الشيرازي قد دافع عن كلام الشيخ الرئيس، وعدّ الفخر الرازي ممن لم يفهم مراده في معنى الواحد الحقيقي وكونه مبدأً للشيء ، فأوضح ذلك بأنه لما كانت العلة الأُولى هي عين الذات الواجبة من غير اختلاف، وحيث إن هذه الذات واحدة، فإنها من حيث كونها علة يجب أن تكون واحدة أيضاً، لذا لو صدر عنها (أ) وغير (أ) لكانت الذات الواجبة عبارة عن علتين أو مصدرين، إذ تكون الذات المتمثلة بالعلة لـ (أ) هي غير الذات المتمثلة بالعلة لغير (أ)، وهو تناقض، باعتبار الفرض السابق. وبعبارة أُخرى إنه لو كان للذات الواجبة جهـتان للصـدور لكـانت إحـداهما تمـثل عين الذات، بينما تمثل الأُخرى غيرها، فيتحقق بذلك التناقض))(8 9).

من الواضح إن طبيعة هذا البرهان تعود إلى طبيعة فهمنا لوحدة مبدأ الوجود الأول، ذلك أننا إذا كنا فهمنا هذه الطبيعة على أنها تعني الوحدة البسيطة والعلة الواحدة والجهة المخصوصة؛ فمن الـضروري أن لا يجـوز أن يصدر عنها أكـثر من واحـد، وإلا لزم التـناقض المشار اليه سلفاً، فتقييد العلة الواحدة بالجهة المخصوصة هو بعينه نفي الجهات وكثرة الصوادر. لذلك نفهم لماذا لم يصر صدر المتألهين على لزوم حكم الاستحالة والتناقض الآنف الذكر في بعض كتبه التي فيها عدّ أمر صدور الكثرة عن المبدأ الأول هو من الأُمور المستبعدة جداً(9 9). فذلك يرجع بنظرنا إلى خصوصية فهم الوحدة الإلهية وجهتها العلية.

من هنا يلاحظ أن الخزين الفلسفي في هذا الاستدلال هو أنه يعول على مفهوم الوحدة الإلهية. فحيث إن هذه الوحدة بسيطة؛ فإن بها يمكن تبرير صدور الواحد عنها تبعاً لمنطق السنخية. وبذلك إن قاعدة الصدور أو الفيض لا ترجع إلى منهج قياس الشاهد على الغائب الكلامي، بل ترتد أساساً إلى المفهوم الفلسفي الخاص بالوحدة الإلهية. حيث إن تاريخ الفلسفة شهد ((تردداً)) واضحاً فيما يتعلق بطبيعة هذه الوحـدة وعلاقـتها بالكـثرة(0 0 1)، فهـناك من ينفي وجود أيّ كثرة صورية داخل هذه الوحدة، وهو الاعتقاد الذي يتسق تماماً مع القاعدة طبقاً للقوانين الحكمية، إذ كيف يمكن تبرير صدور ما هو أكثر من واحد، مع أن للواحد جهة واحدة هي عين ذاته؟!

لكن هذا الموقف ليس هو الموقف الوحيد للمنطق الفلسفي. ذلك أن هناك من كان يعترف بوجود كثرة صورية داخل الوحدة الإلهية، وهو الأمر الذي يبرر على أساسه صدور الكثرة عن الواحد، حيث إن الواحد هو واحد وكثير في الوقت نفسه. وعليه لما كان الفارابيان من أصحاب المقولة الأُولى، وكان إبن رشد من أصحاب المقولة الثانية، لذا فقد كان من المنطقي أن يمنع الفارابيان صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي البسيط للاعتبار الفلسفي الآنف الذكر، مثلما كان من المنطقي أن يجوّز إبن رشد هذا الصدور للاعتبار المقابل. وفي كلا الحالتين إن الأمر يتأسس مبدئياً على منطق السنخية وليس خارجاً عنها.

ب ـ مشكل اصطلاحات نظرية الفيض

بخصوص الجانب الاصطلاحي لم يتقبل إبن رشد ألفاظ نظرية الفيض، مثل (صدر، فاض، لزم) وغيرها من الألفاظ التي اعتبرها لا تصح مفهوماً بالنسبة للمفارقات، إذ ((ليس هناك صدور ولا لزوم ولا فعل حتى نقول إن الفعل الواحد يلزم أن يكون عن فاعل واحد، وإنما هنالك علة ومعلول على جهة ما نقول إن المعقول هو علة العاقل))(1 0 1). لذا اعتبر أن تلك الألفاظ هي ((من صفات الفاعلين.. فإن الفاعل.. ليس يصدر عنه شيء إلا إخراج ما بالقوة إلى الفعل، وليس ها هنا ـ في عالم المفارقات ـ قوة، ولذلك ليس هناك فاعل وإنما ثم عقل ومعقول))(2 0 1).

وهذا النقد كما هو واضح لا يلوح المعنى الذي تتضمنه نظرية الفيض. فالفارابيان لا ينظران إلى الفيض والصدور والفعل والإبداع وما شاكل ذلك من الاصطلاحات؛ بأن لها هذا المفهوم الظاهر، بل ينظران إليها على أنها تعابير اعتبارية مجازية تكشف عن طبيعة التقدم الموجود بين العلة والمعلول في عالم المفارقات؛ المعتبر فيه أنه عالم الثبات والدوام أزلاً وأبداً. لذلك فإن إبن سينا يعني بقوله ((العقل يفعل المعقولات)) هو أنه ((ليس بالفعل العامي الذي بعد أن لم يفعل، بل معـنى وجـود لازم كـما نعـلمه))(3 0 1)، كـذلك معـنى الإبـداع عـنده ((هـو أن يكون من الشيء وجود لغيره متعلق به فقط دون متوسط من مادة أو آلة أو زمان. وما يتقدمه عدم زماني لم يستغن عن متوسط. فالإبداع أعلى رتبة من التكوين والإحداث..))(4 0 1)، وهو المعنى نفسه الذي ذكره السهروردي في (التلويحات) 5 0 1.

على أن إبن رشد نفسه لم يسلم من استخدام مثل تلك التعابير برغم نقده لها كما تقدم. فهو في بعض مواضع كتابه (تهافت التهافت) لا يكترث لاستعمال تلك الاصطلاحات، ومن ذلك تصريحه بأن القدماء من الفلاسفة ـ وعلى رأسهم أرسطو ـ يرون أن بعض الموجودات قد صدر عن الأول مباشرة، والبعض الآخر بالواسطة(6 0 1). أما من حيث المعنى فقد ظل هو هو، وهذا ما يبديه في تنويهه إلى أن استخدام (الفاعل، الخالق) وما إلى ذلك من ألفاظ في عالم المفارقات إنما هو على نحو المجاز، حيث لا يفهم منه غير ما يليق بذلك العالم العقلي الثابت. فهو يرى أن هذه المفارقات ((لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه، وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يُفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط))(7 0 1).

ج ـ نقد الرؤية الفيضية

أما من حيث الرؤية التفصيلية لنظرية الفيض، فهناك عدة مؤاخذات يطرحها إبن رشد في وجه الفارابيين كالآتي:

أولاً: من هـذه المؤاخـذات يـرى إبن رشـد أن الـفارابيين قـاما بـجعل مـبدأ الـوجود الأول عاطلاً كلياً من أي فعل يقوم به. إذ بحسب النظرية الأرسطية أن المفارقات جميعاً هي جواهر محركة للأفلاك، وعلى رأسها المبدأ الأول. فكل جوهر من تلك الجواهر ((هو مبدأ للجوهر المحسوس على أنه محرك وعلى أنه غاية)). وهو يستشهد على ذلك بقول أرسطو: ((إنه لو كانت ها هنا جواهر لا تحرك لكان فعلها باطلاً))(8 0 1).

وحقيقة الأمر هو أن الفارابيين برغم أنهما لم يجعلا الفاعل الأول يقوم بفعل معين بشكل مباشر، إلا إن اعتباره أصلاً يدين له كل شيء بالوجود، وغاية يتوجه اليه كل شيء؛ كل ذلك يجعل منه غاية وفاعلاً ومحركاً حقيقياً وإن كان ذلك يجري عبر الوسائط، بحسب تنزلات الوجود طبقاً لقاعدة ((الإمكان الأشرف)). أما السبب الذي جعل الفارابيين يتجنبان اضفاء صفة التحريك والفعل المباشر على المبدأ الأول؛ فهو يرجع الى المفهوم نفسه الذي أشاداه عن الوحدة الإلهية، وذلك من حيث أن تكثر جهات العلاقة العلية تؤدي الى تكثر العلة ذاتها، وهو أمر يختلف الحال فيه عند المذهب الأرسطي، لاختلاف مفهومه عن الوحدة ذاتها.

ثانياً: وهناك نقد آخر يتعلق بقول الفارابيين بأن الأول يعقل ذاته، ومن خلال عقله لذاته فإنه يعقل ما يصدر عنه مباشرة. بينما عند الفلاسفة الأرسطيين ـ كما يصرح إبن رشد ـ هو أن الأول لا يعقل إلا ذاته دون أن يعقل أمراً مضافاً دونه، لكنه بعقله لذاته ((يعقل جميع الموجودات بأفضل وجود وأفضل ترتيب وأفضل نظام)) وذلك في نفس ذاته لا خارجها، حيث أن كل مفارق ((لا يعقل ما دونه لأنه معلول، ولو عقله لعاد المعلول علة))، بينما أن كل معلول مفارق يعقل علته، وإن كان ذلك يتم بأن ((لا يكون الأقل شرفاً ـ وهو المعلول ـ يعقل من الأشرف ـ وهو العلة ـ ما يعقل الأشرف من نفسه، ولا الأشرف يعقل ما يعقل الأقل شرفاً من ذاته، أعني أن يكون ما يعقل كل واحد منهما من الموجودات في مرتبة واحدة، لأنه لو كان ذلك كذلك لكانا متحدين ولم يكونا متعددين، فمن هذه الجهة قالوا إن الأول لا يعقل إلا ذاته، وإن الذي يليه إنما يعقل الأول ولا يعقل ما دونه لأنه معلول، ولو عقله لعاد المعلول علة، واعتقدوا أن ما يعقل الأول من ذاته فهو علة لجميع الموجودات، وما يعقله كل واحد من العقول الـتي دونه فمنه ما هو علة الـموجودات الخاصة بذلك العقل، أعني بتخليقها))(9 0 1). على أن إبن رشد لا ينسى أن يذكر بأن من قال بعقل الأول لذاته ولمعلوله هو بعض المشائين الذين تأوّلوا أنه مذهب أرسطو(0 1 1).

ومن المفترض أن يكون المبرر الذي يجعل الفارابيين يعتقدان بتسلسل التعقل من الأول فما دونه يرجع أساساً إلى المبدأ الفلسفي القائل: ((العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول))، وهو مبدأ لا يختلف عليه الفلاسفة. إذ بحسب طريقة الفارابيين هو أن عقل الأول لما دونه ينبني طبقاً لذلك المبدأ على عقله لذاته. فعقله لذاته هو عبارة عن عقله لها بما هي علة، الأمر الذي يفضي به إلى أن يعقل المعلول الأول من خلال عقله لذاته، وعقله للمعلول الأول يفضي إلى عقله للمعلول الثاني، من حيث أن المعلول الأول هو عبارة عن علة أيضاً، العلم بها يفضي إلى العلم بمعلولها، وهكذا حتى يكون العقل الأول عاقلاً لجميع الموجودات من خلال عقله لذاته، على نحو النظام والتسلسل الرتبي.

وإبن رشد هو الآخر يخضع من الناحية الكلية إلى نفس منطق المبدأ الآنف الذكر، فهو أيضاً يبرر عملية علم الأول بما دونه انطلاقاً من كون العلة تعلم معلولها بما تعقل به ذاتها(1 1 1). وعليه إن الأول يعلم جميع ما دونه من نظام الأشياء وترتيبها على ما هي عليه، إذ إن ذاته هي في حد ذاتها عبارة عن كل الأشياء على نحو التمام والكمال والترتيب والنظام. فإدراك الأول لذاته هو إدراكه لهذا النظام والترتيب، وبالتالي فهو في حد ذاته عبارة عن إدراك الأشياء التي دونه. مما يعني أن اختلاف إبن رشد عن الفارابيين هو أنه يعتبر المبدأ الآنف الذكر لا يلزم عنه العلم الخارجي، أي علم الذات بما دونها على نحو خارج عنها كما يقول الفارابيان.

والواقع هو أن كلا الطريقتين لا تسلمان من بعض الإشكالات والمؤاخذات. فطريقة الفارابيين تقتضي ولابد أن يكون الأول هو عبارة عن كل الأشياء بترتيبها وتنظيمها، وذلك كي يمكن أخذ اعتبار علمه بما دونه طبقاً لمبدأ ((العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول))، حيث لا مبرر لهذا العلم، إن لم تكن العلة تحمل في ذاتها كل ما في المعلول على نحو الكمال والتمام. وهذا يعني ضرورة أن يكون الأول حاملاً لكل ما في دونه من المعلولات على ذلك النحو.

أما طريقة إبن رشد فهي وإن كان يمكن تبريرها طبقاً للمبدأ الآنف الذكر؛ لكن من الواضح أن علم العلة بمعلولها بحسب هذه الطريقة هو علم مغلق في ذاتها، فكيف يتسنى لها أن تعرف بأن لها معلولاً خارجياً، وأن تعلم بأنه على شاكلتها؟ ذلك أن هذه المعرفة لا يمكن تبريرها من ذلك المبدأ. ولو أنا استعرنا لغة الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانت) لقلنا إن طريقة إبن رشد تجعل من سلسلة الوجودات بعضها وإن كان يمكنه أن يدرك البعض الآخر ((لذاته))، لكنه لا يسعه أن يدركه ((في ذاته)). فإدراك الشيء للآخر الأقل منه رتبة ليس إدراكاً له على أنه ((آخر))، بل إدراكه له على أنه هو نفس ذاته، أي أن المدرِك متحد مع المدرَك، وبالتالي فالشيء لا يعرف إن كان هناك وجود للآخر، فكل ما يعرفه إنما هو وجود ذاته التي فيها صورة ((الآخر)) من غير أن يدرك أن لهذا الآخر وجوده المنفصل المستقل.

وكما ينطبق هذا على إدراك العلة للمعلول، حيث إن العلة لا تدرك المعلول كشيء منفصل، بل تدركه بما تحمل من صورة له في ذاتها، فكذلك الأمر ينطبق على إدراك المعلول لعلته، فهو لا يعي انها مستقلة عنه، انما هذا الادراك هو عين ذات المعلول بلا اختلاف فكيف يمكنه ان يعي انها مستقلة عنه وكونها اكمل واتم منه، بله انه جاء على شاكلتها؟ فكل ذلك ما لا سبيل اليه باعتبار ان كل تعقله وعلمه انما هو من حيث صورتها في ذاته. ولا يشفع في الامر ما تراه النظرية الارسطية من كونه محض الـتعلق أو الإضافة مع علته(2 1 1)، كما ان رأي ابن رشد في كون المعلول يعلم من ذاته معنى مضافاً إلى علته(3 1 1)؛ يحتاج الى دليل خاص غير ما هو مطروح. فكل ما يمكن ان يقال هو ان علمه بذات العلة مرتد الى علمه بذاته، وهو امر لا يبرر العلم بما هي في ذاتها، ولا كونها مستقلة عنه، ولا انه محض التعلق باعتباره غير منفصل عنها، ولا انه جاء على سنخها. هكذا يفضي الأمر الى أن تكون الموجودات عبارة عن ذرات روحية ((مونادات)) مغلقة الإدراك، حيث لا تعرف كل منها ما يدور حولها. فلا العلة بإمكانها أن تعرف طبيعة معلولها، ولا حتى تعرف أنها علة لغيرها، وكذا الحال مع المعلول، فهو أيضاً لا يعرف طبيعة علته، ولا كونه معلولاً او محض اضافة تعلقية. فالإدراك يظل إدراكاً استبطانياً ذاتياً محضاً، فلا يعرف أحد أصله ولا ما يلزم عنه. من هنا كانت أهمية نظرية الإشراق النوري للسهروردي، فهي بطريقتها تقضي على هذه الثغرة، وإن كانت نفسها لم تتخلص من ثغرة نفي العلم الصوري الإلهي كما تقتضيه ((السنخية))، الأمر الذي حدا بصدر المتألهين إلى أن يسدد الثغرتين معاً. فهو يثبت كلا العلمين؛ الصوري كما يقول به شيخ الفلسفة إبن رشد، والإشراقي كما يقول به شيخ الإشراق السهروردي.

ومن جهة أُخرى فإن الإشكال الذي أثاره إبن رشد في وجه الفارابيين؛ ينقلب هو الآخر على صاحبه. ذلك أن هذا الفيلسوف يحيل أن تعقل العلة معلولها، بمبرر أن هذا التعقل يفضي إلى اتحادهما أو انقلاب المعلول إلى العلة، من حيث إن لا شيء يعقله المفارق إلا ويتحد به، لعدم وجود المادة المانعة من الاتحاد. لكن هذا المحذور هو بعينه ينطبق على ما اختاره فيلسوفنا من حل. فهو يرى أن المعلول هو الذي يعقل العلة دون عكس، وعاقليته لها هي عين ذاته من دون اختلاف، لنفس الاعتبار من اتحاد العاقل بالمعقول. صحيح إنه يجاب على ذلك بأن ما يعقله المعلول من علته لا يعني أنه يعقلها كلها حتى يكون ذاتها بالتمام، وإنما يعقل منها بحسب قابليته أو درجته في الوجود، أي أنه لا يعقل منها إلا ما هو أقل منها تماماً وكمالاً، وإلا انقلب المعلول علة وهو مستحيل بحسب ((القوانين الحكمية))، لهذا إنه لا يعقل من مبدئه إلا بقدر قابليته الخاصة. ولو طبقنا الأمر على العلاقة التي تسود بين المعلول الأول ومبدئه المعتبر أنه واحد بسيط؛ لكان ذلك يعني أن المعلول إنما يعقل من مبدئه الأول بحسب قابليته، فهو لا يعقل كل المبدأ، وإنما يعقل شيئاً منه، وهذا يفضي إلى أن يكون هناك شيء ما لم يعقله المعلول، مثلما أن هناك شيئاً قد عقله، وهو يتحد بما عقله دون ما لم يعقله، مما يفضي إلى أن يكون المبدأ الأول منه ما هو معقول، ومنه ما هو غير معقول، وبجزئه المعقول يصبح عبارة عن نفس المعلول لاتحاد العاقل بالمعقول، مما يعني أن المعلول قد أصبح جزءاً من مبدئه الأول وليس خارجاً عنه، وهكذا كل معلول مفارق بالنسبة لعلاقته بعلته. وهذا إن كان يُرضي أهل العرفان والتصوف ويؤكد مقالتهم، فإنه لا يُرضي أهل الفلسفة وعلى رأسهم فيلسوف قرطبة.

ثالثاً: كما عرّض إبن رشد النـظرية الـفارابية الـسينوية للـنقد لكـونها ترى المعلول الأول ممكناً بذاته واجباً بغيره، مما يعني أن له طبيعتين، طبيعة ممكنة من ذاته، وأُخرى واجبة استفادها من المبدأ الأول. كما وأن اعتبارها المعلول الأول يعقل من جهتين، إذ يعقل ذاته ويعقل مبدأه؛ يجعل منه طبيعتين أو صورتين ((فأيّ ليت شعري هي الصادرة عن المبدأ الأول، وأيّ هي الغير صادرة))(4 1 1)؟!

لكنا سبق أن أوضحنا مفاد تلك النظرية، فيما يتعلق بمقولة ((الممكن بذاته الواجب بغيره))، حيث بيّنا أن الازدواجية الظاهرة في هذه المقولة هي ازدواجية اعتبارية، عدمية، ذهنية، لا يفضي فيها أن يكون المعلول ذا طبيعتين. أما ما يتعلق بتكثر جهات تعقل المعلول الأول وغيره من المعلولات المفارقة؛ فيمكن أن يجاب بالنيابة عن الفارابيين كتوجيه مناسب بأن اختلاف جهات التعقل لا يقتضي بالضرورة تكثراً في حقيقة المعلول إذا ما أخذنا باعتبار السبب نفسه من الاعتبارات العدمية. ذلك أن عقل المعلول لمبدئه هو عين عقله لذاته، حيث أن عقله لمبدئه يشكل حقيقته بما هو موجود واجب بغيره لكونه من طبيعة ((المضاف)). وعليه إن تكثر التعقل إنما هو تكثر اعتباري عدمي. مثلما يقال عن المبدأ الأول إنه يعقل ذاته ويعقل إنه علة ومبدأ، وكلاهما واحد وإن اختلف الاعتبار. لذلك قال الفلاسفة المتأخرون ((لولا الاعتبارات لبطلت الحكمة)).

نعم من الحق أن يؤاخذ على هذا المنهج بأنه مدعاة للاختلاف، كما شهدت عليه هذه النظرية التي نحن بصدد البحث فيها. ذلك أنه طبقاً لهذا المنهج ظهرت هناك العديد من الطرق المختلفة التي وجدت نفسها معنية في تبرير عملية صدور الكثرة عن الواحد وتحقيق الرؤية الخاصة بها. فإضافة الى الطريقة الفارابية الثنائية التي تعول على اعتبارات إدراك المعلول لذاته من جهة ولعلته من جهة أُخرى، وكذلك الطريقة الفارابية السينوية الثلاثية التي تضيف الى ما سبق اعتبار كون المعلول ممكناً بذاته واجباً بغيره.. فإضافة الى ذلك هناك طرق أُخرى مختلفة، منها الطريقة الرباعية التي تعول على الاعتبارات التالية: وجود المعلول، وماهيته، وعلمه بالأول، وعلمه بذاته. فعن هذه الاعتبارات الأربعة ينشأ عقل وصورة فلك ومادته ونفسه(5 1 1). كما ولـنصير الـدين الـطوسي طريقة سداسية، ذكرها في شرحه لإشارات إبن سينا، وهو أن الصادر عن الأول فيه اعتبارات كالاتي: فهو إنه صادر عن الأول وهو المسمى بالوجود، وكونه هوية لازمة لذلك الوجود وهو المسمى بالماهية، وباعتباره ممكناً لذاته، وكذلك فإنه واجب بغيره، وأيضاً فإنه يعقل ذاته، ويعقل المبدأ الأول الذي صدر عنه(6 1 1).

وهناك بعض الطرق التي عُدّت أنها لا تقوم على منهج الاعتبارات مع أنها لا تختلف عنه كثيراً، كما هو الحال في طريقة الطوسي الذي اعتبر أنه حين يصدر المعلول الأول عن مبدأه فإنه يصح أن يصدر عن المبدأ بتوسط المعلول الأول معلول ثان، ويصح أن يصدر عن المعلول الأول لحاله معلول ثالث، ثم يجوز أن يصدر عن المبدأ الأول بواسطة المعلول الثاني وحده معلول، وبواسطة المعلول الثالث وحده معلول، وبواسطة المعلولين الأول والثاني معاً معلول، وبواسطة الثاني والثالث معلول، وكذا بواسطة المعاليل الثلاثة معلول آخر، كما يجوز أن يصدر عن المعلول الأول بواسطة المعلول الثاني معلول، وهكذا تتكثر المعاليل بتلك الطريقة الى غير نهاية(7 1 1).

وأصل هذه الطريقة يعود إلى شيخ الإشراق السهروردي الذي جوّز صدور شيء واحد عن المبدأ الأول، وصدور شيء آخر عن المعلول الأول، وكذا صدور ثالث عن مجموعهما، حتى يكون في المرتبة الثانية شيئان في درجة واحدة، وهكذا... وهي طريقة عرّضها صدر المتألهين للنقد واعتبرها كسائر الطرق القائمة على الاعتبارات، بأنها جميعاً غير صحيحة(8 1 1)، معولاً على طريقة الجمع والتوفيق في ما أفاده الفلاسفة والصوفية معاً على ما سنعرف.

وربما كان تسخيف إبن رشد لنظرية الفيض الفارابية السينوية يعود أساساً إلى ما تحمله من منهج الاعتبارات. فهو وإن كان لم يتعرض إلى طبيعة هذا المنهج، لكن بحسّه الفلسفي أدرك بأن تطبيقاته مدعاة للظنون والخيالات، الأمر الذي جعله يسخر من طريقة الفارابيين واصفاً إياها بقوله ((وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه))(9 1 1).

ذلك أن منهج الاعتبارات لم يكن مدعاة للاختلاف فحسب، كما سبق أن رأينا، بل هو يواجه شبهة قوية تجعله وكأنه غير معقول، وهي شبهة سبق أن طرحها صاحب (مصارع الفلاسفة) الشهرستاني، مفادها كيف يمكن لمثل هذه الاعتبارات أن تكون منتجة ومبررة لصدور الكثرة عن الواحد، مع أنها من العدميات؟ وبعبارة أُخرى ما هو مبرر صدور الوجود عن العدم؟ وقد تصدى لهذه الشبهة صاحب (مصارع المصارع) نصير الدين الطوسي مجيباً بأن الشروط العدمية يجوز أن تكون متممة لفاعلية الفاعل، كعدم الدسومة في الثوب لصنعه، إذ عدم الدسومة ليس صانعاً للثوب وإنما هو مجرد شرط للصنع، وكذا الحال مع الشروط العدمية للاعتبارات، حيث إنها ليست سبب الصدور وإنما هي مجرد شروط له لا أكثر(0 2 1).

و الحقيقة إن المسألة لو كانت مجرد شروط عدمية لما كان هناك تأكيد على المسانخة من الناحية العددية والكيفية مع ما يصدر وينتج. فمجرد الشروط العدمية لا يحتم أن يكون عددها بعدد ما ينتج، إذ قد يكون هناك شرط واحد عدمي يكفي لأن يتيح إلى إنتاج العديد من الأشياء، كما قد لا يتكون شيء واحد إلا من خلال عدة شروط عدمية. يضاف إلى أن هذه الشروط ليس من المفترض أن تكون مسانخة مع الأمور التي تنتج من خلالها، مع أن نظرية الفيض الفارابية السينوية تؤكد على كلا الجانبين. فمن جهة إن الاعتبارات العدمية بقدر صادراتها، وكذلك فإنهما يشكلان فيما بينهما شكلاً مناسباً من السنخية. فإضافة إلى أن إدراك المعلول لعلته الواجبة يصدر عنه عقل، وهو مسانخ لعلته الواجبة؛ فكذلك أن إدراك المعلول لذاته الممكنة يصدر عنه فلك، وهو مناسب للإمكان، وكذا فإن اعتبار المعلول ممكناً بذاته واجباً بغيره يصدر عنه نفس، وهو مناسب لطبيعة الإمكان والوجوب معاً، إذ النفس ليست عقلاً حتى تكون واجبة محضاً، بل هي بين بين، أو أنها واجبة وممكنة. وإبن سينا نفسه ينصّ على هذا المعنى إذ يقول: ((ثم يجب أن يكون الأمر الصوري منه مبدأً للكائن الصوري، والأمر الأشبه بالمادة مبدأً للأمر المناسب للمادة. فيكون بما هو عاقل للأول الذي وجب به؛ مبدأً لجوهر عقلي، وبالآخر مبدأً لجوهر جسماني))(1 2 1).

الأمر الذي نخلص إليه هو أن الاعتبارات في نظرية الفيض برغم أنها عدمية إلا أن لها دوراً ايجابياً فاعلاً في عملية الايجاد والصدور. فلو افترضنا كونها مجرد شروط عدمية فحسب دون أن يكون لها ذلك الدور الايجابي من الفعل، أي دون أن يكون لها دور في تحديد المسانخة من جهة العدد والكيف كما أوضحنا.. فلو إنّا افترضنا ذلك؛ لأصبح من المتعذر علينا أن نعرف فيما إذا كان لهذه الاعتبارات مدخل في عملية الصدور والانتاج، ذلك أنها تصبح مجرد اعتبارات نحن فرضناها على المفارقات دون أن نعلم أي صلة وعلاقة تربطها بالصادرات. وبالتالي فبقدر ما يمكننا أن نفترض المزيد من هذه الاعتبارات الذهنية؛ بقدر ما لا نستطيع أن نجعل لها مطرحاً أو مكاناً في عالم نفس الأمر.. عالم العقول والمفارقات.

عود على بدء

يمكننا الآن أن نعود مرة أُخرى الى منطق القطيعة في نظرية الفيض الذي أسقطه الجابري على علاقة إبن رشد مع المشرق العربي والاسلامي. فالتعميم الذي فرضه لا يمت الى حقيقة الواقع بصلة، وكأنه بهذا السلوك أقام حاجزاً من القطيعة المعرفية بينه وبين من عناهم بها. فقد سبق أن عرفنا أن الاتجاه الصوفي لم يتقبل تلك النظرية بصورتها القائلة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، فهو على الرغم من اعتقاده بصدق المقولة نظرياً، لكنه لم يجد لها تطبيقاً على أرض الوجود. فالمبدأ الأول عنده ليس مجرد واحد بسيط، بل له نسب متكثرة تجعله عبارة عن ((الواحد الكثير))، الأمر الذي يبرر على أساسه صدور الكثرة عنه. حتى إن إبن عربي استدل بدليل رياضي ذهني على خطأ النظرية، وهو عبارة عن خروج خطوط متعددة من نقطة المركز الى المحيط في الدائرة، فبرغم أن النقطة واحدة غير متعددة، إلا أن هناك خطوطاً عديدة تخرج منها لتنتهي الى نقط متعددة على المحيط، كلها تكون في مقابل تلـك الـنقطة وجهاً لوجه(2 2 1). وهو في محل آخر من كتابه (الفتوحات المكية) الذي ذكر فيه دليله السابق أقر بعدم قدرة تفسير تلك المقولة لصدور الكثرة، لذلك عوّل على فكرة العدد (3) الذي أخذه عن الفيثاغوريين لكونه يمثل عندهم الأصل في الأعداد الفردية، معتبراً أن أبسط الكثرة في داخل العدد هو الثلاثة(3 2 1).

كما أن هناك جماعة من المتكلمين هم أيضاً وافقوا على تلك المقولة نظرياً، إلا أنهم أنكروا أن يكون لها مصداق في الوجود. فبرأيهم إنه يجوز أن يصدر عن المبدأ الأول أُمور كثيرة، وذلك لوجود الكثرة الاعتبارية في ذاته، كالسلوب والاضافات النسبية، كعالميته وقادريته ورازقيته وخالقيته، الى غير ذلك من الاضافات، وكذا مع ما هو مسلوب عنه من صفات الممكنات وأحوالها. فبحسب كل سلب واضافة يصدر عنه موجود عيني، فهذه الاعتبارات هي نظير الاعتبارات التي أثبتها الفلاسفة في العقل الأول المعلول، إذ بنظرهم أنها لا تقدح في وحدته وبساطته(4 2 1).

كذلك انطلق إبن رشد من الموقع نفسه الذي انطلق منه الصوفية وبعض المتكلمين. فهم جميعاً قد سلّموا بصحة قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) نظرياً، لكنهم نفوا أن يكون لها مصداق في الوجود. فالمبدأ الأول عندهم عبارة عن ((الواحد الكثير)) ولو اعتباراً. فمثلما أن الصوفية أثبتوا للمبدأ الأول صفات ونسباً مغايرة لذاته عقلاً لا خارجاً، وبالتالي جاز عندهم صدور الـكثير عن الـواحد(5 2 1)، وكذلـك مثلما أن بعض الـمتكلمين أثبت الكثرة الاعتبارية في ذاته، على الرغم من أنهم جميعاً متفقون على صدق القاعدة نظرياً؛ فكذا هو الحال مع إبن رشد، فهو لا ينفي المقولة نظرياً، بل على العكس أن تحليله لها يجعله يؤكدها. ذلك إن رأيه بجواز صدور الكثرة عن الواحد مستمد من منطق اعتقاده بأن هذا الواحد البسيط فيه كـثـرة صوريـة مختلفة لا تتنافى مع كونه واحداً بسيطاً(6 2 1). فهو من هذا الـموقع يصحح جواز صدور الكثرة عنه، الى درجة إنه يقول: ((ليس يمتنع فيما هو بذاته عقل ومعقول أن يكون علة لموجودات شتى من جهة ما يعقل منه أنحاء شتى، وذلك إذا كانت تلك العقول ـ أي المعلولات الفلكية المفارقة ـ منه أنحاء مختلفة من الصور))(7 2 1).

بل إن فيلسوف قرطبة يتوغل الى أكثر من هذا، حيث إنه لا يكتفي بالاعتراف لقاعدة الصدور نظرياً فحسب، وإنما يقيم مذهبه انطلاقاً منها دون أن يتجاوزها. إذ يرى أن الكثرة التي تصدر عن الواحد البسيط هي كثرة مجملة في الواحد، فكما أن المبدأ الأول عبارة عن مطلق من حيث إنه كل الأشياء، فإن ما يصدر عنه من فعل لابد أن يكون مطلقاً وحاملاً للكثرة على شاكلة الأول طبقاً للسنخية. وبذلك يكون الصادر هو عبارة عن واحد وكثير مثلما أن الأول عبارة عن ((الواحد الكثير)). وعليه اعتبر قضية صدور الواحد عن الأول صادقة، مثلما أن قضيـة صدور الـكثرة عنـه صادقة أيضاً(8 2 1). وهو بهذا ينحو منحىً قريباً جـداً من الـمنحى الذي سلكه الإشراقيون خاصة صدر المتألهين، وهو المسلك الذي جمع ما بين رأي الفلاسفة كالفارابيين ورأي العرفاء. ذلك إنه وإن كان يقول بصدور الفعل المطلق دفعة واحدة، لكنه في الوقت نفسه لا ينكر التسلسل في مضامين هذا الفعل طبقاً لقاعدة ((الإمكان الأشرف)) القائمة على السنخية. وكما يصرح بأن ما من صفة ناقصة إلا ويسبقها وجود صفة كاملة على شاكلتها، فمثلاً ((إن ما وجدت فيه حرارة ناقصة فهي موجودة له من قبل شيء هو حار بحرارة كاملة، وكذلك ما وجد حياً بحياة ناقصة... وكذلك ما وجد عاقلاً بعقل ناقص فهو موجود له من قبل شيء هو عقل بعقل كامل، وكذلك كل ما وجد له فعل عقلي كامل فهو موجود له من قـبل عـقل كامـل))(9 2 1). وينطـبق هـذا الـحال على عالـم الـعقول المـفارقة المـعتبرة بـسيطة وكاملة، فهي ليست متغايرة تغاير النوع ولا تغاير الشخص، بل إنها تتغاير من جهة شدة البساطة، وذلك لكونها ليست في مرتبة واحدة من الاضافة أو المعلولية الى المبدأ الأول، فهي تتفاضل بحسب حالها من القرب والبعد منه، فكلما كانت متقدمة في رتبة الوجود وقريبة من الأول كانت أكثر بساطة وكمالاً، وبالتالي فإن المعلول الأول هو أبسط وأكمل من المعلول الثاني، وهذا أبسط وأكمل من الثالث، وهكذا. وهي وإن كانت بسيطة من حيث إنها وحدات تامة بالفعل دون مادة ولا قوة، إلا أنها بنظره لها نوع من الكثرة والتركيب الذي تتفاوت فيه فيما بينها بحسب القرب والبعد من المبدأ الأول، وذلك من حيث أنها تعقل من ذواتها معنى مضافاً الى عللها، بخلاف ما هو الحال في المبدأ الأول الذي نفى عنه مثل تلك الكثرة والتركيب، إذ إنه ((يعقل من ذاته معنى موجوداً بذاته لا معنى ما مضافاً الى علة))(0 3 1).

على أن إبن رشد بمقولته في الجمع بين الدفعة الواحدة للفعل المطلق وبين التسلسل الذي يقتضيه التفكير الفلسفي؛ جعله يعتقد بوجود قوة روحية واحدة هي التي تربط بين أجزاء ذلك التسلسل وتجعل من الكثرة عبارة عن أمر واحد، فهي تسري في الكل سرياناً واحداً. فمن حيث إن الأشياء لا يصح وجودها إلا بارتباطها ببعض لكون كل منها يفتقر الى البعض الآخر كما تقتضيه علاقة العلة والمعلول؛ لذلك كان وجودها تابعاً لارتباطها، مما يعني أن معطي الرباط هو معطي الوجود، إذ الأشياء تفتقر بوجودها الى المبدأ الأول من حيث ارتباطها وعالقيتها به، وحيث أن هذا المبدأ واحد، فما يعطيه يجب أن يكون واحداً طبقاً لقاعدة الصدور (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، لكن ((هذه الوحدة تتنوع على جميع الموجودات بحسب طبائعها، ويحصل من تلك الوحدة المعطاة في موجود موجود وجود ذلك الموجود، وتترقى كلها الى الوحدة الأُولى))(1 3 1).

فعلى هذا الأساس قام إبن رشد بتصوير فيض هذه القوة السارية في الكل وتشبيهها بجسم الحيوان، مؤكداً على أن الفلاسفة القدماء قد أجمعوا على ذلك، فهو يقول: ((وأما كون جميع المبادىء المفارقة وغير المفارقة فائضة عن المبدأ الأول وأن بفيضان هذه القوة الواحدة صار العالم بأسره واحداً وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤم فعلاً واحداً كالحال في الحيوان الواحد المختلف القوى والأفعال، فإنه إنما صار عند العلماء واحداً وموجوداً بقوة واحدة فيه فاضت عن الأول؛ فأمر أجمعوا عليه لأن السماء عندهم بأسرها هي بمنزلة حيوان واحد.. وقد قام عندهم البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة بها صار واحداً وبها صارت جميع القوى التي فيه تؤم فعلاً واحداً وهو سلامة الحيوان، وهذه القوى مرتبطة بالقوة الفائضة عن المبدأ الأول.. فإن كان واجباً أن يكون في الحيوان الواحد قوة واحدة روحانية سارية في جميع أجزائه بها صارت الكثرة الموجودة فيه من القوى والأجسام واحدة حتى قيل في الأجسام الموجودة فيه إنها جسم واحد، وقيل في القوى الموجودة فيه إنها قوة واحدة، وكانت نسبة أجزاء الموجودات من العلم كله نسبة أجزاء الحيوان الواحد من الحيوان الواحد؛ فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية وفي قواها المحركة النفسانية والعقلية هذه الحال، أعني أن فيها قوة واحدة روحانية بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والـجسمانية وهي سارية في الـكل سريانـاً واحداً))(2 3 1). وهو يعوّل في هذه الـنظرية على كلام الاسكندر الذي يقول: ((إنه لابد أن تكون ههنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض))(3 3 1).

والملاحظ أن هذا التصور لعلاقة الكثرة بالوحدة من خلال الفعل الساري الفائض عن المبدأ الأول هو أنه يتفق تماماً مع ما يقوله الإشراقيون في المشرق العربي والاسلامي، فهم يعبّرون عن هذا الفعل المطلق بأنه عبارة عن وجود منبسط مطلق يرتبط بالمبدأ الأول ارتباط الفعل بالذات، فهو فعل الله الساري في كل شيء، وهو واحد وكثير ومجمل ومفصّل. فالفيلسوف المشرقي صدر المتألهين يعتبر أن هناك ثلاث مراتب في الوجود؛ الأُولى عبارة عن مبدأ الكل وهو الواجب الأول، والثانية عبارة عن الوجود المتعلق بغيره كالعقول والنفوس والطبائع والأجرام والمواد، أما المرتبة الثالثة فهي الوجود المنبسط على هياكل الأعيان والماهيات، وهو المسمى بالنفس الرحماني وبالحق المخلوق به، حيث إنه الصادر الأول وأصل وجود العالم وحياته ونوره الساري في جميع ما في السماوات والأرضين؛ كل بحسب رتبته(4 3 1).

وهذا هو وجه اختلاف الإشراقيين عن الصوفية، فكلا الفريقين يعتقدان بأصالة وثبوت الوجود الواحد البسيط ذي المراتب المتنزلة، إلا أن الإشراقيين يعتبرون المبدأ الأول تمام الأشياء وعينها ـ كلها ـ من حيث جمعه لكمالاتها، وغيره يعد من التعلقات المرتبطة به(5 3 1)، وهي ما تمثل أطواره وشؤونه. أما الصوفية فتجعل من المبدأ الأول عين هذا الوجود المنبسط، حيث سريانه كسريان النفس في البدن، بل الكل واحد بمراتبه من التجرد والتجسد، كما هو الحال مع النفس حيث تحتفظ بمرتبة لها في نفسها ومراتب أُخرى تجامع فيها سائر الأعضاء. مما يعني أن الخلاف بين الفريقين ينحصر في موضوع السريان إن كان يخص الذات الإلهية أم فعلها، إذ الصوفية تقول بسريان الذات، والإشراقيون يقولون بسريان الفعل الواجب مع حفظ الذات في عزّ مرتبتها وعلوّها.

أما المشاؤون فهم وإن اعتقدوا بأن الوجود يمثل حقائق متخالفة، لكن اقرارهم بأنه عبارة عن معنى بسيط ومشترك لجميع الكائنات يجعلهم يقتربون من المعنى الإشراقي الآنف الذكر، بل ربما لهذا السبب كان صدر المتألهين يرى طريقته لا تختلف عن طريقتهم عند التدقيق والتفتيش(6 3 1).

ولعل أعظم اتفاق للمشائين مع الإشراقيين هو ذلك الذي ذكره إبن رشد والذي نقل بأن القدماء قد أجمعوا عليه، كما نص عليه شارح أرسطو الاسكندر. فما ذكره إبن رشد من الفعل المطلق الواحد الساري في سلسلة الوجودات إنما يقصد به نفس ما أراده الإشراقيون من العقل الأول، وذلك من حيث إنه صادر أول تستمد منه سائر السلسلة الوجودية وجودها وارتباطها وحياتها، ذلك أنها تمثل تنزلات هذا الفعل، الأمر الذي يعني أن هذا الفعل المطلق الساري كما يسميه المشاؤون، أو الوجود المطلق المنبسط كما يسميه الإشراقيون، هو عبارة عن نفس ذلك العقل الأول الفائض عن المبدأ الواجب باعتبارين مختلفين، إذ إن هذا العقل يمثل من جهة صدارة وكمال ذلك الفعل أو الوجود وتمامه، كما أنه من جهة أُخرى يعتبر سارياً في جميع أرجاء ما دونه، أي أنه مفارق مع كل مفارق، وملابس للمادة مع كل مادة، فهو مفارق وملابس، كل بحسب رتبته الخاصة في سلسلة الوجود، ولولا حضوره فيها بنحو ما من الأنحاء ما كان لها من أثر ولا وجود.

هكذا لو نظرتَ الى مجموع العالم بما هو حقيقة واحدة حكمتَ بأنه صدر عن الواحد صدوراً واحداً وجعلاً بسيطاً. أما لو نظرتَ الى معانيه المفصّلة فستحكم بأن الصادر الأول هو العقل الأول لأنه أشرف أجزاء ذلك العالم وأتم مقوماته باعتباره يمثل كل الأشياء، وهكذا الأشرف فالأشرف، إذ العقل الأول هو عين العالم ككل، والاختلاف بينهما إنما هو من حيث الاجمال والتفصيل، مما يعني أن صدور العالم وإبداعه يصبح بكليته دفعة واحدة باعتباره ذا وحدة حقيقية جامعة لكل ما فيه بما في ذلك التجددات والحركات التي عدّها صدر الحكماء مطوية في جناب هذه الوحدة من العالم(7 3 1).

هكذا يظهر لنا إبن رشد في نظريته الفيضية وكأنه إشراقي مشرقي، إذ لا خلاف بينه وبين من جسّدوا الظاهرة الإشراقية كما هو الحال مع صدر المتألهين.. فأين هي القطيعة يا ترى؟!

5 ـ العلم الإلهي والقطيعة المزعومة

إضافة الى ما سبق، اعتبر الجابري أن هناك خلافاً في مفهوم العلم بين فلاسفة المشرق وإبن رشد. فقد تصور أن هؤلاء الفلاسفة وكذلك المتكلمين ((يفهمون العلم فهماً عامياً)) هو عبارة عن ((إدراك الأشياء مرصوفة بعضها إزاء بعض)). في حين إنه رأى في المقابل أن الفهم الحقيقي للعلم هو كما حدده إبن رشد عبارة عن ((إدراك النظام والترتيب الذي في الأشياء)). والذي هو تابع للنظام والترتيب في العقل الإلهي(8 3 1).

وواقع الأمر إنه لا يوجد خلاف في هذا النحو من الفهم بين الفريقين. ذلك أن الفارابيين وأتباعهما من فلاسفة المشرق هم أيضاً يفهمون العلم ومنه العلم الإلهي على أنه عبارة عن النظام والترتيب طبقاً لعلاقة العلية التي تتضمن مفهوم الرتبة والسنخية، فالفارابي يصرح بأن نظام الوجود والكون مرتب بحسب الأسباب التي تنتهي ((الى مبدإ يرتب عنه أسباب الأشياء على ترتيب علمه بها))(9 3 1). كما أن إبن سينا هو الآخـر يـصرح بـأن ((واجب الـوجـود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما تحقق، ويعقل ما بعده من حيث هو علة لما بعده، منه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً))(0 4 1).

وهذا يعني أن خلاف إبن رشد مع الفارابيين وأتباعهما ليس في هذه النقطة بالخصوص، بل يتعلق بأمرين معاً: ذلك أنهم من جهة لا يجوزون أن يكون العلم الإلهي بالأشياء في مرحلة الذات نفسها، كما أنهم يعتقدون أن هذا العلم يكون على هيئة كلية لكل ما هو جزئي حادث، وهو ما لم يوافق عليه ذلك الفيلسوف، بل واتهمهم فيه على أنهم سلكوا مسلك الاستدلال بالشاهد على الغائب كما يفعل المتكلمون.

لكن الحقيقة هو أن اعتقاد الفارابيين وأتباعهما لم يخرج عن دائرة التفكير الفلسفي. فهم إذ جعلوا العلم الإلهي للأشياء خارج الذات الإلهية، وذلك لاعتقادهم بأن هذه الذات ليست محلاً للصور، وإلا فإنها تكون متكثرة بتكثرها، وقد سبق أن أشرنا إلى أن التفكير الفلسفي له نوع من التردد في هذه القضية بالخصوص. ومع ذلك فإن إبن سينا متهم على هذا التردد، فهناك من القدماء من اتهمه في بعض كتبه ((المشرقية)) بأنه قائل بوجود الصور العلمية في مرحلـة الـذات الإلهية مثلـما هو الـحال عند إبن رشد الـمشائي(1 4 1). بل إن الـمطـلع على الـفكر الفلسفي لدى المتأخرين من الفلاسفة المسلمين يجد أن هؤلاء كانوا يعتبرون المشائين بخلاف الإشراقيين ممن يقولون بالوجود العلمي للأشياء بعد الذات، أي في مرحلة العقل الأول وبشكل نظام التسلسل، بترتيب علّي لا زماني، وذلك خشيةً من انثلام الوحدة الإلهية(2 4 1). فالعلم الإلهي بالصور لازم عن علمه بذاته، وهذا العلم هو عين ايجادها بلا اختلاف، إذ لا يمكن أن يتقدم تعقل الـصور على وجودها، وإلا فـإنه يفضي بهـا الى الـتسلسل(3 4 1). فهذا هـو رأي الفارابي وإبن سينا والطوسي وغيرهم.

أما كيفية العلم الإلهي بالأشياء، وهو المذكور عند الفارابيين بأنه علم بالجزئيات على نحو كلي؛ فهو أيضاً لا يمكننا أن نعتبره مأخوذاً عن الكلاميين، خاصة حين نلحظ التبريرات الفلسفية التي قُدمت بصدده والتي تقوم على روح التفكير الفلسفي. فالفارابي ـ وهو أول من قال بهذا العلم وليس إبن سينا كما يظن الباحثون من المتقدمين والمعاصرين ـ يقول بهذا الصدد: ((معقول الأول من أشخاص الأنواع الكائنة الفاسدة ليس يصح أن يكون محمولاً على هذا الشخص على أن ذلك المعقول هو معقول هذا الشخص من حيث هو مقيس اليه، لأن المعقول من الأشخاص ومن هذا الشخص أيضاً هو نفس الصورة الحاصلة المعقولة، لا أن يقاسه الى هذا الشخص، فإنه إن قاسه اليه لزم حينئذ أن يكون عقل هذا الموجود لا من أسبابه وعلله، بل من إشارة حسّية إليه، أو من وجه آخر مشابه لما يدرك عليه الشخص الجزئي المشار إليه، بل يجب أن يكون معقولاً كلياً يصح حمله عليه وعلى سائر أشخاص نوعه))(4 4 1).

كما أن إبن سينا واعتماداً على شيخه الفارابي اضطر لأن يفسر العلم الإلهي للحوادث المتغيرة بأنه يحصل على نحو كلي احترازاً من استلزام العلم المتغير المتأثر بالحادث المعلوم، فصوّر الكيفية بأنه يعلم الأشياء التي لم توجد بعد على أنها لم توجد بعد، ويعرف أوقاتها وأزمنتها، فإذا وجدت لم يتجدد علمه بها، بل هو يعرف كل شخص على وجه كلي معرفة بسيطة، وكذا يعرف وقته الذي يحدث فيه على الوجه الكلي أيضاً، وذلك بطريقة الإدراك الشرطي الصادق بأنه كلما كان كذا فسيحصل كذا في وقت كذا(5 4 1). وبرّر الـمحقق الـطوسي مثل هذا العلم لعلّة لا تعود إلى جهة النقص في المبدأ الأول، بل لكون الأشياء المتغيرة لا تقبل الـتعقل، وإن كانت قابلة للـتحسس والـتوهـم والـتخيـل، وكـل ذلـك معدوم لـدى الأول(6 4 1). وهـو التبرير نفسه الذي سبق أن وجدناه في نص الفارابي الآنف الذكر، الأمر الذي يبعده عن التأثير الكلامي كما حاول إبن رشد أن يلصقه بإبن سينا وأتباعه.

مهما يكن فقد دار حول هذه النظرية جدل ومساجلات كثيرة، كما لاقت العديد من الفهم والتوجيه. فالغزالي اعتبر هذه النظرية احدى ثلاث مسائل كفرّ الفلاسفة عليها، وعلى رأسهم إبن سينا، وهي نفي العلم الإلهي الجزئي والاعتقاد بقدم العالم وانكار المعاد الجسماني(7 4 1). وبصدد الاعتراض العلمي اعتبر الغزالي أن تلك النظرية توجب التعدد في العلم الإلهي باعتبار تعدد الأنواع والأجناس، برغم أن إبن سينا ـ وقبله الفارابي ـ حاول تدارك مشكلة الكثرة في الذات بطريقة التسلسل، ابتداءً بعلمه بذاته والذي يلزم عنه صورة للمعلول الأول، وهكذا على التتابع. واعتبر الغزالي أن الفلاسفة كانوا مضطرين لنفي العلم الإلهي بالغير مطلقاً، احترازاً عن لزوم الكثرة في ذاته، وقد خالفهم إبن سينا الذي لم ير تناقضاً في الاعتقاد بذلك العلم مع نفي الكثرة عنه كلياً(8 4 1).

على أن هناك من حاول توجيه نظرية الفارابيين بفهم يختلف عما لجأ اليه الغزالي والطوسي وغيرهما. فقد ذكر المحقق الدواني في شرحه للعقائد العضدية توجيهاً لكلام إبن سينا، وهو أنه لما كانت الكلية والجزئية وصفين للإدراك لا للمدرك، فالإدراك بالعقل يسمى كلياً، وبالحواس يسمى جزئياً، فإن ما يريده إبن سينا من كلامه السابق هو أن الله يدرك الكليات على نحو من التعقل، أي أنه لا ينفي تعقل الله للجزئيات على وجه جزئياتها، غير أن طريق إدراكه لها هو غير طريق إدراكنا نحن، ضرورة أنه منزّه عن الحواس والآلات(9 4 1).

كما أن صاحب (المحاكمات) الشيرازي؛ اعترض على فهم الطوسي لنظرية إبن سينا في العلم الإلهي الكلي، باعتباره منع أن يكون الحق عالماً بالجزئيات المتغيرة من حيث تغيرها، متصوراً أن علماً كهذا لا يكون إلا بآلات جسمانية حسية تبعث على التغير في ذات العلم. لذلك يرى أن ما يريده إبن سينا هو أن العلم بالجزئيات المتغيرة إنما يكون متغيراً لو كان زمانياً، أي لو كان في زمان دون زمان، كما هو الحال مع علمنا نحن البشر، أما على الوجه المقدس عن الزمان كعلم الأول بالعالم أزلاً وأبداً فلا تغيّر فيه مطلقاً، وذلك باعتبار أن جميع الأزمنة وكذا الأمكنة مطويّة عنده وحاضرة لديه بلا بعد ولا غياب، مما يثبت علمه بالجزئيات المتغيرة من حيث هي متغيرة(0 5 1).

والواقع إن مثل هذا التوجيه وما قبله لا يتسق مع ما ذكره إبن سينا في الطبيعة الشرطية الصادقة للعلم الإلهي، على صيغة إنه كلما كان كذا فسيحصل كذا في وقت كذا. لذلك لا يتطابق هذا الإدراك الشرطي مع العلم بالجزئيات المتغيرة من حيث إنها متغيرة.

مهما يكن فإن نظرية العلم الصوري لإبن سينا قد واجهت اعتراضاً جذرياً من قبل الإشراقيين وعلى رأسهم السهروردي لكونها عارية عن الشهود العيني الإشراقي سواء بالنسبة للإبداعيات، أو الفاسدات المتغيرات.

أما فيما يتعلق بالموقف الخاص لإبن رشد من نظرية الفارابيين، فمع أنه قد صوّب نقد الغزالي لإبن سينا في لزوم الكثرة عن العلم الكلي، إلا أنه برغم ذلك حاول توجيه فهم نظرية الشيخ الرئيس بما يحمله نفسه من اعتقاد، فظن أنه كان يرمي لأن يقول بأن علم المبدأ الأول بذاته هو عين علمه بغيره، وإن لم يتيسر له شرحه وتوضيحه، معتبراً أن علماً كهذا ليس جزئياً ولا كلياً، وذلك باعتبار أن الذي علمه كلياً يكون عالماً للجزئيات بالقوة، بينما العلم الإلهي ليس فيه قوة، كما من المستحيل أن يكون علمه جزئياً باعتبار أن الجزئيات لا نهاية لها، وبالتالي فلا يمكن أن يحصرها علم، وهذا يعني أن العلم الإلهي لا يتصف بالعلم الذي فينا، وهو علم قائم على أساس الكلي والجزئي، لذلك لا يمكن إدراك كيفيته وإلا ((كان العلم منّا هو هو بعينه ذلك العلم الأزلي، وذلك مستحيل))، لكنه مع ذلك اعتبر هذا العلم مما يتحد فيه العلمان الكلي والجزئي، فهذا هو شأن كل علم مفارق للمادة، وهو أصل وأساس هذين العلمين، من حيث إنه إذا أفاض على عالمنا نحن إنقسم إلى كلي وجزئي، برغم أنه ليس هذا ولا ذاك، وإن كان أشبه بذلك الأخير منه إلى العلم الكلي. وهو يريد من عدم التكييف النسبي هذا؛ أن يقول بأن العلم الإلهي هو عبارة عن نفس الذات المؤلفة من صور جميع الموجودات بشكل متحد بسيط لا يخلو من كثرة وتفصيل، إذ عقل الذات لنفسها باعتبارها مجردة هو عقـل جميع الـموجودات من دون حيثيـة أُخرى(1 5 1)، وذلـك طبقـاً لمـا أُطلـق عليـه فيما بعـد لـدى الإشراقيين ((بسيط الحقيقة كل الأشياء)). مما يعني أن إبن رشد لم يقاطع المشرقيين سواء في توجيهه لما أراده إبن سينا من معنى، أو بما اتفق فيه مع الفلاسفة الإشراقيين بالخصوص، بل على طريقته هناك مشكلة مستعصية تعترضه، بينما هي بالنسبة للإشراقيين محلولة. إذ كيف يمكن تفسير العلم الإلهي بالحوادث المستقبلية والذي يفترض أن يكون علماً لا نهائياً، خاصة إذا ما لاحظنا أن المادة في النظر الأرسطي الرشدي منفصلة عن المبدأ الأول وغريبة عنه؟ فقد تناول إبن رشد هذه المشكلة بحسب رأي الفلاسفة القدماء الذين يُكثِر الإسناد اليهم، إلا أنه مع هذا لم يكشف عن جوهر المشكلة التي تتعلق بنوع الصلة التي تربط العلم القديم بالمادة المنفصلة عنه، ولا بعلاجها. فهو يقول: ((وأما وجود ما لا نهاية له في العلم القديم وكيف يقع الإعلام بالجزئيات الحادثة في المستقبل للإنسان من قبل العلم القديم فأمر يدّعي القوم أن عندهم بيانه من قبل أن النفس تعقل من ذلك المعنى الكلي الذي في العقل، لا من الجزئي الذي يخص وقتها والأشخاص المعروفة عندها، لأن النفس هي بالقوة جميع الموجودات، وما بالقوة فهو يخرج الى الفعل، إما من قبل الأُمور المحسوسة وإما من قبل طبيعة العقل المتقدمة على المحسوسات في الوجود، أعني العقل الذي من قِبله صارت الموجودات المحسوسة معقولة متقنة لا من جهة أن في ذلك العلم خيالات لأشخاص لا نهاية لهم. وبالجملة فيزعمون أنه قد اتحد العلمان الكلي والجزئي في العلم المفارق للمادة، وأنه إذا فاض ذلك العلم على ما ههنا إنقسم الى كلي وجزئي، وليس ذلك العلم لا كلياً ولا جزئياً))(2 5 1).

أما لدى التصور الإشراقي كما هو الحال مع المتأخرين فإن المشكلة محلولة تماماً. فصدر المتألهين وإن كان مثل إبن رشد يعتقد بأن الذات الإلهية هي عبارة عن صور الأشياء كلها، لكنه يفترق عنه بأنه لا يضع هناك شيئاً ما منفصلاً عنها كالمادة أو الهيولى، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون علمه هو علم لا نهائي باعتباره يحمل صور المستقبل الكامنة في المادة كلها طبقاً للسنخية، في الوقت الذي لا يقتضي أن يكون هذا العلم متغيّراً، ذلك لأن فيلسوفنا لا يكتفي بحدود هذا العلم الصوري، بل يضيف اليه نوعاً آخر من العلم، وهو المسمى بالعلم الإشراقي أو الحضوري الشهودي، إذ تكون الأشياء بذواتها أمام الذات الإلهية حاضرة ومشهودة لا تفارقه أزلاً وأبداً، وهذا يعني أن حدوثها وغيابها يصبح أمراً نسبياً يخفي حقيقة كونها ثابتة الوجود، وهو ما يتسق تماماً مع منطق المسانخة الذي يتحرك في ظله الفلاسفة، بل وينسجم ببعض الجوانب مع ما ورد في الشرع من مفهوم السمع والبصر الإلهي، كما جاء في قوله تعالى: ((إن الله سميع بصير))، والذي كان الفلاسفة ومنهم الفارابي وإبن سينا وإبن رشد وغيرهم مضطرين لتأويله الى العلم الصوري، متخذين في ذلك سبيلهم إلى نظرية التمثيل، بخلاف ما هو الحال عند الإشراقيين.

6ـ السببية وحرية الإرادة والقطيعة المزعومة

أهم ما يبديه الاستاذ الجابري في هذا الموضوع هو تمييزه بين السببية كعادة لدى الـمتكلمين كـالأشاعرة، وبين الـسببية كعلاقة حتمية ضرورية كما لـدى إبن رشد(3 5 1). لكن من الواضح أن هذا التمييز لا يمس فلاسفة المشرق جميعاً، لا من قريب ولا من بعيد، ذلك إنه لا فرق بينهم وبين إبن رشد في فهم مفهوم السببية. إلا أنه بخصوص حرية إرادة الانسان؛ فالحقيقة إن إبن رشد يُبدي نظراً جديداًً يتناسب مع الفهم العلمي المعاصر لواقع العلاقة التي تربط إرادة الانسان بالأشياء أو الواقع، دون أن يتورط في تحليل القضية طبقاً للنهج الفلسفي الذي يتكىء عليه. فهو بعد أن يبطل نظرية الكسب للأشاعرة يوجّه نظره في حل مشكلة القضاء والقدر الى الواقع، مما يفضي به الى التسليم بالإقرار بالإرادة والجبر معاً، إذ رأى أن إرادتنا للأشياء لا تتم إلا بمؤاتاة الأسباب الخارجية والداخلية ـ في أبداننا ـ التي سخّرها الله تعالى، والتي منها ما يكون حافزاً على الفعل أو مثبطاً له. بهذا تجري الأفعال على نظام محدود مقيّد بالأسباب والإرادة معاً، حيث كلاهما يشكلان الحد العام للقضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده(4 5 1).

ومع أن هذه الرؤية تعتبر جديدة فعلاً، إلا أنها ليست بقادرة على أن تنفذ وتتخلص من طبق الحتمية المطلقة ـ وإن شئت قلت الجبرية مجازاً ـ ذلك لأن إبن رشد كفيلسوف محترف لا يسعه أن يتخلى عن نظام الضرورة في الأسباب والمسببات في الوجود كله من أوله وحتى آخره. الأمر الذي يعني أن ما يحصل في الواقع من ظروف وتأثيرات خاصة؛ هي في واقع الأمر محددة تحديداً كلياً من قِبل عالم ما فوق القمر، فلا مناص بالنتيجة من أن يكون واقعنا بما فيه تابعاً في ظروفه ومؤثراته الى ذلك العالم، مما لا يدع فرصة لأن تكون ها هنا حرية حقيقية. فكل سلوك نخلع عليه سمة الحرية هو سلوك اضطراري تحتمه الظروف الواقعية التي يتحكم بها العالم الإلهي العلوي. وبهذا فلا مناص من أن يكون إبن رشد هو كغيره من فلاسفة المغرب والمشرق واقعاً تحت هيمنة النظر هذه، بلا قطع ولا قطيعة.

تصحيح النظر حول موقف إبن رشد من التصوف

تظل هناك نقطة مهمة تتعلق بموقف إبن رشد من التصوف. فالجابري يتصور أن إبن رشد هو بخلاف فلاسفة الـمشرق قد أقصى الـعرفان عن الـبرهان كـلياً(5 5 1). وهو حكم يخالـف واقع الأمر، ذلك أن نقد فيلسوفنا للعرفان لا يزيد عن إنه لم يتخذ الطريق العقلي في انتاجه المـعرفي، والذي سـبق الـيه إبن باجـة كما عرفنـا. وهو على هذا لا يخـفي أن يسـلم بصـحة النتاج العرفاني، برغم مؤاخذته عليه من كونه ليس أمراً طبيعياً لعدم اعتماده على المقايسات والبراهين العقلية، وكما يقول: ((أما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب.. ونحن نقول إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها عبثاً، والقرآن كله إنما هو دعاء الى النظر والاعتبار وتنبيه الى طرق النظر))(6 5 1).

ونتيجة لهذا فإن إبن رشد يوافق الصوفية في العديد من الرؤى الأساسية بما في ذلك مسألة الاتحاد، حيث يقرّها كغاية قصوى، وإن كان العقل والتعليم عنده هما الشرط الـضروري الذي لابد منه للوصول الى هذه الحالة(7 5 1)، الأمر الذي يفسر رؤيته العرفانية بشأن اتحاد النفوس ببعضها عند مفارقة البدن. يضاف الى أن رؤيته العامة للوجود تكاد أن تمس المنظور الصوفي له ـ إن لم نقل أنها قد مسّته فعلاً ـ، في الوقت الذي كانت تتبع فيه خطى طريقة الغزالي في مشاكلات المراتب الوجودية، وهي الطريقة التي تبنّاها بعده صدر المتألهين، والتي كان لها الأثر الحاسم في تغيير طريقة التعامل مع الشريعة من موقع نظرية ((التمثيل)) والتأويل القائم على الباطن الى موقع آخر يعتمد على الظاهر من خلال نظرية ((المشاكلة)) للموجود الواحد. ذلك إن إبن رشد يعتبر الشيء الواحد له أطوار ومراتب من الوجود بعضها أشرف من البعض الآخر، كما هو معلوم من أمر النفس من حيث تكاثر أطوارها مع أنها شيء واحد. فمثلاً ((إن اللون نجد له مراتب في الوجود بعضها أشرف من بعض، وذلك إن أخس مراتبه هو وجوده في الهيولى، وله وجود أشرف من هذا وهو وجوده في البصر، وذلك أن هذا الوجود هو وجود للون مدرك لذاته، والذي له في الهيولى هو وجود جمادي غير مدرك لذاته، وقد تبيّن أيضاً في علم النفس أن للون وجوداً أيضاًَ في القوة الخيالية وأنه أشرف من وجوده في القوة الباصرة، وكذلك تبيّن أن في قوة الذاكرة وجوداً أشرف من وجوده في القوة الخيالية، وأن له في العقل وجوداً أشرف من جميع هذه الوجودات، وكذلك نعتقد أن له في ذات العلم الأول وجوداً أشرف من جميع وجوداته وهو الوجود الذي لا يمكن أن يوجد وجود أشرف منه))(8 5 1).

فهو في هذه الطريقة التي يتبع فيها فلاسفة المشرق كالغزالي ومن على شاكلته؛ يدرك أنها لا فقط تفضي الى أن يكون المبدأ الأول هو عبارة عن الموجودات كلها، بل وأنها تعني نفس ما قاله ((رؤساء الصوفية (لا هو إلا هو))) كما أشار بنفسه الى ذلك، معتبراً أن هذا الاعتقاد ((هو من علم الراسخين في العلم)) الذي ينبغي أن يضن به على كل من هو ليس من أهله(9 5 1).

ومما له دلالة في الأمر هو أن هناك محاورة جرت بين إبن رشد وهو في سن الشيخوخة، وبين إبن عربي وهو ما زال فتى يافعاً، وهي تدلنا على نوع العلاقة التي تربط الفلسفة بالعرفان، فقد أصبح شيخ الفلسفة الكهل يستفتي فتى العرفان عن حقيقة أمره وفلسفته وما عساها أن تكون مدركة للحق وإصابته، في الحال الذي يطلعه الفتى عن بقاء الروح فيها، ولكن لا بالكامل، إذ لم تدرك من الحق إلا بعضاً، فهي حيّة ميتة، أو أنها بين بين(0 6 1).

***

لقد كان من الـضروري أن نقوم بهذه الجولة الواسعة كي نضع الأُمور في نصابها، مثلما سبق أن فعل ذلك إبن رشد في كشفه عن ((شغب الغزالي))، إذ جعل نفسه حامياً للفلسفة ومدافعاً عن الفـلاسفة كحـق مـشروع للغائب على الشاهد. ونحن أيضاً قد فعلنا مع الجابري نفس ما فعله إبن رشد من قبل. ذلك أن الغـزالي لم يتـحرك بقنـاعات حقـيقية حيـنما كـتب (تهافت الفلاسفة)، فدافع آيديولوجيا السلطة هو الذي وقف وراء مشروعه هذا، وكذلك الأمر مع الجابري فهو أيضاً قد اندفع اندفاعه الآيديولوجي تحت هيمنة ((شاغل النهضة العربية)) فأوهم بأن هناك قطيعة دشّنها فلاسفة المغرب مع كل من فلاسفة المشرق والتصوف، وذلك لكي يجعل من النهضة تنتظم مع تراث ((المغرب)). إذ بنظره أن هذا التراث هو الوحيد الذي يحمل لواء عروبة الفلسفة والعقل الخالص، فما عداه من فلسفة متهم عنده، خاصة تراث إبن سينا الذي حمّله آيديولوجية قومية فـارسية وفـلـسفة ظلامية قاتلة لا معقولة(1 6 1). وهذا ما جعله يضطر إلى أن يمارس في كثير من الأحيان لعبة ((المخاتلة والشغب)) إزاء كل من قطع العلاقة معهم بدون حق ولا إنصاف.. كما هو واضح مما قدّمنا.

مفارقات المشروع

يظل أخيراً أن نتعرف على المفارقات التي حملها مشروع الجابري ككل والتي مرّ ذكرها علينا متفرقة:

فمن هذه المفارقات هو أنه يفضي إلى نقض ذاته بذاته، ذلك إن المشروع قائم في الأساس على تحليل العقل العربي بإبراز الخصوصية فيه. لكن هذا العقل كما شهدنا قد ضمّ ثلاثة أنظمة معرفية؛ بعضها عربي أصيل، والبعض الآخر دخيل، وجميعها تشكل عقولاً للعالم. الأمر الذي أفقد خصوصية ما أطلق عليه بالعقل العربي، إذ لم يعد ((العقل العربي)) على هذا الاعتبار عربياً خالصاً. فكان من نتائج ذلك إن المشروع نفض نفسه عن كل محاولاته التي رمت إلى إبراز الخصوصية البيانية للعقل العربي، والتي تشكل جوهر ما قام عليه، كما أوضحنا ذلك في محل اخر.

ومن هذه المفارقات ازدواجيته في الحكم والتمييز بين المقبول والمرفوض. فهو يقبل ويرفض نفس الشيء في آن واحد لدواعي آيديولوجية، كما هو الحال في موقفه المتناقض إزاء فكرة السعادة والاتصال والعقل الفعال وما اليها، حيث أنه يرفضها حينما يتعلق الأمر بفلسفة إبن سينا وغيره من المشارقة، لكنه لا يعترض عليها حينما تكون صادرة عن فلاسفة المغرب. وكأنه يتحلى بقلب الحكمة القائلة: (انظر الى ما يقال لا الى من يقول). وقد سبق أن عرضنا مثل هذا التناقض في موقفه إزاء كل من الفارابي وإبن باجة.

وهو أحياناً يتناقض في النتائج التي يريد أن يتوصل اليها، كما هو الحال في موقفه من علاقة المنطق بالنحو. فتارة يبدي تأييده الكامل لمحاولة السيرافي في فصله بينهما على نحو التضاد، الى درجة أنه يعظّم حجم هذه القضية فيجعلها دليلاً كاشفاً عن التضاد بينهما كنظامين مختلفين روحاً وبنية ومنهجاً ورؤية. لكنه يعود تارة أُخرى فيبدي تأييده لمحاولة الفارابي الذي جعل العلاقة بينهما جعلاً مناسباً لا تضاد فيه.

كما إنه أحياناً يستدل بنصوص تدل على خلاف ما يريده بالضبط، مثلما هو الحال في النص الذي أورده بخصوص الاستدلال على غياب فكرة السببية الضرورية في علوم عرب الجاهلية كالنجامة على ما عرفنا من قبل.

وهو بسبب الدواعي الآيديولوجية كثيراً ما يتجاهل النصوص الصريحة التي تنقض ما يذهب اليه، كتجاهله لنصوص إبن طفيل الدالة على إغراقه في الباطنية، وكذلك تجاهله للمناحي الصوفية لإبن خلدون والتي اعترف بها وعرضها مفصّلة في كتابه (نحن والتراث)، لكنه مع ذلك أصرّ على أن يضعه في القائمة التي فيها إبن باجة وإبن رشد من أصحاب النظام العقلي البرهاني. ونفس الشيء ينطبق على الشاطبي، بل وإبن حزم أيضاً. كما أنه يجهل أو يتجاهل الدور العقلي في الفكر الشيعي الإمامي. كذلك أنه بقدر ما يستحضر العلاقات الثنائية في الفكر اليوناني بقدر ما يغيبها عن الفكر العربي الاسلامي، وكذا أنه بقدر ما يغيب العلاقات الثلاثية عن الفكر الأول بقدر ما يستحضرها في الفكر الآخر، كل ذلك للدواعي الآيديولوجية. وتصل حالة التغييب والتجاهل قمتها حين يتعامل مع إبن رشد، حيث يعزله عزلاً تاماً عن أي علاقة صميمة تربطه بالفكر المشرقي، وعلى رأس ذلك تغييبه لموقف إبن رشد من الانشغال باشكالية الدين والفلسفة، وتغييبه لميوله العرفانية، وكذا تصوراته الفيضية وغيرها مما سبق عرضها بالتفصيل.

وأخيراً فإن من مفارقاته هو أنه رغم رفضه للتفكير العرفاني باعتباره يربط الأشياء ببعضها لأدنى شبه ومناسبة، الأمر الذي جعله يقبل وصفهم بأصحاب اللامعقول والعقل المستقيل.. لكنه في واقع الأمر قد مارس ما مارسوه، ووقع بما وقعوا به من الربط لأدنى مناسبة، كما يلاحظ بالنسبة الى ربطه ((اللامعقول)) بين مقولات النحو وبين النظريات العلمية للكلاميين، وكذلك الحال مع تفسيره لطبيعة العقل العربي البياني انطلاقاً من جزيئات الصحراء العربية.

هكذا فجميع تلك المفارقات وغيرها جعلت من المشروع عبارة عن أحلام فكرية لا تمت الى الواقع بصلة.

الهوامش

(1) التراث والحداثة، ص 8 2 3.

(2) نحن والتراث، ص 9.

(3) نحن والتراث، ص 2 9 1 ـ 5 0 2.

(4) انظر مثلاً: رسالة اتصال العقل بالانسان، من رسائل إبن باجة الإلهية، نفس المعطيات السابقة، ص 1 4 1 ـ 2 4 1 و 2 6 1.

(5) رسالة الوداع، من رسائل إبن باجة الإلهية، ص 9 3 1.

(6) انظر: رسالة اتصال العقل بالانسان، المصدر السابق، ص 6 6 1.

(7) رسالة الوداع، المصدر السابق، ص 4 1 1 و 3 4 1.

(8) رسالة اتصال العقل بالانسان، المصدر السابق، ص 0 7 1.

(9) انظر: تكوين العقل العربي، ص 9 4 2.

(0 1) انظر: بنية العقل العربي، ص 6 8 4.

(1 1) رسالة اتصال العقل بالانسان، ص 0 7 1.

(2 1) السياسة المدنية، ص 2 8. كذلك: آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 3 1 1 ـ 4 1 1.

(3 1) التراث والحداثة، ص 0 3 3.

(4 1) إبن طفيل: حي بن يقظان، تقديم وتحقيق البير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 8 6 9 1م، ص 5 1 ـ 6 1. وانظر ما يقوله أيضاً في خاتمة الرسالة، ص7 9ـ 8 9.

(5 1) المصدر السابق، ص 6 1.

(6 1) المصدر نفسه، ص 4 2.

(7 1) المصدر نفسه، ص 1 2.

(8 1) المصدر السابق، ص 9 1.

(9 1) المصدر السابق، ص 1 2.

(0 2) نحن والتراث، ص 9 1 1 ـ 0 2 1.

(1 2) انظر بهذا الـصدد المـصادر الـتالية: ابن حيون المـغربي: تأويل دعائم الاسلام، أو تربيـة الـمؤمنين، ضمن منتـخبات اسماعيلية، تحقيق عادل العوا، مطبعة الجامعة السورية، 8 7 3 1هـ ـ 8 5 9 1م، ج 1، ص 1 1. والأعظمي، محمد حسن: الحقائق الـخفية عن الـشيعة الـفاطمية والإثنى عشرية، إعداد وتقديم الأعظمي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 0 7 9 1م، ص 1 3. والفارابي: رسالة تحصيل السعادة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، 5 4 3 1هـ، ص 0 4. وإبن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الأُولى، 8 6 3 1هـ ـ 9 4 9 1م، ص 0 5 ـ 7 5.

(2 2) نحن والتراث، ص 2 4.

(3 2) التراث والحداثة، ص 0 3 3 ـ 1 3 3.

(4 2) بنية العقل العربي، ص 7 8 4.

(5 2) نحن والتراث، ص 2 1 2.

(6 2) تكوين العقل العربي، ص 6 1 3 و 2 2 3 و 8 4 3.

(7 2) نحن والتراث، ص 2 4.

(8 2) المصدر السابق، ص 1 5 و 5 4 2. كذلك: التراث والحداثة، ص 8 9 1.

(9 2) تهاقت التهافت. ص 3 0 5.

(0 3) إبن رشد: فصل المقال، تقديم وتعليق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1 6 9 1م، ص 5 3.

(1 3) فصل المقال، ص 8 5.

(2 3) التهافت، ص 4 8 5.

(3 3) المصدر السابق، ص 3 8 5.

(4 3) المصدر السابق، ص 4 8 5.

(5 3) فصل المقال، ص 5 3.

(6 3) المصدر السابق، ص 5 4 و 2 5 ـ 3 5. كذلك: إبن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم الدكتور محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص3 3 1ـ 4 3 1.

(7 3) المصدر السابق، ص 2 5 ـ 3 5.

(8 3) المصدر السابق، ص 7 2 ـ 9 2.

(9 3) الحشر/ 2.

(0 4) الأعراف/ 5 8 1.

(1 4) الأنعام / 5 7.

(2 4) الغاشية / 7 1 ـ 8 1.

(3 4) آل عمران / 1 9 1.

(4 4) فصل المقال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، طبعة دار المعارف بمصر، ص3 3.

(5 4) فصل المقال، المطبعة الكاثوليكية، نفس المعطيات السابقة، ص3 4 وما بعدها.

(6 4) مناهج الأدلة، ص 9 4 2 ـ 2 5 2.

(7 4) آل عمران / 7.

(8 4) التهافت، ص 7 2 5 ـ 8 2 5.

(9 4) فصل المقال، المطبعة الكاثوليكية، ص 5 4 ـ 6 4.

(0 5) تهافت التهافت، ص 0 8 5 ـ 1 8 5.

(1 5) مناهج الأدلة، ص 3 4 2 ـ 5 4 2. ولاحظ: تهافت التهافت، ص 5 8 2.

(2 5) فصل المقال، المطبعة الكاثوليكية، ص 8 4.

(3 5) بنية العقل العربي، ص 1 3 5.

(4 5) انظر كلاً من: نحن والتراث، ص 3 1 2 ـ 4 1 2. وتكوين العقل العربي، ص 9 1 3. والتراث والحداثة، ص 7 9 1 ـ 4 0 2.

(5 5) ورد في (نحن والتراث، ص 5 8) نصّ غير دقيق لعلاقات هذه المسألة. فهو يقول: ((فإذا كان التقليد الأرسطي يميز بين الواجب والممكن، فإن إبن سينا أضاف قيمة ثالثة هي الواجب بغيره، وكذا أصبحت الموجودات ثلاثة أصناف، واجب بذاته، وواجب بغيره، وممكن بذاته)). والخطأ هو أن التقليد الأرسطي يقول بهذه الأصناف ذات المنطق الثلاثي مثلما هو الحال عند المشارقة، فهو ليس منطقاً ثنائياً كما يريد النص أن يلوّح إليه. فإبن رشد صريح في اعتباره أن مبدأ الوجود الأول هو واجب أو ضروري بذاته، وأن الحدوث والحركة في عالمنا هي ممكنة الوجود، وأن عالم ما فوق القمر هو الواجب بغيره من دون إمكان إلا ما يتعلق بحركة الأجرام في الأين (انظر: تهافت التهافت، ص5 9 3 و 8 1 4 و 2 2 4 و 3 2 4). الأمر الذي يعني أن إبن سينا والمشارقة جميعاً لم تكن لهم خصوصية في القول بقيمة ((الواجب بغيره))، فهي قيمة يتقبّلها التقليد الأرسطي. إنما الشيء الذي أضافه إبن سينا، وقبله الفارابي، ذلك الذي يتعلق بقيمة (الممكن بذاته الواجب بغيره)، فهو الذي لم يقبله التقليد الأرسطي ـ متمثلاً بإبن رشد ـ على ما هو مفهوم من حيث الظاهر لهذه العبارة، لهذا أن فليلسوف قرطبة اعتبر هذه العبارة ((رديّة))، محاولاً توجيهها الى معنى مقبول وصحيح كما سنرى.

(6 5) نحن والتراث، ص 5 8. هذا على الرغم من أن الفارابي قد سبق الشيخ الرئيس بالقول بجميع أو أغلب تلك القضايا المنسوبة إليه.

(7 5) المصدر السابق، ص 4 8 ـ 5 8.

(8 5) يلاحظ أن الجابري في كتابه (نحن والتراث، ص 7 1 ـ 8 1) لم يعترض على منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب من حيث الأساس مثلما فعل في كتابه (نقد العقل العربي)، بل مدح هذه الطريقة واعتبرها علمية كما مارسها القدماء بدقة في مختلف جوانب الثقافة العربية، وذلك لتقيّدهم بشروطها والتي أهمها الشرط المسمى بالسبر والتقسيم، حيث أسفرت عن تقعيد اللغة وتقنين الشريعة، ومن ثم أخذها المتكلمون ((فأغنوها بمجادلاتهم ومصطلحاتهم، واستعملها علماء الطبيعة فنحوا بها المنهج الرشدي والقطيعة المزعومة منـحىً تـجـريبياً زادها دقة وخصوبة، فكانت بحق منهج البـحث الـعـلمي في الـثـقافة الـعربية الاسـلامية)). لكنه مع ذلك أعاب ما حصل بعد ذيوع هذا المنهج وانتشاره من التساهل والتفريط في شروط استعماله سواء في الفقه أو النحو أو الكلام.

(9 5) تكوين العقل العربي، ص 4 2 ـ 5 2.

(0 6) يقول أرسطو بهذا الصدد: ((إنه إذا لم يتعقل الله شيئاً؛ فإنه يكون حينئذ كالنائم، أي في درجة منحطة، وأسمى منها مرتبة درجة اليقظ، وبما أن الله هو الكمال والخير المطلق؛ فيجب أن ينسب اليه دائماً كل كمال، فإذا كانت حالة التعقل لشيء هي دائماً أسمى من حالة عدم التعقل لشيء فيجب أن يقال عن الله أنه يتعقل شيئاً)). بدوي، عبد الرحمن: أرسطو، دار القلم، بيروت، ص 3 8 1 ـ 4 8 1.

(1 6) انظر حول ذلك الفصل الرابع من كتاب: مدخل إلى فهم الاسلام.

(2 6) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، طبعة دار الفكر، ج 3، ص 4 1 1 ـ 5 1 1. وكدلالة على عشق الفلاسفة للأُمور الذهنية والعقلية واعتبار الحقائق تتنزل عنها ما قاله صدر المتألهين: ((كل ما كان وجوده في نفسه أتم فمعقوله في الذهن أتم. إذ الحقائق إنما تحصل في العقل بأنفسها، لا باظلالها وأشباحها، فعلى حسب وجودها خارج عقولنا يكون معقولها مطابقاً لموجودها، فإن كانت كاملة الوجود كالدايرة والمربع والعدد وأشباهها كان المعقول هو أيضاً معقولاً تاماً لأنها في أنفسها كاملة الوجود، وإن كانت ناقصة الوجود كالحركة والزمان والهيولى وأشباهها كان المعقول منها معقولاً ناقصاً..)) المبدأ والمعاد، ص 7 3.

(3 6) خلافاً لاعتقاد غالبية المفكرين فإن العلم الحديث لا يؤيد نظرية انقسام الجزء بشطر الذرة، كما أنه لا يؤيد الفرضية التي تقف قبالها والتي تعتبر الجزء غير قابل للتجزئة. والسبب في ذلك هو أن الخلاف الفلسفي يفترض كون الجزء المبحوث هو من سنخ الجسم؛ من حيث أن أجزاءه تتشابه فيما بينها. أما ما يحصل بعملية انشطار الذرة فأمر آخر مختلف، حيث تسفر العملية الى ولادة ظاهرة جديدة التركيب تختلف كلياً عن المواصفات التي يتصف بها الجسم العادي. مما يعني أن التفكير الفلسفي لم يخطر في باله احتمال ثالث غير المحتملين المذكورين، وهو أن الجزء إما أن يتجزء أو لا يتجزء. بل حتى المفكرين المعاصرين الذين تناولوا هذا الجانب لم يحللوا هذه القضية من هذا المنظار، فأغلبهم تصوّر أن بانشطار الذرة أصبح العلم مؤيداً لنظرية انقسام الجزء، وبعض آخر اعتبر أن قضية الجزء تظل فلسفية لا تخضع لاعتبارات العلم وموضوعاته، كما هو الحال مع رأي المفكر الكبير محمد باقر الصدر، حيث اعتقد في (فلسفتنا) أن هناك مادة علمية ومادة فلسفية. فالمادة العلمية تعتبر أعمق اكتشاف يمكن للعلم أن يتوصل لها، وهي مركبة من مادة وصورة. أما المادة الفلسفية فهي أبسط مادة في العالم، وتتميز بأنها غير قابلة لأنْ يمتد لمعرفتها العلم، وإنما وجودها يستدل عليه بالطريقة الفلسفية لا العلمية. وتتألف المادة الفلسفية من وحدة مادية بسيطة وصورة تتمثل في اتصال تلك الوحدة، إذ لا يمكن تصور الوحدة دون أن يكون فيها اتصال، وهذا الاتصال هو الذي يمثل صورة المادة. وإذا كانت هناك وحدة مادية متصلة، فالمادة إذن تقبل التجزئة والانفصال، كما أنها قابلة للتركيب والاتصال. وعلى ضوء ذلك يستنتج المفكر الصدر من أنه لا يمكن تصور جزء لا يتجزأ، ولذلك لما كانت الوحدة المادية قابلة للتجزئة، فهي إذن مؤلفة من مادة بسيطة وصورة متمثلة في شكل الاتصال والوحدة. لذا فبإمكان المادة أن تنقسم الى ما لا نهاية لها من الأجزاء. لكن رغم ذلك فإن المفكر الصدر سبق له أن طرح رأياً آخر خارج الكتاب المشار اليه؛ معتبراً أن النزاع الفكري الذي ساد قديماً بين النظرية الاتصالية لأرسطو والنظرية الانفصالية لديمقريطس، حول الجسم والجزء، إنما ينطوي على خطأ في المنهج، إذ كان النزاع فلسفياً، بينما كانت المسألة لا تخرج عن كونها علمية تجريبية صرفة، لذا فالنزاع القديم لا طائل وراءه، بل من المفروض على التجربة العلمية ان تحدد الموقف تجاه مثل هذه المسائل. فهو يقول في افتتاحية مجلة الأضواء الاسلامية لعددها الرابع: ((ومن أوضح الأمثلة لذلك ما شغل بال العقليين قروناً متطاولة من الزمان حين حاولوا أن يتعرفوا على ما إذا كانت المادة متكونة من أجزاء وذرات يتخللها الفراغ أو متصلة اتصالاً حقيقياً لا فراغ فيه. لقد خُيل للعقليين أنهم يستطيعون أن يصلوا الى الكلمة النهائية في البحث عن طريق العقل وحده ومنها نشأت النظريات (الاتصالية والانفصالية) وقام الصراع عنيفاً بين هؤلاء وأولئك من الاتصاليين والانفصاليين بعيداً عن التجربة ووسائلها فلم يصلوا الى نتيجة حاسمة، لا لشيء إلا لأن العقل بطبيعته حيادي في مثل هذا الموقف وما يشبهه من المواقف التحليلية للكون، فهو لا يستطيع أن يدرك بصورة مستقلة عن التجربة ما إذا كان الجسم مؤلفاً من ذرات أم لا. ولو أن العقليين انصرفوا الى التجربة واستنطقوها ثم رجعوا الى العقل كمفسر نهائي لظواهر التجربة ونتائجها لوصلوا الى خير كبير. (افتتاحية مجلة الأضواء الاسلامية، العدد الرابع، عنوان المقالة: رسالتنا ومعالمها الرئيسية. راجع كتاب رسالتنا، ص 3 4ـ 4 4. وانظر كذلك: مقالنا المعنون: نظرات فلسفية في فكر السيد الصدر، مجلة دراسات وبحوث، العدد السادس، طهران، 3 0 4 1هـ، ص 9 8 1 ـ 0 9 1. كذلك كتابنا: الاسس المنطقية للاستقراء / بحث وتعليق، مطبعة نمونه، قم، ص 0 5 ـ 1 5.

(4 6) ابن تيمية: الرد على المنطقييين، نشر شرف الدين الكتبي، ص 4 2 1 ـ 5 2 1. انظر كذلك مقالنا المنشور تحت اسـم مسـتعار (عاطـف عبد الحـليم)، وهو بعـنوان: منـهج التـفكير لدى الفـلاسفة المسلـمين، مجـلة البـصائر، الـعدد السـادس، 7 8 9 1م، ص 3 8.

(5 6) ابن تيمية: النبوات، دار القلم، بيروت، ص 1 6 2.

(6 6) نحن والتراث، ص 9 7 2.

(7 6) المصدر السابق، ص 8 2 1.

(8 6)انظر القسم الثالث من الاشارات والتنبيهات، ص 2 2 1، وما بعدها، خاصة ص 7 3 1.

(9 6) تهافت التهافت، ص 7 6 ـ 8 6.

(0 7) المصدر السابق، ص 7 6 1 ـ 8 6 1.

(1 7) نحن والتراث، ص 0 2 2 ـ 1 2 2.

(2 7) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 2، ص 5 8 8.

(3 7) المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 4 6 1.

(4 7)تهافت التهافت، ص 6 5 ـ 7 5.

(5 7) نحن والتراث، ص 1 2 2.

(6 7) تهافت التهافت، ص 9 9 1.

(7 7) رسالة الدعاوي القلبية، ص 4.

(8 7) المصدر السابق، ص 8 1 1 و 5 5 2.

(9 7) إلهيات الشفاء (1)، ص 7 3.

(0 8) تهافت التهافت، ص 6 7 2.

(1 8) المصدر السابق، ص 6 3 2.

(2 8) المصدر السابق، ص 8 6 ـ 9 6.

(3 8) المصدر السابق، ص 4 5.

(4 8) المصدر السابق، ص 8 9 1.

(5 8) المصدر السابق، ص 6 4 2.

(6 8) المصدر السابق، ص5 9 3. وانظر أيضاً: تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص3 3 6 1.

(7 8) المصدر السابق، ص 8 9 1 ـ 9 9 1.

(8 8) المصدر السابق، ص 9 9 1 ـ 8 1 4.

(9 8) المصدر السابق، ص 5 9 3.

(0 9) المصدر السابق، ص 2 2 4 ـ 3 2 4.

(1 9) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 2 3 6 1 ـ 3 3 6 1.

(2 9) المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ج 1، ص 1 8 1.

(3 9) الإشارات والتنبيهات / القسم الثالث، ص 0 1 1 وما بعدها.

(4 9) المصدر السابق، ص 8 2 1.

(5 9) تهافت التهافت، ص 9 7 1 ـ 0 8 1.

(6 9) المصدر السابق، ص 6 7 1 ـ 7 7 1.

(7 9) الطـباطبائي، مـحمد حـسين: بداية الحكـمة، دار المصطفى ببيروت، الطبعة الثانية، ص 1 9. كذلك: ديناني، غلام حسين ابراهيمي: قواعد فلسفي در فلسفة إسلامي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، طهران، الطبعة الثانية، 6 6 3 1هـ. ش، ص 8 1 4.

(8 9) انـظر كتـابي صـدر المتألهين؛ الأسفار، ج 2، ص4 0 2 و 5 0 2 و 7 0 2. وشرح الهداية الأثيرية، طبعة حجرية قديمة، 3 1 3 1هـ، ص2 5 2ـ 3 5 2. كما انظر: بداية الحكمة، ص1 9.

(9 9) الشيرازي، صدر المتألهين: أسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات أنجمن اسلامي حكمت وفلسفة ايران، 2 0 4 1هـ، ص 8 0 1. كذلك: الشيرازي، صدر المتألهين: المظاهر الإلهية، تحقيق وتقديم وتعليق سيد جلال الدين اشتياني، چاپخانه خراسان بايران، ص 4 9 ـ 5 9.

(0 0 1) انظر بهذا الصدد ما فصّلناه في الفصل الثالث من كتاب: مدخل إلى فهم الاسلام.

(1 0 1) المصدر السابق، ج 3، ص8 4 6 1.

(2 0 1) المصدر السابق، ج 3، ص 2 5 6 1.

(3 0 1) المباحثات، في: أرسطو عند العرب، ص 7 3 2.

(4 0 1) الاشارات والتنبيهات / القسم الثالث، ص 5 1 1 ـ 6 1 1.

(5 0 1) التلويحات، ضمن مجموعة في الحكمة الالهية، نفس المعطيات السابقة، ص4 4.

(6 0 1) تهافت التهافت، ص 3 3 2 و 9 2 2.

(7 0 1) المصدر السابق، ص 6 8 1.

(8 0 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 8 4 6 1.

(9 0 1) تهافت التهافت، ص 7 1 2 ـ 8 1 2.

(0 1 1) المصدر السابق، ص 5 0 2 ـ 6 0 2.

(1 1 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 7 0 7 1 ـ 8 0 7 1.

(2 1 1) تهافت التهافت، ص 8 3 3.

(3 1 1) دالمصدر السابق، ص 4 0 2.

(4 1 1) تهافت التهافت، ص 6 4 2.

(5 1 1) طالقاني، ملا نعيم: أصل الأصول، مقدمة وتصحيح وتعليق سيد جلال الدين اشتياني، طبعة طهران، ص 4 8.

(6 1 1) المصدر السابق، ص 2 8 ـ 3 8.

(7 1 1) الطوسي، نصير الدين: مصارع المصارع، تحقيق حسن المعزي، نشر مكتبة المرعشي النجفي بقم، 5 0 4 1هـ، ص 8 8 ـ 9 8.

(8 1 1) الأسفار، ج 6، ص 9 7.

(9 1 1) تهافت التهافت، ص 1 0 2.

(0 2 1) مصارع المصارع، ص 8 8 و 7 9.

(1 2 1) الإشارات والتنبيهات / القسم الثالث، ص 9 1 1.

(2 2 1) إبن عربي: الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، ج 1، ص 0 6 2. كذلك: الآملي، حيدر: المقدمات من نص النصوص، طبعة طهران، 5 7 9 1م، ص 5 1 1 ـ 6 1 1. علماً بأن صدر المتألهين سخّف الاستدلال المذكور الذي نسبه إلى بعض الأذكياء، فردّ عليه من جهة اعتبار النقطة مركبة من أُمور غير متناهية، لهذا يصح عنها الصدور المتكثر، وبالتالي فإنها لا تتعارض مع مقولة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد (انظر: الأسفار، ج 2، ص 6 0 2).

(3 2 1) بلاثيوس، اسين: إبن عربي حياته ومذهبه، ترجمه عن الاسبانية عبد الرحمن بدوي، دار القلم ببيروت، وكالة المطبوعات بالكويت، 9 7 9 1م، ص 8 6 2.

(4 2 1) أصل الأُصول، ص 1 9 و 3 9.

(5 2 1) المصدر السابق، ص 0 8 ـ 1 8.

(6 2 1) تهافت التهافت، ص 1 3 2.

(7 2 1) تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 9 4 6 1.

(8 2 1) تهافت التهافت، ص 0 5 2.

(9 2 1) المصدر السابق، ص 2 4 3.

(0 3 1) المصدر السابق، ص 0 0 2 ـ 4 0 2 و 7 1 2 و 2 9 2 ـ 3 9 2.

(1 3 1) المصدر السابق، ص 1 8 1.

(2 3 1) تهافت التهافت، ص 9 2 2 ـ 1 3 2.

(3 3 1) المصدر السابق، ص 0 2 4.

(4 3 1) اللاهيجي: شرح رسالة مشاعر صدر المتألهين، مقدمة وتصحيح وتعليق سيد جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الاسلامي بطهران، ص 7 7 1 ـ 0 8 1.

(5 3 1) المصدر السابق، ص 5 3 2 ـ 6 3 2.

(6 3 1) صدر المتألهين: الشواهد الربوبية، نشر دانشگاهي بايران، الطبعة الثانية، ص7. وانظر لصدر المتألهين أيضاً: المبدأ والمعاد، نفس المعطيات السابقة، ص4 9 1.

(7 3 1) انظر بهذا الصدد كتب صدر المتألهين التالية: الأسفار، ج 7، ص6 1 1ـ 7 1 1. والعرشية، نشر كتابفروشي شهريار بأصفهان، 1 4 3 1هـ.ش، ص3 2. والمظاهر الإلهية، تصحيح وتقديم وتعليق سيد جلال الدين اشتياني، حاشية الأشتياني، ص8 3. كما انظر: الجامي: الدرة الفاخرة، نشر مؤسسة مطالعات اسلامي، دانشگاه مك گيل، شعبة طهران، 0 8 9 1م، ص1 4ـ 2 4 و 6 4ـ 7 4. كذلك: أصل الأُصول، نفس المعطيات السابقة، ص0 8ـ 1 8 و 3 9ـ 7 9.

(8 3 1) نحن والتراث، ص 3 2 2 ـ 4 2 2.

(9 3 1) انظر رسائل الفارابي التالية: رسالة الفصوص، ضمن الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية، نفس المعطيات السابقة، ص 8 7. ورسالة الدعاوي القلبية، ص 4. ورسالة التعليقات، ضمن رسـائل الفارابي، نـفـس المعـطيات السـابقـة، ص 8.

(0 4 1) الاشارات والتنبيهات / القسم الثالث، ص 1 0 2.

(1 4 1) إبن سينا: الاشارات والتنبيهات / القسم الثاني، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الثانية، ص 3 3 1 ـ 4 3 1. كذلك: الدرة الفاخرة، ص 4 1 ـ 8 1.

(2 4 1) انظر: إبن سينا: التعليقات، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، ص 0 2 1 و 2 5 1 و 4 5 1. صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص 8 9. الگيلاني، ملا نظر علي: رسالة تحفة، ضمن رسائل فلسفي، تصحيح وتعليق سيد جلال الدين اشتياني، انتشارات أنجمن اسلامي حكمت وفلسفة ايران، ص 9 1 4.

(3 4 1) إبن سينا: التعليقات، ص 8 4 ـ 9 4 و 9 4 1.

(4 4 1) الفارابي: رسالة التعليقات، نفس المعطيات السابقة، ص 1 1.

(5 4 1) إبن سينا: رسالة التعليقات، ص 4 1 و 6 6. كذلك: الاشارات والتنبيهات / القسم الثالث والرابع، طبعة دار المعارف بمصر، 8 5 9 1م، ص 7 1 7 ـ 0 2 7.

(6 4 1) الطوسي: مصارع المصارع، نفس المعطيات السابقة، ص 5 3 1.

(7 4 1) تهافت الفلاسفة، دار المعارف بمصر، ص 7 0 3 ـ 8 0 3.

(8 4 1) المصدر السابق، ص 7 7 1 ـ 9 7 1.

(9 4 1) دنيا، سليمان: الحقيقة في نظر الغزالي، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة، 1 7 9 1م، ص 5 9 3.

(0 5 1) المصدر السابق، ص 6 9 3.

(1 5 1) تهافت التهافت، ص3 4 3ـ 5 4 3 و 7 0 5. كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص8 0 7 1.

(2 5 1) تهافت التهافت، ص 6 0 5 ـ 7 0 5.

(3 5 1) نحن والتراث، ص 4 2 2 ـ 5 2 2.

(4 5 1) مناهج الأدلة، ص 6 2 2 ـ 7 2 2.

(5 5 1) تكوين العقل العربي، ص 6 1 3.

(6 5 1) مناهج الأدلة، ص 0 5 1.

(7 5 1) يقول إبن رشد بهذا الصدد: ((إن هذا العقل الفاعل أشرف من الهيولاني وإنه في نفسه موجود بالفعل عقلاً دائماً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله، وإن العقل فيه هو المعقول من جميع الوجوه، وهذا العقل قد تبين قبل أنه صورة وتبين هاهنا أنه فاعل، ولذك أمكن أن يظن أن عقله ممكن لنا بآخرة أعني من حيث هو صورة لنا ويكون قد حصل لنا ضرورة معقول أزلي، إذ كان في نفسه عقلاً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله لا أن وجوده عقلاً من جعلنا كالحال في المعقولات الهيولانية، وهذه الحال هي التي تعرف بالاتحاد والاتصال)). ابن رشد: كتاب النفس، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأُولى، 6 6 3 1هـ ـ 7 4 9 1م، ص6 8.

(8 5 1) تهافت التهافت، ص 8 2 2.

(9 5 1) المصدر السابق، ص 3 6 4.

(0 6 1) يقول إبن عربي: ((دخلت يوماً بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي، لما سمعه وبلغه بما فتح الله عليّ في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة، قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طرّ شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إليّ محبة وإعظاماً، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا، فانقبض وتغيّر لونه، وشكّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح، فاصفرّ لونه وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه)). ثم إن إبن عربي يتحدث عن لقائه الثاني بإبن رشد فيقول: ((وطلب إبن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى أهو يوافق أم يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله إذ كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلاً وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أرباباً، فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته)) (انظر هذين اللقاءين في كل من: إبن عربي: لطائف الأسرار، تحقيق وتقديم أحمد زكي عطية وطه عبد الباقي سرور، دار الفكر العربي، الطبعة الأُولى، 1 6 9 1م، ص 3 1ـ 5 1. والفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، ج1، ص404 و702. وإبن عربي حياته ومذهبه، نفس المعطيات السابقة، ص 2 1 ـ 3 1.).

(1 6 1) نحن والتراث، ص9 5 1 و 5 6 1. علماً أن اتهام الجابري لإبن سينا وغيره من فلاسفة المشرق بالنزعة الفارسية والقومية اعتماداً على رؤاهم العرفانية والمشرقية؛ يتناقض تماماً مع ما سبق أن اعتبر النظام العرفاني يقع كغيره من الأنظمة المـعرفية ضمن ما أطلق عليه بالعقل العربي. إذ ما طرحه إبن سينا وغيره إما أن يعدّ ضمن النظام العرفاني ولو بالمداخلة مع غيره من الأنظـمة، وبالتالي يكون ضمن ((العقل العربي))، أو أنه يعدّ ضمن نظام آخر لا علاقة له بأنظمة العقل العربي الثلاثة (البياني والبرهاني والعرفاني)، أما أن يضعه الجابري ضمن النظام العرفاني، ومن ثم يعتبره في الوقت ذاته يحمل نزعة فارسية قومية؛ فهو عين التناقض كما هو واضح.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار