الاصول المولدة في علم الكلام
يحيى محمد
نقصد بالاصل المولد هو تلك القضية القابلة لان تفسر لنا اكبر عدد ممكن من القضايا العائدة الى نفس المنظومة المعرفية، وذلك من حيث التوليد والتوجيه والاتساق. حيث نفترض ان هناك عملية انتظام تتولد فيها المعرفة بعضها من بعض، وذلك اعتماداً على بعض القضايا التي تتصف بقابليتها على تفسير وتوليد ما امكن من القضايا الاخرى ضمن نفس المنظومة. وكأن الاصل المولد يستبطن سائر المعارف الاخرى، وكأنه الماهية التي تتحدد بها التفاصيل، مثلما يتحدد من اسم افلاطون كل ما نعرفه عن هذا الرجل الحكيم. وكذا الحال في الاصل المولد، حيث يمكن انتزاع مختلف المعارف وتفسيرها بشكل افضل مقارنة مع القضايا الاخرى. فهذا هو المعيار الذي نبني عليه اجتهادنا في انتخاب الاصول المولدة كقضايا اساسية لا يمكن تجاهلها عند بحثنا للدوائر والانظمة المعرفية، وبالتالي فان الصفة التي نبني عليها هذا الحكم هي صفة (هندسية) او منطقية، بحيث تندرج سائر القضايا اما كمشتقات نابعة من الاصل المولد، او على الاقل انها تتسق معه بما لا ينافسه عنصر اخر.
هكذا فالاصل المولد هو بمثابة البداية المنطقية لسائر المعارف الاخرى، وذلك مقارنة بالبداية التاريخية وما ينشأ عنها من تطورات. واذا كان البحث البراني يمكنه ان يحدد لنا البداية الاخيرة، فان البحث الجواني كفيل بتحديد البداية الاولى المنطقية. وبعبارة اخرى ان ما يجري من بحث على المنوال التاريخي في الاصول والبدايات هو غير ما يجري من بحث على المنوال المنطقي، بدلالة ان منطق كل علم لا يسعه ان يتقدم زماناً على تاريخ هذا العلم. فمنطق كل علم يأتي بعد مراحل تقدم هذا العلم، وان البداية التاريخية على هذا هي ليست ذات البداية المنطقية للعلم.
***
بعد هذا التمهيد يلاحظ ان محور ما يشغل التفكير في علم الكلام هو البحث عن العلاقة التكليفية التي تربط بين المكلِّف والمكلَّف، وذلك من حيث الحقوق والواجبات. وينطبق هذا الامر ليس فقط على الدائرة البيانية، بل وعلى الدائرة العقلية ايضاً. ونحن سنقتصر في البحث على هذه الاخيرة لكونها الاكبر من حيث الوساعة والتأثير مقارنة مع الاولى.
ومن وجهة نظر منهجية ان المبدأ الذي تتأسس عليه مقولات الدائرة العقلية هو مبدأ (الحق)، ذلك انه يتضمن فكرة الالتزام والواجب التكليفي. لكن هذا المبدأ منقسم على اصلين مولدين ينشأ عنهما اتجاهان متضادان يستقطبان الدائرة العقلية. ونحن نطلق على احدهما (الحق الذاتي)، وعلى الاخر (حق الملكية). اذ يراعي الاول منهما اعتبارات (الحق في ذاته) دون قيد وشرط، وابرز من يمثله المعتزلة والزيدية والامامية الاثنا عشرية. اما الثاني فيقيد فكرة الحق بمبدأ الملكية، حيث يرى انه من الناحية العقلية ان المالك المطلق المنفرد بملكه له حق التصرف فيه ما يشاء. والاشاعرة هي من تمثل هذا الاتجاه.
ومع ان كلا هذين الاتجاهين مبرران بالطريقة العقلية؛ الا ان ما يتضمنه الاول من الالتزامات والواجبات التكليفية هو غير ما يتضمنه الاخر. فالاول يؤسس مقولاته على الواجبات العقلية، حيث ان الحق الذاتي يقتضي الواجب الذاتي، والواجب الذاتي لا يدرك بطريق اخر سوى العقل، لان ما يدرك ذاتياً من غير قيود وشروط لا يكون الا عن طريق العقل. فهذا الاخير - اذن - هو اساس الواجبات التكليفية ومقتضيها. وعلى العكس فيما يتعلق بمبدأ حق الملكية، حيث ان تقييد الحق بها وإن كان يبدأ بفعل عقلي هو هذا التأسيس المشروط؛ الا ان ذلك يستلزم اللجوء الى طرف اخر غير العقل يتعين من خلاله الكشف عن ارادة حامل الملكية المطلقة في تعيين الواجبات التكليفية التي يفرضها الحق المشار اليه. وبالتالي فان الواجبات التكليفية بحسب هذا المنطق هي واجبات غير عقلية، وإن كان تبريرها مستمداً من الدليل العقلي ذاته.
اذن ان المنطق الاول يجعلنا ندور في دائرة الواجبات العقلية، بينما يحولنا المنطق الاخر الى دائرة الواجبات غير عقلية مرجعها ذلك المتصف بالمالك المطلق. وهناك فارق اخر، وهو ان المنطق الاول يسعى لأن يكون بحثه في مجال الحقوق والواجبات لدى كل من المكلَّف والمكلِّف على السواء، وذلك لانهما يخضعان معاً تحت السلطة الاعتبارية للحق الذاتي، حيث ان هذه الفكرة ليس فيها ما يقيدها بقيد او شرط. الامر الذي يختلف فيه الحال مع المنطق الاخر، وذلك لانه لا يساوي بين المالك والمملوك في الخضوع الى تلك السلطة، بل على العكس انه يجعل الحق محكوماً وفق ما عليه سلطنة المالك. وبالتالي كان الحق بيد المالك دون المملوك.
وضمن نطاق الحق الذاتي لابد من التفريق بين طبيعة الواجبات والالتزامات التي تلوح المكلِّف عن تلك التي تلوح المكلَّف. فهي في حدود دائرة الاخير تتضمن اعتبارات التكليف فضلاً عن اعتبارات الحسن والقبح. لكنها في دائرة الاول تخلو من الاضافة التكليفية، فلا تتضمن سوى الحسن والقبح، وذلك لانها الاصل الذي يتوقف عليه التكليف ومترتباته من الثواب والعقاب.
أما ضمن نطاق حق الملكية فان هذا الانقسام المشار اليه غير موجود، حيث ليس هناك واجبات والتزامات في دائرة المكلِّف، بل ان هذه الاعتبارات تصدق فقط على دائرة المكلَّف. كما ان معنى (الحق) لدى هذا المنطق يتضمن كلا العنصرين: التكليف والحسن والقبح من غير فصل. وإن كان من الناحية المبدئية لا مانع لدى هذا المنطق ان يكون الحق معبراً عن مضامين الحسن والقبح بلا تكليف، وذلك توقفاً على ارادة المالك المطلق. فالحق هنا قد يستلزم الواجبات التكليفية، وقد لا يستلزمها. وهذا الحال لا يصدق مع فكرة المنطق الاول للحق، وذلك باعتبارها تستلزم العلاقة التكليفية، مثلما تستلزم مضامين الحسن والقبح، طالما دلت عليها العلاقة الخلقية بما تحمله من دلالات تتوفر فيها كل الشروط التي تصحح نظرية التكليف.
اذن نحن امام منطقين مختلفين في تحديد هوية الحق بالنسبة للعلاقة بين الخالق والمخلوق، او المكلِّف والمكلَّف. وقد جاء هذا التحديد لدى المنطقين بصورة اولية. فلدى اصحاب المنطق الاول ان الفكرة الذاتية للحق هي فكرة عقلية اولية لا تحتاج الى نظر وتفكير، وكذا هو الحال مع اصحاب المنطق الثاني، حيث لديهم ان تحديد الحق بحسب الملكية هو تحديد اولي لا يحتاج بدوره الى نظر واستدلال. هذا بالرغم من ان هذين الاعتبارين يختلفان اختلاف الضد من الضد، وانه تتأسس لدى كل منهما قضايا تتناقض مع القضايا التي تتأسس لدى الاخر.
والذي علينا هو ان نتقبل هذه الافتراضات الاولية، او نتعامل معها وكأنها بديهية فعلاً، وذلك ريثما يتبين لنا ما يترتب عليهما من نتائج. ولنقل اننا نعدهما اعتبارات خاصة غير مشتركة. فهي ليست اولية بالمعنى الذي يتفق عليه كل من نظر اليها، اي انها تختلف عن القضايا الاولية المشتركة مثل مبدأ السببية وعدم التناقض وغيرهما، بل هي اولية لدى اصحابها من حيث انهم سلموا بها دون ان يلزموا انفسهم بارجاعها الى قضايا معرفية اخرى سابقة عليها. وهذا يعني ان الاصول المولدة هي اصول تتصف بالبداهة الاولية لدى اصحابها، وهي من هذه الناحية تشكل اعتبارات خاصة غير مشتركة، كما هو الغالب.
وبعبارة اخرى، ان المنطق الذي يتكئ عليه (الحق الذاتي) هو البداهة في استكشاف طبيعة ما يتضمنه السلوك الحر من حسن وقبح، او حق وباطل، دون قيد وشرط. فنحن نصف الفعل والسلوك بانه حسن او قبيح بما يحمل من معان عقلية واضحة، وان القضية التي تقرر وجوب الفعل او حسنه هي قضية حقة لا تحتاج الى شروط اضافية تقيدها كتلك التي سار فيها الاتجاه العقلي الاخر، بل يكفي العقل ان يراها لذاتها من غير قيود او شروط خارجية. فلا فرق هنا بين خالق ومخلوق، ولا بين مالك ومملوك، ويظل الحق حقاً، ومنه ينشأ الفعل الحسن والعدل واللطف والواجب وغير ذلك مما له علاقة بالافعال. الامر الذي يختلف فيه الحال مع البداهة التي يعتمدها منطق حق الملكية، ذلك انه لا يستكشف معاني الحسن والقبح في الممارسات الفعلية للسلوك الحر، اذا ما كانت مجردة عن الشرط الخارجي الخاص بالملكية المطلقة. فلا يوجد هناك حق في ذاته دون اعتبارات اخرى تقيده، مما يعني انه بحسب هذا المنطق لا يمكن استكشاف ما يحمله السلوك من حق وباطل، او حسن وقبح الا عند شرط الملكية المطلقة. فكل شيء حسن هو ذلك الذي يترتب على فعل المالك المطلق، كان ما كان هذا الفعل، وبالتالي فان تقويم سلوك المملوك انما يعتمد على ما يقرره المالك، وليس في حد ذاته ما يتضمن الحق والباطل، او الحسن والقبح. فهنا ان القيم عارضة على هذا السلوك بحسب ارادة المالك، ولو أُخذ الـسلوك في حد ذاته لكان خالياً منها، بل ان القيم ذاتها ليس لها من معنى عند تجريدها عن ارادة المالك.
الحق الذاتي وعلاقة التكليف
قلنا ان فكرة الحق الذاتي تتضمن وجود حقوق وواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية. فالحقوق في طرف هي ذاتها عبارة عن واجبات في الطرف الاخر، والعكس بالعكس. وبعبارة اخرى، ان كل واجب الهي يعني في الوقت ذاته حقاً انسانياً. وبالعكس فان الواجب الانساني هو في حد ذاته حق الهي. وبالتالي اذا صدق الحق كله في طرف تعين الواجب كله في الطرف الاخر، كما انه لو انعدم احدهما في احد الطرفين لانعدم الاخر في الطرف المقابل.
وبحسب هذا المنطق هناك واجبات عقلية تُفرض على دائرة المكلِّف، وهي لا تخرج عن مضامين الحسن والقبح، دون ان يكون لها معنى تكليفي. كما ان هناك واجبات عقلية اخرى تُفرض على دائرة المكلَّف، حيث يمتزج فيها الامران: التكليف والحسن والقبح. ولكل من هذين النوعين للواجبات العقلية مسائل عديدة متفرعة. ويمكن تصور الواجبات الالهية بانها ذات رسغ نازل، حيث تستقطب جميع القضايا التي يراد تنزيلها لتصحيح العملية التكليفية حسب التخطيط الالهي، فطالما ان الله اختار التكليف منهجاً للحياة؛ فان ذلك يستلزم خطوات معيارية تصحح العملية التكليفية وتجعلها سائرة في الطريق المرسوم. وفي القبال يمكن تصور الواجبات الانسانية بانها ذات رسغ صاعد، حيث تستقطب جميع التكاليف التي يراد بها ارضاء المكلِّف وتوفية الحق الخاص به على المكلَّف. وبتكامل عمليتي النزول والصعود تتحقق ظاهرة التكليف بما يضمن لها ان تكون قائمة على مبدأ الحق الذاتي، كالذي يتوضح كالاتي:
1ـ واجبات المكلِّف
يمكن تحديد هذه الواجبات بحسب الفقرات التالية:
اولاً:
اول ما يتبادر لنا من سؤال هو كيف تتأسس الواجبات العقلية وفقاً لمنطق الحق الذاتي؟
نعلم ان صياغة نظرية التكليف قد تمت ضمن الشروط العقلية، وان هذه الشروط بعضها يصدق على المكلِّف، والاخر على المكلَّف، وانه من الناحية المنطقية لابد ان تكون الشروط الخاصة بالمكلِّف سابقة على تلك التي تخص المكلَّف، بل وان هذه الاخيرة متوقفة من الناحية الوجودية على الاولى، فلولا الاولى ما كانت الاخيرة. واول الشروط والواجبات العقلية التي ينبغي حصولها في دائرة المكلِّف هو >العدل<، فبدون هذه القيمة لا تتصحح العلاقة التكليفية. بل يمكن ان يقال ان العدل هو اساس سائر الواجبات العقلية الخاصة بالمكلِّف، فمن حيث عدله ينشأ عدد من القواعد الحقوقية التي يراعى فيها طبيعة ما عليه التكليف، مثل الاعلام والتمكين والإقدار والثواب والعقاب وغير ذلك. بل وفقاً لمبدأ الحق الذاتي، وفي حدود دائرة المكلِّف، ان العلاقة التكليفية لما كانت لا تصح ما لم تكن محكومة بقاعدة العدل الالهي، فان ذلك يجعل من هذا الحق عين العدل.
ويُقصد بعدل الله حسب هذا المنطق هو ان الله لا يفعل القبيح ولا يخل بما يجب عليه (1). فالعدل بهذا اصل لا يتقوم بغيره، وهو كالتوحيد في اصالته، والعلاقة بينهما وإن كانت تتضمن صفة >اللزوم<، الا ان هذا اللزوم ليس من النوع التكويني او الذاتي، بل هو من نوع اخر نطلق عليه (اللزوم المعياري). حيث ان احدهما لا يستتبع الاخر على نحو الطبع والتكوين، بل يستتبعه وفقاً لما عليه (القيم)، وهو ان ضمان حفظ العدل ناتج عن التوحيد لاعتبارات الغنى وعدم الحاجة رغم القدرة والمشيئة المطلقة، وبالتالي فاللزوم القائم بينهما هو لزوم معياري قيمي. وبعبارة اخرى ان التوحيد هو شرط تحقق العدل، والشرطية هنا ليست وجودية بما تعبر عن العلاقة التكوينية، وانما شرطية قيمية معيارية. وبذلك يمكن فهم ماذا تعني العلاقة بين هذين الاصلين، ولماذا اكد اصحاب منطق الحق الذاتي عليهما دون سواهما من القضايا والاصول، الامر الذي يحتاج الى شيء من البيان، كما في الفقرة التالية..
ثانياً:
يتفق اهل الاعتزال على خمس قضايا اعتقادية، هي العدل والتوحيد والوعد والوعيد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين. ورغم ان الشائع ان هذه القضايا تشكل الاصول عندهم، الا انهم يختلفون في ضوابط تحديد الاصول تبعاً لعدد من الاعتبارات التي تسفر احياناً عن نوع من الاضطراب. ومن ذلك ان القاضي عبد الجبار الهمداني، وهو ابرز رجال الاعتزال، اعتبر في كتابه (المغني في اصول الدين) ورسالته (المختصر في اصول الدين)؛ ان المنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كلها داخلة ضمن العدل، ولم يكتف بهذا بل اضاف اصلين آخرين هما النبوات والشرائع، حيث يقول: >فان قيل ما الذي يجب على المكلف معرفته من اصول الدين؟ قيل: اربعة اشياء: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع . فعلى هذه الاصول مدار امر الدين< . ثم قال: >فإن قيل: ألستم تقولون: الاصول خمسة ، وتعدون فيها: الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل له: كل ذلك يدخل في العدل< (2). مع انه في مختصر الحسني اعتبرها داخلة في باب الشرائع (3). وهو في كتابه (المحيط بالتكليف) اعتبر كل ما يعد ضمن النبوات من التكاليف الشرعية هي ضمن العدل، حيث انه اذا علم الخالق ان صلاح عباده يتعلق بامر من الامور لا تعلم بالعقل، فلابد ان يبعث اليهم من يعرفهم ذلك، فيكون من باب ازاحة العلة ويدخل في جملة العدل، وان مسائل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها تدخل ضمن الشرائع، وبالتالي فانها داخلة ضمن العدل (4).
ويمكن القول ان التأكيد على خماسية الاصول يجد تبريره تاريخياً في نشأة الاعتزال، حيث عُرفت هذه الفرقة بتلك الاصول تمييزاً لها عن غيرها. أما من الناحية المنطقية فان هذه الاصول تفتقر الى التبرير، وذلك لان من تلك الاصول - كالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين - ما يعتمد على النبوة لانها سماعية باعتراف اصحاب المذهب، ولهذا تصبح النبوة اولى بالانضام ضمن الاصول مما يتفرع عنها. كما ان موقف المعتزلة من مسألة النبوات والشرائع يسوده الاضطراب، فتارة هي معدودة ضمن الاصول، واخرى انها ليست كذلك.
وقد كانت هذه النقطة محطة نظر الشريف المرتضى - وهو من الامامية الاثنا عشرية - في نقده لغيره من اصحاب الاعتزال، حيث ذكر يقول: >إن الذي سطره المتكلمون في عدد اصول الدين انها خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يذكروا النبوة. فاذا قيل: كيف اخللتم بها؟ قالوا هي داخلة في ابواب العدل من حيث كانت لطفاً ، كدخول الالطاف والاعواض وما يجري مجرى ذلك. فقيل لهم: فالوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ايضاً من باب الالطاف، ويدخل في باب العدل كدخول النبوة، ثم ذكرتم هذه الاصول مفصلة، ولم تكتفوا بدخولها في جملة ابواب العدل مجملة ، وحيث فصلتم المجمل ولم تكتفوا بالاجمال فألا فعلتم ذلك بالنبوة؟ وهذا سؤال رابع، وبها اقتصر بعض المتأخرين على ان اصول الدين اثنان التوحيد والعدل، وجعل باقي الاصول المذكورة داخلاً في ابواب العدل . فمن اراد الاجمال اقتصر على الاصلين التوحيد والعدل ، فالنبوة والامامة، التي هي واجبة عندنا ومن كبار الاصول، هما داخلتان في ابواب العدل . ومن أراد التفصيل والشرح وجب أن يضيف الى ما ذكروه من الاصول الخمسة اصلين: النبوة والامامة، والا كان مخلاً ببعض الاصول ، وهذا بين لمن تأمله<(5).
لكن هذا المفكر الامامي لم يعط ضابطاً في معالجته للموضوع. فمع ما لاحظنا قبل قليل من انه افترض الاصول سبعة - حيث اضاف النبوة والامامة الى اصول الاعتزال الخمسة - نجده في رسالة (جمل العلم والعمل) يشير الى اعتبار الاصول تتمثل بمختلف المعارف الالهية والالطاف (6).
ومع ذلك فالمتفق بين اصحاب هذا الاتجاه هو اعتبار العدل والتوحيد اصلين اساسيين؛ هما اللذان قيل عنهما بأنهما مقتبسان من كلمات الامام علي (ع) وخطبه (7).
فالثابت لدى المعتزلة هو ان معرفة العدل والتوحيد لا تصح الا بالعقل ، بينما تعرف بقية الاصول الاخرى بالسمع ، وإن كان الوعد والوعيد يمكن معرفته بالعقل ايضاً. وبهذا يصبح العدل والتوحيد هما اساس بقية المعارف الاخرى من الاصول.
وكذا الحال يجري مع اصول الامامية الخمسة ، حيث ان النبوة والامامة والمعاد تتفرع عن العدل كما اشار اليه الشريف المرتضى، وبالتالي فان الاصول الاساسية لدى اصحاب منطق الحق الذاتي لا تتعدى العدل والتوحيد، لهذا وُصفوا باهل التوحيد تارة، وباهل العدل تارة اخرى، وذلك كصفة تميزهم عن غيرهم. وما يهمنا من ذلك هو ان نتعرف عن مستلزمات كل من التوحيد والعدل بما له علاقة بمنطق الحق الذاتي ونظرية التكليف، وذلك عبر الفقرة التالية..
ثالثاً:
مثلما للتوحيد مستلزمات، فكذا بخصوص العدل. فمن حيث التوحيد نفى المعتزلة الصفات المستقلة واعتبروها عين الذات الالهية. وهذا يعني انه ليس لله شبيه ولا مثيل، الامر الذي يدل عندهم على قمة التوحيد، حيث ردوا الصفات الى صفتي العلم والقدرة، وهما صفتان ذاتيتان. واول من قال بذلك هو ابو الهذيل العلاف، حيث عد علمه وحياته وقدرته نفس ذاته، معتبراً انه عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته، وحي بحياة وحياته ذاته، وبرأي الشهرستاني ان العلاف قد اقتبس ذلك عن الفلاسفة الذين قالوا ان ذاته واحدة لا كثرة فيها ابداً. ومن مترتبات التوحيد عند المعتزلة نفي التشبيه بجميع الوجوه، حيث انهم نفوا الجسمية والصفات الزائدة والحدوث والانتقال والتحيز، وكذا انهم نفوا امكان رؤيته بالابصار باعتباره ليس جسماً، وكل ما يقبل الرؤية هو جسم بالضرورة، ولأن الرؤية تستلزم الجهة ولا جهة فيه. والغرض من هذه الاراء هو نفي التشبيه عن الله من كل وجه، جهة ومكاناً وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً. واوجب المعتزلة تأويل الايات المتشابهة في هذه الوجوه وسموا هذا النمط توحيداً (8). والمهم في الامر هو ان المعتزلة قد نفوا الصفات الزائدة باعتبارها تفضي برأيهم الى التشبيه والشرك، مثلما نفوا ان يكون كلامه من صفاته القديمة وذلك كي لا يترتب على ذلك الشرك بوجود قديمين (9). وهذا النفي للصفات الزائدة جعلهم يقولون بنظرية الحال، دفاعاً عن التوحيد ونفي التشبيه باي شكل من الاشكال.
اذن ان التوحيد اصل تترتب عليه الكثير من المسائل، والاهم من ذلك انه لا يمكن الحديث عن العدل ما لم يسبقه التوحيد. لذا اعتقد القاضي الهمداني ان اول العلوم الملزم بها على المكلف هو علم التوحيد، وان العدل قائم عليه، اي انه لا يمكن الحديث عن العدل ما لم يسبقه الحديث عن التوحيد، وذلك انه يتم الاستدلال على العدل بكونه عالماً وغنياً، وكل ذلك يعود الى التوحيد، وعليه لابد من تقدم علم التوحيد ليبنى عليه العدل، لكن العلم بالتوحيد لا يتم الا بالعلم بحدوث الاجسام وكذلك صفاته (10).
وعموماً انه اذا كانت قضايا التوحيد تختص غالباً بالعلاقة مع الصفات الالهية، فان العدل في القبال يشمل جميع القضايا الاخرى التي لها علاقة بالخلق؛ وعلى رأسها مسألة التكليف. وبالتالي فانه بحسب هذه المسألة لابد ان تتحدد العديد من القضايا الفعلية التي تفرض نفسها على المكلِّف فيما يجب فعله لتصحيح عملية التكليف طبقاً للاصل المتمثل بالعدل، وهو الاصل الذي بدونه تفقد المسألة الدينية معناها وجدواها. والامر قد ينسحب على عملية الخلق ذاتها، اي على العلاقة التي تربط الخالق بالانسان وحكمة وجود هذا الاخير وما يراد من خلقه وايجاده. لذلك فكما سنعرف ان اصحاب منطق الحق الذاتي وإن كان ما يهمهم بالفعل هو تصحيح العملية التكليفية، ومن ثم تأسيس المسألة الدينية خارجياً وداخلياً، الا ان الامر قد شمل تصحيحهم لعملية خلق الانسان تبعاً لتلك الصورة من الهدف التكليفي، وذلك اعتماداً على اصل العدل دون سواه من الاصول. ولهذا الاصل تفريعات كثيرة كتلك التي تجمعها قاعدة اللطف، حيث عليها معول معرفة الواجبات، كالذي سنبحثه في الفقرة التالية..
رابعاً:
تعتمد نظرية اللطف والصلاح على قاعدة العدل، مثلما تتفرع عنها قواعد ومسائل عديدة، ابرزها مسألة النبوة وما يترتب عليها من عصمة وامامة كما لدى بعض الفرق الاسلامية، وذلك من حيث اعتبار النبوة، وكذا الامامة، نوعاً من اللطف، واللطف واجب، فالنبوة واجبة بالتبع.
ويُقصد باللطف انه >عبارة عما يدعو الى فعل الواجب ويصرف عن القبيح< (11). وقد يسمى توفيقاً او عصمة ، حيث اذا كان داعياً لغرض فعل الطاعة سمي توفيقاً ، واذا كان يدعو الى غرض اجتناب القبيح سمي عصمة (12). وواضح ان اللطف بهذا المعنى له غرض في التكليف؛ لانه يؤدي الى تقوية الداعي لفعل الواجب والصرف عن القبيح . وهذا التحديد ينسجم مع ما عمد اليه اغلب الاتجاه السابق بحصر الواجب في اللطف بما يكون بعد جعل التكليف. ففي حدود هذا الشرط يجب على المكلِّف ان يلتزم به كالتزامه بالتمكين والثواب، وذلك بان يفعله لكل من يعلم انه لا يختار الطاعة الا به . أما ما كان قبل التكليف او مقارناً له فهو غير واجب رغم انه يفعله من باب التفضل والاحسان (13).
وقد حدد القاضي الهمداني انواع المعرفة التي يجب على المكلف تحصيلها، فهي عبارة عن ثلاث: احدها العلم بالافعال المكلف بها، وثانيها العلم بالمكلِّف وصفاته وحكمته، اما ثالثها فهو العلم بما نستحقه بهذه الافعال من منافع ومضار. وعنده ان العلم بالمكلِّف وصفاته وحكمته انما وجب لوجوب العلم الثالث، حيث يتعذر تحصيل هذا الاخير ما لم يتم العلم الثاني المشار اليه. وان العلم الثالث انما يصير لطفاً في فعل الواجب وتجنب القبيح، واللطف متى كان من فعل المكلَّف جرى مجرى دفع الضرر عن النفس، فيلزم تحصيله لنفسه، حيث ان العلم باستحقاق الثواب على الفعل الواجب يدعو الى فعله، وكذا ان العلم باستحقاق العقاب على الفعل القبيح يدعو الى تركه وتجنبه، وكل ذلك لا يتم الا بمعرفة الله (14)، وبالتالي كانت هذه المعرفة لطفاً لانها تبعث على فعل ذلك الواجب وتدعو الى ترك القبيح. فالمعرفة بالله لها غرض في التكليف من الفعل والاجتناب. وبالتالي يتضح ان نظرية اللطف كما انها تنطبق بما يجب على المكلِّف، فانها تنطبق كذلك عما يجب على المكلَّف، وهي في جميع الاحوال مستمدة من فكرة الحق الذاتي.
ومن ابرز الالطاف الواجبة على المكلِّف هي تلك الشروط التي تصحح عملية التكليف، مثل الاعلام والتمكين والإقدار والثواب والعقاب، كالذي سنعالجه في الفقرة التالية..
خامساً:
على رأس شروط التكليف التي هي من حق المكلَّف على المكلِّف شرط الاعلام. ذلك انه ما لم يتحقق الاعلام لم يكن هناك لطف او عدل، حيث لابد ان يعلم المكلَّف ما يكلف به. والاعلام على رأي القاضي الهمداني قد يكون بخلق العلم تارة، وهو ان يفعل الله العلم في المكَّلف ليعرف تكليفه، وهو الذي يطلق عليه العلم الضروري. كما قد يكون الاعلام تارة اخرى بنصب الدلالة، ليستدل بها المكلَّف ليعلم تكليفه. وفي كلا الحالين يجب على المكلِّف ان يهيء للمكلَّف التمكين من المعرفة التي تخص التكليف. ويعد العلم الضروري مقدماً على التكليف، ويجري مجرى التمكين والاقدار واللطف، حيث لا يتم التكليف الا بهذه الامور جميعاً، فالعلم الضروري لا بد منه لتنشأ عليه سائر العلوم المكتسبة التي عليها يتأسس التكليف. فهناك نوعان من المعرفة يجب ان يتقدما التكليف، احدهما ما يكمل به العقل، اما الثاني فيتحدد باصول الادلة، وهي علوم ضرورية غالباً ما لا ينفك عنها كمال العقل. والقول بضرورة هذه الاصول يعود الى انه لو لم تكن هكذا للزم ان يحتاج كل دليل الى دليل اخر، مما يؤدي الى ما لا نهاية له من الادلة، وهو باطل ومنفي (15).
واذا كان تمكين الاعلام مما لا غنى عنه في التكليف، وهو من الالطاف والعدل، فان تمكين الإقدار هو ايضاً مما لا غنى عنه، حيث بدونه يصبح المكلَّف مجبراً لا يقوى على التكليف، وهو ما يتنافى مع مبادئ التكليف من اللطف والعدل. وهنا تتصحح مسألة القضاء والقدر لدى اصحاب هذا المنطق، وذلك بنفي كل من الالجاء والجبر في العملية التكليفية، وان للانسان قدرة مخلوقة من قبل الله تعالى، لكنها لا تبعث على الالجاء في الفعل، بل الانسان حر في ارادته واختياره ليتصحح من خلال ذلك التكليف وما يترتب عليه من الجزاء في الثواب والعقاب، وبدون هذا لا يصح التكليف ولا الامر والنهي ولبطلت الرسالات والجزاء من الثواب والعقاب، ولانتفت حجة الله على العباد. ولدى الشريف المرتضى انه لا يصح ان تكون افعال العباد مخلوقة من قبل الله تعالى والا لما صح الذم والمدح ولانتفى غرض التكليف، بل لما صح ان يكون هناك امر ونهي، مثل اوامره بالطاعة والايمان والعبادة وعمل الخير وما اليها، اذ لو كان العباد مجبرين لما صح ان يخاطبوا بالامر والنهي. وهو يؤكد ان العباد وان لم يكونوا مجبرين على افعالهم الا ان هذه الافعال غير مفوضة اليهم باطلاق، ذلك انهم ليسوا مستقلين بانفسهم، اذ لو ان الله لم يقدرهم ويمكنهم بالالات وغيرها لما تمكنوا من تلك الافعال(16). وبحسب القاضي الهمداني ان هذه القضية اساسية بحيث بدونها لا يمكن الاستدلال على وجود الله او الصانع. فقد رفض جواز الاستدلال بالسمع حول مسألة خلق افعال الانسان، وذلك كرد على الاشاعرة، معتقداً ان صحة السمع تبنى على كون الله حكيماً عادلاً لا يفعل القبيح، كما ان اثباته تعالى يعتمد على اثبات الشاهد محدثاً حتى يصح قياس الله عليه، ومن انكر إحداث العباد لافعالهم فقد منع في رأيه الاستدلال على الصانع (17).
مع هذا فان اصحاب هذا الاتجاه لم يقفوا على حقيقة ما تتضمنه القضية الاخيرة، سواء من حيث ما تؤكده النصوص القرآنية من معاني متعارضة لكن بعضها يكمل البعض الاخر، او من حيث ما يبديه الواقع من حقائق تبدي التكامل الحاصل بين الجبر والتفويض، او حتى من حيث ما تبديه بعض نصوص الحديث التي يستشهد بها البعض بطريقة غير صحيحة، ومن ذلك قول الامام الصادق: >لا جبر ولا تفويض بل امر بين امرين<. وهو امر يحتاج الى معالجة مفصلة خارج هذا البحث.
2ـ واجبات المكلَّف
وفقاً لمنطق الحق الذاتي، انه اذا كانت الواجبات العقلية الالهية تتأسس على قاعدة العدل، كالذي سبق ان بحثناه، فان الواجبات العقلية الانسانية لها منشأ اخر للتأسيس. حيث بحسب هذا المنطق ان من يضع اصول العلاقة التكليفية عليه جملة من الواجبات التي لها طابع (الفعل الموضوعي) كحق للمكلَّف على المكلِّف، وهي تتأطر بقاعدة العدل، لكن لابد ان تكون هناك في المقابل حقوق للمكلِّف على المكلَّف، تتحول الى واجبات عقلية يلزم على المكلَّف الاتيان بها. ومثلما ان الواجبات الخاصة بالمكلِّف قائمة على العدل فان الواجبات الخاصة بالمكلَّف تتأسس على قاعدة اولية لا تحمل طابع الفعل الموضوعي الذي عليه قاعدة العدل، بل صفتها انها ذات اعتبارات فعلية ذهنية غرضها الكشف عن سائر التكاليف والواجبات الاخرى؛ بما في ذلك الواجبات الدينية. فحقوق المكلِّف على المكلَّف تتفرع الى نوعين، احدهما حقوق عقلية، واخرى دينية (شرعية) تقتضيها العلاقة التكليفية، وذلك لان دائرة العقل تظل مجملة لا يسعها التفصيل لكافة الواجبات والحقوق، فكان لابد من ان تتبعها الواجبات والحقوق الدينية. وكلها تعتمد على القاعدة الاولية ذات الاعتبارات الذهنية، وهي معدة من الالطاف باعتبارها تدعو الى سائر الواجبات الاخرى، حيث بدونها لا يتحقق الكشف عن هذه الواجبات، فهي بالتالي اول الواجبات والحقوق العقلية، لكن صفتها هي انها ليست مطلوبة لذاتها، بل لغيرها من الواجبات والتكاليف.
ومع ان هناك خلافاً حول طبيعة ما يكون عليه اول الواجبات العقلية لدى اصحاب منطق الحق الذاتي، الا ان اغلبهم ذهب الى كونه يتمثل بالنظر، كالذي التزم به القاضي الهمداني مع جملة من علماء الامامية كابن النوبختي والشريف المرتضى والشيخ الطوسي والزيدية وغيرهم (18). والسبب الذي دعا هؤلاء الى اعتبار النظر اول الواجبات هو انه يمثل الاحتمال الوحيد المعقول، حيث سائر الاحتمالات الاخرى كلها لا تستحق ان تكون جديرة بالاولوية، كما جاء عن القاضي الهمداني الذي نفى مختلف الاحتمالات الواردة حول الموضوع. فهو يعتبر انه لا يصح ان يكون ترك القبح والظلم هو اول الواجبات، وذلك باعتبار ان الترك امر سلبي لا يمثل فعلاً، كما لا يصح ان يكون العلم بالله تعالى هو الاول وذلك لانه متأخر في عملية حصول النظر، كما ان اول الواجبات لا يتمثل بالقصد الى النظر واختياره كالذي ذهب اليه الباقلاني، وذلك باعتبار ان القصد يقع تبعاً للمقصود اليه ولا يكون له بنفسه حكم، فكيف يجعل اول الواجبات؟ كما انه ليس هو الخوف الذي ينتاب الانسان من عملية تركه للنظر، وذلك باعتبار ان الخوف من شرائط التكليف، كما انه من الغرائز المضطر اليها الانسان، لذا لا يكون واجباً على المكلف (19). وايضاً فانه لا يتمثل بالشك وذلك باعتباره ليس مقصوداً في حد ذاته، كما ان الشك ليس من الضروري ان يكون باعثاً للنظر دائماً. واخيراً فان اول الواجبات لا يصح ان يتمثل بشكر المنعم على نعمه، وذلك باعتباره متأخراً عن معرفة الله تعالى وصفاته وعدله وحكمته (20).
و قد اعتبر الهمداني ان من علامات الواجب الاول هو ان لا يسبقه امر اخر يؤدي اليه ضرورة، لكنه مع ذلك اعترف بان هناك شروطاً للتكليف سابقة عليه، ككمال العقل والخوف والخاطر وما شابه ذلك. وهذا يدل على ان للواجب الاول بعض الامتيازات التي تجعله يختلف عن شروط التكليف وعن بقية التكاليف الاخرى.
وبالفعل فان الواجب الاول عند هذا القاضي يتصف بانه مقصود اليه بالارادة والاختيار، وهو ما يميزه عن شروط التكليف التي لا تقبل القصد والارادة، وصفته انه غير مراد لذاته، وانما يراد به الى واجب اخر اولى منه (21). وعليه فقد حدد الواجب الاول بالنظر المؤدي الى معرفة الله تعالى (22). ومنه تثبت المسألة الدينية ويتم تأسيسها (23).
هكذا ان ما يسعى اليه منطق الحق الذاتي، في كشفه عن الواجبات العقلية على مستوى المكلِّف والمكلَّف، هو تأسيس الخطاب الديني من الخارج. اذ يجعل من علاقة التكليف محكومة بتلك الواجبات والحقوق التي بدونها ينتفي تبرير حجية هذا الخطاب. ذلك انه بالواجبات الالهية القائمة على العدل والالطاف يمكن تبرير حجية الخطاب، او تكريس ثبوته، مما يستدعي اثباته عبر ما يفرض من الواجبات الملقاة على المكلَّف، فالاثبات لا يكون من غير ثبوت. اي انك اذا اردت ان تثبت شيئاً فانه لا يسعك ذلك ما لم يكن هذا الشيء ثابتاً او موجوداً لكي تثبته، وما ليس بثابت لا يقبل الاثبات.
لكن يظل هذا الامر جارياً من الناحية الموضوعية او المنطقية، اما من الناحية الذاتية الخاصة بكشفنا فالامر ينعكس، حيث يصبح الاثبات سابقاً للثبوت، وذلك مثل سبق صورة الشيء في ذاتنا مقارنة بالشيء الموضوعي لها، حيث لا يمكن معرفة الجانب الموضوعي للشيء ما لم يدرك سلفاً، فيكون الاحساس به سابقاً لوجوده من الناحية الذاتية، فنحن نتحسس بالشيء كصورة في ذهننا اولاً قبل ان نعلم حقيقة ما هو عليه إن كان موجوداً خارج الذهن ام غير موجود، واحساسنا بالصورة هو احساس مباشر حضوري، في حين ان علمنا بوجود الشيء موضوعاً هو علم كسبي غير مباشر. أما من الناحية الموضوعية فغير ذلك، اذ لابد ان يكون الشيء الخارجي سابقاً لصورته التي ندركها، حيث لا يمكن ان ندرك صورة شيء موجود الا ويفترض وجوده سلفاً. ولو عبرنا عن تلك العلاقة بالعلاقة الفلسفية بين الماهية والوجود، حيث للماهية بعدها الذاتي بخلاف ما للوجود من بعد موضوعي، فان الامر سيتخذ تقدم الماهية على وجودها بحسب الاعتبار الذاتي، وبالعكس يتقدم الوجود على ماهيته من حيث الاعتبار الموضوعي.
اذن ان من بين الاغراض الهامة وراء الواجبات العقلية للمكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، اثبات المسألة الالهية وما يترتب عليها من مسائل اخرى لها علاقة باثبات حجية النص الديني او تأسيس الخطاب من الخارج. وعليه لكي تتأسس المسألة الدينية لابد ان تتخذ علاقة الواجبات بين المكلِّف والمكلَّف صورة الثبوت والاثبات. فاذا كان من مهمة المكلَّف اثبات المسألة الدينية، فان من مهمة المكلِّف ان يقوم بدوره في جعل هذه المسألة ثابتة كي يتم اثباتها، وبذلك فان الواجب الملقى على عاتق المكلِّف هو جعل المسألة الدينية ثابتة بفعل ما عليه من واجبات الالطاف تبعاً لقاعدة العدل، كالذي مر معنا. ومن الناحية الموضوعية او المنطقية - كما عرفنا - ان الواجب الملقى على عاتق المكلِّف سابق على الواجب الملقى على عاتق المكلَّف، وان كل ما يقوم به هذا الاخير كبداية هو اثبات ما قام به الاول من فعل. وبذلك تكون العلاقة بينهما على هذا النحو من واجبات الثبوت والاثبات. فمن حيث واجبات المكلِّف، هو القيام بالعدل وان لا يفعل القبيح وان يجري الجزاء تبعاً للحق الذاتي. اما من حيث واجبات المكلَّف فهو اتخاذ النظر وما يترتب عليه من لوازم بما في ذلك اثبات المسألة الدينية وما يستلزمها من الطاعة التكليفية. وحتى الجزاء فهو يُعد بالنسبة للمكلِّف واجباً ثبوتياً، بينما يُعد عند المكلَّف واجباً اثباتياً.
وما ننتهي اليه هو ان لمنطق الحق الذاتي تشريعاً يوازي التشريع الديني، بل لولا الاول ما كان الثاني، وذلك باعتبار ان تأسيس الخطاب من الخارج مدين الى التشريع العقلي. لكن ما يترتب على هذا الامر هو ان هذا التشريع يعمل على تأسيس الخطاب من الداخل ايضاً. وبهذا يمكن تصور حالة المنازعة بين التشريعين، طالما ان لكل من الخطاب الديني وذلك المنطق اعتباراتهما المستقلة في التشريع. بل من ضمن اعتبارات الدائرة العقلية عموماً هو ان يكون العقل قيماً على التشريع الديني، ولها في ذلك بعض المبررات ابرزها الاعتماد على الوثاقة العقلية في عملية التأسيس الاول للخطاب. حيث طالما ان العقل مقبول في هذا التأسيس فلماذا لا يُقبل في التأسيس الاخر للخطاب؟! وهذا ما اثار حفيظة الدائرة البيانية التي قلبت القضية رأساً على عقب، وهو انه لا اهمية للتشريع العقلي إن لم يلاقِ موافقة من التشريع الديني، مما يعني ان القيمومة لهذا الاخير لا الاول، وهو امر يحتاج الى معالجة خارج نطاق هذا البحث.
حق الملكية وعلاقة التكليف
عرفنا انه بحسب اعتبارات الحق الذاتي هناك تكافؤ في الحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية، فحيث هناك واجبات الهية، ففي قبالها توجد حقوق انسانية، والعكس بالعكس. اما فيما يخص اعتبارات حق الملكية فالامر يختلف، فحيث ان هناك انفراداً في الملك فان هناك واجباً في الطرف المقابل؛ بقدر ما للملكية من سلطة وحقوق من غير عكس. اذ تتحدد الحقوق في طرف، والواجبات في طرف اخر. لذلك سنتحدث عن الحقوق الالهية، وفي قبالها الواجبات الانسانية، طالما انه ليس هناك ما يطلق عليه واجبات الهية وحقوق انسانية كالذي رأيناه في منطق الحق الذاتي.
اذا كان منطق حق الملكية قائماً على التفرد المطلق للاله، فان من الطبيعي ان تشكل نظرية السلطنة الالهية محور الارتكاز الذي تدور عليه رحا هذا المنطق، حيث يصبح للاله مطلق الحق والمشيئة فيما يفعل ويريد دون قيد وشرط، وذلك على خلاف ما رأيناه في تفكير منطق الحق الذاتي. وهنا يلاحظ نوع من التعاكس فيما يخص القيود والشروط بين الاتجاهين. ذلك انه اذا كان منطق الحق الذاتي يقوم على منع الشروط والقيود الخارجية التي تبرر فكرة الحق وما يترتب على ذلك من واجبات، فان نتائج هذه العملية مقيدة بحسب ما عليه من الشروط والقيود الخارجية، حيث الحق والواجبات التي تلوح المكلِّف هي غيرها تلك التي تلوح المكلَّف، وان كلاً منهما يتعين عليه من الحقوق والواجبات بحسب ما تفرضه شروط نظرية التكليف، وذلك اشبه ما تكون عليه صيغة التعاقد بين طرفين، كالذي سبق ان مر معنا. لكن اتجاه السير في منطق حق الملكية هو اتجاه معاكس، ذلك ان الحق مشروط ومقيد بالملكية، فهو على هذا ليس له صفة ذاتية اطلاقية كالذي رأيناه عند منطق الحق الذاتي، ومع هذا فان نتائج هذا الحق المشروط هي نتائج غير مشروطة اومقيدة، وذلك على العكس مما سار عليه الاتجاه الاول. اذ تتجه العملية مع (حق الملكية) باتجاه واحد اطلاقي ليس فيه نمط التعاقد ولا صيغ الشروط والقيود، فكل ما تحكم به السلطنة الالهية يعد من الحق. وهذا يعني ان تحديد (الحق) رغم انه تحديد مقيد في الاصل، الا ان نتائج هذا التحديد هي نتائج تتعالى على التقييد والاشراط. ونفس الامر يمكن قوله بخصوص موقف هذا الاتجاه من النزعة العقلية في المجال المعياري، ذلك ان العقل في هذا الاتجاه هو اساس تبرير فكرة قيد الملكية لمنطق الحق، لكن هذا الاساس سرعان ما يختفي ليترك الساحة لغيره، او انه يشهد على عدم صلاحيته في تحديد اي شيء عملي، بل يعمل على ابطال نفسه بنفسه. وهو امر مفهوم تماماً، اذ لو لم يفعل ذلك لوقع في التناقض الصريح، طالما انه قام بتبرير وضع سلطة اخرى لها صلاحية مطلقة لتحديد الامور، وعليه فاي مزاحمة منه لهذه السلطة يعد من التناقض. ولا شك ان هذا الامر يختلف فيه الحال مع منطق الحق الذاتي، فطالما كان الحق ذاتياً غير مشروط فان العقل يكون ايضاً ذاتياً غير مشروط.
على ذلك ليس هناك ما يمكن تطبيقه تبعاً لقاعدة قياس الشاهد على الغائب، او لنقل ان الادلة العقلية التي تبررها هذه القاعدة غير مقبولة، وذلك باعتبارها تتعارض مع المنطق السابق. بل يمكن القول ان العقل العملي او القيمي لدى هذا المنطق يعتمد على اعتبارات غير تلك التي يعتمدها العقل النظري الاستدلالي، فاذا كان العقل النظري الاستدلالي تقبل نتائجه، وهو في ذلك لا يختلف عن ذلك العقل الذي يعتمد عليه اصحاب منطق الحق الذاتي، فان الحال مع العقل العملي امر مختلف، طالما ان مبدأ حق الملكية لا يدع له المجال في الحكم والاستدلال، مثلما لا يدع المجال للاعتماد على قاعدة قياس الشاهد على الغائب، فكل قياس يوقع ذلك المنطق في التناقض، وكل عقل يقام يفضي الى نفي ذاته، وبالتالي فمن حيث المرجعية يكون العقل العملي هو غير العقل النظري لدى هذا المنطق.
وبعبارة اخرى انه اذا كان العقلان النظري والعملي لدى منطق الحق الذاتي يسيران معاً باتجاه واحد من التوازي، وانهما مقبولان في هذا السير، وان قاعدة قياس الشاهد على الغائب تتخذ مبررها من العقل في كلا الحالين، فان الامر مع منطق حق الملكية يختلف، حيث ان الاتجاه الذي يسير فيه العقل النظري ليس نفس الاتجاه الذي يسير فيه العقل العملي، فالاول مقبول في نتائجه، اما الاخر فهو غير ذلك، لانه يطعن في اصل الفكرة التي بنى العقل عليها منطقه، وهو حق المكلية، فالعقل بحسب هذا المنطق قد وضع مبدأ تخليه عن الميدان بمجرد تلك الفكرة، وذهب دون رجعة.
ويمكن القول ان الفهم الذي يقيمه منطق الحق الذاتي للحقوق والواجبات بين طرفي العلاقة التكليفية هو فهم قائم على العرف العقلائي الانساني بما يتضمنه من علاقة بين السيد وعبده. وليس الامر كذلك مع الفهم المبتنى بحسب منطق حق الملكية، حيث ان الحقوق والواجبات لدى هذا المنطق لا تقوم على الاعتبار السابق، وذلك لان العلاقة بين السيد وعبده لا تتضمن الملكية الحقيقية، وبالتالي لا يوجد شاهد يمكن ان تطبق عليه العلاقة التكليفية بين الخالق والمخلوق، فليس هناك غير مالك واحد حقيقي هو الله. مما يعني ان هذه النظرية غير مقتبسة عن المرتكز الذهني العقلائي، ولا مقتبسة بما يدل عليه الشاهد على الغائب، وهو خلاف ما عليه المنطق السابق.
على ان النتائج التي تترتب على فكرة حق الملكية كثيرة، ومن ابرزها ما يخص اعتبارات حسن الافعال وقبحها، فقد عرفنا ان هذه الاعتبارات لا تقوم على قاعدة قياس الشاهد على الغائب، وذلك لاختلاف طبيعة السلطة الالهية ذات الملكية المطلقة عن غيرها من السلطات الاعتبارية. وهذا يفضي الى ان تكون قضايا الحسن والقبح من الاوهام العقلية التي ننزعها على الاشياء والتي توهمنا بانها تحدد من مشيئة الله المطلقة. بهذا التفريق الذي نهجه منطق حق الملكية يتحدد مدرك حسن الافعال وقبحها ، فهذا المنطق لا يرى ذلك راجعاً الى طبيعة الفعل وصفاته واحواله كالذي عليه منطق الحق الذاتي، بل راجع الى ما حسنه الله وقبحه عبر الخطاب الديني، كما نص عليه امام الحرمين بهذه العبارة : >المعني بالحسن ما ورد الشارع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الذم بذم فاعله< (24).
بلا شك نحن نعلم ان مرد تبرير قضايا الحسن والقبح لدى اعتبارات حق الملكية يعود الى العقل، وذلك عبر فكرة الملكية المطلقة، لكن نتائج هذه العملية تفضي الى افتراض مصدر اخر يكشف عن دلالات هذه القضية لدى من له الحق المطلق، وهو المالك الحقيقي. ولا شك انه لا يمكن ان يكون هذا المصدر المشار اليه هو الخطاب الديني ما لم يتم تأسيس هذا الخطاب تأسيساً خارجياً بعيداً عن البداهة الاولية لهذا المنطق، وبغير ذلك يصدق الدور الباطل والمصادرة على المطلوب، وذلك من حيث ان الخطاب الديني هو الذي يقرر ما عليه مترتبات تلك الفكرة العقلية، في الوقت الذي يكون فيه هذا الخطاب مديناً في اثباته لهذه المترتبات، وهو دور واضح بلا شك. وعلى العموم ان الحديث عن مترتبات حق الملكية بنحو عقلي لا يقتضي بالضرورة اللجوء الى الخطاب الديني حتى يتم اثباته. وهذا الامر يختلف فيه الحال مع منطق الحق الذاتي الذي يجعل من الحق اداة العقل الذي به يتأسس الخطاب خارجاً وداخلاً. وهو امر يستوجب التفصيل في بحث مستقل.
على ان الخلاف بين منطقي الحق الذاتي وحق الملكية حول قضية الحسن والقبح يتحدد من حيث التفصيل الذي افاده اصحاب المنطق الاخير حولها. فعلى رأيهم ان هناك ثلاثة معان لتلك القضية، فقد يراد بها ملائمة الطبع ومنافرته، وكذا موافقة الغرض ومنافاته، كحسن الحلاوة وقبح المرارة، كما قد يراد بها من حيث صفة الكمال والنقص، كحسن العلم وقبح الجهل، وقد يراد بها ايضاً ما كونه موجباً للثواب والعقاب وكذا المدح والذم . ومع ان الجميع يتفق على ان المعنيين الاولين عقليان وتامان، او ان العقل يدرك صفاتهما، الا انهم يختلفون حول المعنى الثالث (25). فبحسب منطق حق الملكية ان علة الحسن والقبح لا تعود الى ذات الفعل وصفاته، وبالتالي لا يمكن ادراك هذه القضية عن طريق العقل، وذلك على خلاف منطق الحق الذاتي، حيث يرى ان علة الحسن والقبح تعود اما الى ذات الفعل، كالذي عليه البغداديون من المعتزلة ، او انها ترجع الى صفات الفعل والوجوه الاعتبارية فيه، كما هو ملاحظ لدى القاضي ومعظم البصريين من المعتزلة (26). وقد اتخذت الماتريدية موقفاً وسطاً حيث اعتبرت الحسن والقبح بحسب المعنى الثالث هما من الامور العقلية، ولكن لا يترتب عليهما تكليف ولا جزاء، بل ذلك موقوف على ورود الشرع (27). كذلك ذهب بعض الاشاعرة من المتأخرين، مثل بدر الدين الزركشي، بان الحسن والقبح ذاتيان لكن الوجوب والحرمة شرعيان، وانه لا ملازمة بينهما.
ويمكن تصوير الخلاف بين المنطقين السابقين بحدود ما جاء به الخطاب الديني من مدح وذم، او ثواب وعقاب؛ فهل كان لقبح الافعال وحسنها، او العكس هو الصحيح؟ واذا كنا نعرف ان منطق الحق الذاتي يرى ان ما جاء به الخطاب الديني هو امضاء لما يقره العقل في مثل هذه القضية، فان الامر لدى منطق حق الملكية هو العكس، وبصورة ادق انه بحسب هذا المنطق يكون ما حسنه الخطاب الديني حسناً، وما قبحه فهو قبيح. وواضح الاعتبار الذي جعله يلجأ الى هذه النتيجة، وذلك وفقاً لمبدأ حق الملكية، فطالما اقر العقل الاولي لهذا المنطق بداهة المبدأ السابق؛ فلا محالة من قبول تلك النتيجة. وتظل هناك تفريعات كثيرة من القضايا المستنتجة تحتاج الى تبيان علاقتها بذلك المبدأ، لكنا سنختار عدداً منها حسب الفقرات التالية:
اولاً:
حسب منطق حق الملكية ان من المحال ان يكون هناك شيء واجباً على المكلِّف، حيث يجوز عليه ايلام العباد بغير عوض ولا جناية ، ولا يجب عليه فعل الصلاح والاصلح ، ولا ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وله المشيئة المطلقة من غير قيد؛ فلا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين؛ وذلك لان التكليف ما هو الا تصرف في عبيده ومماليكه (28). وقد استدل الفخر الرازي على ذلك؛ بانه لما كان الحكم لا يثبت الا بالشرع ، وحيث لا حاكم عليه، فلا يجب عليه شيء اطلاقاً (29).
وقد يقال في الاعتراض على ذلك؛ انه على الرغم من ان تحديد ما يجب على المكلِّف من الفعل يعتبر تدخلاً سافراً فيما لا يجوز لنا السؤال عنه ((لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) (الانبياء 23)، الا ان من الواضح وجداناً ان هناك فرقاً بين ما يحكم به هذا المنطق من نفي الواجب عليه وبين تحديد ذلك بحدود الحكمة . فلو انه عذب المؤمنين ونعّم الكافرين لحكمة معينة؛ لما صحّ الاعتراض عليه، ولا كان في فعله شيء من القبيح . بينما لو لم تشترط الحكمة في مثل هذه المجالات - كما هي طريقة هذا المنطق - وكانت افعاله على سبيل الفوضى والعبث من غير مبرر معقول يدعوه اليه؛ فانه لا معنى لذلك غير ما يشهد عليه الوجدان من القبح والنقص.
لكن المشكلة في هذا الاعتراض انه يجعلنا نتجاوز البداهة الاولية لدى المنطق السابق. فلو سلمنا بهذه البداهة من حق الملكية فان ذلك لا يدعو الى تلك النتيجة التي يقرها الاعتراض، اي اننا لو كنا نؤمن حقاً ان امور التحسين والتقبيح والعدل والظلم رهينة حق الملكية، لما كان يمكن ان ننسب القبح والنقص الى ما يفعله المكلِّف، كان ما كان فعله. فهذا الموقف منطقي، وان كان قد جرت التصورات العقلائية للعقل البشري بان لا يحتمل ان يفعل المكلِّف غير ما يتصف به من الحكمة. فمثلاً ان الفرض القائل بجواز فعل كل شيء مهما كان، مثل ادخال المؤمنين العدول النار والكافرين الظالمين الجنة، هو فرض غير مقبول عقلاً ووجداناً لدى التصور العقلائي، وان كان مقبولاً بحسب التسلسل المنطقي لتلك البداهة الاولية. وكما يقول صاحب (مرهم العلل المعضلة) ان الظلم هو ما يتصرف في ملك الغير، والله لا يتصرف في ملك غيره، فكل ما يفعله هو عين العدل؛ كالعطاء والمنع، والنفع والضرر، والرفع والخفض، والجلب والدفع، والجمع والتفريق (30). ومن ثم ليس للعقل مجال في الحكم بالتحسين والتقبيح (31).
هكذا فبحسب منطق حق الملكية لا يمكن ان نفترض وجود غرض وراء الفعل الالهي، فكل تحديد للغرض يعني تقييداً للمشيئة والارادة المطلقين. وواضح ان نفي قيد الغرضية عن فعل المكلِّف يتسق ومنطق حق الملكية، ذلك ان المالك لما كان مستغنياً بذاته، وانه المالك المطلق الذي له حق التصرف بكل شيء فانه على ذلك لا يتقيد بغاية وغرض من الفعل الذي يقوم به.
لكن ما يلزم عن هذا المنطق هو تأويل الكثير من الايات لدفعها عما تتضمنه من وجود الغرض في الفعل الالهي. كما انه يلزم عنه فهم حكمة الله المصرح بها في كثير من الايات بمعنى يخالف غرض الفعل الالهي. وبالفعل ان اصحاب هذا المنطق حصروا الحكمة بمعنى اتقان الخلق من حيث التكوين فحسب (32)، وان كنا نجد بعضهم لم يتقيد بهذا الفهم واعترف بدور الحكمة في كلٍّ من خلق الله وامره وشرعه، كالذي عليه ابو حامد الغزالي (33)، ومثله اولئك الذين تمسكوا بمقاصد الشريعة وعلى رأسهم الامام الشاطبي.
ثانياً:
وتبعاً لنفس المنوال السابق جاء عن اصحاب هذا المنطق أن الله تعالى مريد لكل شيء ما لم يكن مستحيلاً، كالخير والشر والايمان والكفر والطاعة والعصيان ، وان ما يريده يخلقه وما لا يريده لا يخلقه ابداً (34). وقد قرروا انه على الرغم من ان الله يريد الكفر والسفه والجور، الا انه ليس بكافر ولا سفيه ولا جائر ، وذلك على غرار الحالة التي فيها يخلق الشهوة لغيره مع انه غير متصف بها . وعلى العموم ليس كل ما يخلقه لغيره ينبغي ان يتصف به (35).
ومن الادلة التي قدمها هؤلاء على هذه الارادة المطلقة، ما ذكره الشيخ ابو الحسن الاشعري بقوله: >ان الارادة اذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب ان تكون عامة في كل ما يجوز ان يراد على حقيقته ، كما اذا كان العالم من صفات الذات وجب عمومه لكل ما يجوز ان يعلم على حقيقته. وايضاً فقد دلت الدلالة على ان الله تعالى خالق كل شيء حادث ولا يجوز ان يخلق ما لا يريده . وقد قال الله تعالى: ((فعال لما يريد)). وايضاً فانه لا يجوز ان يكون في سلطان الله تعالى ما لا يريده، لانه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب احد امرين: إما اثبات سهو وغفلة او إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده . فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال ان يكون في سلطانه ما لا يريده<. ثم قال: >وايضاً فقد دلت الدلالة على ان كل المحدثات مخلوقات لله تعالى.. وايضاً فلو كان في العالم ما لا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه، ولو كان ما يكره كونه لكان ما يأبى كونه، وهذا يوجب ان المعاصي كانت شاء الله ام ابى . وهذه صفة الضعيف المقهور< (36).
كما استدل على ذلك بنصوص من الخطاب الديني، مثل قوله تعالى: ((وما تشاؤون الا ان يشاء الله))، ((ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها))، ((ولو شاء ربك ما فعلوه))، ((ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعاً))، ((ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد)) (37).
ومع ان هذه الايات لها دلالة على المعنى الذي افاده اصحاب هذا المنطق في كون ما يريده الله يفعله، لكن من الواضح ان هناك معنيين للارادة، او قل توجد ارادتان: إحداهما تكوينية لان بها يحدث كل ما يريده الله من الخير والشر طبقاً للسنن التي سنّها في الوجود، وهي تأتي بمعنى المشيئة، والاخرى ما يتعلق بها الامر او الطلب الذي يقتضي وجودها في التكليف، كإرادته الايمان والعدل والصدق والوفاء، وعدم ارادته الكفر والظلم والنفاق... الخ. وتعتمد الارادة الاخيرة على الحب والبغض، والقبول وعدم القبول. ومن الامثلة عليها ما جاء في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤسكم وارجلكم الى الكعبين وان كنتم جنباً فاطهروا وان كنتم مرضى او على سفر او جاء احد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) (المائدة 6)، حيث جاءت الارادة بالمعنى القيمي المعياري وليس بالمعنى التكويني، حيث ان الله يريد اليسر في الدين، كما يريد التطهير واتمام النعمة، بأمر انشائي وليس بالزام تكويني. وقد جاء في الحديث عن ابي الحسن (ع) انه قال: >ان لله إرادتين ومشيئتين، ارادة حتم وارادة عزم ، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء ، اوَ ما رأيت انه نهى ادم وزوجته ان يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ ان يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر ابراهيم ان يذبح اسحاق ولم يشأ ان يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالى< (38). وواضح انه في هذه الارادة لا يتحتم حدوث الشيء الذي يريده الله، وليس ذلك عجزاً منه، بل لمشيئته السابقة في جعل الحياة حرة تقبل التكليف بلا الزام وجبر حتميين. ولا شك ان الارادتين غير متناقضتين، باعتبار ان الاخيرة تعتمد على الاولى، وكلاهما يتأسس على مبدأ رضى الله.
هكذا فعلى الرغم من ان المنطق السابق قد فسر لنا الارادة الاولى، الا أنه لم يقر الارادة الثانية، واعتبر (الامر) لا يقتضيها. بل وفقاً للاتجاه السابق وما ينقل عن المشهور من قول الاشعري واصحابه هو انهم يقولون بانه تعالى يحب الكفر والفسوق والعصيان، وقيل ان الاشعري هو اول من قال ذلك. فهو عندهم محبوب كسائر المخلوقات، اذ كان ليس عندهم الا ارادة واحدة شاملة لكل مخلوق، فكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي (39). وهو قول يقرب هذا الاتجاه من نزعة النظام الوجودي.
ثالثاً:
اذا كانت الارادة الالهية، بحسب منطق حق الملكية، هي ارادة شاملة لكل شيء في الوجود، كما عرفنا، فان كل ما يحدث في هذا الوجود هو تعبير عن فعل الله المطلق، وذلك لان الفعل يتبع الارادة، وبالتالي تصدق مقولة هذا المنطق: (لا فاعل في الوجود الا الله)، وهو نفي لكل تأثير جار في الوجود سوى التأثير الالهي، كما انه نفي للفعل الانساني. وبعبارة اخرى ان هناك دلالتين لهذا الامر، احداهما انه يدل على نفي التأثير السببي بين الاشياء الوجودية، والاخر يدل على نفي الفعل البشري.
مما يعني ان تبرير السببية في هذا المنطق يعود من حيث التحليل الى البداهة الاولية لحق الملكية، اذ ما يفسر السببية هو الفعل المطلق لله، وان هذا الفعل عائد لارادته المطلقة، وان هذه الارادة تفسرها الملكية المطلقة، ومن حيث النتيجة تصبح السببية رهين هذا الاصل المولد. فكل ما يحدث في الواقع من حوادث هو بفعل التأثير الالهي دون سواه، وان ما يقال بوجود علاقة سببية بين الاشياء ما هو الا وهم وخداع، اذ لا مؤثر في الوجود غير الله، ولا سبب لحدوث الاشياء وتغيراتها سواه تعالى، وكما يقول الامام الغزالي في نصه الشهير: >الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا اثبات احدهما متضمناً لاثبات الاخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الاخر، فليس من ضرورة وجود احدهما وجود الاخر، ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الاخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل.. الخ< (40).
ونفس الشيء يمكن ان يقال ان نفي الفعل البشري يعود الى ذلك الاصل المولد، حيث ان هذا النفي هو في الوقت ذاته اثبات للفعل الالهي المطلق، وان هذا الفعل نتاج الارادة الالهية المطلقة، وان هذه الارادة تبررها الملكية المطلقة.
ولا شك انه بحسب هذا المنطق يصبح الانسان مضطراً في فعله وسلوكه دون ان تشفع له قدرته على التأثير. فالقدرة تقترن مع الفعل وكلاهما يتم خلقهما من قبل المكلِّف، فلا تأثير لشيء سوى تأثير القدرة الالهية (41). فالله بحسب هذه النظرية خالق الاسباب والمسببات والقدرة والارادة وكل شيء، ولم يبق شيء ينسب الى الانسان سوى ما اظهره الله فيه مما يطلق عليه (الاكتساب) (42). لهذه العلة اعتبر الفخر الرازي ان العبد لا يصدر عنه اي شيء قبيح، ففعله يتوقف على ما يحدثه الله فيه من الداعي، فاذا ما تحقق هذا الاخير فان الفعل يصبح واجب النفوذ (43).
هكذا يحرص اصحاب هذا المنطق على ان لا ينسبوا شيئاً من الفعل الى الانسان، فهم ينفون عنه الفاعلية وينسبون اليه الكسب، وهو امر يدل على النتيجة والاثر، اي ان الفعل لله، والاثر للانسان. لكن ما الذي يدل عليه هذا الامر؟
لا شك ان ذلك يرتبط بالبداهة الاولية في حق الملكية، فمن كان له هذا الحق كان له الفعل كله، فهو المالك وهو الفاعل، حيث ان كل ما ينسب الى غيره من الفعل يعني ان له شيئاً من الملكية بقدر ما له من الفعل والخلق، وهو خلاف الامر مع الاكتساب، ذلك ان هذا الاخير يعبر عن صفة الاثر للفعل، وليس هو من الفعل شيئاً. اذن ان اصحاب هذا المنطق في نفيهم للفعل كصفة للانسان، واثباتهم في القبال حالة الكسب له، انما يحققون هدفين في ان واحد، احدهما ان الفعل يعود للمالك المطلق دون ان يشاركه احد اخر، لذلك هم يؤكدون المقولة بأن لا فاعل سوى الله، وهو ما يتناسب مع البداهة الاولية، اما الاخر فهو ان اضفاء صفة الكسب على الانسان يصحح دوره التكليفي، من حيث انه يخضع للثواب والعقاب تبعاً لما يكسبه من الاعمال. وبذلك فان الفعل والكسب كلاهما يعملان على تثبيت صورة التكليف وفق منطق حق الملكية.
رابعاً:
من النتائج المترتبة على منطق حق الملكية الاعتقاد بجواز تكليف ما لا يطاق ، حيث استدل عليه الامام الجويني بقوله: >الدليل على جواز تكليف المحال؛ الاتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعداً حالة توجه الامر عليه، وقد اقمنا الدليل القاطع على ان القاعد غير قادر على القيام ، فاذا جاز كون القيام مأموراً به قبل القدرة عليه ، وان كان ذلك غير ممكن، فلا يبقى لاستحالة تكليف المستحيل وجه< (44).
وظاهر هذا الجواب هو انه يمنع ان تكون هناك سعة للتكليف يقتضيها الحال، فكل امر لابد ان يقتضي حالاً للمكلف يسبق الحال الذي يؤمر عليه. وواضح انه اذا لم يُفترض وجود شيء من التراخي النسبي بين الامر وامتثاله فان ذلك يفضي الى ان يكون التكليف محالاً وعبثاً لا يعقل ان يترتب عليه الجزاء من استحقاق الذم والعقاب.
ولو نظرنا الى الخطاب الديني لوجدنا ان الايات القرآنية دالة على نفي مثل ذلك التكليف، ومن ذلك قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً الا وسعها)). وان هناك نصوصاً اخرى ترفع التكليف عن حالات العسر والحرج في الدين، مثل قوله تعالى: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) (البقرة /185)، ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) (الحج/78)، ((الله لطيف بعباده)) (الشورى/19). مما يعني ان منع التكليف بالمحال هو اولى من هذا الذي نطقت به الايات السابقة. وهو امر لا يتنافى مع حالات الالجاء غير المحتم، كما اكدها الخطاب الديني، مثلما هو الحال في مواقع العقوبات المترتبة على التصرفات السلوكية المنحرفة، كقوله تعالى: ((الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)) (البقرة /15)، ((ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيرٌ لانفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين)) (العمران /178). فكل ذلك لا علاقة له بالتكليف بالمحال الذي تنتفي فيه القدرة كلياً ، حيث يصبح التكليف اسماً على غير مسمى.
والواقع ان هناك فهمين لاصحاب هذا المنطق حول عدم الطاقة والاستطاعة في التكليف. فتارة يدل المعنى عندهم على التكليف بالمحال والعجز الذاتي، كما تشهد على ذلك بعض التطبيقات، واخرى يدل المعنى على ما هو اشبه بالصرفة منه الى العجز الذاتي. وبحسب المعنى الاخير اعتبر الشيخ ابو الحسن الاشعري انه ليس المقصود من عدم الطاقة والاستطاعة هو العجز عن الفعل المكلف به، وانما بمعنى تركه والانشغال بغيره، حيث يقول: >ان قال: أليس كلف الله تعالى الكافر الايمان؟ قلنا له: نعم . فان قال: أفيستطيع الايمان؟ قيل له: لو استطاعه لآمن. فان قال: أفكلفه ما لا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على امرين: ان اردت بقولك انه لا يستطيع الايمان لعجزه عنه فلا، وان اردت انه لا يستطيعه لتركه واشتغاله بضده فنعم<. وقد تكرر هذا المعنى ايضاً عند الباقلاني في كتابه (التمهيد) (45).
هذا هو مفهوم عدم الطاقة والاستطاعة في التكليف بمعنى الصرفة. لكن هذا المعنى ليس هو الوحيد، بل هناك معنى اخر يدل على العجز الذاتي، كما تشير اليه بعض التطبيقات التي يعتقد انها كانت من الوقائع التي حدث فيها التكليف بما لا يطاق، والتي اخبر عنها الخطاب الديني، كما هو الحال مع تكليف ابي لهب بالايمان، حيث ان الله امره >بان يصدّق النبي ويؤمن به في جميع ما يخبر به، ومما اخبر به انه لا يؤمن به، فقد امره ان يصدّقه بان لا يصدّقه، وذلك جمع نقيضين< (46).
وبعبارة اخرى ان ابا لهب لو صدّق بانه لا يؤمن بالرسالة؛ لبقي في ذمته تكليف واحد فقط هو عدم الايمان ، ولو لم يصدّق بذلك لكان يعني انه مؤمن بالرسالة؛ فيظل مكلفاً بعدم التصديق . وفي هذه الحالة سوف لا تبرأ ذمته من التكليف ، اذ لو تخلص من التكليف الاول لوقع في الثاني ، وكذا العكس صحيح . ولا شك ان هذا الاستدلال يتضمن انطواء التكليف على العجز الذاتي الذى نفاه البعض من الناحية المبدئية، كما رأينا سابقاً . وهو في جميع الاحوال يتنافى مع الوجدان، اذ كيف يعقل ان يكلف الله انساناً على ان لا يؤمن بالرسالة؟! ولو صح ذلك فلا يفهم الا من الناحية الصورية، حيث تظل حقيقته معبرة عن كونه عقوبة لا غير.
ونشير اخيراً الى ما ذكره الشاطبي من ان مسألة تكليف ما لا يطاق قد منعها >اكثر العلماء من الاشعرية وغيرهم< (47). وهذا الذي نقله الشاطبي قد يكون راجعاً الى المتأخرين من الاشاعرة رغم ما فيه من تناقض مع البداهة الاولية للاصل المولد، ومن ذلك ما اعتقده الغزالي من ان تكليف الناسي والغافل هو من المحال، وكذا الساهي والمجنون والسكران (48). وان كان في محل اخر اقر بان له تعالى تكليف ما لا يطاق (49).
***
على ان هناك نقطة هامة في نقد منطق حق الملكية. فابتداءاً نعترف انه ليس بيدنا او بيد غيرنا ان نعترض على البداهة الاولية لهذا المنطق، مثلما ليس بيدنا ان نفعل نفس الشيء بخصوص الموقف من منطق الحق الذاتي. والسبب واضح باعتبار ان البداهة الاولية لكل من الطرفين هي من الامور المجردة. لكن ذلك لا يمنع الاعتراض على النتائج المترتبة على تلك البداهة.
وبصفة عامة نعلم ان الاعتراض على مقدمات القضايا الاستدلالية يفضي الى تخطئة النتائج المترتبة عليها. لكن ماذا بخصوص العكس؟ اي هل الاعتراض على النتائج يفضي الى عدم قبول المقدمات التي استلزمتها؟ خاصة ونحن نتحدث عن قضايا اللزوم بين النتائج والمقدمات. فقد عرفنا ان هناك جملة من القضايا التي تترتب على القول بمنطق حق الملكية، وان منها ما يعد من اللوازم الثابتة، من حيث ان اي صورة تغيرية لها تفضي الى التعارض مع البداهة الاولية او الاصل المولد. فمثلاً ان القول بجواز تكليف ما لا يطاق هو امر مترتب على التسليم بالبداهة الاولية لحق الملكية، لكن ذلك يعني ضرباً للشروط المنطقية لنظرية التكليف، حيث يصبح التكليف صورياً لا معنى له من حيث الحقيقة. فهو جبر تام ليس فيه ما يترتب عليه من حق الثواب والعقاب. وكذا هو الامر بخصوص نظرية الكسب في مسألة القضاء والقدر، اذ لو كان ليس للانسان سوى الاثر المعبر عنه بالكسب؛ لكان ذلك منافياً للتكليف الذي يترتب عليه الجزاء. اذ تصبح امور التكليف وما يترتب عليها صورية تلتقي تماماً مع الصورية التي رأيناها لدى النظام الوجودي في فهمه للاشكاليات الدينية.
ومن ذلك ايضاً انه لو صدقت البداهة الاولية لحق الملكية لكانت العدالة الالهية، كما نطق بها الخطاب الديني، عدالة صورية، اذ لا فرق في العدالة - مثلاً - بين ان ينعم الله المطيعين في الجنة ويعذب المسيئين في النار من جهة، وبين ان يفعل العكس بهم من جهة اخرى. مع ان العدالة التي يتحدث عنها الخطاب الديني هي غير العدالة التي حددها هذا المنطق، وهو واضح مما جاء في النصوص القرآنية التالية: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وان كان مثقال حبة من خردل اتينا وكفى بنا حاسبين)) (الانبياء/47)، ((تلك ايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين)) (ال عمران/108)، ((ذلك بما قدمت ايديكم وان الله ليس بظلام للعبيد)) (الانفال/51)، ((فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون الا ما كنتم تعملون)) (يس/54)، ((وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون)) (البقرة/272)، ((واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون)) (الزمر/69).
فهذه النصوص دالة على ان الله لم يرد ظلماً للعباد، اذ لو اراد ذلك لما استحال عليه، حيث الارادة هي للممكن الذي يقبل الوجهين، وهو ما يتنافى مع الصورية التي تترتب على البداهة الاولية لحق الملكية.
ونشير هنا الى ان قاعدة العدل وفق هذا المنطق تلزم لزوماً ذاتياً وتكوينياً عن التوحيد، وهي ليست كتلك التي رأيناها في منطق الحق الذاتي، والتي تلزم عن التوحيد لزوماً معيارياً بعيداً عن الذاتية والتكوين. وبالتالي فالتوحيد في منطق حق الملكية هو اصل لا يجاريه اصل اخر، والعدل مشتق منه، بل ليس لهذا الاصل تحديد معين سوى كونه نتاج التوحيد ذاته، وذلك على خلاف الحال مع منطق الحق الذاتي، حيث ان العدل هو اصل اخر يضاف الى التوحيد دون ان يشتق احدهما عن الاخر. وهذا يعني ان علاقة العدل بالتوحيد لما كانت غير متضمنة للصيغ المعيارية وفق منطق حق الملكية، فان ذلك يجعل للاشاعرة درباً اخر يصلها بالنظام الوجودي الذي يؤكد على العنصر التكويني في تلك العلاقة الصورية.
وكل ما يمكن قوله اخيراً هو ان ابطالنا للقضايا المترتبة على الاصل المولد يمكن ان يشكل اعتراضاً عليه. حيث في هذا الاعتراض انما نستنجد بالحقيقة الاصلية والاولية للخطاب الديني، اذ تتمظهر هذه الحقيقة - في اعلى صورها - في نظرية التكليف، وذلك بما تتضمن من شروط مجملة بدونها يصبح الخطاب خطاباً مشوشاً لا يوصف بغير الرموز والالغاز، الامر الذي يبرر فتح الباب لجميع الدوائر الباطنية ان تدلو بدلوها في التعبير عن هذا الخطاب بما تريد وتشتهي.
الهوامش
(1) القاضي عبد الجبار الهمداني: المحيط بالتكليف، تحقيق عمر السيد عزمي واحمد فؤاد الاهواني، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والانباء والنشر، ص21.
{ (2) القاضي عبد الجبار الهمداني: المختصر في أُصول الدين ، ضمن رسائل العدل والتوحيد ، دراسة وتحقيق محمد عمارة ، دار الشروق ، الطبعة الأُولى ، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص168ـ169.
(3) عبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص9.
(4) المحيط بالتكليف، ص21ـ22.
(5) رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف احمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج1، ص165ـ166.
(6) ابو جعفر الطوسي: تمهيد الاصول في علم الكلام، انتشارات دانشگاه طهران، 1362هـ.ش، ص نهم ـ جهاردهم وص1.
(7) الشريف المرتضى: أمالي المرتضى، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم 1403هـ.، ج1، ص103.
(8) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة ، دار دانية ، بيروت ـ دمشق، ص21ـ23.
(9) مقدمة ابن خلدون، ص464.
(10) المحيط بالتكليف، ص21.
(11) لاحظ حول ذلك المصادر التالية: تمهيد الاصول في علم الكلام، ص208، والمفيد: النكت الاعتقادية، طبعة طهران، ص 26ـ27، وعبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة إبراهيم مدكور ، إشراف طه حسين ، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج13، ص93، وجمال الدين الحلي: كشف المراد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، طبعة اولى، 1979م، ص35، ومقداد السيوري: ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1405هـ ص276.
(12) تمهيد الاصول ص 208، وارشاد الطالبين ص277، ونظرية التكليف، ص389.
(13) لاحظ تمهيد الاصول، ص209، وأبو جعفر الطوسي: الاقتصاد في الاعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران، ص78، ونظرية التكليف، ص403.
(14) المحيط بالتكليف، ص18.
(15) المحيط بالتكليف، ص11 و14 و17.
(16) مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص138، وج3، ص191.
(17) نظرية التكليف ، ص343ـ344. كذلك: المحيط بالتكليف، ج1، ص419.
(18) انظر: عبد الجبار الهمداني: المحيط بالتكليف، ج1، ص71 و19 ، وشرح الاصول الخمسة، تعليق الامام احمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الاولى، 1965م، ص39، وتمهيد الاصول في علم الكلام، ص2 و4، وجمال الدين بن المطهر الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص9 .
(19) تمهيد الاصول في علم الكلام، ص5.
(20) المجموع في المحيط، ج1، ص19ـ20، ونظرية التكليف، ص83.
(21) المجموع في المحيط، ج1، ص24.
(22) شرح الاصول الخمسة، ص29.
(23) يمكن الاطلاع على الادلة الخاصة على وجوب النظر ونقدها في دراستنا المعنونة: منطق الاحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي، دراسات شرقية، العدد المزدوج 9ـ10، 1411هـ ـ 1991م.
(24) الجويني: الارشاد، نشر مكتبة الخانجي، مصر، ص258، ومثله في: الشهرستاني: نهاية الاقدام في علم الكلام، مكتبة المثنى، بغداد، ص370.
(25) لاحظ حول ذلك المصادر التالية: الغزالي: المستصفى من علم الاصول، المطبعة الأميرية، مصر، ط1، 1322هـ، ج1 ص56، والفخر الرازي: الأربعين في أصول الدين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية ببلدة حيدر آباد الدكن، الهند، ص247، ونصير الدين الطوسي: تلخيص المحصل، انتشارات مؤسسة مطالعات اسلامي، ص339، والمولى حسن چلبي: شرح المواقف ، طبعة حجرية قديمة، ج3، ص146ـ147.
(26) نظرية التكليف، ص438.
(27) عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أُصول الفقه، وهو مطبوع في ذيل كتاب(المستصفى من علم الأُصول)، ج1، ص25، ويس سويلم طه: مختصر صفوة البيان في شرح منهاج الوصول الى علم الأصول، مكتبة الكليات الأزهرية، 1393هـ ـ1973م، ج1، ص29.
(28) لاحظ الاقتصاد للغزالي ص168 و182 ، واللمع للاشعري ص117.
(29) تلخيص المحصل، ص341ـ342.
(30) عبد الله بن أسعد اليافعي: مرهم العلل المعضلة في رفع الشبه والرد على المعتزلة (لم يكتب مكان طبعه ولا سنة نشره)، ص29ـ30.
(31) الفخر الرازي: اصول الدين، ص93.
(32) نهاية الاقدام، ص401ـ402.
(33) الغزالي: المنقذ من الضلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة، 1956م، ص147.
(34) ابو الحسن الاشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص47 و49 ، والابانة عن اصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 1405هـ ـ 1985م، ص102 ، والجويني: الارشاد، ص237 ، والغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، بيروت، 1388هـ ـ 1969م، ص136.
(35) الاشعري: اللمع، ص79 و90 و116ـ117، والابانة، ص103ـ104، وكذا: ابو بكر الباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص283
(36) الاشعري: اللمع، ص47 و49 ، والابانة، ص100ـ101، ولاحظ ايضاً: الفخر الرازي: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، وبذيله تلخيص المحصل لنصير الدين الطوسي، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، الطبعة الاولى، 1404هـ ـ 1984م، ص288 ، واصول الدين، ص94.
(37) الاشعري: اللمع، ص57ـ58.
(38) الكليني: اصول الكافي، تصحيح وتعليق علي اكبر الغفاري، دار الكتب الاسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1388هـ، ج1، ص151.
(39) ابن تيمية: النبوات، دار القلم ، بيروت، ص69.
(40) الغزالي: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الاولى، 1994م، ص189.
(41) اللمع، ص93ـ94 ، وتلخيص المحصل، ص325.
(42) مرهم العلل المعضلة، ص95.
(43) تخليص المحصل ص340.
(44) الارشاد، ص226ـ227.
(45) اللمع، ص99ـ100 ، والتمهيد، ص294.
(46) لاحظ الإبانة، ص114، والارشاد، ص227ـ228، وكذا في: الغزالي: قواعد العقائد، دار اقرأ، الطبعة الاولى، ص87ـ88، وتلخيص المحصل ص239، والمحصل ص293، واصول الدين للرازي، ص91، وشرح المواقف ج1، ص126ـ127.
(47) الشاطبي: الموافقات في اصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1395هـ ـ1975م، ج2، ص119.
(48) المستصفى، ج1، المطبعة الاميرية، ص84.
(49) الغزالي: روضة الطالبين من فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي في مصر، 1343هـ ـ 1924م، ص133.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق