صراع العقل مع العقل في علم الكلام

يحيى محمد

لم يتخذ التأسيس القبلي للنظر لدى العقل في علم الكلام منظومة مشتركة ولا قاعدة موحدة. فقد كان هناك عدد من الاعتبارات جعلت من هذا العقل يتعدد بتعددها، بل ويتناقض بتناقضها. اذ كان العقل منقسماً غالباً الى اتجاهين متضادين تولد عنهما الصراع او النزاع، وهو الذي نطلق عليه (صراع العقل مع العقل)، تمييزاً له عن صراع اخر قد جرى بين العقل والبيان. وبالجملة يمكن القول ان العقل قد واجه نوعين من الصراع ضمن (النظام المعياري)، احدهما ذاتي، وذلك انه لا يتعدى حقل الاعتبارات العقلية، والاخر عارض، وهو مع الدائرة البيانية (النقلية) التي انكرت عليه ممارساته المعرفية في ظل الاعتبارات العارضة. واذا كان الصراع الاول يدور حول تأسيس النظر والذي عليه تترتب حالات النزاع الاخرى الخاصة بقضايا الانتاج المعرفي وفهم الخطاب (الديني)، فان الصراع الثاني يدور حول هذا الفهم قبل اي اعتبار اخر، اي انه صراع فهم لا تأسيس. وما يهمنا في هذا البحث هو الصراع الاول (الذاتي) فحسب.

ان عملية الصراع الذاتي للعقل المعياري قد تولدت بفعل النشاط العقلي المضاد، فالعقل انتج ما هو ضد له، وذلك استناداً الى اعتبارات التأسيس القبلي للنظر، اذ نعلم ان الاشاعرة قد خرجت من رحم المعتزلة كرد فعل عليها، وان كلاً منهما يحمل مشروعاً للتأسيس القبلي، وان الصراع بينهما بدأ منذ لحظات المخاض التي اسفرت عن فصل العقل الجديد عن القديم. وقد كانت احدى محاورات الاشعري مع استاذه ابي علي الجبائي حول المؤمن والكافر والصبي حاسمة في الفصل بينهما (1)، بل انها بلورت روح التفكير لكلا العقلين، مثلما حددت نوع التناقض الذي اصاب العقل المعياري بمجمله. ذلك ان الاشعري بدأ حياته العلمية بتبني الفكر الاعتزالي، وقد استمر على هذا النحو سنين طويلة، حتى جاء اليوم الذي نفض فيه يده عن ذلك الفكر ليؤسس قباله فكراً اخر ضده، رغم انه وقف على نفس الخشبة التي يقف عليها الاول، واعني بذلك انه جعل اعتباراته الاساسية قائمة على العقل. فالاعتبارات العقلية بين الطرفين مختلفة، اذ كانت مع المعتزلة وعدد من المذاهب الاخرى تمثل ما نطلق عليه ( منطق الحق الذاتي)، حيث للحق اعتباراته الخاصة غير المقيدة بالقيود الخارجية، لكنها تحولت مع الاشعري الى اعتبارات ما نطلق عليه (منطق حق الملكية)، وهو ان الحق مقيد بسلطة المالك المطلق. وبالتالي فالخلاف بينهما هو خلاف الاعتبارات ضمن الدائرة العقلية نفسها.

ومع ان الاشعري حمل بعض الاعتقادات التي كانت متبناة من قبل السلف، ومن ابرزها مسألة قدم كلام الله وصفات اليدين والعينين والوجه وما اليها، وكذلك الصفات الالهية السبع التي قال بها ابو حنيفة، بل وحتى نظرية الكسب التي يعتقد البعض انها ترجع في الاساس الى هذا الامام الفقيه (2).. لكن جميع هذه الاعتقادات جاءت - مع الاشعري - ضمن سياق خاص من التنظير القائم على الاعتبارات العقلية. وهي ذات الاعتبارات التي جعلت حدوداً للممارسة العقلية في العديد من القضايا، وعلى رأسها تلك التي تتعلق بالحسن والقبح وما يترتب عليها من مسائل فرعية، وذلك بخلاف ما كان لدى المعتزلة من تنظير افضى الى نفي مثل هذه الحدود والقيود. ففي السؤال عما يرد في الخطاب الديني من مدح وذم وثواب وعقاب، هل كان لحسن الافعال وقبحها، سواء في ذاتها او صفاتها او اعتباراتها؟ ام العكس هو الصحيح، بمعنى ان اعتبارات الحسن والقبح جاءت لمدح الخطاب وذمه، فكل شيء مدحه الخطاب فهو حسن، وكل شيء ذمه فهو قبيح؟

وواضح ان هذا الاختلاف في الاعتبارات العقلية يجعل من علاقة المنطقين - الانفي الذكر - بالخطاب علاقة مختلفة. فلو اخذنا باعتبارات حق الملكية لكان تحديد هذه المسألة لا يخضع الى تقدير العقل من حسن الاشياء وقبحها، بل المرجع في ذلك هو الخطاب الديني باعتباره الناطق الوحيد باسم المالك الحقيقي. مما يعني انه لا مجال للتشريع العقلي في قضايا الحقوق والواجبات، وذلك على العكس مما عليه اعتبارات الحق الذاتي التي تجعل دائرة هذا التشريع مفتوحة بلا حدود.

ولدى الغزالي تمييز واضح للنتائج المتضادة المترتبة على المنطقين السابقين، فمن ذلك ما صرح به: >قول المعتزلة ان الانسان خالق لافعاله؛ لان الله لو خلقها ثم نسبها اليه، ولانه لو فعلها مع انه لم يفعلها، وعذبه عليها مع انه لم يوجدها، لكان ظالماً له، والظلم نقصان، وكيف يصح ان يفعل شيئاً ثم يلوم غيره عليه، ويقول له كيف فعلته ولِمَ فعلته. واهل السنة يقولون وجدنا كمال الاله في التفرد ونفي العيب والنقصان، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم، بدليل تعذيب البهائم والمجانين والاطفال، لانه يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، والقول بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا ان يكون هو الخالق لافعال العباد، ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزاً من افعاله غير قبيح< . كذلك: >ايجاب المعتزلة على الله ان يثيب الطائعين كي لا يظلمهم، والظلم نقصان. وقول الاشعري ليس ذلك بظلم اذ لا يجب عليه حق لغيره، اذ لو وجب عليه حق غيره لكان في قيده، والتقييد بالاغيار نقصان<. كذلك: >قول المعتزلة ان الله تعالى يريد الطاعات وان لم تقع، لأن ارادتها كمال، ويكره المعاصي وان وقعت، لان ارادتها نقصان. وقول الاشعري لو اراد ما لا يقع لكان ذلك نقصاً في ارادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالاً في كراهته، وكذلك نقصان<. كذلك: >ايجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الاصلح لعباده لما في تركه من النقصان. وقول الاشعري لا يلزمه ذلك لان الالزام نقصان، وكمال الاله ان لا يكون في قيد المتألهين< (3).

ويفهم من التناقضات العقلية السابقة التي ادلى بها الغزالي ان بعضها يذهب الى ان اعتبارات الكمال متجلية في مسألة القيم الخلقية تبعاً لمنطق الحق الذاتي، في حين ان بعضها الاخر يذهب الى ان هذه الاعتبارات تتمثل بالتفرد والملكية المطلقة، ومن ثم المشيئة والارادة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، حتى وإن كانت على عدم توافق مع قيم الاخلاق كما يراها البشر، وذلك طبقاً لمنطق حق الملكية. فالنقص بحسب الاعتبارات الاولى يتمثل بدواعي القيم الاخلاقية، في حين ان النقص حسب الاعتبارات الثانية يتمثل بالقيود التي تكبل ارادة المالك الحقيقي وتحدد من فرادته وفعله المطلق.

اذن هناك صراع في التأسيس القبلي للنظر ضمن الدائرة العقلية، او بين البداهتين الاوليتين للحق الذاتي وحق الملكية. والسؤال هو: كيف يمكن التأكد من مصداقية اي من هاتين البداهتين المتضادتين؟

لنعد الى العقل، بغض النظر عن الاعتبارات الاخرى ومنها الاعتبارات الدينية، ونتساءل: هل هناك ما يمكن ان نتوصل اليه من صدق احد هذين التصورين؟ او هل بمقدور العقل ان يشخص طبيعة الحق فيدرك ما اذا كان يتوقف على قيد خارجي، كشرط الملكية، او ان له اعتباراته الذاتية الصرفة من غير قيد وشرط؟ وبعبارة اخرى، هل الحق هو الذي يحدد سلطة الملكية، ام الملكية هي التي تحدد سلطة الحق؟ فمَن يحكم مَن؛ سلطة الحق في ذاته ام الملكية؟

دعنا نفترض ان العلاقة بين السيد المالك المطلق والعبد المملوك هي علاقة تقبل الحكم من طرف اخر هو العقل. فطالما ان اصحاب البداهتين ارتكنوا الى العقل في تحديد كل منهما للبداهة كما رأوها، فان هذا يعني ان العقل مدرك لطبيعة ما عليه الحق، وان العلاقة بين المالك والمملوك هي علاقة محكومة بهذا الكاشف، سواء قُدّر الامر على نحو اعتبارات الملكية، او باعتبار الحق في ذاته.

والسؤال هو كيف يتاح لنا التأكد عقلاً من صدق احدى المقولتين وكذب الاخرى؟

بادئ ذي بدء لابد من التذكير باننا امام مسألة قيمية او معيارية ولسنا امام حقيقة موضوعية او خارجية. ففي الموضوعات الخارجية قد يمكن كشف الحقيقة عبر التجربة والبحث الموضوعي. فمثلاً ان القضية التي تقول بان المطر سيهطل غداً هي قضية قابلة للفحص والاختبار، فعلى الاقل يمكن الانتظار الى يوم غد لنتأكد إن كان المطر سيهطل ام لا. وعلى هذه الشاكلة لو ادعى شخص بان هناك حياة في كوكب ما من منظومتنا الشمسية؛ فان هذا الادعاء قابل للتحقيق والفحص الخارجي ليعرف من خلال البحث إن كان صادقاً او كاذباً. اما في القضايا القيمية فانا لا نواجه حقائق موضوعية خارجية، فليس هناك شيء يمكن ان نطلق عليه (حق، او حسن، او عدل.. الخ) ليمكن فحصه والكشف عن مضامينه إن كان محكوماً بقضايا اخرى مثل الملكية او عارياً عنها. وبعبارة اخرى لا يوجد في الواقع الموضوعي ما يمكن ان نطلق عليه (قيم) لنستكشفها عبر الحواس والاثار الخارجية. فعالم القيم هو غير عالم الواقع والوجود، رغم الصلة الوثيقة والتلازم بين العالمين، حيث لا يمكن التحدث عن القيم بمعزل عن وجود الاشياء، والعكس ليس صحيحاً، اذ يمكن التحدث عن الاخيرة بمعزل عن الاولى.

يضاف الى انه عندما نتحدث عن القيم فاننا لا نتحدث عنها بعلاقتها بالمادة الخارجية الجامدة، ولا بعلاقتها بالحياة النباتية والحيوانية، بل ولا حتى بعلاقتها بالحياة العاقلة؛ ما لم تمتلك القدرة والارادة والاختيار. فالقيم انما يصح وجودها واعتبارها لارتباطها بهذا الشرط الاخير دون غيره، وهو شرط يتضمن وجود الحياة العاقلة. فمثلاً لا يمكن الحديث عن القيم عندما يتعلق الامر بموضوع خارجي كالنار. فلا يقال للنار ان فعلها حسن او قبيح، او انها تمتلك حقاً في هذا الفعل او تفتقر اليه. وكذا لا يقال للحيوان مثل هذه النعوت، بل ولا يقال للعاقل المدرك فاقد القدرة والارادة ان فعله حسن او قبيح. انما يقال ذلك لمن يمتلك القدرة والارادة بما تتضمنان من الادراك العقلي، حيث يُنعت فعله بالحسن والقبيح، او الحق والباطل.

فالقيم قائمة -اذن - على شرط وجود الارادة المدركة، وبالتالي لو كانت افعالنا جبرية لما صدق عليها احكام هذه القيم. كذلك لو لم تكن لله القدرة في ان يفعل غير ما فعله في خلقه - رغم سعة علمه وعظمته- لما صدق عليه هو الاخر تلك الاحكام، بل لكان فعله كفعل النار، حيث ليس في وسعها غير الحرق.

لكن مع هذا تظل مشكلتنا معلقة بطبيعة الاحكام الصادرة في حق مثل هذه القيم. فهل هي احكام عقلية كتلك التي لها علاقة بالموضوعات المنطقية والخارجية؟ اذ نعلم ان المعرفة العقلية لها اقسام بعضها ذهنية وبعضها واقعية كالاتي (4):

المعرفة الذهنية، مثل قضية مبدأ عدم التناقض والواحد المضاف الى مثله يساوي اثنين. وهذه المعرفة لا علاقة لها بالواقع عندما تعبر مقدماتها عن قضايا مفترضة.

المعرفة الاخبارية الضرورية، مثل مبدأ السببية العامة القائل انه لا حادثة من غير سبب ما يوجدها، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت. وهذه المبادئ تتصف بالضرورة العقلية، بمعنى ان العقل يدرك حتمية ما تتضمنه هذه القضايا، والضرورة فيها ليست منطقية كالذي عليه الحالة السابقة، بل هي من نوع اخر، اذ عدم التسليم بها لا يفضي الى مشكلة منطقية كالتناقض، وكل ما في الامر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يجد شاهداً يكذبها، ومن يشك في ذلك فعليه التحقيق، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا الشك والتحقيق (5). فالفارق بين المجموعتين من القضايا هو ان المعرفة في القضايا الاخبارية تتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيها هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في المجموعة الاولى هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيها لا تقبل التحدي.

المعرفة الاخبارية الوجدانية، مثل الاعتقاد بالواقع الاجمالي للعالم، حيث ليست هذه المعرفة ضرورية، كما لا يمكن الاستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة (6).

المعرفة الاحتمالية، وهي حالة خاصة تتصف بان اخبارها عن الواقع الموضوعي لا يطابق غالباً ما عليه الواقع، وذلك بخلاف المعرفة الاخبارية الضرورية التي شرطها مطابقة الواقع بالضرورة. فمثلاً إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1\2)، وهذه تمثل قضية ضرورية لا شك فيها. وعليها يمكن استنتاج قضية اخرى جزئية بطريقة قياسية بالشكل التالي:

ان قيمة احتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1\2) بالضرورة، وحيث ان هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة احتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1\2) بالضرورة ايضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. ولكن حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ ان نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة الى القيمة الاحتمالية النصفية، فقد تكون اكثر او اقل من ذلك، بل الغالب انها لا تكون نصفاً، لاسباب ذكرناها في دراسة مستقلة. ورغم ان هذا هو حال القضية الواقعية في الحسابات الاحتمالية، الا انه لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الاحتمالية ضرورية، وذلك على خلاف القضية الواقعية المستندة اليها. والسبب في هذا الاختلاف يرجع الى طبيعة القضايا الاحتمالية ذاتها، حيث تقتضي ان تكون القضايا الواقعية فيها غير محتمة، كما تقتضي ان تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.

اما بخصوص المعرفة القيمية، كالحسن والقبح، فهي لدى الفلاسفة القدماء من المشهورات، ولدى اصحاب منطق الحق الذاتي من العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الاحكام (7). لكن البعض خلط بين هذين الاتجاهين، اذ نقل لنا مفهوم اصحاب منطق الحق الذاتي (العدلية) ودافع عنه دفاعاً تاماً، لكنه رآه بعين الفلاسفة، واستشهد عليه ببعض عباراتهم، كالذي نقله عن ابن سينا في (الاشارات والتنبيهات) وما وافقه عليه شارحه نصير الدين الطوسي. لذا اتصفت عباراته احياناً بالتهافت وعدم الاتساق. فالشيخ المظفر عرّف المشهورات بانها قضايا لا عمدة لها في التصديق الا الشهرة وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، حيث لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الاراء عليها، فلو خلي الانسان وعقله المجرد فانه لا يحصل له حكم بها، ولا يقضي عقله فيها بشيء كما يقول ابن سينا. وليس الامر كذلك مع قضايا الضرورات الاولية كالحكم بان الكل اعظم من الجزء، اذ لو خلي الانسان وعقله فانه لا يتردد في الحكم بها، اذ يكفي تصور طرفي هذه القضية للحكم بها. وعليه ان المعتبر في مثل هذه القضايا الاولية للعقل النظري هو انها مطابقة لما عليه الواقع. اما المعتبر في المشهورات فهو انها مقبولة لتوافق الاراء عليها، حيث لا واقع لها غير ذلك، وان تطابق الاراء عليها هو لاجل قضاء المصلحة العامة، حيث بها يكون حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم. فمعنى حسن العدل هو ان فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم هو ان فاعله مذموم لديهم. فهذا هو المفهوم الوجودي للفلاسفة عن العقل العملي للحسن والقبح، وهو ذاته الذي اعتبره المظفر بان العدلية - اصحاب منطق الحق الذاتي - قائلون به، حيث يدل عندهم على كون تلك القضية من المشهورات لا الضرورات، واستشهد عليه بقول لابن سينا وبما وافقه عليه تابعه نصير الدين الطوسي (8). لكنه رغم ذلك ذهب في بعض عباراته مذهب القائلين بالحق الذاتي، ومن ذلك اعتباره قضايا الحسن والقبح من القضايا الذاتية، وان ما كان ذاتياً لا يقع فيه اختلاف، فالعدل بما هو عدل لا يكون قبيحاً ابداً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسناً ابداً، اي ما دام عنوان العدل صادقاً فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقاً فهو مذموم (9).

ورغم ان المعنى الفلسفي السابق يثير مشكلة، وهي انه اذا كانت قضية الحسن والقبح من المشهورات، فكيف تُرجح على ما يقدمه نص الخطاب، الى الدرجة التي يتوقف عليها هذا الخطاب في التأسيس، سواء من الخارج او الداخل، وذلك تبعاً لمنطق الحق الذاتي الذي ذهب اليه الشيخ المظفر؟ ذلك ان القول بانها من المشهورات يدعم فكرة منطق حق الملكية، بانه لا اساس لها سوى ما الفناه من الاعتبارات الانسانية، دون ان يكون لها بعد عقلي مجرد. اذ لو ان الله ادخل المؤمن الصالح في النار، وجعل الكافر الشرير في الجنة، فاننا سنعتبر ذلك امراً قبيحاً لكونه من المشهورات عند الناس، او لانه مما توافقت عليه اراء العقلاء، دون ان يكون له حكم عقلي مجرد يخصه. ولا شك ان هذا الاعتبار لا قيمة له امام الاعتبارات التي تخص الله تعالى، ومن ذلك ما قد يقال من اعتبارات المشيئة وحق التصرف المطلق بملكه. اذ ما الذي يجعلنا نعتقد ان ما يوليه الله من اعتبارات هي ذات الاعتبارات التي نسلم بها نحن البشر بالتوافق والشهرة؟ فلو قيل بان الله هو من العقلاء >بل رئيسهم، بل خالق العقل، فلابد ان يحكم بحكمهم بما هم عقلاء< (10)؛ لقلنا كيف عرفنا انه يحكم بحكمهم، خاصة ونحن من عالم وهو من عالم اخر مختلف؟ اذ لو قيل اننا عرفنا هذا بما دلنا عليه الخطاب الديني، حيث عرفنا ان حكم الله هو مثل حكمنا في هذه القضايا، لكان هذا القول غير صحيح، وذلك لتوقف اثبات الخطاب على صحة تلك القضايا. أما لو قيل اننا عرفنا ذلك بالعقل، فإن كان المقصود هو الادراك بحسب الشهرة والتوافق على الاراء بين العقلاء، فان ذلك لا يقدم شيئاً، اذ قد يكون المشهور باطلاً، كما قد تكون اعتبارات المشهور لدينا هي غير اعتبارات من هو اعلى منا عقلاً وعلماً. وهنا تنقلب القضية الى المفهوم الذي يخص منطق حق الملكية، وبالتالي يصبح من المحال ان تثبت المسألة الدينية وفق منطق الحق الذاتي، كما لا يمكن الحكم على الافعال الالهية بالحقوق والواجبات، وكذا الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، مادامت انها لا تخرج عن حد الشهرة واتفاق العقلاء.

ومن حيث التحليل، عندما نقول ان المسألة عقلية فهذا يعني ان الوجدان العقلي يشهد بصدقها؛ سواء شهد بذلك على نحو الضرورة، او على نحو التأكيد فحسب. وهنا نجد ان القضايا القيمية هي ايضاً مما يشهد عليها الوجدان العقلي بالصحة والصدق، رغم انها ليست بصدد الاخبار عن اشياء الواقع الموضوعي او التطابق معها، ولا لها علاقة بالقضايا المنطقية المجردة، بل لها ما يجعلها حالة اخرى تختلف فيه عن جميع الحالات التي مرت معنا، وهو انها تتضمن الكيفية القيمية. وليس في الامر غرابة، فقد اطلعنا كيف ان بعض الحالات المعرفية تمتاز قضاياها بالضرورة العقلية، رغم انها لا تتطابق في الغالب مع مصاديقها الواقعية، كما هو الحال مع القضايا الاحتمالية، وكأنها بذلك تتضمن التناقض وعدم الاتساق، لكن حالها ليس كما يبدو، اذ ان طبيعتها، لاعتبارات منطقية ورياضية، تفرض عليها ان تكون غير متطابقة - غالباً - مع ما عليه الواقع. كذلك هناك من القضايا ما تكون محلاً للاعتقاد الراسخ بحسب العقل والوجدان؛ رغم انها ليست من القضايا الضرورية، ولا من القضايا التي يمكن الاستدلال عليها، مثل قضية الايمان بوجود الواقع الموضوعي العام. وبالتالي فان الادراك العقلي والاحكام التي تصدر عنه لا يمكن ارجاعها الى وتيرة واحدة، اذ هناك صور وكيفيات مختلفة قد تعطي انطباعاً بالتعددية التي يمتاز بها العقل في ادراكه للاشياء تبعاً لما عليه شروطها الخاصة. ومن بين هذه الصور والكيفيات تلك المتعلقة بادراك قضايا العقل العملي. فمثلاً لا يتردد العقل في ان يستقبح قتل البعض لوالديه، او لمن احسن اليه، او لنظرائه من غير سبب موجه. لكن من الواضح ان مثل هذه الامثلة تتضمن افتراض ان يكون بين الافراد نوعاً من التماثل والاستقلالية. فالعلاقة بينهم ليست قائمة تبعاً لسلطة الملكية الحقيقية، اذ لا يمتلك بعضهم البعض الاخر، وبالتالي فان هذه الصورة يمكن ان يتفق عليها كلا المنطقين المتنازعين (الحق الذاتي وحق الملكية). وهي مؤشر على صلاحية العقل العملي في الحكم على الاشياء وفقاً للشروط المطلوبة. الا ان المشكلة تكمن في الشرط الميتافيزيقي المتمثل بافتراض وجود علاقة من الملكية المطلقة، وليس في حالة التماثل السابقة. وبحسب هذا الافتراض فان هناك كائناً يتمتع بامتلاك غيره امتلاكاً مطلقاً، والسؤال هو: هل يحق له تعذيبه والعبث به من غير سبب موجه؟

لا شك انه ليس امامنا في هذه الحالة الا ان نفترض وجود طرف ثالث مجرد و>محايد< يتصف بقدرته على الادراك والحكم، واعني بذلك العقل او الوجدان. فلو رجعنا الى الوجدان العقلي، وبغض النظر عن كل الاعتبارات الخارجية كالدينية وما شاكلها، نجد انه لا يشك في ادراك حالة القبح او النقص القيمي لمثل ذلك الفعل رغم اتصاف الفاعل بالملكية المطلقة. الامر الذي يبرر الواجبات العقلية، سواء كانت تخص المكلِّف او المكلَّف.

وتبعاً للامر المنطقي لابد لكل معرفة من قيود وشروط، ومن هذه القيود ما يتعلق بطبيعة القضايا ذاتها. فمثلاً ان القضية التي تقول بان الواحد المضاف الى واحد مثله يساوي اثنين، هي قضية تتحدث عن الواحد البسيط او المجرد، وبالتالي لا يمكن نقضها بقضية اخرى لا تحمل هذه البساطة او التجريد، كإن يقال باننا لو جمعنا حجم غاز باخر مثله فانه يمكن ان نحصل على حجم واحد منهما، اي ان الواحد المضاف الى مثله يساوي واحداً لا اثنين.

كذلك فانه في قضية السببية العامة يشترط ان تكون هناك حادثة ما، كإن تعبر عن تغير او وجود بعد عدم، وهذا يعني ان هذا الشرط لا ينطبق في بسط هذه القضية على مبدأ الوجود الاول، ليقال انه لابد له من سبب غيره، وذلك باعتباره ليس حادثة، حيث انه موجود في الاصل دون ان يسبقه عدم، كما انه لا يتغير كي يقال ان هذا التغير لابد له من سبب. وايضاً ان من قيود هذه القضية هو انها لا تتحدث عن معرفة نوع السببية وتعيين السبب، وبالتالي فانها وإن كانت حالة عامة يمكنها ان تنطبق على كل مظاهر الكون وحوادثه، وانها كذلك شرط في المعرفة البشرية دونها لا يمكن الوثوق باي علم من مظاهر الكون والطبيعة، الا انها ليست كافية لتفسير هذه المظاهر والحوادث، وذلك باعتبارها لا تعمل على تشخيص طبيعة الاسباب التي تكمن وراء ما يحدث. فهذا هو قيدها كما يدركها العقل النظري القبلي.

وايضاً انه في قضية الايمان بواقعية العالم من غير دليل، فان قيدها هو انها تصدق في حدود العالم المجمل للواقع الموضوعي، ولا دخل لها في تفاصيل هذا العالم. ذلك ان اي شيء جزئي في العالم يمكن ادراكه إن كان من الواقع او من الافرازات الذهنية، وذلك عبر الدليل الاستقرائي والقرائن الاحتمالية. اما قضية الحياة بعمومها وكليتها فانه لا دليل على واقعيتها رغم ايماننا بها ايماناً جازماً، وانه مهما شككنا بها فانه من الناحية الغريزية او الفطرية نتعامل معها تعاملاً موضوعياً، اي بافتراض انها ذات واقع موضوعي خارج حدود الذهن وافرازاته الذاتية. فهذا هو قيد المعرفة الوجدانية بوجود الواقع الموضوعي.

كما يلاحظ في القضية العقلية الخاصة بالاحتمالات انها مقيدة بتماثل الحالات الممكنة، ولولا هذا التماثل لانتفت الضرورة من المعرفة، ولاصبحت المعرفة >تقديرية<. وبصفة عامة ان اغلب حالات الواقع يشهد عدم تحقق هذا الشرط، مما يعني انه لا يخضع الى الحكم العقلي، في حين هناك قضايا بسيطة يمكن ان ينطبق عليها الحكم العقلي، كالسحب العشوائي لبعض الكرات المختلفة الالوان مع علمنا بعددها والوانها وتساوي اوزانها واحجامها واشكالها، حيث يكون الحكم فيها حكماً عقلياً غير قابل للنقض والتبديل (11).

على ان معنى الضرورة في هذه القضايا المختلفة هو ان تكون غير قابلة للخرق والتجاوز، فهي بالتالي صحيحة صحة مطلقة وشاملة وإن باعتبارات مختلفة. والحكم فيها يستند الى ما يتفق عليه جميع الناس، اذ لو اعتمدنا على ما يقوله الاخرون لما وجدنا قضية يمكن الاتفاق عليها، بما في ذلك مبدأ عدم التناقض، فضلاً عن مبدأ السببية العامة وغيرها. وعليه كان لابد من النظر الى القضية ذاتها بحسب التجريد العقلي، اي العمل على رؤيتها مباشرة من الداخل قبل محاكمتها باعتبارات مختلفة تبعاً لما عليه طبيعة هذه القضايا وقيودها. فقد يرى العقل فيها الضرورة، ولهذه الاخيرة اشكال مختلفة كما قدمنا، وذلك بخلاف ما هو معروف لدى المفكرين من وجود نمط واحد منها هو الضرورة المنطقية، واحياناً يشار بشكل مجمل الى الضرورة العقلية ليضم فيها عدد من الضرورات، كتلك التي تخص مبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية العامة.

فتارة تكون الضرورة منطقية كما في عدم التناقض، وثانية تكون تحدّية كما في السببية، وثالثة احتمالية كما هو الحال في الاحتمالات العقلية. ونضيف الى ذلك ما نطلق عليه (الضرورة القيمية) التي نحن بصدد بحثها وتحليلها. فهذه الضرورات بعضها يختلف عن البعض الاخر، والصفة المشتركة بينها هو انه لا يوجد مسوغ لتغييرها وابدالها، ويفترض ان لها طبيعة شمولية وكلية مطلقة، بما في ذلك النوع الاخير من الضرورات، وهو الخاص بالعقل العملي تمييزاً له عن الانواع الاخرى المنضمة الى العقل النظري.

والاختلاف بين هذه الضرورات هو ان الاولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية، وان الثانية (التحدّية) لها علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة، وذلك باعتبارها اخبارية وكاشفة عن الواقع بالقيد الذي ذكرناه، وان الثالثة (الاحتمالية) هي وان تحدثت عن الواقع الا ان ميزتها كونها لا تطابق الواقع بالضرورة، او انها في اغلب الاحيان لا تطابقه. اما الضرورة القيمية فهي لا تتحدث عن اشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة التحدّية، بل المهم هو مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يفضي اليه الوجدان العقلي ليعرف انها شاملة وكلية مطلقة، لكن بحدود القيود التي هي عليها، مثلما رأينا مع غيرها من ضرورات العقل النظري.

وقد كان الاعتراض العقلي الذي قدمه اصحاب منطق حق الملكية على قضايا الحسن والقبح، هو انها لو كانت عقلية لما وقع التفاوت بينها وبين حكم العقل بالضرورات الاولية كقضية عدم التناقض وان الكل اعظم من جزئه، حيث العلوم الضرورية لا تتفاوت فيما بينها في الحكم. وهذا غير صحيح، بل هناك تفاوت في هذه العلوم، كما ان فيها قيوداً يختلف بعضها عن البعض الاخر، ويظل المشترك بينها هو القول بالضرورة بمعناها العام عندما يدركها العقل مجرداً، او عند تصور طرفيها. ذلك ان العقل يحكم بضرورة صدق قضية الحسن والقبح، مثلما يحكم بهذه الضرورة للقضايا المنطقية والعقلية والاحتمالية، مع اخذ كل منها بحسب مجاله وقيوده واعتباراته. ومن الامثلة على قضايا هذه الضرورة نذكر ما يلي:

ـ العقاب من غير بيان في التكليف قبيح.

ـ التكليف بما لا يطاق إن لم يكن عقوبة فهو قبيح.

ـ الاعتداء على الاخرين من غير ذنب ولا اضطرار قبيح.

ـ شكر المنعم الخيّر حسن.

ـ الاعتراف بجميل المحسن حسن.

ـ التعاون مع الاخيار في العمل الصالح حسن.

ـ مساعدة المحتاجين الاخيار حسن.

ـ ترجيح الاهم على المهم حسن.

ـ دفع الضرر عن غير المستحقين حسن ما لم يفضِ الى ضرر اكبر.

ـ رد المظالم الى اهلها المستحقين حسن ما لم يؤدِّ الى ضرر اكبر.

ـ الانتصاف من الظالم الى المظلوم حسن ما لم يؤدِّ الى ضرر اكبر.

ـ الصدق حسن ما لم يضطر الى الكذب.

تجليات الصراع العقلي

ان التضاد الحاصل بين البداهتين، كالذي سبق عرضه، كان له تأثيره وانعكاساته على عدد من الاصعدة: عالم الوجود والواقع، وعالم الفقه والتشريع، واخيراً عالم فهم النص. وهذا ما سنتعرف عليه حسب الفقرات الثلاث التالية:

اولاً:

ان اهم مسائل الخلاف العقلي بين منطقي الحق الذاتي وحق الملكية في مجال الوجود والواقع، هي مسألة السببية وعلاقاتها في الطبيعة. فاذا كان منطق حق الملكية يميل الى تفسير السببية طبقاً للعادة وذلك تبعاً لمقولة (لا فاعل في الوجود الا الله)، الامر الذي يتسق مع البداهة الاولية لهذا المنطق، فان الامر مع منطق الحق الذاتي مختلف، ذلك ان طائفة من هذا الاتجاه اعتمدت في تفسيرها للسببية على منطق له علاقة بمفهوم (التوليد) كالذي فصل الحديث عنه القاضي الهمداني في كتابه (المحيط بالتكليف). فمفهوم السبب عند الهمداني يتضمن معنى الواسطة مشبهاً إياها بالالة اوالاداة، فتارة يعبر عن الواسطة بانها ذات السبب، واخرى يعد السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله (12). وعلى هذا المعنى يمكن ان يكون هناك سبب من غير مسبب، اذ قد يقع عارض يمنع وجود المسبب رغم وجود السبب، كما يمكن ان يكون هناك مسبب من غير سبب، حيث يحدث المسبب ابتداءاً بفعل الفاعل المختار، وكذا قد يكون المسبب حادثاً بفعل السبب والذي يطلق عليه التوليد. وكما يقول الهمداني بهذا الصدد: >قد ذكرنا ان في افعالنا ما لا يصح منا ان نفعله الا بسبب، وفي افعالنا ما يصح ان نفعله ابتداءاً وبسبب، وفيها ما لا يصح ان نفعله الا مبتدأ دون ان يقع بسبب، فالضرب الاول هو الصوت والالم والتأليف، والضرب الثاني هو الاعتماد والكون والعلم، والضرب الثالث هو الارادة والكراهة والظن والنظر، وما كان من باب الاعتقاد الذي ليس بعلم< (13).

وما يقصده الهمداني من (الاعتماد) هو ان يحصل المتولد في غير محل القدرة، كالذي يحدث في الحركات والظواهر النائية المنفصلة عنا وعن اي فاعل مختار، مثل ما يحصل من احراق النار التي تولد التفريق، وما يكون في الماء من الثقل ما يوجب النزول، ويسمى ذلك عند البعض طبعاً، ويطلق عليه لدى طائفة من المعتزلة (الاعتماد)، حيث انه معلق على القادر، اذ يصح ان يمنعه من التوليد والايجاب (14).

وفي جميع الاحوال لا ينفي الهمداني ما يصطلح عليه الفلاسفة بمبدأ السببية العامة، حيث انه يردّ كلاً من السبب والمسبب سواء كانا مقترنين او منفردين الى الفاعل المختار، وهو المتمثل بالمكلِّف والمكلَّف، ومن ذلك قوله: >اذا كان المبتدأ احتاج الى فاعل لحدوثه، فالمتولد اذا كان حادثاً يجب ان يجري مجراه في الحاجة الى المحدث، ولا يمكن ان يقال ان حدوثه واجب، لانه انما يراد بالوجوب الاستمرار< (15). وهو ما يلزم عنه مضامين الحسن والقبح، سواء بفعل الفاعل للسبب او بما قد يتولد عنه من المسبب، او حتى من حيث فعل المسبب من غير سبب. وكل ذلك لا يتنافى مع مبدأ السببية العامة. والهمداني يعترف بان قدرتنا لا تسمح لنا في اغلب الاحيان اتيان المسبب من غير سببه، وذلك بخلاف القدرة الالهية المطلقة التي يسعها ذلك مثلما يسعها فعل المسبب عن السبب بالتوليد. وعليه فان هذا المعنى يختلف كلياً عن المعنى الخاص بعلاقة العلية كما يبشر بها الفلاسفة، ذلك >ان المتولد ذات منفصلة عن السبب، حادثة كحدوث نفس السبب، فامكن ان يقال انه حدث من جهة القادر، وموجب العلة ليس بأمر يحدث فتصبح اضافته الى الفاعل، بل ليس ينفصل عن المعلول< لذا فالمعنيان مفترقان (16). فالمسبب او المتولد مرتبط بالفاعل المختار حسب ما يفعله من السبب او الواسطة، وهو بالتالي اولى ان يناط بفاعله من سببه (17)، ذلك لان السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله، لذا لا يطلق على الفاعل موجباً، حيث الفعلية تنافي الايجاب، كما لا يقال عن السبب انه مولد، وذلك لان المولد هو من اسماء الفاعل، والفعل ليس حادثاً بالسبب، وانما حدوثه بالقادر او الفاعل المختار، وبالتالي يصح القول ان ما احدث الفعل هو القادر بهذا السبب (18). مما يعني ان للسبب تأثيراً على المسبب، وإن لم يكن هذا التأثير موجباً كالعلة بالنسبة الى المعلول عند الفلاسفة. والغرض من هذا التحديد هو لاجل تنقيح قاعدة الحسن والقبح، حيث تصدق ليس فقط على الافعال الابتدائية وانما كذلك عما يترتب عليها من متولدات ومسببات.

هكذا ان المفهوم السابق للسببية والتوليد مفيد باكثر من اعتبار: فمن جهة انه لا يتعارض مع الضرورات العقلية، وذلك باعتباره يحافظ على مبدأ السببية العامة القائل بان لكل حادث لابد له من >سبب< يوجده، او بحسب تعبير هذا الاتجاه هو ان لكل حادث لابد له من فاعل، ابتداءاً او توليداً، ومن ذلك انه يعد من الضرورات العقلية العلم بتعلق الفعل بفاعله، مثل تعلق الجواهر والاعراض كالروائح والالوان والطعوم بالخالق (19). أما من جهة ثانية فهو انه يتسق تماماً مع البداهة الاولية للحق الذاتي، وذلك لانه يجعل من العلاقة بين الفعل والفاعل علاقة غير محتمة او لزومية، وبالتالي فان ذلك يحفظ لنا ارادتنا واختيارنا عندما تتولد عنهما الافعال والمسببات، فليس هناك ما يجبرنا ويلجئنا على الفعل، الامر الذي تتصحح به صورة الحسن والقبح. ومن ذلك ما يقوله الهمداني: >ان الذم يتوجه على المتولد من الافعال، كما يتوجه على المبتدأ، وذلك لان احدنا يذم على الكذب والظلم والقتل وغيرها، وكل هذه الافعال تقع متولدة، فلو لم تكن حادثة من جهتنا لقبح ذمنا عليها< (20).

ويلاحظ ان فكرة هذا الاتجاه عن السببية تختلف عن فكرة الاتجاه الاول الذي حصر التأثير على الاشياء بالله دون سواه. فعلى الرغم من ان اتجاه الحق الذاتي يرى ان ما يقوله الاول ممكن تبعاً للقدرة الالهية غير المتناهية، الا انه مع ذلك اعترض عليه باعتباره يتنافى مع العدل وغرض التكليف، وهو انه لابد ان يكون للغير تأثير كي يتصحح الفعل البشري وما يستحقه من الثواب والعقاب طبقاً لمنطق الحق الذاتي. وهو يطلق على هذا التأثير بإحداث الفعل، كإن يكون مصدر هذا الإحداث هو الله، او الانسان بما احدثه الله فيه من قدرة. وبهذا يتصحح تكليفه وما يستحقه من جزاء. وهو في هذا المجال لا ينكر ان يكون هناك نوع من تأثير الاشياء بعضها على البعض الاخر طبقاً لمنطق التوليد والاعتماد، وذلك بما اودعه الله فيها من قوى وخواص، وانه لو شاء لما كان لها هذا التأثير او التوليد البتة، بل جعل ذلك من الامور التي يتصحح بها معرفة المعجزة واثبات النبوة، حيث لا تعرف المعجزة بانها معجزة ما لم تكن خارقة للعادة (21)، ومن ذلك خرقها لخواص الاشياء التي هي عليها، اي مبطلة لعلاقة التأثير بين السبب والمسبب. وكل هذا مما لا يقره الاتجاه الاول، وذلك لان الفعل عنده محصور بالله، وانه لا تأثير للاشياء ولا توليد للمسببات، كما ليس هناك من قوى فاعلة، بل كل حالة اقترانية بين شيئين هي نتاج فعل الله، فلا عرض حادث الا والله خالقه وفاعله، وذلك اتساقاً مع البداهة الاولية لحق الملكية، الى الدرجة التي ذهب فيها بعض اصحاب هذا المنطق الى اعتبار الاعتقاد بتأثير الاشياء بعضها على البعض الاخر يعد كفراً وبدعة، ومن ذلك ما قام به السنوسي في (المقدمات) بتأويل قوله تعالى: ((الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء))، حيث نفى ان يكون هناك تأثير للرياح على الغيوم، باعتباره يتضمن اثبات العلل الوسيطة، معتبراً مثل هذا الاعتقاد اصل الكفر والبدعة (22). وبالتالي فان عموم اتجاه حق الملكية يختلف رأيه في السببية عن اتجاه الحق الذاتي، حيث ان الاقتران السببي بين الظواهر العرضية في الطبيعة هو لدى الاول مجرد اقتران دون ان يتضمن التأثير من قبل العلاقة الاقترانية، في حين انه لدى الاخير يتضمن هذا التأثير، وهو ان احدى الظاهرتين العرضيتين تؤثر على الاخرى بقدرة الله، وذلك طبقاً لمنطق التوليد والاعتماد.

مع هذا فهناك من اصحاب منطق الحق الذاتي من قدم تصوراً اخر يقترب بعض الشيء من التصور الفلسفي الوجودي. وقد نقل الاشعري في (مقالات الاسلاميين) عن المعتزلة بانهم اختلفوا في السبب هل هو موجب للمسبب أم لا على قولين؟ حيث ذهب اكثر المعتزلة المثبتين للتولد بان الأسباب موجبة لمسبباتها، وهو قول الفلاسفة. ومن ذلك ما جاء عن معمر بن عباد السلمي (المتوفي سنة 220هـ) انه اعتبر الاعراض في الاجسام المادية هي من اختراعات الاجسام بحسب (الطبع)، كالنار التي تحدث الاحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، والقمر الذي يحدث التلوين. كذلك ذهب الجاحظ الى اثبات الطبائع للاجسام، حيث اثبت لها افعالاً مخصوصة مثلما هو رأي الفلاسفة (23). وعلى هذه الشاكلة ذهب ابو القاسم البلخي الذي ايده الشيخ المفيد من الامامية، حيث قال ضمن عنوان: (القول في الثقيل: هل يصح وقوفه في الهواء الرقيق بغير علاقة ولا عماد): >اقول ان ذلك محال لا يصح ولا يثبت، والقول به مؤدٍّ الى اجتماع المضادات. وهذا مذهب ابي القاسم البلخي وجماعة من المعتزلة واكثر الاوائل، وخالفهم فيه البصريون من المعتزلة، وقد حكي انه لم يخالف فيه احد من المعتزلة الا الجبائي وابنه واتباعهما<. كما قال المفيد تحت عنوان: (القول في الجسم: هل يصح ان يتحرك بغير دافع): >اقول انه لو صح ذلك بان توجد فيه الحركة اختراعاً كما يزعم المخالف، لصح وقوف جبل ابي قبيس في الهواء بان يخترع فيه السكون من غير دعامة ولا علاقة. ولو صح ذلك لصح ان يعتمد الحجر الصلب الثقيل على الزجاج الرقيق، وهما بحالهما، فلا ينكسر الزجاج، وتخلل النار اجزاء القطن، وهما على حالهما، فلا تحرقه. وهذا كله تجاهل يؤدي الى كل محال فاسد< (24).

وعلى العموم يلاحظ ان اصحاب منطق الحق الذاتي منقسمون على انفسهم في الرأي بين من قد يكون متأثراً برأي الفلاسفة، وان كان الاختلاف بين الفريقين كبيراً، وبين الرأي الذي نافسوا فيه ما عليه منطق حق الملكية. وقد يكون تصنيف المعتزلة الى بصريين وبغداديين له شيء من العلاقة بهذا الانقسام. لكن مثلما كان بعض المعتزلة متأثراً بفكرة الفلاسفة عن السببية او العلية، فان الاشاعرة بدورها كانت قريبة من التصور العرفاني في فهمه لكرامات الاولياء؛ بناء على فكرة العادة والخلق المباشر المستمر وانه لا فاعل في الوجود غير الله. وهو امر يجعلنا امام تصورات عديدة مختلفة عن السببية.

ويترتب على هذه المقالة الخلاف الخاص بالمعرفة قاطبة، حيث ان الاشاعرة ترى انه لا مؤثر في الوجود الا الله، وبالتالي فان حدوث العلم عقيب النظر هو حدوث قائم على العادة، اي تجري عادة الله بان يحدث العلم عقيب النظر، فالمؤثر في وجود العلم هو الله تعالى، وقد ادعى الاشعري ان هذا الحدوث انما يجري بلا وجوب منه تعالى ولا عليه، مع ان القول بالوجود من غير وجوب يعني عند البعض بانه ترجيح بلا مرجح. في حين يتم حصول العلم بعد النظر عند المعتزلة بالتوليد، حيث ان الناظر يخلق النظر فيتولد منه فعل اخر من غير صنع الله عقيبه، كحالة حركة المفتاح عند حركة اليد. وهو موقف يخالف موقف الفلاسفة الذين اعتبروا حصول العلم بعد النظر جاء بالاعداد، فالنظر الذهني هو من العلة المعدة وليس علة حقيقية، حيث اذا تم استعداد الذهن لقبول العلم بهذا الاعداد فانه تفيض عليه النتيجة من مبدأ الفيض وجوباً. لكن لدى الفخر الرازي ان حصول العلم عقيب النظر يتم بالوجوب تبعاً للعادة، اي انه جرت عادته تعالى بايجاب وجود العلم واحالة عدمه، وذلك بخلاف ما عليه الاشعري الذي لا يقول بالوجوب اصلاً. وعلى رأي الفخر الرازي انه لا دخل للنظر في هذا الايجاب، اذ ان العلم والنظر كلاهما معلولان لله واجبان به، وذلك على خلاف الفلاسفة، حيث لديه ان حصول العلم وان لم يكن واجباً ابتداء فانه ليس متأثراً بالنظر، اذ لا قدرة للعبد في التأثير (25).

لكن نُقل عن الفخر الرازي، ومثله عن الباقلاني والجويني، انهم عدوا بان ما يعقب النظر من المعرفة ليس بعادة، بل لزوم ضروري، فالله يخلق النظر ومنه يلزم عنه العلم بالضرورة (26). كما يلاحظ ان الباقلاني يقسم العلم الى علمين: علم نظر واستدلال، وعلم اضطرار وضرورة. فالضروري ما لزم نفوس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه، نحو العلم بما ادركته الحواس الخمس، وما ابتدى في النفس من الضرورات. والعلوم الضرورية لها ست طرق، خمس منها عن طريق الحواس الخمس. اما الطريق السادس فهو العلم المبتدئ في النفس، نحو علم الانسان بوجود نفسه وما يحدث فيها من اللذة والالم والغم وما اليها، وكذا العلم بان الضدين لا يجتمعان وان الاجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وكذا كل معلوم باوائل العقول، وكذا العلم بان الثمر لا يكون الا من شجر او نحل.. وكل ما هو مقتضى العادات (27).

وعلى ما يبدو ان الباقلاني يجعل العلوم العادية ضمن المعارف الضرورية، وإن كان ذلك لا يمنع كونها من فعل الله، ولو شاء لمنع ان تترتب النتيجة عن المقدمة في مثل هذه المعارف الضرورية، وذلك اذا ما اعتبرنا النتائج مخلوقة بفعل الله، وليست متولدة عن نفس مقدماتها، كما هو مقتضى منطق حق الملكية. فمذهب الاشاعرة في حصول العلم يتفق ومبدأها بان لا فاعل الا الله، ونفس الشيء بخصوص الاتفاق مع نظرية الكسب. الامر الذي يتسق والبداهة الاولية لهذا المنطق، حيث ان الله يفعل ما يشاء، ومن فعله هو هذا الذي يتم بعنوان العادة الالهية.

لكن مع هذا فان الاشاعرة لا تنفي وجود جملة من المعارف العقلية التي تدخل فيها المحالات. فالغزالي في (تهافت الفلاسفة) اعتبر ان هناك عدداً من القضايا المعرفية المحالة، والمحال عنده غير مقدور عليه، وهو عبارة عن اثبات الشيء مع نفيه، او اثبات الاخص مع نفي الاعم، او اثبات الاثنين مع نفي الواحد، وكل ما لا يرجع الى ذلك فهو ليس بمحال، وما ليس بمحال فهو مقدور. فمثلاً ان الجمع بين السواد والبياض محال، لانا نفهم من اثبات صورة السواد في المحل نفي ماهية البياض ووجود السواد، فاذا صار نفي البياض مفهوماً من اثبات السواد، كان اثبات البياض مع نفيه محالاً. كذلك لا يجوز كون الشخص الواحد في مكانين، لانا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت. وكذا نفهم من الارادة عند الشيء هي طلب فيه ادراك، فان فُرض طلب دون ادراك فهذا يعني انه لم تكن هناك ارادة عند الشيء. وايضاً ان الجماد يستحيل ان يُخلق فيه العلم، لانا نفهم من الجماد ما لا يدرك، فان خُلق فيه الادراك كانت تسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محالاً. كذلك فان مصير الشيء شيئاً اخر غير معقول، لان السواد اذا انقلب كدْرة مثلاً، فالسواد إن كان معدوماً فهو لم ينقلب، ولكن انضاف اليه غيره، وإن بقي السواد والكدرة معدومة فهو لم ينقلب ايضاً، بل بقي على ما هو عليه. واذا قلنا ان الدم انقلب منياً، اردنا به ان المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة اخرى، حيث هناك مادة مشتركة تعاقبت عليها الصورتان. واذا قلنا ان الماء انقلب هواء بالتسخين، وكذا العصا انقلبت ثعباناً، والتراب حيواناً، فمعناه ان المادة المشتركة خلعت صورة ولبست اخرى. لكن ليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة، ولا بين السواد والكدرة، ولا بين سائر الاجناس، لذا فان الانقلاب فيها من المحالات (28).

ومن جملة المستحيلات عند الغزالي ما هي مستحيلة على الله تعالى؛ كالمكان والجهة والصورة واليد الجارحة والعين الجارحة وامكان الانتقال والاستقرار، وقد اوجب فيها التأويل حسب الدليل العقلي، في حين ان امور الاخرة مما وعد بها الله قد اعتبرها ليست من المحالات على قدرته، واوجب اجراءها على ظاهر الكلام وفحواه الصريح (29).

على ان نفي الاشاعرة لعلاقة الضرورة، وكذا التأثير بين الاسباب والمسببات في الطبيعة، عرّضها الى الكثير من النقد والتهم. فمن تهمة نفي الاساس الذي تقوم عليه علوم الطبيعة، الى تهمة السفسطة ونكران الاصل العقلي، ومن ثم الى الوقوع في التناقض، وذلك حيث انها تثبت المسألة الالهية باعتمادها عليه (30).

والواقع ان الاشاعرة تلتقي مع دافيد هيوم واغلب رواد المنطق التجريبي الحديث في مسألة نكران الضرورة في علاقة السببية الخاصة، وهي لا تفضي بالضرورة الى بطلان المعرفة العلمية. كما ان هذا الالتقاء بين الاشاعرة واصحاب المنطق التجريبي لا يلغي مورد الاختلاف بينهما بخصوص مبدأ السببية العامة، وهو المبدأ القائل بان الحادثة لابد لها من سبب، حيث ان الاشاعرة تسلم بهذا المبدأ بخلاف اصحاب ذلك المنطق، بدلالة انها تستدل على المسألة الالهية عبر مبدأ استحالة الترجيح من غير مرجح، وهو ما يعني استحالة وجود حادثة ما من غير سبب. وبعبارة اخرى، هناك نوعان للسببية، احدهما عبارة عن السببية العامة، وهي التي موضع الخلاف بين الاشاعرة والتجريبيين، اما الاخرى فهي السببية الخاصة التي تحدد ماهية السبب بعينه، كما لو اعتبرنا الحرارة هي سبب تمدد الحديد لا غيرها. فهذه العلاقة هي بنظر الفريقين الانفي الذكر لا تتضمن الضرورة، بل هي مجرد تتابع اقتراني تفسرها العادة. ولا شك ان نفي الضرورة في هذه العلاقة لا يؤثر على اثبات المسألة الالهية، بخلاف العلاقة الاولى التي تعود الى مبدأ السببية العامة كما هو واضح.

كما تعرضت الاشاعرة الى تهم كثيرة، منها انها عُدت من المذاهب اللاعقلية. فهناك من اعتبر ان اعتماد الاشاعرة على جعل التشريع الخاص بقضايا الحسن والقبح بيد الخطاب الديني، يردها الى المذاهب اللاعقلية، فالبعض اعتقد انها عطلت العقل حتى في المجال العقائدي، بل واتهمها بانها اتجهت الى القضاء عليه مطلقاً (31). كما ان صاحب كتاب (فلسفة الفكر الديني) رأى ان علم الكلام الاشعري يجعل من الواجب الرجوع الى الخطاب الديني من حيث الاصل والاساس، ويشمل هذا الامر حتى موارد استخدام النظر العقلي (32). وجاء عن دي بور ان الاشعري لا يعتبر النظر العقلي المستقل عن الوحي سبيلاً الى معرفة الشؤون الالهية، انما العقل يستطيع ان يدرك وجود الله، لكن العقل الة للادراك فقط، اما الاصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي (33). ولا شك ان هذه الاعتقادات لم تتدارك كون المذهب الاشعري قد تأسس تبعاً للفكرة العقلية الخاصة بحق الملكية قبل اي اعتبار اخر، وهو وإن حدد مجال العقل في قضايا الحسن والقبح، الا ان ذلك لم يحدد النشاط العقلي في الكثير من قضايا العقل النظري، ومنها تلك التي لها علاقة باثبات المسألة الالهية، وهي على رأس القضايا الاعتقادية. كذلك فان هذا المذهب قد شهد تطوراً في حدود ممارسته للنشاط العقلي، بما في ذلك التنظير الى جعل العقل حاكماً على نص الخطاب، حيث ذهب المتأخرون الى القانون الكلي للمعارض العقلي الذي تعرض فيه مسائل النص على العقل لينظر فيها إن كانت تُقبل او يُجرى عليها التأويل.

ثانياً

من تجليات التضاد بين البداهتين الاوليتين في الدائرة العقلية؛ تلك التي تتعلق بعالم الفقه والتشريع. فالاعتبارات المختلفة للبداهتين تفتح باباً من التعارض حول طريقة الاجتهاد في القضايا الفقهية وتشريع الاحكام. اذ بحسب اعتبارات الحق الذاتي ينبغي ان يكون الاجتهاد قائماً في الاساس على العقل دون التوقف عند حدود الخطاب الديني، وذلك في جميع القضايا التي يقبل ادراكها من الحقوق والمصالح والمفاسد. أما بحسب اعتبارات حق الملكية فلا مجال للاجتهاد العقلي الا بحدود ما يسمح به الخطاب الديني. فمثلاً انه لا مجال للاجتهاد في ما لا نص فيه من القضايا، وانه لا مجال للاستعانة بالقياس وغيره، الا بالحدود الذي يكشف عنه الخطاب الديني. ورغم ان واقع التشريع الفقهي لم يلتزم حرفياً بهذه الانعكاسات المنطقية الناتجة عن البداهتين الاوليتين وذلك لاعتبارات مختلفة، الا انه مع ذلك هناك مؤشرات للتعارض المتسق بين المذاهب التشريعية يمكن عدها مستلهمة من انعكاسات التضاد بين الاصلين المولدين.

فقد سبق ان عرفنا كيف ذهب المعتزلة والزيدية والامامية الاصولية الى الاعتقاد بان العقل يدرك جملة من الواجبات التي تسبق احكام الخطاب الديني، مثل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم ووجوب النظر ومعرفة الخالق وما الى ذلك، الامر الذي يناقض ما لجأت اليه الاشاعرة. فهذا الخلاف يتأسس على تعارض الاعتبارات بين الاصلين المولدين لهما. وقد انعكس الامر على الصعيد الفقهي، اذ كان المتكلمون وبعض الفقهاء يعطون للعقل صلاحيات الكشف عن الحكم، فاقرت بعض المذاهب عدداً من القواعد الاصولية الفقهية التي يستعان بها عند عدم وجدان النص، مثل قاعدة البراءة الاصلية التي تُسند عادة الى القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان)، وكذا مسائل الحسن والقبح العقليين ونفي الضرر المحتمل وما اليها. وعلى خلاف هذه القواعد والمسائل، هناك قاعدة التوقف والاشتغال ومسألة الحسن والقبح الشرعيين، وجميعها يعارض القواعد الاولى. واذا كانت القواعد الاولى تتسق ومنطق الحق الذاتي، فان اغلب القواعد الاخيرة هي مما تتسق ومنطق حق الملكية.

لكن من حيث الواقع الفقهي نجد تجاوزات لدى بعض اصحاب كلا المنطقين بما لا يتفق مع ما يلجأ اليه من البداهة الاولية او الاصل المولد. فالغزالي مثلاً، وهو القائل بمنطق حق الملكية، يعتقد بالبراءة العقلية قبل التشريع او ورود السمع (34)، وهو موقف يناقض الاصل المولد للمسلك الذي يتبناه. وكذا فان الفقيه المعاصر السيد محمد باقر الصدر وعدداً من اصوليي الامامية يعتقدون بقاعدة اشتغال الذمة من الناحية العقلية لكل ما هو محتمل لولا تسامح التشريع الديني، وهو موقف يناقض بدوره قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم انه يناقض البداهة الاولية للحق الذاتي والتي تشترط ضرورة الإعلام كما عرفنا.

والمعلوم ان الاعتماد على العقل في قضايا الفقه التي لم يرد فيها نص هي خاصة المذهب الامامي الذي لم يرتض الاخذ بموارد الرأي الظني الشائعة لدى الاتجاه السني ، مثل القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها من المصادر الظنية . لذلك فان المتقدمين من المذهب الامامي اعتبروا انه ما لم يتم الحصول على الحجة الشرعية بالنص، فان مآل الامر هو الرجوع الى الحكم العقلي، وذلك تعويلاً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، اذ تنص قاعدة الحسن العقلية بان >كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً< (35)، استناداً الى البداهة الاولية للحق الذاتي. ويقف الشريف المرتضى على رأس قدماء الامامية الذين دافعوا عن هذا المسلك في اصالة التشريع العقلي للقضايا الفقهية. فقد صرح، وهو بصدد استدلاله على عدم جواز العمل بخبر الاحاد، بانه اذا لم يكن هناك دليل شرعي في المسألة فانه يتوجب العمل بما يقتضيه الحكم العقلي (36). وقال بهذا الصدد: >قد ثبت ان المنافع التي لا ضرر فيها عاجلاً ولا اجلاً في اصل العقل مباحة<. وقد طبق هذا الحكم العقلي على مورد نكاح المتعة، مستفيداً في ذلك من الكشف الواقعي الذي يفيد عدم وجود الضرر في هذا المورد. ذلك انه يقول: >إن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه انتفاع لا محالة، قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والامارات المشيرة اليها، ويعلم فقد ذلك، والضرر الاجل انما هو العقاب، وذلك تابع للقبح، ولو كانت هذه المنفعة قبيحة مستحق بها العقاب لدلّ الله تعالى على ذلك، لوجوب اعلامه المكلف ما هذه سبيله< (37). واتبعه في هذا المقال ابن ادريس في سرائره (38). كما استفاد المرتضى من كشف الواقع لصالح الحكم العقلي، وذلك في مورد ادخال الضرر على البهائم، فقال: >اعلم ان ادخال الضرر على البهائم، المؤذية لنا منها وغير المؤذية، لا يحسن الا باذن سمعي، الا ان يكون ذلك الضرر يسيراً ، او النفع المتكفل به لها عظيماً فيحسن من طريق العقل. فان كثيراً من الناس اجازوا ركوب البهائم عقلاً من غير افتقار الى سمع<. ثم قال: >واذا تكفلنا لها بما تحتاج اليه من غذاء وديار ومصلحة ربما كانت لها فائدة لولا تكفلنا جاز ان ندخل عليها ضرر الركوب، لانه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها< (39).

لكن هذا الاتساق لا نجده لدى جميع من ينتمي الى منطق الحق الذاتي، ومن ذلك ان الكثير من معتزلة بغداد والامامية الاثنى عشرية اعتبروا ان الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص او بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الانتفاع بالاشياء. فقد انشطر العلماء الى ثلاثة اتجاهات، احدها يقول بالحظر ما لم يدل على ذلك نص من الخطاب الديني، واليه ذهب كثير من البغداديين وطائفة من الامامية وجماعة من الفقهاء. واخر يقول بالاباحة وهو مذهب اكثر المتكلمين من البصريين وكثير من الفقهاء، وهو الذي اختاره الشريف المرتضى من الامامية. أما الاتجاه الثالث فبنى على الوقف حتى يرد سمع من النص الديني، وهو الذي ذهب اليه الطوسي في (عدة الاصول) (40)، حيث صرح بان القضايا التي لم يرد بشأنها نص انما طريقها العقل (41)، وهي بحكم هذا الاخير تكون على الوقف، ولا يمنع ذلك ما قد يدل عليه النص من الحظر او الاباحة، بل ما يقدره العقل من الوقف لا يتنافى مع ما جاء به النص من الاباحة >بل عندنا الامر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالايات< (42)، وهو المذهب الذي كان ينصره شيخه ابو عبد الله المفيد (43)، والذي هو اقرب ما يكون الى منطق حق الملكية، وذلك بخلاف ما انتهى اليه استاذه الشريف المرتضى من ان حكم العقل في الانتفاع من الاشياء هو الاباحة لا الحظر ولا الوقف.

ومع ان الاصوليين من الامامية كانوا يتصورون ان بسعة العقل ان يحكم على القضايا التي ليس لها شاهد من نص، سواء كان الحكم جارياً وفق البراءة الاصلية او بحسب الاشتغال والاحتياط، الا ان المتأخرين منهم - منذ الوحيد البهبهاني - ادركوا ان هذه القواعد عبارة عن وظائف عقلية عملية لا تحدد حقيقة الحكم الشرعي، بل تعمل على افراغ وابراء الذمة فحسب، وقد أُطلق عليها (الاصول العملية) (44). وبالتالي فقد اصبحت القضية العقلية المستقلة هي تلك التي تندرج فقط ضمن ما يعرف بالحسن والقبح، او الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع. ويتفرع عن هذه القضية القاعدة التي تقر قبح العقاب بلا بيان، والتي اعتمد عليها اغلب الاصوليين، حيث لا يُعقل ان يعاقب الله المكلَّف على شيء لا يعلمه، وان هذه القاعدة راكزة في الوجدان العقلائي، حيث ان الناس لا يؤاخذون بعضهم الا في حدود ما يسعهم من العلم، وبغير ذلك يكون العقاب قبيحاً. الامر الذي يتسق ومنطق الحق الذاتي.

واذا عدنا الى الاتجاهات الثلاثة السابقة نجد انها تتعارض في ادلتها العقلية. ورغم ان هناك اتساقاً بين منطق الحق الذاتي وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فان السجال الذي دار بين هذه الاتجاهات لم يكن معنياً بهذه النقطة الجوهرية. فمن النقاط التي سجلها المذهب القائل بالوقف والحظر ازاء الانتفاع بالاشياء ما لم يرد في ذلك نص، هو انه قد ثبت في العقول ان الاقدام على ما لا يأمن المكلَّف كونه قبيحاً هو مثل اقدامه على ما يعلم بقبحه، وذلك ضمن قاعدة دفع الضرر المعلوم والمظنون عن النفس. في حين اجاب المذهب القائل بالحلية بان المكلَّف يمكن ان يأمن من قبح الانتفاع بالاشياء لان هذا القبح لا يكون الا من حيث ان فيها مفسدة، واذا كان فيها مفسدة وجب على المولى تعالى اعلام المكلَّف بها، والا قبح التكليف، فما لم يعلمه بها لدلّ على ان الانتفاع حسن لا قبيح، الامر الذي يلزم عنه الاباحة. لكن قيل في الجواب عن ذلك انه لا يمتنع ان تتعلق المصلحة بشك المكلَّف والمفسدة باعلامه جهة الفعل على التفصيل، لذا يقبح الاعلام، وتكون المصلحة في الوقف والشك في الحكم (45).

على ان ما اجاب به اصحاب القول بالحلية ليس صحيحاً، وبه ينسحب الرد الذي قدمه القائلون بالوقف، ذلك ان عدم إعلام المولى للمكلَّف بمفسدة الشيء المتردد حوله لا يستنتج منه الحسن ولا القبح، بل ما يعنيه هو عدم جواز المؤاخذة على فعل الانتفاع به عقلاً ونصاً. فالعقل هنا لا يشرع الحكم في الشيء إن كان حلالاً او حراماً، حسناً او قبيحاً، بل يشرع فقط في ابراء الذمة كما ذهب الى ذلك البهبهاني واتباعه المتأخرون. وهذا يعني ان الاقدام على القبيح دون العلم بقبحه ليس قبيحاً، وبالتالي فمن الناحية التكليفية لا يلزم عنه الحظر والاحتياط. فبحسب منطق الحق الذاتي ان من الواجبات التي تتعلق بالمكلِّف إعلام المكلفين، اذ لا مانع منه، بما في ذلك الاعلام بالوقف والحظر والاحتياط، ودونه يسقط التكليف. وسبب ذلك هو ان عدم الإعلام يجعل المكلِّف مخلاً بواجبه، مثلما يلاحظ في الشاهد الدال على الغائب، فالسيد لا يعاقب العبد على عدم اتيانه بشيء ما لم يعلمه بذلك، والامر يصدق في الغائب ايضاً، رغم ان الاشياء تظل على حالها بما تتضمنه من مصلحة ومفسدة، او حسن وقبح، فكل ذلك لا يفي ببلوغ التكليف ما لم يشترط فيه الإعلام.

هذا اذا كنّا نفكر ضمن دائرة الحق الذاتي، أما ذا كنّا نفكر ضمن اعتبارات حق الملكية فالامر يختلف. لذلك نجد التناقض واضحاً لدى من ينتمي الى دائرة الحق الذاتي وهو يقول بالحظر والاحتياط، وكأنه يجمع بين الاعتبارات المتناقضة لدى كل من الحق الذاتي وحق الملكية. ومن ذلك ما تبناه المفكر الصدر من مسلك اطلق عليه (حق الطاعة)، حيث ذهب الى نفس الاتجاه القائل بالحظر والاحتياط ضمن الاتجاهات الثلاثة السابقة. وقد استدل بمثل ما استدل به اتجاه الحظر القديم، حيث عوّل على الحظر باعتبار انه لا يجوز استخدام ما هو عائد الى ملكية الغير الا باذنه، وذلك مثل علمنا بقبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد (46). كما استدل بدليل اخر سبق ان عوّل عليه القدماء ممن ذهب الى الحظر والوقف، وهو عدم الامان من الوقوع في الضرر لاي شيء جديد يراد منه الانتفاع، حيث ان التحرز من المضار واجب في العقول، واذا كان ذلك واجباً لم يحسن الإقدام عليه، كإن يحتمل ان يكون الشيء المنتفع به ضاراً لا نافعاً، حيث لا يُعلم إن كان سماً - مثلاً - او غذاء. وقد ناقش القدماء من الاتجاه الانف الذكر اولئك الذين عولوا على التجربة في معرفة النافع من الضار، وذلك من خلال العرض على الحيوانات، فمنعوا هكذا تجربة واعتبروها غير كافية لتحصيل العلم، وذلك لان من الاشياء ما ينفع الحيوان ويكون له غذاء، مع انه قد يكون للانسان سماً، فمثلاً ان الظب تأكل شحم الحنظل وتغتذي به، في حين لو اكله الانسان لهلك في الحال، وكذا تأكل النعامة النار وتستمرئها (47)، ولو اكل ابن ادم ذلك لهلك في الحال، وايضاً فان الفأرة تأكل البيش وتعيش عليه (48)، ورائحة ذلك تقتل الانسان (49).

والواقع ان مسلك المفكر الصدر في حق الطاعة، وقبله مسلك القائلين بالحظر وفق الملكية، انما يتجه نحو الجهة التي عليها الاشاعرة في تبنيها منطق حق الملكية. فعلى الرغم من انه يعترف بمبدأ الحسن والقبح العقليين، الا انه يستبعد في الوقت ذاته قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكنه لا يعزل العقل بذلك عن التشريع طالما انه يفتي بلزوم الاحتياط واعطاء الطاعة حقها، وذلك بخلاف ما افضت اليه الاشاعرة من ابطال العقل في التشريع بمنطق العقل ذاته. على ان التبرير الموظف لدى الصدر في بعض اقسامه يشابه التبرير المستخدم لدى الاشاعرة، وهو ان لله ملكية مطلقة تفترض حق الطاعة التامة، حتى في موارد المحتملات والموهومات. فالاشاعرة يجعلون الحق مطلقاً لله ويتوقفون عن التشريع في الاحكام عقلاً ما لم تأذن بذلك البيانات الشرعية الصادرة عن المالك المطلق. وقريب من ذلك فعل الصدر، ذلك انه أقر من حيث الواقع العرفي بصدق قاعدة قبح العقاب بلا بيان حسب النظرة العقلائية، الا انه رأى وجود الفارق بين الشاهد والغائب، وهو ان الله مالك حقيقي، مثلما انه منعم حقيقي، وذلك يجعل من مولويته مولوية حقيقية تختلف عما حاصل في الشاهد الخاص بالواقع العرفي، وهذا ما يعطيه الحق في معاقبة المكلَّف لعدم احترازه في الامر، وإنْ لم يرد عنه البيان، فللمالك الحقيقي مطلق الحق في الطاعة حتى في موارد القضايا المحتملة والموهومة، وكما يقول: >هكذا يتخلص انه لا اساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موجب للذهاب الى البراءة العقلية في الشبهات، بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط فيها جميعاً، لان حق اطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز اذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق المذكور. ومن هنا يكون الاصل الاولي في الشبهات هو الاحتياط ولا نخرج عنه الا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الامارات او الاصول الشرعية< (50). ويقول ايضاً: >المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم او ملاك الخالقية او المالكية< (51). وهذا الامر ينطبق حتى على المشكوكات والمحتملات من التكاليف، بل ويمتد حتى الى التكاليف الموهومة، وذلك لسعة مولوية المولى الحقيقي (52). كما انه ينطبق حتى على الشبهات الموضوعية، وان كان مسلك حق الطاعة محكوم لادلة البراءة الشرعية، حيث يحكم العقل بالاحتياط ما لم يرد ترخيص شرعي (53).

والتشابه بين موقف الصدر وموقف الاشاعرة واضح تماماً، مع وجود بعض الفوارق، فالاول يستند الى مبرر الملكية المطلقة لافتراض منطق حق الطاعة، كما ويبرر هذا المنطق بحجة عقلية، وكذا ان الاشاعرة تستند الى مبرر تلك الملكية لافتراض منطق ما يريده الحق على نحو مطلق من غير قيود، كما تبرر ذلك بحجة عقلية، وهي ان الله منفرد في ملكه وخلقه، الامر الذي يختلف فيه الحال عن الشاهد، وذلك لافتقاره الى الانفراد والملكية الحقيقية، وهو نفس التبرير العقلي الذي لجأ اليه المفكر الصدر. لكن مورد الاختلاف بينهما هو ان ما يناسب منطق الاشاعرة هو القول بالوقف، بمعنى ان العقل لا يشرع شيئاً سواء كان ذلك على نحو البراءة الاصلية او الاحتياط، في حين ان العقل لدى مسلك حق الطاعة يتلبس بالتشريع الفعلي، وهو حكمه باشغال الذمة ولزوم الاحتياط.

على ان القول بالمولوية وحق الطاعة حتى في المحتملات والموهومات يثير عدداً من المشاكل على صعيد كل من المكلِّف والمكلَّف. فما يخص الاول ان جعل التكليف في تلك القضايا يفترض اخفاءه على المكلَّف، مما يفضي الى منطق ما يسمى (المصالح الخفية)، حيث يفترض ان هذا الاخفاء جاء لوجود مصلحة خفية اقتضت اخفاء التكليف على المكلَّف ومحاسبته على تركه. وهو امر غير معقول، بل ولا يقبل على الصعيد الاخلاقي وفقاً لمنطق الحق الذاتي. فعلى الاقل كيف يمكن تصور هذه المصلحة الخفية التي تبرر للمكلِّف عدم الإعلام، بما في ذلك اخفاءه الاشارة الى الزام الاحتياط واشغال الذمة. وقد جاء في قوله تعالى: ((رسلاً مبشرين ومنذرين لئِلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً)) (النساء 165)، حيث المعنى واضح من ان الحجة لا تتم على الخلق، بل يحصل العكس، ما لم يتحقق الإعلام والبلاغ، وهو ما تقدمه الرسل. أما ما يخص المكلَّف فلنتصور كيف يكون حال من لم يصل اليه التشريع الديني كأهل الفترة، كيف يمكنه التصرف وسط ما لا يتناهى من المحتملات الممكنة للتكليف؟! فحيث انه لم تبلغه الحجة الشرعية فان ذلك يجعله وسط ما لا يتناهى من امكانات العمل المحتملة، وهو ما يؤدي به الى ان يكون عاجزاً عن فعل شيء، وبالتالي يصدق عليه التكليف بما لا يطاق، وهو غير معقول ومقبول بحسب منطق الحق الذاتي.

ثالثاً:

مر علينا سابقاً ان الاعتبارات العقلية توجب ان يتوقف قبول الدليل اللفظي على نفي المعارض العقلي. فبدون الاخذ بهذه النتيجة يفضي الامر الى نوع من التناقض وعدم الاتساق، ذلك ان ما يُؤذَن للعقل في اثبات المسألة الدينية يُؤذَن له الشيء نفسه في الامور الاخرى، ومنها تلك التي تتعلق بقضايا فهم النص الديني. وبعبارة اخرى، ان من التناقض ان تقبل الاعتبارات العقلية في تأسيس الخطاب من الخارج، وتمنع في الوقت ذاته من تأسيسه من الداخل.

فهذا هو عذر الدائرة العقلية لممارسة وظيفتها في فهم النص الديني. والقاعدة التي اعتمدتها بهذا الشأن هي ملاحظة ما يتقرر لدى العقل من اعتبارات (الامكان والاستحالة). فكل شيء يراه العقل في النص ممكناً فهو مقبول، وكل شيء يراه مستحيلاً فإما ان يتم طرحه او يمارس في حقه التأويل.

لكن المشكلة هي ان العقل ذاته يحمل اعتبارات متضادة ومتناقضة، فما يكون لدى بعض الاعتبارات ممكناً، يكون ذاته لدى اعتبار اخر مستحيلاً. فالاعتبارات التي يعول عليها منطق الحق الذاتي هي غيرها تلك التي يعول عليها منطق حق الملكية. والامر لا يتوقف عند حدود التباين والاختلاف بين هذين النوعين للاعتبارات، بل يصل الحد الى التضاد والتناقض في تطبيق تلك القاعدة العقلية الخاصة بـ (الامكان والاستحالة). فالكثير من قضايا النص التي يفهمها المنطق الاول على انها مستحيلة؛ يراها المنطق الثاني ممكنة، والعكس بالعكس. وبعبارة اخرى، ان ما يراه احد المنطقين من وجود المعارض العقلي للدليل اللفظي بحسب اعتباراته الخاصة؛ لا يراه الاخر تبعاً لاعتباراته الخاصة ايضاً. وهكذا فان العقل يتناقض بتناقض اعتباراته، ومنه ينشأ التناقض في القانون الكلي للمعارض العقلي (ترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي)، ومن ثم التناقض في فهم النص الديني.

ومن الشواهد على ذلك التناقض الحاصل في فهم النصوص المتعلقة بقضايا الصفات الالهية ومنها رؤية الله وكلامه. فمثلاً ان المعتزلة والزيدية والامامية الاثنى عشرية يحيلون الرؤية، ويعدونها دالة على الجسمية، بينما يذهب الاشاعرة الى تجويزها، اذ ان مصحح الرؤية عندهم هو كون الشيء موجوداً (54)، مع انه من الناحية المنطقية ان طبيعة الموجود قد لا تقبل الرؤية والادراك، اي ان الوجود لا يدل بالضرورة على الوجدان. على ان مثل هذه الاعتبارات العقلية المتعارضة دفعت كلاً من الاتجاهين الى تأويل النصوص التي تتعارض معه، اذ قام الاول بتأويل النص القرآني: ((وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة)) القيامة 22، واعتبره من المتشابهات بخلاف نصوص اخرى عدّها من المحكمات وتدل على الغرض، واقواها قوله تعالى: ((لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار)) الانعام 103، وكذا اعتبر ان ما يقع ضمن هذه الدلالة قوله تعالى: ((قال ربي ارني انطر اليك، قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين)) الاعراف 143،

كذلك فقد منع الاتجاه الثاني حدوث الكلام الالهي لاعتبارات عقلية تخص اثبات المسألة الدينية كما سبق ان عرضناها، بينما قبله الاول لاعتبارات عقلية اخرى تخص التوحيد كالذي مر معنا . وهذا ما اضطر الاتجاه الثاني الى تأويل الايات المتعلقة بهذا الصدد، والتي ظاهرها يفيد الحدوث لا القدم، ومن ذلك تأويله لنص القرآن: ((ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)) الاعراف 143، حيث ذُكر بان معنى الاية هو ان موسى قد سمع الصفة الحقيقية للكلام الازلي، ولم يسمع شيئاً حادثاً باعتبار ان ذلك من المحالات لدى هذا الاتجاه (55).

على ان التعارض في الاعتبارات العقلية يخل بهدف الدائرة العقلية الخاص بترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي. ذلك انه اذا كانت هذه الاعتبارات متعارضة؛ كيف يمكن ان نجعل منها مرجعاً يُستند اليه في الحكم؟ وكيف يُعتمد عليها في اثبات المسألة الدينية او تأسيس الخطاب من الخارج؟ وما هو نوع العلم والقطع الذي تفضي اليه كما يدعيه اصحابها؟ وبالتالي ما المانع من ان تكون هذه الاعتبارات الموصوفة بالادلة العقلية زائفة وهمية كما يصورها لنا اصحاب الدائرة البيانية؟

اذن لا يمكن قبول القاعدة المنهجية التي يطلقها اصحاب الدائرة العقلية من ضرورة القطع بعدم وجود المعارض العقلي في الدليل اللفظي. وذلك لان هذا المعارض لا يستغني بدوره عن الحاجة الى الفحص والنظر بمنطق اخر مختلف ليُرى ما ذا كان مقبولاً او لا.

واول ما يتبادر الى الذهن بهذا الصدد هو السؤال عن كيف يمكن تحصيل العلم والقطع في القضايا العقلية. فالعبرة ليس بذات الاعتماد على العقل، بل بالوصول الى تلك المرتبة العليا من المعرفة. فلو كان الدليل اللفظي يفضي اليها دون العقل لما كان هناك تردد في ترجيح الاول على الاخير، كالذي يذهب اليه ابن تيمية من اصحاب الدائرة البيانية. وهنا لابد ان نشير الى عدد من الملاحظات تساعد في حل هذه الاشكالية كالاتي:

1ـ لابد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وهو ما لم يكن معروفاً لدى التراث العربي الاسلامي. فما يعتمد على احدهما هو غير ما يعتمد على الاخر، وان القضية المدعمة بالاول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فان القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي اكثر وثوقاً من تلك التي يحظى بها العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فان للدلالة الواقعية اهميتها الخاصة في الكشف المعرفي، كذلك ان للدلالة النصية اهميتها في الكشف عن مضمون الخطاب وبنيته. ويستعان في كلا الحالين بمنطق قرائن الاحتمال والاستقراء.

2ـ انه لابد من تأسيس المعرفة، ومنها تلك التي لها علاقة بتأسيس الخطاب من الخارج والداخل، طبقاً للاعتبارات المشتركة لا الخاصة، اذ كانت المشكلة التي واجهت الدوائر المعرفية في الفكر الديني، ومنها الدائرة العقلية في النظام المعياري، هي انها شيدت انظمتها وفقاً للاعتبارات الخاصة لا العامة، وهذا ما جعلها تلاقي الكثير من المشاكل والاعتراضات، وكان اهمها هو انها تفتقر الى الوثوق المعرفي.

3ـ ان الاعتماد على منطق قرائن الاحتمال والاستقراء في الكشف المعرفي له صفة مزدوجة من حيث السلب والايجاب. ذلك انه من جهة يبعث على الوثوق المعرفي قبال ما يمارس من النشاط الذهني ضمن العقل القبلي. لكنه من جهة اخرى يفضي الى نتائج متواضعة في الكشف عن مضامين الخطاب، وبالتحديد انه فعال في تحصيل العلم والقطع في القضايا المجملة من هذا الفهم دون التفاصيل، ومن ذلك ما يتعلق بمقاصد الخطاب واهدافه، وهو امر بحثناه في كتابنا (فهم الدين والواقع).

4ـ اذا كان من الممكن تحصيل العلم والقطع في الدليل اللفظي، فذلك يعني حصر المعرفة بحدود ما يدل عليه معنى الخطاب، اي انه لا يدل في حد ذاته، وبغض النظر عن اي اعتبار اخر، على كشف الحقيقة الخارجية للواقع والوجود، وذلك بخلاف ما هو الحال مع العقل، بما فيه العقل القبلي، حيث يفترض فيه عند القطع ان يكون كاشفاً عن تلك الحقيقة، وفي حالة العقل القبلي لا يحتاج في ذلك الى تأييد الواقع، مثلما هو الحال مع مبدأ السببية العامة وما اليه. وبالتالي فان القول: (ان الدليل اللفظي إن كان قطعياً فهو مرجح على الدليل العقلي) يتضمن عدداً من القضايا كالاتي:

فأولاً ان هذا القول لابد ان يفترض كون الدليل العقلي غير قطعي، وذلك كي لا يحصل التناقض. وثانياً ان المقصود بالترجيح في هذا القول هو فقط ما يراد من معنى الخطاب وليس ما هو كاشف عن حقيقة الموضوع الخارجي للوجود والواقع، وذلك ما لم يُضف الى هذا التضمن اعتبارات اخرى خارجية. واخيراً فانه في حالة الاقرار بقطعية كل من الدليلين اللفظي والعقلي، فمعنى ذلك هو ان كلاً منهما صحيح في ميدانه، حيث المقصود من صحة الدليل اللفظي هو من حيث الاصابة في فهم معناه كما هو، اي من حيث وجود التطابق بين ما هو لذاتنا وما هو في ذاته. أما صحة الدليل العقلي فهي من حيث كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وهذا يفضي بالنتيجة الى كذب الدليل اللفظي وتهافت النص، وذلك عند مقارنته بحقيقة الموضوع الخارجي التي يكشف عنها الدليل العقلي. اذ يصبح الدليل اللفظي في هذه الحالة صحيح من حيث مفهوم النص، لكنه كاذب في كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي.

الهوامش

(1) ان اخر المحاورات التي جرت بين ابي الحسن الاشعري واستاذه ابي علي الجبائي كانت سبباً في الانفصال بينهما ومن ثم الاعلان عن التشريع العقلي الجديد. اذ سأل الشيخ الاشعري استاذه الجبائي قائلاً: ايها الشيخ ما قولك في ثلاثة، مؤمن وكافر وصبي؟ فأجاب الجبائي: المؤمن من اهل الدرجات، والكافر من اهل الهلكات والصبي من اهل النجاة. فقال الاشعري: فان اراد الصبي ان يرقى الى اهل الدرجات هل يمكن؟ اجاب الجبائي: لا، يقال له: ان المؤمن انما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فقال الاشعري: فان قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن. اجاب الجبائي: يقول له الله: كنت اعلم انك لو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وامتك قبل ان تنتهي الى سن التكليف. فرد الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب، علمتَ حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟! فانقطع الجبائي.. (السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، مطبعة عيسى الياس الحلبي وشركاه، الطبعة الاولى، 1384هـ ـ1965م، ج3، ص356).

(2) علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص262 و267.

(3) الغزالي: روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللالي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ ـ1924م، ص155ـ156.

(4) تفصيل ذلك جاء في كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي، تحت الطبع في مؤسسة الانتشار العربي.

(5) قد يعترض البعض على هذا الكلام من حيث اننا لسنا على اطلاع تام بالغيب، ذلك انه حتى لو لم تظهر لنا مضامين هذه القضايا، مثل عدم ظهور الاسباب بالنسبة الى قضية السببية العامة، فان عقولنا تفترضها موجودة، وهذا الامر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. واكبر شاهد على ذلك حركة الالكترون العشوائية في العالم الجزيئي. اذ قد يقال ان لهذه الظاهرة اسبابها المجهولة، مع انه يقال ايضاً ان هذه الحركة تجري من غير اسباب. وهكذا يمكن ان يُكرر هذا القول مع اي ظاهرة لم تتكشف لنا اسبابها. لكن يجاب على ذلك ان بعملية الفحص الاستقرائي والاحصائي يتوضح اكثر فاكثر ان للظواهر اسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وان ذلك يضعف من احتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) - وهي قليلة بطبيعة الحال - لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وامكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، الا انه يبرر اعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.

(6) راجع حول ذلك كتابنا: الاسس المنطقية للاستقراء/ بحث وتعليق، مطبعة نمونة، قم، 1985م، ص ، كذلك: الاستقراء والمنطق الذاتي، القسم الاخير.

(7) عبد الجبار الهمداني: المحيط بالتكليف، تحقيق عمر السيد عزمي واحمد فؤاد الاهواني، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والانباء والنشر، ج1، ص234. ولاحظ ايضاً: ابو جعفر الطوسي: العدة في اصول الفقه، تحقيق محمد رضا الانصاري القمي، مطبعة ستارة، قم، الطبعة الاولى، 1417هـ، ج2، ص759.

(8) محمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، بيروت، 1400هـ ـ1980م، ص293ـ295. واصول الفقه، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1410هـ ـ1990م، ج1، ص195ـ196.

(9) اصول الفقه، ج1، ص201.

(10) اصول الفقه، ج1، ص197.

(11) قد يقال اننا حتى مع هذه القضايا البسيطة لا يمكننا الحكم عليها بالتماثل المطلق، وذلك اننا لسنا على علم دقيق وكامل باوزانها واحجامها، حيث مهما حسبنا الوزن والحجم فيظل هناك بعض الفوارق التي تخص الحسابات الجزيئية الدقيقة، مثل عدم العلم بعدد ذراتها واوزانها وما اليها..

والجواب على ذلك يأتي بوجهين: احدهما ان الاختلاف بين الاشياء التي نعدها متماثلة هو اختلاف ضئيل للغاية فإما ان يهمل، او انه لا يؤثر شيئاً عن كون القضية العقلية ثابتة في الحدود النسبية للقيمة الاحتمالية المستنتجة عن التماثل النسبي. وبعبارة اخرى تصبح القضية العقلية ذات قيمة احتمالية محددة تحديداً مرناً بعض الشيء لما تتضمنه من حدود الاختلاف الضئيل، وبالتالي يمكن اضافة اليها قيمة ضئيلة تُقدر من الجهتين ارتفاعاً وانخفاضاً. والقيمة الاخيرة هي تعبير عن جهلنا بدقة الاختلاف الحاصل، وتصبح القضية الاخيرة غير عقلية باعتبار تلك الاضافة المقدرة. فمثلاً من الناحية التقريبية ان قيمة احتمال ظهور وجه واحد من وجهي قطعة نقد متماثل بقدر عال جداً تساوي نصفاً مع اخذ اعتبار الهامش الضئيل في الاضافة، ولنفرض انه لا يقل عن واحد من الف، فتكون القيمة الاحتمالية التقريبية نصفاً مع زائد ناقص واحد من الف.

اما الجواب الاخر، فالملاحظ ان هذه المشكلة هي مشكلة عملية اكثر منها نظرية، وذلك انه يمكن تطبيق القضية العقلية بشروطها على نموذج لا يخضع الى مثل تلك الاعتبارات من الوزن والحجم. فمثلاً لو كانت لدينا خمس اوراق متشابهة ومرقمة من واحد الى خمسة، وقد اُلقيت مصفوفة افقياً دون ان تُرى الارقام فيها، فان ذلك سيجعل من قيمة احتمال ان نعرف اي رقم منها قيمة ثابتة عقلياً، وهي واحد من خمسة.

(12) المحيط بالتكليف، ج1، ص384 و402.

(13) المحيط بالتكليف، ج1، ص391.

(14) المحيط بالتكليف، ج1، ص102.

(15) المحيط بالتكليف، ج1، ص384.

(16) الهمداني: شرح الاصول الخمسة، تعليق الامام احمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثالثة، 1416هـ ـ1996م، ص389ـ390. والمحيط بالتكليف، ج1، ص382.

(17) المحيط بالتكليف، ج1، ص382.

(18) المحيط بالتكليف، ج1، ص402.

(19) شرح الاصول الخمسة، ط3، ص51 و90.

(20) المحيط بالتكليف، ج1، ص383.

(21) شرح الاصول الخمسة، ص571.

(22) لويس غرديه وج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني، تعريب صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الاولى، 1967م، ج3، ص214ـ215.

(23) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة ، دار دانية ، بيروت ـ دمشق، ص29 و32.

(24) المفيد: اوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص129 و130.

(25) عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أُصول الفقه، وهو مطبوع في ذيل كتاب (المستصفى من علم الأُصول للغزالي)، ج1، ص24.

(26) فلسفة الفكر الديني، ج3، ص107ـ109. عن: المواقف، ج1، ص102 و248.

(27) الباقلاني: الانصاف في ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، ط2، 1963م، ص14.

(28) الغزالي: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الاولى، 1994م، ص197ـ199.

(29) تهافت الفلاسفة، ص238.

(30) لاحظ : محمد حسن المظفر: دلائل الصدق، دار المعلم للطباعة، القاهرة، الطبعة الاولى، 1396هـ ـ1976م، ج1، ص175ـ180 ، وابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص519ـ523.

(31) محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للاصول، مكتبة النجاح في طهران، الطبعة الثانية، ص41ـ43.

(32) فلسفة الفكر الديني، ج3، ص214ـ215.

(33) دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام، ترجمه وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة، الطبعة الرابعة، 1377هـ ـ1957م، ص118.

(34) ابو حامد الغزالي: المستصفى من علم الاصول، المطبعة الأميرية، مصر، ط1، 1322هـ، ج1، ص100 و217ـ218.

(35) اصول الفقه، ج2، ص 209.

(36) رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف احمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج1، ص20.

(37) رسائل المرتضى، ج2، ص127.

(38) محمد حسين كاشف الغطاء: أصل الشيعة واصولها، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، ط6، ص126.

(39) الرسائل، ج2، ص372ـ373.

(40) ابو جعفر الطوسي: عدة الاصول، طبعة قديمة، ص296 وما بعدها. ومحمد امين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية بتبريز، ص233 وما بعدها.

(41) ومن ذلك قوله: >الكلام في الحظر والاباحة فعندنا وعند اكثر من خالفنا طريقه العقل< ( عدة الاصول، ج1، ص41).

(42) العدة، ص301. والفوائد المدنية، ص238ـ239.

(43) العدة، ص296. والمفيد: تصحيح اعتقادات الامامية، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص143.

(44) محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقرير ابحاث السيد محمد باقر الصدر، المجمع العلمي للامام الصدر، ط1، 1405هـ، ج5، ص11.

(45) العدة ص296. والفوائد المدنية ، ص233ـ234.

(46) العدة ص297. والفوائد المدنية، ص235.

(47) قيل ان من عجائب النعامة انها تبتلع الجمر فيكون جوفها العامل في اطفائه فتغتذي به وتستمرئه. وهي ايضاً تبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. وقيل ايضاً انه اذا حميت صنجة مائة درهم من الحديد حتى تحمر ورميت اليها فانها تبتلعها وتستمرئها (محمد بن موسى الدميري: حياة الحيوان الكبرى، منشورات الرضي، قم، الطبعة الثانية، 1368هـ ـش، ج2، ص362ـ363. كما لاحظ خلف هذا الكتاب: زكريا بن محمد القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص286).

(48) البيش هو نبات عشبي معمر وسام قاتل يعيش في المناطق الجبلية، ويستعمل في الطب كدواء لعلاج التشنج (المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، الطبعة الخامسة والثلاثون، 1996م، مادة بيش). وقيل عنه انه نبات بارض الصين يؤكل في تلك البلاد وهو اخضر، فاذا يبس كان قوتاً لاهل الصين دون ان يضرهم منه شيئاً، لكن لو بعد عن هذه البلاد ولو مائة ذراع واكله آكل لمات من ساعته (حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص573).

(49) عدة الاصول ، طبعة قديمة، ص301ـ302، والطبعة المحققة الحديثة، ج2، ص750ـ751. والفوائد المدنية، ص239ـ240.

(50) بحوث في علم الاصول، ج5، ص28ـ29.

(51) بحوث في علم الاصول، ج5، ص42. كذلك: محمد باقر الصدر: دروس في علم الاصول، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط4، 7141هـ، ج3، ص35 وما بعدها.

(52) بحوث في علم الاصول، ج5، ص24.

(53) بحوث في علم الاصول، ج5، ص79.

(54) لاحظ رأي الاشاعرة في كل من: ابو الحسن الاشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص67ـ68. والباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص266. والجويني: لمع الأدلة، تقديم وتحقيق فوقية حسين محمود، الدار المصرية، الطبعة الاولى، 1385هـ ـ1965م، ص101. والغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، بيروت، 1388هـ ـ1969م، ص107.

(55) الفخر الرازي: التفسير الكبير، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج14، ص228.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار