آليات قراءة النص الديني

يحيى محمد

لابد من التمييز بين عدد من المفاهيم التي لها علاقة بقراءة النص (الديني) وفهمه. فلدينا ما يُطلق عليه النص والظاهر والباطن والتأويل والتفسير وما الى ذلك. وقد اعتاد علماء التفسير والشريعة ان يتعاملوا مع نوعين من قراءة النص، احدهما يعبر عن حمل النص على معناه البيّن او الظاهر(1)، والاخر يطلقون عليه التأويل، وهو حمل النص على غير ظاهره، كما هو اصطلاح المتأخرين. وبالتالي لا توجد هناك الية اخرى للقراءة غير هاتين الاليتين، وكذلك لا يوجد غير مستوى واحد من القراءة، وان هذه القراءة بوسعها ان تكون مستقلة ومفصولة مبدئياً عن التحديدات المعرفية القبلية. والحال ان العلاقة بين المفاهيم السابقة تختلف عندنا، وان هناك اكثر من اليتين، بل واكثر من مستوى للقراءة، وان هذه القراءة لا يمكن فصلها عن التحديدات القبلية، وان للنص ظهوراً اخر غير الظهور اللفظي المتعارف عليه، وانه اعتماداً على الموقف من هذين الظهورين تتحدد نوع الالية التي تستخدم في القراءة..

ولاجل الكشف عن هذه الامور نبدأ بتقسيم مستوى القراءة الى مرحلتين او نوعين من الاليات كالاتي:

آليات المرحلة الاولى (الاشارة)

اذا ما كان للنص ظاهر يفهم معناه فهذا يعني - من وجهة نظرنا - ان هناك ثلاثة عناصر ضمنية بعضها يتقوم ويتأثر بالبعض الاخر، ولها علاقة بصياغة وتحديد هذا الظاهر، ونطلق عليها بكل من الظهور اللفظي والسياق والمجال. كذلك هناك عنصر رابع خارجي يخص المحددات القبلية، او ما نطلق عليه (القبلية المعرفية)، حيث له دوره الفاعل في تحديد معنى ذلك الظاهر كالذي سنتعرف عليه فيما بعد. ونقصد بالقبلية المعرفية ما هو اعم من مفهوم (المعرفة القبلية)، ذلك ان المفهوم الاخير يراد به عادة كل معرفة عقلية سابقة للحس والتجربة، أما ما نقصده من المصطلح الاخر فهو كل معرفة تسبق قراءة النص، سواء كانت معرفة حسية او عقلية او غيرها.

ولدى البيانيين والاصوليين ان الظهور اللفظي هو عبارة عن حمل اللفظ على الحقيقة وعلامتها التبادر. والمقصود بالتبادر هو انسياب المعنى الى الذهن مباشرة عند قراءة اللفظ او سماعه. ولا شك ان التبادر في حمل اللفظ على الحقيقة له اسباب قد تكون مختلفة بين شخص واخر، وبعضها قد تكون اسباباً شخصية ذاتية واخرى عامة، كما ان هذه الاخيرة قد تختلف رقعتها ودائرتها بين جماعة واخرى وذلك تبعاً لما عليه القبلية المعرفية. اضافة الى ان من الاسباب ما له علاقة بالوضع الشرعي. لكن غالب الامر هو ان التبادر يأتي بسبب كثرة استعمال اللفظ على المعنى المخصوص، والذي يتخذ اطاراً عرفياً، كما يرى ذلك البيانيون والاصوليون، وهم بذلك يقسمون الحقيقة اللفظية الى لغوية وعرفية وشرعية.

وهنا لابد من لحاظ جملة امور بهذا الصدد كالاتي:

اولاً:

ان ما يقال من ان الظهور اللفظي لا يكون الا عند حمل اللفظ على الحقيقة وعلامتها التبادر؛ هو امر غير صحيح اذا ما اخذ على اطلاقه. فهو لا يصدق الا على اللفظ المفرد او المنعزل عن النص، اي ذلك الذي ليس له علاقة بسائر الالفاظ والعلاقات القائمة بينها. فلو اخذ اللفظ ضمن دائرة الالفاظ وسياقها فان كلاً من الظهور وتبادر المعنى سوف لا يتوقفان على ما للفظ من حقيقة. وبعبارة اخرى انه لا يوجد تلازم بين الحقيقة اللفظية وبين الظهور، وكذا لا يوجد تلازم بينها وبين التبادر، حيث لا مانع من ان يعبر الظهور اللفظي عن المعنى المجازي بالتبادر. ذلك انه قد تتدخل بعض القرائن القبلية المنفصلة بالعمل على صياغة وتحديد المعنى اللفظي تبعاً لمنبهات القرائن اللفظية والسياقية. فبفعل التنبيه الذي يثيره مجرى سياق النص مع ما للالفاظ الاخرى من دلالات؛ قد ينساق الذهن مباشرة الى حمل اللفظ على المجاز، فيصبح الظهور معبراً عن المعنى المجازي لا الحقيقي. وبالتالي فالحقيقة لا تساوق الظهور، او ان احدهما لا يدل على الاخر، فقد لا تعبر الحقيقة عن الظهور، وكذا الظهور عن الحقيقة، مع اخذ اعتبار ما للقرائن المنفصلة - سواء كانت نقلية او خارجية او عقلية - من دور في تحديد الظهور اللفظي.

فمثلاً في الايتين القرآنيتين: {واسأل القرية التي كنّا فيها والعِير التي أقبلنا فيها} يوسف/2 8 ، {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} الانبياء/1 1 ، نجد للفظة (القرية) ظهوراً للمجاز كما ينبه عليه مجرى السياق، اذ لو حملناها على الحقيقة لكان من الصعب فهم ما تعنيه الايتان، اذ كيف يمكن ان نسأل القرية وهي ليست من الكائنات الحية والعاقلة؟ لكن بفعل ما يختزنه الذهن من القبلية المعرفية، مثلما يتمثل بالضرورة الحسية، فان ما يتبادر من المعنى مباشرة هو اهل القرية وليس القرية ذاتها.

وعلى هذه الشاكلة يمكن لحاظ نفس الشيء في قوله تعالى: {فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه} الكهف/7 7 ، حيث ظهور الاية لم يأت بحسب حمل جميع الالفاظ على الحقيقة والتي منها لفظة (يريد)، ذلك ان علاقة الالفاظ ببعضها تسمح لان يكون للجدار ارادة، وهو امر لا يعقل كما تدل على ذلك الضرورة الحسية. وعليه فأول ما يتبادر للذهن هو حمل معنى الارادة في هذا السياق على المجاز. او قل ان تبادر الظهور في الاية كما ينبه عليه السياق هو حمل اللفظ على المعنى المجازي تبعاً للمخزون الذهني من الضرورة الحسية.

هكذا فسواء في هذه الاية او ما قبلها هناك تبادر للظهور في المعنى المجازي وليس الحقيقي.

ثانياً:

اذا كان للسياق دور منبه في تبادر المعنى والظهور اللفظي سواء بالنسبة للحقيقة او المجاز؛ فان له دوراً مماثلاً في تحديد المعنى الذي يخص الحقيقة بتجلياتها المختلفة. فالحقيقة اللفظية كما يمكن الاشارة اليها بنحو حسي مثلاً، فانه يمكن الاشارة اليها بروح المعنى العام الذي يشمل ما هو حسي وغير حسي. فقد يُحمل اللفظ ضمن سياق ما على اعتبارات الجانب الحسي لحقيقة اللفظ، كما قد يُحمل ضمن سياق اخر على جانب معنوي لنفس تلك الحقيقة.

فمثلاً قد يتبادر لنا في الكلام العادي معنى الميزان بانه هذا الميزان المحسوس، لكنّا عندما نقرأ قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً} الانبياء/7 4 ، او قوله: {وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} الحديد/5 2 ؛ فانه لا يتبادر لنا هذا الميزان، وانما يتبادر شيء اخر، وذلك استناداً الى السياق والالفاظ الاخرى، واعتماداً على ما عليه القبلية المعرفية. وبالتالي فليس للفظ حقيقة مشخصة واحدة، فحيث ان له علاقات وارتباطات بسائر الالفاظ؛ فان ذلك يؤثر على جعله يكتسب المعنى المناسب تبعاً لما تفضي اليه القبلية المعرفية. مما يعني انه بفعل السياق والقبلية المعرفية يمكن تخصيص الظهور من المعنى المشترك العام للفظ. ففي مثالنا السابق ان الميزان المحسوس لا يختلف عن ذلك الميزان الذي تحدثت عنه الايتان تمام الاختلاف، بل بينهما وحدة معنوية مشتركة تجمع ما بين الطرفين، شبيه بالذي تحدثت عنه (نظرية المشاكلة) التي تعود الى بعض العرفاء والاشراقيين من الفلاسفة( 2 ). وهذا ما يجعلنا نتعامل مع الظهور اللفظي للحقيقة على مستويين. او قل ان ذلك يفرض علينا ان نتعامل مع الحقيقة اللفظية تبعاً لمعنيين: احدهما عام لِما يحمله من روح المعنى بلا خصوص، والاخر خاص لِما يحمله من المعنى المشخص لذلك العموم.

ومن حيث الترتيب المنطقي لابد ان يستبق المعنى الاول الثاني، وان الثاني يتضمن الاول. اي ان الحقيقة بالمعنى الخاص لا تكون كما هي عليه بهذا الوصف ما لم تكن في الوقت نفسه، بل وقبل ذلك، عبارة عن حقيقة عامة مشتركة. ففي البدء يفترض - بحسب التجوز المنطقي - انها كانت حقيقة مشتركة ثم تشخصت بمعنى محدد. وهي عند تشخصها تكون قد هيئت المجال باتجاه تفسير النص، وذلك على خلاف ما هي عليه قبل التشخيص.

فمثلاً: عندما نريد ان نعرف معنى اليد ضمن احد النصوص المقروءة ونشخصها بهذه اليد الجارحة؛ فان ذلك يعني اننا من حيث الترتيب المنطقي نفهم ان اليد عبارة عن عضو حي يستخدم في المسك والصنع والتكوين، ولا يستخدم في السمع والابصار مثلاً، وفي حدود هذا المعنى الاخير فان فهمنا لليد انما هو بمعناها العام المشترك، اي ذلك الذي لا يفيد في حد ذاته المعنى الخاص كهذه اليد الجارحة. لكن عندما نخطو خطوة اخرى فنشخص معناها بهذه الجارحة او بغيرها وفق ذلك المعنى المشترك؛ فاننا في واقع الامر قد هيئنا الامر باتجاه تفسير النص الذي احدى مضامينه اللفظية هي هذه اللفظة المبينة. علماً انه قد يتحد المعنيان من الناحية العملية بحيث ان المتبادر لدينا يظهر بصورة المعنى الخاص من غير مرور بالمعنى العام، وذلك عندما يعبر التبادر عن الدرجة القوية من الوضوح تبعاً للسياق والقبلية المعرفية، مثلما يظهر ذلك نتيجة كثرة الاستعمال على المعنى. لكن في احيان اخرى قد يتضح المعنى العام دون الخاص، وانه للوصول الى هذا الاخير يحتاج من الجهد في الاجتهاد والتحديد تبعاً لاعتبارات مضافة من القبلية المعرفية، ومن ذلك القبلية التي تتصف بالرؤى المنظومية، مثلما هو الحال مع التحديدات الوجودية في النظام الوجودي، كالذي تعرضه (نظرية المشاكلة).

ثالثاً:

يمكن المقارنة بين الالفاظ والسياق من حيث العلاقة بينهما على الصعيدين المعرفي والثبوتي. فمن الناحية الثبوتية ان السياق ليس له اي ثبوت من غير الالفاظ، والعكس ليس صحيحاً، حيث قد تكون الالفاظ موجودة مستقلة ومنعزلة بلا اي سياق او علاقات، لكنها لا تشكل نصاً، حيث ان ميزة النص بسياقه، وان السياق هو تلك العلاقة القائمة بين الالفاظ، وبالتالي فان تحديد وضع السياق يعتمد على ما عليه الالفاظ، فاي تغير في هذه الالفاظ يبعث على تغير السياق او العلاقات. أما من الناحية المعرفية فان المتكلم يضع الفاظه في سياق خاص ليدل بها على ما يريد من مقصد، وبالتالي فان بالسياق يمكننا فهم ما يراد من الالفاظ إن كانت تُحمل على الحقيقة او المجاز او الرمز، وكذا فان به يمكن حمل اللفظ بحسب ما هو مألوف من المعاني الحسية والوجدانية او بحسب ابعاد اخرى معنوية مجردة، ولو انه تغير السياق لافضى ذلك الى تغيير المعنى، كإن يبدل اللفظ من محل الى اخر. فحتى في الحالات التي يكون التغير في السياق تغيراً طفيفاً فانه قد يغير شيئاً ما من المعنى؛ كالذي لاحظه علماء البلاغة، ومن ذلك الفارق بين القولين: (زيد كالاسد) و(كأن زيداً الاسد)، فرغم ان كلا القولين دالان على التشبيه، لكن في القول الثاني هناك زيادة في المعنى على القول الاول وهي انه دال على >فرط شجاعته وقوة قلبه، وانه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الاسد، ولا يقصر عنه، حتى يتوهم انه اسد في صورة ادمي( 3 ).

رابعاً:

قلنا ان للسياق دوراً في تحديد المعنى الذي ينبغي اختياره للفظ إن كان بحسب المجاز او الحقيقة. ويمكن تمثيل هذا الدور بمثابة العلة المادية او الشرطية التي تهيء للعلة الفاعلية ان تقوم بدورها في التحديد والتعيين. وهنا ان ما نقصده بهذه العلة الاخيرة هو القبلية المعرفية مثلما تتمثل بالقرائن المنفصلة، حيث بها يتم انتقاء المعنى الذي يناسب السياق ويتسق معه، سواء كان هذا المعنى مأخوذاً بحسب الحقيقة او المجاز. بل ان مجرى السياق والالفاظ الاخرى قد تبدي من الايحاءات الى ما هو اكثر من ذلك في بعض الاحيان، وهو انها قد تفتح باب الاشارة للمعنى الرمزي للفظ، وذلك بحمل (المجال) على المجاز واغفال (المجال) بمعناه الحقيقي، كالذي يمارس في القصص الرمزية، مثل تلك التي يتداولها العرفاء.

لكن ما معنى المجال وما علاقته باللفظ والنص؟

نقصد بالمجال (الظاهر) هو ان هناك نوعاً من المحور المحدد في الطرح يدركه كل من اراد قراءة النص، سواء استطاع تحديد القراءة ام لم يستطع، وسواء عمل وفق الظهور اللفظي للنص ام لم يعمل، وكذا سواء انه احتمل نوعاً من القراءة ام انه توقف كلياً دون ادراك ما هو المقصود من النص. فكل ذلك لا يخل بفعل ادراك المجال العام له، وهو انه يتحدث حول محور ما بدلالاته المجملة اللفظية والسياقية. فمثلما يكون للنص دلالته اللفظية المفصلة ضمن علاقاته السياقية فان له كذلك دلالته المجملة التي هي غير الدلالة اللفظية المفصلة. فهذه الدلالة لها من الظهور هي غير الظهور اللفظي المفصل، بمعنى ان للنص ظهورين: لفظي ومجالي.

فمثلاً قد نتوقف ازاء ما يعنيه قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} طه/5 ، فمع انه قد لا نعلم بالضبط ما يراد من هذا النص القرآني، لكن مع ذلك اننا ندرك المجال الذي يتحدث عنه النص، فهو لا يتحدث عن الخبز والشعير، ولا عن الانسان والحيوان، ولا عن طبيعة العلم والحياة، ولا عن القضايا المطروحة حالياً كالاصالة والمعاصرة وحقوق المرأة وشؤون السياسة والاوطان وغير ذلك.. انما يتحدث عن نوع من العلاقة التي تربط الله بشيء اطلق عليه العرش، فهل هذه العلاقة هي كعلاقة الملوك بعروشهم؟ وهل ان العرش هنا هو نفس ما نتصوره من مفهوم جسمي؟ وكذا هل معنى الاستواء هو ما نفهمه من الظاهر المتبادر في الذهن ام شيء اخر؟ فمهما حددنا نوع القراءة ام لم نحدد اي شيء من ذلك ونتوقف كتوقف الامام مالك او اشد منه؛ فان مجال النص والقراءة هو مجال حاضر لا يغيب، ولو لم يكن حاضراً لكنّا قد استعنا بمجالات اخرى كتلك التي افترضناها وهي ابعد ما تكون من ان يعنيها النص، كمجالات الخبز والشعير!

اذن ان ادراك المجال لا يتوقف على فعل تحديد القراءة. فحتى لو كان هناك نوع من التحفظ في ابداء اي نوع من القراءة المحتملة، فان ذلك لا يشكل عقبة عن ادراك المجال، طالما امكن معرفة ما تدور عليه الاحداث اللغوية بالاجمال والعنوان العام. مما يعني ان شرط ادراك المجال هو معرفة مثل هذا العنوان، فلو لم يدرك لكان النص معبراً عن الخفاء والغموض التام، مثلما هو الحال بخصوص قراءة الحروف المقطعة في اوائل سور النص القرآني، حيث انها مبهمة المعنى اجمالاً وتفصيلاً، عنواناً واحداثاً، وبالتالي فان المجال فيها مبهم غير ظاهر.

من جانب اخر، سبق ان لاحظنا ان تحديد الظهور اللفظي يعتمد على السياق والقبلية المعرفية. لكن ماذا بشأن المجال؟ فهل انه الاخر يعتمد على ما ذكرنا ام انه امر اخر مختلف؟

الجواب هو ان المجال لما كان يستمد ظهوره مما عليه الالفاظ وسياقها، او انه منتزع من كل ذلك على نحو الاجمال فانه لابد ان يكون هو الاخر مستند الى ما تبديه القبلية المعرفية تبعاً للممارسة اللغوية المألوفة او المتعارف عليها. فالمجال يعبر عن المعنى المجمل للموضوع الذي يتم طرحه على بساط البحث من النص اللغوي. او انه عبارة عن ذلك الظهور في المعنى العام للمحور الذي يتناوله النص، وان هذا الظهور العام يتشكل مما نفهمه من الاجمال الكلي للالفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة المحور الذي يطرحه النص وان لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية ولا اشارية، بل يكفينا في ذلك معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الاحداث اللغوية للنص، وذلك شبيه بما يحصل من تبادر للمعنى المجالي عند النظر الى عناوين الكتب والمقالات، حيث تنبؤنا - غالباً - عن طبيعة الاحداث التي تتضمنها هذه الدراسات وإن لم نقرأها ونطلع عليها بعد.

ليس هذا فحسب، بل علينا لحاظ ان الظهور المجالي هو ظهور يعبر عن الادراك المجمل للكل، وهو الادراك الذي يستبق ادراك الاجزاء، فمنه يبدأ تحديد مفاصل الاجزاء المتمثلة بالدلالات اللفظية. وهو بذلك اشبه بالصيغة الجشطالتية، حيث فيها يتقدم الكل على الاجزاء، وان هذا الكل لا يساوي مجموع اجزائه، وايضاً فان قوانينه تختلف عن قوانينها. وكذا بخصوص المجال فانه لا يعبر عن مجموع الدلالات اللفظية، وان الظهور فيه هو ليس من الظهور اللفظي (المفصل)، وادراكه يحصل بالتبادر المباشر، وهو سابق في ظهوره لظهور الدلالات اللفظية، بل ان حضوره شرط في تحديد هذه الدلالات.

خامساً:

من ناحية اخرى يمكن القول انه مثلما ان للفظ ظهوراً بحسب الحقيقة او المجاز، فان للمجال ايضاً ظهوراً بحسب الحقيقة او المجاز، وان علامة هذا الظهور هو التبادر في كلا الامرين، فسواء كان التبادر يشير الى المعنى المجالي الحقيقي كما تبديه الفاظ النص وسياقها، او كان يشير الى المجال المجازي والرمزية الظاهرة على النص، ففي كلا الحالين اننا هنا امام ما نطلق عليه الظهور المجالي او المجال الظاهر. فمثلاً ان للقصص الرمزية للعرفاء دلالات بادية للفظ والمجال، لكنها ليست مرادة بذاتها، وانما ترمز الى ما ورائها من المعاني الباطنية بحسب القبلية الوجودية، لذلك فهي من هذه الناحية لها ظهور هو خلاف تلك الدلالات البادية، وهو ما نطلق عليه الظهور الرمزي والمجالي، فالرمزي من حيث اعتبار اللفظ رمزاً لمعنى باطن هو غير الدلالة البادية سواء كانت حقيقة او مجازاً، والمجالي من حيث اعتبار المجال ليس ذلك المأخوذ من المعاني البادية للالفاظ، وانما من ذلك المرموز اليه. ولا شك ان لهذا النوع من المجال الظاهر هو على الضد من المجال الاخر الذي نطلق عليه المجال التأويلي او الباطني، حيث انه يقطع الصلة بين الدال والمدلول، ولا يجد ما يدل عليه بحسب القرائن الدلالية للنص وايحاءاتها. وفيه يكون القارئ متوجهاً نحو ربط كل شيء باي شيء، وكل نص باي نحو من الانحاء من غير ظهور ولا ملازمة، فالدلالة النصية في واد، والمعنى الاخر في واد اخر، وذلك كالذي لا يفهم من النصوص جميعاً سوى انها ترمز الى الخبز والشعير، فيرى في لفظة الدائرة - مثلاً - بان لها معنى الخبز لكونه دائري الشكل، ويرى في لفظة الرمل بانه يرمز الى الشعير باعتباره مكوناً من الحبيبات المنفصلة... وكل ذلك عبارة عن تحويل المجال واستبداله بمجال اخر باطني. وهو امر شائع لدى الباطنية والعرفاء عند قراءتهم للنص الديني.

سادساً:

لو عدنا الى النص القرآني: {واسأل القرية}؛ يلاحظ ان القارئ عادة ما يحمل المفردة الاولى من المفردتين في هذا النص على الحقيقة، وهي مفردة (واسأل)، في حين يحمل مفردة (القرية) على المجاز. لكن لماذا لا يكون العكس، او حتى حمل الامرين على المجاز معاً؟

والجواب هو ان تحديد هذه المعاني بحسب المجاز او الحقيقة والعلاقات الدائرة بين معاني المفردات؛ كلها تتوقف على ما يتم اختياره للمعنى المناسب من قبل المركوز الذهني للقبلية المعرفية، وهو المعنى الذي تتوفر فيه سمات المعقولية وعدم التعقيد وكذا الاتساق الذي يخلو من التناقض والغموض، وذلك ضمن نفس المجال الذي يبديه النص. فمثلاً لو ان امكانات حمل مفردة (القرية) تتحدد بثلاثة، ومثلها حمل مفردة (واسأل)، وان المزاوجة بين الامرين تتخذ اصنافاً شتى هي تسعة بحسب هذه الامكانات، فان من بين هذه الاصناف يمكن ان نجد بعضاً منها غير متسق ولا معقول، كما قد نجد منها ما يخرج عن المجال الذي يبديه النص، وقد نجد من المزاوجات الممكنة ما هو معقول ومتسق ويدخل ضمن المجال الظاهر العام. ولا شك ان المعنى الاخير هو الذي سيتبادر الى الذهن عادة، اتساقاً مع ما تشهده الضرورة الحسية.

وكمثال اخر على ذلك ما جاء في قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} الانبياء/0 3 ، حيث انه لا يمكننا في هذه الحالة ان نحمل ما ورد في الاية على الحقيقة المشخصة، بل نضطر الى ترجيح احد خيارات ثلاثة معقولة، منها خياران يقبل كل منهما الحمل على المجاز او التأويل، حيث إما ان يكون المجاز والتأويل يتعلق بالماء، فيكون المعنى ان الماء الذي خلق الله منه كل شيء حي هو عنصر اخر غير هذا الماء الطبيعي، كإن يكون المقصود منه الوجود او مرتبة عليا من المراتب الوجودية، حيث من المستبعد ان يكون الجن وكذا الملائكة مخلوقين من هذا الماء الطبيعي. او يكون المجاز والتأويل يتعلق بلفظة (كل شيء حي)، حيث تُحمل على كل الاشياء الحية الطبيعية دون غيرها من الكائنات الاخرى، كالجن والملائكة وما اليها. كذلك هناك خيار ثالث، وهو حمل الماء على روح المعنى العام ثم تشخيصه بغير المعنى الحسي، فهو ليس هذا الماء الطبيعي الذي به تقوم حياتنا، بل يمكن ان يُحمل على الماء الصوري الذي يسري في كل شيء سريان الماء او الروح في الاجسام، كالذي ذهب اليه بعض العرفاء( 4 ). ولا شك ان جميع هذه الخيارات مبررة تبعاً للقبلية المعرفية كما هو واضح.

وفي جميع الاحوال هناك عدد من العوامل المختلفة التي ترجح خيارنا لمعنى النص، مثل طبيعة السياق ونوع الالفاظ وما عليه القبليات المعرفية ومنها الضرورات الوجدانية والتنمية الاحتمالية. وكل ذلك يجري العمل به وفق المنطق اللاشعوري. فالالية التي يعمل بها الذهن البشري هي الية تعتمد لا شعوراً على التصفية والانتقاء من الامكانات الكثيرة المتعددة. وهي بهذا الفعل تميل في الغالب الى الخيارات التي تتسم بالمعقولية والاتساق، حيث ضغوط القبلية المعرفية وعلى رأسها تلك التي تتصف بالتنمية الاحتمالية. او لنقل ان الالية الذهنية تعتمد على النشاط الباطني التلقائي من هذه التنمية، وذلك عندما تجد نفسها امام عدد مختلف من القرائن التي تلف حول معنى محدد دون غيره من المعاني الاخرى. ومن حيث ان هذا النشاط التوليدي هو نشاط منطقي منظم، لذلك نطلق عليه نظام التوليد اللاشعوري. وسمة النظام فيه واضحة باعتبار ما يمتاز به من العمل الالي المخطط تبعاً للاصول المقررة. واذا كان الكثير يتصور ان النشاط اللاشعوري تغلب عليه الممارسات غير المنطقية؛ فان واقع الامر هو العكس تماماً، ذلك ان اغلب نشاطه هو من النوع المنطقي المنظم، واليه يعود الفضل في كون تفكيرنا وسلوكنا يتميز عادة بطابع الاتساق( 5 ).

وطبقاً لما سبق؛ لو ان القبلية المعرفية تتضمن قرائن عديدة تدل على ان النصوص الموضوعة لا يراد منها ما يراد من الالفاظ المستخدمة في المحاورات العادية، بل تدل على امور اخرى لا تستكشف بحسب التفاهم العرفي، فان الذهن البشري سيلجأ حينها الى حمل الالفاظ على دلالات اخرى لها من المجال المجاز ما هو غير المجال الحقيقي، اي ان ما يتبادر الى الذهن بالظهور هو ذلك المجال المجازي، في حين يستبعد المجال الحقيقي عن المعنى الظاهر، فتكون الالفاظ دالة بذلك على الطبيعة الرمزية. وقد لجأ الفلاسفة والعرفاء الى مثل هذا الفعل في قراءتهم للنص الديني، وذلك تبعاً للقرائن التي اعتمدوها ضمن قبلياتهم الوجودية، لكن الفارق - هنا - هو ان القرائن التي اعتمدوها هي قرائن خاصة بهم دون غيرهم، اي انه ليس لها ذلك العموم الذي يمكن ان يُرتكز اليه لدى كل من اراد قراءة النص خارج نطاق الخلفيات والمنظومات الفكرية المحددة.

ولا شك ان نفس هذا الامر سيحدث فيما لو ان ايحاءات النص تلّوح بقرائن عديدة الى الرمزية والباطنية دون المعاني المألوفة. اذ في هذه الحالة سيتبادر الى الذهن المعنى الدال على الظهور الرمزي والمجال المجازي. وكذا لو كانت القرائن المنفصلة المنقولة دالة على حمل الالفاظ على الرمز، والمجال على المجاز، فان ذلك سيؤثر على قراءتنا للنص، حيث يمكن حمله على الرمز والمجال المجاز وفق القياس والتمثيل.

هكذا ان الذهن البشري يختزن من التجارب السابقة ويستجمع القرائن القبلية مع ما يضاف الى القرائن الحالية والمقامية؛ ليصبها جميعاً في اطار فهم النص، فهذه هي ملكة الذهن التي تستجمع ما امكنها من الاليات المعرفية المناسبة في فهم ما يراد من النص بحسب الفاظه وسياقه. وعلى هذه الشاكلة يكون تعامل الذهن مع القضايا الكونية.

سابعاً:

نخلص مما سبق الى ان هناك اضافة الى السياق اربعة انماط من الظهور اللفظي مع نوعين من الظهور المجالي. فالانماط الاربعة للظهور اللفظي هي:

1 ــ نمط المعنى المشترك العام للحقيقة اللفظية. ونطلق عليه الظهور الحقيقي العام.

2 ــ نمط المعنى الخاص للحقيقة اللفظية. ونطلق عليه الظهور الحقيقي الخاص.

3 ــ نمط المجاز الظاهر، او الظهور المجازي.

4 ــ نمط الرمز الظاهر، او الظهور الرمزي.

أما بغير ذلك فان اللفظ يؤخذ على نحو لا يفيد الظهور، بل إما انه يفيد المجاز البعيد او ما نطلق عليه التأويل، او انه يفيد الرمز البعيد او ما نطلق عليه الباطن. أما الظهور المجالي فهو عبارة عن كل من النوعين الحقيقي والمجازي، وان ما يخالف هذين النوعين نطلق عليه المجال الباطني.

او لنقل: في النص لفظ وسياق ومجال، وان اللفظ ينقسم في المعنى الى ثلاثة انواع هي المعنى الظاهري والتأويلي والرمزي. وان للمعنى الظاهري اربعة انماط سبق عرضها. كما ان المجال ينقسم الى ما هو مجال ظاهر ومجال باطن، وان الاول يتشعب الى صنفين هما المجال الحقيقي والمجال المجازي.

فهذه هي اليات المرحلة الاولى من قراءة النص، والتي نطلق عليها (الاشارة)، حيث انها تنقسم الى ثلاث حالات، هي الاشارة الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية او الرمزية. وعلى هذه المرحلة تتأسس مرحلة اخرى نطلق عليها (التفسير). ولتبيان ما عليه هذه المرحلة ومقارنتها بالاشارة علينا ان نتبع ما سيأتي من خطوات..

آليات المرحلة الثانية (التفسير)

قد نتساءل ونقول ما هي شروط التفسير؟ او متى يكون النص مفسراً؟ فمثلاً هل يمكن اعتبار ما نحظى به من ظاهر النص هو ذاته التفسير، ام ان هذا الاخير امر يختلف عن الظاهر؟ وماذا لو حملنا النص على التأويل او الباطن والرمز؛ فهل ذلك من التفسير ام لا؟

للاجابة عن هذه الاسئلة وغيرها علينا متابعة النقاط التالية:

اولاً:

لقد سبق ان عرفنا ان ظاهر النص يتضمن ظهورين، احدهما الظهور اللفظي والاخر الظهور المجالي، وقلنا ان هناك اربعة انماط للظهور اللفظي، احدها يعبر عن روح المعنى العام للحقيقة اللفظية، وثانيها يعبر عن الحقيقة الخاصة، اما الثالث فهو عبارة عن الظهور المجازي، والرابع عبارة عن الظهور الرمزي. ولا شك ان النمط الاول لا يعطي تفسيراً بالمعنى الذي يوضح الكيفية التي عليها اللفظ وسط علاقاته الخاصة ضمن السياق. فالظهور اللفظي عندما يعبر عن روح المعنى العام فانه يخلو من التوضيح، فعلى الاقل انه يفتقر الى تحديد المعنى المشخص الذي بدونه لا تتوضح الكيفية التي يريد النص تبيانها عبر ما نطلق عليه التفسير، رغم كون المعنى في هذه المرحلة يعبر عن الحقيقة المفهومة تبعاً للسياق، وهي الحقيقة التي تدفع عنها الحمل على المجاز والرمز. فمثلاً حينما نقول ان لله يداً ونزولاً ومجيئاً وغير ذلك من الصفات والاحوال الظاهرة في النص لكن من غير تحديد لكيفية هذه الصفات المثبتة؛ فان قولنا هذا يشير الى ظاهر النص من دون تفسير، ومثل ذلك ما ورد عن الامام مالك حول استواء العرش، حيث انه حمل الفاظ النص القرآني على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير ايضاح للكيفية او التفسير، حيث قال: >الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة<. ومثله ما قاله احمد ابن حنبل: >استوى كما اخبر لا كما يخطر للبشر<.

كذلك انه عندما يكون الظهور اللفظي معبراً عن احد الانماط الاخرى، وهي حمل اللفظ على الحقيقة بمعناها الخاص، او حمله على المجاز الظاهر وكذا الرمز الظاهر، فان ذلك لا يفضي بالضرورة الى ايضاح الكيفية التفسيرية للنص، لكنها بلا شك تعد خطوة اساسية في هذا الاتجاه، وقد تندك فيها شروط التفسير التي تستعلم فيها الكيفية الاستبيانية للنص. فمثلاً لو اننا قمنا باثبات الصفات الالهية المذكورة وحملناها على معانيها الحقيقية الخاصة، كأن نعد لله اليد والعين والوجه وغيرها من الصفات ونحملها على معنى ما لدينا من الاعضاء والجوارح، فاننا قد خطونا بذلك خطوة التفسير للنصوص المتعلقة بهذه الصفات، وكذا لو قلنا ان معانيها مجردة وحددنا هذه المعاني كالذي لجأت اليه نظرية المشاكلة او المعاينة او غيرها، فاننا نكون قد مارسنا آلية التفسير بايضاح الكيفية التي عليها معاني الفاظ النص.

فالتفسير يختص بايضاح هذه الكيفية من العلاقات اللفظية التي يتضمنها النص، فان لم تكن الكيفية متخيلة لدى الارادة التصورية للذهن فان الامر يخرج عن حد التفسير وان دل على حمل اللفظ الظاهر على حقيقته او على غيره.

على ان تبيان الكيفية التفسيرية يستند الى حضور نوعين من العلاقة المتخيلة للارتباط اللفظي، نطلق على احدهما العلاقة المفهومية، وعلى الاخر العلاقة المصداقية. فالعلاقة المفهومية هي تلك التي تعبر عن مفاهيم الالفاظ ومعانيها بالشكل الذي تكون فيه واضحة المعالم وبينة المقاصد، وذلك بغض النظر عن طبيعة كيفيتها على الصعيد الخارجي، وقد تندك هذه العلاقة في الدلالات اللفظية الظاهرة، كما قد تتمايز عنها باشكال مختلفة اما لكونها تعبر عن حالات من المعاني المجازية او الرمزية، او لكونها لا تعبر عن ذلك وانما تعطي مزيداً من المعنى المضاف الذي يثيره ظاهر النص، كالذي سيمر علينا في بعض الامثلة البلاغية. أما العلاقة المصداقية فهي انها تعبر عن طبيعة ما تدل عليه المعاني اللفظية من حيث الوجود الخارجي.

وعليه فالتفسير لا غنى له عن ايضاح هاتين العلاقتين. فالحاجة التفسيرية إن هي الا حاجة لايضاح طبيعة هاتين العلاقتين معاً. بل ان الحاجة الجوهرية في العملية التفسيرية تتمثل في ايضاح العلاقة المصداقية، ذلك لان الغرض من قراءة النص هو الكشف عن الموضوع الخارجي. وما ضرورة العلاقة المفهومية الا لكونها شرطاً لا غنى عنه في تلك العملية من الكشف، حيث لا تتوضح العلاقة المصداقية ما لم تنكشف قبلها العلاقة الاخرى. فهذه هي طبيعة التلازم بين العلاقتين في العملية التفسيرية، وهذه هي حاجتها.

ومن الناحية العملية نصادف اشكالاً مختلفة لهذه الحاجة، فتارة تكون الحاجة لكليهما معاً، وتارة اخرى تكون الحاجة لتفسير العلاقة المفهومية بما تعبر عن منطوق النص، وذلك لوضوح العلاقة الاخرى، وثالثة العكس، حيث تكون الحاجة لتفسير العلاقة المصداقية دون المفهومية لبيانيتها، ورابعة قد تنتفي هذه الحاجة نظراً لوضوح النص في كشفه عن عناصره تبعاً لكلا العلاقتين، حيث يتحدان ويندمجان في المتخيل الذهني لظاهر النص من غير تمايز، وذلك للوضوح الناتج عما تمدنا به بعض القبليات المعرفية وعلى رأسها الضرورات الحسية والوجدانية. لكن في اغلب الاحيان نجد انفسنا في حاجة لايضاح الكيفية وشرح ما يراد تبيانه من النص؛ سواء على صعيد المفهوم ام المصداق ام كليهما. وتبيان هذه الانماط الاربعة يأتي كما يلي:

الحالة الاولى:

في كثير من الاحيان يتبادر في النفس كيفية العلاقة المفهومية والمصداقية وفق المتخيل الذهني من غير جهد مضاف الى ما هو منطوق النص بعلاقاته اللفظية، وذلك نظراً للمخزون الذهني من القبلية المعرفية التي تعمل على تشكيل الصورة المتخيلة لطبيعة العلاقتين الانفتي الذكر، خاصة فيما يتعلق بالقبليات الحسية والوجدانية باعتبارها واضحة غير مجهولة المعالم. وفيها يبدو هناك اتحاد بين العلاقتين المفهومية والمصداقية، او الظاهر والتفسير، كالذي يتبادر لدينا من متخيل للعلاقتين عندما نقرأ قوله تعالى: {فجاءته احداهما تمشي على استحياء} القصص/5 2 ، او قوله تعالى: {واذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة} البقرة/7 6 ، او قوله تعالى: {يا ايها الذين امنوا اصبروا وصابروا} ال عمران/0 0 2 .. ففي مثل هذه الايات تبدو العلاقتان المفهومية والمصداقية متحدتان عند المتخيل الذهني، وذلك على خلاف ما سنرى كيف انهما يفترقان احياناً، حيث قد تتبادر الى الذهن احداهما دون الاخرى، او ان احداهما تفترق عن الاخرى ولا تتحد معها عند التبادر، الامر الذي يستدعي الكشف عما تحتاجه اي منهما من الشرح والتفسير.

الحالة الثانية:

في حالات معينة قد يكون ظاهر الدلالات اللفظية للنص منكشفاً لدى ذهن القارئ او السامع، لكن هذا الظاهر لا يفي ان يسدد ما تتطلبه العلاقة المفهومية لدى المتخيل الذهني، بحيث يكون هناك شعور بان الظاهر من تلك الدلالات يظل ناقصاً ما لم يدرك الغرض المضاف منها بحسب ذلك المتخيل. لذا يصبح من المعلوم لدى الارادة التصورية للذهن ان الدلالة النصية ترمي الى شيء اخر غير الظاهر المحصل، وذلك استناداً الى كل من الكناية والاستعارة والتمثيل. فمثلاً جاء في قوله تعالى: {قال ربِ اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً} مريم/4 ، حيث الدلالة الظاهرة للمقطع الاخير من النص تعبر عن كثرة ما اصاب الرأس من الشيب، لكن غرض النص هو ليس هذا الظاهر وانما التعبير عن حالة كبر السن والشيخوخة، اذ ان من يصل الى هذه المرحلة من العمر يبْيضّ رأسه شيباً. ويمثل البلاغيون على ذلك بامثال كقولهم عن الفتاة بانها (نؤوم الضحى)، فالظاهر منكشف وهو وصف الفتاة بانها تنام في وقت الضحى، لكن ما يريد المتكلم ان يوصله للسامع هو شيء اخر، او ان السامع يفهم منه شيئاً اخر غير هذا الظاهر، وهو كون الفتاة مترفة مخدومة. وكذا قولهم: (هو كثير رماد القدر)، والمعنى انه مضياف او كثير الضيافة، حيث لكثرة الضيافة فانه يقوم بتجهيز الطعام من خلال احراق الحطب ونصب القدور فيكثر الرماد بذلك( 6 ).

ومعلوم ان التفسير هنا هو ليس ذات ظاهر الالفاظ، فلو توقف الامر على هذا الظاهر من غير ان يكون هناك متخيل ذهني للعلاقة بين مضامين النص على صعيد المفهوم، او ما يريد المتكلم توصيله من معنى وراء ذلك الظاهر، فانه لا يعد تفسيراً بل مجرد فهم او ظاهر واشارة، بحيث لو قلت هذا هو الظاهر وهذه هي حقيقة اللفظ لما اوفى المعنى شيئاً بخصوص العلاقة المفهومية وتوضيحها كما يريد ان يبلغها المتكلم. ولا شك ان ما يساعد على ايضاح هذه العلاقة هو القبلية المعرفية، خاصة تلك التي تتمثل بقرائن الواقع الحسي. اي كأننا من خلال العلاقة المصداقية أمكننا ان نكشف عن العلاقة المفهومية. اذن ان حاجتنا العملية للتفسير هو الكشف عن هذه الاخيرة، فبعد هذا التشخيص تصبح العلاقة الاولى واضحة بفضل الضرورة الحسية، وذلك على خلاف ما سنراه في الحالة القادمة.

الحالة الثالثة:

في بعض الاحيان قد يكون النص واضحاً من حيث العلاقة المفهومية تبعاً للظهور اللفظي، فلا تكون هناك حاجة الى الكشف عن تبيان طبيعة العلاقة بين الالفاظ بما هي هي في مرحلتها المفهومية لوضوحها، وان كان المتخيل الذهني للعلاقة المصداقية للنص يحتاج الى الكشف والايضاح. واقرب مثال على ذلك ما يتعلق بقوله تعالى: { وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} الانفال/7 1 ، فظاهر النص دال على ان الرمية التي كانت للنبي هي في الوقت ذاته منفية عنه ومنسوبة لله، وهذا هو توضيح ما عليه العلاقة بين الالفاظ من حيث المفهوم الذي ينطق به النص، لكنه لا يكفي بشأن ايضاح الكيفية الخارجية او المصداق، اذ ما معنى ان تكون الرمية المنسوبة الى النبي هي في حقيقتها رمية لله لا للنبي؟ فالمعنى بحسب المصداق ليس واضحاً او مفسراً، الامر الذي يستدعي ان تكون هناك اضافة تفسيرية تشرح فيه الكيفية التي عليها طبيعة المصداق الخارجي، وبدون ذلك لا يكون النص نصاً مفسراً، انما هو واقع تحت طي الاشارة والفهم الظاهر فحسب. ونحن هنا في تفسيرنا لهذه الاشارة والفهم الظاهر لا غنى لنا من الاستناد الى القبلية المعرفية، ومن ذلك القبلية المؤسسة تبعاً للرؤى المنظومية، كتلك التي تتكئ على نظرية وحدة الوجود، مثل الذي قام به ابن عربي في تفسيره لهذا النص، وذلك بان اعتبر الصورة المحمدية هي ذاتها عبارة عن صورة الهية في احدى تعينات الذات القدسية (7 ).

ومن الامثلة الاخرى على هذه الحالة قوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} النمل/8 8 ، حيث ان العلاقة المفهومية واضحة تبعاً للظهور اللفظي، لكن العلاقة المصداقية تحتاج الى الايضاح، اذ كيف يمكن ان نتصور حركة الجبال التي شُبهت بمر السحاب؟ فهل نتصور ذلك بحسب القبلية العلمية التي تؤكد على حركة كل شيء طبيعي؟ وهل ان الحركة المقصودة داخلية بحسب الجزيئات والذرات والجسيمات البسيطة؟ او ان حركتها خارجية بحركة الارض في الفضاء؟

يظل هناك عدد كبير من النصوص القرآنية يمكن اعتبارها واضحة المعنى من الناحية المفهومية، لكنها غير واضحة من الناحية المصداقية.

الحالة الرابعة:

في حالات معينة قد لا يكون النص واضحاً من الناحيتين المفهومية والمصداقية، مما يجعل الحاجة الى التفسير رهينة ايضاح كلا هاتين العلاقتين معاً، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {الله نور السماوات والارض} النور/5 3 ، فما معنى وصف الله بالنور وما هي كيفيته المصداقية؟ ومثل ذلك ما وصف الله نفسه بكثير من الصفات كالمكر والغضب والحب والرضا والمجيء والاستواء الخ... فبعض العلماء لم يفسر العلاقة الاخيرة للنص واكتفى بايضاح العلاقة المفهومية، وذلك بأخذ هذه الصفات على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير تكييف، اي من غير ايضاح للعلاقة المصداقية. وبعض اخر زاد على ذلك بتحقيق ما يتطلبه التفسير فاعتبر انها مأخوذة على حقيقتها الظاهرة وان لها الكيفية الخاصة، كالكيفية الجسمية مثل الذي ذهب اليه الحشوية، او الكيفية التجريدية (التشاكلية) كالذي ذهب اليه صدر المتألهين، او الكيفية (العينية) كالذي ذهب اليه ابن عربي (8 ).

***

اذن يمكن القول ان مستوى التفسير بحسب الظاهر له علاقة بمستويين للظهور اللفظي، ويمكن ادراج هذه المستويات الثلاثة كالاتي:

الاول: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على الحقيقة العامة المشتركة. وهو لا يعد من التفسير بشيء وإن كان يعبر عن حمل اللفظ على الحقيقة.

الثاني: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على المعنى الخاص، وهو مستوى يتجلى بنواح ثلاث: احدها حمل اللفظ على الحقيقة الخاصة المشخصة وذلك كتعبير عن خصوص الحقيقة العامة المشتركة. وثانيها حمل اللفظ على الظهور المجازي. واخيراً حمل اللفظ على الظهور الرمزي. ويظل هذا المستوى هو الاخر لا يعبر عن المرحلة التفسيرية.

الثالث: مستوى تفسير النص، حيث انه يعتمد على المستوى الثاني، وخاصيته هو انه يعمل على ايضاح العلاقتين المفهومية والمصداقية معاً. ومن حيث انه قائم على المستوى الثاني وموضح له تبعاً لهاتين العلاقتين فانه يعبر بذلك عن فهم الفهم ومعنى المعنى.

ثانياً:

يتبين لنا ان الاخذ بالظاهر لا يعني بالضرورة تفسيراً، وكذا نقول ان التفسير لا يقتضي الاخذ بالظاهر، فهناك ظاهر بلا تفسير، وكذا تفسير بلا ظاهر، مما يعني ان العلاقة بينهما ليست لزومية. بل ان هذا الحكم يجري على ما تبقى من انواع الاشارة، حيث ليست هناك علاقة لزومية تربط بين التفسير والتأويل، او بينه وبين الباطن او الرمز. اذ يمكن ان تتحقق لدينا الاشارة التأويلية او الباطنية وإن لم يثبت التفسير.

والتفسير بهذا المعنى له انماط مختلفة، فعندما يتأسس على الظاهر نطلق عليه (التفسير الاستظهاري)، لكنه عندما لا يرتبط باي علاقة مع الظاهر فانه لا يخرج عن نمطين من العلاقة، فهو إما ان يكون متأسساً على التأويل فنطلق عليه (التفسير التأويلي)، او يكون متأسساً على الرمز فنسميه (التفسير الاستبطاني).

وعلى العموم لدينا مجموعتان احداهما تترتب على الاخرى من غير لزوم، حيث نطلق على الاولى (الاشارة)، وعلى ما يترتب عليها (التفسير). وان الفارق بينهما هو ان الاشارة تتحدد بالكشف عن المعنى، لكن التفسير يبحث عن شرح المعنى، او انه عبارة عن معنى المعنى.

ومن حيث الاشارة لدينا كل من استظهار النص وتأويله واستبطانه. فاستظهار النص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بالتبادر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما استبطان النص فانه على خلاف كل من الاستظهار والتأويل حيث يتصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين اللفظي والمجالي.

ومن حيث التفسير لدينا كل من التفسير الاستظهاري والتأويلي والاستبطاني. وخاصية الاول هو انه يعتمد على الاشارة الظاهرية ليكشف عن الكيفية التي عليها العلاقتين المفهومية والمصداقية، كالذي مر علينا تبيانه. وكذا ان خاصية التفسير التأويلي هو انه يعتمد على الاشارة التأويلية بالكشف عن طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمعنى. فقد يكون التأويل محض اشارة من غير تفسير، وذلك عندما يكون هناك نفي للظهور اللفظي وحمله على التأويل من غير ان تتوضح فيه كلاً من العلاقتين المفهومية والمصداقية. فمثلاً ان إبعاد المعنى الظاهر للالفاظ الخاصة بالصفات الالهية وتأويلها ولو من غير تعيين، او بتعيين المعنى ولكن من غير ايضاح كل من العلاقتين المفهومية والمصداقية، فان ذلك لا يعد من التفسير المكتمل للنص. فنحن هنا نواجه نفس الحال الذي سبق مواجهته مع حالات الحاجة التفسيرية عند الاستظهار. ومن ذلك ان العلماء حينما حملوا اية استواء الرحمن على العرش على خلاف الظاهر، وهو قولهم بان ذلك يعني استيلاء الرحمن وغلبته على العرش مثلاً، فانهم على الاقل لم يكشفوا عن كيفية العلاقتين المفهومية والمصداقية لهذا المعنى. فمن حيث العلاقة المفهومية هو ان الله له الغلبة والاستيلاء على كل شيء فما جدوى هذا التخصيص بالعرش؟ وكذا لو قيل ان معنى الاستيلاء جاء ليدل على الملكية، وهو ان العرب يقولون استوى فلان على البلد بمعنى انه قد استملكه، فان ذلك ايضاً لا يكفي تعبيراً عن الدلالة المفهومية من حيث تصورنا القبلي عن مالك الوجود الذي يملك كل شيء اولاً واخراً. أما من حيث العلاقة المصداقية فيمكن القول ما معنى هذه العملية الاستيلائية او التملكية للعرش؟ وبذلك نعد المفسرين الذين ذهبوا الى هذا المعنى انما حملوا النص على التأويل ولكن من غير تفسير مكتمل (9 ).

أما خاصية التفسير الاستبطاني فهو انه يعتمد على الاشارة الرمزية ليوضح من خلالها طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمرموز اليه. فلو توقف الحال على الاشارة الرمزية من دون ايضاح الكيفية التي تخص هاتين العلاقتين؛ فان ذلك لا يعد من التفسير، رغم تأديتها للفعل الاستبطاني، وذلك بالاستبعاد الحاصل لكل من الظهورين اللفظي والمجالي. فمثلاً ليس من التفسير بشيء اذا توقف الحال على اعتبار شجرة ادم وقصته يرمزان الى امور ليس لنا العلم بها سوى انها خلاف ظاهر الفاظ القصة ومجالها. وكذا ليس من التفسير بشيء لو حددنا معنى الشجرة كرمز يشير الى قضية اخرى اجنبية لكن من غير توضيح للعلاقة المفهومية لهذا المعنى بسائر المعاني الرمزية المستخلصة من القصة، ومثل ذلك فيما لو كشف عن هذه المعاني ولكن من دون ايضاح الكيفية المصداقية لها. ففي كل هذه الاحوال لا يمكن ان نعد ذلك من التفسير المكتمل. فالتفسير الاستبطاني للنص يشترط فيه ان يكشف عن العلاقة المفهومية للمعاني التي يستخلصها من خلال الرموز اللفظية مع تبيان ما عليه حقيقتها المصداقية.

فمثلاً ان لابن عربي تصوراً رمزياً لقصة يوسف، معتبراً ان المقصود بيوسف من حيث الباطن هو النفس المؤمنة، واباه يعقوب هو العقل، واخوته هم النفس الامارة واللوامة، وان امرأة العزيز هي النفس الكلية وهكذا.. فهو تبعاً لهذه الاشارات المفهومية يذكر ان الله تعالى لما اراد من النفس المؤمنة ان تسافر اليه اشتراها من اخوتها الامارة واللوامة بثمن بخس، وحال بينها وبين ابوها العقل، فبقي هذا العقل حزيناً لا تفتر له دمعة، وذلك بعد ان كان يتنزه في الحضرة الالهية بوجود هذه النفس، فلما حصلت الحيلولة بينهما اصابته الظلمة في بصره من الحزن، وهكذا(10) .. فهذه التصورات الرمزية تدل على ابراز جملة من العلاقة المفهومية، أما العلاقة المصداقية فهي عبارة عن مصاديق الرؤية العرفانية التي تشرح طبيعة العلاقة التراتبية بين العقول والنفوس وتسخير بعضها للبعض الاخر.

ثالثاً:

وللتمثيل على المقارنة بين الاليات الست المختلفة للاشارة والتفسير، فانه لو قلنا ان لله يداً لكنها غير معلومة الكيفية فكلامنا هذا يعبر عن حقيقة اللفظ وظاهر النص وان لم نعين تفسيره بالتحديد إن كانت هذه اليد جارحة كايدينا مثلاً او غير ذلك. فهو بالتالي عبارة عن مجرد اشارة ظاهرية فحسب. ولو قلنا ان هذه اليد معلومة وموضحة كإن ندعي انها كايدينا او هي عين هذه الايدي، او انها ايد بالمعنى المجرد، فان ذلك يدخل في التفسير ولا يقتصر على مجرد الاخذ بالظاهر، وهو ما نطلق عليه التفسير الاستظهاري. ولو قلنا ان يد الله ليست مرادة على ظاهر اللفظ، لكن لا نعلم تفسيرها ضمن سياق النص، او اننا نعين معناها ولكن مفهوم النص الذي يتضمنها غير مكتمل المعنى والتوضيح، او لاعتبارات تتعلق بعدم وضوح ما النص عليه من الناحية المصداقية.. فان كل ذلك يكون تأويلاً من حيث الاشارة لا التفسير. ولو قلنا اننا نعلم المراد كمفهوم ونتخيل المصداق عبر المعنى المأول، كإن يكون المراد عبارة عن القدرة او النعمة او غير ذلك تبعاً لما عليه مجال النص، فان الامر يصبح تفسيراً بحسب التأويل. ولو قلنا ان يد الله ليست مرادة بحسب الظاهر وانها ترمز الى امر اخر غير مرتبط بالمجال الذي وردت فيه الكلمة، وإن كنا لا نعلم تحديد معنى هذه الكلمة ومجالها، او كنا نعلم ذلك لكن من غير ايضاح لكلا العلاقتين المفهومية والمصداقية، فان الامر يكون عبارة عن مجرد اشارة رمزية من غير تفسير. ولو قلنا اننا نعلم بتحديد المعنى مفهوماً ومصداقاً، كإن نفسر اليد بمعنى العقل الاول وما شاكل هذا المعنى ونوضح ما يرتبط بذلك من العلاقات، فان الامر يصبح تفسيراً بحسب الباطن.

رابعاً:

تبعاً للتقسيم الانف الذكر بين المجموعتين فانه لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فقد يكون المعنى المحدد بحسب الاشارة متفقاً عليه من حيث القبول، أما التفسير فهو موضع الخلاف، اي ليس كل ما يقبل من حيث الاشارة فان تفسيره يقبل هو الاخر، وكل ذلك يعود الى اختلاف ما عليه القبليات، خصوصاً تلك التي تعود الى الانظمة المعرفية كالذي سيأتينا بيانه. فمثلاً ان العرفاء قد يتفقون مع غيرهم في فهمهم للاشارة الاستظهارية، لكنهم مع هذا يفسرون الاشارة تفسيرهم الوجودي المعهود بما يختلفون فيه عن الغير، بل وبما يبتعدون فيه عن اجواء النص وسياقه، بحيث قد يكون هذا التفسير مما لا يستسيغه العقل والوجدان، رغم انه يقوم على الاشارة الاستظهارية. وفي هذه الحالة نطلق على هذه العملية بالاستظهار الجدلي.

وفي الجملة ان ما يعنيه الاستظهار الجدلي هو ان تكون الاشارة استظهارية، في حين يكون تفسيرها قائماً على المباطنة والتأويل البعيدين بفعل ما تتحكم به من قبليات الانظمة المعرفية. وسيأتينا عدد من الشواهد التي تبرز هذا النوع من الاستظهار الذي تفترق فيه الاشارة عن التفسير افتراقاً بيناً.

خامساً:

ان مصاديق كل من اليات الاشارة والتفسير الثلاث تتفاوت فيما بينها قوة وضعفاً تبعاً لاعتبارات كل من الظهور اللفظي والحالة التي عليها سيكولوجية القارئ واعتباراته القبلية. فقد تتفاوت حالات الاستظهار من نص الى اخر لدى القارئ، كما قد يتفاوت استظهار النص الواحد من قارئ الى اخر، بحيث يكون هناك ما هو اكثر او اقل استظهاراً مقارنة مع الاخر. وينطبق نفس الحال بخصوص الاليتين الاخريتين. حيث قد يكون هناك من التأويل وكذا الاستبطان ما هو اكثر تأويلاً واستبطاناً بالنسبة الى الاخر، سواء كان هذا الاخر عبارة عن النظير من النصوص، او النظير من القراء. بل قد تكون هناك حدود وسطى بين الاليات الثلاث، ومن ذلك ما اطلقنا عليه المجاز الظاهر، حيث انه لا يخلو من التأويل القريب، لكنه يعبر في الوقت ذاته عن حالة من حالات الظاهر بدلالة ما يحصل من التبادر، وذلك بفعل القرائن المنفصلة المركوزة في الذهن. وبالتالي فنحن هنا امام حالة مزدوجة تجمع بين التأويل والاستظهار، حيث يمكن عدها من الاستظهار بفعل القرائن المركوزة في الذهن، كما يمكن عدها من التأويل بفعل ما فيها من المجاز اللفظي.

فمثلاً على ذلك قوله تعالى: {انك ميت وانهم ميتون} الزمر/0 3 ، فاننا لو عزلنا هذا النص عن اي قرينة منفصلة كالقرينة الخارجية الحسية لكُنا قد استظهرنا من النص بانه دال على موت النبي والاخرين موتاً حقيقياً وقت نزول الخطاب. فالظاهر دال على انهم ميتون حقيقة، لكن بفعل القرينة والضرورة الحسية يتبين ان الامر ليس كما يبدو في حالة عزل النص عن الحس والواقع، حيث يظهر تبادر المعنى بحسب ما يتم توجيهه من قبل تلك القبلية المعرفية، ومنه نعلم ان ظاهر النص دال على معنى كون النبي والاخرون سيموتون لا محالة، لا انهم ميتون فعلاً. ومثل هذا التوجيه او التأويل القريب هو ليس كالتأويل البعيد الذي يبتعد عن سياق النص وحقيقة الفاظه ابتعاداً كثيراً.

ولا شك ان هذا الحال ينطبق ايضاً على قوله تعالى: {واسأل القرية}، حيث يفهم القارئ مباشرة وبحسب ما لديه من المخزون الذهني للقبلية الحسية ان المقصود بذلك هو اهل القرية. وكذا قوله تعالى: {فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه}، حيث يتبادر الى فهم القارئ، تبعاً للقرائن القبلية المتمثلة بالحس، ان المقصود من الارادة في النص هو الميل وليس تلك الصفة الحيوية التي تطلق على الانسان وغيره من الاحياء.

وعلى هذه الشاكلة هناك عدد كبير من النصوص تقترب فيها مجازية النص من فعل الظهور العائد الى الحقيقة. لكن هناك ما هو اقل من ذلك ظهوراً وإن لم يبتعد كثيراً عنه. ومن ذلك ما جاء في تأويل قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} الروم/9 1 ، حيث قيل فيه ان معناه هو اخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وكذا العالم الفطن من الجاهل البليد، وهذا الجاهل من العالم (1 1 ).

كما ان هناك ما هو بعيد عن الظهور اللفظي، مثل الكثير من معاني الفهم التي وضعها كل من المعتزلة والاشاعرة ازاء النصوص الدينية، كما يتبين ذلك في الموقف من النصوص القرآنية الخاصة بمسألة القضاء والقدر. اذ قامت المعتزلة ومن على شاكلتها بتأويل ظواهر الايات الدالة على التدخل الالهي في اضلال العباد والختم على قلوبهم(12) . وعلى الضد لجأت الاشاعرة الى تأويل ظواهر الايات الدالة على نسبة الاعمال الى العباد(13) .

واخيراً فان هناك ما هو اكثر بعداً وايغالاً في التأويل، بحيث يصل الى درجة التحريف، كما يدل على ذلك الكثير من الممارسات التي قام بها الفلاسفة والعرفاء تبعاً لقبلياتهم الوجودية. فمثلاً على ذلك ما قام به ابن عربي في تأويله للنصوص التي تخص المصير الذي عليه فرعون، حيث اظهره بانه من الناجين من العذاب والنار(14). وكذلك ما قام به صدر المتألهين في تأويله للاية: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا} التغابن/6 ، حيث قلب حقيقة الظاهر فيها وعدها تعني ان الله قد حكم بكفر من اعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، وذلك على خلاف الظهور اللفظي للاية وسائر الايات(15) . ومثل ذلك ما قام به حيدر الاملي والقيصري من تأويل اية الامانة: {إنّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابيْنَ ان يحملنها واشفقْنَ منها وحملها الانسان، انه كان ظلوماً جهولاًً} الاحزاب/2 7 ، ذلك ان الاملي اعتبر ان ما ورد في الاية من وصف الانسان بالظلم والجهل لا يعد ذماً، بل هو مدح لا يفوقه مدح اخر(16) . وقبله كان القيصري يرى ان معنى الاية هو ان الانسان ظلوم لنفسه مميت اياها بافناء ذاته في ذات الله تعالى، وانه جهول لغيره بحيث انه ينسى كل ما سوى الحق، وينفي ما عداه بقوله: >لا اله الا الله< (17) .

اذن هناك تفاوت في الظهور والتأويل، وهناك حالات وسطى للاليتين السابقتين. وكذا ينطبق الامر بشأن الالية الرمزية، كما يدل على ذلك ما سبق ايراده بخصوص المجال المجازي.

سادساً:

ننتهي مما سبق الى ان الاليات الثلاث (الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية) لا تتحقق الا بحسب عدد من الشروط، وهي تنحصر في الموقف من عاملين، هما الظهور اللفظي والمجال. فبهذين العاملين يتحقق التمايز بين تلك الاليات الثلاث، حيث تتحدد ماهية كل منها وفق شكل العلاقة مع العاملين، كالذي نبينه كالاتي:

1 ــ الالية الاستظهارية

يشترط في هذه الالية هو انها تحقق العمل تبعاً لمحورين اساسيين، احدهما انها لا تخرج في قراءتها عن الظهور المجالي للنص، وبالتالي يفترض انها لا تحوله من هذا المجال الى مجال اخر مختلف. أما المحور الاخر فهو انها تقيم قراءتها وفق الظهور اللفظي للنص، وذلك بغض النظر عن ماهية الاسباب والدوافع التي تعمل على تشكيل صورة هذا الظاهر، والتي منها الخزين الذهني للقبلية المعرفية.

اذن فان لهذه الالية شرطين ينبغي الحفاظ عليهما، وهما المجال والظاهر، وان الاخذ بالظاهر يقتضي الاخذ بالمجال من دون عكس.

2 ــ الالية الاستبطانية

وشرط هذه الالية هو انها تتخلى عن كلا الشرطين من القراءة الاستظهارية الانفة الذكر، فهي لا تحتفظ بالمجال كما يطرحه النص، كما انها تبعاً لذلك لا يمكنها ان تحافظ على ظاهر لفظ النص. فعدم الحفاظ على المجال يفضي الى عدم الحفاظ على الظاهر من دون عكس. وخاصيتها الاساسية هو انها تعمل ضمن مجال مختلف جديد لا يمت بصلة مع المجال المطروح. او يمكن القول انها تعمل على استبدال المجال الظاهر بمجال اخر، هو ذلك الذي يتحدث عن (الخبز والشعير!)، وان مبرر هذه الممارسة قائم على ما لبعض المنظومات المعرفية من دوافع اسقاطية عند قراءتها للنص الديني، فهي بحسب قبلياتها المعرفية تقرأ النص وفق المجال الذي تفكر فيه، ومنه يتحول الظهور اللفظي الى رمز يشير الى مضامين هذا الفكر. وابلغ من مارس هذا الدور من الالية الاستبطانية هو النظام الوجودي، خاصة منظومته العرفانية وتلك الموصوفة بالباطنية (الاسماعيلية).

3 ــ الالية التأويلية

تتصف هذه الالية بأنها وسط بين الالية الاستظهارية والالية الاستبطانية. ذلك انها تتقوم بشرطين، احدهما تعمل عليه الالية الاستظهارية، والاخر تعمل عليه الالية الاستبطانية. كما انها في القبال تتخلى عن شرطين لكل منهما. ذلك انها تحافظ في قراءتها على الظهور المجالي دون ان تستبدله بمجال اخر بعيد، وهو ما يجعلها تتفق مع الالية الاستظهارية دون الاستبطانية. لكنها من ناحية اخرى لا تعمل بظاهر اللفظ، مما يجعلها تتفق مع الالية الاستبطانية دون الاستظهارية. فوظيفتها محددة - اذن - بالقراءة التي تعمل على تأويل الظهور اللفظي ضمن المجال الذي يلوح في افق النص، وذلك استناداً الى القبليات المعرفية وعلى رأسها تلك التي تتصف بالطابع المنظومي. ويكفي ان نحدد شرطها بكونها لا تعمل بالظهور اللفظي فحسب، حيث يفهم من ذلك انها تحتفظ بالمجال.

***

هكذا ننتهي من حيث المقارنة بين هذه الاليات الثلاث، هو ان الالية الاستظهارية خاصيتها الحفاظ على الظاهر اللفظي، وذلك لان هذا الفعل يقتضي في الوقت ذاته الحفاظ على المجال من دون عكس. بينما الالية الاستبطانية هي على الضد من الاولى، حيث خاصيتها الاساسية هي ترك المجال وابداله باخر بعيد، الامر الذي يقتضي عدم الحفاظ على الظاهر اللفظي من دون عكس. في حين ان الخاصية الاساسية للالية التأويلية هي خاصية جهوية او نسبية، حيث يمكن تحديدها بعدم الاخذ بالظهور اللفظي فحسب، وفيه ان هذا التحديد لا يقتضي اهمال المجال وتركه. كما يمكن تحديدها بانها تعمل وفق المجال فحسب، وفيه يفهم انه ايضاً لا يقتضي ذلك العمل بالظاهر اللفظي. فهذه الالية ليس فيها محل اقتضاء مثلما لاحظنا ذلك في الاليتين السابقتين.

وبعبارة اخرى ان الالية الاستظهارية تتصف بانها تعمل على مراعاة سياق النص في اخذها بالظهور اللفظي والمجال. وان الالية الاستبطانية تعمل على الضد، فحيث انها لا تأخذ بالمجال فان ذلك يفرض عليها عدم مراعاة السياق بتركها للظهور اللفظي. وان الالية التأويلية تتخذ الطريق الوسطى، حيث تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر.

ويمكن التعبير عن الفوارق بين الاليات الثلاث بالصيغة الرياضية كالاتي:

الاستظهار = الظاهر + المجال

الاستبطان = ــ المجال ــ الظاهر

الـتـأويـــل = المجال ــ الظـاهـر

كما يمكن التعبير عنها بالاشكال الهندسية، فلو رمزنا للظاهر بحرف (ظ)، وبالمجال بحرف (م)، فان الاشكال التي تتخذها كالاتي:

أما العلاقة بين الاليات من حيث القراءتين الاشارة والتفسير فيمكن ايضاحها عبر الرسم البياني التالي:

نص النص ونص نص النص

اولاً:

في قراءة النص لدينا ثلاثة عناصر متلازمة، هي النص والاشارة والتفسير. ومن حيث التمييز بين هذه العناصر نلاحظ ان النص له بعده الموضوعي المستقل عن المعرفة، فهو عندما يدخل في حيز المعرفة يتحول الى ما نطلق عليه الاشارة، ومن بعد ذلك التفسير. ومعلوم ان الاشارة هي كشف عن معنى النص، وان التفسير يزيد عليها بانه يشرح هذا المعنى فيكون عبارة عن معنى المعنى. وهذا يعني ان اليات الاشارة والتفسير هي وإن كانت اليات قائمة على النص، الا انها من هذه الناحية لا تكشف عن النص بما هو هو في ذاته.

فاليات الاشارة والتفسير الست رغم انها تقوم على النص، مباشرة وغير مباشرة، الا انها ليست عين النص، ولا انها تتطابق معه بالضرورة. فالنص شيء وفهمه المتمثل بالاليات شيء اخر.

فالنص بما هو في ذاته خارج عن حدود المنال الذهني. او لنقل ان الذهن لا يتعامل مع الاشياء في ذاتها ما لم تكن من العلوم الحضورية التي فيها يحضر الشيء بنفسه، بل يتعامل مع القضايا الخارجية وفق العلم الحصولي الذي فيه ترتسم الصورة لذلك الشيء، وارتسامها في الذهن هو العلم الحضوري بالصورة، او العلم الظاهر لذاتنا. ولا شك ان حضوره لذاتنا يمنعه ان يكون عين ذلك الشيء في ذاته، للاختلاف بين الشيئين في ذاته ولذاتنا، حيث ان الاول هو الموضوع الذي عالمه متعين بالخارج فحسب، وان الثاني هو المعنى الذي عالمه يتحدد في المجال التصوري للمعرفة، فان احدهما لا يمكنه ان ينقلب الى الاخر لاختلاف العالمين. والامر لا يختلف من هذه الجهة بين الموضوع الطبيعي الذي ينتمي الى العالم الكوني، وبين الموضوع النصي الذي ينتمي الى العالم اللغوي. فسواء الشيء الطبيعي او النص، فانهما معاً يحتفظان بكيان الشيء في ذاته. فالنص كشيء في ذاته يستحيل ان ينقلب الى ما هو معرفي لذاتنا، لكن ما يحصل هو ان هناك صورة تتجلى في ذاتنا للتعبير عن ذلك الشيء، سواء تطابقت معه ام لم تتطابق.

والنص كما هو في ذاته اشبه بما يقوله العرفاء عن الماهية والعين الثابتة قبل الايجاد، حيث لا تظهر ما لم تتنور بنور الوجود من الخارج، وكذا ان النص لا يظهر بما هو لذاتنا ما لم يتنور بنور المعرفة، وان الماهية اذا أُخذت من حيث هي هي فانها تظل معدومة ما شمت رائحة الوجود، وكذا ان النص اذا أُخذ بما هو هو، او هو في ذاته، فانه يظل مجهولاً وشبه المعدوم لا يشم رائحة الادراك والمعرفة، ومن هذه الخصوصية نطلق عليه (النص المجهول). فمثلما ان الماهية من حيث ذاتها لا تظهر بمظهر الوجود، فكذا ان النص من حيث ذاته لا يظهر بمظهر المعرفة والفهم من الاليات الاشارية والتفسيرية. فلولا المعرفة والادراك ما كان هناك ما يمكن ان نطلق عليه ظاهر النص او الاشارة، ومن ثم التفسير. وقلنا ظاهر النص باعتباره اول ما يتبادر من النص عند المعرفة، والا فكل الية عند المعرفة تتصف بالظهور نسبة الى الذات الكاشفة، حيث تتجلى بالحضور كصورة ظاهرة او مشهودة، وهي بهذا المعنى تختلف عما قصدناه من ظاهر النص الذي هو اول تبادر المعنى.

ثانياً:

على ان اليات الاشارة يمكن عدها نصاً اخر يقوم على ذلك النص المجهول، وان التفسير هو نص ثالث يقوم على نص الاشارة. وكلاهما يعبران عن النص المعلوم، اي ان لدينا نصاً مجهولاً ونصين معلومين. وبالتالي فان لدينا ثلاثة نصوص كالاتي:

1 ــ نص كما هو في ذاته، وهو الاساس الذي لا يقبل التحديد والتعريف من حيث هو هو، حيث لا علاقة له بالادراك والذات العارفة، وذلك شبيه بما عليه الماهية من حيث هي هي، حيث لا علاقة لها بالوجود.

2 ــ ونص ثان يقوم على ذلك النص باعتبارات الادراك والذات العارفة، وهو المعبر عنه بالاشارة على اقسامها الثلاثة: الاستظهار والتأويل والاستبطان. فنص الاشارة بهذا الاعتبار ينشأ عن امرين هما النص المجهول وذات القارئ، وان الاشارة بهذا الاعتبار هي نوع من القراءة، نطلق عليها القراءة الاولى او الاشارية.

3 ــ ونص ثالث يتحدد بقراءته لنص الاشارة وهو ما نطلق عليه نص التفسير. وهو وبالتالي يعتمد على كل من ذات القارئ والنص المجهول.

هكذا ان ذات القارئ تتسع لقراءتين، احداهما تتعلق بقراءة النص المجهول فنسميها نص الاشارة، واخرى تتعلق بقراءة هذا النص الاخير فنسميها نص التفسير. او قل ان لدينا قراءتين، احداهما هي قراءة للاخرى. كما ان لدينا ثلاثة نصوص، بعضها ينتج عن البعض الاخر، فهناك النص المجهول، وعليه يقوم نص الاشارة مما نعبر عنه (نص النص)، ومن ثم يقوم على هذا الاخير نص التفسير الذي هو (نص نص النص).

اذن لدينا نص، ونص النص، ونص نص النص. او قل لدينا نص، وقراءة النص، وقراءة القراءة. او لدينا نص، ومعنى النص، ومعنى المعنى.

وواضح اننا باستثناء النص المجهول نتعامل مع قراءتين واجتهادين احدهما قائم على الاخر، مما يجعلهما طبقتين تتفاوتان في البساطة والعمق، حيث القراءة التفسيرية هي تعميق للقراءة الاشارية، وانه لا وجود للقراءة التفسيرية من غير الاشارية، وان كان العكس غير صحيح. لكن في كلا القراءتين نواجه القابلية على التعددية. فالتعددية قد تكون اشارية، كما قد تكون تفسيرية. وفي جميع الاحوال لدينا انماط من التعددية على مستوى القراءتين الاشارية والتفسيرية؛ تعود الى ما لدى الانظمة المعرفية من القبليات المختلفة، وقلما يحصل الاتفاق بينها. لذلك قد تكون القراءة الاشارية وكذا التفسيرية عبارة عن قراءة وجودية او معيارية او واقعية.. الخ، وانه لا يوجد تلازم بين القراءتين التعدديتين، فرغم ان القراءة التفسيرية قائمة على الاشارية الا ان الاتفاق على هذه الاخيرة لا يلزم منه الاتفاق على الاولى. والامثلة على ذلك كثيرة كتلك التي يتفق فيها بعض اقطاب النظام الوجودي مع غيرهم في القراءة على مستوى الاشارة، لكنهم يختلفون معهم في القراءة التفسيرية غاية الاختلاف، ومن ذلك اتفاقهم حول الاشارة الاستظهارية رغم انهم يختلفون على مستوى التفسير، فيكون لدينا انماط من التفسير الاستظهاري، ومنه الوجودي الذي يختلف عن غيره من الانماط الاستظهارية للتفسير. وسنعرض - فيما بعد - نماذج عدة تكشف عن هذا الاختلاف.

ثالثاً:

قد يقال انه اذا كان النص المجهول لا يخضع للمعرفة وانه عبارة عن ذلك الشيء في ذاته، وان الذي يعرّف به هو كلا النصين الخاصين بالقراءة الاشارية والتفسيرية، وان هذين النصين او القراءتين يتقومان بالقبلية المعرفية، والسؤال هو كيف يمكننا الاطمئنان عن ان النصين او القراءتين يمكنهما ان يتطابقا مع الاول، او على الاقل انهما يقتربان من المعنى الذي يتضمنه؟

لا شك نحن نعترف بان هذه المسألة معقدة، بل فيها مستويان من التعقيد، فالعلاقة التي تربط نص القراءة التفسيرية بالنص المجهول هي اشد تعقيداً من تلك التي تربط نص القراءة الاشارية به. والامر واضح من حيث ان القراءة التفسيرية تتضمن الاشارية وتزيد عليها. لكن مع ذلك يمكن القول إنّا نواجه قضية هي ذات القضية التي نواجهها في الكشف عن طبيعة الاشياء الخارجية، حيث ان هذه الاشياء هي ايضاً عبارة عن اشياء في ذاتها يستحيل نقلها كما هي في ذهن الرائي، وبالتالي كيف يمكن ان نطمئن بان الصورة الذهنية تعبر عن الحقيقة الخارجية وتحاكيها؟ او على النحو الادنى كيف نبرر اقتراب الحقيقة بين الحالة التصورية للشيء في الذهن وحالته الموضوعية في الخارج؟

نعم اننا هنا امام قضيتين متماثلتين، فالموقف من النص كما هو في ذاته وعلاقته بالصورة الذهنية لدى القارئ هو كالموقف من الشيء الطبيعي وعلاقته بالصورة الذهنية لدى الرائي، وانه لا جواب لنا على هذه المشكلة الا بالاحالة الى اعتماد منطق القرائن الاستقرائية ودورها الايجابي في تنمية القوة الاحتمالية للتقريب بين الحالتين التصورية والموضوعية، او بين القراءة والنص المجهول كما هو في ذاته. فنحن هنا نقوم بعملية من الاستدلال، وكل عملية استدلالية هي عبارة عن اتصال غير مباشر، فليس لدينا ما يمكن فعله من الاتصال المباشر في الكشف عن طبيعة الاشياء الخارجية، او الكشف عما يتضمنه النص المجهول كما هو في ذاته. اذن يمكننا ان نستدل بشتى القرائن الدالة على الحقيقة الموضوعية سواء كانت طبيعية او نصية، وعملية الاستدلال هذه تتخذ السبل المنطقية التي فيها يمكن التمييز - في الكثير من الاحيان - بين الامر الاقرب للحقيقة عن ذلك البعيد عنها.

وللتبسيط نفترض مثلاً ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكنا نشك في وجودها او كونها شيئاً اخر كالقلم والطاولة وغير ذلك. ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط ونتوسل بعدد من القرائن المختلفة لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية او وهمية، وكذا فيما اذا كانت بالفعل عبارة عن كرة او انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تضخم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الاشياء الخارجية سوف لا نحتاج عادة الى الاختبار او المزيد منه، لكنا نفترض كما لو كنا نمارس عملاً استدلالياً اولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لهذا فحيث ان من المحتمل ان يكون ما نراه عبارة عن وهم من الاوهام، كان لابد من صنع قرينة اخرى، كإن نتحرك من زاوية اخرى وننظر من خلالها إن كنا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذلك نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، اذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، لذا فهذا الاحساس يزيد الظن بأن هناك شيئاً خارجياً يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا ان نقوم بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.

ونفس الشيء يمكن تقديمه بخصوص العلاقة بين احساسنا التصوري في القراءة وبين النص المجهول كما هو في ذاته. حيث يمكننا في النص البسيط مثلاً ان نجمع العديد من القرائن الاحتمالية التي يمكنها ان تدعم تقارب الحقيقة بين القراءة والنص المجهول، بحيث كلما زادت هذه القرائن كلما قوي احتمال التقارب بينهما. وواقع الامر ان اول فعل في القراءة ينشأ هو فعل الظهور المجالي، وانه يمكن الاستدلال على ان هذا الظهور قابل لان يبرر القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول، وذلك بالقدر الذي ينفى عنه مجال (الخبز والشعير!). فقوة القطع الوجداني بالتطابق بين المجال والنص المجهول هي بنفس القدر لقوة القطع الذي نعتقد فيه ابتعاد النص عن مجال (الخبز والشعير!). فالقطع بهذا المعنى ممكن ومبرر تبعاً لكثرة القرائن الاحتمالية، وهي نفسها التي تبرر القطع بنفي ان يكون للنص اشارة تخص ذلك المجال المستبعد.

او قل على الدوام ان كل معنى اجمالي لابد ان يحظى على العدد الاكبر من القرائن الاحتمالية مقارنة مع المعنى المحدد او المفصل، وانه لا مانع من ان نحظى على القطع الوجداني في التعامل مع النص المجهول بحدود المعنى المجمل، وذلك عند تضافر القرائن الاحتمالية الدالة عليه. ولا شك ان من ابرز مصاديق المعنى الاجمالي هو الظهور المجالي.

بل ان ما يقدمه الفكر البشري من اجتهاد في قراءته للموضوع ، سواء كان الموضوع نصاً او واقعاً او غير ذلك، لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه. فنحن هنا اشبه ما نكون امام غابة كبيرة تشهد بوجود الاشجار الكثيفة دون شك، وكأن الاشجار تعلن عن نفسها، أما سائر الاشياء الاخرى مثل انواع محددة من الحيوانات فانها لا تشهد بنفسها على ذلك الا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك اشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا اشياء لا نعلم عنها على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة، وعليه فالموضوع، كالنص مثلاً، لم يعد موضوعاً لا ينطق بحقائق فعلية، رغم ان هذه الحقائق تتوقف معرفتها على الادراك، لكنها تظل واضحة لا تحتاج الى جهد في التحديد والتعيين.

رابعاً:

لكن ماذا لو قيل ان تركيبنا الذهني يرى الاشياء هكذا متسقة، ولو تغير هذا التركيب، كإن تتغير طبيعة ما عليه الجهاز العصبي مثلاً، لكنا نرى النص رؤية اخرى مختلفة؟

في الجواب نقول ان تغير التركيب الذهني لا يبعث على رؤية اخرى متسقة، صحيح عندها قد تتشوش الرؤية وتضطرب او تنعدم، لكن من المستبعد تماماً ان يؤدي ذلك الى تكوين صورة نسقية. فاحتمالات الحصول على معان متناسقة وعمومية بحيث يتفق فيها جميع من شملته هذه الحالة هي احتمالات ضعيفة للغاية. وهذا ما يعزز ان رؤيتنا للنص تظل محصورة ضمن المجال المفترض، وان فيه يمكن ان نقترب من المعنى الذي يتضمنه النص بحسب القرائن الاحتمالية. فمعرفتنا كاشفة كالمرآة، مع ما لطبيعة المرآة من دور في اظهار الصورة المنعكسة، بحيث تتحدد الصورة بفعل الامرين: المرآة والشيء الخارجي، ولا وجود لها عند حضور احد هذين الامرين دون الاخر. فالصورة في المرآة قد لا تعبر كلياً عن الشيء الخارجي، لكنها ايضاً تقترب عن حقيقته. وكذا يقال بخصوص النص من حيث ان ما يحدد الاشارة فيه كالظاهر مثلاً ليس النص في ذاته فقط، بل كذلك القبليات المعرفية التي تعمل على هذا التحديد. فبفعل الامرين معاً يتجلى الظاهر ضمن المجال.

مع ما يلاحظ من الفارق في القيمة الاحتمالية بين الظاهر والمجال، حيث لما كان الاخير يعبر عن اقصى حدود الاجمال؛ لذا من الممكن ان يكون لذلك مبرر للتطابق مع ما عليه النص في ذاته، طالما انه يحظى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. أما من حيث الظاهر او الاشارة فلا شك ان هذه القرائن لا تكون بتلك القوة والقيمة التي يحظى بها المجال، الامر الذي لا يبرر حالة القطع الذهني على التطابق ما لم يكن ذلك محمولاً على المجملات العامة، وذلك لنفس الاعتبار من التنمية الاحتمالية. فالامر يعود في النهاية الى ما عليه هذه التنمية من قوة وقيمة، لكنها تتعاظم عند القضايا المجملة مقارنة مع القضايا المفصلة، ومنه يتبين الفارق بين القيمتين الاحتماليتين لكل من المجال والظاهر او ما على شاكلته من انماط الاشارة.

على انه يمكن تشبيه علاقة التطابق في المجال مع النص في ذاته بالعلاقة بين الوجود والماهية، او النور والزجاجات الملونة. ذلك ان هذه الزجاجات تظل مظلمة غير متميزة واشبه بالمعدومة ما لم تظهر من خلال نفاذ النور فيها، وان هذا النفاذ يظهرها ملونة بالشكل الذي هي عليه. والملاحظ ان النور ليس بامكانه قلب الزجاجات الى الخبز والشعير، مما يؤكد انه ليس له الامكانية في تحويل القابليات التي عليها الزجاجات، فلولا هذه القابليات الكامنة ما ظهرت بالشكل الذي تظهر فيه. لكن في الوقت ذاته فان ظهور الزجاجات بهذا الشكل من الالوان لا يعبر عن حقيقة ما عليه الزجاجات بالكامل، فبفعل النور والقابليات معاً تظهر الالوان والاشكال على النحو الذي تظهر فيه، ولولا النور ما ظهر من ذلك شيء، وكذا فلو ان للنور لوناً اخر غير ما كان عليه؛ لظهرت الوان الزجاجات بشكل مختلف عما كانت عليه. اذن يظل المجال ثابتاً هو هو لا ينقلب الى مجال الخبز والشعير، وان بدا تأثر الظاهر وما على شاكلته بالقبليات والاذهان.

خامساً:

هكذا اننا بفكرة المجال نقف موقفاً متوسطاً بين اولئك الذين رؤوا ان من الممكن ان تتطابق قراءتنا مع النص كما هو في ذاته، او كما هو قصد صاحب النص، وبين اولئك الذين رؤوا في النص انفتاحاً لا يحده حدود، اي انه قابل للتشكل والانتاج الى ما لا نهاية له من القراءات والفهم والتفسير بعدد القراء والمفسرين، وهو بهذا يكون مستقلاً عن قصد صاحبه وذلك باعتباره خطاباً مكتوباً وليس خطاباً حادثاً بالكلام الشفهي(18) . وهذه النظرية التي تعود الى عدد من المفكرين الغربيين - من امثال غادامير ودريدا وريكور - قد تفهم بانها لا تضع حدوداً للقراءة والتفسير، وكذا لا تضع ميزاناً للترجيح بين القراءات المتعددة، لكن على هذا التصور تصبح النظرية لا تخدم قائليها إن لم تسيّج ضمن سياج منيع بمثل ذلك الذي اطلقنا عليه المجال. فهي ذاتها معبر عنها بالنص، ولو طبقنا على هذا النص ما يقولونه لكان من غير الممتنع ان نقرأه قراءة هي على النقيض تماماً مما يريدون ايصاله الينا، وهنا سوف يستحيل ان يكون هناك اي مجال للتواصل المعرفي. فالتواصل لا يتم الا عبر النص، وحيث ان هذا الاخير مفتوح، فانه لا مجال لمعرفة ما يراد منه ولو على سبيل التقريب، وبالتالي يصبح من العبث ان نكتب شيئاً او نقول شيئاً، فكل شيء يمكن حمله على الخبز والشعير بلا حدود. ولا شك ان فكرة المجال والفهم المجمل والقيم الاحتمالية تبعدنا عن هذا العبث من التفكير إن اريد به الانفتاح التام بلا قيود مقننة مرسومة.

القبليات المعرفية وقراءة النص

اولاً:

علينا ان نوضح اخيراً ان القبليات المعرفية التي لها علاقة بفهم وقراءة النص هي على اربعة اصناف مختلفة كالاتي:

1 ــ القبليات الذاتية: وهي قبليات غير منضبطة، حيث تتأثر بما عليه الذات بمختلف التأثيرات والمتغيرات؛ النفسية والايديولوجية والعوامل البيئية والزمنية. فمن حيث هذه التأثيرات تنبني المعرفة الانتاجية وكذلك فهم النص. لكن باعتبار ان هذه القبليات غير منضبطة فهي خارجة عن نطاق بحثنا، وإن كنا نعترف بأهمية بحث هذا النوع من القبليات.

2 ــ القبليات الاطلاقية: وهي معارف لا يخلو منها انسان قط، وبعضها يتوقف عليه النظام المعرفي الانساني برمته. ومن الامثلة عليها المعرفة الخاصة بقانون السببية ومبدأ عدم التناقض ومنطق الترجيحات الاحتمالية والضرورات الحسية وغيرها. ولا شك ان لهذا النوع من القبليات دوره المميز في فهم النص، سواء على مستوى الاشارة او التفسير. فمثلاً كثيراً ما يتحول المجاز الى نوع من الظهور لا التأويل بسبب القبلية المعرفية القائمة على الضرورة الحسية، كالذي مر علينا في السابق.

3 ــ القبليات العامة: وهي قبليات تغلب على معرفة الناس، لكن دون ان يصل فيها الامر الى حد الاطلاق التام. فمثلاً ان اغلب الناس يتمسكون بظاهر النص استناداً الى ما لديهم من المعرفة القبلية الخاصة بالدلالة الاستعمالية للفظ على المعنى، فحيث يكثر استخدام اللفظ على معنى محدد، فان ذلك يشكل ركيزة ذهنية قبلية يلجأ اليها القارئ لحمل معنى النص على الظاهر الذي يتبادر له.

4 ــ القبليات المنظومية: وتعد هذه القبليات عين ما يسلم به القارئ والباحث بنظام ما او منهج ما من الانظمة والمناهج الفكرية، الامر الذي يؤثر فيه على فهم النص وقراءته، سواء من حيث الاشارة او التفسير. ولا شك ان هذه القبليات يكثر فيها النقاش والجدل بين الباحثين، او انها ليست موضع تسليم لدى جميع الانظمة الفكرية، لذلك فان ما ينبني عليها من الاشارة والتفسير يخضع هو الاخر الى المماحكة الجدلية. وعلى هذا النوع من القبليات تتأسس عادة آليات التأويل والاستبطان. وقد يصادف احياناً ان الاشارة لدى القبلية المنظومية قائمة على الالية الاستظهارية لكنها من حيث التفسير تنحو الى التأويل والمباطنة، فيتشكل لدينا ما اطلقنا عليه الاستظهار الجدلي. حيث تكون القراءة من حيث التفسير بعيدة عن اجواء النص وسياقه، رغم انها من حيث الاشارة تبدي المحافظة على الظهور اللفظي للنص.

اضافة الى ما سبق هناك القبليات النقلية، والتي تعني ان الية الفهم وقراءة النص تتأثر بما عليه النصوص الاخرى التي تناظرها في القيمة، كإن يعول في فهم اية قرآنية على ايات او احاديث نبوية اخرى. ولا شك ان لهذا النوع من القبليات سمة نسبية. لذلك لا يصح لنا ادراجه ضمن القبليات اذا ما تعاملنا مع النص من حيث كونه يشكل وحدة جنسية قبال ما سبق من الوحدات الجنسية لسائر القبليات.

ثانياً:

علينا ان نذكر ونؤكد بان جميع اليات فهم النص وقراءته لا تتحدد الا بحسب ما عليه القبليات المعرفية. ذلك ان من المحال على الذهن البشري ان يعمل من دون هذه القبليات، سواء في معرفته للقضايا الطبيعية والخارجية، او في فهمه للنص، ومنه النص الديني، وليس ذلك الا لكون المعرفة الخاصة بهذه القضايا هي معرفة حصولية لا حضورية، اي انها تحتاج الى الوسيط المعرفي الذي يتوسط بين القضية الطبيعية او النصية وبين الذهن البشري. وما هذا الوسيط سوى القبليات. فحتى الاشارة الظاهرية لا يسعها ان تستقل في الظهور من غير ان تتحدد سلفاً ببعض من تلك القبليات. وبالتالي كان من الممكن ان يتفاوت الظهور ويتعدد الظاهر تبعاً لاختلاف هذه القبليات. فالظاهر لا يكون ظاهراً الا من حيث ظهوره للاذهان. وهذا الظهور لا يتشكل الا بفعل الرؤية القبلية التي تراه مشخصاً بالظهور. وذلك مثل رؤية العين التي ترى امامها شيئاً فتصفه بانه قلم اسود وليس احمر او اخضر، وانه ليس كتاباً او طاولة. لكن حيث ان الاذهان قد تختلف في قبلياتها باعتبارات كثيرة، فلهذا قد يرى بعضها شيئاً بانه ظاهر غير ما يراه البعض الاخر. ومن ذلك انه يمكن للنظام المعرفي ان يلعب دوره المميز في تحديد الظاهر.

فمثلاً ان صدر المتألهين رأى في قوله تعالى: {انك ميت وانهم ميتون} هو عين الظاهر والحقيقة بلا حاجة للتوجيه كالذي يذهب اليه بقية العلماء والمفسرين، وان ما جعله يرى في ذلك النص نصاً دالاً على الظهور والحقيقة هو قبليته الوجودية، وعليه قام بتفسير النص تبعاً لهذه القبلية التي تعترف بالحقيقة اللفظية الظاهرة، مؤكداً على ان في كل وقت من اوقات الحياة الطبيعية هناك موت وبعث ونشر وحشر الى الله تعالى، فهناك رقي من نشأة الى نشأة اخرى، ومن مقام الى مقام اخر، فالموت هو التحول والكمال في النشآت(19). في حين ان غيره من العلماء الذين ينتمون الى نظام معرفي اخر مغاير لا يرون النص دالاً على هذه الحقيقة، وان الذي جعلهم يذهبون الى ذلك هو ايضاً يعود الى القبلية المعرفية، وبالتحديد القبلية الحسية التي ترى ان النبي والاخرين عند الخطاب بهذا النص كانوا احياءً وليسوا موتى.

وعلى هذه الشاكلة اخذ العرفاء بالظهور الحقيقي لقوله تعالى: {كل شيء هالك الا وجهه} القصص/8 8 ، وقوله: {كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام} الرحمن/6 2 ــ7 2 ، حيث بفعل القبلية الوجودية فان النصين مأخوذان على الظهور الحقيقي للفظة الهلاك والفناء من غير توجيه، وذلك تبعاً لنظرية وحدة الوجود، حيث لا وجود لغير الله ازلاً وابداً، مثلما قيل: >الباقي باقٍ في الازل والفاني فانٍ لم يزل<(20) . وبالتالي فان المعنى هو ان كل شيء هالك وفان حقيقة وفي كل حال، لا ان الهلاك والفناء عند المآل كما هو الظاهر بحسب القبلية الحسية.

كما ان من الامثلة على تعدد الظاهر تبعاً لاختلاف القبليات المعرفية؛ ما جاء في الكشف عن قوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون} 3 /7 1 1 ، فظاهر النص قد يعني ان النفس هي التي سبق لها الظلم وذلك كاشارة الى العين الثابتة مثل الذي يذهب اليه العرفاء ضمن النظام الوجودي، وكأن المعنى يقول ان نفوسهم المتمثلة بحقائق طبائعهم واعيانهم هي التي تظلم، فاليها تعود الحاكمية والجبرية(21) . كما قد يكون المعنى هو ان نفوسهم هي التي تظلم وليس اعيانهم الاصلية. ولا شك ان الظاهر كما قد يتشكل بالمعنى الثاني، فانه قابل لان يتشكل بالمعنى الاول مثلما تحدده القبلية الوجودية. كذلك قد يرى بعض المفسرين ان لظاهر قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} الاسراء/4 8 ؛ سمة ارشادية لتوجيه الافراد للعمل بحسب ما يودونه من طريقة. لكنه لدى التصور الوجودي فان ظاهر هذا النص لا يشير الى تلك السمة الارشادية، وانما يشير الى حقيقة ما هي عليه الافراد، حيث كل فرد يعمل بحسب ما هو عليه من الاستعداد والحقيقة الاصلية، وذلك كاشارة الى الاعيان الثابتة، فالمعنى من حيث التفسير هو ان كل فرد لابد ان يسير تبعاً لما يقتضيه الاصل والشاكلة التي عليه ماهيته او عينه الثابتة، وكلّ ميسر لما خلق له مثلما جاء في الحديث النبوي (22) .

ومن ذلك ايضاً ان تحديد الظهور في الحديث النبوي القائل: >خلق الله ادم على صورته< يخضع تبعاً لما عليه مثل تلك القبلية، فالهاء يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى الله، كما يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى ادم، وكلا الامرين يقبلان التعيين، ولا شك ان تعيين احدهما دون الاخر يمكن ان يتأثر بما عليه المنظومة المعرفية. لذلك فان اصحاب النظام الوجودي لا يعولون على ارجاع الضمير الى ادم، بل يذهبون الى ارجاعه لاسم الجلالة، وهم بذلك يستندون الى ما عليه قبلياتهم الوجودية.

هكذا فتحديد دلالة النص إن كانت تتشكل بحسب الحقيقة والظهور او بغيرها انما لا يمكنها ان تستقل عما عليه القبليات المعرفية المختلفة. ومن ثم فان ظاهر النص قد يتحدد بحسب ما عليه النظام المعرفي، او ان هذا النظام هو الذي يعمل على تشكيل الظاهر الى الدرجة التي يكون فيها متعدد الصور والاشكال، مثلما هو الحال في توقف الصورة الظلية على طبيعة المرآة التي تظهرها.

ويمكن القول ان من الاولى ان ينطبق ذلك على سائر انماط الاشارة الاخرى التي من الواضح انها تتأثر في غاليبيتها بطبيعة ما عليه النظام المعرفي. وايضاً انه اذا كان الامر يصدق على نص القراءة الاشارية فان من الاولى ان يصدق الامر على نص القراءة التفسيرية باعتبارها قائمة على الاولى ومترتبة عليها. فمثلاً قد نجد حالات يتفق عليها المفسرون من حيث الاشارة والظاهر، لكنهم يختلفون حولها من حيث التفسير، وذلك تبعاً لاختلاف منظوماتهم القبلية، وهو ما اطلقنا عليه الاستظهار الجدلي.

فمثلاً يتفق المفسرون على ظاهر قوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} الاعراف/9 2 ، من حيث ان الخلق كما بدأ سيعود، لكنهم يختلفون في تفسيرها، فهي بحسب نظر بعض اقطاب النظام الوجودي دالة على ان الخلق مثلما بدأ من العقل فالنفس ثم الجسد، فان العودة ستكون على العكس من الجسد فالنفس فالعقل، كالذي اختاره صدر المتألهين(23). ولا شك انه تفسير لا يوافق عليه اولئك الذين لا ينتمون الى النظام الوجودي. كذلك اننا قد نتفق من حيث الاشارة الظاهرية على معنى الاية القرانية التي تقول: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى}، فالمعنى المفهومي قد يكون متفقاً عليه بين العديد من المذاهب والاتجاهات، الا انه من حيث العلاقة المصداقية او المعنى التفسيري يجد المجال الاعظم في الاختلاف بين المفسرين بحسب ما تؤول اليه قبلياتهم المعرفية. لذلك نجد في التفاسير الوجودية للعرفاء الكثير مما يتفقون به مع غيرهم من حيث الظاهر او الاشارة، الا انهم يختلفون في التفسير اختلافاً عظيماً تبعاً لاختلاف انظمتهم المعرفية. فمثلاً نجد لابن عربي محاولات عديدة للحفاظ على الظهور اللفظي للنص، لكنه من حيث التفسير فانه يذهب الى ما لا يذهب اليه الاخرون من ذوي الاتجاهات الاخرى رغم اتفاقهم على الاخذ بذلك الظاهر. ومن ذلك ما جاء في استظهار قوله تعالى: {ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله} الفتح/0 1 ، وقوله: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} النساء/0 8 . حيث الظاهر معلوم وهو ان مبايعة النبي هي مبايعة لله، وان طاعة الاول هي طاعة للاخر، فهذا المعنى هو موضع الاتفاق بين العلماء، لكن من حيث التفسير فان القبلية الوجودية لدى ابن عربي تجعله لا يرى الثنائية الظاهرة بين النبي والله، انما الموجود واحد، وهو الله المتعين بحسب الصورة المحمدية، وبالتالي فان مبايعة النبي وكذا طاعته هي ذاتها مبايعة الله وطاعته، حيث لا وجود لغيره. وعلى هذا كان من الميسور ان يستظهر هذا العارف المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: >من رآني فقد رأى الحق<، ذلك ان ظاهر الحديث بيّن في كشفه عن التلازم بين الرؤيتين، لكن تفسير ذلك عنده نابع من ان رؤية النبي هي ذاتها عين رؤية الله، فمن حيث ان هذا الاخير متعين بالصورة المحمدية - مثلما انه متعين بغيرها من الصور - فهو عين النبي، لذلك فمن رآى النبي فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، وذلك تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو ان النبي عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، ولذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته (24) .

وعلى هذه الشاكلة اتفق ابن عربي مع غيره من المفسرين على المفهوم الظاهر من قوله تعالى: {يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله} فاطر/5 1 ، لكنه اختلف معهم في تفسير العلاقة المصداقية للفقر بين الله والناس، ذلك انه اعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها. فهم اذن يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء(25) .

هكذا اذن تتحدد القراءات وتتغاير، سواء على مستوى الاشارة او التفسير، وذلك حسب المرايا التي عليها القبليات المعرفية وعلى رأسها القبليات المنظومية.

الهوامش

1 لدى علماء الاصول ان اللفظ اذا اتى بمعنى لا يحتمل معه الخلاف فانه يعبر عنه بالنص، واذا اتى بمعنى يحتمل معه الخلاف فانه يطلق عليه بالظاهر. لكنّا لا نفرق بين هذين النوعين من حيث كونهما يعودان الى الظاهر، وذلك لاعتبارات معرفية سنذكرها فيما بعد.

2 فصلنا الحديث عن هذه النظرية غير المعروفة في الاوساط الحديثة وذلك في كتاب لنا معد للطبع.

3 عبد القاهر الجرجاني: دلائل الاعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص8 5 2 .

4 حيدر الاملي: جامع الاسرار ومنبع الانوار، مع تصحيح ومقدمة كل من هنري كوربان وعثمان اسماعيل يحيى، طبع شركت انتشارات علمي وفرهنكي، ايران، طبعة ثانية، 8 6 3 1 هـ،، ص9 5 .

5 انظر بهذا الصدد كتابنا: دور اللاشعور في الحياة، مطبعة نمونة، قم، 5 8 9 1 م.

6 دلائل الاعجاز، ص6 6 و2 6 2 ــ3 6 2 . كذلك: الفخر الرازي: نهاية الايجاز في دراية الاعجاز، تحقيق ودراسة بكري شيخ امين، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الاولى، 5 8 9 1 م، ص6 0 1 .

7 الجندي: شرح الفصوص، ص2 0 6 . وأبو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار احياء الكتب العربية ، 5 6 3 1 هــ ــ 6 4 9 1 م، ج1 ، الفص الثاني والعشرين، ج1 ، ص5 8 1 . كما لاحظ: كشف الغايات في شرح ما اكتنفت عليه التجليات، لم يعرف مؤلفه، تحقيق عثمان اسماعيل يحيى، مركز نشر دانشكاهي، تهران، 7 6 3 1 هـكشف الغايات، ص4 5 3 .

8 لقد فصلنا الحديث عن النظريتين الوجوديتين المشاكلة والمعاينة مضافاً الى نظرية التمثيل في دراسة عن النظام الوجودي وفهمه للاسلام وذلك في كتابنا المعد للطبع كما اشارنا من قبل.

9 انظر مثلاً: الزمخشري: تفسير الكشاف، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الاولى، 6 1 4 1 هـ، ج3 ، ص2 5 . والفخر الرازي: التفسير الكبير، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج2 2 ، ص7 .

0 1 ابن عربي: كتاب الاسفار، ضمن رسائل ابن العربي، ج1 ، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 8 4 9 1 م، ص2 4 .

1 1  الماوردي: النكت والعيون، دار الكتب العلمية ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ج4 ، ص4 0 3 ــ5 0 3 . كما لاحظ: التفسير الكبير، ج5 2 ، ص7 0 1 . والقرطبي: الجامع لاحكام القران، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 5 0 4 1 هـ ــ 5 8 9 1 م، ج4 ، ص6 5 .

2 1 انظر مثلاً: عبد الجبار الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن. ومتشابه القرآن. ورسائل الشريف المرتضى، ج2 .

3 1 انظر مثلاً: الباقلاني: التمهيد.

4 1 اوردنا ذلك مع الكثير من النصوص التي قام بتأويلها ابن عربي وغيره من الفلاسفة والعرفاء في كتابنا المشار اليه: النظام الوجودي وفهم الاسلام.

5 1 صدر المتألهين: اسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 2 0 4 1 هـ، ص3 4 1 ــ4 4 1 .

6 1 جامع الاسرار ومنبع الانوار، ص1 2 .

7 1 داود بن محمود القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، منشورات انوار الهدى، الطبعة الااولى، 6 1 4 1 هـ،، ج1 ، ص5 6 1 .

8 1 بول ريكور: من النص الى الفعل، ترجمة محمد برادةــحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعة الاولى، 1 0 0 2 م، ص5 8 .

9 1 اسرار الآيات، ص9 5 1 .

0 2 حيدر الاملي: رسالة نقد النقود في معرفة الوجود، منشورة في ذيل جامع الاسرار ومنبع الانوار للاملي، ص8 6 6 .

1 2 الفصوص والتعليقات عليه، ج1 ، ص0 4

2 2 جامع الاسرار، ص9 8 1 و1 0 2 .

3 2 صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، ص3 6 6 .

4 2 تفسير صدر المتألهين، دار التعارف، ج4 ، ص7 2 4 ــ8 2 4 .

5 2 ابن عربي: الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، ج2 ، ص9 5 4 .

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار