المثقف الديني ونماذج العلمانية

يحيى محمد

مفهوم المثقف من المفاهيم الحديثة التي شهدت الكثير من الاختلاف والتباين في الاراء. فتارة يُقصد به من تكون وظيفته عبارة عن العمل الفكري في قبال الاعمال اليدوية، وهو بهذا يشمل اهل الاختصاص وغيرهم من ذوي الاهتمام بالقضايا العلمية والمعرفية. كما قد يُقصد به ذلك الذي يحمل معارف وعلوماً لها علاقة واهتمام بقضايا المجتمع العامة. فالطبيب والمهندس والفيزيائي وغيرهم من ذوي الشهادات العلمية الطبيعية لا يعدون من المثقفين، بينما يعد الفقهاء ومنتجي الاراء والافكار السياسية ومن على شاكلتهم ضمن هذه القائمة، وذلك لما لهم من معارف عامة لها علاقة بقضايا المجتمع. وهناك من يرى انه لا بد للمثقف من عنصرين تكوينيين: احدهما الدرجة العلمية العالية كشهادة الدراسات العليا التي تجعل من الدارس يمتاز بمعرفة مميزة. والثاني هو المعرفة الحديثة التي ميزتها الاعتماد على العلوم والاداب الحديثة، وقد أُشرط لذلك ان يكون المثقف حاملاً للغات الاجنبية لاهميتها البالغة من حيث كونها لصيقة بتلك المعارف ومدخلاً لها، او على الاقل >التعلق بقراءة المترجمات<. وهذا يعني ان الفقيه والعالم الديني لا يعدان من ذوي الثقافة؛ لافتقارهما للعنصر التكويني الثاني عادة (برهان غليون: تهميش المثقفين ومسألة بناد النخبة القيادية، دراسة ضمن: المثقف العربي همومه وعطاؤه، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 5991م، ص19).

والواقع نحن ازاء >كائن<>المثقف<. وما ذُكر سلفاً لا يعد شرطاً ضرورياً في تكوين ما يُفهم من هذا الكائن. نعم لا بد ان يكون المثقف حاملاً لمعارف متعددة مختلفة، وان هذه المعارف ليست بمعزل عن قضايا المجتمع العامة، وتمتاز بانها تعتمد بدرجة كبيرة على الواقع وكذا العقل بما لهما من دور تكويني، وقد يضاف اليهما مصادر معرفية اخرى كتلك المستمدة من الوحي او النص. فالثقافة بهذا المعنى ظاهرة واسعة التحقق في عالمنا اليوم، سواء نتج ذلك عن الدراسات الاكاديمية مباشرة او بفعل الجهود الذاتية للافراد. لكن المهم هو ان لا تنحصر المعرفة بحدود التخصص، بل تمتد الى ضروب مختلفة من المعرفة مع القدرة على التفكير والتمييز بكل ما له علاقة بالافكار ذات الصلة بالمجتمع.

على هذا فان في تركيبة المثقف عدة عناصر ضرورية يمكن اجمالها على الشكل التالي:

1ــ يتصف المثقف بأنه ذو قدر واسع من الاطلاع والمعارف الفكرية المتنوعة. وبالتالي فان مفهوم المثقف يقف في قبال مفهوم المختص نسبياً. فالمختص صاحب علم ذي موضوع محدد، وله منهجية دقيقة وصارمة بفعل الصنعة العلمية، أما المثقف فصاحب معارف لا تتحدد بموضوع معين بالذات، ولا تحمل منهجية دقيقة كتلك التي تفرضها الصنعة العلمية والتخصص. مما يعني انه بقدر ما يضيق الموضوع لدى المختص؛ بقدر ما يتسع في القبال لدى المثقف ليشكل موضوعات متنوعة عديدة. وبعبارة اخرى، ان معارف المثقف تعبر عن مبادرات فردية لم تتحدد ضمن أُفق علمي تخصصي ذي مناهج وقواعد معرفية محددة. فهي بالتالي ليست كالمعارف التخصصية الناتجة عن الهيئات العلمية العامة.

2ــ ان معارف المثقف مستمدة في الاساس من النظر والاطلاع على شؤون الواقع وممارسة التحليل العقلي. وبالتالي فان المثقف ذو مقدرة عالية على النقد والتفكير والتمييز بين الاراء التي لها علاقة بالواقع ومجرى الاحداث العامة.

3ــ ينصب اهتمام المثقف على قضايا المجتمع، باعتباره كائناً معرفياً فاعلاً يمكنه ان يؤثر على حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من افكار وما يقدمه من معارف، ومن ثم بما يساهم به في صنع الرأي العام باعتباره يوجه خطابه الى الجمهور. فهو من هذه الناحية لا يقع ضمن طبقة سياسية او اجتماعية او اقتصادية محددة في قبال نظيراتها في المجتمع، بل يمكن لبعض من اعضاء تلك الطبقات ان تشكل فئة المثقفين، كما ويمكن ان تنتمي الى نفس الرؤى الثقافية رغم وجود الاختلاف الطبقي بينها. وواقع الامر ان هذا الشرط المشار اليه حول اهتمام المثقف بالمجتمع انما يعبر عن الحالة الطبيعية من ارتباط المثقف المعرفي والمتعدد الوجوه بقضايا الواقع، ذلك ان هذا الارتباط من شأنه ان لا يجعل الفرد في عزلة عن القضايا التي هي اكثر اثارة ومساساً وتشويقاً، واقصد بها قضايا المجتمع العامة.

ومن حيث المضمون الفكري للمثقفين يلاحظ انهم ينقسمون في مجتمعنا الى تيارين رئيسيين واسعين، احدهما يلتزم بمبدأ الاسلام ويعمل على حمل المشروع الديني ويطلق عليه المثقف الديني او الاسلامي. والاخر على خلافه ليس له علاقة بالمشروع الديني، اسلامياً كان او غيره، ويطلق عليه العلماني. فالفارق بين التيارين يتحدد بحسب الموقف من الدين كمشروع يراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية. ويمكن لحاظ هذا الفارق على الصعيدين الايديولوجي والمعرفي، اذ ما يحرك هؤلاء هو غير ما يحرك اولئك، كما ان توليد المعرفة والقيم المتبناة مختلفة بينهما. مع هذا فهناك اطار مشترك يجمعهما هو الاطار الثقافي ولو بمعناه العام من الاحتكام الرئيسي الى الواقع والعقل الانساني في توليد المعرفة، بغض النظر عن الاعتراف او عدم الاعتراف بوجود مصدر آخر غيبي يعمل على رفد المعرفة الانسانية طالما ان هذه المعرفة لا تأتي - ولا ينبغي ان تأتي - على حساب المعرفة الاولى.

على ان للمثقف العلماني توجهات عديدة مختلفة يصل بعضها الى التضاد والتنافي. وهي على العموم توجهات لا تتعدى في نظرنا الاشكال الخمسة التالية: العلموي كما يتمثل لدى شبلي الشميل وفرح انطوان ويعقوب صروف واسماعيل مظهر وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، والذرائعي (البراجماتي) مثلما هو الحال لدى المفكرين القوميين كبطرس البستاني وابراهيم اليازجي وجرجي زيدان وانطون سعادة وزكي الارسوزي وساطع الحصري وقسطنطين زريق، والعقلاني (التنويري) الذي غالباً ما يلجأ اليه المفكرون القوميون حيث يماهون بين النزعتين العقلانية والنفعية، والميتافيزيائي كما يتمثل لدى المفكرين الماركسيين من أمثال ميشال كامل وياسين الحافظ وحسين مروة وهادي العلوي وصادق العظم ومطاع صفدي وطيب تيزيني وعبد الله العروي، واللاعقلي كما هو الحال لدى عبد الرحمن بدوي وعلي حرب، وعادة ما يعمل هذا الشكل على نقض العقل وتقويض مقولاته المعرفية وفضح التزاماته العملية.

ولعل اول شكل برز في تاريخ الفكر العربي الحديث هو الشكل العلموي الممتزج بالذرائعية. فالجيل الاول من المثقفين العلمانيين حمل خليطاً من العلمانية العلموية والنفعية البراجماتية، اذ كان مهتماً بالكيفية التي يمكن ان تتحقق بها نهضة العرب بعد السبات الذي قضوه قروناً طويلة، ومن ثم بلوغهم حد السيادة بمثل ما كانوا عليه من قبل، وذلك انطلاقاً من التأثر بالنتاج الحضاري والعلمي للغرب. وعليه كثر الاهتمام لدى هذا الجيل بدوائر المعارف والموسوعات العلمية والادبية والمعاجم اللغوية، وكذلك زاد الاهتمام بانشاء الصحف والتركيز على التعليم ومنه تعليم المرأة، مثلما يظهر ذلك لدى بطرس البستاني.

هكذا فان المثقف العلماني على خمسة أشكال قد تتداخل وتتمازج بنسب واعتبارات، وهي مازالت سائدة حتى يومنا هذا، ويمكن تسليط بعض الضوء عليها كالاتي:

1ــ النموذج العلموي

وهو ذلك الذي يجد في العلم ضالته الوحيدة في البحث عن الحقيقة وتأسيس المجتمع السليم. وبالتالي فانه لا يقدم اطاراً قبلياً يعتمد عليه غير وثوقه بالنتاج العلمي، ولا يحمل منظومة محددة غير تلك التي تصاغ صياغة بعدية قابلة للتغيير باستمرار تبعاً لما يقدمه العلم من حقائق نسبية. مما يعني لديه ان نهضة المجتمع لا تتحقق بالدين او غيره من العناصر الحيوية الفاعلة. بل غالباً ما ينظر الى الدين من الناحية المعرفية نظرة العائق في سبيل التقدم، ويراه طوراً قد انتهت مهمته تاريخياً، وذلك طبقاً لقانون الاطوار الثلاثة من تطور الفكر الانساني الذي وضعه اوجست كونت، حيث فيه يكون الطور الديني هو اول المراحل التاريخية للتفكير البشري بما يتصف من سذاجة واسطورية، وبعده جاء دور الطور الفلسفي الميتافيزيائي منذ الحضارة الاغريقية وحتى العصر الحديث، ثم اخيراً انتهى الامر عند الطور العلمي الذي نجني ثماره اليوم.

2ــ النموذج الميتافيزيائي

وهو ذلك الذي يفترض وجود نسق قبلي ثابت كحقيقة مطلقة تتجاوز حدود التاريخ والزمان والمكان. ومنه يتم التعامل مع القضايا الموضوعية سواء من حيث فهمها بحسب ما عليه النسق، او العمل على تطبيق مضامينه ومفرداته ولو افضى الامر احياناً الى تغيير الواقع تغييراً جذرياً، مثلما هو الحال مع الاطروحة الماركسية التي تفترض وجود نسق قبلي جاهز خُيل للماركسيين العرب ان من الممكن تطبيقها على ارض الواقع ومنه الواقع العربي.

3ــ النموذج الذرائعي

وهو الذي لا يهمه ان كان مصدر الحقيقة قبلياً او بعدياً، انما يهمه توظيف الحقائق لقضايا نفعية تخدم المجتمع. وبعبارة اخرى ان ما يستقطب تفكير المثقف الذرائعي هو المصلحة التي يسديها الى المجتمع الذي ينتمي اليه عبر اتخاذه معياراً ما من المعايير المعرفية، و ليس هو عبارة عن نفس هذا المعيار، فهو من هذه الناحية قابل لاتخاذ اياً كان من الاطر والانساق المعرفية سواء كانت قبلية او بعدية طالما انها يمكن ان تكون عنصراً فاعلاً للمجتمع من الناحية النفعية. مما يعني انه يكاد يكون في الاصل خلواً من اي اطار او نسق معرفي؛ قبلياً كان او بعدياً، لكنه ليس بوسعه التجرد من هذا الغطاء، رمن ثم كان عليه الامتزاج والاخذ بالصيغ الثقافية من الاشكال الاخرى، خاصة الشكلين التنويري والديني، مثلما يلاحظ جلياً لدى المثقف القومي العربي المنشغل بحلم اعادة مجد العرب.

4-النموذج العقلاني

وهو الذي يؤمن بالعقل ايماناً مطلقاً من حيث قدرته على الكشف عن الحقائق وتحقيق ما تصبو اليه النفوس من نهضة انسانية، لا من منطلق ذرائعي ولا ميتافيزيائي ولا علموي، وانما يكفي للعقل ان يحمل قدراته الذاتية في الكشف والمحاكمة والنقد. فهو على حد تعبير المفكر القومي قسطنطين زريق عبارة عن >العقل الممتحن المنضبط المولّد<>الذاكرة الساردة المرددة المقلدة<. فهذه هي عقلانية المثقف التنويري التي يستبعد فيها اي وصاية خارجية تعمل على الاخلال بالمممارسة العقلية، كما ويستبعد ايضاً دخالة كل ما هو غيبي خارج عن الحدود الطبيعية. ويسلم بأنه لا طريق للانعتاق العقلي سوى الحرية. ويوصي عادة بضرورة العمل بالديمقراطية في الممارسات السياسة. كما انه يضع فلاسفة التنوير قدوة له بما حققوه من مكاسب، وعلى رأسها مكاسب الحرية والمساواة والاخاء التي بشرت بها الثورة الفرنسية فيما بعد.

5ــ النموذج اللاعقلي

وهو على خلاف سابقه لا يمنح المنطق العقلي دوراً فاعلاً ومميزاً في كشف الحقائق وحل المشاكل العامة. وانه في الغالب ينظر الى العقل والواقع نظرة وجودية لا تبعث على التفاؤل في تحقيق ما ينشده الانسان من مبادئ والتزامات. فالعقل لا اعتبار له فيما يقدمه من مقولات منطقية او التزامات عملية. وعلى ما يراه البعض فان خلف العقل جانباً مظلماً يتمثل بالباطن الحيواني او اللامعقول والذي يدفع بالعقل اتجاه مآربه ورغباته. وبالتالي كان لا بد من فضح العقل ومقولاته ونقض منطقه والكشف عن عوراته برده الى منطقته المقفلة المظلمة من العناصر الباطنية اللامعقولة، وذلك بغية السيطرة عليها وكبح جماحها او ادارتها بالشكل المناسب. وهذا النوع من المثقف والمتأثر بجملة من الفلاسفة الغربيين، كنيتشه والوجودية وفوكو وغيرهم، يعد نادر الحضور بين مثقفينا قياساً ببقية الانواع الاخرى. وابرز من يمثله عبد الرحمن بدوي وعلي حرب.

مهما يكن فالملاحظ من حيث الواقع هو ان النماذج الخمسة التي عرضناها لا تعد في غالب الاحيان مستقلة عن بعضها البعض، كما انها ليست منفصلة كلية عن المثقف الاسلامي كما سنرى.

المثقف الديني والنماذج العلمانية الخمسة

في البدء نتساءل عن نصيب المثقف الديني من تلك النماذج او الاتجاهات الخمسة، فهل يمكن عده نفعياً او علموياً او ميتافيزيائياً او عقلانياً او انه مثقف لا عقلي؟

حقيقة الامر ان جميع هذه النزعات تتجسد فيه وان بنسب وهيئات مختلفة. وقد يصح القول ان الشكل الميتافيزيائي هو المرتكز المعرفي الاساس الذي يحدد هويته الخاصة، حيث يتمثل بظاهرة الوحي والنص. لكنه ليس خلواً من سائر النزعات المعرفية الاخرى التي تكشف عن طبيعة ثقافته، ففي الغالب انه قائم على مزيج من العلموية التي تستند الى حقائق العلم واعتباراته، والعقلانية التي تتمثل بالانشداد الى منطق العقل في محاكمة القضايا العامة. اما النزعة اللاعقلية بالطريقة النقضية التي عرضناها فهو خلو منها، لا بمعنى انه لا يعتقد بوجود جانب مظلم حيواني ولا معقول في النفس البشرية، بل انه لا يجعل من العقل مطية هذا اللامعقول الى الدرجة التي تتقوض فيها مقولاته المنطقية والتزاماته الوجدانية. لكن مع هذا فهناك صنف من المثقفين الدينيين ممن لا يعتمد على منطق التفكير العقلي بقدر ما يعتمد على دواعي الحدس والوجدان، مثل عثمان أمين في جوانيته، وعباس محمود العقاد في وجدانيته. ويظل الجانب الذرائعي - لدى المثقف الديني - مكملاً لتلك الاشكال المعرفية ومستنداً الى ما تفرضه من اعتبارات.

على ان بين المثقف الديني والمثقف العلموي تنازعاً واختلافاً في ما يخص علاقة الدين بالحياة والواقع. فالمثقف العلموي يعتقد ان هناك تضاداً بين الدين والعلم، وفي احسن الاحوال لا يرى ان بالامكان قراءة الواقع، ومنه الواقع العلمي، بعين دينية. فهو بالتالي لا يرى بديلاً عن العلم يمكنه تفسير الواقع والكشف عن اسراره وخفاياه.

وعلى خلاف المثقف العلموي يرى المثقف الديني ان ما يضعه الاول من تضاد بين العلم والدين وما ينصّب نفسه كنصير للاول على حساب الثاني؛ انما جاء نتيجة خطأ في التقدير. فالتضاد المنسوب ليس الا تضاداً بين منهجين مختلفين للفهم، احدهما يعود الى ما عليه المسلك البياني والذي ينتمي اليه الفقيه ومن على شاكلته، حيث الميل الى جعل التكوين المعرفي منحصراً بالنص؛ على شاكلة ما يقوله الامام ابن حنبل: >انما امرنا ان نأخذ العلم من فوق<، او ما يقوله استاذه الشافعي: >العلم طبقات شتى.. ولا يصار الى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من اعلى<. اذ جرى الكثير من تفسير الواقع والكشف عن اسراره وخفاياه ضمن الاعتبارات الواردة في نصوص الرواية والحديث. وبالتالي فان هذا المسلك يعتمد في الأساس على عالم التدوين والأمر في فهم عالم التكوين والخلق، رغم عدم وجود قطع في سند العالم الاول او دلالته. اما المسلك الاخر فيعود الى المنهج العلمي الذي اتخذه العلماء لتفسير الواقع الموضوعي من خلال الفحص والمراجعة المستمرة اعتماداً على عدد قليل من المسلمات. من هنا فاذا كانت هناك قطيعة فهي ليست بين العلم والدين، وانما بين النهجين العلمي والبياني. فالعلم يعتمد على معطيات الواقع والتحليل العقلي وهو ليس معنياً بالنصوص الدينية، وعلى خلافه يصدق الامر مع المنهج البياني الذي يجد في النص مصدره الرئيسي لتكوين المعرفة، رغم تعامله القائم على الظنون في الغالب وليس القطعيات.

لهذا فان المثقف الديني وجد نفسه منذ بداية ظهوره معنياً بحل هذه القطيعة عبر عملية التوفيق التي نهجها؛ مخالفاً بذلك كلا النزعتين المتشددتين. فهو يتقبل من جانب النتاج العلمي والسلوك المنهجي الذي يتبعه العلماء في الكشف عن اسرار الواقع وخفاياه؛ خلافاً لما عليه المسلك البياني التقليدي، لكنه من جانب اخر حريص على التمسك بالمبادىء والقيم التي جاء بها النص، مما جعله يختلف تماماً عن النهج الذي عليه المثقف العلموي. بل اكثر من هذا فان المثقف الديني يعد النتاج العلمي لعلماء الطبيعة يشكل دعماً كبيراً لتأييد ما ينطق به النص. فالنص عنده سابق في الكشف عن خفايا الواقع مقارنة بما عليه العلم، مع الاعتراف بكونه كاشفاً على نحو الاجمال لا التفصيل، وذلك باعتبار انه لم يوضع بديلاً عن الكشف العلمي وانما مهمته الاساسية تظل منحصرة بالهداية.

وبهذا فان احدى الوظائف التي حملها المثقف الديني على عاتقه هي المزاوجة بين النهجين البياني والعلمي، او بين الفقيه والعلماني. وبعبارة ادق انما جاء ليزاوج بين العلم والدين، او الواقع والنص، مخالفاً بذلك السير المتصلب الذي عليه كلا النهجين الخاصين بالعلماني والفقيه.

على ان نفس ما ذكرناه ينطبق تماماً على ما يخص العلاقة بين المثقف العقلاني والمثقف الديني، وذلك من حيث التنافس الحاصل بينهما حول فهم الواقع وتفسيره، وكذلك حول العلاقة التي تربط العقل بالدين، فما يتصوره المثقف العقلاني من ان هناك تضاداً بين العقل والدين، وان الدين هو الجانب اللامعقول بالقياس الى الاداة العقلية، وان المحاكمة تظل في جميع الاحوال خاضعة للعقل وليس الى ما هو غيبي خارج عنه، فكل ذلك يمكن الاجابة عنه بمثل ما ذكرناه بصدد المثقف العلموي.

فمن ناحية ان ما ذكر من تضاد بين العقل والدين ليس صحيحاً، بل الصحيح ان يقال ان هناك تضاداً بين النهجين البياني والعقلي، وقد يسفر هذا التضاد عن تناقض في مضامينهما، لكن ذلك لا شأن له بالدين وعلاقته بالعقل. وقديماً ظهر الكثير ممن يطرح فكرة التضاد من اصحاب النهج البياني، على الصعيدين الكلامي والفقهي. وواقع الامر ان التضاد الذي ذكروه ليس تضاداً مع الدين وانما مع فهمهم له، اذ اصبح من البين ان جميع المدارس والمذاهب الدينية انما تمارس انماطاً من الاجتهاد في الدين دون ان تكون ناطقة عنه على وجه القطع. ولا يستثنى من ذلك المدارس البيانية التي تعول على الظواهر الحرفية من النصوص. وربما يكون ابن رشد هو اول من وعى كون الممارسة التي تبديها تلك المدارس ومنها المدارس البيانية انما هي ممارسة اجتهادية قائمة على بعض الاصول والمسلمات القبلية. لذا كان علم الطريقة علماً حيوياً لدراسة الفكر الاسلامي دراسة تتولى الكشف عن المولدات المعرفية والاسس القبلية لمناهج الفهم الديني (لاحظ حول ذلك كتابنا: مدخل الى فهم الاسلام).

مهما يكن فالملاحظ ان المثقف الديني لا يجد في العقل ما يمكن ان يكون مضاداً للمضامين الدينية، وانه لا يصح عنده اعتبار الدين شكلاً لا معقولاً مقارنة مع العقل. بل يرى ان احدهما جاء ليشهد ما لدى الاخر. فالعقل مؤيد بالدين، والدين مؤزر بالعقل؛ بلا تناقض ولا تعارض. فاغلب القضايا الدينية هي مما يشهد عليها الوجدان العقلي بالاقرار، خاصة تلك التي لها علاقة بالمصالح العامة. تظل هناك قضايا تعبدية وغيبية لا يعلم العقل عنها شيئاً، وهو امر ليس غريباً طالما ان ذلك يجري حتى في العلوم الطبيعية، حيث هناك من الخفايا ما يعجز العلم عن ادراكها.

اما علاقة المثقف الديني بالمثقف الميتافيريائي فيلاحظ ان للاول نوعاً من التعالي الغيبي يجعله من هذه الناحية لا يختلف عن الثاني. فكلاهما يستند الى منظومتين ميتافيزيائيتين متعاليتين رغم ما بينهما من الاختلاف الكبير على صعيد المحتوى. كذلك فانهما يطمحان الى تحقيق نموذج مثالي بحسب ما تمليه عليهما نزعتهما الميتافيزيائية التي تتعالى على التاريخ وظروفه الزمانية والمكانية. فما يطمح اليه المثقف الديني هو تحقيق الامر الرباني المتمثل بخلافة الانسان الصالح على ارض الواقع. وما يطمح اليه النموذج الميتافيزيائي، كما في الماركسية، هو تحقيق المجتمع الشيوعي (اللاطبقي) تبعاً للحتمية المادية والتاريخية المفترضة.

وبخصوص المثقف الذرائعي ففارقه عن المثقف الديني هو انه من حيث نفعيته لا يملك تكويناً معرفياً محدداً، وبالتالي فهو بحاجة للامتزاج بغيره من الاشكال الثقافية الاخرى. أما المثقف الديني فرغم انه ليس خلواً من النفعية الا انه يعدها مؤطرة باطار منظومته المعرفية والقيمية. واعني ان النفعية لديه هي نفعية محكومة وليست منفصلة او مستقلة عن تلك المنظومة.

وعلى العموم فان الفارق بين المثقف الديني والعلماني يمكن لحاظه من حيث تصور كل منهما لعلاقات الانسان؛ علاقته بنفسه وبالمجتمع والطبيعة والميتافريقا الغيبية. فالمثقف الديني ينطلق من نظرية الاستخلاف وحمل الامانة الربانية ليس من حيث قوله تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً)) (الاحزاب/27) فقط، ولا من حيث قوله تعالى: ((ان الارض يرثها عبادي الصالحون)) (الانبياء/501) فحسب، انما كذلك من حيث النبوءة التي تبشر بمغزى هذا الاستخلاف والذي عارض فيه المولى جل وعلا ما توقعته الملائكة بقوله: (( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اني اعلم ما لا تعلمون)) (البقرة/03)

على مثل هذه الايات يقيم المثقف الديني تصوره الذي يؤسس فيه علاقات الانسان المتعددة طبقاً لمفهوم الامانة والاستخلاف، كالذي يلاحظ بوضوح لدى مثقفي ما بعد منتصف القرن العشرين. مما يعني ان منطلقاته هي منطلقات متعالية غيبية، لكنه لا يفصلها عن ارض الواقع. فهو يعي انها تتجسد في الواقع عند تحقق شروطها، ويرى ان الاسراع في التجسيد واحكامه يتوقف على فهم الموضوعات التي تناط بها تلك العلاقات، وهي كل من النفس والمجتمع والطبيعة والميتافيزيقا، ومنه تنشأ الحاجة الى العلوم المتعلقة بها، وذلك بغية الافادة منها في تأسيس علاقات مناسبة وتوظيفها للهدف المشار اليه.

ويبدو ان المثقف الديني لا يربط نظرية الاستخلاف بشكل النظام السياسي بقدر ما يربطها بوجود المجتمع الصالح، بحيث يرى كل صلاح في العلاقة الانسانية تعبيراً عن تحقيق درجة من درجات الاستخلاف غير المنقطعة. والمطلوب هو توسيع رقعة الاستخلاف والشد على حمل الامانة اكثر فاكثر.

والملاحظ ان لنظرية الاستخلاف عند المثقف الديني بعدين، احدهما ديني مجمل، والاخر واقعي مفصل. فهو يرى ان هناك سنناً طبيعية مرصودة في الواقع ولها علاقة بالاستخلاف وقد اشار اليها النص اجمالاً. ومن ذلك ان رشيد رضا يرى ان من السنن التي تفيد الغرض هي البقاء للاصلح، فهي سنة الله التي بها يتم الاستخلاف، والاصلح يتمثل بالصالحين >الذين يصلحون لاقامة الحق والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران، ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد: ((فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض))< (رشيد رضا: تفسير المنار، دار الفكر، ط2، ج9، ص775ــ875). بل انطلاقاً من هذه السنن فان من امثال رشيد رضا لا يتحفظ من اعتبار أحقية الغرب وصلاحه علينا طالما انه يتفوق علينا تبعاً لسنة البقاء للاصلح والاستخلاف. فبحسب رأيه ان الغرب على الحق والصلاح وانه افضل من اخلاق ممالك المسلمين واعمالهم وعدلهم واصلاحهم واتباعهم لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة، ولولا ذلك ما استطاعوا ان يتسلطوا على المسلمين (المصدر، ج4، ص492).

هذا هو الاساس المعرفي الذي ينطلق منه المثقف الديني في ربطه لعالم الغيب بالشهادة، او النص بالواقع، مما يبرر اختلافه الجذري عن المثقف العلماني بجميع اشكاله وصوره. فليس من بين هذه الاشكال من يعد للحساب الغيبي اعتباراته في الحركة الانسانية. وحتى الشكل الميتافيزيائي فانه لا ينظر الى الحركة الانسانية كحركة ناشئة عن التخطيط الغيبي، بل هي نتاج عملية تاريخية حتمية تحكمها قوانين مادية معللة بذاتها من غير علل خارجية.

ليست هناك تعليقات:

كتب تحت الطبع

  • مشكلة الحديث -- مؤسسة الانتشار العربي
  • العقل والبيان والاشكاليات الدينية -- معد للطبع
  • تعليقات على الاسس المنطقية للاستقراء -- مؤسسة العارف للنشر

عدد الزوار