نظرية ايجاد العالم عند الفلاسفة والعرفاء

يحيى محمد

في النظام الوجودي للفلاسفة والعرفاء المسلمين ان العلاقة التي تنشأ بين الذات الالهية وسائر الموجودات التي دونها، هي علاقة محكومة بالتراتب، فالتنزيل الحاصل عن الذات هو تنزيل تراتبي، بحيث تبدأ المراتب بالعقل المفارق الكلي وتنتهي بالجسم، وان كل مرتبة من هذه المراتب تعكس ما فوقها، الامر الذي ينعكس على طبيعة ما عليه الالوهة، حيث تتصف بكونها الوهة تراتبية، وهو ما ينتج عنه تكثر الالوهة وتعددها بتعدد توابعها. ومن ذلك يكون العالم السفلي مألوهاً في تبعيته الى عالم الاجرام السماوية. فالالوهة على هذا هي نتاج التنزيل، لكنها في الوقت ذاته تتحقق بالتصعيد، وذلك بحكم العودة والتبعية.

وبحسب هذا النظام انه لابد من تفسير كيف تمت الرابطة بين مبدأ الوجود الاول وما دونه من الموجودات، حيث ان الاول واحد، في حين ان غيره متكثر. والفلاسفة يرون انه لابد اولاً من صدور الواحد عن الواحد، وان الكثرة تأتي فيما بعد، تعويلاً على منطق السنخية، اذ لابد ان يكون الصدور متفقاً في العدد والكيفية بين الاصل وفرعه، او العلة والمعلول، فالاصل اذا كان واحداً فان ما ينتج عنه لابد ان يكون واحداً هو الاخر. وكذا من حيث الكيفية، فلما كان المبدأ الاول هو محض عقل فلابد ان يكون الصادر عنه عقلاً ايضاً، ومن هذا الاخير تتوالى العقول والمفارقات المجردة، وهي على بساطتها لكنها لا تخلو من كثرة. وحيث ان بعضها يكون علة للبعض الآخر، لذا فالعلة تكون ابسط من المعلول، او ان الكثرة فيها اقل منه. وعلى رأي الفلاسفة فان كثرة الاجرام السماوية تعود الى كثرة العقول المفارقة، أما الكثرة التي دون الاجرام، اي تلك التي في عالمنا الارضي، فان مبعثها يعود - كما يذكر ابن رشد - الى كل من الهيولى والصورة والاجرام السماوية، حيث ان حركة هذه الاخيرة المتسببة عن تلك العقول تبعث على انشاء الصور التي في عالمنا هذا.

اذن لابد اولاً من دراسة طبيعة المفارقات السماوية واجرامها ونوع الكثرة التي لابستها، كما لابد ان ندرس بعد ذلك طبيعة العالم السفلي ونوع الكثرة فيه. وستكون دراستنا للعالمين وفقاً للنظريتين الفلسفية والعرفانية.

1ــ تنزيل العالم العلوي

لنبدأ اولاً بدراسة العالم العلوي من حيث النظر الفلسفي وذلك تبعاً لنظرية الصدور وانطلاقاً من منطق السنخية في العلاقة الحتمية بين العلة والمعلول، او بين مبدأ الوجود الاول وبين غيره من المعلولات الصادرة عنه، وذلك كالاتي..

التنزيل وفق النظر الفلسفي

يمكن التحدث عن التنزيل الوجودي وفقاً للنظر الفلسفي من خلال البحث الذي يرد حول نظرية الصدور، وذلك كما يأتي:

لا شك ان نظرية الصدور موغلة في القدم، حيث تعود الى ما قبل ارسطو. ورغم ان القدماء اتفقوا مبدئياً على ان اصل الوجود واحد وانه ينبغي ان لا يصدر عنه غير واحد، الا انهم واجهوا مشكلة هي تبرير حالة الكثرة في الوجود، وكذا حالة التغير وعدم الثبات، حيث المفترض انه لما كان المبدأ الحق واحداً فان الوجود الصادر عنه لا يتعدد. وكذا لما كان المبدأ الحق ثابتاً فانه يلزم عن ذلك ان يكون الوجود الصادر عنه ثابتاً ايضاً. في حين نلاحظ ان الوجود متكثر وليس بواحد، كما انه متغير وليس بثابت، ناهيك عن ان فيه الاجسام والمواد المنحلة بخلاف طبيعة العالم الالهي الذي هو عالم عقلي مفارق. فكيف يمكن تبرير هذه الامور؟

لقد اخذ الفلاسفة يفتشون عن المبررات التي تجعل نظرية الصدور صالحة في التوفيق بين الوحدة والكثرة، وكذا بين الثابت والمتغير. فالمشكل المطروح لدى هؤلاء هو البحث عن مبرر نشوء الكثرة عن الواحد البسيط، وكذا المتغير عن الثابت، وذلك انطلاقاً من منطق السنخية ونظرية الصدور. ويلاحظ انهم اختلفوا قديماً في تفسير مجيء الكثرة، فبعضهم ردّ الكثرة الى فعل الهيولى، كما هو الحال مع انكساغورس واتباعه، وبعض اخر اعتبرها جاءت بسبب كثرة الآلات، كما ان اخرين قالوا انها جاءت من قبل المتوسطات، مثلما هو الحال مع افلاطون. والحل الاخير هو اقرب شيء الى الاخذ بالقاعدة الفلسفية المسماة بنظرية الامكان الاشرف، والتي اولاها القدماء اهتماماً خاصاً، وهي تعني ان كل ناقص لابد ان يسبقه من هو اكمل منه في الوجود، ومن المحال ان يصدر الناقص قبل الكامل، لكن عن الاشرف او الاكمل يصدر الانقص فالانقص، وبذا تتوالى مراتب الوجود بالتسلسل من اولها رتبة كما تتمثل بالمبدأ الحق، الى اخر المراتب الوجودية. ولا شك ان هذا التصور مستمد من منطق السنخية في علاقة العلة بالمعلول، لذلك تصور الفلاسفة ان هناك عقلاً اولاً، هو مبدأ الوجود الاول، عنه نتج عقلاً معلولاً هو المعلول الاول، ومن بعده المعلول الثاني، ثم الثالث فالرابع فالخامس... الخ. كما نتج عن هذه العقول جملة من الافلاك المتحركة. وقد اختلف الفلاسفة بشأن مبدأ الوجود الاول إن كان قد صدر عنه فلك يقوم بتحريكه ام لا؟ فالنظرية الارسطية التي ايدها ابن رشد تعترف بذلك، في حين ذهب سائر الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا الى إحالة هذا الامر تبعاً لمنطق نظرية الصدور ذاتها، باعتبار ان ما يصدر عن المبدأ الحق لابد ان يكون واحداً من سنخه، وهو ما اطلق عليه (العقل الاول)، حيث انه واحد، وهو عقل شبيه بالمبدأ الحق. بينما بحسب النظرية الارسطية ان ما يصدر عن المبدأ الحق يكون اكثر من واحد، حيث يصدر عنه عقل كما يصدر عنه فلك يقوم بتحريكه. كذلك اختلف الفلاسفة حول تحديد عدد المفارقات العقلية، وذلك اعتماداً على تحديدهم لعدد الحركات الفلكية، باعتبار ان لكل مفارق عقلي - بعد المبدأ الحق - فلكه الخاص الذي يُنشئه ويحركه ويكون له الغاية في التحريك، وارسطو ذاته لا يقطع في المسألة، ويميل الى انها إما خمس وخمسين او سبع واربعين حركة، اعتماداً على بعض الاقوال المشهورة لعدد من فلكيي عصره. أما الفلاسفة المسلمون فاغلبهم جعل هذه الحركات لا تتجاوز العشر.

مع هذا فقد اتفق الفلاسفة على ان ارتباط المفارقات العقلية بمبدأ الوجود الحق هو ارتباط واحد قائم على نظام التسلسل بالطبع والكمال، وكذا ان الاجرام السماوية واحدة من حيث النوع لكنها كثيرة بالعدد، او ان كل جرم من هذه الاجرام هو نوع بحاله حيث لا يوجد غيره مما يماثله، لكنها جميعاً لها خصائص مشتركة يجعلها تنتمي الى نوع واحد. وكذا ان مبادئها المفارقة تأخذ نفس هذا الاعتبار من حيث الوحدة والكثرة. فجميع المفارقات التي تصدر عن المبدأ الحق هي جواهر محركة للافلاك، حيث كل واحد منها يعد مبدءاً لتحريك فلكه الخاص، كما يعد غاية هذا التحريك بالشوق والتشبه على ما سنعرف. يظل الاختلاف بخصوص المبدأ الحق الذي جعل منه ارسطو مبدءاً لتحريك الفلك الاقصى ومن ثم تحريك كل ما تحته من الاجرام، وبالتالي فان جميع المفارقات عنده بما فيها المبدأ الحق لها خصوصية التحريك المباشر للافلاك، ومن وجهة نظره انه لا يوجد هناك جواهر خالية من فعل التحريك، الامر الذي يخالفه الفلاسفة المسلمون اذا ما استثنينا ابن رشد.

والسبب الذي جعل هؤلاء الفلاسفة يخالفون طريقة ارسطو في عدم تقبلهم لأن يكون المبدأ الحق هو الفاعل المباشر في انشاء الاجرام السماوية او تحريكها؛ انما يعود لاعتبارين: احدهما انه لابد ان يكون الفعل المباشر عنه من سنخه وهو العقل، وكذا ان لا يكون هناك تعدد في جهات الصدور والتأثير، فمن حيث انه واحد بسيط كل البساطة فانه لا يحمل الا جهة واحدة يتم بفعلها صدور الواحد عنه، بخلاف ما قام به ارسطو في جعله مبدءاً لجهتين مختلفتين في الصدور والتأثير، احداهما هو انه قد صدر عنه عقل، أما الاخرى فهو انه مبدأ لتحريك الفلك الاقصى. مع ان هذا بنظرهم يقتضي التكثر في جهات العلاقة العلية مما يفضي الى تكثر العلة ذاتها تبعاً لمنطق السنخية. رغم ان هؤلاء الفلاسفة يرون ان المبدأ الحق ليس عاطلاً عند عدم تحريكه المباشر للاجرام مثلما صوره الارسطيون، بل هو اصل يدين له كل شيء بالوجود، وغاية يتوجه اليه كل شيء؛ فهو فاعل ومحرك وغاية، ولكن عبر الوسائط وضرورة تنزلات الوجود تبعاً لقاعدة (الإمكان الأشرف).

هكذا ان نظرية الفلاسفة المسلمين تخشى ان ترد مصدر الكثرة الى المبدأ الاول، الامر الذي جعلها تعول على المعلول المباشر لهذا المبدأ في تفسير نشوء الكثرة، وهو المعلول الذي تطلق عليه (العقل الاول). حيث جاء اغلب تبريرها لهذه الكثرة من خلال منطق (الاعتبارات العدمية) التي قيل فيها انه لولاها لبطلت الحكمة. الا ان هذه الاعتبارات لم تكن موضع اتفاق بين هؤلاء الفلاسفة. فهناك الاعتبارات الثنائية التي وردت عن الفارابي، حيث تبرير الكثرة جاء تبعاً لكون العقل الاول هو ممكن وواجب في الوقت ذاته، اي انه ممكن بذاته وواجب بغيره، وبالتالي فان له اعتبارين، احدهما كونه ممكناً بحسب ذاته، واخر انه واجب بفعل المبدأ الحق، وانه على هذا الاساس له تعقلان من جهتين، إذ يعقل ذاته ويعقل مبدأه، ومن خلال تعقله يصدر عنه ما يناسب كل ادراك، فتعقله لعلته يوجب صدور معلول عنه هو العقل الثاني، وتعقله لذاته يوجب صدور فلك عنه. وهذا الاختلاف في نوع الصدور تقوم فلسفته على طبيعة الاصل الذي يعود اليه موضوع التعقل، فحيث ان المبدأ الحق هو واجب الوجود لذا فان تعقله يوجب صدور واجب على سنخه، وبالتالي لابد ان يكون عقلاً يتصف بالوجوب والثبات من غير امكان فعلاً، وهو العقل الثاني. كذلك فان العقل الاول لما كان ممكن الوجود بحسب ذاته، فان تعقله يوجب صدور عنصر يحمل نحواً من الامكان، وهو ما يناسب الجسم الفلكي باعتبار ان حركته تنطوي على القوة والامكان بخلاف العقل المتصف بالثبات والفعلية من غير قوة ولا امكان.

على ان اختلاف جهات التعقل لا يقتضي بالضرورة تكثراً في حقيقة المعلول، طالما ان هذه الاعتبارات من الادراك هي اعتبارات عدمية، حيث لا فرق من حيث الحقيقة بين تعقل العقل الاول لمبدئه وتعقله لذاته، وذلك باعتبار ان حقيقة هذا العقل ما هي الا عبارة عن ذات التعلق في عقلها للمبدأ الاول، اذ ان وجودها هو وجود واجب بالغير، وبالتالي فانها من طبيعة (المضاف). اذن لا فرق بين عقل المعلول الاول لمبدئه وعقله لذاته، مثلما يقال عن المبدأ الأول انه يعقل ذاته ويعلم انه علة غيره، وكلاهما واحد وإن اختلف الاعتبار.

مع هذا فان الفارابي لم يتوقف عند حد تقديم تلك الاعتبارات الثنائية، ذلك انه في محل اخر قدم اعتبارات ثلاثية اصبحت رائجة في تفكير من اتى بعده من الفلاسفة وعلى رأسهم الشيخ الرئيس. ذلك انها تضيف اعتباراً ثالثاً مضافاً للاعتبارين الانفي الذكر، وهو كون المعلول ممكناً بذاته واجباً بغيره، حيث بحسب هذا الاعتبار يصدر عنه نفس كلية، فيكون ما يصدر عن المعلول الاول هو عقل وجسم فلكي ونفس، اي ان لهذا الجسم السماوي نفس وعقل. ولا شك ان خيار صدور النفس عن الاعتبار السابق جاء موافقاً لمنطق السنخية، فكما ان صدور العقل مناسب لاعتبار الوجوب، وان صدور الجسم مناسب لاعتبار الامكان، فان صدور النفس يكون مناسباً للجمع بين الاعتبارين: الوجوب والامكان، ذلك ان النفس ليست عقلاً حتى تتصف بالوجوب المحض، وليست جسماً كي تتصف بالامكان، انما هي مرتبة ثالثة بين هاتين المرتبتين، وهي انها واجبة وممكنة.

كذلك هناك طريقة رباعية غرضها تبرير صدور عناصر اربعة. والاعتبارات المذكورة بهذا الشأن هو ان للمعلول وجوداً، وله ماهية، وانه يعلم الاول، وكذلك انه يعلم ذاته. فعن هذه الاعتبارات تنشأ اربعة عناصر وجودية تناسبها، وهي عقل ثان وصورة فلك ومادته ونفسه. وهناك ايضاً طريقة سداسية ذكرها نصير الـدين الـطوسي في شرحه لإشارات إبن سينا. 

كما ان هناك بعض الطرق التي لا تختلف كثيراً عما سبق مع انها عُدّت غير قائمة على منهج الاعتبارات، ومن ذلك طريقة الطوسي التي تفضي الى تكثر المعاليل الى غير نهاية، ويعود اصلها الى السهروردي الذي اعتبر انه يصح ان يصدر عن المبدأ الاول واحد، هو المعلول الاول، كما يصح ان يصدر عن هذا الاخير عنصر ثان، وكذا يمكن ان يصدر عن مجموع المبدأ الاول ومعلوله عنصر ثالث، وبالتالي فانه يكون في المرتبة الثانية عنصران في درجة واحدة، وذلك بخلاف الطرق المألوفة التي لا يمكنها ان تبرر صدور اكثر من واحد من نفس الدرجة في المرتبة الثانية، حيث لا يصدر عن مرتبة المعلول الاول من العقول اكثر من عقل واحد، بخلاف هذه الطريقة التي تبرر صدور عقلين من المرتبة الثانية، انفراداً واجتماعاً، وهكذا يمكن تبرير صدور كثرة العقول في نفس المرتبة وذلك بكثرة الاشراق وتضاعفها بالنزول والوسائط، مما يبرر للسهروردي نظريته الافلاطونية في وجود العقول العرضية ذات الرتبة الواحدة والتي تنشأ عن العقول الطولية. مع هذا فان هذه الطريقة لقيت معارضة لدى بعض المتأخرين، كصدر المتألهين الذي عدّها لا تختلف عن سابقاتها من حيث الخطأ.

والسهروردي في (هياكل النور) نحا منحى شبيهاً بعض الشيء بما قدمه الفارابي من الاعتبارات الثنائية للتكثر، ذلك انه اعتبر ان اول ما يصدر عن المبدأ الحق او نور الانوار هو النور الابداعي الاول المسمى بالعقل الاول، ويتصف هذا العقل بانه ممكن في نفسه وواجب بالنسبة الى المبدأ الحق، وهو من حيث نسبته الى هذا المبدأ ومشاهدة جلاله يقتضي منه صدور جوهر قدسي اخر هو العقل الثاني، كما انه من حيث نظره الى امكانه ونقص ذاته يصدر عنه جرم سماوي، وهكذا هو الحال مع العقل الثاني حيث يقتضي نظره الى ما فوقه عقلاً اخر، ومن حيث نظره الى نقص ذاته يصدر عنه جرم سماوي اخر، وهكذا..

كما ان المحقق الدواني في شرحه لرسالة (هياكل النور) اشار الى ان مصدر التكثر يأتي بواسطة العقل الاول عن طريقين، احدهما باعتبار ما يشرق عليه المبدأ الاول فينتج عن ذلك عقل، وثانيهما هو ان مشاهدة العقل الاول للمبدأ الحق ينتج عنه عقل اخر.

اذن ان منهج الاعتبارات وما شاكله يثير الاختلاف والتعدد في الرؤى، وهو ابعد ما يكون عن النهج الاستدلالي الذي تطالب به الطريقة الفلسفية. ومن حيث كونه عدمياً، فان ما ينتج عنه لا يمكن حصره وضبطه. صحيح انه قد يقال ان الضابط هنا هو ما يتوقف على منطق السنخية، ذلك ان من المهم ان تكون الصادرات على سنخ ما عليه الاعتبارات، كماً وكيفاً. وقد لاحظنا كيف ان نظرية الفارابيين تعد الاعتبارات لا تختلف عدداً عن الصادرات التي يتوقف تبرير صدورها عنها، وكذا من حيث الشكل والكيفية، فصدور العقل يناسب الوجوب، وصدور الجسم يناسب الامكان، كما ان صدور النفس يناسب الاعتبارين من الوجوب والامكان، اذ المعلول يمتلك هذين الاعتبارين، حيث انه واجب بغيره وممكن بذاته.. نعم هذا صحيح لكنه لا يفي بالمطلوب، اذ ما هو الدليل على اتخاذ الوجود هذا الشكل من الاعتبارات العدمية؟ وكيف نحدد عدد الصادرات عندما يسعنا الاخذ باعتبارات مختلفة ومتضاربة؟ فمثلاً لاحظنا ان الاعتبارات التي قدمها الفارابيان هي ليست كالاعتبارات التي قدمها الطوسي او السهروردي، فاي الاعتبارات صحيحة بحيث تجعلنا نسلم بانها كفيلة لاقناعنا بطبيعة الصادرات وعددها؟ فهي من حيث عدميتها لا تقبل الضبط، ولا يمكن الاستدلال على كونها تشكل علة شرطية للايجاد في عالم يفتقر الحس والمشاهدة والتجربة والضرورة العقلية. خاصة ونحن نعلم ان الشروط العدمية لا تحتم المسانخة بينها وبين ما ينتج، فالمشاهدة الحسية قاضية بأن من الممكن ان يكون هناك شرط واحد عدمي كفيل للسماح بايجاد العديد من الامور، وكذا العكس صحيح ايضاً، حيث لا مانع من ان يكون عدد من الشروط العدمية ضرورياً في انتاج شيء واحد.

يظل ان هناك اتجاهات اخرى لم تلجأ الى مثل تلك الطرق السابقة في تبرير صدور الكثرة عن الوحدة، كما هو الحال مع اتجاه ابن رشد الذي عدّ الفاعل الاول فاعلاً مطلقاً غير مقيد، مما يعني ان فعله لا يختص بشيء دون شيء اخر، انما يعم جميع الاشياء على السواء، وذلك باعتبار ان المبدأ الاول لا يخلو من الكثرة الصورية التي لا تتنافى مع وحدته وفرادته باعتبارها كثرة مجملة، وبالتالي فقد صح عنده انه الواحد الكثير. وهو ما يبرر صدور الواحد والكثير في الوقت ذاته، فهو واحد وكثير معاً، وذلك تبعاً لذات المنطق من السنخية، حيث ان المبدأ الاول لما كان واحداً وكثيراً، فان ذلك يدعو لان يصدر عنه واحد يتضمن الكثرة من غير منافاة. وهو ذات التبرير الذي افادته الصوفية، حيث انهم اعتبروا المبدأ الاول واحداً وكثيراً، ومن ذلك تنشأ عنه الوحدة التي تتضمن الكثرة، الامر الذي يتسق مع منطق السنخية وقاعدة الصدور، كما سنعرف.

***

وبخصوص الاستدلال على قاعدة الصدور، يقال انه لو جاز صدور اكثر من واحد عن الواحد البسيط الحقيقي فانه يبعث على التناقض، وذلك باعتبار ان الذات في المبدأ الحق تعد علة واحدة لبساطتها، وهي لكونها علة واحدة فان لها جهة واحدة للعلية، وبالتالي فانه لا يمكن ان يصدر عنها معلولان، والا لتعددت الجهة واصبحت اثنتين وقد فرضناهما واحدة، فاذا كانت احدى الجهتين تمثل ذات المبدأ الحق فان الجهة الاخرى ستكون غيرها، فيحصل التناقض. لكن مع هذا فان الذين يجيزون صدور الكثير عن الواحد لا يعدون المبدأ الحق يحمل تلك البساطة المطلقة التي تخلو من جميع الاعتبارات والتعددات، الى الدرجة التي لا تكون فيها غير الجهة الواحدة التي تبرر صدور الواحد فقط. وبالتالي فان مشكلة الاستدلال على قاعدة الصدور تعتمد على كيفية فهمنا لخصوصية المبدأ الحق وماهية الوحدة فيه.

يضاف الى ان هناك نقداً اخر وهو ان من الممكن الجواب على مقولة كون صدور الكثرة عن الواحد يقتضي كثرة الجهات فيه، وذلك بان يقال انه لو كان الصدور حقيقياً، وذلك باخراج الشيء من الامكان والعدم الى الفعل والوجود عبر الارادة، فان كثرة الجهات مما يقتضيه، لكنه لا يخلّ بوحدة الذات، فحال ذلك كحال الكثرة الصورية في الذات الواحدة. أما لو كان الصدور مجازياً، كالذي عليه الرؤية الفلسفية، وذلك بان يكون الصادر لازماً قديماً بقدم مبدئه، فان كثرته جائزة مع وحدة الذات، اذ يصبح المبدأ الاول مع لوازمه المتعددة على غرار العلاقة الخاصة بالذات الاحدية مع الصفات الذاتية الموجودة بوجودها. وهو امر شبيه بالانسان النفساني على ما صرح به صدر المتألهين؛ فرغم ما له من ابصار وشم وذوق ولمس وسمع فان ذلك لا يقتضي التخالف في الجهات والاوضاع، فكيف الحال مع ذات الحق. لكن مع هذا ان الفلاسفة اضطروا الى اعتبار الصفات الذاتية بعضها عين البعض الاخر كي لا تتكثر اللوازم الموجودة بالوجود الواحد البسيط.. ومن ثم لجأوا الى تطبيق القاعدة على الصفات الاضافية الفعلية المعبر عنها بالصور المفارقة او العقول التي ليست هي من العالم ولا خارجة عن ذاته المقدسة، لانها تمثل صور اسمائه وكلماته التامات وصور علمه التفصيلي بما عداه؛ القديمة بقدمه والثابتة من دون جعل وايجاد، باعتبارها من لوازمه الموجودة بوجوده البسيط، وهي المعبر عنها بالخزائن في قوله تعالى: {وإن من شيء الا عندنا خزائنه}.

***

مهما يكن من امر فان من الثابت لدى النظام الوجودي هو ان هناك ترتيباً خاصاً لسلسلة الوجودات تبعاً لعلاقاتها ضمن قاعدة الصدور، حيث يبدأ الصدور بوجود العقل الاول ومن بعده سلسلة العقول والمفارقات، سواء كان تبرير ذلك من حيث اعتبار المبدأ الاول هو محض الواحد من غير كثرة، او باعتباره واحداً كثيراً، او من حيث ان فعله مطلقاً لا يختص بشيء دون شيء، فكل ذلك لا يتنافى مع سلسلة العقول التراتبية وتفاضلها كالذي اشار اليه صدر المتألهين ومثله ابن رشد. فعندهما ان ما صدر عن المبدأ الاول هو الوجود المطلق المنبسط، لكنه وجود متسلسل ومتراتب بحسب مراتب الامكان والشرف. وعليه رأى الفلاسفة ان المبدأ الحق هو السبب في جميع المبادئ المفارقة، وان الصور التي في هذا المبدأ، وكذا النظام والترتيب الذي فيه، هو افضل مما دونه من الوجودات، بل ان نظامه وترتيبه هو سبب تحقق سائر الانظمة والترتيبات التي دونه تبعاً لمنطق السنخية، وان العقول المفارقة تتفاضل فيما بينها بحسب القرب والبعد عنه. فالموجود الاشرف يجب ان يندرج فيه جميع المعاني المتحققة في الموجود الاخس على وجه الطف واكمل، حيث استحالة ان يتحقق الاخس قبل الاشرف، وذلك لكون كمالات الاخس موجودة في علته الاشرف، فيترتب الوجود على شاكلة الاشرف فالاشرف حتى ينتهي الى ما هو اخس الموجودات كما في الهيولى، ثم يعود بالصعود من الاخس فالاخس حتى يبلغ غايته من الوجود. فليس ذلك بالامر الممكن لولا وجود التشابه بين المراتب الوجودية جميعاً. وبرغم اتفاق الفلاسفة على هذه القاعدة فانها بنظر صدر المتالهين لا تضطرد فيما تحت الكون وفي سلسلة العائدات، بل مفادها ينطبق على الابداعيات فقط.

اذن هناك عقول مفارقة استخلصها الفلاسفة من فكرة نظرية الصدور، وان وجود هذه العقول نابع عن محض التعقل، فهي اشبه بالافكار المتسلسلة التي يبتدعها اعظم العقول. فعند الفلاسفة المشائين ان المبدأ الحق لا يعقل الا ذاته، وهو بعقله لذاته يعقل جميع الموجودات بافضل وجود وترتيب ونظام، وذلك باعتباره كل الاشياء، وهذا التعقل هو في حد ذاته يكون علة لوجود ما تحته ولو من خلال الوسائط، وذلك بعد الصادر الاول المسمى بالعقل الاول، حيث ان سائر العقول المفارقة من العقل الثاني فنازلاً تكون جواهرها بحسب ما تعقله من الصور والترتيب والنظام الذي في العقل الاول، وتفاضلها انما هو تفاضل بحسب هذا المعنى من الادراك والتعقل، وبالتالي فليس يمكن ان يكون الاقل شرفاً يعقل من الاشرف ما يعقل الاشرف من نفسه، ولا الاشرف يعقل نفس ما يعقله الاقل شرفاً من ذاته، وذلك لتفاوت التعقل بين ما هو علة وما هو معلول، او بين ما هو في المرتبة العليا من سلسلة القرب للمبدأ الحق وبين ما هو في المرتبة الدنيا. فلو كان الادراك والتعقل ذا مرتبة واحدة لكان العقلان متحدين لا متعددين، وعليه قال الفلاسفة ان المبدأ الحق لا يعقل الا ذاته، وان الذي يليه انما يعقل الاول ولا يعقل ما دونه، وكذا الحال مع الذي يلي ذلك العقل حتى اخر العقول.

هكذا فان التعقل هو تنزيل، ومن التنزيل تنشأ الالوهة. لكن الامر ينعكس ايضاً، حيث بالتبعية يكون التعقل تصعيداً، ومن التصعيد تتحقق الالوهة، كالذي يحصل مع الانسان على ما سيأتينا بحث ذلك فيما بعد.

***

على ان العالم العلوي ليس مجرد عقول مفارقة فحسب، انما هناك اجرام سماوية لها خصائص الحياة والنفوس وتتحرك تحركاً شوقياً بفعل ما لها من نفوس وعقول، وهي فوق كل ذلك لا تقبل التغير والاستحالة والكون والفساد كالذي نشاهده في عالمنا الارضي. فهي ليست من جنس العناصر ولا من نوعها، ولدى البعض انه منفي عنها ست صفات: الثقل والخفة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وان الاربعة الاولى منها هي من لوازم الحركة المستقيمة. فالأجرام السماوية عند الفلاسفة عبارة عن عالم حيّ بسيط كامل وثابت وبريء من المادة الهيولانية، اي انها ليست مركبة من مادة وصورة كالذي عليه الحال في اجسامنا الطبيعية، بل ان لها جسماً بسيطاً مع صورة نفسية عقلية، وهي بهذه الصورة النفسية العقلية تكون حيّة بذاتها لا بحياة اخرى عارضة عليها من الخارج، وذلك باعتبار ان كل حي بحياة ليست من ذاته فانه يكون كائناً فاسداً. ولدى الفلاسفة ان العقول والنفوس من الابداعيات لا المحدثات، حيث عندهم ان كل محدث فهو ممكن دون عكس، فالعقول ممكنة غير محدثة زماناً. لذلك كانت نفوس الاجرام غير محدثة.

ومع ان الفلاسفة يتفقون على ان لهذه الاجرام محركاتها العقلية، وان لها نفوساً ذات قوى شوقية تتوسط بين الجرم السماوي والمفارق العقلي له، لكنهم يختلفون بشأن كيفية هذا التوسط الذي يعبر عن النفس الجرمية، فهل ان هذه النفس عقلية التصور، ام انها خيالية التصور كالذي يجري في عالمنا؟ وبعبارة اخرى انهم يختلفون حول بعض الحالات النفسية من الحس والتخيل.

فبحسب النظرية الارسطية، فان هذه النفوس لا يمكن ان تتصف بالحس والتخيل مثلما هو الحال في عالمنا البشري والحيواني، اذ على رأيها انه لا توجد وظيفة للخيال غير السلامة من الموت والفساد، وهو امر لا يصدق على عالم الاجرام السماوية التي هي حية وثابتة بذاتها من غير موت ولا فساد ازلاً وابداً. ولدى ابن رشد ان الخيالات هي نتاج تصورنا بالعقل ولذلك كان هذا التصور متجدد الحدوث وبالتالي فانه كائن وفاسد، في حين ان تصور الاجرام السماوية لا يصدق عليه تجدد الحدوث ومن ثم الكون والفساد، وذلك بسبب كونه لا يقترن بالتخيل.

اذن على هذا التصور تكون اسباب الحركة في العالمين (الارضي والسماوي) مختلفة، ففي عالمنا الارضي تتولد الحركة عبر التخيل والشوق، في حين انه في العالم السماوي تأتي عبر التصور العقلي والشوق، اي ان حركة الاجرام السماوية تنبعث من خلال تصوراتها العقلية والشوق المنبعث عن هذه التصورات. فكما ان العلة الفاعلية لحركة هذه الاجرام هي العقول المفارقة المحضة، فكذا ان هذه العقول تكون علتها الغائية، اذ تتحرك الاجرام بما لها من الشوق في نفوسها لكي تتشبه بتلك العقول المفارقة. اذن ان هناك محركين للجرم السماوي؛ أحدهما عقلي مفارق، والاخر نفسي ليس بمفارق، وهو النفس التي في الجرم، حيث تحريكها له يكون بدافع الشوق العقلي والتشبه من غير تخيل.

هذا هو مفاد النظرية الارسطية التي وجدت مخالفة لدى الفارابيين بشأن صفة التخيل. فالفارابـي في رسالة (عيون المسائل) اعتبر ان للجرم السماوي عقلاً مفارقاً، كما ان له نفساً وظيفتها التخيل باتصال واستمرار. وقد كان ابن رشد ينفي أن يكـون أحـد قائـل بوجود صفة التخيل للأجـرام الـسماويـة إلا ابـن سينا. ومبرر هذه الطريقة في اثبات صفة النفس التخيلية هو انها لا ترى ان من الممكن ان تكون هناك رابطة مباشرة بين المفارق العقلي المحض وبين الجسم، سواء كان جسماً طبيعياً او سماوياً. وبالتالي فلابد من وجود وسيط يقع بين الرتبتين الوجوديتين المفارقة والجسمية، وليس ذلك الا النفس وتصوراتها الخيالية. فالمباشر لحركة الجسم السماوي لا يكون مفارقاً محضاً، وان الجسم لا يمكنه ان يحمل تصوراً عقلياً مهما كانت عظمة هذا الجسم، وبالتالي فالمباشر لحركة الجسم ينبغي ان يكون نفساً تتخيل الاوضاع والحدود الجزئية للحركة.

التنزيل وفق النظر العرفاني

لا يختلف العرفاء كثيراً عن زملائهم الفلاسفة حول طبيعة التنزيل والصدور لدى المفارقات العلوية. فعندهم ان ما صدر عن المبدأ الحق انما هو جملة العالم بأسره دفعة واحدة، وهو المطلق عليه الوجود المنبسط العام، والذي يفيض على كل موجود من الموجودات الخاصة. لكن مع ذلك فان اول تعين لهذا الصدور ضمن الوجود المنبسط العام هو العقل الاول. وعليه ذهب صدر المتألهين الى التوفيق بين المذهبين الفلسفي والعرفاني، وذلك لان العرفاء وإن قالوا بالصدور الجملي والكلي للعالم دفعة واحدة عبر ذلك الوجود المنبسط، فانهم لا ينكرون التسلسل والترتيب في التعينات الخاصة، وبالتالي فقد اعتبر ان ما ذكره العرفاء حول الوجود المنبسط هو ذاته عبارة عن العقل الاول من حيث التفصيل، أما من حيث تعينه الخاص فهو ايضاً عبارة عن جميع ما في العالم من موجودات؛ ولكن على نحو الكمال والاجمال. وهنا ان مقالة العرفاء لا تبتعد عن مقالة ابن رشد المشائية، وهي ذاتها التي نحا اليها صدر المتألهين كما هو واضح.

نعم قد ظهر لابن عربي تصورات مختلفة وعديدة ازاء موقفه من نظرية الصدور. فهو احياناً يستدل على خطأ التعميم القائل (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) بدليل هندسي مفاده ان النقطة رغم انها تعد واحدة الا ان من الممكن ان ينشأ منها خطوط متعددة، فاذا كانت النقطة مفترضة في مركز الدائرة فان من الجائز ان يرسم عليها خطوط تنتهي الى نقط متعددة في المحيط، بحيث ان جميعها يقابل تلك النقطة وجهاً لوجه. والواقع انه يمكن انشاء ما لا نهاية له من الخطوط المنبعثة من نقطة المركز والتي تفضي الى رسم ما لا نهاية له من النقط على المحيط. لكن انما يصح ذلك باعتبار ان نقطة المركز لم تعد نقطة بسيطة، بل هي مركبة الى ما لا نهاية له من النقط الجزئية، وهو امر لا يتنافى مع قاعدة الصدور، مثلما اشار الى ذلك صدر المتألهين وهو في معرض ردّه على ذلك الاستدلال الذي نسبه الى بعض الأذكياء.

وحيث رفض ابن عربي مفاد نظرية (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) حاول ان يفسر علة الكثرة من خلال فكرة التثليث التي اناط بها الايجاد والتنزيل. فالثلاثة عنده هي ابسط الكثرة، او انها اول الافراد وعنها وجد العالم. فهي في الحضرة الالهية عبارة عن علم وعالم ومعلوم، وان هذه العلاقة الثلاثية اقتضت العلاقة بين الحق والاعيان الثابتة. فالواحد بمفرده لا ينتج، وكذا الاثنان لا ينتجان ما لم يقم بينهما حركة الجماع وهي الفردية، وبالتالي فبالاحدية ظهرت الاشياء عن الله الواحد من جميع الوجوه، فالموجود الذي صدر انما صدر بثلاثة اعتبارات، هي اصل النتائج كلها، وهي وجود الذات وكونها قادرة وكونها متوجهة. فبهذه الاعتبارات والوجوه ظهرت الاعيان.

ويستعين ابن عربي في ايضاح العلاقة الثلاثية للايجاد والتنزيل ببعض النصوص الدينية، فيعتبر ان العلاقة بين الحق والاعيان كانت من الطرفين عبارة عن ثلاثيتين لولاهما ما وجد العالم، فمن حيث طرف الحق ان الايجاد لابد ان يتضمن شروطاً ثلاثة تضمنها قوله تعالى: {انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون} النحل/04، حيث لابد من ذات وارادة وقول (كن). كما لا غنى عن ان تكون هناك شروط ثلاثة في العين التي يراد لها الايجاد، وهي ان تكون لها شيئية، وان تسمع القول، وكذا تمتثل الامر. فلولا ان هذه العين مستعدة للتكوين ولها قابلية لذلك من نفسها ما تكوّنت عند سماعها القول الالهي. وهذا الاستعداد هو الحاصل لديها بفعل الفيض الاقدس. بل ان الموجد والمكون للشيء انما هو تلك العين للشيء بشرط سماعها الامر، فليس الحق هو من أوجد الشيء، وانما اوجده نفس الشيء او عينه لا غير، بدلالة قوله تعالى: {ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا أتينا طائعين} فصلت/11. وتبعاً لهذه النظرية في التثليث فان هناك ثلاثة انواع من الايجاد التي فيها اوجد الله العالم، فهناك الايجاد بقول (كن) لا غير، حيث فيه تم ايجاد اكثر العالم. كما ان هناك الايجاد بقول (كن) واليد الواحدة، وذلك مثل ايجاد جنة عدن والقلم وكتبة التوراة وغير ذلك. واخيراً فان هناك الايجاد بقول (كن) وكلتا يديه، وهذا النوع من الايجاد خاص بالانسان، ولذلك فانه خرج على صورة الحق كما في الحديث >خلق الله ادم على صورته<.

مع هذا فهناك موقف اخر لابن عربي ازاء قاعدة الصدور الانفة الذكر، حيث عدّها صحيحة تماماً من الناحية العقلية، بل وتنطبق على جميع الموجودات باستثناء احدية الحق، حيث الكثرة تصدر عنها، وذلك لان احديته خارجة عن حكم العقل وطوره >فأحدية حكم العقل هي التي لا يصدر عنها الا واحد، واحدية الحق لا تدخل تحت الحكم<. كذلك فلو صدر عن الحق جميع العالم فانه لا يصدر عنه الا واحد، حيث انه مع كل واحد من حيث احديته، لكن الامر يختلف عما يقوله الفلاسفة كما اشار الى ذلك.

وهو في محل اخر رأى ان التعدد الصادر عن الواحد ممكن باعتبار القوابل لا باعتبار ذات الواحد. والمسألة عنده مفسرة بحسب ظهور الحقيقة الواحدة في المرايا المتعددة والمختلفة، حيث تتعدد الصور وتختلف في هذه المرايا مع ان الحقيقة واحدة، وكذا في علاقة المبدأ الحق مع تجلياته المختلفة. فهو لا يرى غير الذات الالهية وهي متجلية في كل شيء، كأمر واحد يظهر بمظاهر مختلفة كلها تبدي كونها مرايا لحقيقة واحدة، او انها اسماء وصفات هذه الحقيقة المطلقة، وان تجلي الواحد في المقامات والمراتب تظهر الوحدات المتعددة، تعدد الوجه الواحد في المرايا المتعددة، وليست هناك كثرة دالة على الاختلاف، حيث العدد لا يولد كثرة في العين، فالعالم كله وحدات ينضاف بعضها الى بعض فتسمى مركبات. وكما قيل في الشعر:

وما الوجه الا واحد غير انه اذا انت عددت المرايا تعددا

او يمكن القول ان صدور الكثرة او التعدد عن الواحد هو باعتبار ما عليه الاعيان الثابتة التي هي قوابل متعددة وغير متناهية، وعليه صحّ ما يقوله العرفاء بأن المبدأ الحق هو الواحد الكثير فكيف لا تصدر عنه كثرة؟!

مع هذا فان رؤية ابن عربي في علاقة المبدأ الحق بالكائنات هي رؤية مبتنية الى حد بعيد على تلك القاعدة. فاستناداً الى تصويره الرمزي تبعاً للالفاظ الدينية، اعتبر ان للتجلي مراتب، وان اول هذه المراتب هي الروح الكلي او العقل الاول الموصوف بالقلم، ومنه تشتق سائر العقول، ثم النفس الكلية الموصوفة باللوح المحفوظ، حيث انها اول موجود انبعاثي، فقد طلب القلم موضع اثر لكتابته فانبعث من هذا الطلب اللوح، وذلك كانبعاث حواء من ادم، اي انه كان بين القلم واللوح اول نكاح معنوي معقول وله اثر حسي مشهود، ومنه عملنا بالحروف المرقومة عندنا. ومن عملية النكاح بينهما ولد توأمان، حيث اول ما القت النفس علم الطبيعة الكلية، والتي عنها ظهرت العناصر الاربعة، ثم بعدها الهباء او الهيولى الكلية، ومن نكاح هذين التوأمين ولدت صورة الجسم الكلي، وهكذا استمر التوالد ونزل الى العالم السفلي. وفي محل اخر اشار ابن عربي الى ان الله اوجد بعد تكون علم الطبيعة - وهي من عالم النور - الظلمة المحضة، ومن ثم فاض عليها النور فظهر الجسم المعبر عنه بالعرش، وهو اول ما ظهر من عالم الخلق، ثم اوجد الكرسي في جوف العرش وجعل فيه الملائكة من جنس طبيعته، ثم خلق في جوف الكرسي فلكاً في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالماً يعمرونه هم الملائكة، الى ان خلق المولدات الطبيعية، حيث تصدر عن حركات السماوات والارض اعيان المولدات والتكوينات.

هكذا فلدى ابن عربي ان اصل النكاح والتوليد هو ذلك الذي حدث بين العقل الاول والنفس الكلية، او بين القلم واللوح، ومنه سرى النكاح في عالم التوليد الكوني وغيره من العوالم. فهو في العالم الطبيعي يطلق عليه النكاح، ويسانخه في عالم الارواح النورية فيطلق عليه الهّمة. ومن مترتبات ذلك النكاح الوجودي ما ظهر من انواع اخرى للنكاح والتوليد لا تمتّ الى العالم الوجودي بصلة، مثل النكاح الذي يتم بين المقدمتين المنطقيتين لانتاج النتيجة، وانه لابد في الدليل من ثلاثة حدود، وكذلك النكاح الخاص في التوليد الكوني ومقدمات الاستدلال.

على ان المراتب التنزيلية، كما يتحدث عنها العرفاء ومنهم ابن عربي، هي مراتب تتصف بالنظام القائم حسب نظرية الامكان الاشرف والمشاكلة، مثلما سبق لدى زملائهم الفلاسفة. فالعوالم الوجودية لدى العرفاء هي عوالم قائمة على المشاكلة والسنخية. فتبدأ المضاهاة بين الذات الالهية والقلم او العقل الاول، وذلك من جهة الاجمال والكلية، ثم بعد ذلك بين القلم واللوح المحفوظ او النفس، وذلك من حيث التفصيل. كذلك هناك مضاهاة بين العرش والقلم من جهة الاجمال، وكون الاشياء فيهما على الوجه الكلي، وكذا هناك مناسبة بين الكرسي واللوح من جهة مظهريهما. فالعرش في المرتبة الحسية هو مرآة القلم، وما في القلم من اشياء مجملة وكلية مندرج في العرش بشكل كلي ومجمل ايضاً، والكرسي في المرتبة الحسية هو مرآة اللوح، فما في اللوح فهو في الكرسي. والقلم انموذج الذات ومرآتها ومظهرها ومنصتها ومجلاها، واللوح انموذج القلم ومرآته ومظهره ومنصته ومجلاه. والقلم نسخة الذات، واللوح نسخة القلم، والعرش نسخة القلم، والكرسي نسخة اللوح. وأما الانسان الكامل فهو نسخة جامعة لجميع النسخ، وهو الجامع بين العالمين الالهي والكوني، وبين هذا الانسان وبين الحق مضاهاة في الجمع بين العوالم، وان كلاً منهما عبارة عن مرآة لذاته، فعلمه لذاته هو مرآة لذاته، وبين علم الحق وعلم الانسان الكامل مضاهاة من حيث مظهريته لتفصيل ما اجمل، ومن ثم فان علم الانسان الكامل مرآة لعلم الحق، وان علم الحق متجل عليه وظاهر به.

بل العالم لدى ابن عربي له تماثل وتوازي مع الحروف، فهو مشتق من كلمة (كن)، تبعاً لقوله تعالى: {اذا قال للشيء كن فيكون}، وحيث ان هناك ثمانية وعشرين حرفاً، فان العالم بدوره هو عبارة عن هذا العدد في المراتب لا يزيد ولا ينقص، ويقف العقل كأول مخلوق، اذ كان العقل او القلم هو اول خلق خلقه الله من النفس المسماة بالعماء او الحق المخلوق به، والتي تتصف بقابلية فتح الله صور العالم فيها، ثم النفس الكلية او اللوح، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم، ثم الشكل، ثم العرش، ثم الكرسي، ثم الاطلس، ثم فلك الكواكب الثابتة، ثم السماء الاولى، ثم السماء الثانية فالثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة، ثم كرة النار فكرة الهواء فكرة الماء فكرة التراب، ثم المعدن فالنبات فالحيوان فالملك فالجن فالبشر، ثم المرتبة، وهي الغاية في كل موجود، مثلما ان الواو هي غاية حروف النفس. ومثلما هناك كلمات العالم، فانها تسمى في الانسان حروفاً من حيث احادها وكلمات من حيث تركيبها، وكذا فان اعيان الموجودات حروف من حيث احادها، وكلمات من حيث امتزاجاتها، فما الانسان الا عالم صغير، وما العالم الا انسان كبير.

هكذا يتضح انه لا يوجد اختلاف جذري بين الرؤية العرفانية والرؤية الفلسفية حول طبيعة التنزيل تبعاً لنظرية الصدور وما يترتب عليها من المشاكلة والنظام التسلسلي.

2ــ تنزيل العالم السفلي

ان تنزيل العالم السفلي مدين في تبعيته لعالم الاجرام السماوية وعقولها المفارقة، ونحن سنبحث هذه العلاقة بما تعبر عن نوع من الالوهة، هي الوهة تلك الاجرام لعالم ما تحت القمر، وذلك بحسب الرؤيتين المتقاربتين الفلسفية والعرفانية..

الالوهة وفق النظر الفلسفي

يعتقد الفلاسفة ان عالم الاجرام السماوية هو المباشر الفعلي لعملية الخلق والتكوين التي تجري في عالم الارض المسمى عالم ما تحت القمر، ذلك ان عملية الاتصال بين العالمين تتم عبر الوسائط النفسية للاجرام السماوية، فليست العقول المفارقة هي التي تباشر مظاهر الخلق والتكوين في العالم الطبيعي، انما يتعلق الامر بنفوس الاجرام التي تتوسط رتبتها بين المفارقات والاجسام الحسية. واذا كانت هذه النفوس هي المسؤولة المباشرة عن الخلق والتكوين وكذا الحفظ والتدبير، فان عملها هذا يكون بفعل شوقها وتشبهها بالمفارقات. وهي في صنعها للعالم الارضي توسم بالالهة. فالفلاسفة لا ينفون صفة التأليه لهذه النفوس وعقولها المفارقة، ويعدونها تنتمي الى العالم الالهي قبال العالم السفلي الارضي. فهم يحسبون الاجرام التي في هذا العالم اجراماً الهية، وان صورها هي صور روحانية، وان السماء عندهم هي مسكن الروحانيين، وان النفوس الفلكية هي نفوس روحانية وملائكية، وان مبادئ هذه الاجرام عبارة عن آلهة كالذي يصرح به ارسطو، حيث ينقل ذلك عن القدماء المظنون بأنهم الكلدانيون ويوافق عليه.

اذن ان الفلاسفة يعتقدون ان في الاجرام السماوية آلهة ذات نفوس وعقول كاملة هي التي تعمل على حفظ عالمنا الارضي والعناية به ازلاً وابداً من غير انقطاع. فلهذا السبب عظمها القدماء وحسبوها آلهة. وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بهذا الاعتقاد، ومن ذلك ان السهرودي اعتبر الشمس مثال الله الاعظم والوجهة الكبرى التي هي قبلة العبادات القديمة، وبتبعيتها اصبحت النار هي القبلة، وبعد الشمس تأتي الكواكب المتعينة من الثوابت والسيارات، حيث وصفها بأنها >اصحاب السيادات المعظمون<، وبعض منها وصفه بانه >السيد الاسعد صاحب الخير والبركات<، وعلى ما يرجحه المحقق الدواني ان المقصود بهذا الكوكب هو القمر.

والسؤال المطروح بهذا الصدد: كيف شاء للفلاسفة تفسير عملية التأثير ومن ثم الالوهة من قبل عالم ما فوق القمر على ما تحته؟ وبعبارة اخرى ما هو نوع التأثير الحادث، وما هي طبيعة الالوهة المتصورة؟

للاجابة على هذا السؤال لابد ان نعي اولاً ان الفلاسفة قد اختلفوا في تحديد طبيعة هذه الالوهة وذلك التأثير. فقد كانت نظرية افلاطون تقر بوجود جواهر مفارقة تعمل على ايجاد وحفظ الانواع التي في عالمنا، الامر الذي يجعل هذه الانواع تتصف بالمشاكلة والتبعية لها، وذلك وفقاً لمنطق السنخية. وكان لهذا الرأي صداه لدى الاشراقيين بزعامة الشيخ السهروردي، وقد اطلقوا على تلك الجواهر العقول العرضية او ارباب الانواع، حيث لكل نوع عقله العرضي الذي يتكفل بوجوده وحفظه ازلاً وابداً، ولهذا وُصف بالرب الحافظ للنوع والاله المتحكم به. وهذه الارباب او المُثل هي كائنات عقلية تتوسط بين عالمين، احدهما عالم المفارقات المحضة من العقول الطولية، واخرى عالم الانواع المحسوسة التي تكون مسؤولة عنها، فمثلما انها تتولد عن العقول الطولية وتكون تبعاً لها، فانها بدورها تصبح كفيلة بتوليد ما يناسبها من الانواع المحسوسة، حيث يتولد كل نوع من الانواع الارضية تبعاً لمثاله المناسب من العقول العرضية المفارقة.

كذلك ان بعض شراح ارسطو مثل ثامسطيوس رأى انه لابد من افتراض وجود جواهر مفارقة هي التي تفسر لنا علة ولادة بعض الانواع الطبيعية عن غير مماثلاتها، مثل ولادة بعض الزنابير من أبدان الخيل الميتة، والضفادع من العفونة، والنار من الحركة.. الخ، ذلك انه اذا كان يمكن تفسير ولادة الانواع الطبيعية عن مماثلاتها كالانسان من الانسان والحصان من الحصان، فانه من العسير تفسير ذلك من حيث العلل الطبيعية، وبالتالي فلابد من ان تكون هناك جواهر مفارقة هي التي تفيض صورها على تلك الانواع من الخارج، وفقاً لمنطق السنخية. وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بهذا الرأي فاعتبروا ان المفارق الذي يفيض بصوره على جميع الانواع في عالمنا الارضي هو واحد عبارة عن العقل الفعال الاخير الذي اطلقوا عليه لقب (واهب الصور)، باعتباره يفيض على كل جسم ما يناسبه من الصورة، وان عملية الافاضة والوهب أُطلق عليها (الابداع). فهذا العقل هو علة وجود الهيولى الاولى للعناصر الطبيعية بذاته، كما انه علة الصور الفائضة على هذه العناصر، لكن بواسطة الاستعدادات الحاصلة من الحركات الفلكية.

ولا شك ان افتراض ان يكون المفارق هو الفاعل في افاضة الصور على العالم الارضي لم يكن امراً مرضياً من قبل نظرية ارسطو. فهذا المعلم قد اعترض على نظرية التأثير المباشر للجواهر المفارقة، واعتبرها انها لو صحت لكان لا معنى ان تكون في عالمنا الارضي علل فاعلة ومحركة. وبحسب هذه النظرية فان ما يحدث في عالمنا الارضي من الكون والفساد؛ انما يأتي بفعل اكثر من حركة. حيث بفعل حركة السماء الاولى التي تحرك سائر الاجرام الاخرى تكون الافعال دائمة، لكن بسبب كل من هذه الحركة وحركة الكواكب المتحيرة المتسببة عنها؛ تكون الافعال دائمة ومختلفة شتى، ومن ذلك يحصل الكون والفساد.

والسبب في ان النظرية الارسطية لا تتقبل (المنطق الابداعي) الذي تقول به النظريات الاخرى وعلى رأسها نظرية افلاطون، هو لانها ترى ذلك يعني كون الصور المبدعة قد نتجت عن لا شيء، تبعاً لمبدأ (لا شيء ينتج عن لا شيء)، وهو المبدأ الذي يقتضيه منطق السنخية. وعلى ما يرى ارسطو ان الفاعل لا يخترع الصورة، ولو اخترعها لكان هناك شيء من لا شيء. بل عنده ان منشأ الصور كامن في المادة بالقوة، وانها تتحول الى الفعل بسبب التحريك والاخراج. فالصور موجودة سواء قبل الاخراج والتحويل او بعدهما، ففي المادة يكون وجودها بالقوة، وبعد الاخراج والتحويل يصبح وجودها امراً واقعاً بالفعل. في حين ليس الامر كذلك بحسب نظريات (المنطق الابداعي)، وذلك باعتبارها تفترض ان الصور غير موجودة بالمادة وانما هي صائرة الى عالمنا السفلي من فوق.

ووفقاً لمنطق السنخية فان النظرية الارسطية تواجه اشكالاً قوياً حول الفصل الذي اقامته بين المادة وفعل الفاعل الحقيقي. ذلك انه على هذا الفصل كيف يمكن تصور حمل المادة صفات الفاعل بالقوة على نحو ما من الأنحاء؟ وبعبارة اخرى: كيف يمكن ان تكون هناك سنخية بين الطرفين وهما من عالمين مستقلين لا رابط بينهما؟! فهذا الاشكال بدوره ينقلب على التصور الارسطي (الرشدي) للعلم الالهي بالمستقبليات، اذ كيف يمكن للحق ان يعلم مستقبل الحوادث في ذاته، مع انها كامنة في المادة وهي غريبة ومنفصلة عنه بالمرة؟ بل وكيف كان مضمون ما موجود في هذه المادة يقترب - بنحو ما من الانحاء - عن مضمون ما هو كائن في الذات الالهية، وذلك باعتبارها تمثل جميع الاشياء على النحو الاتم؟! اذن لا يعقل ان تكون المادة وهي تحمل هذا الخزين من المشاكلة منفصلة عن المبدأ الحق والعالم الالهي.

مع هذا نعتقد انه لا يوجد هناك فارق جوهري بين النظرية الارسطية وغيرها من النظريات الفلسفية ذات سمة (الابداع). فكما علمنا ان طريقة ارسطو تحاول ان لا تجعل من التأثير نتاج ما يفيضه المفارق السماوي من الصور، انما ترى ان فعل المفارق هو اخراج الصور من المادة او الهيولى التي تختزنها بالقوة. فالفعل هو فعل المفارق، لكن طبيعة هذا الفعل والتأثير يختلف بين النظرية الارسطية وغيرها، فبينما ترى سائر الطرق الاخرى ان الافاضة للصور تتنزل من فوق؛ ترى النظرية الارسطية انها تخرج من المادة بفعل التحريك المتنزل عبر تلك الكائنات السماوية. وفي كلا الحالين ان للمفارقات والجواهر السماوية تأثيراً في خلق العالم وتكوينه، وجعله على شاكلتها تبعاً لمنطق السنخية. فمثلاً تقر النظرية الارسطية بان >المولد للنفس ليس معناه أنه يثبت نفساً في الهيولى وإنما معناه أنه يُخرج ما كان نفساً بالقوة إلى أن يصير نفساً بالفعل، ولذلك نجد النار تتكون عن الحركة كما تتكون عن نار مثلها.. وكل مُخرج شيئاً من القوة إلى الفعل فيلزم أن يوجد فيه بوجه ما ذلك المعنى الذي أخرجه، لا أنه هو هو من جميع الوجوه<. وكما ان الفعل الناتج هنا يكون على شاكلة الفاعل، فانه ايضاً يكون ما موجود في المادة من صورة هو على شاكلة الفعل والفاعل، سواء كان ذلك في المماثلات او غيرها، فليس هناك من فرق بينهما سوى ان الفاعل في غير المماثلات هو الشمس، بينما الفاعل في غيرها عبارة عن المماثل الأصل والشمس، فالانسان مثلاً يولده انسان والشمس.

لكن ليس هناك من اختلاف جذري بين النظرية الارسطية وبين النظرية الابداعية التي التزم بها اغلب الفلاسفة المسلمين. ذلك ان نظرية ارسطو لا تنكر العناية العقلية والنفسية للاجرام السماوية على عالمنا التحتاني، بل ترى ان هذه الاجرام لما كانت >موجودات مدركة حيّة ذوات اختيار وارادة< لذا انها تقوم بتدبير الحياة في عالمنا الأرضي، إذ >الحي لا يُدبره إلا حي أكمل حياة منه<، والعملية تتم من غير قصد مباشر، حيث القاعدة الفلسفية تقر ان من المحال ان يفعل الاكمل لاجل الانقص، او كما يقول الفلاسفة المسلمون (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، انما قد يفيده بالقصد الثاني، وذلك من خلال شوقه وتعلقه بذاته او بما هو اكمل منه، فحيث ان نفوس الاجرام السماوية تريد التشبه بعللها المفارقة فانه عبر ذلك يتولد عنها من الحركات او الفيوضات ما يحيا به العالم السفلي. فمن هذه الناحية يكون للأجرام عنايتها بعالمنا السفلي، حيث أن القصد من حركتها ليس لأجل خروج صور الطبيعة من القوة الى الفعل، بل ذلك يحصل ويتحقق بشكل تابع لكمالها الأول، وهو الشوق لما هو أكثر منها حُسناً وكمالاً. فهذا هو ما يفسر تلك العلاقة بين العالمين العلوي والسفلي، اي العلاقة بين عالم الالهة المتعالية وبين عبيدها التابعين في العالم التحتاني.

واذا كان هذا الامر هو مما يتفق عليه الفلاسفة، فان مما يتفق عليه ايضاً هو انهم جعلوا رابط الالوهة بين العالمين العلوي والسفلي يمر عبر النفس السماوية، كوسيط بين المفارق العقلي والجسم الطبيعي. ذلك انهم يحيلون ان يكون الجسم المادي باسره يمكن ان يصدر مباشرة عبر المفارق العقلي، انما يرون ان الوسيط بين الجسم والمفارق هو تلك النفس السماوية ذات المادة الروحانية والأجسام اللطيفة غير المحسوسة. ولدى الفارابي ان التأثير يتم عبر تخيلات الاجرام السماوية، حيث يحصل من جزئيات هذه الخيالات الحركات الفلكية التي بدورها تسبب التغير في الأركان الأربعة وما يظهر في عالم الكون والفساد من التغير. وكذا ان ابن سينا يرى ان افاضة الصور الطبيعية والنفوس النباتية والحيوانية عن العقل الفعال انما يتم عبر الأجرام السماوية تبعاً لاعتبارات نظرية الفيض التي أدخلها الفارابي. ولدى الفلاسفة اليونان ان هناك فيضاً نفسياً وهو عبارة عن تلك الحرارة النفسانية الفائضة عن الاجرام السماوية والتي فيها النفوس المخلّقة للاجسام الارضية، فتتكون منها الحيوانات والنباتات والمعادن، وكان بعضهم يسميها احياناً (الخالق)، كما هو الحال مع جالينوس، وان افلاطون يرى تبعاً لذلك التأثير ان النفس في اصلها مفارقة للبدن، وانها هي التي تقوم بخلقه وتصويره وليس العكس. وعلى رأي ابن رشد ان الفلاسفة يتفقون على وجود النفوس السماوية المخلّقة لجميع انواع الاجسام في عالمنا الارضي، الا ان موضع التردد في ذلك هو ان هذه النفوس إما ان تكون نفوساً وسيطة بين نفوس الاجرام السماوية وبين النفوس التي في اجسامنا الارضية فيكون لها عليها تسليط، او انها تكون بذواتها تتعلق بالابدان التي تخلّقها وذلك للشبه الكائن بينها، فاذا فسدت الابدان عادت الى عالمها الروحاني واجسامها اللطيفة التي لا تحس، كما هي وجهة النظر الارسطية.



لكن بخصوص تكوين العقل البشري يلاحظ ان الفلاسفة لا يعولون في ذلك على نفوس الاجرام السماوية، وانما يعدون ذلك من خلق العقل المفارق مباشرة، وفقاً لمنطق السنخية، اذ العقل لا يكونه الا عقل يختص في احداث القوى العقلية باعتبارها غير مخالطة للهيولى. وتبعاً لمنطق السنخية ان من المحال لدى النظرية الارسطية ان يصدر عن العقل المفارق اي صورة مخالطة للهيولى، وان كل ما ليس بمخالط للهيولى بوجه ما لا بد ان يتولد عن المفارق الذي لا يخالط الهيولى مطلقاً، مثلما لابد ان يتولد كل مخالط للهيولى عن مخالط للهيولى. وبالتالي كان لابد من ان يكون العقل المفارق الفعال هو الخالق والمكون للعقل البشري، حيث انه مبدأ فاعل وغاية لحركة هذا العقل، حيث يحركه على جهة ما يحرك العاشق المعشوق، وذلك حتى يكون العقل منّا في النهاية بريئاً من المادة، فيصبح حاله حال جميع العقول المفارقة لجميع الأجرام السماوية، ذلك أنها ايضاً عبارة عن الكمال الأخير لهذه الأجرام، لكن العقل منا يظل انقص واقل كمالاً من العقل الفعال الذي يعمل على خلقه وتكوينه.

***

هكذا لقد اتضح معنا ان عناصر الالوهة التي يتبناها الفلاسفة تتمثل بخضوع العالم الارضي بمكوناته لعالم الاجرام السماوية، حيث ما موجود هنا انما يتم تخليقه وتكوينه تبعاً لنفوس تلك الاجرام وعقولها المفارقة، وان غاية ما تتحرك لاجلها الكائنات الارضية هي التشبه بالهتها في عالم الاجرام السماوية، فهي تابعة لها ومتشبهة بها تبعاً لعلاقة المعلول بعلته. وليس هناك من فرق بين اولئك الذين قالوا بنظرية الابداع وفيض الصور على عالمنا السفلي، وبين اولئك القائلين بنظرية اخراج الصور من خلال تحريك المادة. فالجميع يتفق على ان خلق عالمنا وتكوينه انما هو من جهة التأثير الحاصل بفعل الاجرام السماوية ونفوسها وعقولها المفارقة.

وبذلك ننتهي الى ان الرؤية الفلسفية ترى ان عالمنا السفلي، بكل ما يحمل من تنوعات وصور، محكوم بالالوهة للعالم العلوي في أجرامه ومفارقاته السماوية. فليس هناك من اله واحد، بل ان الالهة متعددة تعدد المفارقات والاجرام، مع الاعتراف بان وراء فعل هذه الالهة الوسيطة يقف الاله الاعظم المتمثل بالمبدأ الحق، او بالاحرى انه العقل الاول باعتباره ذلك الوجود المنبسط الذي به تقوم الاشياء وتحيا.

الالوهة وفق النظر العرفاني

لا يختلف الامر عند العرفاء عما رأيناه لدى الفلاسفة، فهم ايضاً يعولون على الترتيب الحاصل في التنزيل، وان الاختلاف بينهما كما يصوره الاملي هو ان الفلاسفة يجعلون تأثير الحق على ما دونه عبر الوسائط، في حين ان العرفاء يوحدون الفعل الالهي، وانه لا فاعل والا مؤثر عندهم غير الحق تعالى، وان كلمات من امثال ظهر وخلق وصدر هي الفاظ متغايرة بمعنى واحد.

ويصور العرفاء طريقتهم بتناظرات للعلاقة بين الحق وتنزلات الوجود من جهة، وبين الواحد والعدد من جهة اخرى. فكما ان من تكرار الواحد ينشأ العدد ويتزايد بلا نهاية، فكذا ان من جود الحق وفيضه نشأت الخلائق وتزايدت من غير نهاية. كذلك فكما ان الاثنين هو اول عدد ينشأ من تكرار الواحد، فكذا ان العقل الاول هو اول موجود فاض عن الحق. وكما ان الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، فكذا ان النفس ترتبت بعد العقل الاول. وكما ان الاربعة ترتبت بعد الثلاثة، فكذا ان الطبيعة ترتبت بعد النفس. ومعلوم ما يأتي بعد الاربعة من اعداد، فانه ما يأتي من وجودات بعد الطبيعة هي بحسب التسلسل عبارة عن الهيولى ثم الجسم فالفلك فالاركان فالمولدات. وكما ان التسعة هي اخر مراتب الاعداد، فكذلك المولدات هي اخر مراتب الموجودات الكلية، وهي المعادن والنبات والحيوان. فالمعادن كالعشرات، والنبات كالمئات، والحيوان كالالوف، والمزاج كالواحد.

وواقع الحال ان المناظرة بين الواحد والعدد من جهة، وبين الحق والتنزيل او الخلق من جهة اخرى، مناسب في التعرف على طريقة العرفاء في فهمهم لحالة التنزيل الخاصة بالخلق، ذلك انها تبدي شكلاً من الظهور والبطون. فالظهور لا يكون الا للعدد، والواحد باطن فيه، وانه لولا الواحد ما ظهر العدد ولا كان بالامكان ايجاده، والعكس ليس صحيحاً، حيث ان الواحد لا يتوقف على العدد. وكذا الحال فيما يتعلق بالعلاقة بين الحق والخلق، ذلك ان ما ظهر لدى افهام الناس هو الخلق، وان باطنه هو الحق، وانه لولا الحق ما ظهر الخلق. فالحق اساس الخلق، والعكس ليس صحيحاً.

فهذا هو التنزيل والايجاد بحسب الظهور والبطون. وهو تنزيل يعبر عن سريان الوجود الحق في الخلق، او سريان الوجود المنبسط العام في جميع الموجودات العلوية والسفلية. فابن عربي يصور الطبيعة والكون في صيرورة غير متناهية، وذلك من حيث اظهار النفس او تنفس العالم، وبذلك يدوم السريان ويتم حفظ الكون عنده. وكما يقول: >بالنفس كان العالم كله متنفساً والنفس اظهره وهو للحق باطن وللخلق ظاهر، فباطن الحق ظاهر الخلق، وباطن الخلق ظاهر الحق، وبالمجموع تحقق الكون، وبترك المجموع قيل حق وخلق، فالحق للوجود المحض، والخلق للامكان المحض، فما ينعدم من العالم ويذهب من صورته فمما يلي جانب العدم، وما يبقى منه ولا يصح فيه عدم فمما يلي جانب الوجود ولا يزال الامران حاكمين على العالم دائماً، فالخلق جديد في كل نفس دنيا واخرة، فنفس الرحمن لا يزال متوجهاً، والطبيعة لا تزال تتكون صوراً لهذا النفس حتى لا يتعطل الامر الالهي، اذ لا يصح التعطيل، فصور تحدث وصور تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النفس، وهذا ابين ما يكون في ابداع العالم<.

مع هذا فلا يعدو الامر من ان يعبّر ذلك التنزيل عن تنزلات الحق وتقيده بالقيود، فاذا تقيد بقيد سمي به، حيث يسمى في اول تنزله بالعقل، ثم بالنفس، ثم بالفلك فالاجرام فالطبائع فالمواليد وهكذا. مع ان الحقيقة ان هذه الاشياء ليست هي عقلاً ونفساً وفلكاً وما اليه، وانما هي اسماء دالة على الحق، ومن حيث التحقيق فان الحق ليس له اسم ولا رسم، بل الحق والوجود هما من الاسماء الدالة عليه بحسب الاصطلاح لا غير، وانه لا وجود لغيره في الوجود، حيث وجود الخلق هو اضافي اعتباري ليس له عين في الخارج، فالحق اذا ظهر بوجوده لم يبق للخلق وجود. فمثل النسبة بينهما كالنسبة بين الشمس والظل الذي ليس له الا الاسم والاعتبار، وهما امران عدميان ليس لهما وجود في الخارج. ويمكن اعتبار الخلق عند العرفاء ما هو الا احتجاب الحق في الخلق، حيث ظهر الخلق وبطن الحق. وكما يقول القيصري ان ايجاد الحق للاشياء جعله يظهرها ويختفي فيها. لكن ذلك عند عموم الناس من غير اولي الكشف، أما لدى العرفاء فالامر معكوس، وكما يقول ابن عربي: >ان العالم غيب لم يظهر قط، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب قط، والناس في هذه المسألة على عكس الصواب، فيقولون العالم ظاهر والحق تعالى غيب، فهم بهذا الاعتبار في مقتضى هذا التنزل كلهم عبيد السوى<. حيث ان العلاقة بين الحق والعالم هي ذاتها العلاقة بين الوجود والماهية او الاعيان الثابتة التي توصف بانها ما شمت رائحة الوجود قط، او انها عبارة عن غيب محض. وكذا بحسب صدر المتألهين فان احتجاب الحق في الخلق انما هو بالنسبة لذوي العقول الضعيفة في هذه الدنيا، اما بحسب النشأة الاخرى وبحسب العقول النيرة المقدسة فان الحق هو المشهود الجلي، وان الخلق هو المستور الخفي. وذلك انه كما يقول العرفاء ان الحق قد >حجب الذات بالصفات، والصفات بالافعال، والافعال بالاكوان<، وان ما نتوهمه من الكثرة الوجودية هي ذات الاعيان الثابتة التي البسها الحق الوجود، وحقيقة الامر هو ان في كثرتها الموهومة واحداً كما يشهده كل عارف، حيث الوجودات الكثيرة هي كشخص واحد له احوال مختلفة. وكما يقول العارف الاملي: ثبت من حيث العقل والنقل والكشف انه ليس في الوجود الا الله. او كما يقول العرفاء: لا يعرف الله الا الله، ولا يرى الله الا الله، ولا يدل على الله الا الله، ولا يحب الله الا الله.

لكن التنزيل يتخذ صورة ثانية لدى العرفاء، وذلك من حيث علاقة الاسماء بلوازمها وتوابعها، حيث ان هذه اللوازم تارة تكون عبارة عن مجرد صور علمية تلك التي يطلق عليها الاعيان الثابتة، واخرى احكام هذه الصور ووجوداتها الخارجية، فمثلما ان تلك الصور تعد لوازم الاسماء وعلى شاكلتها، فان ظهوراتها الخارجية هي ايضاً تكون عبارة عن لوازمها وتوابعها التي لابد ان تتجلى وتظهر بحسب تعيناتها الخاصة. وهو امر يطابق ما لدى الرؤية الفلسفية في علاقة العلة بالمعلول، حيث اتباع المعلول لعلته من غيرمفارقة، وان المعلول له صورة في العلة يكون فيها على نفس الشاكلة. او يمكن القول ان العالم عند العرفاء منوط بكل من الاسماء الالهية ولوازمها من الاعيان الثابتة. حيث طالما ان للاسماء هذه اللوازم التي تمثل العلوم التفصيلية الالهية فانه لابد ان يكون لها الاثر من الوجود، وذلك شبيه بما عرفناه لدى الفلاسفة عندما عدوا العلم الالهي هو سبب التنزيل والايجاد. وهناك تصوير بديع للكيفية التي تتم فيها هذه العملية من الايجاد كما يقدمها ابن عربي. ذلك ان عملية الخلق والتكوين تتخذ لديه شكل العلاقة بين الاسماء الالهية فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين الذات الالهية من جهة اخرى، وذلك بطلب من الاسماء في ان يكون لها شيء من التأثير بظهور احكامها، فلو لم ينشأ العالم لما ظهر شيء من احكامها ولا اثارها، ولا تميز بعضها عن البعض الاخر.

على ان ربط عملية التنزيل بالاسماء الالهية هي وإن كانت تتماثل مع ما عليه الطريقة الفلسفية في ربط التنزيل بالعلاقة العلية، الا انه بحسب الرؤية العرفانية ليس هناك تأثير مثل الذي لاحظناه في تلك العلاقة الفلسفية. فالعرفاء لا يعترفون بتلك العلاقة، ولا يعدون المبدأ الاول علة لما هو دونه من الموجودات. فالمبدأ الاول عندهم غني عن العلة والعلية، ولو انه ارتبط بهذه الرابطة لكان مفتقراً اليها على نحو الايجاب لا الاختيار، انما كان في الازل ولا شيء معه، واوجد العالم لا من شيء، وهو الان كما كان ولا شيء، حيث ان العالم من حيث ذاته باق في عدميته لم يشم رائحة الوجود قط، اذ ما هو الا تلك الاعيان الثابتة التي هي من حيث ذاتها عدمية لم تظهر ولن تظهر ابداً. وان الحق على ذلك كان نفسه هو الدليل على نفسه وعلى الوهيته، وان العالم ليس الا تجليه في صور الاعيان الثابتة، حيث يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الاعيان واحوالها. ومعنى كونه الهاً ورباً وخالقاً هو انه يظهر في الشيء، فظهوره فينا دليل على انه رب اله خالق لنا، فالموجود ليس سوى الحق الذي يتنوع ظهوره بحسب خصوصية المظهر، ومنه يعلم ان العالم تجل منه، حيث انه الظاهر في العالم بحسب حقيقة وخصوصية هذا الاخير من القبول. فمن حيث ظهوره في العالم المحدث كان دليلاً على نفسه انه احدثه واوجده. فهو الاله والرب والخالق بهذا المعنى المذكور لا غير.

ولدى ابن عربي ان لكل شيء روحاً او ملكاً او اسماً من اسماء الله هي التي تقوم بفعل التأثير دون ان يكون للعامل الطبيعي دور يذكر. فهو يشير بان الله تعالى >لا يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان من انسان او ريح اذا هبت فتحدث اشكالاً في كل ما تؤثر فيه حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق، فذلك الطريق صورة احدثها الله بمشي هذه الدودة او غيرها، فينفخ الله فيها روحاً من امره لا يزال يسبحه ذلك الشكل بصورته وروحه الى ان يزول فتنتقل روحه الى البرزخ، كما في قوله تعالى: {كل من عليها فان} الرحمن/62. وكذلك الاشكال الهوائية والمائية لولا ان ارواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها اثر، وكل من احدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها الى البرزخ فان روحها الذي هو ذلك الملك يسبح الله ويحمده، ويعود ذلك الفضل على من اوجد تلك الصورة التي كان هذا الملك روحها<.

وهو يطبق هذه الروح حتى على اخراج الحروف وهيئتها نطقاً وكتابة، بل وانه يقيم علاقة بين كل من الحروف والانسان والاسماء الالهية والملائكة. فلكل اسم من اسماء الله الحسنى المختصة بالانسان >روحانية ملك تحفظه وتقوم به، وتحفظها لها صور في النفس الانساني تسمى حروفاً<. وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الارواح باسماء هذه الحروف. فالملائكة ارواح هذه الحروف، وهذه الحروف اجساد تلك الملائكة لفظاً وخطاً. حيث بهذه الارواح تعمل الحروف لا بذواتها، اعني صورها المحسوسة للسمع والبصر، المتصورة في الخيال، فلا يتخيل ان الحروف تعمل بصورها وانما بارواحها، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد لتعظيم خالقه، وان مظهره وروحانيته لا تفارقه. وبهذه الاسماء يسمون هؤلاء الملائكة في السماوات. ويؤكد ابن عربي ان ما من هؤلاء ملك الا وقد افاده.

مع هذا يمكن القول انه لا توجد فوارق جوهرية بين العرفاء والفلاسفة حول مفاهيمهم الخاصة بالتنزيل، فالمآل عندهما واحد من حيث مراتب التنزيل واعتباراته الازلية التي لا تنتهي ابداً، لعدم انتهاء صفات الحق واسمائه. بل ان الالوهة لدى العرفاء لها من الشمول ما هو اعظم مما لدى الفلاسفة. ذلك انه من حيث كون الحق عبارة عن جميع الاشياء، فان هذه الالوهة تصبح شاملة بجميع تلك الصور، ومنه يعلم صحة عبادة اية صورة من صور العالم باعتبارها تمثل احدى تعينات الالوهة. الامر الذي جعل ابن عربي يعد فرعون صادقاً في قوله: {أنا ربكم الاعلى} النازعات/42، كالذي سنطلع عليه فيما بعد.

الايجاد وازلية الصنع والحدوث

لمسألة قدم العالم علاقة صميمة بمنطق السنخية، ذلك ان افتراض ان يكون المبدأ الاول قديماً لابد ان ينشأ عنه قديم مثله، وهو العالم، سواء فسرنا الامر تبعاً لعلاقة العلة بالمعلول، او تبعاً لعلاقة الذات بشؤونها وصفاتها واحوالها الخاصة. الامر الذي يحفظ للوجود وحدته، وذلك لاننا لو تصورنا ان هناك انفصالاً بين المبدأ الاول وبين العالم؛ كإن يكون قد خلق العالم من لا شيء، اي اوجده من العدم والامكان المحض، فذلك يعني ان الوجود ينطوي في حقيقته على ثنائية تامة، حيث ليس للمخلوق علاقة بموجده، وبالتالي لا يمكننا ان نحكم على هذا الوجود الا بالتعدد والثنائية، وانه يقتضي اجنبية المخلوق عن الخالق. لذلك جاء في (تاريخ الفلسفة الغربية) ان برتراند رسل اعتبر نظرية الفيض بعموميتها والتي تقول باستحالة خلق العالم من لا شيء قد انتهت على فترات في العصور المسيحية الى مذهب وحدة الوجود. ولا شك انه تقدير لا يخلو من صحة، ذلك انه بحسب منطق السنخية، الذي تعوّل عليه نظرية الفيض والقول بقدم العالم، فإن جميع الاشياء تصبح ذات طبيعة واحدة مشتركة وان كانت متفاوتة في الكمال والشدة، فتبعاً لقاعدة الامكان الاشرف؛ يكون كل نوع حاملاً لجميع كمالات ما تحته من المراتب، وهكذا تتسلسل مراتب الوجود ابتداءً من اولها الذي يمثل كل الاشياء من حيث الكمال والشدة، وحتى آخرها. فهذه هي فكرة وحدة الوجود التي تبررها نظريتا الفيض وقدم العالم تبعاً لمنطق السنخية.

على ان الفلاسفة اعتبروا العالم قديماً من حيث الزمان بدوام الفلك والكواكب وبسائط الاجرام وصورها ونفوسها نوعاً وشخصاً، وكذا دوام المركبات وصورها ونفوسها نوعاً لا شخصاً. كما ان هناك حالة توفيقية مخففة لدى صدر المتألهين، حيث اعترف بالحدوث الزماني للعالم بكل ما فيه سواء من الفلكيات ام العنصريات، فالجميع عنده يقع تحت الفساد ويلحقه الفناء والعدم والزوال والدثور، ومن ثم يؤول الى اخراج البواطن واظهار الحقائق غير الحسية يوم القيامة، كما استفاد في ذلك مما كشفه لبعض الايات القرآنية. لكنه مع هذا لم يتخل عن الاعتقاد بدوام الجود المطلق وازلية الصنع والافاضة على نسق واحد ازلاً وابداً، رغم حدوث الكل زماناً، من حيث ان كل حادثة تسبقها اخرى الى ما لا بداية له. 

وكانت طريقته في اثبات دوام الحدوث وازليته مستمدة من تحليله للحركة الجوهرية للطبيعة؛ ذات الهوية الاتصالية المتدرجة الوجود، حيث لديه ان الحدوث والتجدد هو من لوازم الجوهر الجسماني الغير المجعول؛ باعتبار ان الذاتي لا يعلل، فلا يوجد جعل مستأنف يتخلل بين هذا التجدد وذلك الجوهر، اذ ما يرتبط بالحق تعالى ازلاً انما هو هذه الجواهر الثابتة التجدد، ذلك ان قاعدة السنخية لا تسمح بارتباط المتغير بالثابت، فاذا ما كانت العلة ثابتة فلابد ان يكون المعلول ثابتاً مثلها، اي استناداً الى كون علة الثابت ثابتة وعلة المتغير متغيرة.  وهو من جهة اخرى اعتبر الامر الثابت لطبيعة الجوهر الشخصي السيالة انما هو وجوده العقلي وصورته العلمية المفارقة؛ التي هي الحقيقة النوعية الثابتة الوجود في علم المبدأ الحق، المعبر عنها بالعقل العرضي او رب النوع، والذي يمثل صورة عقلية ثابتة عند الحق وباقية في علمه مصونة عن التغير والحدوث. 

اذن بحسب وجهة نظر هذا الفيلسوف العارف انه رغم جريان الحدوث في العالم فانه يرتبط بالقديم ارتباط الثابت بالثابت، ازلاً وابداً. الامر الذي دعاه الى توجيه وتأويل عدد من الايات القرآنية، كقوله تعالى: {ان الله يمسك السماوات والارض..}، و{خالدين فيها ما دامت السماوات والارض..}، و{عطاء غير مجذود}، و{وما كان عطاء ربك محظوراً}. 

وتعتبر نظرية ارتباط الحادث بالقديم، والمتجدد بالثابت، من المسلمات التي عول عليها الفلاسفة المسلمون، رغم انهم لم يستعينوا - قبل صدر المتألهين - بنظرية الحركة الجوهرية، ولا اعتقدوا بحدوث الافلاك والاجرام السماوية، انما اعتمدوا على حلقة الوصل من الثبات الخاص لكل من الانواع الارضية رغم فساد افرادها وزوالها، وكذلك الثبات الخاص باتصال الحركة الفلكية ودوامها، وان كانت طبيعتها التجدد والحدوث.

ورغم ان هذه النظرية تستند الى منطق السنخية، لكن مع ذلك فان هذا المنطق ليس بمقدوره ان يبرر النظرية التبرير التام، اذ لا يكفي القول بضرورة ان يتولد عن الثابت ثابت مثله، وكذا عن المتغير متغير مثله، بل لابد ان يكون بين الطرفين ايضاً تشاكل من حيث الطبيعة او الحقيقة الخارجية، وهو ما لا تقدمه تلك النظرية، حيث لا شبه بين طبيعة الحدوث الثابت الوجود وبين ما عليه عالم الاله السرمدي. وقد سبق لارسطو ان أشكل على مُثل استاذه افلاطون من خلال نفس هذا المنطق في كيفية ارتباط الثابت بالمتغير، اذ ما الذي يجمع بين المثل الثابتة وبين صورها الحسية المتغيرة على الدوام؟ فحيث ان المثل ثابتة فلابد تبعاً لذلك ان تكون صورها المتمثلة بالاشياء الحسية ثابتة مثلها، وهو خلاف الواقع. 

لكنا نجد في نظرية افلوطين تصويراً للحركة والسكون في العقول المفارقة، وهي انها اشبه ما تكون بالسكون، حيث ليس فيها من النقلة والاستحالة، ولا التغير ولا التبدل، وانما هي ثابتة على حال واحد هو ابتغاء علم العلة الا ولى. كما ان صدر المتألهين قد فسر مقولة الحركة في العقل لدى افلوطين بانها تعني الصدور لا التغير، فاختلاف الحركات في العقل يعني اختلاف جهات الصدور كماً وكيفاً كالذي مرّ علينا في السابق.

ومن الناحية الفلسفية ان نظرية قدم العالم، او ازلية الصنع والحدوث، لها عدد من المبررات اهمها ما يلي:

الاول: حتمية ارتباط العلة بالمعلول واعتبار المبدأ الحق علة تامة واجبة؛ لا يمكن فك المعلول عنه ما دام موجوداً، ازلاً وابداً، ذلك ان ذاته واجبة بجميع ما لها من نعوت، والتي منها نعت العلة، لان موجب عليتها نفس الذات من دون حالة اخرى منتظرة، فبما تتحقق ذاتها تتحقق عليتها. واحياناً عبّر الفلاسفة عن ذلك بارادته التي هي عين علمه الازلي، فحكموا من خلالها بقدم العالم، كما استنتج ذلك الطوسي في حكايته لرأي الفلاسفة.

الثاني: استحالة الترجيح بلا مرجح. ولهذا المبدأ جانبان، احدهما مسلم به لدى جميع مذاهب الفكر الاسلامي، والاخر هو موضع وجهات النظر والاختلاف بينها. فالاول يعني كون الحادثة لا يمكنها ان تقع ما لم ترتبط بعلة فاعلة ترجحها، وهو الذي يطلق عليه مبدأ السببية العامة. أما الثاني فله معنى على سبيل الغاية، ذلك انه يرتبط بصدور الفعل والسلوك عن الكائن الذي له شيء من القدرة والارادة او الاختيار، وهو موضع اختلاف المفكرين. فعدد من المذاهب الكلامية - خلافاً للفلا سفة - تعتقد بصحة صدور الفعل عن القادر من غير مرجح يرجح وجوده على عدمه. كما لا ترى ضرورة وجود مرجح يرجح طريقة تنفيذ الفعل واللحظة التي يتم فيها ذلك.

وقد طبقت المسألة الاخيرة على قضية الخلق. فالسؤال المتبادر: لو ان الله تعالى خلق العالم ابتداء في فترة ما من الفترات - على فرض وجود فترات زمنية قبل الحدوث -؛ فكيف رجح هذه الفترة دون غيرها مع تساويها في الاعتبار؟

ولو اخطأنا التعبير في قولنا بالفترة الزمنية قبل الحدوث؛ فان من الممكن استبدال السؤال بصيغة اخرى مناسبة، وذلك كالاتي: ما الداعي لأن يرجح الحق وجود العالم ابتداء؛ على وجوده معه ازلاً؟

وفي معرض الاستدلال نجد هناك تعارضاً في الاعتبارات العقلية بالنسبة الى كل من القائلين بالازلية والابتداء.

فمبرر الكلاميين هو ان اعتبار الحوادث لا بداية لها هو كاعتبار وجود علل غير متناهية، فكلاهما يواجهان مشكلة التسلسل الممتنع، حتى ان هناك من اعتبر ذلك متناقضاً. والحال ان تصور الازلية في حد ذاته يمنع هذه الاعتبارات، اذ لا فرق بين ان تكون هذه الازلية عبارة عن شيء واحد ثابت، او هي عبارة عن حوادث متجددة، حيث في كلا الحالتين ليست هناك بداية محددة.

أما موقف الفلاسفة فهو يستند - كما عرفنا - الى المبدئين السابقين، اي اعتبار ذات الحق واجبة من جميع الصفات بما فيها صفة العلة التامة، وكذا استحالة الترجيح بلا مرجح.

مع ان الاخذ بأحد هذين المبدئين يكون على حساب الاخر، فهما لا يجتمعان معاً. ذلك ان صفة العلة التامة القائمة على العلم الوجودي لا تبرر ان يكون هناك دور للقدرة والاختيار والارادة الا عند فهم هذه الصفات فهماً مجازاً كما هو حال ما يريده الفلاسفة. فمثلاً ان ابن سينا يرى ان العلم الالهي بالاشياء هو سبب وجودها، وهو نفسه عبارة عن قدرة. أما التعويل على مبدأ نفي الترجيح بلا مرجح فانه مشروط بوجود تلك الصفات، باعتبار انه مرتبط بمعاني تحقيق الغاية. ولا شك ان مما يتسق مع منطق الفلاسفة هو الاخذ بالمبدأ الاول دون الثاني.

اضافة الى ان المبدأ الثاني لا يؤيده الواقع. ففي ظل خيارات الانسان لا مانع من اختيار طريقة واحدة من بين طرق مماثلة لتحقيق غاية منشودة رغم عدم وجود المرجح، اذ تصبح عملية الترجيح موكولة الى الغاية لا طرق الاختيار ذاتها، كما يطلعنا عليه الواقع. الامر الذي اضطر الفلاسفة ان يحكموا بافتراض عوامل سببية فاعلة تؤكد مضمون الترجيح بالمرجح الخفي رغم ان هذا الامر يحول القضية من معنى العلية ذات العلاقة بالغاية الى معناها الصارم الذي لا يعترف باي نحو من انحاء القدرة وحرية الاختيار. وهنا نعود مرة اخرى الى المبدأ الاول الذي يتسق مع مطالب العقل الوجودي. لذا اجاب صدر المتألهين على مسألة ما يبدو من ترجيح الانسان لبعض الامور المتكافئة بدون مرجحات، وذلك بالابتعاد عن منطق الملاحظة الواقعية وافتراض عوامل خفية تسبب الترجيح في نفس المختار دون ان يشعر، كعوامل التأثيرات الخفية للاوضاع الفلكية والامور العالية الالهية. ولا شك ان دلالة مثل هذه التأثيرات (الخفية) ليس مجرد الترجيح للامور المتكافئة؛ بقدر ما يكون لها من دلالة على تسيير الانسان وسلب الاختيار منه كلياً.

بل ان قاعدة نفي الترجيح بلا مرحج تصبح هي ذاتها مستمدة من منطق العلية الصارم، او الحتمية التي لا يوجد فيها اي مجال لافتراض التعدد في الخيارات او القدرة او الارادة. وفعلاً ان البعض حوّلها الى هذا الفهم من دون تمييز، فاعتبر ان عاقبة جواز الترجيح بلا مرجح تفضي لا فقط الى سد باب اثبات الصانع، وانما الى غلق مطلق النظر والبحث والاعتماد على اليقينيات، وذلك لعدم الامن عن ترتب نقيض النتيجة عليها. وهي محاولة تريد ان تجعل من ذلك الجواز يقتضي في حد ذاته اجتماع النقيضين، كما صرح بذلك بعض العرفاء من المعاصرين..

والواقع انه حتى لو سلمنا بان هذه القاعدة منتزعة عن قانون السببية العامة، او هي عينها؛ فان من غير الصحيح ان يستدل عليها بمبدأ عدم التناقض، وسبق لدافيد هيوم ان اثبت بطلان العلاقة بينهما، وهو امر أيّده عليه المفكر الكبير محمد باقر الصدر، وذلك في كتابه اللامع (الاسس المنطقية للاستقراء)، حتى ان هذا المفكر نقد محاولتين استهدفتا اثبات السببية تبعاً لذلك المبدأ، احداهما تعود الى صدر المتألهين والاخرى ترجع الى المرحوم محمد حسين الطباطبائي.

مهما يكن فان ما يراد بقاعدة (استحالة الترجيح بلا مرجح) يختلف عما يتضمنه مفهوم السببية العامة، ذلك ان ترجيح بعض الطرق المتكافئة بدون مرجح؛ لا ينفي هذا المفهوم العام. فعملية الترجيح ليست منقطعة الجذور عن العلة الفاعلة التي تناط بها تلك السببية. لذلك نجد ابن رشد قد وافق على هذا المعنى الذي تتضمنه القاعدة المذكورة، وإن كان بفعله هذا قد خرج عن المؤدى الفلسفي الذي عوّل عليه الفلاسفة من ضرورة ان تكون هناك حتمية في العلاقات السببية طالما انها محكومة بالعلة التامة الاولى. فقد رد في (تهافت التهافت) على بعض اشكالات الغزالي التي اثارها بهذا الصدد، حيث اعتبر وقال مثل التمرتين المتساويتين تغليطاً، وذلك لان اخذ تمرة منهما ليس ترجيح احداهما على الاخرى، وانما ترجيح اي منهما على الترك المطلق. وبالتالي فليس هنا تمييز المثل عن مثله، بل اقامة المثل بدل المثل، اذ يتم بلوغ المراد بأخذ اي من التمرتين على السواء. 

وما نود تأكيده هو ان اغلب افعالنا وتصرفاتنا منبعثة عن ترجيح ما لا مرجح له. فنحن مثلاً حين نمد يدنا لتناول كفة من الماء الجاري لا نميز بين الجزيئات التي صادف ان تناولناها عن غيرها من الجزيئات المماثلة لها، او حينما نخطو خطوات المسير لا يمكننا ان نميز بين الامكنة المتماثلة. وكذا في جميع الممارسات التي الفناها في حياتنا اليومية. فلولا عدم الترجيح في مثل هذه الممارسات لكان من المستحيل علينا ان نقوم باي حركة ارادية مهما كانت بسيطة. وكما قيل ان حمار بوريدان لا وجود له. وبوريدان هو من الفلاسفة المدرسيين الفرنسيين في القرن الرابع عشر؛ تصور حماراً واقفاً بين سطل ماء ومخلاة شعير يتنازعاه، وقد تجاذبه الجوع والعطش، فظل حائراً متردداً بين البدء بالشرب والبدء بالاكل حتى لقي حتفه عطشان جوعان.

هكذا فان العقل لا يحكم بضرورة وجود المقادير الخاصة باحجام الاجرام واشكالها واوزانها ومسافاتها على ما هي عليه فعلاً، فلا مانع إن كانت اعظم من ذلك او اقل، ولو بنسب متساوية. لذا نقول ان مسألة خلق العالم في لحظة ابتداء دون غيرها لا تنفي المرجح على نحو الاطلاق، اذ ان ترجيح الغاية في وجوده على عدمه هو الداعي الثابت لاي لحظة ابتداء كانت، مثلما يحصل في ممارسات حياة الانسان التي اشرنا اليها قبل قليل.

ما ننتهي اليه فعلاً هو انه ليس لدينا بحسب ما افادتنا التصورات الفلسفية ما يؤكد الحدوث الازلي، ولا كذلك العكس بحسب الادلة العقلية، وربما غيرها من الادلة. لكن يظل ان الحدوث الازلي هو امر يفرضه التسليم بمنطق العلية الصارم، حيث اعتبار المبدأ الاول في حد ذاته علة تامة. وكذا ان هذا الحدوث هو مما يقتضيه القول بالسنخية التي تجعل ضرورة وجود المناسبة التي تحفظ المراتب بعللها ومعلولاتها. بل بحسب هذا المنطق الاخير (السنخية) نجد ان الاتساق يتجاوز حد القول بازلية الحدوث والعالم من الناحية النوعية؛ ليمتد الى القول بازلية كل الحوادث من غير غياب ولا زوال، كالذي هو مؤدى النظرية الاشراقية في العلم الالهي، حيث تكون كل الاشياء حاضرة امام جناب الحق ازلاً وابداً بلا غياب ولا انقطاع.

لكن لو ابتعدنا عن المسلمات الفلسفية، وانطلقنا من افتراض وجود القدرة التامة في المبدأ الاول، سنجد انه لا مانع عقلياً من كلا الفرضين المتنافسين: ازلية الحدوث (قدم العالم)، وابتداء الحدوث. فلكل من الفرضين بعض المبررات التي تسنده. فمبرر الازلية هو عدم وجود المانع والصارف، وانه بهذا يترجح على الابتداء بأي لحظة مفترضة، اذ تصبح اللحظات او الآنات متساوية، واذا كان في جميع الآنات لا يوجد صارف ومانع، فان ارجحها هو اقدمها واولها، حيث في غير الازلية يظل السؤال وارداً عن علة الخيار المتأخر مع انه لا مانع يمنع التقديم، وهكذا لا ينقطع السؤال ما لم يكن الخيار في الصنع هو خيار ازلي. أما مبرر الابتداء فقد يكون لدواع دينية تصرف النظر عن الازلية، وذلك على شاكلة قاعدة (ان الله يفعل ما يشاء لا ما نشاء ولا يسأل عما يفعل)، او من جهة صرف الذريعة عن ذوي الافهام الناقصة من ان يتخيلوا نفي الربوبية حال توصلهم الى العلم بأزلية الحوادث، كما هو مبرر المادية الحديثة، او لكون الارادة الالهية حريصة على التفرد بالوجود قبل الخلق وبعده.. الخ. من هنا نجد ان ابن ميمون يرى ان ادلة ارسطو على القدم والادلة المعارضة لها على الحدوث هي متعادلة القوة، واعتبر العقل قاصراً على البرهنة على احد الطرفين، وان الوحي وحده يحسم المشكلة. وهذا هو نفس موقف القديس توما الاكويني (المتوفي سنة 4721م) الذي يرى ان العقل لا يمانع امكان القدم والحدوث على السواء، معتبراً ان هذه المسألة هي من المسائل الجدلية وليست برهانية.

هكذا نكون مترددين كتحير جالينوس الذي لم يعلم إن كان العالم قديماً ام حادثاً، او كاعتراف ابن سينا في عدّه مسألة >العالم حادث ام ازلي< من المسائل الجدلية الطرفين لفقدان الحجج البرهانية في طرفيها، رغم كثرة ما ابداه من موقف مؤيد للفلاسفة في القول بقدم العالم. وكذا ما اشار اليه ابن طفيل في رسالته (حي بن يقظان). مع انه من الناحية العقلية الصرفة قد يترجح الظن بازلية الحدوث تبعاً لما قدمناه من التبرير.

لكن لو اننا لجأنا الى الاعتبارات الاخرى، كاعتبارات ما يطلعنا عليه كل من الواقع، ومنه الواقع العلمي، والنص الديني، فانه كذلك ليس باستطاعتنا ان نقطع الشك باليقين. فمن حيث الواقع ان ما عليه ابرز النظريات العلمية هو ان للكون بداية، لكن هذه البداية لا تتحدث عن مواد الكون الاولية، كالمواد البسيطة والاشعاعات والجسيمات الذرية الدقيقة. كما انها تظل عبارة عن نظريات افتراضية لا يمكن القطع بها.

أما من حيث النص الديني، فالملاحظ ان القرآن الكريم رغم انه تحدث عن ابتداء خلق الحق للسماوات والارض، الا انه لم يصرح بشيء ازاء بعض المواد الاولية، كالدخان والماء. وقديماً كان ابن رشد يرى انه ليس في القرآن اية واحدة تنص على ان الله كان موجوداً مع العدم المحض، لكنه استظهر من خلال عدد من الايات ان العكس هو الصحيح، مثلما هو الحال في وجود الماء والدخان، مما جعله ينتهي الى اعتبار العالم بصورته حادثاً، وبمادته اشبه ما يكون قديماً. وهو موقف لا يختلف عن طريقته الارسطية التي فيها يرى ان المادة او الهيولى ازلية غير معلولة، لكن الله حركها واستخرج منها الصور الكامنة فيها. وواقع الامر انه ليس في القرآن ما يدل على كلا الضدين: القدم والحدوث، فلا توجد اي دلالة للايات التي استدل بها ابن رشد على القدم.

هذا فيما يخص النصوص القرآنية، أما فيما يتعلق بنصوص الحديث فالامر يختلف، ذلك انه توجد العديد من الاحاديث التي قد يبدو منها ما يؤيد فكرة الابتداء في الخلق، وإن كانت المشكلة هنا تتعلق بالقيمة المعرفية لسند هذه الاحاديث فضلاً عن الدلالة. فهناك عدد من النصوص تنفي ان يكون هناك شيء مع الله في الازل، ومن ذلك ما جاء في بعض خطب الامام علي (ع) انه قال: >وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه. كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الاجال والاوقات، وزالت السنون والساعات. فلا شيء الا الله الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الامور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها..<. وجاء عن ابي جعفر (ع) انه قال: >خلق الشيء لا من شيء كان قبله، ولو خلق الشيء من شيء اذاً لم يكن له انقطاع ابداً، ولم يزل الله اذاً ومعه شيء، ولكن كان الله ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الاشياء منه، وهو الماء<. كما جاء فيما كتبه ابو جعفر (ع) في دعاء له: >ياذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى كل شيء..<.

على هذا نجد بعض العلماء كالنراقي قد عاب على الفلاسفة في عدم اعطائهم بداية لخلق العالم؛ متهمهم بانهم قد خالفوا صريح الآيات والروايات، مما دعاه الى الاخذ بنظرية الحدوث الدهري متجنباً نظريتي الحدوث الذاتي والزماني، معتبراً الزمان حادثاً بحدوث العالم، ومبطلاً لوجود حوادث لا بداية لها، لكنه خصص الحدوث برجوعه الى العناية. علماً بأن نظرية الحدوث الدهري تعود الى الفيلسوف محمد باقر الميرداماد استاذ صدر المتألهين، والتي تؤكد على ان هناك عدماً واقعياً للعالم يسبق وجوده، وذلك خلافاً للحدوث الذاتي، كما انه يختلف عن الحدوث الزماني. وهو بهذا المعنى يتنافى مع متطلبات منطق السنخية ولا يستجيب لعلاقة العلية بين المبدأ الاول والعالم كما تفترضها الرؤية الفلسفية، بل والرؤية العرفانية ايضاً.

مهما يكن فان الفلاسفة رغم انهم يقرون الفيض وايجاد الاشياء وتنزيلها، فانهم ايضاً يقرون العكس، وهو التكامل والعودة الى ما عليه العالم العلوي، وذلك ازلاً وابداً. اذن هناك حلول واتحاد، كما هناك نزول وصعود. وهو امر سنتحدث عنه في الفصل السادس ان شاء الله تعالى.

اثر العشق في التكوين

تبعاً لمنطق السنخية والتشاكل فان هناك حباً وعشقاً متبادلاً بين المبدأ الحق والفيوضات التي ترشحت عنه. حيث جميع الممكنات تدرك الحق وتتشوق اليه فتنحو باتجاهه وتتحرك الى طلبه بالتشبه. وكما يقول الفارابي ان: >كل مدرك متشبه من جهة ما يدركه<. فابتداءاً ان للأجرام السماوية نفوساً وعقولاً كثيرة كما علمنا، حيث لكل كرة فلكية مبدؤها المفارق ونفسها التي تخصها والتي تمتاز بالشوق والادراك والتشبه فيتحقق بفعل هذه العملية الحركة لجميع الأجرام. ولدى الفلاسفة وعلى رأسهم ارسطو ان هناك تمييزاً بين المبدأ الاول وسائر المبادئ المفارقة، حيث ان هذه الاخيرة تتصف بانها مختارة وعاشقة لغيرها، بخلاف ما هو الحال في المبدأ الحق، باعتباره مختاراً بذاته، اذ كان الكل متحركاً نحوه، وهو المعشوق للكل. فلولا كونه معشوقاً ما تحرك شيء ولا تحققت غاية. وتجري العملية بأن يحرك المحرك الأول المتحرك الأول كما يحرك المحبوب المحب له، وهو يحرك ما دون ذلك عن طريق المتحرك الأول. أي ان السماء الأُولى تتحرك عن المحرك الأول بالشوق اليه؛ وذلك بأن تتشبه بقدر ما في طاقتها، مثلما يتحرك المحب الى التشبّه بمـحبـوبه، وكذا تــتـحرك سـائــر الأجــرام السماوية بالشوق تبعاً لـحركة تلك السماء. وهـذا الحال مستمر ودائم، أزلاً وأبداً، ذلك باعتبار أن أرسطو وغيره من الفلاسفة يعدون المفارقات والأجرام ونفوسها لا تموت ولا تقبل الفناء. بل ان الفلاسفة جعلوا من العشق سبباً لتأثر العالم الكوني الذي تحت القمر، حيث ان حركة السماء والاجرام سبب لحدوث الاشياء وتكونها، اذ بالعشق يؤثر الواجب في العقول، والعقول في النفوس، والنفوس في الاجرام السماوية، حيث تحركها حركة دائمة بالحركة الاختيارية الدورية تشبهاً بالعقول واشتياقاً لها، ومن ذلك تتكون عناصر الارض واشياؤها.

والفلاسفة في هذه الرؤية لا يعدون لحركة الاجرام السماوية قصداً لحدوث الأشياء السفلية، بل يعتبرون قصدها الأول والحقيقي انما هو التشبه بالعقول والاشتياق الى الحق وعبادته، فهي حية، وحركاتها ارادية قصدها عبادة الحق والتشبه به في الصفات، مما يعني ان تكوّن الأشياء يأتي بالقصد الثاني وذلك استناداً الى قاعدة (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه).

اذن ان التشبه والتحرك نحو المحبوب تبعاً للحب والعشق هو ما فتأ الفلاسفة يؤكدون عليه لدى جميع الموجودات؛ سواء تلك التي في عالم الاجرام السماوية، او في ما تحتها من الموجودات والكائنات الطبيعية، اذ مبرر ذلك قائم على وجود التشاكل والتشابه بين المراتب الوجودية، وبالخصوص بين العلة والمعلول، وبالتالي بين مبدأ الوجود الاول وما دونه من الكائنات. وعليه فقد ربط الغزالي بين ظاهرة الحب ومنطق السنخية، حيث عد من أسباب الحب؛ المناسبة والمشاكلة بين الحبيب والمحبوب، لان شبيه الشيء منجذب اليه، مؤيداً كلامه بالحديث النبوي القائل: >الارواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف<. وبهذا الاعتبار جعل حب الحق سارياً في خلقه لوجود تلك المناسبة والسنخية.

وقبل الغزالي كان ابن سينا في رسالة (العشق) الصوفية يؤكد بان سريان العشق في كل شيء ليس مكتسباً، بل هو غريزي في جميع الموجودات بالفطرة. فهذه الكائنات لا تعشق الخير المطلق المتمثل بالحق الا لكونه ظاهراً ومتجلياً في كل شيء، بما في ذلك الهيولى فضلاً عن الصورة وجميع البسائط الميتة والحية من مختلف الكائنات والنفوس، حيث تعشقه وتتشبه به بحسب استعداداتها وقابلياتها التي يتجلى لها فيها، فكلما كان الموجود اكثر شرفاً وكمالاً فان عشقه وتشبهه بالحق يكون اعظم، فالعشق والتشبه يتناسبان طرداً مع الشرف والكمال، حيث مع زيادة هذين الاخيرين يعظم الاولان، والعكس بالعكس. فمثلاً ان النفوس الملائكية تنال من الكمال ما ليس لغيرها من النفوس الارضية، فهي تتشبه بالحق في صور ذاتها وتتعقله وتعشقه بافضل ما لديها من الصورة والادراك ازلاً وابداً. وانما يكون لها ذلك تبعاً لما لديها من القابلية والاستعداد العظيم في نيل التجلي الالهي، باعتبارها تقع في المراتب القريبة للحق ضمن السلسلة الوجودية. في حين ان اقل كمال تناله الكائنات هي ابعدها عن الحق في تلك السلسلة، ومن ذلك المحسوسات الطبيعية حيث انها - كما يقول احد الفلاسفة القدماء - تتشبه بالحق، لكن لكثرة قشورها وقلة نورها فانها لا تقدر على حكاية الحق. ويصل التسافل في السلسلة الوجودية مداه الاخير عند الهيولى، وذلك باعتبار ان وعاءها الوجودي لا يستوعب الا اضعف الدرجات من التجلي وما يترتب عليه من العشق والتشبه. بل لضعف وعائها الوجودي فان ابن سينا عجز عن اثبات العشق لها في سائر كتبه سوى رسالة (العشق)، مما حدا بصدر المتألهين ان ينكر عليه ذلك بالقدح والنقد، باعتبار ان ذلك لا يتسق مع المؤدى الذي يتطلبه منطق السنخية والمشاكلة.

ومن وجهة نظر هذا الفيلسوف العارف، ان في الاصل يتجلى الحب والعشق عند الحق لجميع الوجودات، وهو ينبعث عن حبه وعشقه لذاته، والذي هو عين علمه للذات المستجمعة لاوصاف الكمال ونعوت الجمال واسماء الجلال. فلولا هذا الحب والعشق لما وجد العالم كما دل عليه الحديث: >كنت كنزاً مخفياً فاحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف<. وكما دل عليه ما قيل: >لولا العشق ما وجدت سماء ولا ارض ولا بر ولا بحر<. وسبق للحلاج (المتوفي سنة 903هـ) ان اشار في كتابه (الطواسين) الى ان الحق تعالى قد تجلى لنفسه في الازل، حيث كان ولا شيء معه، فشاهد سبوحات ذاته في ذاته، ونظر الى ذاته فاحبها واثنى على نفسه، فكان هذا تجلياً لذاته في ذاته، ومن ثم كانت محبة الذات هذه هي سبب الكثرة وايجاد الكائنات بعده، حيث شاء الحق >ان يرى ذلك الحب الذاتي ماثلاً في صورة خارجية، يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الازل واخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته واسمائه، وهي ادم الذي جعله الله على صورته ابد الدهر.. وكان من حيث ظهور الحق في صورته فيه وبه؛ هو هو<.

وكذا كان ابن عربي يرى ان الحب هو علة خلق العالم واصل جميع الاعتقادات والعبادات، وهو سار في جميع الاكوان حتى الذرات، حيث ان بالحب يندفع الحق الى الظهور بصور الخلق، بل وان بسببه يندفع الخلق الى الفناء والتحلل من الصور ومن ثم الرجوع الى الاصل.

هكذا يكون الحب والعشق متبادلاً بين الحق والخلق، وهو علة وجود العالم وحركته وكماله. مع الاخذ بنظر الاعتبار حالة النقص في النظرية الارسطية، ذلك انها لا تعترف بالعشق الا من طرف واحد هو الداني للعالي تبعاً لقاعدة (ان العالي لا يلتفت الى السافل)، اي انها لا تعترف بالعشق النازل الى تحت، انما تكتفي بالعشق الصاعد الى فوق. وبالتالي فانها لا تبرر وجود المفارقات والاجرام السماوية تبعاً لتلك الظاهرة من العشق، حيث لا تعد المبدأ الحق عاشقاً ومحباً لغيره لتبرر بذلك ايجاده للكائنات. وبعبارة اخرى ان ظاهرة الايجاد في الاصل لدى النظرية الارسطية لا تبررها مقولة العشق، وكأن الوجودات ظهرت بالعرض والصدفة نتيجة حركة الاجرام السماوية وتشبهها بالمفارقات والمبدأ الحق. وهي الصدفة ذاتها التي جعلت ما يخرج عن المادة من الصور على شاكلة المبدأ الحق رغم انها مستقلة واجنبية عنه تبعاً لوجهة النظر الارسطية. في حين ان ظاهرة الايجاد مبررة لدى العرفاء واغلب الفلاسفة المسلمين؛ انطلاقاً من العشق النازل، والذي عليه يترتب العشق الصاعد.

هكذا ان العشق في المرتبة الاولى من الوجود عند الفلاسفة والمتصوفة المسلمين هو السبب في وجود سائر المراتب والاشياء الاخرى.

العشق ومشكلة التفات العالي للسافل

رغم ان الفلاسفة يقرون بقاعدة (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، الا انهم لا يقصدون منها نفي ان يكون هناك طريق للسافل ينتفع ويستفيد به من العالي. ذلك انهم يفرقون بين الانتفاع والافادة بالقصد الذاتي او الاول، وبين ما يحصل بالقصد العرضي او الثاني. فمن حيث القصد الذاتي ان العلة لا تعتني بما هو دونها ولا تقصده في فعلها، فهي عالقة النظر الى ما فوقها لتتشبه وتستكمل به في عشقها اياه دون ان تلتفت الى ما دونها. أما بحسب القصد العرضي فان العلة يترشح عنها انتفاع السافل، وذلك بفعل ما تقوم به في قصدها الاول. وقد جاء في قول الحكماء القدماء: >لولا عشق العالي لانطمس السافل<، وكما قيل: >وللارض من كأس الكرام نصيب<.

وعلى هذه القاعدة فان الاجسام الطبيعية من الماء والنار والشمس والقمر، انما تفعل افاعيلها من التبريد والتسخين والتنوير، وذلك لحفظ كمالاتها وليس لانتفاع الغير منها. فانتفاع الغير انما يلزم عنها على سبيل الترشح. وكذا الحال ان القصد من حركات الاجرام السماوية ليس نظام العالم السفلي، بل عشق النفوس الجرمية وتشبهها بمفارقاتها العقلية، ومن ثم ان هذه المفارقات لا تفعل افاعيلها الا من حيث عشق المبدأ الحق وطاعته والتشبه به، فمن كل ذلك يترشح نظام ما دون الاجرام من العالم السفلي. اذن ان غاية جميع المحركات من القوى العالية والسافلة في تحريكها لما دونها انما هو لاجل الاستكمال والتشبه لمعشوقاتها التي فوقها، حتى تنتهي سلسلة التشبهات والاستكمالات الى الغاية الاخيرة والخير الاقصى، وهو المبدأ الحق، حيث انه يمثل قصد جميع الموجودات وغايتها من التشبه والعشق، وذلك تبعاً لتشبهها بعللها القريبة واستكمالها بها.

فلو اخذنا باعتبار النظام التسلسلي للعلل والمعلولات، وان الالتفات المقصود هو التفات صاعد من المعلول الى العلة، فان امر الحب سيتوقف عند مرتبة المبدأ الحق الذي ليس له من قصد في فعله سوى حبه لذاته، وذلك لعدم وجود ما هو اعلى منه.

اذن ان العلة لا تنظر الى المعلول ولا تلتفت اليه ذاتاً، وذلك تطبيقاً للقاعدة الانفة الذكر. فكل ما للسافل من علاقة انما هو استلام ما يترشح عن العالي من نفع غير مقصود، ويظل ان غاية ما تفعله العلة هو لاجل ما هو اعلى منها.

وقد يبدو للقارئ ان الفلاسفة لا يقرون اي نحو من انحاء الالتفات من قبل العلة الى المعلول، خصوصاً العلل الثانوية بعد العلة الاولى، وذلك استناداً الى نظرية الترشح، لكن حقيقة الامر ان اغلبهم لا يقصدون نفي مطلق الالتفات، بل يعولون على الالتفات بالقصد الثاني.

ويمكن ان يقال ان هناك تفسيرين لمسألة الحب وعدم التفات العالي للسافل، احدهما ارسطي ينكر اي نحو من انحاء الالتفات نحو السافل، انما يستفيد هذا الاخير من العالي تبعاً لنظرية الترشح من غير قصد تماماً. بل تبعاً لهذا التفسير انه لا علم للعالي بوجود السافل الا من حيث كونه صورة في ذاته.

أما التفسير الاخر فهو ذلك الذي تبناه اغلب الفلاسفة المسلمين، وهو ان العالي يلتفت الى السافل بحسب القصد الثاني لا الاول. حيث على هذا الاعتبار يمكن للعالي ان يحب السافل ويحنو عليه تبعاً لحبه لذاته، وبذلك يمكن ان تفسّر نشأة الوجودات وترتيبها المحكم تبعاً لما عليه هذا النوع من الحب العرضي. فمن حيث حب المبدأ الاول لذاته وقصده لها فانه يحب ما يصدر عنها من الموجودات، وذلك بالعرض والتبعية، ولولا هذا الحب والقصد للذات لما نشأ حبه لسائر الموجودات ولا ارادها ولا اوجدها تبعاً للعناية. بل ان حب الحق لذاته هو عين علمه بالذات كما لدى صدر المتألهين، مما يعني ان هذا الحب الاولي لابد ان يستلزم عنه حبه للوازمه وآثاره المتمثلة بالموجودات كافة، مثلما ان علمه بذاته يستلزم علمه بآثاره ولوازمه من الموجودات. او يمكن القول انه لما كانت عنايته للموجودات هي نفس ذاته، فارادته هي عين الداعي، وهو نفس علمه بنظام الخير الذي هو عين ذاته، وبالتالي فهو في هذه العناية التي هي عين علمه بذاته، انما يكون مبتهجاً بها اشد الابتهاج، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه، فيكون قصده وحبه والتفاته الى ذاته بحسب القصد الاول، أما حبه لغيره فهو بالعرض، حيث ان حبه لذاته قد تقدم على حب كل شيء، ومن هذا الحب ترشح الحب والعناية بالسفليات. هكذا يكون المبدأ الحق هو الفاعل والغاية والقصد والمقصود، كما انه آخر الاواخر من جهة كونه غاية تبتغيه جميع الاشياء، اذ تتشوق اليه طبعاً وارادة، فهو المعشوق الحقيقي والخير المطلق.

***

لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد، هو ما الذي دعا الفلاسفة يجمعون على نفي امكانية ان يلتفت العالي الى السافل بحسب الذات والقصد الاول؟

عن هذا السؤال يجيب الفلاسفة بان نظام الوجود قائم على ان الغاية والمقصود لابد ان يكونا بالضرورة اكمل من القاصد. فلو ان العلة كان لها قصد ذاتي الى معلول لكان هذا القصد معطياً لوجود ما هو اكمل منه، فتكون العلة مستكملة بما هو دونها، وهو محال. لهذا نفى الفلاسفة ان يكون للمبدأ الحق غرض غير ذاته، فكما قرر ابن سينا ان الغرض يفضي الى الاستكمال بالغير، كما يفضي ايضاً الى التكثر في ذاته، اذ على هذا الفرض لابد ان يكون في المبدأ الحق شيء ما عنه ظهر القصد، وهو علمه بوجوب القصد او استحبابه او خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد ما، وبالتالي الفائدة التي يستفيد فيها من القصد، وهذا التكثر محال. كما استدل ابن سينا على بطلان ان يكون للمبدأ الحق قصد غير ذاته في فعله لنظام العالم، وذلك بانه لو توخى هذا القصد في فعل النظام لجاز عليه فعل غير النظام، كما هو جائز لدى البشر، وحيث لا يجوز عليه ذلك فيجب ان لا يكون النظام هو المتوخى لفعله.

لكن لِمَ لا يقال ان الحق لما كان عبارة عن كل شيء فهو ناظر وملتفت الى هذه الاشياء بعين نظره والتفاته الى ذاته؟ فغرضه على هذا يكون هو الذات او الاشياء من دون فرق، ومن ثم فلا يوجد تكثر عارض عليه، كما ليس من الممكن ان يفعل شيئاً اخر غير النظام. وهذا الجواب هو ذاته يقال بخصوص كل علة في علاقتها بمعلولها.

كما لِمَ لا يقال ان التفات كل علة الى معلولها انما هو بحسب القصد الاول، وذلك للجاذبية الناشئة عن المشاكلة بينهما بحسب السنخية، لكن دون ان يمنع ذلك من التفاتها الى ذواتها وما هو فوقها من العوالي؟ وذلك لان العلة تمثل كمال معولها، فنظرها الى ذاتها وحبها لها؛ يبرر حبها لمعلولها والتفاتها اليه ذاتاً، حيث شبيه الشيء منجذب اليه.

كما لِمَ لا يقال ان كل علة تنظر الى ما تحتها نظراً ملؤه الرحمة والرأفة من غير ان يكون لها غرض يخصها بالذات، وذلك باعتبارها في غنى عن المعلول لكمالها؟ واذا ما طبقنا هذا الامر على المبدأ الحق، فان غرضه من الفعل هو تمام العطف والرحمة بآثاره دون ان يكون له غرض لذاته الخاصة، وبالتالي فان من الممكن اعتبار هذا الغرض هو الدافع الذي يمنعه من ان ينشئ غير هذا النظام المعهود. وهذا الافتراض لا يلزم منه الاستكمال بالمعلول والمقصد، وذلك لكون العلة لم تفعل ما تفعله الا من جهة الجود والرحمة.

على ان الفلاسفة حاولوا ان يدفعوا الكثير من الاشكالات التي ترد حول تلك القاعدة (المتعالية) بأجوبة مختلفة ومتعارضة احياناً، وهي اشكالات مستمدة من اغلب ظواهر الواقع المشهود. ومن ذلك ما ذكره ابن سينا، وهو إنا نرى الاحسان الى الاخرين من دون نفع شخصي يعود الى المحسن، فكذا لِمَ لا يجوز للحق ان يفعل الاحسان للخلق من غير غرض آخر؟ فأجاب الشيخ الرئيس بان مثل هذا السلوك للانسان لا يخلو من غرض، اذ قد تكون ارادة الخير بالغير لتحصيل اسم حسن او ثواب او ثناء او هو امر واجب. مع ان هناك احوالاً لا تتحقق بها تلك الدواعي الشخصية التي ذكرها ابن سينا. فمثلاً ان انقاذ غريق يشرف على الموت غالباً ما يحصل لدواعي انسانية محضة دون اعتبار آخر من حسن السمعة والثواب والخوف من العقاب وما الى ذلك.

وهناك جواب آخر ذكره الغزالي لدفع الاشكالات التي ترد على القاعدة عبر عدد من الامثلة الحياتية، وذلك مثل حراسة الراعي لغنمه وتعليم المعلم لتلميذه وارشاد النبي لامته، حيث اعترف بان نفس هذه الافعال لها دلالة على خسة الفاعل مقارنة مع المفعول لاجله، ولكن من تلك الجهة لا غيرها، اذ قد يكون الفاعل اشرف من ذلك المفعول في كل الجهات باستثناء تلك الجهة. لذا صرح كجواب عن الفلاسفة: >قيل: أما الراعي فهو اخس من الغنم من حيث انه راع، وانما هو اشرف من حيث هو انسان. وانسانيته غير مطلوبة لاجل الرعاية فقط، فإن لم يعتبر منه الا وصف كونه راعياً، فهو بهذا الاعتبار اخس من الغنم بالضرورة، كالكلب الحارس للغنم، فانه اخس من الغنم بالضرورة ان لم يكن له وصف سوى كونه راعياً. فإن كان يتأتى منه الصيد فهو بذلك الوجه يجوز ان يكون اشرف. فأما هو من حيث انه حارس للغنم فقط بالضرورة يكون اخس منه، لان ما يراد لغيره فهو تبع لذلك الغير، فكيف لا يكون اخس منه. وهو الجواب عن المعلم والنبي، فان شرف النبي من حيث انه كامل في نفسه بصفات يكون بها شريفاً وان لم يشتغل باصلاح الخلق، فان لم يعتبر منه الا وصف الاصلاح لزم ان يكون المطلوب صلاحه اشرف من المستعمل في الاصلاح<.

والواقع ان هذا الجواب غير مقنع، فنحن لا نستطيع ان نحكم بخسة او شرف الفاعل بالقياس مع المفعول لاجله اذا ما جزأنا الامر ونظرنا الى عين جهة الفعل الذي يقوم به دون النظر الى اعتبارات اخرى، فقد يكون الفاعل مقدماً على فعله بالكرم والجود الذاتي دون اعتبار اخر؛ وهو من هذه الجهة لا يعقل ان يكون اخس من المفعول لاجله. لهذا لا يجوز ان نحكم بخسّة المعلم بالقياس الى التلميذ، والنبي بالقياس الى امته، وكذا المنقذ بالقياس الى الغريق؛ من جهة ما يقومون به من خدمات لا تفسّر في حد ذاتها الا بالشرف والجود. بدلالة انه لو صح ما يقوله الفلاسفة؛ لتعين ان يكون شرف المعلم أقل عند تعليمه للتلميذ مقارنة مع ترك فعل التعليم، وكذا بالنسبة لما يقوم به النبي من اصلاح وارشاد لامته، فانه تبعاً لذلك يكون اقل شرفاً وكمالاً مقارنة مع تركه لهذا الفعل الحسن.

وعلى هذه الشاكلة ما اختاره صدر المتألهين في بعض كتبه، حيث قرر بأن ما ثبت عند الحكماء من (ان العالي لا يلتفت الى السافل) انما يراد بذلك العالي من كل وجه، وعليه يمكن ان يلتفت العالي الى السافل لو كان اقل منه كمالاً في بعض الوجوه. وبه فسّر كيف ينفعل الجوهر النفساني من السماوات عن احوال بعض الارضيات كالنفوس الناطقة الشريفة، فيلتفت الى تلبية طلباتها واجابة دعواتها، وهو لا ينافي كون تلك النفوس اعلى من ذلك الجوهر في جوانب اُخر غيرها. وبهذا الجواب ردّ على ابن سينا في تعليقاته الذي اراد ان يفسر علة انفعال النفوس السماوية بالارضيات التي هي ادنى منها، كما يحصل في حالة استجابة هذه النفوس لدعاء الناس. فمن وجهة نظر ابن سينا انه لا يمكن للارضيات ان تؤثر على العلويات السماوية، لكون هذه الاخيرة عللاً للاولى، وليس من المعقول ان يؤثر المعلول على علته، وعليه اعتبر ان سبب الدعاء هو ايضاً منبعث من فوق، اي ان النفوس السماوية هي التي تحفزنا على الدعاء، فنكون نحن وسبب الدعاء كلانا معلولين لعلة واحدة هي تلك النفوس الفوقية. (هناك اجابة اخرى لاستجابة الدعاء مختلفة عند ابن سينا مذكورة لدينا في مستدركات الوجودي)

ومن الواضح ان اجابة ابن سينا اشد اتساقاً مع المنطق الفلسفي في حفظه للمراتب الوجودية. أما صدر المتألهين فله نظر اخر عرفاني قائم على منطق المقامات المتعددة للشيء الواحد، وبه يجوز للانسان ان يتحد بالعلويات في بعض المقامات التي يترقى فيها، فيكون بذلك اعلى رتبة من بعض العلويات السماوية وإن كان في مقامات اخرى اقل منها، كالذي سيأتينا تفصيله فيما بعد.

كما ان هناك اجابة اخرى تختلف عما سبق، وقد ذهب اليها صدر المتألهين ومن قبله ابن سينا. فقد عرض مثالاً حول قصد الطبيب من معالجة المرضى وتدبيره اياهم، رغم ان الطبيب هو اكثر كمالاً من المريض في علمه وتدبيره. وكان من المتوقع ان يعقد هذا العارف مثل هذه المقارنة ومن ثم يقوم برفع الاشكال عن ذلك، لكنه لم يفعل، بل لجأ الى التركيز على الغاية التي يراد تحقيقها من المعالجة، وهي الصحة، معتبراً ان الطبيب ليس فاعلاً لها الا بالعرض، فواهب الصحة أجّل من الطبيب وقصده؛ يهب الكمال على المواد حين استعدادها، فيكون المفيد شيئاً آخر اكثر من القاصد. وواقع الامر ان هذا ليس بجواب على الاشكال، اذ يمكن ان يقال ان من قصد الطبيب شفاء المريض، وهو ملتفت لاجل هذه الناحية بالذات رغم انه لا يهب الكمال للمواد، وبالتالي كيف جاز له ان يلتفت الى تقديم العون الى مريضه مع انه اكمل منه في هذه الناحية بالذات؟

كذلك فان هناك اجابة اخرى مختلفة تمسك بها صدر المتألهين وقبله ابن سينا. فقد اعترف بان الغاية كثيراً ما تكون اخس من القصد والقاصد، وذلك اعتماداً على ما اذا كان الامر يقع على سبيل الغلط والخطأ او الجزاف، كما يقع لافراد البشر من طلب ما هو اخس منه، وهو يجري في عالم الفساد والكون ولا يجري في عالم السماوات المصونة عن الخطأ والغلط.

وهذا الجواب وان كان ينطبق على حالات كثيرة، لكنه لا ينطبق على حالات اخرى، فحاجة الانسان مثلاً للماء والهواء والنار؛ ليست على سبيل الخطأ؛ مع ان الانسان ليس اقل شأناً منها، ولا ان بدنه اقل قيمة من هذه المواد، فمثلاً ان البدن لا يخلو من ماء، وهو يزيد عليه بعناصر اخرى مختلفة؛ فيكون اكبر شأناً منه تبعاً للمقاييس الوجودية. الامر الذي يدل على جواز احتياج الكامل الى ما هو انقص منه؛ كشرط للكمال والبقاء والوجود.

يلاحظ مما سبق ان هناك اجوبة عديدة لتبرير قاعدة عدم التفات العالي للسافل، بعضها يفيد ان فعل الفاعل ينطوي على وجود غاية مستترة تخص ذاته كما عليه ابن سينا، وبعض آخر يعتبر الفاعل الاشرف يجوز ان يكون اخس مما هو دونه من جهة نفس الفعل لا غير كما عليه الغزالي، كما ان هناك جوابين لصدر المتألهين، احدهما يعد بعض الافعال الغائية عرضية لا اعتبار لها من حيث القيمة، والاخر يعد الفعل يستبطن لوناً من الغلط والاشتباه. ولكن كما لاحظنا ان جميع هذه الاجوبة لا يمكنها ان تفسر لنا بعض الظواهر التي تتعلق بالافعال الغرضية للغير على سبيل محض الجود والرحمة، كما في مثال انقاذ الغريق، وكذا لا يسعها ان تبرر لنا لماذا يحتاج الكامل الى ما هو دونه ويقصده بالذات، سواء في الوجود او الكمال او البقاء، كما في حاجة الانسان للماء والهواء. وعلى رغم نفي الفلاسفة للالتفات الذاتي من قبل العالي للسافل؛ فانهم مقرون بان مقصود الشرائع وغايتها هداية الناس وسوقهم من الحضيض الى الكمال بجوار المبدأ الحق. لكن قد نتساءل ونقول: لماذا هذا الاهتمام والاعتناء؟ وما للتراب ورب الارباب؟!

وهذا الاشكال ينضوي تحت اشكال اعم منتزع عن حسابات الاحتمال، وهو ان قاعدة (عدم التفات العالي للسافل) تفضي الى ان يكون تلائم الوجود بالصورة المنظمة الدقيقة على ما نراه؛ قد حدث للمصادفات العرضية الكبيرة، وذلك لكون مصالح الخلق لم تأت بالقصد الذاتي وانما جاءت على سبيل العرض. في حين يمكن تفسير هذا النظام البديع تبعاً للقصد الذاتي، اي ان النظام مقصود بفعل المبدأ الحق لأن يكون من الناحية الذاتية بهذه الدقة والروعة، وذلك استناداً الى مبدأ البساطة ومنطق الاحتمالات.


لكن يجوز ان يجاب على هذا الاشكال بحسب المنطق الوجودي، وهو ان العالم لما كان يستند في صدوره على السنخية؛ فان ما نراه من مصالح ونظام دقيق انما جاء وفق ما كان في ذات الحق من طبيعة متسقة، فلا يضر بذلك ان لم يلتفت الحق الى غيره الا بالعرض، لان مآل الامر واحد، وهو ان نظام الحق في ذاته المقدسة لابد ان ينعكس على الواقع؛ فيحدث النظام الدقيق ومصالح الخلق في العالم.

وبالفعل نجد هذا الجواب عند صدر المتألهين، اذ عرض اشكالاً على هيئة ما سبق، وهو انه لو كان غرض المبدأ الحق لا علاقة له بنفع الممكنات؛ فلماذا نرى هذا النفع والاتقان والتدبير العظيم الذي لا غنى للممكنات عنه؟ وكان جوابه هو ان كل ما نراه انما صدر عنه باعتباره منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، وعليه كان لابد ان يصدر عنه ابلغ ما يكون في الكمال والاتقان والجمال؛ سواء من الضروريات كوجود العقل للانسان، وارسال النبي للامة، او ليس من الضروريات مثل إنبات الشعر على الاشفار والحاجبين، وتقعير الاخمصين على القدمين، وما الى ذلك.

والعجيب ان صدر المتألهين رغم كل ما سبق من دفاعه عن قاعدة (عدم التفات العالي للسافل) فانه قام بخرقها ومناقضتها بحكم لحاظ العديد من ظواهر الواقع. اذ اصبح لا مانع لديه من ان يلتفت العالي للسافل بقصد ذاتي لا عرضي. وكما يقرر هذا الفيلسوف من انه لما كان في جبلة المعلولات نزوع نحو عللها واشتياق اليها؛ لذا يحصل في جبلة هذه العلل رأفة وعطوفة عليها، كما يكون في الاباء والامهات على الاولاد، وفي الكبار على الصغار، وفي الاقوياء على الضعفاء، وكذلك لشدة حاجة الضعيف الى معاونة الاقوياء، وسر ذلك يعود بنظره الى ان الجنس يحن على جنسه.

ولا شك ان هذا الجواب هو اوفق مع السنخية واليق بها من نفي الالتفات الذاتي للعلة الى معلولها.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار