مفهوم الاحتمال وابعاده التعددية

يحيى محمد

من البداهة القول ان ((القضايا المحتملة)) هي قضايا تتضمن كلاً من العلم والجهل نسبياً، اي انها تتضمن العلم من جهة، والجهل من جهة اخرى. فالعلم التام والجهل التام هما مما لا يصدق عليهما قضية الاحتمال.

كما من البداهة القول ان الاحكام الاحتمالية، لا القطعية، هي الغالبة في تعاملاتنا مع مفردات الحياة العملية، فنقول ان هذه القضية محتملة او متوقعة الحدوث، او نقول ان درجة احتمالها هي النصف او الربع او غيرذلك. فالاحتمالات مستخدمة في مختلف مجالات الحياة العملية، وتستعين بها شركات الاعمال والتأمين وغيرها. كما تستعين بها العلوم الاجتماعية والنفسية عبر الاحصاءات المختلفة، وكذلك العلوم الفيزيائية وعلى رأسها الفيزياء الذرية وعلم الوراثة والجينات والعاب الحظ والمصادفة وغيرها. وعليه صرح هنري بوانكاريه انه بدون حسابات الاحتمال فان العلم يكون مستحيلاً. كما اشار فنتي Finetti بان هذه الحسابات تشكل الاساس لمعظم اعتقاداتنا الشخصية (1) .

ورغم ان نظرية الاحتمال قد لعبت دوراً مهماً في تاريخ العلم، الا ان الاحتجاج بها لتأييد النظريات العلمية المتنافسة كان نادراً ومستثنى. فمثلاٌ ان كوبرنيكوس وكبلر ونيوتن واينشتاين ليس منهم من استخدمها في دعم نظريته، ولا كذلك ماكسويل او دالتن او كيلفن او لافوازيه او غيرهم (2) . بل يسود الاعتقاد بان النظريات العلمية لا تخضع الى اعتبارات نظرية الاحتمال، حتى قال فون ميزس: ((يجب ان نلاحظ ان العلماء حتى في أحاديثهم العادية التي لا يتوخون فيها الدقة قلما يستخدمون التعبير بأن احتمال النظرية احتمال صغير او كبير))، انما هناك معايير متعددة ومتنوعة تفرض على العالم أن يأخذ بها في تفضيله لنظرية على اخرى، كما يؤكد بذلك ميزس وهو يتحدث عن احتمالات النظريات (3) . والأمر مبرر من حيث وجود التنافس بين النظريات وان ما يرجى منها هو الفائدة التفسيرية لأكبر عدد ممكن من الظواهر دون البحث عن مطابقتها للواقع الموضوعي او النظر في احتمالات هذا الامر. لكن يظل ان النظرية العلمية لا يمكنها ان تستغني عن وجود قرائن المشاهدات التي تؤيدها، وعلى الأقل أن لا تتناقض معها. لهذا فالنظرية التي تتناقض مع حقيقة تجريبية تفقد شيئاً من اعتبارها وقد تفسح المجال لاحلال غيرها من النظريات المنافسة.

***

ومن الناحية التاريخية عُرفت نظرية الاحتمال لدى العرب والهنود وغيرهم قبل ان تلفت نظر الغربيين منذ النهضة الحديثة. واول ما بدأ الاهتمام بها عبر تحديد القيم الرياضية الخاصة بالعاب الحظ والمصادفة. وهناك بعض الاصطلاحات التي شاعت لدى الغرب ظهر ان مصدرها كان من العرب، ومن ذلك لفظة (هزرد hazard) التي تعني اللعب في قطعتي زهر او ثلاث، وقد اشير الى هذه اللعبة في ادبيات العصر الكنيسي في الغرب (4) . وكانت اللفظة شائعة قبل ان تحل محلها لفظة (الصدفة chance). وعليه ذكر الاستاذ هاكن Hacking ان الرياضيات الاحتمالية، هي مثل نظام الارقام في الغرب، تعود الى اصل عربي، وان لفظة هزرد هي كلفظة علم الجبر مأخوذة من العرب. وقد كان اوائل العلماء الاوروبيين - وهم الايطاليون - يعملون على حل مشاكل العاب الحظ والمصادفة للهزرد الشائعة في افريقا الشمالية، في الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بتطوير علم الجبر وحل مسائله الرياضية. ومع ان العلم الخاص بلعبة الزهر له بصيص من الوجود لدى الاوروبيين خلال القرن الخامس عشر، الا ان اساس هذا العلم يرتد الى قديم الزمان. فمن المصادر التي تناولت العلم المذكور ما جاء في بعض الكتب الهندية القديمة، حيث وردت قطعة نصية تشير الى هذا النوع من العلم في كتاب (ماهاباراتا Mahabarata )، وذلك قبل ان يتعرف الاوروبيون عليه بقرون طويلة (5) .

ويلاحظ ان اغلب الكتب التي تعرضت لتاريخ الاحتمال تبدأ بالفيلسوف الرياضي باسكال ( 3 2 6 1 ـ2 6 6 1) وزميله فرما، حيث جرت بينهما عدد من الرسائل المتبادلة لحل بعض مشكلات الاحتمال. وقد كان لمثلث باسكال انذاك دور مهم في حل بعض المسائل الاحتمالية البسيطة كتلك المتعلقة بالعاب المصادفة وما شاكلها. واحياناً تُشير بعض الدراسات الى ان اوليات التفكير في القضايا الاحتمالية تعود الى ما قبل باسكال بقرن تقريباً. ومن ذلك ان المؤرخ تودانته Todhunter، وهو من مؤرخي القرن التاسع عشر البارزين، لم يكتب عن الفترة التي سبقت باسكال الا ست صفحات من كتابه الذي تجاوزت اوراقه الستمائة صفحة، وقد تناول في الصفحات الست آراء كل من كاردان وكبلر وغاليلو، ومن قبلهم لبري (6) . لكنه لم يشر الى ما قبل الفترة الحديثة ولا الى الدور العربي في علم الاحتمال رغم ما تضمنه كتابه من الحضور الواسع للفظة هزرد. وكأن صياغة الاحتمال من الناحية العلمية لم يتوفر ظرفها الا مع مطلع العصر الحديث، وبالتحديد مع باسكال.

على ان بداية اهتمام باسكال بالمشكلة الرياضية من الاحتمال كان منذ منتصف القرن السابع عشر (وبالتحديد سنة 4 5 6 1)، حيث بدأ التفكير مع العاب الحظ الخاصة بزهر النرد. فمن ذلك الوقت بدأت مشاكل الاحتمال تفرض نفسها لتجد من يحلها من قبل العلماء. ومع ان باسكال ليس من الرياضيين، كما صرح هو بنفسه، لكن سبقه لطرح اولى المشاكل الاحتمالية وحلها بشكل صحيح، جعلاه مشهوراً كأول مساهم من الرياضيين لحل القضايا الاحتمالية، وذلك بمعية زميله فرما (7) .

هكذا تؤرخ النشأة العلمية منذ باسكال لكونه يعد اول من تعرض الى طرح المشاكل الاحتمالية واجاب عنها. فقد وضع مثلثه المشهور لحل تلك المشاكل، وكان العلماء يلجأون الى هذا المثلث من بعده. وسمي باسمه باعتباره اكتشف عدداً من العلاقات والخصائص غير المعروفة حوله، رغم ان الاهتمام به سبق باسكال، وان ما يعزى اليه من دور تاريخي هام على صعيد نظرية الاحتمال كان مسبوقاً بنحو ما يزيد على ثلاثة قرون. فقد كان المثلث معروفاً ومستخدماً في الحسابات الخاصة بالعاب الحظ والمصادفة (8) ، ومن ذلك ان الشاعر والرياضي المعروف عمر الخيام (المتوفي سنة 4 1 2 1) قد استخدم المثلث في تحديد القيم الاحتمالية لبعض المسائل، وهو يعترف بان فكرة المثلث قديمة وليست من ابتكاره. وكان الاستاذ سارتون يقول بصدد هذا المثلث بأنه مثال عظيم من المعرفة الخفية او الغامضة، ذلك انه لعدد من المرات يكتشف فيضيع فيكتشف، حتى اصبح اخيراً معروفاً تمام المعرفة (9) .

وعلى رأي الاستاذ هاكن أن تصور الاحتمال خلال القرون الثلاثة الماضية، وبالتحديد منذ عصر باسكال، ظل ثابتاً يتردد الى اصوله من غير تغيير. فدائرة الاراء في فهم الاحتمال اخذت تعيد نفسها مرة بعد اخرى، من دون اي تقدم يُحرز. وطوال هذه المدة لم يتجاوز مفهوم الاحتمال معنيين اثنين. وقد استدل هاكن على الطابع الدوري لمفهوم الاحتمال عبر مثالين، احدهما ان الصياغة الاكثر حداثة للاحتمال هي تلك التي كان رائدها رامسي في كتابه (الحقيقة والاحتمال) سنة 6 2 9 1 ، وكذلك القبول الواسع المنال لكتاب الاستاذ سفج (اصول الاحصاءات) سنة 4 5 9 1 ، والبعض كان يطلق على النظرية التي قدمها كل من رامسي وسفج النظرية الذاتية، وكان الاستاذ سفج يطلق عليها النظرية الشخصية، لكن اغلب الاحصائيين كانوا يطلقون عليها نظرية بايس، فرغم ان بايس قد توفى (سنة 0 6 7 1)؛ الا ان الفكرة الاساسية لمساهمته ظلت طوال قرنين من الزمن. اما المثال الاخر فيتعلق بالتفاسير المختلفة التي وضعت على عمل برنولي في كتابه (فن التخمين) سنة 3 1 7 1 . فبسبب انه قدّم لفظة (الذاتي) في فلسفته التي تخص الاحتمال، فقد اُطلق عليه الفيلسوف الذاتي، وصرح الاستاذ هاكن بان برنولي هو المتبني الاول للنظرية الذاتية للاحتمال، بينما حكم عليه فون ميزس بانه رجل تكراري ضليع. كما قال آخرون ان برنولي قد سبق في نظريته نظرية كارناب المنطقية في الاحتمال، بل ان كارناب ذاته ردّ نشأة الاحتمال المنطقي الذي تبناه الى فترة متقدمة منذ الاهتمام العلمي بنظرية الاحتمال، كما يلاحظ انعكاس ذلك على عنوان كتاب برنولي الموسوم (فن التخمين)، حيث يعنى بالاحتمالات الخاصة بالفرضيات التي تعد صلب الاحتمال المنطقي، وهو الاحتمال الذي تم تتويجه على يد العالم الرياضي لابلاس (10) . كذلك ما زال آخرون يطلقون على برنولي بأنه رائد التصور التكراري في الاحصاء والذي يُعد فيه الاستاذ نيامن الاكثر شهرة من المعاصرين المفسرين لذلك التصور. هكذا فعلى رأي هاكن، رغم ان افكار نيامن وكارناب والنظرية الذاتية كلها تتميز بالتغاير الجوهري، الا ان هذه الاعمال المختلفة كلها يمكن عدّ اصولها راجعة الى العمل الذي قام به برنولي من قبل (11) .

نظريات الغربيين لتفسير الاحتمال

هناك نظريات غربية عديدة لتفسير الاحتمال يتداخل بعضها ويتسمى بالبعض الاخر، ويمكن ان نجد ثلاثة اتجاهات تحتضن العديد من المذاهب، حيث يتصف احد هذه الاتجاهات بالنزعة الذاتية التي لها علاقة بالذات البشرية وجهلها، وفي قباله الاتجاه الموضوعي الذي يتحدث عن الاحتمال باعتباره نسبة معرفية موضوعية بعيدة عن ذلك الجهل، ثم اخيراً هناك اتجاه جامع بين الاتجاهين السابقين، اي انه يعترف بوجود نوعين من الاحتمال، احدهما له علاقة بالجهل الذاتي، والاخر له صفة موضوعية. وعليه لابد ان نوضح هذه الاتجاهات الثلاثة كالاتي:

المفهوم التقليدي ومبدأ تساوي الاحتمال

اولى النظريات التي ظهرت حول تحديد طبيعة الاحتمال هي تلك التي تعود الى لابلاس (9 4 7 1 ـ7 2 8 1)، وترجع جذورها الى جملة من المفكرين الرياضيين من امثال باسكال وفرما، لكن لابلاس هو اول من صاغها صياغة منظمة في بحث له بعنوان (رسالة فلسفية في الاحتمالات) سنة 2 1 8 1 ، فسميت النظرية باسمه، كما أُطلق عليها النظرية التقليدية.

يرى لابلاس ان الاحتمال هو تعبير عن الجهل، وذلك لأن فيه جهتين؛ احداهما تعكس الجهل، والاخرى تعبر عن المعرفة المجملة. فاذا كنا نحتمل ان حادثة ما سوف تقع بقيمة احتمالية تساوي ربعاً، فهذا يعني اننا لا نعلم وقوع الحادثة على وجه اليقين. وبالتالي فما لدينا من علم هو تعبير عن علم ناقص نطلق عليه ((الاحتمال))، اذ منشأ علمنا وتشخيصنا للدرجة الاحتمالية الانفة الذكر نابع من انه اذا كانت هناك اربعة عوامل فان ثلاثة منها تكون مانعة للوقوع وواحدة فقط هي الملائمة له. وفي حالة وجود عدة صور مختلفة نتيقن بأن أحدها لابد أن يقع من غير تعيين؛ فان ذلك يعكس جهة العلم الاجمالي بحتمية وقوع واحدة من تلك الصور، مع الجهل بتعيين الصورة التي يصادفها حظ الوقوع. وطبقاً لذلك يقرر لابلاس ان الاحتمال عبارة عن النسبة ما بين عدد الحالات الملائمة للحدوث وبين كافة الحالات الممكنة امكاناً متساوياً، وذلك عندما لا نجد ما يجعلنا نعتقد بان حالة ما ستحدث اكثر من اي حالة اخرى، وبالتالي فهذه الحالات بالنسبة الى معرفتنا تكون متساوية الامكان (12) . ويُطلق على المبدأ المعتمد في عدم الترجيح بين هذه الحالات الممكنة؛ مبدأ السبب غير الكافي، وتعود هذه التسمية الى العالم الرياضي برنولي (المتوفي سنة 5 0 7 1)، ذلك انه استخدم هذا المبدأ عندما لم يجد سبباً ظاهراً يرجح فيه حالة محتملة على حالة اخرى مماثلة. وقد تردد ذكر هذا المبدأ لدى القدماء حتى مجيء العالم الاقتصادي كينز (سنة 1 2 9 1) الذي فضّل ان يطلق عليه مبدأ عدم التمييز، ومن ثم شاع هذا الاستخدام الاخير (13) .

وعلى رأي عدد من الباحثين الغربيين وعلى رأسهم وليم نيل وكارل بوبر وغيرهما ان هناك من سبق لابلاس في تعريفه للاحتمال بما في ذلك استعانته بالقيم الرياضية العددية في التحديد او التعريف. فكما يرى نيل ان اول من استخدم هذا التحديد الرياضي في تعريف الاحتمال هو مويفر Moivre (سنة 8 1 7 1)، اي سبق لابلاس بقرن من الزمان، حيث جاء في كتابه (نظرية المصادفات) بان قيمة احتمال حادثة ما؛ تتحدد تبعاً لعدد الحالات الصدفوية التي يتكرر حدوثها بالقياس الى جميع امكانات الصدف الكلية المتضمنة لامكانات الحدوث وعدم الحدوث معاً. فاذا كانت الحادثة تمتلك ثلاث حالات للحدوث، وحالتين لعدم الحدوث، فان قيمة احتمال حدوثها عبارة عن (3\5)، أما قيمة احتمال عدم حدوثها فهي (2\5) (14).

وتنطوي نظرية لابلاس للاحتمال على هاتين النقطتين:

1 ـ ان الاحتمال يعكس بعداً ذاتياً يعود الى نقص المعرفة البشرية. فهو تعبير عن جانب الجهل الانساني، ولولا هذا الجهل ما كان هناك شيء محتمل اطلاقاً.

2 ـ ان الاحتمال عبارة عن علاقة تربط بين عدد الحالات الملائمة وبين عدد الحالات الممكنة الكلية، مع فرض ان تكون الحالات الممكنة الكلية متساوية.

وقد واجه لابلاس في نظريته عدة اعتراضات، اذ بدأت عملية نقده بعد وفاته بخمس عشرة سنة، وكان من الاوائل الذين اعترضوا عليه كل من أليس (سنة 2 4 8 1)، وبول (سنة 4 5 8 1)، وفِن (سنة 6 6 8 1)، وميزس (سنة 8 2 9 1) (15). وانصبت اغلب الاعتراضات على النقطة الاخيرة، وبالذات على مبدأ عدم التمييز الذي يفترض التساوي في الحالات الممكنة الكلية، ومن الاعتراضات المبكرة على هذا المبدأ ما قدمه بيرس (سنة 8 7 8 1) (16) .

واهم ما جاء في نقد نظرية لابلاس ما يلي:

1 ـ ان نظرية لابلاس هي نظرية عقلية قبلية حين تفترض التساوي بالنسبة للحالات الممكنة، حيث ليس هناك ما يجعلنا نعتقد بان حالة ما ستحدث اكثر من اي حالة اخرى، فهي بالتالي لم تستند في ذلك الى التجربة والاستقراء والاستفادة من البينات الموضوعية. وهناك عدد من القدماء اعترضوا على مبدأ التساوي في التوزيع انطلاقاً من الجهل، ومن ذلك ان أليس كتب بان الجهل ليس اساساً لاي استدلال يمكن ان يعتمد عليه (17). كما ان بول رفض الاحكام القبلية التي ادلى بها لابلاس، باعتباره لم يستعن بالبينات الخارجية (18) . فلو كانت لدينا قطعة زهر فسوف لا يمكننا الحكم بتساوي وجوهها ما لم يكن لدينا علم مسبق بطبيعتها الخاصة كشكلها وتنظيمها، وكذا العلم المسبق بالظروف العشوائية التي تؤثر على الرمية.. فكل هذه الامور تتدخل في تحديد طبيعة الحالات الممكنة من حيث التساوي وعدمه. وهذا يعني ان مبدأ التساوي ليس ذا طبيعة قبلية وانما مرده الى التجربة والاستقراء (19) . او يمكن القول ان مبدأ لابلاس يعترف بالجهل التام، فيبرر التساوي في الاحتمالات العائدة للحالات الممكنة، بينما الصحيح هو ان يكون لنا علم ومعرفة تبرر الحكم في تساوي الاحتمالات. فنظرية لابلاس تخلط بين قضيتين احداهما صحيحة، واخرى خاطئة. فالقضية الاولى تؤكد بان الحالات الممكنة متساوية الاحتمال اذا ما كنا نعلم انه لا يوجد سبب يبرر الاعتقاد بعدم التساوي. اما الاخرى الخاطئة فهي القول بان الحالات الممكنة متساوية الاحتمال لعدم وجود ما يدعو للاعتقاد بانها غير متساوية. فكلا القضيتين كان موضع تطبيق مبدأ عدم التمييز رغم سعة الفارق بينهما، فاحداهما قائمة على المعرفة وهي القضية الاولى، اما الاخرى فقائمة على الجهل المحض (20) . ومثل ذلك ما قرره نيل بان من حقنا ان نتعامل مع حالات الامكان كاحتمالات متساوية وذلك فقط عندما نعرف بان البينة المتوفرة لدينا لم تزودنا شيئاً يبعث على ترجيح احدى تلك الحالات على غيرها، لا اننا نتعامل معها عندما نجهل البينة كلياً (21) . وكذا الحال فيما ذهب اليه ميلور (22).

وهناك من ذكر ثلاثة انتقادات لنظرية لابلاس، حيث انها قبلية تضع حساب الاحتمال من غير اهتمام باي معلومات حقيقية او احصائية حول الحادثة. وهي عقلية لا تشير الى الخصائص الخارجية للحوادث ذاتها، وانما الى درجة الاعتقاد العقلي، فتحديد درجة الاحتمال غير معنية بما عليه الحادثة في واقع امرها إن كانت تتخذ فعلاً تلك الدرجة ام لا؟ وفوق كل ذلك فان الحكم الاحتمالي يظل نسبياً في علاقته بمعرفتنا، او بالبينات، اذ عندما تتغير معطيات البينات فان الاحتمال سوف يتغير تبعاً لذلك (23) .

2 ـ تبعاً للنقد السابق من البعد الذاتي القبلي في نظرية لابلاس؛ اظهر العديد من الباحثين ما تفضي اليه النظرية من نتائج متناقضة تترتب عن عدم اشتراط اللجوء الى البينات التي تبرر التساوي في الحالات الممكنة. وكان اول محاولة تصب في هذا الاتجاه من النقد هي تلك التي تعرف بتناقض برتراند، وهي محاولة تعود الى برتراند (سنة 9 8 8 1) تُظهر التناقض في النتائج التي تسفر عن الاخذ بمبدأ عدم التمييز.

وكمثال على هذا التناقض، لو فرضنا ان لدينا صندوقاً فيه ثلاث حقائب، في كل منها قطعتا نقد، واحدة منها تحوي قطعتين ذهبيتين، وثانية تحوي قطعتين فضيتين، والثالثة فيها قطعة ذهبية واخرى فضية. ولو فرضنا اننا اخترنا احدى هذه الحقائب عشوائياً وسحبنا منها قطعة واحدة فتبين انها ذهبية، فما هو احتمال ان تكون القطعة الاخرى لنفس الحقيبة ذهبية ايضاً؟ وتبعاً لمنطق نظرية لابلاس في مبدأ عدم التمييز هناك اجابتان مختلفتان ومتكافئتان عن هذا السؤال. فمن حيث الاجابة الاولى، اننا عندما سحبنا قطعة النقد فظهرت ذهبية فاما ان تكون الحقيبة ذات قطعتين ذهبيتين او ذات قطعة ذهبية واحدة مع اخرى فضية، وعليه ليس لدينا سبب يرجح احد هذين الفرضين على الاخر، ومن ثم فهناك امكان واحد ملائم بين امكانين متنافيين، وبالتالي فاحتمال كل منهما يساوي (1\2). أما الجواب الثاني فهو ان هناك ستة امكانات بعدد القطع جميعاً، وقد تم تصفية ثلاثة منها، حيث لم يعد هناك اي مجال لاحتمال القطعتين الفضيتين، كذلك فانه عند سحب القطعة الذهبية فانه لم يبق الا ثلاثة خيارات متكافئة، او متساوية الاحتمال، اثنان منها يعبران عن وجود القطعتين الذهبيتين والثالث يعبر عن وجود القطعة الفضية، فاحتمال ان تكون القادمة ذهبية يساوي (2\3)، قبال الاحتمال الاخر الذي تكون فيه القطعة فضية والذي يساوي (1\3). هكذا فبحسب هذا الاعتراض ان مبدأ عدم التمييز لنظرية لابلاس يمكن تطبيقه على الاجابة الاولى والثانية بلا فرق (24) . مع ان واقع نظرية لابلاس تختار الاجابة الثانية وترجحها على الاولى تبعاً لبعض قوانينها المشتقة.

3 ـ طبقاً لـ (فون ميزس) ان تساوي الامكان في مبدأ لابلاس لا يمكن فهمه الا بمعنى تساوي الاحتمال، مما يؤول الى وقوع تلك النظرية في الدور الباطل (25) . وكذا ما يراه من قبل بوانكاريه في نقده لنظرية لابلاس، وهو ان هذه النظرية تعرّف الاحتمال بالاحتمال (26) ، وهو مصادرة على المطلوب.

وعلى رأي المفكر الصدر ان مبدأ لابلاس في تساوي الحالات الممكنة يجعل من تعريف الاحتمال تعريفاً ناقصاً، ذلك ان هذا المبدأ انما يفسر لنا الاحتمال من خلال احتمال آخر قد عجز عن تفسيره لكونه مفترضاً بشكل قبلي لا يقبل العلاج (27).

4 ـ ان تفسير لابلاس للاحتمال طبقاً لمبدأ التساوي يجعل علاقة الاحتمال ضيقة بحدود الوقائع التي تتضمن المساواة في امكاناتها، أما الحالات التي تختلف امكاناتها فلا ينطبق عليها ذلك المبدأ. لهذا فقد اعتبر ميزس ان مبدأ لابلاس لا يصدق الا على الوقائع البسيطة، كتلك المتعلقة بالعاب الحظ والمصادفة. بينما يندر ان تكون الامكانات التي تتعلق بالموضوعات الخارجية متساوية. فعلى سبيل المثال ان امكانات حياة رجل عمره اربعون عاماً لا يمكن ان تكون متساوية خلال الاعوام التالية، اذ لا شك ان احتمالات الحياة خلال العقد الخامس او السادس مثلاً اعظم بكثير مما هي خلال العقد العاشر، ومن ثم فانه لا يوجد تماثل في امكانات الحياة خلال تلك الاعوام والعقود (28) .

***

اخيراً ما الذي تعنيه مثل تلك الانتقادات لمبدأ عدم التمييز؟

لقد اختلفت ردت فعل الباحثين ازاء ذلك، فمنهم من اعتبر المبدأ بحاجة الى اصلاح يفضي الى تحويل نظرية لابلاس مما هي ذاتية الى نوع اخر منطقي كالذي يبشر به كينز. ومع ذلك فان المبدأ لا يمكن تطبيقه على الحالات المختلفة الامكان التي يشهد عليها الواقع. وعلى رأي عالم الرياضيات جينس انه لا يوجد من تلك الانتقادات ما يشكل اعتراضاً صحيحاً سوى نقد واحد، وهو ان ذلك المبدأ لا ينطبق على الحالات المختلفة الامكان، بل يجري تطبيقه على الحالات المتساوية الامكان فحسب. وقد سبق لبرنولي خلال القرن السابع عشر ان ادرك بان الاعتماد في نظريته على تساوي الامكان يجعلها تنطبق على حالات بسيطة كالعاب الحظ والمصادفة، دون ان يكون لها تطبيق على حالات الواقع وتشعباته، ومن ذلك مثلاً ان تحديد احتمال نسبة الوفيات طبقاً للامراض يتمشكل في كيفية تحديد عدد الامراض المميتة (29) . وهو النقد الذي تكرر لدى العديد من الباحثين وعلى رأسهم كينز. لكن هناك من اعتبر مثل تلك النقود كفيلة بهجر النظرية التقليدية وابدالها بنظرية اخرى لا تعول على المبدأ المذكور، وهو ما اخذ به الاتجاه الموضوعي، وعلى رأسه النظرية التكرارية كما سنعرف.

اذن نحن مع نوعين من الاعتراض على مبدأ عدم التمييز، احدهما يعمل على اصلاحه والاخر على هجره، وسنبدأ بمحاولة كينز التي سعت نحو اصلاح هذا المبدأ ثم ننتقل الى الاتجاه الاخر الذي ترك المبدأ ولم يعول عليه.

المفهوم المنطقي واصلاح المبدأ

من وجهة نظر كارناب ان النظرية التقليدية للاحتمال لا تقبل الفهم ما لم يتم تفسيرها بالمعنى المنطقي الذي احياه المفكر الاقتصادي كينز لاول مرة في كتابه (رسالة في الاحتمال) سنة 1 2 9 1 . وعلى رأيه ان هذا النوع من الاحتمال يستخدم بوضوح في مختلف مجالات حياتنا العادية والعلمية (30) .

لقد اعتبر كينز ان الاحتمال لا يقبل التعريف لكونه مفهوماً بسيطاً لا يمكن ردّه الى تصورات اخرى أبسط منه. مع هذا فقد وصفه بانه عبارة عن علاقة منطقية بين مجموعتين من القضايا، حيث بمعرفة احدى المجموعتين يمكن تحديد القيمة الاحتمالية للمجموعة الثانية. وهو بهذا ينفي ان يكون الاحتمال معبراً عن علاقة تخص الوقائع الخارجية، كما لا يعتقد بوجود قضية مفردة تصدق عليها الظاهرة الاحتمالية، فلا معنى للقول مثلاً بان (ب محتملة) مثلما لا معنى للقول بأن (ب متساوية)، او (ب اكبر). فالقضية لا تكون محتملة الا من حيث نسبتها الى قضية اخرى هي البينة او الدليل، حيث بها يتحقق الحكم الاحتمالي (31) . وبذلك يتخلص كينز من اول مشكلة صادفت النظرية التقليدية، وهو انها يجب ان تستند الى المعرفة والبينات للتوصل الى الاحكام الاحتمالية عبر مبدأ عدم التمييز.

ويعد كال Khale اول من ربط الاحتمال بالبينة (سنة 5 3 7 1). لكن ايضاح هذا التقرير لم يتم الا على يد كينز (32) ، حيث اطلق على نظريته (الاحتمال المنطقي)، والتي وجدت لها صدى كبيراً لدى كارناب من بعده. فالاحتمال لدى كينز يتخذ طابعاً منطقياً بفضل ارتباطه بالبينة، او هو علاقة منطقية بين الفرضية والبينة، وذلك تمييزاً له عن الاحتمال الذاتي الذي يعمل على فصل البينة عن الفرضية، كالذي جوّزه اصحاب النظرية التقليدية، معتبرين ان من الممكن الحديث عن احتمال فرضية (ب) مثلاً دون حاجة لربطها بالبينة (33) .

وبحسب هذه النظرية تستند المجموعة الاولى من القضايا الى ما يرد من وقائع وبينات قابلة للاختلاف والتغير والتعديل، لكنها في جميع الاحوال تعمل على تحديد القيم الاحتمالية بالنسبة الى قضايا المجموعة الثانية، وتكون هذه القيم ذات طابع عقلي وضروري. فمثلاً قد نواجه قضية احتمال ان يكون الطقس ممطراً غداً، استناداً الى البينة المقدمة من مشاهدات علم الانواء الجوية، كأن يبعث ذلك على ان يكون الاحتمال (1\5)، فهذه النسبة لا تصف احتمال حادثة المطر غداً، بل تصف العلاقة المنطقية بين التنبؤ بالمطر وبين تقرير علم الانواء الجوية، وهي نسبة موضوعية عقلية مستقلة عن اعتقاد الفرد الخاص (34). وقد يختلف الاحتمال بين شخص واخر بحسب ما تختلف معلومات البينة بينهما، مع هذا فان كلا القيمتين مبررتان تبعاً للعلاقة مع البينة. كما قد تتغير القيمة الاحتمالية بتغير معطى البينات، ومع ذلك يظل الحكم فيها محتفظاً بضرورته من حيث علاقته بالبينة دون ان يكون له علاقة بالواقع الخارجي (35) .

وفي جميع الاحوال ان ما يحدد القيم الاحتمالية لدى كينز هو مبدأ عدم التمييز بعد توجيهه بما يضمن التخلص من اشكالية الوقوع بتلك النتائج المتناقضة والتعسفية، فقد عرفه كالاتي: ان القيم الاحتمالية لـ (ن) و(م) في علاقتهما بالبينة التي نحصل عليها هي قيم متساوية، وذلك اذا لم يكن هناك بينة ملائمة في علاقتها بـ (ن) مثلما هو الحال في علاقتها بـ (م)، اي ان الاحتمالين متساويين اذا ما كانت البينة متماثلة في علاقتها بكل من (ن) و(م). وقد اشرط كينز لهذا التحديد مبدأ عدم التقسيم الذي يعني عدم تقسيم الخيارات الممكنة الى خيارات ثانوية، فاذا كانت (ن) و(م) حالتين ممكنتين ومستقلتين بالنسبة الى بينة حقيقية غير مصطنعة، فانه لا يصح تقسيم اي منهما الى اقسام ثانوية، كي لا نقع بما سبق الوقوع به من نتائج متناقضة وتعسفية (36) . وبالتالي فان مبرر التساوي في الاحتمال هو تماثل البينة، ولم يعد الاول مفترضاً من الناحية القبلية.

مع هذا فان كينز وجد ان الاعتماد على مبدأ عدم التمييز لا يجدي نفعاً في اغلب القضايا العملية. وبالتالي كان من الصعب ان يخضع الاحتمال بدوره الى التحديدات الكمية او العددية، فما لم يتوفر شرط التساوي بحسب ذلك المبدأ فانه لا يمكن استنتاج القيم العددية (37) . وعليه فانه اعتبر الرياضيين قد بالغوا حينما تصوروا ان الاحتمالات العددية قابلة للتطبيق على العالم الخارجي، فعلى رأيه انها لا تنطبق الا في حالات القضايا البسيطة من امثال العاب المصادفة، وهي التمارين المألوفة التي يستند اليها هؤلاء الرياضيون في تطبيقاتهم (38). اما القضايا الاخرى فقد رجح كينز ان يكون التعامل معها بطريقة المقارنة بين القيم الكيفية للاحتمالات، مثل قولنا بان احتمال ان يكون الوليد القادم لهذه الحامل ذكراً هو اقوى من كونه انثى (39) . لذلك ظهرت هناك بعض النزعات التي اهتمت بالمنطق الكيفي للاحتمال، مثل ما قام به الاستاذ كوبمان (سنة 0 4 9 1)، ومن بعده الاستاذ فاين (سنة 3 7 9 1) (40) .

وعلى العموم تنطوي نظرية كينز على بعض نقاط الضعف كالاتي:

1 ـ ليس الاحتمال معلقاً دائماً بوجود مجموعة القضايا التي تتمثل بالبينات. فهناك نوع منه لا يتضمن وجود بينة اطلاقاً، من قبيل إحتمال وجود عالم آخر يختلف نظامه عن نظام عالمنا الكوني هذا.

2 ـ تفتقر نظرية كينز الى الجسر الذي يربط قضاياها المنطقية بالواقع الموضوعي. فنحن حين نقول إن هذه القضية محتملة لا نعني بالقضية تلك الفكرة المنطقية المجردة عن الواقع، بل ما نعنيه هو اضفاء الحكم على الواقع من خلال المقدمات اللازمة. فاحتمال نجاح زيد ليس احتمالاً للقضية وانما هو احتمال لواقع النجاح من خلال التقديرات المنطقية، وكذا حين نقرر طبقاً لقانون برنولي في التوزيع انه كلما ازدادت الاختبارات في رمي قطعة النقد فان نسبة ما يحظاه ظهور احد الوجهين ستزداد قرباً من قيمة الاحتمال القبلي له، أي النصف مثلاً، فلا شك ان هذا الحكم ليس بصدد القضية المنطقية وانما هو تنبؤ للواقع. مع ان هذا المعنى من الاحتمال الواقعي لا ينفي وجود المعنى الاخر المرتبط بالناحية المنطقية، والذي لا يتحدث عن الوقائع الخارجية كما سنتعرف عليه فيما بعد.

3 ـ عرفنا ان كينز قد تخلص من مشكلة افتراض التساوي في الاحتمالات الممكنة عبر ارجاعه الى تماثل البينة. لكن مع هذا يمكن القول ان التماثل هو ايضاً لا يمكن ان يثبت من غير الاستناد الى نوع اخر من الاحتمال نطلق عليه الاحتمال غير السوي، كما سيمر علينا فيما بعد.

المفهوم التكراري وهجر المبدأ

ترتبط النظرية التكرارية بعدد من المفكرين بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، واخذت تثبّت اقدامها شيئاً فشيئاً حتى تهيء لتطبيقاتها ان تدخل ضمن المجال العلمي (41) . ففي الاربعينات من القرن التاسع عشر طرح أليس في عدد من الصفحات الفكرة الخاصة بهذه النظرية، ومثل ذلك ما فعله كورنو في كتابه (حساب نظرية المصادفات والاحتمالات) سنة 3 4 8 1 ، ثم جاء جون فِن فقام بتطوير النظرية في بحثه المعنون (منطق المصادفة) سنة 6 6 8 1 . كذلك جاء بعدهم بيرس الذي بحث الموضوع ذاته فاضفى عليه بعض الابعاد الجديدة (42) ، واخذت النظرية تتطور اخيراً لدى كل من ميزس وريشنباخ وغيرهما خلال القرن العشرين، الامر الذي جعلها اكثر دقة وقبولاً.

ولا شك ان هذه النظرية جاءت كرد فعل على الاعتقاد ((القبلي)) للاحتمال كما ارساه لابلاس في مبدئه القائل بتساوي الحالات الممكنة، حيث رفضت مبدأ عدم التمييز الذي عدته عديم الفائدة في الكشف عن القيم الاحتمالية، خصوصاً وانه واقع بتلك المشكلة المسماة ((تناقض برتراند)) كالذي مرّ معنا. وعلى رأيها ليس هناك الا طريق واحد يجيب عن تلك المشكلة، وهو الطريق الذي يتحدد بتأسيس الاحتمال على التجربة، فعوضاً عن ان يكون تساوي الامكان هو الذي يؤسس فكرة تساوي الاحتمال، كما تلجأ اليه النظرية السابقة، اصبح تساوي التردد والتكرار هو مصدر القول بتساوي ذلك الاحتمال (43) . وهذه النتيجة لا تتضمن مفهوم الاحتمال سلفاً، ولا مغالطة المصادرة على المطلوب.

وعلى رأي العديد من الباحثين ان جون فِن هو اول من اشار الى التصور التكراري للاحتمال بشكل واضح ومنظم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (44) ، وانه من الاوائل الذين قاموا بنقد النظرية التقليدية حول ما تتضمنه من القبلية في فكرتها عن التساوي في الاحتمالات، وكونها لا تتحدث عن الاحتمال بوصفه يعبر عن تصور للحوادث وعلاقاتها الخارجية وصفاتها الخاصة، وبالتالي فقد خلص فِن من انه لابد من التمييز بين التساوي في الحساب الاحتمالي لاعتقادنا الشخصي كما تعبر عنه النظرية التقليدية، وبين التساوي في الحساب في تكرارات الحدوث للحادثة، واعتبر ان التصور الاخير هو الصحيح دون الاول (45) .

وطبقاً لكارناب فان اصحاب النظرية التكرارية لم يعلنوا رفضهم للتفسير التقليدي للاحتمال وابداله بمفهومهم الجديد، بل حسبوا تصورهم للاحتمال هو ذات التصور الذي حمله الكتّاب الاوائل، وبالتالي فانهم يعدون انفسهم قد ساهموا في صياغة المفهوم بمزيد من الدقة والضبط، وجعلوه اكثر سعة وشمولاً مما كان عليه. لذا فسروا لفظة الاحتمال عند لابلاس لا بمعناه المنطقي، وانما بالمعنى الاحصائي، لكن جوهر اعتراضهم قد انصب على مبدأ عدم التمييز الذي هجروه كلياً (46) .

وعلى العموم ان هناك مذهبين لهذه النظرية، أحدهما يكتفي بالتكرار المحدود في معرفة القيمة الاحتمالية، والاخر ينفي تحديد التكرار بحد معين، انما يجعله طريقاً مفتوحاً بغير نهاية. وتفصيل الحديث عن هذين المذهبين سيكون كالاتي:

مذهب التكرار المتناهي

يُنسب هذا المذهب في الاصل الى الفيلسوف ثيودور فيشنر الذي نُشر عمله بعد وفاته (سنة 7 9 8 1)، وجاء بعده كل من برونز وهيلم (47) ، ثم تبنى المذهب عدد من المفكرين المعاصرين، ابرزهم برتراند رسل، كما في كتابه (المعرفة الانسانية)، وذلك باعتبار ان هذا الاتجاه يسمح بانشاء الاحتمال الرياضي ببساطة، وانه يفي بشروط بديهات الاحتمال وحساباته (48) .

وتتحدد القيمة الاحتمالية في هذا الاتجاه من خلال وجود فئة متناهية تشترك في بعض الافراد بالانتماء الى فئة أخرى. فاذا عرفنا عدد تكرر هذا الاشتراك كان بالامكان تحديد درجة احتمال انتساب أي عضو من الفئة الاولى الى الفئة الثانية، وذلك من خلال ايجاد نسبة رياضية بين عدد الاعضاء المشتركين وبين مجموع كافة افراد الفئة المتناهية (49) . فاذا رمزنا الى عدد الفئة الاولى بـ (ل)، وعدد تكرر الاشتراك لدى اعضائها بـ (ك)، فان قيمة احتمال ان ينضم فرد ما من الفئة الاولى الى الفئة الثانية هو: (ح = ك\ل).

فمثلاً اذا كنا نعرف ان عدد انواع الطفيليات مائة نوع، وكنا نعلم ان خمسة وعشرين منها لها القابلية على توليد المرض للانسان؛ ففي هذه الحالة لدينا فئة متناهية هي الطفيليات، وفئة اخرى هي صفة القابلية على توليد المرض، وايضاً هناك اشتراك بين الفئتين لدى مجموعة من أعضاء الفئتين. لذا ان تحديد قيمة احتمال أن يكون الطفيلي ممرضاً هو: (5 2 %).

هذا هو ما يريده الاتجاه المتناهي للتكرار في فهم الاحتمال. ويلاحظ انه لا ينطبق على الفئات والقضايا غير المتناهية، وان التحديد الرياضي للعلاقة بين عدد الافراد الكلية وعدد تكرر الاشتراك داخلها لا يعطي اي قيمة نهائية للاحتمال فيما لو فرضنا وجود عدد لا نهائي للافراد. الامر الذي دعا المفكرين الى ايجاد صياغة اخرى للاحتمال تأخذ باعتبار الفئات غير المتناهية التي يتشكل منها اغلب قضايا الواقع.

وعلى رأي بريثوايت ان هذا النوع من الاحتمال لا ينفع في التحديد العلمي، ذلك ان الشرط في هذا النوع هو ان يكون عدد الاعضاء في مقام الكسر محدوداً نهائياً، بينما الاحتمال في المجال العلمي لا يصح ان يفترض الحدود والنهاية في الاعضاء، والا امتنع التعميم، ويكون الاحتمال خاصاً بالعدد المحدود من تلك النماذج، مما يجعل القضية عموماً ليست في عداد الافتراض العلمي، حيث مهما نكوّن من عدد المشاهدات فهناك زيادة ربما توظف ضد الفرضية العلمية. مما يعني انه اذا كان بامكان التكرار المحدود ان يؤسس الحقيقة للقضية الاحتمالية بشكل نهائي، فان ما يحصل في المجال العلمي هو غير ذلك بالمرة، اذ كل نتيجة نتوصل اليها انما هي نتيجة مؤقتة قابلة للتعديل بفعل ما يوجد من الاعداد غير المتناهية للحالات (50) .

وهناك عدد من الاعتراضات ابداها المفكر الصدر اتجاه هذا التفسير للاحتمال. فهو يرى ان هذا المذهب يشترط ان يكون لدينا علم بعدد افراد الفئة (ل) و(ك)، مما يعني اننا لو لم نعلم بالتحديد عدد الاعضاء المشتركة بين الفئتين لما أمكن ان نحدد نسبة الاحتمال، لأنها تفترض العلم التام بعدد هذه الاعضاء (51) . كذلك فيما لو لم يكن لدينا علم بوجود اعضاء مشتركة، اي كنا نحتمل ذلك، فانه لا يمكننا ان نحدد النسبة الاحتمالية. كما انه في حالات معينة قد تكون هناك حادثة محتملة الوجود من غير تكرار، ففي هذه الحالة لا يمكن ان يطبق عليها ذلك المفهوم، مثل احتمال وجود زرادشت كانسان كان يدعي النبوة ويدعو الى الاباحية (52) . يضاف الى ان التعريف السابق يزودنا بنسبة إحتمالية كلية، ففي مثالنا السابق عن الطفيليات الممرضة استطعنا ان نستنتج النسبة الاحتمالية لأي طفيلي - لا على التعيين - بقيمة قدرها (1\4) طالما كان لدينا علم بعدد افراد الفئة المتناهية وعدد الاعضاء المشتركة. فهذه النسبة كلية ثابتة لأنها نتجت عن معرفتنا بعدد الفئتين (ل) و(ك). لكن هناك نسبة احتمالية اخرى مشتقة من تلك النسبة الكلية، وهي ما تتعلق بالفرد الواقعي المشخص، كإن نقول - استناداً الى معرفة تلك النسبة الكلية - ان هذا الطفيلي يحتمل له بدرجة (1\4) ان يكون ممرضاً. وعليه فان اضفاء نفس النسبة من القضية الكلية على القضية الواقعية يحتاج الى بديهة تقر بضرورة التطابق بين القضيتين، فبدون هذه البديهة لا يحق لنا تحديد القيمة الاحتمالية للقضية الواقعية (53) .

مذهب التكرار اللا متناهي

يعد جون فن اول من صاغ فكرة الحد في سلسلة صاعدة من التكرار (سنة 6 6 8 1). فتحديد قيمة احتمال الحادثة يأتي عنده من خلال النسبة القائمة بين نوعين من الحوادث في سلسلة طويلة دون توقف، فكلما ازداد استمرارنا في تتبع سلسلة التكرار كلما اخذت النسبة نحو الثبات تدريجاً حتى ينتهي الامر الى الوصول الى قيمة حدية ثابتة (54) . وقد اخذت هذه الفكرة بعداً متطوراً لدى ميزس وريشنباخ. فميزس حدد الاحتمال عبر لحاظ التكرار داخل سلسلة طويلة وكبيرة من النتائج المشاهدة، وذلك حتى يتم التوصل الى قيمة حدية ثابتة، وهي القيمة التي يعتمد عليها في تحديد قياس الحوادث الجديدة (55). اي ان العملية تتخذ شكلاً برنولياً، حيث تختبر الحادثة ضمن سلسلة طويلة من التكرار فيتم تحديد النسبة التكرارية للحادثة، وهي قيمة حد التكرار التي عليها تتحدد قيمة احتمال الحادثة في المستقبل (56).

وتوضيحاً لهذه الفكرة ذكر ميزس مثالاً يتعلق بمعرفة قيمة احتمال ظهور وجه معين من وجهي قطعة نقد، سواء كانت القطعة منتظمة او غير منتظمة. وقد عد في طريقته وجود مسلمة اساسية لابد منها في تحديد الاحتمال، وهي تنص بانه عند تكرار الرمي طويلاً فان النسبة التي سنحصل عليها من ظهور وجه الصورة مثلاً تميل لان تصل الى قيمة محددة ثابتة، وهي قيمة احتمال ظهور ذلك الوجه من القطعة. فكلما زاد التكرار كلما زاد التوقع من الوصول الى قيمة الحد الثابتة.

فعلى هذه المسلمة اخذ يفسر ما جاء في نظرية (برنولي - بوسن) المسماة بقانون الاعداد الكبيرة، وكذا نظرية بايس التي اطلق عليها القانون الثاني للاعداد الكبيرة، لتشابهها بالاول. وينص القانون الاول بانه لو رمينا تلك القطعة من الزهر مرات كبيرة العدد فسوف نحصل باحتمال كبير يقارب الواحد على ما يقارب تلك النسبة. فمثلاً لو رمينا قطعة النقد الف مرة وتبين لنا ان النسبة الاحتمالية قد اخذت الثبات نحو الحد بقيمة احتمالية معينة، فانه على ذلك يمكننا توضيح ما يتعلق بنظرية برنولي، حيث نتوقع انه لو اردنا ان نرمي القطعة الى عدد كبير كإن يكون مليون مرة فانه تبعاً لهذه النظرية سنتوقع باحتمال كبير ان النسبة الاحتمالية التي سنحصل عليها هي ذات تلك النسبة التي حصلنا عليها من قبل، مع اختلاف ضئيل جداً. وعلى نفس الشاكلة قام ميزس بتفسير نظرية بايس او القانون الثاني للاعداد الكبيرة، والذي ينص بانه في حالة وجود عدد كبير من قطع النقد المختلفة وقد اظهرت نسبة ظهور كل واحدة منها في رميات طويلة قيمة حدية معينة، فانه في الرميات الكبيرة مجتمعة سنتوقع ان نسبة تردد ظهور وجه الصورة تتخذ حداً ثابتاً هو نفس ذلك الحد الذي وجدناه لدى مجموع ما ظهر في الرميات الاولى المشاهدة مع اختلاف ضئيل جداً. وعند ميزس انه سواء ما يتعلق بالقانون الاول (برنولي)، او القانون الثاني (بايس)، فان الامر يعتمد على المسلمة الاساسية التي مرت معنا، وبدونها لا يصح القانونان (57) . لذلك فان هناك من اعتبر النظرية التكرارية لها جذور تعود الى قانون الاعداد الكبيرة لبرنولي. بل واعتبرت فكرة هذا القانون حاضرة بشكل مبكر لدى الاوائل من اصحاب هذه النظرية، وعلى رأسهم جون فِن (58) . في حين وجد اصحاب المفهوم التقليدي للاحتمال من نظريات برنولي وبايس جسراً يمررون من خلاله نظريتهم قبال نظرية التحديد التكراري، الامر الذي دعا ميزس الى ان يعد ذلك من المغالطات(59).

ويشترط ميزس ان يكون الاختبار عشوائياً لكي يحقق الغرض من اقتراب ما اخترناه من القيمة الحدية للاحتمال. فاختبار أي صنف فرعي من السلسلة اللا نهائية بشكل عشوائي يمتاز بأنه يتجه ويقترب الى الحد الاحتمالي الثابت للسلسلة الكلية (60) . مع هذا فان مسلمة العشوائية لم يأخذ بها رواد هذا المذهب ممن جاء بعد ميزس، مثل ريشنباخ وسالمون (61) .

وابرز ما تعرض له هذا المذهب من الانتقادات هو كالاتي:

1 ـ لا شك ان اهمية النظرية التكرارية هو ان بامكانها تحديد النسبة الاحتمالية للحادثة عبر التكرار والاختبار حتى في حالة عدم التساوي في الامكانات، وهي النقطة التي تنتقد عليها النظرية التقليدية. فتحديد وجه ما من وجوه قطعة زهر محددة يتم بدقة عبر النظرية التكرارية عندما نكون على علم بعدم تساوي الامكانات بين الوجوه المختلفة. لكن مع هذا هناك حالات قد نتأكد فيها من التساوي دون حاجة للاختبارات التكرارية، وهي النقطة التي تتفوق فيها النظرية التقليدية على التكرارية، رغم ان بامكان هذه الاخيرة ان تعالج مثل تلك الحالات تبعاً لافتراضاتها، لكنها لا تصل الى نفس الدقة التي عليها الاولى.

فمثلاً على الحالات التي لا تضطرنا الى استخدام التكرار كحالة تجريبية، انه لو كانت لدينا عشر كرات متشابهة لكنها موزعة على اصناف من الالوان؛ فان ذلك يكفي لأن يحدد لنا تعيين الدرجة الاحتمالية لسحب أيٍّ منها عشوائياً. والصفة العامة في الدرجة التي نحصل عليها تتسم بالثبات التام، مع ان الاعتماد على مبدأ التكرار الطويل لا يحقق هذه النسبة الا مع وجود فارق ضئيل، مما يعني ان الاجراء الذي نستخدمه وفق مبدأ الامكان هو اولى وأدق من ذلك المستخدم وفق مبدأ التكرار.

يضاف الى ان الاتجاه السابق لا يصدق على القضايا المحدودة للحوادث كالتي يعالجها الاتجاه المتناهي - على مر معنا -، وذلك لأنه يفترض سلسلة لا نهائية لتلك الحوادث. وبالتالي لو اننا طبقنا اتجاه التكرار المتناهي على القضايا المحدودة التي نعلم فيها بتساوي الامكان؛ لكانت النتائج التي نحصل عليها غير دقيقة، كما ان هذه القضايا لا تخضع الى تفسير الاتجاه غير المتناهي كما عليه مذهب ميزس. وإن كان ريشنباخ، على خلاف ميزس، قد كفل بتطبيق طريقته على مثل تلك القضايا المحدودة او النهائية، فضلاً عن تلك التي تتصف بغير نهاية (62) .

كما ان الكثير من القضايا العلمية والحياتية لا تتحدث عن احتمالات التكرارات غير المتناهية. فمثلاً ان شركات التأمين عندما تريد ان تعرض النسب الاحتمالية فانها لا تتحدث عن العلاقة التكرارية بوصفها غير متناهية، بل يكفيها البحث عن العدد الكبير نسبياً لتكوين تلك النسبة. وإن كان هذا الاعتراض لا ينطبق على نظرية ريشنباخ باعتبارها مرنة تتقبل تعديل النسب الاحتمالية عند زيادة التكرار، لكنها في جميع الاحوال لا تعطي ضماناً لاي من التنبؤات، سواء كان هذا الضمان مؤكداً او محتملاً (63) .

2 ـ ان هذه النظرية لا يمكنها ان تتحدث عن احتمالات الحوادث الفردية. فمثلاً عندما يتحدث العالم التكراري عن احتمالات الزواج المنتهية الى الطلاق في امريكا ويجد نسبة لها كإن تكون (1\4)؛ فان ذلك يعني انه يتحدث عن التكرار النسبي للاعضاء من نوعين للحوادث، لكنه لا يتحدث بخصوص الاحتمال الذي يطول هذا او ذاك من الحالات الخاصة للزواج (64) .

وتبعاً للبروفسور برود فان الاعتماد على التكرار والاحصاء ينجح في قضايا يمكن تكرارها باستمرار كما هو الحال مع العاب الحظ والمصادفة، أما في قضايا الواقع فنواجه حالات كثيرة تتعلق بالاحتمال لكنها لا تعالج تبعاً لفكرة التكرار والاحصاء. فمثلاً ان دراسة احتمال ان يبقى رجل محدد - كزيد مثلاً - في سن الاربعين حياً خلال السنوات العشر القادمة، لا تعتمد على التكرار، حيث لا تكرار في مثل هذه الحالة الخاصة، او ان وفاة زيد لم تتكرر من قبل، وهي لا تحدث الا مرة واحدة في العمر. وعندما يقال انه يمكن اخذ اعتبار صفات الرجال الاخرين من نفس الصنف، فذلك غير صحيح ايضاً، حيث لابد من وجود تغايرات في القيمة الاحتمالية نتيجة الكثير من التغايرات الحاصلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها، ولا شك ان جميع هذه العوامل تؤثر على القيمة الاحتمالية لبقاء زيد على قيد الحياة. وهذا النقد الذي افاده برود قد عدّه الاستاذ رايت مهماً ازاء طريقة ميزس التكرارية (65) .

بل ان هذه النظرية لا يمكنها ان تستوعب الاحتمالات التي تتعلق بالفرضيات والنظريات العلمية، باعتبارها فردية وغير قابلة للتكرار، كإن تقيّم نظرية انشتاين في الجاذبية بانها قوية الاحتمال، او يقال بأن هذه القصيدة يحتمل ان تعود الى الشاعر المتنبي، او يقال حول حادثة تاريخية محددة بانها محتملة الوقوع. فمثل هذه الاحتمالات لا تنطبق عليها التكرارات، كما انه لا يمكن معرفة تحديد قيمتها المعرفية (66) . وقد اشار الى هذا النوع من الاحتمالات وتمييزه عن النوع الاخر الخاص بالحوادث عدد من المنطقيين المحدثين، امثال رامسي وبوبر وكارناب ورسل ونيل (67).

3 ـ ان اتجاه ميزس يفترض ان النسبة الاحتمالية للحوادث عند التكرار الكبير للاختبارات العشوائية تقترب من نسبة الحد الثابتة، رغم ان النظرية التكرارية تصرح بكونها تعتمد على الاستقراء والتجربة دون اللجوء الى الافتراضات القبلية كالذي تعمل به النظرية التقليدية، اذ ما الذي يؤكد لنا ان هناك قيمة حدية ثابتة للاحتمال يمكن الاقتراب صوبها؟ هكذا يؤخذ على هذا الاتجاه اعتماده على بعض المصادرات القبلية رغم رفضه لأي فكرة من هذا القبيل. فهو يوجب ان تكون النسبة الاحتمالية التي يحصل عليها في جزء من سلسلة الاختبارات اللا نهائية هي دائماً قريبة من نسبة حد التكرار، ولا شك ان هذا الحكم مفترض ولا يوجد دليل عليه. بل قد يقال ايضاً انه حتى اذا رأينا شيئاً من الثبات النسبي في الاختبارات الكبيرة فان ذلك لا يبرر بقاء هذا الثبات لدى الاختبارات العظمى ضمن سلسلة غير متناهية، فكل قطعة من هذه السلسلة تكون صغيرة وضيقة بالقياس الى ما تبقى منها، وبالتالي كيف يمكن تبرير الثبات في الجزء الاعظم من هذه السلسلة ما لم يعتمد على امر خارج حدود الاختبار والتجربة؟ اذ ما المانع من ان اي نتيجة اخرى نحصل عليها تتحول الى نتيجة اخرى مخالفة عند زيادة الاختبارات؟

على ذلك نقدت هذه النظرية من حيث ان الحدود التكرارية غير قابلة للتحقيق ولا التكذيب في اي تجربة تقام، وذلك لوجود متوالية من السلسلة اللا نهائية، وبالتالي لا يوجد ضمان لوجود الحد في مثل هذه العلاقات الترددية (68) . فعلى رأي البعض انه من الناحية المنطقية لا يمكن مشاهدة القيمة الحدية من العلاقة الترددية، ولا مشاهدة استقلالية كل الامكانات المتاحة للحوادث في السلسلة، انما كل ما يمكن لحاظه هو التعاقب المحدود للحوادث (69) . لهذا ودفعاً لمثل تلك المشاكل فان البعض يرى ان الطريق الاسلم هو الاقتصار على التكرار المتناهي، خصوصاً وان كلاً من العلوم الطبيعية والاجتماعية تقوم على التسليم بمثل هذا النوع من التكرار (70) .

4 ـ ان تقدير النسبة الاحتمالية لأي مجموعة كانت من سلسلة الحوادث اللا نهائية تحتاج الى مصادرة تقرر صدق هذه النسبة في حدود ما اتيح لنا من البحث والفحص؛ مادامت هناك امكانية كبيرة لتعديل النسبة طبقاً لما تكشف عنه الاختبارات اللاحقة. وايضاً فان تعيين النسبة الاحتمالية ومن ثم تقديرها على الحوادث والافراد التي لم تخضع بعد للاختبار؛ يحتاج الى مصادرة قبلية تتعلق بالتعميم ولو كان تعميماً مؤقتاً، حيث أمامنا - هنا - حوادث اضفينا عليها حكماً معبراً عن نفس القيمة الاحتمالية للحوادث السابقة رغم ما بينهما من اختلاف، وهذا يقتضي افتراض مصادرة تبرر لنا التعميم من الحالات الماضية المختبرة على الحالات المستقبلية القادمة. فعلى سبيل المثال يمكن لشركات التأمين على الحياة ان تحصل على نسبة معينة من حوادث الموت خلال عشر سنوات، وهي حين تتعامل مع السنوات القادمة القريبة تستخدم نفس هذه النسبة، فكيف حق لها هذا التعامل ما لم تفترض التماثل او التكافؤ كأنسب اجراء مؤقت؟!

وبعبارة اخرى ان تحديد النسبة الاحتمالية لتنبؤاتنا في القضايا التكرارية يعتمد في الاساس على افتراض تقدير عوامل متكافئة، وذلك لأن التكرار وحده وإن كان يعطي نسبة إحصائية للعلاقة بين الصفة المشتركة وجميع الحوادث التي تم إختبارها، الا أنه لا يمكنه تبرير الحكم بما نتنبأ به في الحوادث الواقعية، فليس لدينا ما يمكن أن يبرر هذا الحكم الا افتراض تقدير التكافؤ في العوامل طبقاً لتلك النسبة الاحصائية التي يحددها مبدأ التكرار. فعلى سبيل المثال: لو كانت لدينا إحصائية تخبر باصابة (5 %) من سكان مدينة بمرض السل الرئوي، فاننا حينما نضفي نفس هذه النسبة على احتمال أن يكون زيد مصاباً بالسل؛ انما يعني أنه لو افترضنا وجود مائة من العوامل المتكافئة الدواعي فان خمسة منها فقط لصالح الاصابة. ولا شك ان هذا التفسير لا يبرره التكرار، وانما يبرره ما افترضناه من ذلك التكافؤ. ففائدة التكرار لا تزيد عن كونه يحدد لنا النسبة الاحصائية التي يعتمد عليها افتراضنا لتعيين القيمة الاحتمالية.

5 ـ كما يلاحظ ان النظرية التكرارية تفترض نوعاً من الاحتمال دون التمكن من تفسيره. فهي تصرح على شاكلة نظرية برنولي من انه عند الاختبارات الكبيرة فان هناك توقعاً باحتمال قريب من الواحد ان النسبة الاحتمالية تميل الى الحد التكراري، او انه كلما زادت الاختبارات كلما زاد التوقع او الاحتمال من ان النسبة الاحتمالية تميل الى الثبات. وهذا يعني ان النظرية التكرارية اذا كان بامكانها ان تفسر لنا الاحتمال بانه عبارة عن الحد التكراري فانها لا تفسر لنا الاحتمال الاخر الذي تقر به ضمناً عندما تقول ان هناك توقعاً واحتمالاً كبيراً جداً - قريباً من الواحد - من ان النسبة الاحتمالية تميل الى الحد، فهي لا تفسر لنا ذلك الاحتمال الكبير البالغ حد الاقتراب من الواحد، بل انها تفترضه سلفاً لتؤسس عليه الاحتمال الاخر. او يمكن القول انها تفسر الاحتمال بالاحتمال، الامر الذي يجعلها تقع اما في الدور او التسلسل او المصادرة على المطلوب.

6 ـ ان النظرية التكرارية لا يمكنها ان تفسر لنا الكثير من القضايا الاحتمالية. فهي عاجزة مثلاً عن تفسير قانون برنولي في الاعداد الكبيرة، حيث ان النسبة الاحتمالية التي يتنبأ بها هذا القانون لم تنشأ على اساس التكرار، بل جاءت نتيجة للتحليل الرياضي القائم على اساس مبدأ الامكان. وبغض النظر عن هذه النتيجة فانه ليس بوسع الانسان - عادة - ان يقيم التكرار في مثل تلك القضايا باعتبارها تتضمن الاعداد الضخمة من الحوادث والاختبارات. وحتى في الحالات التي يمكن للانسان ان يتعامل فيها مع هذه الاعداد فان اعطاء نتائج لا تتفق مع ما يتنبأ به قانون برنولي لا يجعلنا نشكك في كفاءته، بل يدعونا نتوقع سبب ذلك الى بعض الاسباب التي من شأنها حرف النتيجة عن مسارها المتوقع.

وقد كان نيل يرى ان من الغباء الاعتقاد بان نظرية برنولي تحتاج الى التحقيق التجريبي، مثلما هو من الغباء صنع ذلك مع الحساب العددي: (7 +5 = 2 1). فالنظرية تستند الى الضرورة الرياضية، وهي لا تعني ان النتائج تأتي يقينة، فلو رمينا قطعة نقد مليون مرة وظهرت الصورة ما يقارب النصف، فان ذلك مفسر، ولو انه لم تظهر قريبة من النصف وانما قريبة من الربع مثلاً فانه لا يعني خطأ نظرية برنولي، وذلك باعتبار ان كل الامكانات التوزيعية من الصفر الى الواحد محتملة، لكن بعضها اقوى من بعض (71) . وعلى الرغم من ان بعض المؤيدين الاوائل للنظرية التكرارية يرى ان من الضروري رفض الحسابات الاحتمالية المقدمة من قبل برنولي وسائر الرياضيين من القرن الثامن عشر، وذلك لكون هذه الحسابات لها صلة وطيدة بمبدأ عدم التمييز، لكن مع هذا فان اكثر المدافعين المحدثين للنظرية التكرارية تقبلوا تلك الحسابات بعد اضفاء التصور التكراري عليها بعيداً عن مبدأ عدم التمييز (72).

المفهوم التعددي للاحتمال

اعتقد عدد من الباحثين بان هناك نوعين من الاحتمال، احدهما ذاتي عائد الى جهل الانسان، واخر موضوعي له علاقة بالحوادث، وهو يعبر عن نسبة محددة موضوعياً، كالحوادث الفيزيائية والذرية، ولا علاقة له بالجانب الذاتي للانسان (73) . وربما يكون رامسي هو اول من اشار الى حقيقة وجود نوعين من الاحتمال، كل منهما يعالج جانباً لا يعالجه الجانب الاخر، وهو الاحتمال المنطقي والاحتمال الاحصائي او الفيزيائي؛ معتبراً انه ليس من المؤكد ان يكون هناك توافق وانسجام بين هذين النوعين، خاصة وان هناك خلافاً عاماً بين الاحصائيين الذين تبنوا النظرية التكرارية من جهة، وبين المنطقيين الذين رفضوا تلك النظرية من جهة اخرى، وهو الخلاف العائد الى طبيعة المعنى الذي يشير اليه مصطلح ((الاحتمال))، حيث يستخدمه احد الفريقين بمعنى غير ذلك الذي يستخدمه الفريق الاخر. الامر الذي جعل رامسي لا يأخذ باعتبار ما صرح به من ثنائية المفهوم، بل تبنى فكرة الاحتمال المنطقي، اي فكرة درجة الاعتقاد العقلي، كمصدر وحيد له. ففي عبارة كتبها عن المصادفة (سنة 8 2 9 1) انكر فيها ان يكون هناك احتمالات موضوعية سوى ما يتعلق بذلك المعنى من درجة الاعتقاد العقلي (74) .

اما ابرز من نفى ان يكون الاحتمال احادي المفهوم فهو كارناب، حيث اعتبر ان من الواجب الاعتراف بوجود نوعين من الاحتمال، احدهما منطقي واخر تكراري، ويطلق على هذا الاخير احياناً الاحصائي والفيزيائي. وقد سبق لهذا المفكر ان نقد كلاً من كينز وجيفريز الذين رفضا التصور التكراري او الاحصائي للاحتمال، حيث ظنا ان كل قضايا الاحتمال يمكن تأسيسها وصياغتها وفق مفهوم الاحتمال المنطقي. واعتبر كارناب انهما غالا بالامر، واضاف بان هناك تزايداً في عدد الاشخاص الذين يدرسون كلا الجانبين من النزاع والدعوى، حتى انتهوا الى صحة كل منهما من بعض الجوانب دون الاخرى. فالتصور الاحصائي يستفاد منه في الرياضيات والعلوم، ولا يصح هجره واستعاضته بالتصور المنطقي، وكذا العكس صحيح ايضاً، فكلا التصورين يحتاجهما العلم، لكن وظيفتهما مختلفة تماماً. فالاحتمال الاحصائي يصف حالة الشيء الموضوعي، فيزيائية او بيولوجية او اجتماعية، وبالتالي فهو تصور يستعمل في الحالات الخاصة وفي القوانين التي توضح الاطرادات العامة لمثل هذه الحالات. لكن من ناحية اخرى فان الاحتمال المنطقي لا يستخدم في القضايا العلمية، سواء قضايا خاصة او عامة، بل يستفاد منه فقط في الاحكام التي لها علاقة بمثل تلك القضايا، وبالذات الاحكام التي تتعلق بالقوة المستفادة من البينة الى الفرضية، فالاحتمال المنطقي لا ينتمي الى العلم نفسه وانما الى المنهج العلمي (75).

وقد اطلق كارناب على هذا النوع الاخير من الاحتمال بالاستقرائي، حيث عليه ينشأ ما سماه ((المنطق الاستقرائي)) (76) . كما عبّر عنه بالاحتمال1 ، وعن الاحتمال التكراري بالاحتمال2 . وهو يقصد بالاول نفس ما يعنيه كينز من انه عبارة عن درجة التأييد الخاصة بفرض ما تبعاً لوجود بينة هي سبب هذه الدرجة من التأييد. ويستخدم هذا النوع من الاحتمال للتنبؤ. فمثلاً يمكن القول ان من المحتمل بحسب تجاربنا الماضية ان الشمس ستشرق غداً، وانه بحسب تجاربنا السابقة يمكن ان نقيّم نظرية الانفجار العظيم لنشأة الكون بانها قوية الاحتمال، فنحن هنا نتحدث عن احتمال فرضية ما بحسب ما لدينا من بينات وادلة مؤيدة. اما الاحتمال الاخر التكراري، فهو يتضح من النسب الترددية التي نستنتجها في حالات معينة كالعاب الحظ والمصادفة، او في حالات علمية مثل احتمالات سرعات جزيئات الغاز وما اليها (77) . وابسط حالات هذا النوع من الاحتمال هو المعنى المفاد من التكرار النسبي لنوع معين من الحوادث، لكن في حالات اخرى ان الاحتمال الاحصائي لا يشير الى وجود تكرار ملحوظ او حقيقي، وانما الى شيء ممكن ان يكون او يحتمل ان يكون. فمثلاً عند الفحص الفيزيائي لقطعة زهر بشكل جيد قد يتضح انه متماثل الوجوه تماماً، وعند ذلك يمكن الزعم بان احتمال اي من الوجوه هو (1\6)، وهو يعني انه عند السلسلة الطويلة بشكل كاف من الرميات فان التكرار النسبي لاي وجه من هذه القطعة سيكون (1\6). وبالتالي فان قضية الاحتمال هنا تشير الى التكرار الممكن اكثر مما هو الى التكرار الحقيقي. ونفس الشيء يمكن فعله حتى لو لم يكن الزهر متماثل الوجوه، فعند الفحص القبلي يمكن ان يكون الاحتمال المعطى صحيحاً، وبالتالي نحن نتحدث هنا عن القضية التي تشير الى حالة فيزيائية تخص الزهر (78) ، وان الحكم فيها هو حكم واقعي تجريبي.

على انه اذا كان الاحتمال التكراري يتحدث عن الواقع الفيزيائي وهو يقبل التحقيق ولا علاقة له بجهل الانسان واعتباراته العقلية، فان الاحتمال المنطقي لا يتحدث عن الواقع ولا يقبل التحقيق، وانما له علاقة بالبينة المستمدة من بعض الملاحظات التي تتعلق بالواقع، لذا فان ما يتكون لدى زيد من الناس من درجة معينة للاحتمال قد لا يكون نفس الامر بخصوص عمر من الناس، وذلك لاختلاف البينات المتواجدة عندهما، ومع ذلك فدرجة الاحتمال لدى كل منهما تعد صحيحة نسبة للبينة الخاصة بكل منهما، وليس لها علاقة بالواقع، وهي صحيحة ايضاً حتى لو كانت البينة المستمدة من الواقع خاطئة، اذ تظل العلاقة منطقية بين البينة ودرجة الاحتمال من غير ان يكون لذلك علاقة مباشرة بالواقع. او نقول انه يمكن للقيمة الاحتمالية للقضية المنطقية ان تتغير تبعاً لتغير الحوادث، او البينات التي تعتمد عليها، ومن ثم يجوز هجر درجة الاحتمال السابقة واستبدالها باللاحقة (79) . وكل ذلك يعد خلافاً لحال قضية الاحتمال التكراري الذي يعبر عن العلاقة الترددية في سلسلة طويلة من الحوادث، او عن العلاقة في ما يتصف به واقع الحوادث فعلاً. فالاحتمال المنطقي الاستقرائي يتعلق بالقضايا التنبؤية، او تلك التي نجهل حقيقتها، مثل التنبؤ بحادثة مستقبلية، كطبيعة الطقس غداً، او بما ستفضي اليه الانتخابات القادمة، او الافتراض المتعلق بالسبب غير المرئي لحادثة مرئية.. الخ. ومن الواضح ان هذا النوع من الاحتمال ليس تكرارياً او احصائياً، بل له طبيعة منطقية خالصة (80) .

صحيح ان كارناب واجه مشكلة تتعلق بمثل هذه الحالات الفردية من القضايا الاحتمالية، ولم يجد بداً من تفسيرها تبعاً للنوع المنطقي من الاحتمال، اذ كتب يقول: ((يستخدم مفهوم الإحتمال الإستقرائي (المنطقي) ايضاً في الحالات التي يكون فيها الفرض h تنبؤاً متعلقاً بحادث مستقل، مثلاً ان السماء سوف تمطر غداً، او ان الرمية التالية لهذا النرد سوف تكون آساً.. قد يقولون مثلاً: (كيف يمكن تحقيق نص يقول بأن احتمال سقوط المطر غداً هو (1\5) بناءً على الدليل من مشاهدات الظواهر الجوية؟) سوف نشاهد ما اذا كانت السماء ستمطر غداً ام لا تمطر، ولكننا لن نشهد أي شيء يمكنه ان يدقق القيمة (1\5). الا ان هذا الاعتراض مبنيّ على سوء ادراك لطبيعة النصوص المتعلقة بالاحتمال الاستقرائي (المنطقي). فهذا النص لا يعطي قيمة (1\5) للاحتمال الاستقرائي (المنطقي) لمطر الغد، ولكن يعطيه بالأحرى للعلاقة المنطقية بين التنبؤ بالمطر وبين التقرير الخاص بالظواهر الجوية)) (81) .

اذن ليس للنظرية المنطقية لكارناب صعوبة في ان تتحدث عن الحوادث الفردية، وهي بخلاف النظرية التكرارية التي ترفض ان يكون هناك معنى للحديث عن احتمال الحالات الفردية ما لم يكن الطريق الى ذلك عبر الحديث عن التكرار النسبي لمجموعة الحوادث، كالذي سلّم به ريشنباخ، حيث تحدث عن الاحتمال في الحالات الفردية بطريقة غير مباشرة (82) .

وقد اعتبر كارناب ان احد المبادئ الاساسية التي يحتاجها الاحتمال المنطقي الاستقرائي هو ذلك المسمى مبدأ عدم التمييز، والذي ينص - كما علمنا - بانه اذا لم تتضمن البينة اي شيء يؤيد حادثة ما دون غيرها من الحوادث الممكنة، اي اذا كانت معرفتنا متماثلة بالنسبة الى جميع الحوادث، فانها ستكون ذات نسب احتمالية متساوية. فمثلاً اذا كانت البينة تعبر عن ان معرفتنا بان قطعة الزهر تحتوي لا شيء اكثر من كونها منتظمة ومتماثلة الوجوه، فان احتمال اي وجه منها طبقاً لهذه البينة هو (1\6). وكذا لو علمنا ان احد الوجوه لا على التعيين بانه يحمل ثقلاً يجعله اكثر احتمالاً للظهور، فان احتمال كل واحد منها سيساوي (1\6) ايضاً، وذلك باعتبارنا لم نعلم بالضبط اي معلومة اخرى غير هذا الاجمال، وبالتالي فمبدأ عدم التمييز صحيح ونافع في مثل هكذا حالات منطقية، طالما يمكن تقييده بما فيه الكفاية، وذلك تجنباً من الوقوع في النتائج المتناقضة كالتي شهدناها لدى التصور التقليدي للاحتمال (83).

على ان الجديد في نظرية كارناب هو الجمع والتوفيق بين النوعين السابقين للاحتمال. فالاحتمال1 ليس مجرد احتمال يعبر عن درجة التأييد لفرض ما، وانما ايضاً عبارة عن تقدير للعلاقة الترددية في السلسلة الطويلة للحوادث. فكارناب يقول انه في حالات معينة ان الاحتمال1 يمكن ان يتخذ كتقدير للاحتمال2 . فالعلاقة بينهما هي علاقة يعتمد فيها احدهما على الاخر، فهناك قضية الاحتمال الامبيريقية الكمية، وهي من حيث كونها منتزعة عن الواقع فانها تصلح ان تكون بينة في تأسيس قضية الاحتمال المنطقية، حيث يمكن في هذه القضية تقدير الكم الاحتمالي تبعاً لتلك البينة (84) . وكذا يمكن العكس، اذ لو اظهرت التكرارات ان قياسنا للاحتمال1 ليس دقيقاً لكان يمكن تغيير نسبة الاحتمال1 طبقا للاحتمال2 . وواقع الحال أنه في هذه الحالة يتحول الاحتمال2 الى الاحتمال1 ، باعتباره يعبّر عن بينة من القضايا الواقعية، كالذي يشير اليه كارناب (85) .

فمثلاً في قطعة الزهر عندما يتبين لنا انها ذات شكل منتظم ومتماثل من خلال الفحص التجريبي، فان هذه البينة تدعونا الى ان نعتبر كل وجه له قيمة احتمالية هي (1\6)، كنسبة تكرار ممكنة، حيث لا يوجد ما يرجح بعض الوجوه على البعض الاخر، وعليه فان القيمة السابقة تعبر عن الاحتمال2 . وكذا لو تبين لنا خلال الرميات الكبيرة ان ظهور الآس ((1)) كان له نسبة محددة كإن تكون (1\7) مثلاً، فان ذلك يشكل ما يطلق عليه الاحتمال2 ، وهو الاحتمال الذي يلعب دور البينة بالنسبة الى تقدير الاحتمالات المستقبلية، فتقدير احتمال ظهور الآس ((1)) في الرميات المستقبلية لهذه الزهرة هو (1\7)، وهو ما يطلق عليه الاحتمال1 . اي ان الاحتمال1 عبارة عن تقدير للاحتمال2 ، وهذا التقدير خاضع للتغيير فيما لو تبين عبر التكرار الفعلي ان ظهور الاس ليس تلك القيمة وانما اكبر او اصغر منها. ومثلاً اخر لو اردنا ان نعرف نسبة الطلاق عند المتزوجين لدى مليون حالة زوجية في سنة محددة، وقد استخبرنا عدداً منهم وليكن الف حالة فتبين من خلالها (0 0 2) من هذه الحالات قد شملها الطلاق، لذا فطبقاً لهذه البينة فان نسبة الطلاق في هذا العدد هو (1\5)، وهذا هو الاحتمال2 ، فعلى هذا الاحتمال يتأسس الاحتمال1 ، وذلك من حيث كونه عبارة عن تقدير هذا الاحتمال على اي مجموعة من المجموعات غير المختبرة، بما في ذلك كل المجموعات التي تمثل المليون.

هكذا انه عندما نقارن نظرية كارناب بالنظرية التكرارية السابقة، نرى انها تسعى الى تفكيك هذه الاخيرة وتحويلها الى ان تتضمن نوعين مختلفين من الاحتمال بدل ان تقتصر على نوع واحد فحسب، فهي تتفق معها ان النسبة التكرارية تعبر عن الاحتمال التكراري، لكنها تعارضها حول النسبة المضفاة على الحوادث غير المختبرة بعد، فاذا كانت النظرية التكرارية تضفي عليها نفس النسبة من دون ان تجد فرقاً في نوع الاحتمال الممارس لدى الجهتين، فان نظرية كارناب ترى ان النسبة الاحتمالية المفترضة على تلك الحوادث تعود الى نوع اخر من الاحتمال غير الاحتمال التكراري السابق. كذلك فانه اذا كانت النظرية التكرارية كما لدى ميزس تتجنب الحديث عن احتمالات الحادثة المفردة المستقبلية، فان نظرية كارناب يسعها التحدث عنها من منطلق الاحتمال المنطقي.

وعلى العموم ان نظرية كارناب ترى ان كل فرض تنبؤي يشار اليه ببينات من الشواهد والاستدلال فهو يرجع الى الاحتمال1 (المنطقي)، حيث النسبة فيه تقاس الى ما تخبرنا به تلك البينات. أما الاحتمال2 (التكراري) فهو عبارة عن تلك النسبة الترددية الثابتة التي تأتي عبر سلسلة التكرارات الطويلة المختبرة، او عبر ما يطلق عليه كارناب التكرار الممكن، كما رأينا.

لكن على الرغم من اهمية نظرية كارناب في تبرير القيم الاحتمالية التي نضفيها على سلسلة التكرارات للحوادث؛ فان هناك عدة مشاكل تواجهها، وبنظر الاستاذ اير انه لا معنى لنقد التفاصيل التي تخص هذه النظرية، وذلك باعتبار ان كارناب اخذ يغير من ارائه، وكذا فان اتباعه اخذوا يصلحون من نظريته (86) . لكن يظل هناك عدد من النقاط يمكن مناقشتها كالاتي:

1 ـ يلاحظ انه اذا كان الاحتمال التكراري يتقدر عددياً، فان الاحتمال المنطقي الاستقرائي يعالج بالقيم الكيفية دون القيم العددية في اكثر الحالات الحياتية والعلمية، كأن توصف القضية بانها ضعيفة الاحتمال، او توصف مقارنة بغيرها انها اقوى احتمالاً من الاخرى، وهكذا (87) . وعلى رأي عدد من المفكرين المحدثين فان درجة التأييد وما يرادفها مما يطلق عليه درجة التوافق او القبول او المعقولية او غيرها مما يعود الى الاحتمال المنطقي؛ كلها لا تخضع لقوانين الاحتمال وحساباته، وبالتالي فانها تعد بنظر الكثيرين غير احتمالية، ومن الذين اثاروا هذا النقد بوبر وفون رايت وكيندال وغيرهم (88) .

2 ـ يمكن اعتبار قضايا الاحتمال التكراري التي تنتزع عن الواقع بمثابة بينة للفرض الخاص بالاحتمال المنطقي، وهنا يمكن ارجاع الاحتمال التكراري الى الاحتمال المنطقي، وذلك باعتبار ان هذا الاخير يتقوم بحسب البينة وعلاقته بالفرض. ومن ثم فما هو الفارق الجوهري بين الاحتمالين؟ ذلك انه يمكن ان نعتبر الاحتمال واحداً هو الاحتمال المنطقي، وان النسبة التكرارية لا تعد من الاحتمال، بل هي بينة خاصة لتقدير الاحتمال المنطقي للفرض.

3 ـ ان البينة التي يتكئ عليها الاحتمال المنطقي، بل والتكراري ايضاً، هي في حد ذاتها لما كانت تحمل امكانات الخطأ، فانها عبارة عن قضايا قائمة على الاحتمال، اي انها تعتمد على بينة اخرى تؤكد صدقها واعتبارها. واذا كانت نظرية كارناب وغيرها من النظريات السابقة يمكنها ان تفسر لنا الاحتمال المنطقي والتكراري من حيث الرجوع الى ما يعطيه الواقع من بينات، فانها بذلك تصادر سلفاً الاحتمال الخاص بالبينة وتسكت عنه، وكأنها بهذا تفسر الاحتمال بالاحتمال. فما هو نوع الاحتمال الذي يتعلق بالبينة ذاتها، وما هو الفرق بينه وبين الاحتمالين الاخرين المنطقي والتكراري؟

4 ـ ان نظرية كارناب لا يمكن تطبيقها على الاحتمالات الافتراضية كتلك التي تفسر لنا الاحتمالات الخاصة بقضايا السببية، اذ انها ليست تكرارية ولا مستمدة من الواقع مباشرة، وذلك على شاكلة ما تبين لنا في نقدنا للنظرية التكرارية. فهي على هذا لا من الاحتمال1 ، ولا من الاحتمال2 . كما هناك من القضايا الاحتمالية ما لا تعتمد على البينة، ولا انها نتاج التكرار النسبي، بل هي قضايا احتمالية قبلية.

5 ـ هناك من اعتبر وجود انواع مختلفة للاحتمال اكثر مما ذكره كارناب. فالاستاذ آير اعتبر هذه الانواع ثلاثة، احدها الاحتمالات القبلية كالذي يجري عليها حساب المصادفات مثلما هو الحال مع العاب الحظ والمصادفة. وثانيها الاحتمالات التكرارية والاحصائية، وثالثها الاحتمالات ذات احكام التأييد (Judgements of Credibility)، وهي تخص الحوادث الخاصة التي لا تخضع للتقادير الرياضية، كاحتمالاتنا لطبيعة الطقس ليوم غد وما شاكلها (89) . كما عدّ الاستاذ ماكي وجود ما لا يقل عن خمسة انواع للاحتمال اغلبها لا ينطبق عليه ما ذكره كارناب، حيث احدها يأتي بالمعنى الحياتي المألوف حينما نقول ان هذا محتمل، او ان هذا متوقع الحدوث، او غير ذلك. وثانيها يأتي بالمعنى القياسي كالذي عليه التعريف التقليدي للاحتمال، وهو انه نسبة بين عدد الحالات الممكنة الملائمة الى جميع الحالات الممكنة الكلية. وثالثها يأتي بمعنى العلاقة المنطقية بين البينة والفرضية، وهو المطلق عليه الاحتمال1 لدى كارناب، والمسمى بدرجة التأييد. ورابعها يأتي بالمعنى التكراري بكلا شقيه المتناهي وغير المتناهي، وهو ينطبق ايضاً على ما يطلق عليه كارناب الاحتمال2 . وخامسها يأتي بمعنى مصادفات الحادثة الموضوعية المفردة (90) .

نظرية العلم الاجمالي للمفكر الصدر

لم يتعرض المفكر محمد باقر الصدر الى نظريات الاحتمال التي مرت معنا باستثناء نظرية لابلاس والاتجاه المتناهي للنظرية التكرارية، حيث نقدهما معاً واعقبهما بعرض اطروحته الجديدة التي بناها على العلم الاجمالي. وهذا العلم كما مر معنا ينقسم - بحسب رأيه - الى قسمين: أحدهما يقوم على اساس التشابه او الاشتباه كعلمنا بفقدان كتاب ما لا على التعيين، او علمنا بأن أحد طلاب الصف غائب من دون ان نعلم بوجه التحديد من هو الغائب بالذات، فهل هو زيد او عمر او خالد..؟ والاخر يقوم على اساس التمانع او التنافي العقلي؛ كعلمنا بأن تلك الكتابة ليست سوداء ولا زرقاء في الوقت نفسه، لعلمنا باستحالة اجتماع المتنافيات حسب شروط التنافي، وكعلمنا بأن وقوع قطعة الزهر على الارض لا يظهر لنا - في الجهة العليا - الآسين ((1)) و((2)) معاً، حيث اطراف هذا العلم متنافية، فظهور الآس ((1)) يتنافى مع ظهور الآس ((2)) او مع أي آس آخر في قطعة الزهر. أما العلم الاجمالي الاول فلا شك ان اطرافه ليست متنافية، بمعنى ان من الممكن ان يجتمع اثنان منها على الاقل. فمثلاً لو ان بعض الناس اخبرنا بولادة مولود لا نعرف عدده ولا جنسه سوى انه لا يزيد على اثنين؛ فهذا يعني ان من المحتمل ان يجتمع طرفا العلم الاجمالي ويكون المولود عبارة عن اثنين لا واحد. لكن رغم ذلك فان من الممكن تحويل هذا العلم الى علم اجمالي متنافي الاطراف، وذلك بتشكيل اطراف محتملة او ممكنة كالاتي:

1 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكر واحد.

2 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن بنت واحدة.

3 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكر وبنت.

4 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن ذكرين.

5 ـ احتمال ان يكون المولود عبارة عن بنتين.

هذه خمسة اطراف متنافية للعلم الاجمالي للمولود الذي نجهل عدده وجنسه، حيث يستحيل ان يجتمع طرفان فأكثر من تلك الاطراف معاً.

وبهذا يصبح كلا القسمين السابقين من العلم الاجمالي يتضمن التنافي في الأطراف. وعليه يستخلص مفكرنا الصدر النقاط الاربع التالية:

1 ـ ان العلم الاجمالي هو علم كلي غير محدد.

2 ـ ان كل طرف من مجموعة الأطراف يحتمل ان يمثل معلوم العلم الاجمالي غير المحدد.

3 ـ ان عدد هذه الاطراف يطابقه مجموعة الاحتمالات الممكنة، وذلك لأن كل طرف يحتمل له أن يمثل معلوم العلم الاجمالي.

4 ـ يستحيل على مجموعة الأطراف أن تجتمع مع بعض، وأن قيمة مجموعة احتمالاتها لابد أن تساوي العلم أو اليقين، لا أكبر منه ولا أصغر. فكل احتمال هو جزء من العلم، ومجموعها لابد أن يساوي قيمة العلم الثابتة؛ باعتبارها تمثل جميع الاحتمالات الممكنة. ولهذا فان التغير الذي يحصل في زيادة الاطراف المتنافية أو نقصانها لا يغير من تلك القيمة، بل يغير من قيم نفس الاحتمالات لدى الاطراف، حيث زيادتها في العدد يخفض من قيم الاحتمالات التي تمثلها، والعكس بالعكس. لكن يظل مجموع الاحتمالات ثابتاً يعبّر عن رقم اليقين ((واحد))، لا اكبر منه ولا اصغر.

من خلال هذه المعلومات وضع المفكر الصدر تعريفين مختلفين للاحتمال، وذلك كالاتي:

التعريف الاول للاحتمال

ان الصيغة الاولى من تعريف المفكر الصدر للاحتمال قد نصت بما يأتي: ((ان الاحتمال الذي يمكن تحديد قيمته هو دائماً عضو في مجموعة الاحتمالات التي تتمثل في علم من العلوم الاجمالية، وقيمته تساوي دائماً ناتج قسمة رقم اليقين على عدد اعضاء مجموعة الاطراف التي تتمثل في ذلك العلم الاجمالي، فاذا رمزنا الى كل عضو في مجموعة الاحتمالات بـ (س) والى رقم اليقين بـ (ل) والى عدد اعضاء مجموعة الاطراف بـ (ح) فان قيمة (س) هي ناتج قسمة (ل) على (ح)، أي ل\ح)).

ويمكن التعبير عن العلاقة الرياضية السابقة كالاتي:

قيمة (س) = ل\ح = 1\ح

وذلك لأن (ل) تمثل اليقين او العلم الذي هو واحد. والكسر السابق يعتبر رمزاً للاحتمال ذي التصديق الجزئي الذي يمثله (س). ولتوضيح تطبيق هذا التعريف نلاحظ في مثالنا السابق للمولود أن لدينا خمسة أطراف محتملة، كل منها يمكن التعبير عنه بـ (س) الذي يجب أن تكون قيمته تساوي (1\5).

لكن الملاحظ في التعريف السابق أنه يواجه بعض المشاكل كالاتي:

1 ـ انه لكي يمكن أن نستخرج قيمة (س) لأحد أطراف العلم الاجمالي لابد من افتراض ان تكون هذه الاطراف متساوية الاحتمال، وهذا ما يؤدي الى المصادرة على المطلوب، حيث اننا لا يمكن ان نحدد الاحتمال الا من خلال معرفتنا السابقة بتساوي احتمالات الاطراف، ومن ثم فاننا في الواقع نكون قد فسرنا الاحتمال باحتمال آخر. ولدى المفكر الصدر أكثر من تعبير يدل على هذا المعنى من المصادرة. فهو تارة يعرّف هذا الاحتمال بأنه عبارة عن ((تصديق بدرجة معينة ناقصة من درجات الاحتمال)) (91) ، وهو تعريف الشيء بنفسه، اي ان الاحتمال هو الاحتمال. كما تارة ثانية يقر بهذا المعنى ضمناً في بعض مصادراته المعلنة. ففي مصادرته الاولى التي اضافها الى جملة البديهات الست السابقة نصّ على ان العلم الاجمالي ينقسم بالتساوي على اعضاء مجموعة الاطراف التي تتمثل فيه (92) . مع انه لا يفهم من هذا التساوي سوى التساوي في الاحتمال، فنكون قد عرفنا الاحتمال باحتمال اخر مفترض. ويؤيد هذا المعنى ما ذكره بصدد تحديد العلم الاجمالي الذي عليه أقام تفسيره للاحتمال، وهو ان لهذا العلم مجموعة احتمالات يطابق عددها عدد مجموعة اطراف العلم الاجمالي (93) ، فلولا افتراض هذه المجموعة من الاحتمالات وتساويها لما أمكن ان يحدد لنا الاحتمال الذي صاغ تعريفه وتحديده. أي انه عرّف الاحتمال باحتمال آخر، مثلما فعل لابلاس من قبل.

2 ـ ان هذا التعريف يشترط ان يكون البسط في احتمال (س) هو واحد دائماً، مع انه توجد الكثير من الاحتمالات التي لا يعبّر البسط فيها عن ذلك. فمثلاً لو كانت لدينا خمس كرات ثلاث منها سود مع كرتين بيضاويتين، واردنا ان نعرف قيمة احتمال سحب كرة بيضاء واحدة منها - عشوائياً -، فمن الواضح ان النتيجة هي (2\5)، مما يعني ان البسط في احتمال (س) لا يعبر عن واحد. ولأجل توضيح ذلك نتبع الطريقة التالية:

توجد لدينا في المثال السابق خمسة اطراف متنافية ومتساوية الاحتمال كالاتي:

1 ـ احتمال سحب الكرة البيضاء الاولى.

2 ـ احتمال سحب الكرة البيضاء الثانية.

3 ـ احتمال سحب الكرة السوداء الاولى.

4 ـ احتمال سحب الكرة السوداء الثانية.

5 ـ احتمال سحب الكرة السوداء الثالثة.

من هذه الاطراف الخمسة المتنافية يكون احتمال سحب الكرة البيضاء الاولى هو (1\5)، وكذا بالنسبة للكرة البيضاء الثانية حيث يساوي احتمال سحبها (1\5). وفي هذه الحالة ان احتمال (س) المعبر عن اي كرة بيضاء هو:

1\5 + 1\5 = 2\5

وقد يقال بأن (س) هنا قد قامت على احتمالات أخرى يكون البسط فيها مساوياً للواحد. وهو صحيح، لكن احتمال (س) المحدد في التعريف هو غير تلك الاحتمالات. اضافة الى أنه في حالات أخرى قد لا يتحقق مثل هذا المضمون. فمثلاً لو كانت هناك حادثة تقع مرتين في كل ثلاث مرات، فاحتمالها يكون (2\3)، مع ان هذا التقدير - إن لم نتكلف في تبريره - لا يرتكز على احتمال آخر بسطه يعبّر عن الواحد الصحيح، بل ما يبرره هو افتراض وجود عوامل ثلاثة، اثنان منها لصالح الوقوع وآخر لعدمه.

3 ـ إن التعريف السابق لا يمكنه أن يفسر لنا القضايا التي يمكن أن تكون فيها (س) منفية أو مثبتة، أي تلك التي تساوي صفراً او واحداً، وذلك لأن (س) يشترط فيها أن تعبّر دائماً عن التصديق الناقص.

4 ـ هناك نوع من الاحتمال لا يخضع لتحديد القيمة العددية، كما سنتعرف عليه فيما بعد..

التعريف الثاني للاحتمال

أما التعريف الثاني الذي اقترحه المفكر الصدر فينص بأنا لو تصورنا ان مجموعة اطراف العلم الاجمالي تشتمل على مراكز، بحيث ان كل عضو من هذه الاطراف يحتل مركزاً واحداً من تلك المراكز، فسيكون احتمال (س) عبارة عن نسبة ما تحتله من مراكز الى مجموعة اطراف ذلك العلم.

ومن الناحية الرياضية فان قيمة (س) = ل\ح

حيث (ل) تمثل المراكز التي تحتلها (س)، و(ح) هي مجموعة اطراف العلم الاجمالي.

وبهذا يكون الكسر (ل\ح) رمزاً لنسبة البسط في المقام، وفي نفس الوقت فانه يحدد درجة احتمال (س).

وطبقاً لهذا التعريف اذا أردنا أن نعرف في مثالنا السابق عن المولود قيمة احتمال ولادة ذكر واحد فقط، فسنرى هناك مركزاً واحداً لصالح هذا الاحتمال من مجموع الاطراف الخمسة، أي أن هذا الاحتمال هو (1\5). ولمعرفة قيمة احتمال أن يكون المولود ذكراً واحداً على الاقل فسنلاحظ هناك ثلاثة مراكز لصالح هذا الاحتمال، حيث إما أن يكون المولود ذكراً مجرداً أو ذكرين أو ذكراً وبنتاً، فهذه ثلاثة مراكز في مجموع الأطراف الخمسة، مما يعني أن قيمة الاحتمال تصبح (3\5).

ونقطة اختلاف هذا التعريف عن السابق هو انه لا يشترط أن يكون البسط حاملاً لرقم اليقين ((1))، ومن ثم فباستطاعته تفسير القضايا التي يعجز عن تفسيرها التعريف الاول. كما أنه لا يشترط أن تكون (س) تعبّر دائماً عن التصديق الناقص مثلما هو الحال مع ذلك التعريف، اذ يمكن لها ان تحصل على درجة النفي التام (الصفر) او التصديق الكامل (الواحد).

مع ذلك ما زالت هناك بعض الصعوبات التي يواجهها هذا التعريف كالاتي:

1 ـ انه كما في التعريف السابق لكي نحدد قيمة احتمال (س) لابد من افتراض التساوي في احتمالات الاطراف المتنافية تبعاً لمبدأ عدم التمييز، مما يعني المصادرة على المطلوب. وقد اعترف المفكر الصدر - في بعض المناسبات - بتساوي الاحتمالات كشرط في تعريفه (94) .

2 ـ ان تعريف الاحتمال على اساس مفهوم المراكز يعني نفس المفهوم الذي حدد فيه لابلاس نسبة الحالات الملائمة الى الحالات الممكنة الكلية. فتعريف المراكز يشترط تفصيل العلم الاجمالي الى ما أمكن من الاطراف المتنافية، وهو تعبير يتفق تماماً مع استخراج الحالات الممكنة الكلية التي يشترطها لابلاس. كما أن القول بالمراكز التي تحتلها (س) بالنسبة الى مجموع الأطراف يتفق مع مقولة لابلاس في الحالات الملائمة لـ (س) بالنسبة الى الحالات الممكنة الكلية. وبذلك يتبين وحدة التفسير لدى كل من النظريتين، اذ لا فرق بينهما في طريقة تحديد معنى الاحتمال وقيمته، اضافة الى ما يصدق عليهما من الوقوع في القبلية نظراً لقيامهما على مبدأ عدم التمييز الذي يفترض التساوي في حالة عدم وجود ما يرجح بعض الاحتمالات على البعض الاخر.

3 ـ ان أي نسبة احتمالية مقدرة للحادثة يمكن ان تكون نسبة خاطئة اذا ما أخذنا باعتبار ان الاطراف والمراكز المحددة يُحتمل لها ان تكون غير صحيحة، مما يعني ان الاحتمال الذي أسسناه انما يعتمد على احتمال قبله. وليس من حل لهذه المعضلة الا باللجوء الى افتراض التقدير، وذلك بالمزاوجة بين ما هو عقلي وما هو استقرائي على ما سنرى.

يضاف الى ان هناك من الاحتمالات ما لا تخضع الى القيم العددية اطلاقاً.

وجهة نظر جديدة في الاحتمال

نعتقد ان نقطة ضعف النظريات السابقة في ان تجد سبيلها الى اعطاء نتائج مرضية تخص الاحتمال؛ يعود الى انها أهملت أحد أقسامه الرئيسية، فلم تضع يدها على تحديده ونشأته وعلاقته بتبرير سائر انواع الاحتمال. فعلى رأينا تنقسم الاحتمالات الى قسمين أساسيين عليهما تُشتق سائر الانواع الاخرى، نطلق على أحدهما الاحتمال السوي، وعلى الآخر غير السوي. وهذا الأخير هو حجر الزاوية الذي تتأسس عليه وظائف الاحتمالات (البعدية) الاخرى، كما انه الاساس الذي به يمكن تبرير الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي لاثبات وتفسير الاشياء. وقد سبق لبرنولي ان استشعر المشكلة التي تخص عملية توحيد الانواع المختلفة للبينات في الواقع الموضوعي، ليتسنى حساب الاحتمالات بطريقة الامكانات المتساوية مثلما يجري الحال مع العاب المصادفة، وقد وجد نفسه عاجزاً امام هكذا مشكل (95) .

وكما قلنا انه يتأسس على القسمين الرئيسيين الانفي الذكر عدد من الاحتمالات، وذلك من خلال الاعتماد على النسبة العقلية الرياضية التي تحدد العلاقة بين الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، أي انها عبارة عن قسم آخر من الاحتمال، هو الاحتمال الرياضي الذي بدونه لا يمكن اشتقاق سائر الانواع الاخرى من الاحتمال، على ما سيتضح لنا فيما بعد.

أـ الاحتمال السوي

وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم تمييز الحالات بعضها عن البعض الآخر، مثلما هو حاصل في حالة القطع بوجود تماثل بين الحالات الممكنة للحدوث او فيما لو لم نجد هناك ما يميز الحالات بعضها عن البعض الآخر. اذ ينشأ لكل حالة احتمال يساوي في مقداره احتمال غيرها من الحالات الاخرى، فتتوزع الاحتمالات على الحالات بالتساوي، وذلك بتبرير مستمد من مبدأ عدم التمييز.

وعن هذا القسم يتأسس عدد من الاحتمالات النوعية الاخرى، نطلق عليها كلاً من الاحتمال المنطقي والحدي والقبلي والتقديري.

ب ـ الاحتمال غير السوي

وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم وجود تماثل او انتظام بين الحالات الممكنة للحدوث، ويبرره مبدأ التمييز او اختلاف الحالات وعدم انتظامها. فهو احتمال يعبر عن وجود قرائن تختلف في قوتها الاحتمالية إزاء احتمال حادثة ما يراد اثباتها او تفسيرها. فمثلاً عندما نريد ان نفسر نشوء الارض بافتراض انها منشقة من الشمس؛ نجد هناك عدداً من القرائن التي تعمل لصالح هذا الفرض، وهي قرائن تختلف فيما بينها من الناحية النوعية، كقرينة سخونة باطن الارض واتجاه حركتها وبعدها عن الشمس وما الى ذلك من القرائن التي تفتقر الى ما يبرر توزيع الحصص المتساوية للاحتمال عليها، لعدم تماثلها. وكمثال آخر على ذلك، ما يواجهه علماء الحديث من وجود اختلاف في القرائن النوعية بين الروايات. فمثلاً ان الرواية الضعيفة السند لها قرينة تختلف نوعاً عن الرواية الضعيفة المتن، وبهذا الاختلاف فان الحصص الاحتمالية المقدرة لكل منهما لا يمكن ان تكون متساوية. كذلك انه في الرواية الضعيفة السند، قد ينشأ الضعف من ضعف الحافظة، كما قد ينشأ من عدم الثقة واحتمال الكذب او الوضع، يضاف الى ان لقصر السلسلة السندية وطولها دوراً في ذلك، وكل هذه الحالات وغيرها تعد انواعاً مختلفة من القرائن التي لا تجد ما يبرر توزيع الحصص الاحتمالية عليها بالسوية. الامر الذي يفسر لماذا كان علماؤنا يعدون الحديث المتواتر لا يخضع - اطلاقاً - للتحديد العددي من الرواية، فقد يتحقق التواتر بعدد قليل منها، كما قد لا يتحقق حتى مع العدد الكبير، وما ذلك الا بفعل الاحتمالات غير السوية التي تبديها القرائن المختلفة.

على ان عدم امكان رد القرائن المختلفة الى القرائن المتماثلة التي تبرر العمل بالتسوية الاحتمالية يجعلها تقدّر تقديراً كيفياً من غير عد حسابي الا بنوع من المسامحة والتقدير، قد تعظم وقد تصغر.

مع ذلك فان بهذا القسم من الاحتمال يتأسس نوع هام من الاحتمالات هو الاحتمال (التفسيري الاستقرائي) الذي به تتشكل حلقة الوصل في تأسيس الاحتمالات البعدية التي يبرر العمل بها طبقاً للتسوية الاحتمالية، وبالتحديد انما يتم تأسيس كل من الاحتمالين الحدي والتقديري على ما سنرى.

ج ـ الاحتمال الرياضي

سبق ان ذكرنا بأن جميع انواع الاحتمال تتأسس إما على الاحتمال السوي او غير السوي، لكن كما قلنا ان تأسيسها يفترض وجود نسبة رياضية بين عدد الحالات الملائمة والحالات الممكنة الكلية، فبدون هذه النسبة لا يمكن اشتقاق أي نوع من انواع الاحتمالات، وعليه فان هذه النسبة هي عبارة عما نطلق عليه الاحتمال الرياضي. وبذا يكون الاحتمال الرياضي هو حلقة الوصل التي بها يتم تأسيس الاحتمالات المشتقة.

فالاحتمال الرياضي هو عبارة عن النسبة المقدرة بين عدد الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، بغض النظر عما تكون عليه هذه الحالات من تساو او غير تساو. أي ان هذه النسبة تفترض سلفاً وجود الاحتمال، لذا فانها تعتمد على القسمين السابقين من الاحتمال. كما ان النسبة بهذا الشكل هي نسبة رياضية ثابتة بالقدر الذي يحدد فيه عدد كلا المجموعتين من الحالات. وهي بهذا الشكل غير المشروط تتحدث عن فرد افتراضي ليس له علاقة بالواقع الموضوعي للحادثة. الا ان عليها تعتمد سائر الاحتمالات المشتقة الاخرى، وذلك تبعاً للشروط التي تخص تلك الحالات كما سيتضح لنا كالآتي:

الاحتمالات المشتقة

وهي من حيث التفصيل كالاتي:

1 ـ الاحتمال المنطقي

وهو احتمال عقلي ليس له صفة الاخبار عن الواقع الموضوعي او عن الحادثة المحتملة خارجاً، ويتصف بالضرورة القطعية والكلية الشرطية، فكلما كان هناك تماثل او انتظام بين الحالات الممكنة، فان احتمال ظهور الحادثة يعبر عن النسبة - الرياضية - ما بين الحالات الملائمة للحدوث وبين جميع الحالات الممكنة، وذلك تبعاً لتقرير الاحتمال السوي الذي به تتوزع القيم الاحتمالية على جميع الحالات بالتساوي طبقاً لمبدأ عدم التمييز. فمبرر هذا الاحتمال مستمد من الاحتمال السوي الذي يشترط التماثل بين الحالات الممكنة للحدوث. كما ويشترط تحديد عدد كل من الحالات الممكنة والملائمة. فمثلاً يمكن تقرير انه اذا ما كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه فان احتمال ظهور أي وجه منها يساوي (1\6). وهو احتمال عقلي ثابت وضروري لا يقبل التغيير بحسب ما افترضنا له من مقدمات.

وفارق هذا الاحتمال عن غيره، هو ان بقية الاحتمالات تتحدث عن وقائع خارجية، كإن نريد ان نعرف قيم احتمالات ظهور كل وجه من أوجه هذه القطعة من الزهر، حيث في هذه الحالة سنواجه مشاكل واقعية ابرزها مشكلة التماثل بين الوجوه. ذلك ان تحديد القيم الاحتمالية بشكل متساوٍ لجميع الحالات الممكنة يعتمد أساساً على افتراض انها منتظمة او متماثلة الشكل، لكن كيف نتحقق ليثبت لنا هذا التماثل او الانتظام؟ وما العمل فيما لو وجدنا اختلافاً بين الوجوه؟ فكل ذلك يجعلنا نخرج عن دائرة الاحتمال المنطقي لنلج دائرة الاحتمالات الاخبارية على ما سنعرف.

2 ـ الاحتمال الحدي

وهو احتمال ناتج عن وجود قرائن متماثلة وعدد ثابت ومعلوم من الحالات الممكنة الكلية والملائمة، وقيمته تعبر عن نسبة الحالات الملائمة للحادثة الى الحالات الكلية التي تتساوى في قيمها الاحتمالية طبقاً لمبدأ عدم التمييز.

فنشأة هذا الاحتمال مبررة بحسب وجود الاحتمال السوي تبعاً للتماثل بين الحالات. ويلاحظ انه لا يختلف في تحديده للقيمة الاحتمالية عن الاحتمال المنطقي، لكنه مع هذا يختلف عنه في كونه احتمالاً اخبارياً يتحدث عن واقعة موجودة فعلاً. بينما لا يتحدث الاحتمال المنطقي عن واقعة محددة ولا يخبر بشيء عن الموضوعات الخارجية. كذلك يمكن القول ان هذا الاحتمال انما ينشأ - حقيقة - بفعل الاحتمال المنطقي القائم على النسبة الاحتمالية الرياضية، ولولاه لما أمكن تحديد قيمته الحسابية. فنحن لا يسعنا تحديد نسبة الحالات الملائمة للحادثة الى الحالات الكلية الا من منطلق عقلي صرف، بحيث لسنا على استعداد لاختبار ما افترضناه من قانون النسبة وجعلها. وبالتالي فأي خطأ نكتشفه في نتيجة الاحتمال الحدي لا يجعلنا نشكك بحقانية النسبة العقلية بين مجموعتي الحالات، وانما نشكك بالمحتوى الذي تتضمنه شروط هذا الاحتمال من صدق التماثل وتحديد عدد الحالات الملائمة والكلية.

وتتم عملية استنتاج الاحتمال الحدي بالشكل التالي:

بحسب الاحتمال المنطقي فان احتمال الحادثة هو عبارة عن نسبة الحالات الملائمة الى الحالات الكلية الممكنة، وذلك عند افتراض تحقق كل من التماثل وعدد حالات المجموعتين. ومن حيث الواقع نجد هناك ما يفي بهذه الشروط من التماثل وتحديد عدد المجموعتين بشكل قاطع. لذا فان الاحتمال الحدي انما يعبر عن نفس تلك النسبة بين الحالات، وان النتيجة المترتبة على هذه النسبة هي ذات النتيجة. فواقع الامر ان الاحتمال الحدي هو احتمال عقلي اخباري يستمد تبريره من الاحتمال المنطقي. وهو على هذا لا يقبل التشكيك طالما سلمت مقدماته، الى درجة انه حتى لو اظهرت لنا بعض الاحصاءات ان نسبة ظهور الحادثة في الواقع لم تكن بنفس القدر الذي حددناه عقلياً، فان ذلك وإن كان قد يبعث على الشك بصحة الشروط الخاصة بالتماثل وتحديد العدد لمجموعتي الحالات، الا انه لا يبعث على الشك بالحكم العقلي طبقاً لافتراض صدق هذه الشروط، أي اننا لو كنا لسبب ما متأكدين تماماً من صدق الشروط لما صح التنازل عن النتيجة حتى ولو أظهرت الاحصاءات الاخبارية عدم اتفاقها مع الاحتمال المحدد سلفاً، ولاعتبرنا ذلك ناتجاً عن وجود صدف كثيرة عارضة منعت من تحقق النتيجة. مع ما يلاحظ بأنه لا يشترط ضرورة ان يتفق الحكم الاحتمالي الحدي مع الواقع، رغم الجانب العقلي للاول، بدلالة انه في اختبارات ألعاب المصادفة ان احتمال المطابقة التامة بينهما هو احتمال ينتفي احياناً ويضعف احياناً اخرى. فرمية واحدة او اي رميات فردية لقطعة النقد لا تحقق حالة التطابق بين الاحتمال القبلي وما يحدث في الواقع، كما ان احتمال المطابقة التامة بين الاحتمال القبلي لمائة رمية - مثلاً - وبين ما يحدث في الواقع هو احتمال ضعيف.

على ان مشكلة الاحتمال الحدي تتعين بالتحقق من شروطه، فكيف يمكن التأكد من عدد كل من الحالات الممكنة الكلية والملائمة، وكيف يمكن اثبات التماثل فيما بينها؟ ففي الحالات الاحصائية كيف يمكن معرفة ان احصاءنا صحيح دون ان ندخل فيه اضافات او ننقص منه اخريات؟ وكيف نتحقق من ان ما أحصيناه هو ذات الافراد المطلوبة؟ كذلك انه في السلسلة المفتوحة او غير المتناهية هناك مشكلة اخرى تتعلق بمبرر تعميم القيمة الاحتمالية على الحالات التي لم تخضع للملاحظة والاختبار، اذ نواجه هنا مشكلة التحقق من ثبات الشروط الخاصة بالتماثل وعدد كل من الحالات الممكنة والملائمة.

هكذا فان التعرف على الحلول الخاصة بما عرضناه من مشاكل يحيلنا الى الدخول في احتمال آخر له اهمية خاصة هو الاحتمال التفسيري المتأسس على الاحتمال غير السوي. وبالتالي يمكن القول ان الاحتمال الحدي الذي ينتمي الى حضيرة الاحتمال السوي مدين في نشأته ووجوده الى الاحتمال غير السوي. فمثلاً نحن نحتمل في بادئ الامر ان هناك تماثلاً وعدداً محدداً من الحالات الكلية والملائمة، وان هذا الاحتمال انما يتحقق بوجود قرائن مختلفة تبرر وجود الاحتمال غير السوي، وكلما ازددنا تحرياً في التحقق من التنمية الاحتمالية لتلك الشروط كلما احتجنا الى التفتيش أكثر عن القرائن المختلفة الدالة على تلك الشروط، وبالتالي ازددنا اعتماداً على ممارسة وتوظيف الاحتمال غير السوي، حتى يتحقق الامر بمصادرة القطع واليقين اذا ما كانت القرائن المختلفة ذات قوى احتمالية متعاظمة. الامر الذي يؤكد كون الاحتمال الحدي لا ينشأ الا بفعل تأسيس الاحتمال التفسيري القائم على الاحتمال غير السوي، رغم ان تبريره انما يتم بفعل الاحتمال السوي طبقاً لمبدأ عدم التمييز كما علمنا.

3 ـ الاحتمال التفسيري

وهو الاحتمال الذي ينشأ حول فرض معين يراد التحقق منه استناداً الى وجود عدد من القرائن المختلفة التي تبرر القيم الاحتمالية غير السوية. وكثيراً ما يستخدم هذا النوع من الاحتمال في الفروض والنظريات العلمية، وكذا في اثبات الاشياء وتعليلها، وهو يتأثر بما يقابله من نظائر للفروض المنافسة. وتعود اهميته الى كونه يمثل العنصر الأساس الذي بوسعه ان يحقق بناء الدليل الاستقرائي لاثبات القضايا الخاصة بشكل لا تصدق عليه الشبهات المألوفة كتلك الواردة بحق التعميمات الاستقرائية. واذا كانت هناك شبهة محددة تلوح سلامة هذا الدليل فليس غير انه يقوم على مورد للاحتمال لا يقبل العد الحسابي، طبقاً للاختلاف النوعي للقرائن التي تبرر عدم التسوية الاحتمالية.

مع هذا فان عدم هذه التسوية لا يمنع من بلوغ مرحلة القطع واليقين. فطالما هناك تعاظم وتنمية في الكيفية الاحتمالية طبقاً لزيادة القرائن المختلفة الدالة على الفرض؛ فان ذلك يهيء الوصول الى تلك المرحلة عندما لا نحتاج فيه الى قرائن جديدة اضافية، حيث تتحول العملية الى حالة ذاتية من اليقين يمكن تفسيرها طبقاً للاطار العام لنظرية المفكر الصدر.

هكذا فليس لنا من طريق آخر غير تلك القرائن الاحتمالية غير السوية التي بتعاظمها تتحقق مصادرة القطع واليقين في تحقيق الفروض واثبات وجود الاشياء وتفسيرها. كذلك انه لا يوجد غيرها من طريق يمكننا ان ننشئ به الاحتمالات البعدية، أي تلك التي تنحصر بكل من الاحتمالين الحدي والتقديري.

ففيما يخص الاحتمال الحدي يمكن للاحتمال التفسيري ان يثبت الشروط التي تحققه، وهي التماثل والعدد الخاص بكل من الحالات الكلية والملائمة. فمثلاً اننا لو أردنا ان نحدد نسبة احتمال سحب كرة واحدة بيضاء في صندوق يحوي خمس كرات؛ اربع منها سوداء اللون، فنحن هنا وإن كنا نعتبر هذا الاحتمال احتمالاً حدياً، اذا ما افترضنا ان هناك تماثلاً بين حوادث السحب للكرات، وان عددها والوانها كما قدرناه قبل قليل، الا ان واقع الامر ان تحديد الشروط المذكورة لا يتم من غير الرجوع الى احتمال سابق يعمل على اثباتها، الامر الذي يحققه الاحتمال التفسيري القائم على الاحتمال غير السوي. فلابد ان نثبت ان أمامنا كرات بالفعل، وان عددها خمس، وان واحدة منها بيضاء لا أكثر ولا أقل. فلو اننا تحققنا من ذلك لكان من السهل تحديد القيمة الاحتمالية لسحب الكرة البيضاء طبقاً للاحتمال الحدي. وكما علمنا انه ليس بوسعنا اثبات ذلك من غير وجود قرائن مختلفة من الناحية النوعية، وان ذلك لا يمنع من بلوغ تحقيق حالة اليقين الذاتي. فمن الممكن مثلاً ان نجري عدة اختبارات مختلفة تؤكد لنا ان ما في الصندوق هي كرات حقيقية بالفعل، من خلال رؤيتها، ولمسها، وربما الاستعانة بآخرين للتأكد منها، او حتى أخذ صور فوتوغرافية وهكذا.. كذلك يمكن التأكد من اوزانها واحجامها وحرية حركتها، كما يمكن التأكد من الوانها واعدادها بحسب عدد من القرائن المختلفة. فبعد التأكد من كل ذلك فان بالامكان ان نقطع بأن الصندوق يحمل ما افترضناه من الكرات، وان بالامكان ان نؤسس على ذلك الاحتمال الحدي. وعليه لولا الاحتمال التفسيري المؤسس على الاحتمال غير السوي ما كان بالامكان تأسيس ذلك الاحتمال، ولا كان يمكن بلوغ القطع واليقين عن اي شيء استدلالي يخبر عن الواقع الموضوعي. فاثبات هذا الواقع مدين للاحتمال التفسيري.

ويرد بهذا الصدد سؤال مهم يمكن ايضاحه بعد المقدمة التالية:

سبق ان علمنا ان بواسطة الاحتمال التفسيري يتم اثبات الاشياء وتماثلاتها وبالتالي يتحقق تبرير العمل بالاحتمال السوي، وان هذا الاحتمال (التفسيري) قائم على وجود الاحتمالات غير السوية التي تبررها اختلاف القرائن، مما يعني ان التماثل يستدل عليه بهذا الاختلاف. فالاختلاف هو الاساس في اثبات الاتفاق او التماثل وليس العكس. لكن السؤال الذي يرد بهذا الصدد: ما هو الدليل على الاختلاف ذاته؟

لا شك انه ليس بوسعنا ان نتخذ من التماثل او الاتفاق ما يكون أداة لاثبات الاختلاف، والا لوقعنا بحلقة من الدور والتسلسل. والحل هو ان اثبات الاختلاف من حيث الاصل انما يتم عبر الادراك المباشر من غير حاجة الى اي دليل. فنحن حينما نريد ان نثبت التماثل لابد في أول الأمر ان نثبت وجود الشيء الذي يحتمل ان يكون متماثلاً مع غيره. ولأجل ذلك لابد من ان نستعين بقرائن مختلفة لها علاقة باثبات الشيء. فمن الناحية الاولية ليس لدينا غير الاحساسات المباشرة يمكن ان نستعين بها، وذلك عبر حواسنا الخمس، ولا شك ان كل احساس يعد حادثة من الحوادث المختلفة، لهذا فانها لا تحتاج الى ما يدل عليها باعتبارها تدرك مباشرة باختلاف انواعها، لكن بتعدد هذه الاحساسات يمكن ان نثبت وجود الشيء.

فمثلاً عندما ترى شجرة وتشك في حقيقتها، اذ قد تكون وهماً محضاً كما قد تكون شيئاً آخر يتراءى لك بأنه شجرة، فانه لأجل اثبات ذلك او تنمية احتماله لابد من مزاولة قرينة اخرى مختلفة، كإن تذهب الى المكان وتمد يدك لترى إن كانت ستقع على شيء او على لا شيء، وإن كان احساسك باللمس يثير خشونة او لا؟ وهكذا يمكنك التحقق بما تحتمله وتشك به، ولو انك فعلت شبيهاً بهذا الأمر مع شجرة اخرى عبر احساساتك المختلفة، فانك عن طريق الادراك المباشر ستدرك إن كان الشيئان متماثلين كشجرتين مثلاً، او غير متماثلين. اذ لو كانت الصور الحسية المشتركة لكل منهما تعطي صورتين متماثلتين لدل ذلك على تماثل الشيئين ووجود عناصر مشتركة بينهما، وبالتالي فان الاختلاف هو الاساس في اثبات التماثل، وان اثبات الاختلاف من حيث الاصل انما يحصل عبر الادراك المباشر.

4 ـ الاحتمال القبلي

وهو الاحتمال الناشئ ابتداءً من غير بينة ولا مقدمات، كاحتمالنا لوجود مخلوقات طبيعية حية في المجرات الاخرى من السماء، وهو احتمال حقيقته لا تستند الى معرفة مسبقة من القرائن البعدية التي لها دور في تحديد القيمة الاحتمالية، لذلك فليس لهذا الاحتمال من حكم الا على ضوء (التقدير) بحسب الحالات الممكنة القبلية، والتي يفترض ان يقدر لها التساوي طالما لا نعلم عنها اي شيء يمكن ان يميز بعضها عن البعض الاخر لجهلنا بذلك، بخلاف ما رأيناه في الاحتمال الحدي الذي هو ايضاً يقوم على الاحتمال السوي، لكنه لا ينطوي على جهل بمثل تلك الناحية، بل من شروطه العلم بالتماثل بين الحالات، في حين نحن مع الاحتمال القبلي ليس لدينا علم بالتماثل وانما نفترض هذا التماثل افتراضاً لنبرر به الاحتمال السوي وبالتالي نقيم عليه الاحتمال القبلي كحكم تقديري يقبل التغيير لأي معرفة بعدية لها علاقة بهذا الاحتمال. ففي مثالنا السابق توجد لدينا حالتان ممكنتان ومتنافيتان، وكونهما قبليتين لا نعلم عنهما شيئاً فان التقدير المبرر بشأنهما هو ان يفترض ان لكل منهما احتمالاً يساوي احتمال الاخر، او ان احتمال كل منهما عبارة عن (1\2).

لكن هناك حالات من الاحتمال القبلي لا تخضع للتقدير. فمثلاً لو علمنا ان هناك كائنات حية في احدى المجرات السماوية نجهل عددها، ونجهل إن كانت قليلة او كثيرة، ففي هذه الحالة ان اي عدد يطرح هو عدد محتمل من دون تقدير كمي او كيفي.

5 ـ الاحتمال التقديري

وهو الاحتمال الذي ينشأ عند عدم القطع بشروط الاحتمال الحدي. فقد علمنا ان هذه الشروط تثبت من خلال الاحتمال التفسيري، وبه يبرر العمل بالاحتمال الحدي. لكن اذا لم يكن بوسع الاحتمال التفسيري ان يثبت تلك الشروط من التماثل بين الحالات وكذا عددها الكلي وعدد الملائمة للحادثة منها؛ فان ذلك يبرر العمل بالاحتمال التقديري، اي جعل النسبة الرياضية مقدرة للحادثة في الواقع.

وبعبارة اخرى ان الاحتمال التقديري يتم في حالة حدوث واحد او اكثر من الشروط الثلاثة التالية:

1 ـ عدم القطع بالتماثل.

2 ـ عدم القطع بعدد الحالات الملائمة وكذا الحالات الكلية.

3 ـ عدم القطع بثبات واحد او اكثر من الشرطين السابقين في السلسلة المفتوحة.

وهذا يعني ان الاحتمال التقديري قائم على احتمال آخر يخص تلك الشروط. فكل شرط يعبر عن مضمون احتمالي، وبالتالي فان الاحتمال التقديري يقوم إما على احتمال التماثل، او على احتمال عدد الحالات الكلية وكذا الملائمة، او على احتمال ثبات ما سبق من التماثل وعدد الحالات. وهو ما يميزه عن الاحتمال الحدي الذي يجري فيه القطع بتلك الشروط. وتوضيح ذلك يكون كالاتي:

الشرط الاول للتقدير

وهو الشرط الذي يتضمن عدم القطع بالتماثل او الانتظام. ذلك انه لو كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه بقيمة احتمالية كبيرة، لنفترض اننا قدرناها بـ (5 9 %)؛ لكان ذلك يعني اننا نحتمل القيمة الاحتمالية (1\6) لكل وجه منها بنسبة احتمالية قدرها (5 9 %). أي اننا في واقع الامر عاملنا هذا الاحتمال طبقاً لما نعامل به الاحتمال الحدي من تحديد النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية، لكن مع فارق هام، وهو ان النسبة المحددة في الاحتمال الحدي هي نسبة ثابتة وصحيحة (0 0 1 %)، لذلك لا يمكن ان يجري عليها اي تغيير في الاختبارات البعدية. في حين انه في الاحتمال التقديري ان نسبة التقدير ليست ثابتة ولا قطعية، وانما هي محتملة بدرجة ما، كتلك التي قدرناها بـ (5 9 %).

الشرط الثاني للتقدير

في هذا الشرط اننا اذا لم نتأكد من مجموع الحالات الملائمة للحادث وكذلك عدد الحالات الكلية في السلسلة المتناهية، بحيث نحتمل ان هناك زيادة او نقيصة، او كنا على علم بوجود خطأ ما غير محدد في الزيادة والنقيصة، فان ذلك يبعث على تقدير القيمة الاحتمالية. حيث تكون القيمة غير مؤكدة، او انها تقوم على احتمال آخر، لذلك فهي مقدرة وقابلة للتغيير من خلال الاجراءات الاختبارية الاخرى، وكذا يجري نفس الحال مع هذه الاختبارات ما لم يتم التأكد من العدد الخاص بالحالات الكلية والممكنة فضلاً عن التماثل او الانتظام.

مثلاً لو ان السجلات السكانية أظهرت لنا ان عدد نفوس قرية ما في سنة محددة هو (0 0 5)، وان عدد المتوفين منهم في تلك السنة هو (5)، لذا تكون النسبة الاحتمالية للوفاة عبارة عن (1 %). لكن هذه النسبة يمكن ان تكون تقديرية وليست نهائية او حدية، وذلك فيما لو كان هناك احتمال بأننا قد أخطأنا العدد، سواء بالنسبة الى عدد النفوس، او بالنسبة الى عدد المتوفين منهم، على فرض ان هناك تماثلاً في امكانية الوفاة. اذ من المتوقع ان لا تكون تلك النسبة صحيحة طالما انها تقديرية وقابلة للمراجعة باستمرار. ولو فرضنا اننا قدرنا بأن هناك احتمالاً في الخطأ يقارب الـ (0 1 %)، فان ذلك يعني ان القيمة الاحتمالية للوفاة هي محتملة بنسبة قدرها (0 9 %). أي اننا حينما نقدر تلك القيمة لابد من ان نأخذ بعين الاعتبار ما لها من القوة الاحتمالية التي تعمل على تحديد قدر مصداقيتها. وهذه القوة ليست معنية بتقدير نسبة الوفاة، وانما معنية بتقدير احتمال صدق هذه النسبة.

كذلك يصدق الاحتمال التقديري في حالة ما اذا كنا نقطع بوجود خطأ مجمل دون امكانية تحديده، فلو علمنا اننا اخطأنا تحديد العدد الكلي لافراد القرية دون ان نعلم إن كان هذا الخطأ لصالح الزيادة او النقيصة، فان تقدير القيمة الاحتمالية للوفاة تصبح مربوطة بنسبة هذا الخطأ. فلو كنا مثلاً قد علمنا ان نسبة هذا الخطأ الاجمالي بـ (0 1 %)، لظلّت القيمة الاحتمالية للوفاة مقدرة بـ (1 %)، رغم قطعنا بخطأ هذه القيمة، لكنها تبقى قيمة تقريبية ليس لدينا ما يبرر رفعها او خفضها طالما كنا لا نعلم إن كان الخطأ لصالح الرفع او الخفض.

الشرط الثالث للتقدير

يتحدد هذا الشرط بوجود سلسلة مفتوحة او غير متناهية مع فرض عدم القطع ببقاء حالة التماثل وكذا عدد الحالات الملائمة ومجموع الحالات التي يجري فيها الاختبار، اي ان احد هذين الشرطين يكون محتملاً بالنسبة للحالات المستقبلية. ذلك اننا نواجه عادة نوعين من السلسلة المفتوحة، احدهما ينطبق عليه الاحتمال الحدي، والاخر ينطبق عليه الاحتمال التقديري الذي نحن بصدد بحثه كالاتي:

1 ـ لو كان لدينا قطع بثبات تماثل الحالات وعددها والملائمة منها فان ذلك يفضي الى ثبات الاحتمال في السلسلة المفتوحة. ففي مثالنا عن قطعة الزهر المتماثلة الوجوه، لو كنّا على علم بأن التماثل سيظل طيلة ما سنقيمه من الرميات، فان النسبة الاحتمالية المحددة بـ (1\6) ستظل ثابتة على الدوام. ولا شك ان هذه القيمة تعود الى الاحتمال الحدي الذي يشترط القطع بتلك الشروط. ومنه يستخلص قانون برنولي الذي يؤكد على اننا كلما زدنا في الرميات او الاختبارات فان النسبة الاحتمالية البعدية لجميع الرميات المقامة انما تقترب شيئاً فشيئاً باضطراد من الاحتمال المحدد سلفاً.

2 ـ يلاحظ في الحالات الاحصائية المفتوحة والغير متناهية اننا حتى لو تمكنا فعلاً من التأكد من التماثل وكذلك عدد الافراد التي تم اختبارها، ومن ثم كان باستطاعتنا ان نحدد القيمة الاحتمالية لكل حادثة ضمن المجموعة المختبرة بحسب ما ينص عليه الاحتمال الحدي، فمع ذلك ليس بالاستطاعة قبول هذه النسبة كأمر ثابت طالما اننا نحتمل او نتوقع طروء التغير المفضي الى عدم التماثل او مجموع عدد الحالات الكلية وكذا الملائمة التي من شأنها تغيير القيمة الاحتمالية الاولية، وعليه لابد من تقدير هذه القيمة واعتبارها غير نهائية، لكونها نسبة قائمة على الاحتمال نظراً الى التوقعات المستقبلية.

فمثلاً على عدم ثبات التماثل انه لو كانت لدينا قطعة زهر متماثلة الوجوه، لكنها مصنوعة من مادة ركيكة، بحيث انها يمكن ان تتشوه ولا تنتظم عند الرميات الكثيرة، ففي هذه الحالة لا يمكننا ان نعتبر كل رمية مستقبلية تعطي ذات القيمة الاحتمالية القبلية (1\6)، طالما نحتمل ان الوجوه في المستقبل سوف لا تتماثل، لذلك فليس أمامنا سوى تقدير الرميات المستقبلية بهذه القيمة، بالرغم من ان الرميات الاولى تعطي قيماً ثابتة لقطعنا بثبوت التماثل والانتظام.

أما ما يخص احتمالات التغير في مجموع عدد كل من الحالات الكلية والملائمة؛ فيمكن ان نضرب عليها المثالين التاليين:

لنفترض انه قد تبين لنا من خلال احصاء دقيق اجري لسنة معينة ان نسبة مراجعة المرضى لأحد المستشفيات من عدد سكان احدى المدن هي (1 %)، وقد تأكد لنا عدد المرضى المراجعين وكذا عدد سكان المدينة، فمع ذلك لا يمكننا ان نعتبر هذه النسبة ثابتة بحيث نطبقها على اي سنة قادمة، وذلك لأن من المتوقع ان لا يثبت كلا العددين من الحالات، باعتبارهما يخضعان الى عوامل كثيرة عارضة تلعب دوراً في حرف تلك النسبة. لذلك تظل النسبة السابقة تقديرية وقابلة للمراجعة والتعديل باستمرار.

كذلك لو تبين لنا من خلال احصاء ان نسبة المدخنين في قرية ما هي (0 3 %)، وذلك بعد التأكد من عدد النفوس وعدد المدخنين منهم، فمع ذلك ليس هناك ما يبرر بقاء هذه النسبة كما هي في المستقبل، ومن ثم تظل النسبة السابقة تقديرية للحالات المستقبلية.

***

ونستخلص مما سبق ان العمل بالاحتمال التقديري لا يتم ما لم يؤخذ باعتبار الاحتمال المنطقي. ذلك ان نشأة النسبة التقديرية انما تتم بجعلها كما لو كانت نسبة حدية فيها يفترض القطع بالشروط بصورة مؤقتة. لكن حيث ان الاحتمال الحدي لا يقوم من غير الاحتمال المنطقي، لذا فان الاحتمال التقديري هو ايضاً لا يمكنه ان يستغني عن هذا الاحتمال. حيث انه الوحيد الذي يسوغ اعتبار النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية، وانه اذا كان لابد من العلم بعدد هذه الحالات لتتحدد من خلالها القيمة الاحتمالية، فانه لا يشترط في ذلك ان يكون العلم قطعياً، بل يكفي افتراضه عند الظن الكبير ومن ثم تقدير القيمة الاحتمالية. أي سواء علمنا قطعاً بعدد الحالات - فضلاً عن التماثل - كما في الاحتمال الحدي، او كنا نظن بذلك كما في الاحتمال التقديري، فان القيمة الاحتمالية المصاغة لابد وأن تمر عبر ما يحدده الاحتمال المنطقي.

كما نستخلص ان هناك ثلاث حالات من الصيغ مما يصدق عليها تطبيق الاحتمال التقديري كالاتي:

احداها فيما لو كان اثبات الشروط المذكورة يحمل قيمة احتمالية كبيرة جداً وإن لم تتحدد بنسبة حسابية معينة، حيث فيها يقدر صدق الشروط، ثم تعامل كما لو كان الاحتمال احتمالاً حدياً، ويظل انه قابل للمراجعة والتصحيح من خلال الاختبارات البعدية، سواء في السلسلة المتناهية او غير المتناهية. فمثلاً اننا لو فحصنا قطعة زهر وتوصلنا الى انها منتظمة بشكل كبير يقارب التمام، وقد تأكدنا ان عدد وجوه القطعة ثابت وكذا الحالات الملائمة، ففي هذه الحالة يمكننا ان نفترض مؤقتاً نفي الفارق البسيط في عدم الانتظام لكونه ضعيفاً جداً، ونعامل الحالة كما لو اننا بصدد قطعة تامة الانتظام، لذلك فان احتمال كل وجه من وجوهها يقدر بـ (0 0 1 % _ 0 0 1 % _ 1\6= 1\6). وهذا التقدير يجعلنا نتوقع ان ظهور اي وجه في الرميات الكبيرة سوف يقترب من هذا المعدل. فهو تقدير مبرر بوجود الانتظام الكبير مع القطع بعدد الوجوه والوجوه الملائمة للحدوث. كما انه يقبل التعديل بحسب ما تظهره الرميات الكبيرة. لذلك فان التقدير يظل وارداً ما لم يتم التأكد من وجود انتظام وتماثل في الامكانات الاحتمالية للوجوه الستة.

والحالة الثانية هو فيما اذا كان من الممكن التأكد او افتراض وتقدير القيمة الاحتمالية للشروط بنسبة احتمالية معينة. ففي مثالنا السابق لو اننا افترضنا عدم الانتظام بنسبة ضئيلة كإن تكون عبارة عن (1 %)، مع علمنا القطعي بعدد الحالات الكلية والملائمة، ومن ثم اجرينا النسبة بين عدد الحالات الملائمة والحالات الكلية، فان النسبة الاحتمالية المقدرة بـ (1\6) هي نسبة غير قطعية، بل لها قوة احتمال قدرها (9 9 %). وهذا يعني ان توقعنا لاحتمالات الوجوه المستقبلية في الرميات الكبيرة يقارب النسبة المذكورة بحسب درجة تلك القوة. وتظل النسبة قابلة للتعديل. ونفس الامر يجري فيما لو كنا مترددين بالقطع في الانتظام، كإن نحتمل وجود عدم تماثل بين الوجوه بقيمة ضئيلة، ففي هذه الحالة نفترض مؤقتاً حالة التماثل ثم نحدد قيم احتمال الوجوه الستة ونقدرها كما لو اننا كنا قاطعين بالامر، وندع هناك فرصة لتعديل النتائج بحسب ما تظهره الرميات الكبيرة.

على انه كان من الممكن ان نفعل مثل ذلك حتى في حالة كون النسب الاحتمالية للشروط نسباً ضعيفة لولا ان النتائج المستخلصة ستكون ذات قيم ضئيلة لا يعول عليها. فسواء اننا تأكدنا من هذه النسبة، او كان باستطاعتنا تقريبها حسابياً؛ فان من الممكن ان نحدد القيم الاحتمالية لأي حادثة كما لو كنا نقطع بصدق الشروط ثم نقدرها على ارض الواقع مع أخذ اعتبار ما لها من نسبة احتمالية. فاذا كانت هذه النسبة ضعيفة كما في الفرض السابق؛ فان القيمة الاحتمالية المقدرة ستكون ضعيفة الصحة او المصداقية. فمثلاً لو كنا نعتبر ان شرط التماثل ضعيف يمكن تقديره بـ (0 2 %)، وان شرط العدد الكلي للحالات يمكن تقديره بـ (0 8 %)، ولنفترض اننا نقطع بشرط الحالات الملائمة، اي انها ذات نسبة (0 0 1 %). وحيث ان الاحتمال التقديري يتوقف على جميع هذه النسب، فان بضرب هذه القيم تكون النسبة عبارة عن (6 1 %)، وهي نسبة ضعيفة تعبر عن ضعف الاحتمال التقديري للحادثة، فلو ان الحادثة قدرناها بـ (1\2)، لكان يعني ان نسبة صدق هذا الاحتمال هي نسبة ضعيفة تقدر بـ (6 1 %).

أما الحالة الثالثة ففيها قد تخضع الحادثة المراد تقدير احتمالها لعوامل مختلفة ومتباينة، وبالتالي من الممكن بطريقة الاحصاء تحديد النسبة الرياضية وتقديرها على الواقع العام للحادثة. أما الواقع الشخصي لها فحيث انه لا يعلم نسبة تماثل امكانها مع غيرها؛ لذا تكون النسبة الرياضية المقدرة عليها هي نسبة غير دقيقة. فلأجل الدقة لابد من دراسة الحادثة دراسة شخصية قائمة على القرائن المختلفة. فمثلاً لو أنّا قمنا بدراسة احصائية لتحديد نسبة المدخنين في بلد معين، وتبين خلالها ان هذه النسبة عبارة عن (0 2 %) من مجموع عدد السكان، فصحيح انه يحق لنا تقدير هذه النسبة على سكان البلد عموماً، الا ان تقديرها على كل فرد من هؤلاء السكان هو تقدير غير صحيح ولا دقيق. فعلى الاقل ان هذه النسبة قد تكون كبيرة جداً بالنسبة لصغار السن، حيث لا يتوقع للطفل الصغير ان يمارس هذه العادة، وقد تنتفي في حالة الرضّع منهم، كما ان هناك تباينات في النسب الاحتمالية بالنسبة للافراد بحسب ما ينتابهم من ظروف ثقافية واجتماعية، ولا يصلح تقدير القيم الاحتمالية على الظواهر الشخصية من هذا القبيل الا بفعل تطبيق الاحتمالات غير السوية.

خلاصة النتائج الاخيرة

يمكن تلخيص ما طرحناه عبر النقاط التالية:

1 ـ ان جميع الاحتمالات كما مرت معنا انما تتأسس إما على الاحتمال السوي، او على الاحتمال غير السوي، وذلك بفعل الاحتمال الرياضي. وبالتالي ليس هناك احتمال مستقل دون ان يعتمد على غيره من الاحتمالات سوى هذه الأقسام الثلاثة من الاحتمال.

2 ـ ان تعريف الاحتمال السوي عبارة عن نسبة المتماثلات في الامكانات نسبة واحدة متساوية. فهو تعريف الشيء بنفسه، لذا انه لا يقبل التعريف. وفي قباله الاحتمال غير السوي حيث انه عبارة عن نسبة غير المتماثلات في الامكانات نسبة متباينة غير متساوية. وهو بالتالي تعريف للشيء بنفسه. أما الاحتمال الرياضي فهو عبارة عن النسبة العقلية بين عدد الحالات الملائمة للحادثة والحالات الممكنة الكلية، فهي نسبة تفترض ابتداءً وجود احتمالات مسبقة معبر عنها بالحالات الممكنة، سواء كانت سوية او غير سوية.

3 ـ ان ما يميز الاحتمال السوي هو مبدأ عدم التمييز، في حين ان ما يميز الاحتمال غير السوي هو مبدأ التمييز.

4 ـ ان الاحتمال الرياضي هو الاحتمال الوحيد الذي يسوغ اعتبار النسبة بين الحالات الملائمة والحالات الكلية. وانه بهذا التسويغ يكون العمل بالاحتمالات الاخرى مبرراً.

5 ـ ان جميع الاحتمالات المشتقة هي احتمالات اخبارية يمكنها ان تتحدث عن الوقائع الخارجية الا الاحتمال المنطقي.

6 ـ تتفق النتيجة في الاحتمالين الحدي والمنطقي، والفارق بينهما هو ان الاول اخباري بخلاف الثاني، كما ان الاول قائم على الثاني ولولاه لما كان صحيحاً.

7 ـ ان الاحتمال القبلي والاحتمال المنطقي ينشآن بشكل صرف طبقاً للاحتمال السوي. كما ان الاحتمال التفسيري ينشأ طبقاً للاحتمال غير السوي. في حين ان كلاً من الاحتمالين الحدي والتقديري رغم انهما ينشآن طبقاً لتبرير الاحتمال السوي، الا ان شرط قيامهما يعتمد في الاساس على الاحتمال غير السوي.

8 ـ بالرغم من ان الاحتمال التفسيري يقوم على الاحتمال غير السوي الا ان به يتم تكوين الاحتمالات البعدية المتمثلة بكل من الاحتمالين الحدي والتقديري. وبذلك ان الاحتمال التفسيري هو الوحيد الرابط بين الاحتمالين السوي وغير السوي.

9 ـ ان العد الحسابي للاحتمال ينشأ بفعل الاحتمال السوي او مبرر مبدأ عدم التمييز. وعليه فليس جميع الاحتمالات ما يمكن اخضاعها للعد الحسابي الا بنوع من المسامحة والتجاوز.

0 1 ـ رغم ان الاحتمال التفسيري لا يقبل العد الحسابي باعتباره قائماً على الاحتمال غير السوي؛ الا ان به يمكن اثبات القضايا وتفسيرها ومن ثم ايجاد الشروط التي يمكن من خلالها تبرير العد الحسابي.

1 1 ـ مع ان الاحتمال التفسيري هو أساس نشأة كل من الاحتمالين الحدي والتقديري؛ الا ان الفارق بينهما هو ان الأول ثابت وصحيح لكونه ينشأ طبقاً لشروط قطعية، في حين ان الثاني يتصف بعدم القطع والثبات لكونه ينشأ طبقاً لشروط غير قطعية. أي ان الشروط التي تهيء العمل بالاحتمال الحدي والتقديري هي شروط متقابلة تتوقف على الموقف من القطع. فاذا كانت الشروط تتضمن القطع فالاحتمال القائم عليها هو الاحتمال الحدي، أما اذا كانت لا تتضمن القطع فالاحتمال الناشئ منها هو الاحتمال التقديري.

2 1 ـ تتحدد مشاكل الاحتمالات البعدية بقضية اثبات كل من التماثل وعدد الحالات الكلية والملائمة.

الهوامش

(1) Bruno De. Finetti, _Foresight: Its Logical Laws, Its Subjective Sources_, in: Kyburg and Smokler, Studies in Subjective Probability, 1937, printed in the U.S.A, 1964, p156. .

(2) Clark Glymour, _Why I am not a Bayesian_, Theory and Evidence, 1981,The Philosophy of Science, ed. by David Papineau, Oxford University Press, New York, 1996, p. 292.

(3) فرانك، فيليب: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الاولى، 3 8 9 1م، ص3 9 3 و4 9 3 .

(4) F.N. David, Games, Gods and Gambling, Printed in (UK), Glascow, ed.1, 1962, p.34-35.

(5) Ian Hacking, The Emergency of Probability, First Published 1975, First Paper Back Edition 1984, Cambridge University Press, p.6-7.

(6) M.A. Todhunter, A History of the Mathematical Theory of Probability, Chelsea Publishing Company, New York, 1949.

(7) William Kneale, Probability and Induction, First Edition 1949, Reprinted 1963, At The University Press, Oxford, p.123. .

(8) A. C. King and C. B. Read, Pathways to Probability, Printed in the U.S.A, 1963, p.22.

(9) David; p.34.

(10) Rudolf Carnap, _Statistical and Inductive Probability_, in: Madden, The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.271-272.

(11) Hacking; p.15-16 and 143.

(12) Laplace, _Probability and its Principles_, in: Madden; p.251. See also: George Boole, The Laws of Thought, Dover Pulications, 1958, p.251 and 253. And also: Kneale; p.170. And: John Patrick Day, Inductive Probability, edited by Ayer, New York, The Humanities Press, 1961, p.128.

(13) Day; p.129. See also: D. A. Gillies, An Objective Theory of Probability, United Kingdom, William Clowes and Sons limited,1973, p.11.

(14) Kneale; p.119. And: Day; p.125. Also: Karl Popper, The Logic of Scientific Discovery, United Kingdom, Anchor Press, First Impression 1959, Seventh Impression, 1974, p.148.

(15) E.T. Jaynes, Papers on Probability, Statistics and Statistical Physics, Holland, D. Reidel Publishing Company, 1983, p.217.

(16) Popper; p.148.

(17) Kneale; p.150-151.

(18) Jaynes; 200-201.

(19) Richard Von Mises, Probability, Statistics and Truth, New York, Dover publication, 1957, p.72-73

(20) Day; p.129.

(21) Kneale; p.172.

(22) J. L. Mackie, Truth, Prabability and Paradox, United Kingdom, Oxford University Press, 1973, p.200.

(23) Edward H. Madden, _Introduction; Philosphy Problems of Phisics_, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.244.

(24) Henry E. Jr. Kyburg, Probability and Inductive Logic, U.S.A, 1970,

p.34-35.

(25) Mises; p.68 and p.80.

(26) Day; p.129. See also: C. D. Broad, Induction, Probability and Causation, Holland, D. Reidel Published Company, 1968. p.192.

(27) الاسس المنطقية للاستقراء، ص9 6 1 وما بعدها. .

(28) Mises; p.69 and p.79.

(29) Jaynes; p.213.

(30) Carnap; p.272-273.

(31) Cohen;1989; p.74. See also: Storrs McCall, A Model of the Universe, New York, Oxford University Press, 1996, p.142. Also: Russell, B. Human Knowledge, London, 1948. p.393.

(32) Kneale; p.9.

(33) Hacking; p.148.

(34) McCall; p.141-142.

(35) Emile Borel, _A Propos of a Treatise on Probability_, in: Kyburg and Smokler, Studies in Subjective Probability, U.S.A, 1964, p.49.

(36) Russell; 1948; p.391-392.

(37) McCall; p142. See also: Gillies; p.10-11.

(38) Broad; p.55-56.

(39) Carnap; p.272-273.

(40) Hacking; p.73.

(41) Carnap; p.272.

(42) Kneale; p.150.

(43) Mises; p.79-80. Also: Kneale; p.151.

(44) Hacking; p.53.

(45) John Venn, _Difficulties of the Classical View of Probability_, in: Madden; p.256.

(46) Carnap; p.272.

(47) Mises; p.83 and p.22-23.

(48) Russell;1948; p.356. See also: Kyburg; 1970; p.127.

(49) Russell;1948; p.356. See also: Kneale; p.152.

(50) Richard Bevan Braithwaite, Scientific Explanation; Based Upon the Turner Lectures, Cambridge University Press, 1955. p.123-124.

(51) لاحظ، ص3 8 1 .

(52) لاحظ، ص1 8 1 و4 8 1 .

(53) لاحظ، ص0 8 1 ـ1 8 1 .

(54) Day; p.133.

(55) Mises; p.65.

(56) Broad; p.195.

(57) Mises; p.125.

(58) Mises; p.22-23.

(59) Broad; p.193.

(60) Mises; p.23-24.

(61) Mortimer; p.36.

(62) Kyburg; 1970; p.44.

(63) Lenz, _The Frequency Theory of Probability_, in: Madden; p.265. Also: Lenz, The Pragmatic Justification of Induction , in: Madden; p.302.

(64) Lenz, _The Frequency Theory of Probability_, in: Madden; p.266.

(65) Broad; p.186-187. See also: George Henrik Von Wright, _Broad on Induction and Probability_, in: Broad; p.266-267.

(66) Lenz. _The Frequency Theory of Probability_, in: Madden; p.267. See also: Kyburg; 1970; p.48.

(67) Braithwaite; 1955; p.119.

(68) McCall; p.143. And Broad; p.195.

(69) Day; p.134.

(70) Cohen; 1989; p.52.

(71) Kneale; p.140.

(72) Kneale; p.150.

(73) McCall; p.140.

(74) Gillies; p.27-28.

(75) Carnap; p.273-274.

(76) A. J. Ayer, _The Conception of Probability as a Logical Relation_, in: Madden; p.279.

(77) Gillies; p.28.

(78) Carnap; p.270.

(79) Kyburg; 1970; p.83-84.

(80) Carnap; p.270-271.

(81) فلسفة العلم، ص3 0 4 ـ4 0 4 .

(82) Lenz, _The Frequency Theory of Probability_, in: Madden; p.266.

(83) Carnap; p.271 and 274.

(84) Day; p.135.

(85) فلسفة العلم، ص3 0 4 .

(86) Ayer; 1972; p.38.

(87) Popper; p.270.

(88) Popper; p.270 and p.392-393. Also: Tricker; p.60.

(89) Ayer;1972; p.27-28.

(90) Mackie; p.154, 156-157 and 189.

(91) محمد باقر الصدر: الاسس المنطقية للاستقراء، ص1 9 1 .

(92) المصدر السابق، ص0 0 2 .

(93) المصدر السابق، ص0 9 1 .

(94) المصدر السابق، ص5 1 2 و8 1 2 .

(95) Hacking; p.150.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار